مدخل لفهم دولة مالي

الحاج سليمان 

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
5 سبتمبر 2007
المشاركات
7,325
التفاعل
20,046 266 28
الدولة
Algeria
لفهم قضية مالي لابد من الإلمام ببعض الأساسيات فيها
سأسمي ذلك ألف باء مالي

حقوق النقل غير محفوظة مع الاشارة للمصدر :

ألف باء مالي:
----------------
إذا أردت أن تفهم أبجديات قضية مالي عليك أولا أن تستوعب:
البمبارة+الملنكي+الدوغون= الماند
تتركز السلطة عند البمبارة، مع أن القائد العسكري اليوم من الملنكي، كما للدوغون حضور مهم في الجيش، ورغم التباينات فالماند ينظرون لأنفسهم كحلف من جذر واحد.
الملنكي إسلامهم قديم
البمبارة إسلامهم جديد
الدوغون أرواحيون/ديانة تقليدية
هذه المجموعات ورثت الهياكل الاستعمارية في الإدارة والجيش، وتتركز في الوسط والغرب، وضمن مجالهم تقع العاصمة: بمكو.
الفلاني: من أقدم السودانيين إسلاما، زعماء حركات الجهاد في القرن 19 وخصوم الاستعمار، ينظر إليهم بريبة من المجموعات السابقة، وكان يغلب عليهم نمط الترحال، وعداوتهم للدوغون شديدة، خلفيتها دينية وقبلية واقتصادية (صراع على مجالات الرعي والزراعة)، وبينهم ثارات نتيجة مجازر مروعة، وهم مجموعة مميزة ضمن المجموعات السودانية واسعة الانتشار، ومع أنهم (في أصلهم) من حيث الجذر الانثوي من الشعوب السوداء، لكن من حيث الآباء هم خليط وفيهم حضور لافت للأمازيغ الذين تزوجوا من سودانيات.
التوارق: بعيدون جدا عن سلطة القرار، حاولوا الانفصال عدة مرات، وشكلوا العديد من الحركات لتحقيق هذا المطلب منذ استقلال مالي، يعانون من غياب التنمية، وعدم إشراكهم في السلطة، ومع أن بعضهم يتبنى خيارات أقل راديكالية فإنهم من الصعب أن يسلموا للبمبارة بحكمهم، وهم امتداد لتوارق الصحراء وليس للمجموعات السودانية (أمازيغ)
السنغاي: مجموعة تراجعت ديمغرافيا، وهي داعمة لحلف الماند، لأنها أقرب لهم اجتماعيا وثقافيا، وهم في الأصل سودانيون، كانوا قادة مملكة ضخمة أسقطها المغاربة السعديون سنة: 1591 ، ولأنهم موجودون شمالا فهم الامتداد للماند (سياسيا وليس عرقيا) داخل مجالات ذات أغلبية من التوارق.

النظام العسكري في مالي عزز من هذه التناقضات، لأنه عمل على إقحام كل المشكلات ذات الخلفيات المتعددة داخل سردية وهمية: "الحرب على الإرهاب"، مستندا إلى انضمام بعض الفلان أو التوارق إلى جماعات ذات خلفية "سلفية جهادية"، وهي حيلة تجعل النتيجة سببا.

من الزاوية الديمغرافية ليس هناك إحصاء رسمي، لكن مجموعة الماند وحدها تتجاوز 50 % من السكان، لكن من حيث المساحة التوارق مع انهم يشكلون حوالي 20% فإن مجالهم الترابي يتجاوز نصف مساحة مالي، ويشاركهم فيه قليلا الفلان الذين يتوزعون في كل المساحة وينازعون الجميع بسبب نمط الترحال، كما يوجد في الشمال قبائل عربية تقدر بحوالي 2% من السكان، وهم جزء من حالة الرفض الأزوادي، بينما يميل السنغاي زرما إلى حكومة بمكو خوفا من انتقام التوارق كنتيحة لكل الصراعات القديمة والمتجددة
 
التعديل الأخير:
IMG_9292.jpeg
 
ألف باء مالي (2):
---------------------

تحمل مالي جرحا استعماريا لم يندمل بعد، ولا يبدو أنه سيندمل في المدى المنظور، فقد تشكلت حدودها -المصطنعة- التي جمعت قبائل متنافرة في كيان سياسي واحد، كأحد تمظهرات ترتيبات ما بعد الكولونيالية، وتركت فرنسا –وهي تخرج شكليا – قنابل موقوتة تتيح لها استمرارية النفوذ عبر آلية "الاستقلال المراقب".
خلفت فرنسا في مالي نظاما بيروقراطيا، تديره نخب جنوبية بالأساس(قبائل الماند: البمبارة، الملنكي، الدوغون) ورثت الجيش والإدارة والمدرسة والإعلام، وتمكنت من تكريس هيمنة إثنية ومجالية، مقابل تهميش مزمن للشمال (التوارق، الفلاني، العرب) الذين ظلوا خارج المعادلة الحقيقية للسلطة والثروة.
هذه الهياكل التي كان يفترض بها أن تعيد إنتاج الدولة تحوّلت بعد الاستقلال إلى آلة لصنع الريع، إذ احتكرت النخب العسكرية والإدارية من الماند مناجم الذهب وطرق التجارة ومراكز القرار، بينما حشر الشمال في موقع الضحية المتهمة، يعاني التهميش والفقر، فتحول تدريجيا إلى برميل بارود انفجر أكثر من مرة منذ ستينيات القرن الماضي، دون أن تبذل بمكو أي مجهود حقيقي لمعالجة الجذور العميقة للأزمة.
 
هذه الجذور تتجاوز صورتها الإعلامية، وتضرب عميقا في التناقضات الإثنية والمجالية، التي يمكن تتبعها إلى القرن السادس عشر، حين قام المغاربة السعديون بغزو مملكة السنغاي، وأعادوا تشكيل التوازنات السكانية والاجتماعية والسياسية في هذه المنطقة الحساسة.
ما يسوق اليوم من قبل حكومة بمكو على أنه: "حرب على الإرهاب" ليس في جوهره سوى صراع هويات وموارد، ولأضرب أمثلة للمتابعين أشير أن الفلاني الرعاة الذين فقدوا مواشيهم بسبب سرقات الجيش وابتزاز السلطات المحلية قد دفعت تلك التصرفات بعض شبابهم إلى أحضان الجماعات المسلحة، لا بدافع أيديولوجي بقدر ما هو فعل يائس في مواجهة الإقصاء والمعاملة العنصرية التي تمعن في اعتبارهم أعداء المشروع الوطني، كما أن الدوغون -وهم من الماند كما أشرت أعلاه- لا يقاتلون الفلاني لأنهم "إرهابيون" حتى وإن زعموا ذلك، بل لأنهم يرون فيهم تهديدا وجوديا لأراضيهم الزراعية التي تقلصت تحت وطأة الجفاف، والتوارق الذين حمل بعضهم السلاح تحت شعارات "جهادية" لم يفعلوا ذلك قناعة، بل لردع مشروع التطهير العرقي الذي يرونه خلف خطاب الدولة المركزية، ومن أجل الدفاع عن حكمهم الذاتي المقموع تاريخيا، ولذلك بقيت حركاتهم ذات الطابع الاثني أكثر قوة ونفوذا وتماسكا وأقرب لحاضنتهم الشعبية.
إن الأزمة هنا ليست ظرفا طارئا، بل إنها مخرجات طبيعية لهياكل إنتاج للفوضى، فقد حولت النخب الحاكمة من الماند حالة التوتو والصراع إلى سوق مفتوح تستثمر فيه فوضى الشمال وفشل التنمية وانعدام الخدمات لتكريس مزيد من الريع والهيمنة، والجيش المالي الذي يُفترض أن يحمي البلد بات يحصد ميزانيات ضخمة تحت عنوان "مكافحة الإرهاب"، فيما قادته أنفسهم متورطون في شبكات تهريب الذهب ذاتها التي تتغذى منها الجماعات المسلحة، في مشهد تذوب فيه الحدود بين الفاعل النظامي وغير النظامي، ويصبح الفساد ليس انحرافا عن النظام بل هو النظام ذاته.
أما التدخلات الدولية منذ عملية برخان الفرنسية، فلم تؤد إلا إلى تعقيد الوضع أكثر، فقد كانت باريس تقدم نفسها منذ 2013 كطليعة الحرب على "الإرهاب"، بينما كانت طائراتها تقصف قرى الطوارق وتحمل ذهب أزواد نحو أوروبا، وعندما جاء مرتزقة فاغنر الروس منحوا النخب العسكرية في بمكو غطاء جديدا للقمع، مقابل السيطرة على مناجم كيدال.
إن فشل مبادرة الجزائر للسلام سنة 2015 لم يكن في حقيقته نتيجة رفض الجماعات الأزوادية المسلحة، بل لأن النظام في بمكو لم يكن يومًا جادا في تقاسم حقيقي للسلطة مع الشمال، بل كان ينتظر حسما أمنيا مدعوما من الخارج (روسيا وتركيا لاحقا)، يتوهم من خلاله فرض الاستقرار بالقوة.
إننا اليوم أمام دولة تتفكك بسبب حرائق متشابكة
 
* الصراعات القبلية التي تتغذى على تناقضات الهوية والأرض والموارد، وتتداخل فيها مخاوف البقاء مع صدمات التاريخ، حيث لا تزال الدولة تبقي على منطق "المركز" مقابل "الأطراف"، و"المواطن" مقابل "المتهم الأبدي".
* تحوّل الجماعات المسلحة إلى آليات إنتاج للعنف المنظم، تغذيها هشاشة الدولة وغياب البدائل التنموية، وتغذي بدورها الخطابات الطائفية والانتقامات المتسلسلة، في بيئة فقدت الثقة في أي أفق وطني مشترك.
* النخب العسكرية التي تدير الأزمة وتربح منها، والتي لم تعد السلطة بالنسبة إليها وسيلة للحكم فقط، بل مدخلا للغنيمة، يشترى فيه الولاء بالأموال، وتبرر فيه الانقلابات بمنطق "الإنقاذ"، بينما لا يتغير شيء في البنية العميقة للفساد والتمييز.
* تنازع القوى الدولية على هذا الجسد الإفريقي المثخن بالجراح، وفي مقدمة هذه القوى: فرنسا وروسيا وتركيا والإمارات... كل واحدة تحمل شعارا مختلفا، لكن الجميع يسير نحو نفس الهدف: الذهب، والمعادن، والموقع الاستراتيجي، والأسواق المفتوحة، وهكذا تحول البلد إلى رقعة شطرنج تحرك فيها البيادق الداخلية بتوجيه خارجي، في تواطؤ علني بين المصالح الدولية والفساد المحلي.
لقد ضاعف التغير المناخي من المأساة، فقد أدى زحف الصحراء على منطقة السافانا إلى ندرة المياه، وتقلص الأراضي الرعوية والزراعية، وهو ما عزز صراعات قديمة بين الرعاة والمزارعين، وقد صبغت مذابح موبتي وسلسلة الانتقامات المتبادلة بين الفلاني والدوغون بلون العنف العرقي، بينما خلفياتها اقتصادية وبيئية في جوهرها حتى لو جرى تسويقها دينيًا أو إثنيًا، وأنا هنا لا أنفي فاعلية هذا المؤثرات ولكن أشير للعامل المحرك وليس لخطابات الاصطفاف والتجييش، فقد كان يمكن للتنمية أن تعيد تفعيل مشاهد التعايش التي تحولت من التاريخ المرئي إلى التاريخ المجهول.
بعيدا عن منطق الحتمية التاريخية، فإن مالي ليست فاشلة لأنها فقيرة، بل لأن نخبها حولت الدولة إلى غنيمة، حتى في السنوات التي كان يبدو فيها الجنوب مستقرا كان هذا الاستقرار مبنيًا على إقصاء 60% من التراب الوطني هو الشمال الأزوادي المقصي عن كل تنمية، والذهب الذي يُفترض أن يبني المدارس والمستشفيات صار وقودا لحرب داخلية، أو تم تهريبه لتمويل فيلات النخبة في دبي ومدن غسيل الأموال.
إن الخروج من هذا النفق المظلم لن يتم عبر اتفاقيات سلام هشة تقفز على الجذور، ولا من خلال طموحات راديكالية تتجاوز مساحة الممكن، بل عبر مشروع جذري لتفكيك تحالف السلاح والسلطة والذهب، الذي خنق هذا البلد منذ لحظة استقلاله، ولا يزال يضعه في قلب عاصفة يخشى أن تنقله من صورة الدولة الهشة إلى اللادولة، وبالتالي إلى حالة احتراب شاملة لن تكون في مصلحة أحد سوى جيوش النهب الاستعماري للثروات
.
 
الحاج سليمان @الحاج سليمان
نحن نعرف أن القبائل التي ذكرتها أنت قليلا ما عاشت تحت قيادة دولة أغلبها قبائل تفضل الحرية و العيش بقيادة شيخ واحد هل هذا يعني أنا النظام العالمي الجديد الذي فرض عليهم سياسة الدولة و المؤسسات لم يناسبهم لهذا لا يزالون في تخلف
يعني هم من كثرة تفرق هذه القبائل صعب إصدار لغة رسمية لهذا تراهم يعتمدون الفرنسية
كما أنهم كانوا بعيدين عن الحضارات القديمة فلم يتعلموا النظام المدني منها
لو كانوا أدرى بمصالحهم أظن أن حكم الفيديراليات سيناسبهم كل قبيلة لها حكم ذاتي أما الشؤون العليا فليجؤون للشورة ،لكن المشكل هنا الأوروبي ينتظر التفرق ليزود جهة بالسلاح و يستلم الأخرى
 
الحاج سليمان @الحاج سليمان
نحن نعرف أن القبائل التي ذكرتها أنت قليلا ما عاشت تحت قيادة دولة أغلبها قبائل تفضل الحرية و العيش بقيادة شيخ واحد هل هذا يعني أنا النظام العالمي الجديد الذي فرض عليهم سياسة الدولة و المؤسسات لم يناسبهم لهذا لا يزالون في تخلف
يعني هم من كثرة تفرق هذه القبائل صعب إصدار لغة رسمية لهذا تراهم يعتمدون الفرنسية
كما أنهم كانوا بعيدين عن الحضارات القديمة فلم يتعلموا النظام المدني منها
لو كانوا أدرى بمصالحهم أظن أن حكم الفيديراليات سيناسبهم كل قبيلة لها حكم ذاتي أما الشؤون العليا فليجؤون للشورة ،لكن المشكل هنا الأوروبي ينتظر التفرق ليزود جهة بالسلاح و يستلم الأخرى
الخلاف الاساسي بين قبائل مالي هو اقتصادي بحت
هو استمرار للنزاع بين المزارعين والرعاة وهو اصل الخلافات الداخلية في كل السودان ، او منظقة الساحل
 
ألف باء مالي (4): ما قبل الاستعمار
---------------------------------------------
لا يمكن فهم أثر الاستعمار الفرنسي في المجال الذي سيصبح جمهورية مالي دون الإحاطة بالبنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت قائمة قبل حلول الرجل الأبيض في عمق المنطقة، وسيطرته عليها وإعادة تشكيلها بما يستجيب لمصالحه.
لقد تميز المجال المعروف اليوم بجمهورية مالي بتعددية سياسية وتداخل سوسيوثقافي كثيف، حيث لم تكن السلطة مركزية، بل كانت موزعة بين سلطنات محلية، وتشكيلات دينية، ومجتمعات زراعية ورعوية، وشبكات تجارية واسعة الامتداد، دمجت المنطقة في التجارة العالمية منذ قرون بعيدة، لكن الأوروبيين حولوها نحو الأطلسي تدريجيا بعد أن كانت الصحراء الكبرى تحتضن طرقها الرئيسية، وهي إحدى أهم التحولات التي صنعت تقدم أوروبا وتخلف العالم الاسلامي.
فلنبدأ:

أولا: البنية السياسية في أزواد ودور التوارق:

إن هذه المنطقة الممتدة من تنبكت إلى تخوم الجزائر والنيجر، لم تكن فراغاً سياسياً كما زعمت بعض الدراسات الاستعمارية التي تمعن في تقزيم البنى السابقة للاستعمار وتربطها بما قبل التحضر!! بل كانت مأهولة بنظم سياسية مستقرة نسبياً، يقودها التوارق من خلال أنظمة تقليدية تعرف بـ"الإمنكال"، وهي زعامة تتداخل فيها الوظيفة العسكرية بالرمزية الاجتماعية والدينية، وتحظى باحترام وشرعية محلية تطورت في الصحراء لقرون عديدة، ومنحها الإسلام مضمونا شرعيا عمق من مضمونها الاجتماعي المحلي.
في القرن 10هجري/16 ميلادي مثّلت العلاقة بين العائلة الحاكمة في مملكة الصنغاي (آل أسكيا/أسقيا) ومجتمعات التوارق، علاقة مضطربة تراوحت بين الولاء النسبي والتمرّد العنيف، وقد ارتبط هذا الاضطراب بطبيعة المجال الجغرافي الذي شغلته هذه القبائل، فهو مجال صحراوي شكّل ممرا استراتيجيا للتجارة العابرة للصحراء، ومحورا للنفوذ السياسي والعسكري، ويمكن الإشارة هنا إلى أن سياقات نشأة مملكة السنغاي على أنقاض مملكة مالي تعود جزئيا إلى الضربات المتتالية التي تلقتها هذه الأخيرة من تحالفات متعددة ضمّت مجموعات سنغاي إلى جانب مجموعات التوارق في الشمال، الذين استغلوا ضعف المركز المالي وتراجع سيطرته على أطراف الدولة التي عرفت أوج قوتها في القرن 8هجري/14 ميلادي، فقد مثل التوارق عاملاً حاسما في زعزعة استقرار مملكة مالي من الشمال، لا سيما مع سيطرتهم على تنبكت، بينما تحركت السنغاي من الشرق والشمال الشرقي لتؤسس لبنية سياسية جديدة طامحة إلى السيطرة على طرق التجارة والمجال السوداني، وهو ما حدث انطلاقا من مدينة غاو التي ستمثل نقطة انطلاق المؤسس الحقيقي: سن علي.
 
التعديل الأخير:
في مدينة تنبكت، كان النموذج مختلفا نسبيًا، إذ شكلت المدينة مركزا دينيا وعلميا هاما، وكانت السلطة فيها هجينة بين النخب الدينية (العلماء والفقهاء) والزعامات القبلية، ويمكننا هنا أن نشير إلى أن المدينة قبل الغزو المغربي السعدي كانت خاضعة لما يمكن أن نسميه حكم القضاة، فقد كانت عائلة آقيت ومنها العلامة المالكي الشهير: أحمد بابا التنبكتي هي التي تدير المدينة من موقعها كأسرة عالمة، ولم يكن يحظى بهذا الامتياز سوى ثلاثة مدن على امتداد مملكة السنغاي.
كان موقف التوارق من الغزو المغربي مضطربا، فالبعض أيد السنغاي ودافع عن الدولة بينما انضم آخرون للمغاربة الغزاة بقيادة جودر باشا، ولكن هذا التحالف سرعان ما تحول إلى صراع جديد. لقد أدرك السعديون مبكرا عبثية العملية العسكرية التي قاموا بها، والدليل على ذلك أنهم توقفوا منذ سنة: 1028هجري/1618 ميلادي عن إرسال التعيينات الخاصة بحاكم المنطقة والتعزيزات العسكرية الداعمة له، مع استمرارية البيعة للعرش السعدي إلى غاية: 1659، لتتشكل تدريجيا طبقة حاكمة من نسل بقايا الجيش الغازي صارت تعرف لاحقا باسم: "الأرما"، وسرعان ما اضطربت علاقتها بالتوارق الذين عملوا عدة مرات على تنظيم غزوات قصد السيطرة على تنبكت وغاو، وقد بقيت المنطقة محطة صراع بين أطراف عديدة بعد تدخل الكنتيين ثم الفلاني، والحقيقة أن حكم الأرما سرعان ما تقلص ليقتصر على المدن الكبرى: غاو، تنبكت، جني وهذا ما سمح بتطور زعامات محلية لتشكل تدريجيا دولا للبمبارة والملنكي جنوبا.
تبين لنا تدخل أطراف جديدة في صنع المشهد الديمغرافي/الاجتماعي والسياسي بالمنطقة، وأعني بهم الكنتيين، وكان من أبرز الفاعلين السياسيين من هذه القبيلة ذات التأثير الديني الكبير: الشيخ أحمد البكاي الكنتي (ت. 1865)، وهو أحد رموز الطريقة القادرية، سليل سيدي المختار الكبير الكنتي، وقد كان البكاي يتمتع بنفوذ واسع في تنبكت وما يليها شمالا من الصحارى، وجمع بين القيادة الدينية والوساطة السياسية، إذ لعب دوراً محورياً في تنظيم علاقات التوارق مع القوى الجنوبية والزعامات الفلانية، ثم كان له موقف حاسم في رفض التغلغل الفرنسي، قبل أن تضطره الوقائع العسكرية للانكفاء.

 
التعديل الأخير:
قبل أن أنتقل لنقطة جديدة لاحظوا أننا في مجال يسيطر عليه التوارق، مع حضور كنتي، واستمرار سلطة ضعيفة للأرما، ولكن لا ننسى الحضور العربي -إضافة لكنتة- ممثلا في البرابيش، وحضور السنغاي خاصة في غاو، لكن عنصرا هاما سيصبح صانعا للتاريخ منذ منتصف القرن 12 هجري/18 ميلادي وهم: الفلاني.

ثانياً: حركات الإحياء الديني وصحة الفلاني:

رصدت المصادر السودانية التي تعود إلى القرن 10هجري/16ميلادي صحوة المجتمعات الفلانية لتكون لها فاعلية سياسية، وبصرف النظر عن الطريقة التي قدمت بها زعامة هذه المجموعة السودانية المميزة في كتاب تاريخ السودان للسعدي، فإن التفاعلات اللاحقة تؤكد أن الفلاني بمجرد أن امتلكوا زعامة تجمعهم بدأ دورهم في رسم تاريخ غرب إفريقيا.
يتوزع الفلاني على مساحات واسعة من غرب إفريقيا، حيث ينتشرون في عدد كبير من الدول اليوم، وما يعنينا هنا هو حركات الإحياء/الإصلاح الديني التي ظهرت في أوساطهم منذ النصف الثاني من القرن 12 هجري/18 ميلادي، وقد كان الدافع الأساسي وراء نشوء حركات الإحياء/ الإصلاح الديني في أوساط الفلاني يتمثل في ما لاحظته الزعامات الدينية الإسلامية من مظاهر انحراف عقدي وسلوكي واسع الانتشار في المجتمعات المسلمة آنذاك. ويبدو أن انتشار الإسلام في هذه المناطق تأثر بشكل كبير باختلاط تعاليمه بالكثير من الممارسات والمعتقدات ذات الجذور الوثنية، ما أضعف نقاءه العقدي وأفرغ كثيرا من شعائره من مضمونها الشرعي.
ويظهر هذا التداخل بوضوح في النص الشهير الذي حقّقه الأستاذ المرحوم عبد القادر زبادية رائد الدراسات الافريقية بالجزائر، والمعروف بعنوان: "أسئلة الأسقيا وأجوبة المغيلي"، حيث عبّر الأسقيا محمد ملك السنغاي، عن استيائه من جهل علماء السودان (غرب إفريقيا) بأصول الشريعة الإسلامية، وطلب من الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي توجيهات دينية لتقويم الحياة الدينية في مملكته، ويفهم من هذا النص أن الإسلام رغم انتشاره ظل مشوبًا بكثير من البدع والممارسات الدخيلة، كما يحتمل أن الدعوة الإسلامية التي قامت بها قبائل السوننكي والملنكي وخاصة الونغاراة/الديولا (التي عُرفت بدورها التجاري والدعوي)، لم تكن عميقة بما يكفي لاجتثاث المعتقدات والممارسات الوثنية السابقة، مما سمح باستمرارها ضمن نمط من الإسلام الشعبي المشوب بكثير من التقاليد المحلية البعيدة عنه.
وقد سبق أن أشرت في منشور سابق إلى أن الغزو المغربي لمملكة سنغاي أفضى -على نحو غير متوقع- إلى "صحوة" في أوساط المجموعات الوثنية، وعلى رأسها قبائل البمبرا والسينوفو والدوغون، التي رأت في الفراغ السياسي والعسكري فرصة لإحياء أنماطها الثقافية والدينية التقليدية. وقد مثل هذا التحول تهديدا للهوية الإسلامية في المنطقة، ما دفع العديد من مجتمعات الفلاني إلى الانخراط في حركات إصلاحية راديكالية، انطلقت من تصور راسخ بأنهم حماة الإسلام "الصحيح" من التشويه والانحراف.
منذ النصف الثاني من القرن 12 هجري/ 18 ميلادي بدأت هذه الحركات تتشكل على أساس عقدي وسياسي، معتبرة نفسها في مواجهة المجتمعات الوثنية والاسلامية المنحرفة التي ينبغي تصحيح مسارها، مما أدى إلى اندلاع حركات جهادية واسعة، ستظل آثارها وتوتراتها قائمة حتى بعد التحاق كثير من تلك المجموعات الوثنية لاحقًا بالإسلام، لكن في إطار من التراتبية الرمزية والاجتماعية التي تميل لصالح الفلاني باعتبارهم طليعة الإصلاح الديني.
في أعلى هرم هذه الحركات أشير إلى:
* حركة عثمان دان فوديو (1754–1817): مؤسس دولة الخلافة في سوكوتو (شمال نيجيريا)، وهو الذي وضع الأسس النظرية للجهاد الإصلاحي القائم على تجديد الشريعة ومحاربة الفساد في السلطات المحلية، وقد امتدت أفكاره إلى مالي وخصوصاً مناطق الفلاني، وأسهمت في تعزيز الوعي الديني السياسي لدى النخب الإسلامية، التي صارت تنظر إلى الدولة بوصفها وظيفة أخلاقية لا مجرد سلطة زمنية.
* حركة عمر الفوتي (1794–1864): كان الشيخ عمر الفوتي أحد أبرز قادة الحركات الجهادية في غرب إفريقيا خلال القرن 13 هجري/19 ميلادي، وقد استلهم مشروعه من سلفه عثمان دان فوديو، فأسس دولة شاسعة ضمت مناطق واسعة من فوتا تورو حتى مسينا. وعلى الرغم من أن عمر الفوتي لم يسيطر بشكل مباشر على تنبكت، إلا أن مشروعه كان يهدد التوازنات المحلية فيها، خصوصاً مع وجود سلطة العلماء التقليديين، وبعد فشل حملته على مسينا التي كانت تحت قيادة تواصل مشروع مؤسس الامارة أحمد لوبو (ت: 1845م)، اغتيل الحاج عمر سنة 1864، مما أدى إلى فراغ سياسي استغلته فرنسا لاحقاً.
إن الذي نخلص إليه أن الفلاني كانوا حاضرين في شريط السافانا الممتد من فوتا جالون (غينيا) إلى مسينا (وسط مالي)، ونظموا أنفسهم في إمارات تجمع بين المرجعية الدينية والإدارة البيروقراطية المبنية على الشريعة، وقد تميزت هذه الإمارات بنظام تعليمي قضائي صارم، وبإصدار قوانين مكتوبة، مما جعلها نموذجا متقدما في التنظيم السياسي الإسلامي قبل الاحتلال الفرنسي.

لعلكم فهتم لحد الآن موقع وموقف أهم الجماعات الفاعلة في أزمة مالي؟ لكن دعوني أضيف لكم شيئا عن المجموعات الوثنية.

ثالثا: مجتمعات الدوغون وممالك البمبارة:

استقر الدوغون في الهضاب الصخرية وسط مالي، وقد امتنعوا لقرون طويلة عن الممالك المسلمة، واحتفظوا باستقلالهم من خلال تنظيم قرى مستقلة تحكمها مجالس شيوخ، يجمعون بين السلطة الدنيوية والكهنوتية، ورغم احتكاكهم بالمسلمين، ظلوا متمسكين بعقائد أرواحية معقدة تعكس عالما رمزيا غريبا، مع نظام حكم محلي متماسك وفعال.
أما البمبارة؛ فقد شكلوا ممالك في وسط مالي المعاصرة، وأهمها مملكة سيغو التي تأسست مطلع القرن 12هجري/ 18 ميلادي، وقد ورث البمبارة تقاليد الحكم المنحدرة من ممالك مالي وسنغاي. وكان "الفاما" (الزعيم) يحكم بدعم من نخبة عسكرية وطبقة دينية متحالفة، وأريد أن تنتبهوا أن هذه المملكة سقطت على يد الفلاني بزعامة عمر الفوتي الذي أسقط ممالك أقل شأنا أيضا، وكان الإسلام قد بدأ التغلغل بينهم لتكون حركات الإحياء بمثابة المتمم الحاسم لسيرورة بطيئة من الأسلمة، لكن ما بهمني هنا أن تفهموا هذا "الثأر" بين المكونات المتصارعة اليوم.
إن هذه الصورة لا تعني أن الحرب كانت جوهر العلاقات قبل الاستعمار، فقد عرفت المنطقة نوعا من التوازن الهش بين التكامل والصراع، فقد كانت تنبكت مثالا على الاندماج بين قبائل التوارق والعلماء من أصول مختلفة، وتقلطعت مصالح الفلان/ الفلاني والرعاة التوارق مع الزراع الدوغون والبمبارة في إطار تبادل اقتصادي قائم على الاحتياج المتبادل، وهكذا يمكننا القول أن منطقة مالي قبل الاحتلال الفرنسي كانت فضاء متعدد الكيانات ومتشابك القوى، حيث تداخل الديني بالسياسي، وتفاعلت الإثنيات دون أن تنصهر، ولم يكن هذا التعدد سببًا في التفكك، بل كان مصدر حيوية اجتماعية واقتصادية، لكن الاستعمار الفرنسي بدلا من أن يفهم هذه البنى، دمّرها وفرض نماذج غريبة عليها.
يبدو أنني نسيت مكونين هامين قبل أن أدخل بكم مرحلة الاستعمار: الملنكي والسنغاي
لنا عودة
يتبع بحول الله
 
عودة
أعلى