{وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين، وجاء أهل المدينة يستبشرون، قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون، واتقوا الله ولا تخزون، قالوا أولم ننهك عن العالمين، قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين}
قوله تعالى{وقضينا إليه} أي أوحينا إلى لوط. }ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} نظيره }فقطع دابر القوم الذين ظلموا}. [الأنعام: 45] }مصبحين} أي عند طلوع الصبح. وقد تقدم. }وجاء أهل المدينة} أي أهل مدينة لوط }يستبشرون} مستبشرين بالأضياف طمعا منهم في ركوب الفاحشة. }قال إن هؤلاء ضيفي} أي أضيافي. }فلا تفضحون} أي تخجلون. }واتقوا الله ولا تخزون} يجوز أن يكون من الخزي وهو الذل والهوان، ويجوز أن يكون من الخزاية وهو الحياء والخجل. وقد تقدم في هود. }قالوا أولم ننهك عن العالمين} أي عن أن تضيف، أحدا لأنا نريد منهم الفاحشة. وكانوا يقصدون بفعلهم الغرباء؛ عن الحسن. وقد تقدم في الأعراف. وقيل: أو لم ننهك عن أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة. }قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين} أي فتزوجوهن ولا تركنوا إلى الحرام. وقد تقدم بيان هذا في هود.
الآية رقم ( 72 )
{لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون}
قال القاضي أبو بكر بن العربي: قال المفسرون بأجمعهم أقسم الله تعالى ههنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفا له، أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون.
قلت: وهكذا قال القاضي عياض: أجمع أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم. وأصله ضم العين من العمر ولكنها فتحت لكثرة الاستعمال. ومعناه وبقائك يا محمد. وقيل وحياتك. وهذا نهاية التعظيم وغاية البر والتشريف. قال أبو الجوزاء: ما أقسم الله بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أكرم البرية عنده. قال ابن العربي{ما الذي يمنع أن يقسم الله سبحانه وتعالى بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء، وكل ما يعطيه الله تعالى للوط من فضل يؤتي ضعفيه من شرف لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أكرم على الله منه؛ أو لا ترى أنه سبحانه أعطى إبراهيم الخلة وموسى التكليم وأعطى ذلك لمحمد، فإذا أقسم بحياة لوط فحياة محمد أرفع. ولا يخرج من كلام إلى كلام لم يجر له ذكر لغير ضرورة}.
قلت: ما قاله حسن؛ فإنه كان يكون قسمه سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وسلم كلاما معترضا في قصة لوط. قال القشيري أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم في تفسيره: ويحتمل أن يقال: يرجع ذلك إلى قوم لوط، أي كانوا في سكرتهم يعمهون. وقيل: لما وعظ لوط قومه وقال هؤلاء بناتي قالت الملائكة: يا لوط، }لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} ولا يدرون ما يحل بهم صباحا. فإن قيل: فقد أقسم تعالى بالتين والزيتون وطور سينين؛ فما في هذا؟ قيل له: ما من شيء أقسم الله به إلا وذلك دلالة على فضله على ما يدخل في عداده، فكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون أفضل ممن هو في عداده. والعمر والعمر (بضم العين وفتحها) لغتان ومعناهما واحد؛ إلا أنه لا يستعمل في القسم إلا بالفتح لكثرة الاستعمال. وتقول: عمرك الله، أي أسأل الله تعميرك. و}لعمرك} رفع بالابتداء وخبره محذوف. المعنى لعمرك مما أقسم به.
كره كثير من العلماء أن يقول الإنسان لعمري؛ لأن معناه وحياتي. قال إبراهيم النخعي: يكره للرجل أن يقول لعمري؛ لأنه حلف بحياة نفسه، وذلك من كلام ضعفة الرجال. ونحو هذا قال مالك: إن المستضعفين من الرجال والمؤنثين يقسمون بحياتك وعيشك، وليس من كلام أهل الذكران، وإن كان الله سبحانه أقسم به في هذه القصة، فذلك بيان لشرف المنزلة والرفعة لمكانه، فلا يحمل عليه سواه ولا يستعمل في غيره. وقال ابن حبيب: ينبغي أن يصرف }لعمرك} في الكلام لهذه الآية. وقال قتادة: هو من كلام العرب. قال ابن العربي: وبه أقول، لكن الشرع قد قطعه في الاستعمال ورد القسم إليه.
قلت. القسم بـ }لعمرك ولعمري} ونحوه في أشعار العرب وفصيح كلامها كثير.
قال النابغة:
لعمري وما عمري علي بهين لقد نطقت بطلا على الأقارع
آخر:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد
آخر:
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان
آخر:
إذا رضيت علي بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها
وقال بعض أهل المعاني: لا يجوز هذا؛ لأنه لا يقال لله عمر، وإنما هو تعالى أزلي. ذكره الزهراوي.
قد مضى الكلام فيما يحلف به وما لا يجوز الحلف به في }المائدة}، وذكرنا هناك قول أحمد بن حنبل فيمن أقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم لزمته الكفارة. قال ابن خويز منداد: من جوز الحلف بغير الله تعالى مما يجوز تعظيمه بحق من الحقوق فليس يقول إنها يمين تتعلق بها كفارة؛ إلا أنه من قصد الكذب كان ملوما؛ لأنه في الباطن مستخف بما وجب عليه تعظيمه. قالوا: وقوله تعالى }لعمرك} أي وحياتك. وإذا أقسم الله تعالى بحياة نبيه فإنما أراد بيان التصريح لنا أنه يجوز لنا أن نحلف بحياته. وعلى مذهب مالك معنى قوله{لعمرك} و}التين والزيتون}التين: 1]. }والطور. وكتاب مسطور}الطور: 1 - 2] }والنجم إذا هوى}النجم: 1] }والشمس وضحاها}الضحى. 1] }لا أقسم بهذا البلد. وأنت حل بهذا البلد. ووالد وما ولد}البلد: 1 - 3] كل هذا معناه: وخالق التين والزيتون، وبرب الكتاب المسطور، وبرب البلد الذي حللت به، وخالق عيشك وحياتك، وحق محمد؛ فلليمين والقسم حاصل به سبحانه لا بالمخلوق. قال ابن خويز منداد: ومن جوز اليمين بغير الله تعالى تأول قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم) وقال: إنما نهى عن الحلف بالآباء الكفار، ألا ترى أنه قال لما حلفوا بآبائهم: (للجبل عند الله أكرم من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية). ومالك حمل الحديث على ظاهره. قال ابن خويز منداد: واستدل أيضا من جوز ذلك بأن أيمان المسلمين جرت منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن يحلفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى أن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا حاكم أحدهم صاحبه قال: احلف لي بحق ما حواه هذا القبر، وبحق ساكن هذا القبر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك بالحرم والمشاعر العظام، والركن والمقام والمحراب وما يتلى فيه.
الآية رقم ( 73 : 74 )
{فأخذتهم الصيحة مشرقين، فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل}
قوله تعالى{فأخذتهم الصيحة مشرقين} نصب على الحال، أي وقت شروق الشمس. يقال: أشرقت الشمس أي أضاءت، وشرقت إذا طلعت. وقيل: هما لغتان بمعنى. وأشرق القوم أي دخلوا في وقت شروق الشمس. مثل أصبحوا وأمسوا، وهو المراد في الآية. وقيل: أراد شروق الفجر. وقيل: أول العذاب كان عند الصبح وامتد إلى شروق الشمس، فكان تمام الهلاك عند ذلك. والله أعلم. و}الصيحة} العذاب. وتقدم ذكر }سجيل}هود: 82].
الآية رقم ( 75 )
{إن في ذلك لآيات للمتوسمين}
قوله تعالى{للمتوسمين} روى الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول) من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (للمتفرسين) وهو قول مجاهد. وروى أبو عيسى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله - ثم قرأ - }إن في ذلك لآيات للمتوسمين}). قال: هذا حديث غريب. وقال مقاتل وابن زيد: للمتوسمين للمتفكرين. الضحاك: للنظارين. قال الشاعر:
أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إلى عريفهم يتوسموا
وقال قتادة: للمعتبرين. قال زهير:
وفيهن ملهى للصديق ومنظر أنيق لعين الناظر المتوسم
وقال أبو عبيدة: للمتبصرين، والمعنى متقارب. وروى الترمذي الحكيم من حديث ثابت عن أنس ابن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله عز وجل عبادا يعرفون الناس بالتوسم). قال العلماء: التوسم تفعل من الوسم، وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها. يقال: توسمت فيه الخير إذا رأيت ميسم ذلك فيه؛ ومنه قول عبدالله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم:
إني توسمت فيك الخير أعرفه والله يعلم أني ثابت البصر
آخر:
توسمته لما رأيت مهابة عليه وقلت المرء من آل هاشم
واتسم الرجل إذا جعل لنفسة علامة يعرف بها. وتوسم الرجل طلب كلأ الوسمي. وأنشد:
وأصبحن كالدوم النواعم غدوة على وجهة من ظاعن متوسم
وقال ثعلب: الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك. وأصل التوسم التثبت والتفكر؛ مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير وغيره، وذك يكون بجودة القريحة وحدة الخاطر وصفاء الفكر. زاد غيره: وتفريغ القلب من حشو الدنيا، وتطهيره من أدناس المعاصي وكدورة الأخلاق وفضول الدنيا. روى نهشل عن ابن عباس }للمتوسمين} قال: لأهل الصلاح والخير. وزعمت الصوفية أنها كرامة. وقيل: بل هي استدلال بالعلامات، ومن العلامات ما يبدو ظاهرا لكل أحد وبأول نظرة، ومنها ما يخفى فلا يبدو لكل أحد ولا يدرك ببادئ النظر. قال الحسن: المتوسمون هم الذين يتوسمون الأمور فيعلمون أن الذي أهلك قوم لوط قادر على أن يهلك الكفار؛ فهذا من الدلائل الظاهرة. ومثله قول ابن عباس،: (ما سألني أحد عن شيء إلا عرفت أفقيه هو أو غير فقيه). وروي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما: أراه نجارا، وقال الآخر: بل حدادا، فتبادر من حضر إلى الرجل فسأل فقال: كنت نجارا وأنا اليوم حداد. وروي عن جندب بن عبدالله البجلي أنه أتى على رجل يقرأ القرآن فوقف فقال: من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به. فقلنا له: كأنك عرضت بهذا الرجل، فقال: إن هذا يقرأ عليك القرآن اليوم ويخرج غدا حروريا؛ فكان رأس الحرورية، واسمه مرداس. وروي عن الحسن البصري أنه دخل عليه عمرو بن عبيد فقال: هذا سيد فتيان البصرة إن لم يحدث، فكان من أمره من القدر ما كان، حتى هجره عامة إخوانه. وقال لأيوب: هذا سيد فتيان أهل البصرة، ولم يستثن. وروي عن الشعبي أنه قال لداود الأزدي وهو يماريه: إنك لا تموت حتى تكوى في رأسك، وكان كذلك. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه قوم من مذحج فيهم الأشتر، فصعد فيه النظر وصوبه وقال: أيهم هذا؟ قالوا: مالك بن الحارث. فقال: ما له قاتله الله! إني لأرى للمسلمين منه. يوما عصيبا؛ فكان منه في الفتنة ما كان. وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: أن أنس بن مالك دخل عليه، وكان قد مر بالسوق فنظر إلى امرأة، فلما نظر إليه قال عثمان: (يدخل أحدكم علي وفي عينيه أثر الزنى فقال له أنس: أوحيا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لا ولكن برهان وفراسة وصدق). ومثله كثير عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.
قال أبو بكر بن العربي{إذا ثبت أن التوسم والتفرس من مدارك المعاني فإن ذلك لا يترتب عليه حكم ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرس. وقد كان قاضي القضاة الشامي المالكي ببغداد أيام كوني بالشام يحكم بالفراسة في الأحكام، جريا على طريق إياس بن معاوية أيام كان قاضيا، وكان شيخنا فخر الإسلام أبو بكر الشاشي صنف جزءا في الرد عليه، كتبه لي بخطه وأعطانيه، وذلك صحيح؛ فإن مدارك الأحكام معلومة شرعا مدركة قطعا وليست الفراسة منها
الآية رقم ( 76 : 79 )
{وإنها لبسبيل مقيم، إن في ذلك لآية للمؤمنين، وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين، فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين}
قوله تعالى{وإنها} يعني قرى قوم لوط. }لبسبيل مقيم} أي على طريق قومك يا محمد إلى الشام. }إن في ذلك لآية للمؤمنين} أي لعبرة للمصدقين. }وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين} يريد قوم شعيب، كانوا أصحاب غياض ورياض وشجر مثمر. والأيكة: الغيضة، وهي جماعة الشجر، والجمع الأيك. ويروى أن شجرهم كان دوما وهو المقل. قال النابغة:
تجلو بقادمتي حمامة أيكة بردا أسف لثاته بالإثمد
وقيل: الأيكة اسم القرية. وقيل اسم البلدة. وقال أبو عبيدة: الأيكة وليكة مدينتهم، بمنزلة بكة من مكة. وتقدم خبر شعيب وقومه. }وإنهما لبإمام مبين} أي بطريق واضح في نفسه، يعني مدينة قوم لوط وبقعة أصحاب الأيكة يعتبر بهما من يمر عليهما.
الآية رقم ( 80 )
{ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين}
الحجر ينطلق على معان: منها حجر الكعبة. ومنها الحرام؛ قال الله تعالى{وحجرا محجورا}الفرقان: 53] أي حراما محرما. والحجر العقل؛ قال الله تعالى{لذي حجر}الفجر: 5] والحجر حجر القميص؛ والفتح أفصح. والحجر الفرس الأنثى. والحجر ديار ثمود، وهو المراد هنا، أي المدينة؛ قال الأزهري. قتادة: وهي ما بين مكة وتبوك، وهو الوادي الذي فيه ثمود. الطبري: هي أرض بين الحجاز والشام، وهم قوم صالح. وقال{المرسلين} وهو صالح وحده، ولكن من كذب نبيا فقد كذب الأنبياء كلهم؛ لأنهم على دين واحد في الأصول فلا يجوز التفريق بينهم. وقيل: كذبوا صالحا ومن تبعه ومن تقدمه من النبيين أيضا. والله أعلم
روى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها. فقالوا: قد عجنا واستقينا. فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا الماء وأن يطرحوا ذلك العجين. وفي الصحيح عن ابن عمر أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود، فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي تردها الناقة. وروي أيضا عن ابن عمر قال: مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم) ثم زجر فأسرع.
قلت: ففي هذه الآية التي بين الشارع حكمها وأوضح أمرها ثمان مسائل، استنبطها العلماء واختلف في بعضها الفقهاء، فأولها: كراهة دخول تلك المواضع، وعليها حمل بعض العلماء دخول مقابر الكفار؛ فإن دخل الإنسان شيئا من تلك المواضع والمقابر فعلى الصفة التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتبار والخوف والإسراع. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا أرض بابل فإنها ملعونة).
مسألة: أمر النبي بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به لأجل أنه ماء سخط، فلم يجز الانتفاع به فرارا من سخط الله. وقال (اعلفوه الإبل). قلت: وهكذا حكم الماء النجس وما يعجن به. وثانيها: قال مالك: إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم؛ إذ لا تكليف عليها؛ وكذلك قال، في العسل النجس: إنه يعلفه النحل. وثالثها: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلف ما عجن بهذا الماء الإبل، ولم يأمر بطرحه كما أمر لحوم الحمر الإنسية يوم خيبر؛ فدل على أن لحم الحمر أشد. في التحريم وأغلظ في التنجيس. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسب الحجام أن يعلف الناضح والرقيق، ولم يكن ذلك لتحريم ولا تنجيس. قال الشافعي: ولو كان حراما لم يأمره أن يطعمه رقيقه؛ لأنه متعبد فيه كما تعبد في نفسه. ورابعها: في أمره صلى الله عليه وسلم بعلف الإبل العجين دليل على جواز حمل الرجل النجاسة إلى كلابه ليأكلوها؛ خلافا لمن منع ذلك من أصحابنا وقال: تطلق الكلاب عليها ولا يحملها إليهم. وخامسها: أمره صلى الله عليه وسلم أن يستقوا من بئر الناقة دليل على التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وإن تقادمت أعصارهم وخفيت آثارهم؛ كما أن في الأول دليلا على بغض أهل الفساد وذم ديارهم وآثارهم. هذا، وإن كان التحقيق أن الجمادات غير مؤاخذات، لكن المقرون بالمحبوب محبوب، والمقرون بالمكروه المبغوض مبغوض؛ كما كثير:
أحب لحبها السودان حتى أحب لحبها سود الكلاب
وكما قال آخر:
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما تلك الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
وسادسها: منع بعض العلماء الصلاة بهذا الموضع وقال: لا تجوز الصلاة فيها لأنها دار سخط وبقعة غضب. قال ابن العربي: فصارت هذه البقعة مستثناة من قوله صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) فلا يجوز التيمم بترابها ولا الوضوء من مائها ولا الصلاة فيها. وقد روى الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبع مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق، وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق بيت الله. وفي الباب عن أبي مرثد وجابر وأنس: حديث ابن عمر إسناده ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه. وقد زاد علماؤنا: الدار المغصوبة والكنيسة والبيعة والبيت الذي فيه تماثيل، والأرض المغصوبة أو موضعا تستقبل فيه نائما أو وجه رجل أو جدارا عليه نجاسة. قال ابن العربي: ومن هذه المواضع ما منع لحق الغير، ومنه ما منع لحق الله تعالى، ومنه ما منع لأجل النجاسة المحققة أو لغلبتها؛ فما منع لأجل النجاسة إن فرش فيه ثوب طاهر كالحمام والمقبرة فيها أو إليها فإن ذلك جائز في المدونة. وذكر أبو مصعب عنه الكراهة. وفرق علماؤنا بين المقبرة القديمة والجديدة لأجل النجاسة، وبين مقبرة المسلمين والمشركين؛ لأنها دار عذاب وبقعة سخط كالحجر. وقال مالك في المجموعة: لا يصلي في أعطان الإبل وإن فرش ثوبا؛ كأنه رأى لها علتين: الاستتار بها ونفارها فتفسد على المصلي صلاته، فإن كانت واحدة فلا بأس؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل؛ في الحديث الصحيح. وقال مالك: لا يصلي على بساط فيه تماثيل إلا من ضرورة. وكره ابن القاسم الصلاة إلى القبلة فيها تماثيل، وفي الدار المغصوبة، فإن فعل أجزأه وذكر بعضهم عن مالك أن الصلاة في الدار المغصوبة لا تجزئ. قال ابن العربي: وذلك عندي بخلاف الأرض. فإن الدار لا تدخل إلا بإذن، والأرض وإن كانت ملكا فإن المسجدية فيها قائمة لا يبطلها الملك.
قلت: الصحيح - إن شاء الله - الذي يدل عليه النظر والخبر أن الصلاة بكل موضع طاهر جائزة صحيحة. وما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا واد به شيطان) وقد رواه معمر عن الزهري فقال: واخرجوا عن الموضع الذي أصابتكم فيه الغفلة. وقول علي: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة. وقوله عليه السلام حين مر بالحجر من ثمود: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين) ونهيه عن الصلاة في معاطن الإبل إلى ذلك مما في هذا الباب، فإنه مردود إلى الأصول المجتمع عليها والدلائل الصحيح مجيئها. قال الإمام الحافظ أبو عمر: المختار عندنا في هذا الباب أن ذلك الوادي وغيره من بقاع الأرض جائز أن يصلى فيها كلها ما لم تكن فيها نجاسة متيقنة تمنع من ذلك، ولا معنى لاعتلال من اعتل بأن موضع النوم عن الصلاة موضع شيطان، وموضع ملعون لا يجب أن تقام فيه الصلاة، وكل ما روي في هذا الباب من النهي عن الصلاة في المقبرة وبأرض بابل وأعطان الإبل وغير ذلك مما في هذا المعنى، كل ذلك عندنا منسوخ ومدفوع لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا)، وقوله صلى الله عليه وسلم مخبرا: إن ذلك من فضائله ومما خصى به، وفضائله عند أهل العلم لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص. قال صلى الله عليه وسلم: (أوتيت خمسا - وقد روي ستا، وقد روي ثلاثا وأربعا، وهي تنتهي إلى أزيد من تسع، قال فيهن - (لم يؤتهن أحد قبلي بعثت إلى الأحمر والأسود ونصرت بالرعب وجعلت أمتي خير الأمم وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأوتيت الشفاعة وبعثت بجوامع الكلم وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح الأرض فوضعت في يدي وأعطيت الكوثر. وختم بي النبيون) رواه جماعة من الصحابة. وبعضهم يذكر بعضها، ويذكر بعضهم ما لم يذكر غيره، وهي صحاح كلها. وجائز على فضائله الزيادة وغير جائز فيها النقصان؛ ألا ترى أنه كان عبدا قبل أن يكون نبيا ثم كان نبيا قبل أن يكون رسولا؛ وكذلك روي عنه. وقال: (ما أدري ما يفعل بي ولا بكم) ثم نزلت }ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}الفتح: 2]. وسمع رجلا يقوله: يا خير البرية؛ فقال: (ذاك إبراهيم) وقال: (لا يقولن أحدكم أنا خير من يونس بن متى) وقال: (السيد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام) ثم قال بعد ذلك كله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر). ففضائله صلى الله عليه وسلم لم تزل تزداد إلى أن قبضه الله؛ فمن ههنا قلنا: إنه لا يجوز عليها النسخ ولا الاستثناء ولا النقصان، وجائز فيها الزيادة. وبقوله صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) أجزنا الصلاة في المقبرة والحمام وفي كل موضع من الأرض إذا كان طاهرا من الأنجاس. وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: (حيثما أدركتك الصلاة فصل فإن الأرض كلها مسجد) ذكره البخاري ولم يخص موضعا من موضع.
وأما من احتج بحديث ابن وهب قال: أخبرني يحيى بن أيوب عن زيد بن جبيرة عن داود بن حصين عن نافع عن ابن عمر حديث الترمذي الذي ذكرناه فهو حديث انفرد به زيد بن جبيرة وأنكروه عليه، ولا يعرف هذا الحديث مسندا إلا برواية يحيى بن أيوب عن زيد بن جبيرة. وقد كتب الليث بن سعد إلى عبدالله بن نافع مولى ابن عمر يسأله عن هذا الحديث، وكتب إليه عبدالله بن نافع لا أعلم من حدث بهذا عن نافع إلا قد قال عليه الباطل. ذكره الحلواني عن سعيد بن أبي مريم عن الليث، وليس فيه تخصيص مقبرة المشركين من غيرها. وقد روي عن علي بن أبي طالب قال: نهاني حبيبي صلى الله عليه وسلم أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة. وإسناده ضعيف مجتمع على ضعفه، وأبو صالح الذي رواه عن علي هو سعيد بن عبدالرحمن الغفاري، بصري ليس بمشهور ولا يصح له سماع عن علي، ومن دونه مجهولون لا يعرفون. قال أبو عمر: وفي الباب عن علي من قوله غير مرفوع حديث حسن الإسناد، رواه الفضل بن دكين قال: حدثنا المغيرة بن أبي الحر الكندي قال حدثني أبو العنبس حجر بن عنبس قال: خرجنا مع علي إلى الحرورية، فلما جاوزنا سوريا وقع بأرض بابل، قلنا: يا أمير المؤمنين أمسيت، الصلاة الصلاة؛ فأبى أن يكلم أحدا. قالوا: يا أمير المؤمنين، قد أمسيت. قال بلى، ولكن لا أصلي في أرض خسف الله بها. والمغيرة بن أبي الحر كوفي ثقة؛ قاله يحيى بن معين وغيره. وحجر بن عنبس من كبار أصحاب علي. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام). قال الترمذي: رواه سفيان الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي مرسلا، وكأنه أثبت وأصح. قال أبو عمر: فسقط الاحتجاج به عند من لا يرى المرسل حجة، ولو ثبت كان الوجه ما ذكرنا. ولسنا نقول كما قال بعض المنتحلين لمذهب المدنين: إن المقبرة في هذا الحديث وغيره أريد بها مقبرة المشركين خاصة؛ فإنه قال: المقبرة والحمام بالألف واللام؛ فغير جائز أن يرد ذلك إلى مقبرة دون مقبرة أو حمام دون حمام بغير توقيف عليه، فهو قول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا خبر صحيح، ولا مدخل له في القياس ولا في المعقول، ولا دل عليه فحوى الخطاب ولا خرج عليه الخبر. ولا يخلو تخصيص من خص مقبرة المشركين من أحد وجهين: إما أن يكون من أجل اختلاف الكفار إليها بأقدامهم فلا معنى لخصوص المقبرة بالذكر؛ لأن كل موضع هم فيه بأجسامهم وأقدامهم فهو كذلك، وقد جل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بما لا معنى له. أو يكون من أجل أنها بقعة سخط، فلو كان كذلك ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبني مسجده في مقبرة المشركين وينبشها ويسويها ويبني عليها، ولو جاز لقائل أن يخص من المقام مقبرة للصلاة فيها لكانت مقبرة المشركين أولى بالخصوص والاستثناء من أجل هذا الحديث. وكل من كره الصلاة في المقبرة لم يخص مقبرة من مقبرة؛ لأن الألف واللام إشارة إلى الجنس لا إلى معهود، ولو كان بين مقبرة المسلمين والمشركين فرق لنبيه صلى الله عليه وسلم ولم يهمله؛ لأنه بعث مبينا. ولو ساغ لجاهل أن يقول: مقبرة كذا لجاز لآخر أن يقول: حمام كذا؛ لأن في الحديث المقبرة والحمام. وكذلك قوله: المزبلة والمجزرة؛ غير جائز أن يقال: مزبلة كذا ولا مجزرة كذا ولا طريق كذا؛ لأن التحكم في دين الله غير جائز.
وأجمع العلماء على أن التيمم على مقبرة المشركين إذا كان الموضع طيبا طاهرا نظيفا جائز. وكذلك أجمعوا على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر، أن صلاته ماضية جائزة. وقد تقدم هذا في سورة }براءة}. ومعلوم أن الكنيسة أقرب إلى أن تكون بقعة سخط من المقبرة؛ لأنها بقعة يعصى الله ويكفر به فيها، وليس كذلك المقبرة. وقد وردت السنة باتخاذ البيع والكنائس مساجد. روى النسائي عن طلق بن علي قال: خرجنا وفدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا، وذكر الحديث. وفيه: (فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بيعتكم واتخذوها مسجدا). وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم. وقد تقدم في }براءة}. وحسبك بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أسس على التقوى مبنيا في مقبرة المشركين؛ وهو حجة على كل من كره الصلاة فيها. وممن كره الصلاة في المقبرة سواء كانت لمسلمين أو مشركين الثوري أجزأه إذا صلى في المقبرة في موضع ليس فيه نجاسة؛ للأحاديث المعلومة في ذلك، ولحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا)، ولحديث أبي مرثد الغنوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها). وهذان حديثان ثابتان من جهة الإسناد، ولا حجة فيهما؛ لأنهما محتملان للتأويل، ولا يجب أن يمتنع من الصلاة في كل موضع طاهر إلا بدليل لا يحتمل تأويلا. ولم يفرق أحد من فقهاء المسلمين بين مقبرة المسلمين والمشركين إلا ما حكيناه من خطل القول الذي لا يشتغل بمثله، ولا وجه له في نظر ولا في صحيح أثر. وثامنها: الحائط يلقى فيه النتن والعذرة ليكرم فلا يصلى فيه حتى يسقى ثلاث مرات، لما رواه الدارقطني عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحائط يلقى فيه العذرة والنتن قال: (إذا سقي ثلاث مرات فصل فيه). وخرجه أيضا من حديث نافع عن ابن عمر أنه سئل عن هذه الحيطان التي تلقى فيها العذرات وهذا الزبل، أيصلى فيها؟ فقال: إذا سقيت ثلاث مرات فصل فيها. رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم اختلفا في الإسناد، والله أعلم.
الآية رقم ( 81 )
{وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين}
قوله تعالى{وآتيناهم آياتنا} أي بآياتنا. كقوله{آتنا غداءنا}الكهف: 62] أي بغدائنا. والمراد الناقة، وكان فيها آيات جمة: خروجها من الصخرة، ودنو نتاجها عند خروجها، وعظمها حتى لم تشبهها ناقة، وكثرة لبنها حتى تكفيهم جميعا. ويحتمل أنه كان لصالح آيات أخر سوى الناقة، كالبئر وغيره. }معرضين} أي لم يعتبروا.
الآية رقم ( 82 : 84 )
{وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين، فأخذتهم الصيحة مصبحين، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون}
قوله تعالى{وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا} النحت في كلام العرب: البري والنجر. نحته ينحته (بالكسر) نحتا أي براه. والنحاتة البراية. والمنحت ما ينحت به. وفي التنزيل }أتعبدون ما تنحتون}الصافات: 95] أي تنجرون وتصنعون. فكانوا يتخذون من الجبال بيوتا لأنفسهم بشدة قوتهم. }آمنين} أي من أن تسقط عليهم أو تخرب. وقيل: آمنين من الموت. وقيل: من العذاب. }فأخذتهم الصيحة مصبحين} أي في وقت الصبح، وهو نصب على الحال. وقد تقدم ذكر الصيحة في هود والأعراف. }فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون} من الأموال والحصون في الجبال، ولا ما أعطوه من القوة.
الآية رقم ( 85 : 86 )
{وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل، إن ربك هو الخلاق العليم}
قوله تعالى{وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} أي للزوال والفناء. وقيل: أي لأجازي المحسن والمسيء؛ كما قال{ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى}النجم: 31]. }وإن الساعة لآتية} أي لكائنة فيجزى كل بعمله. }فاصفح الصفح الجميل} مثل }واهجرهم هجرا جميلا}المزمل: 10] أي تجاوز عنهم يا محمد، واعفو عفوا حسنا؛ ثم نسخ بالسيف. قال قتادة: نسخه قوله{فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم}النساء: 91]. وأن النبي صلى الله عليه وسلم فال لهم: (لقد جئتكم بالذبح وبعثت بالحصاد ولم أبعث بالزراعة)؛ قاله عكرمة ومجاهد. وقيل: ليس بمنسوخ، وأنه أمر بالصفح في حق نفسه فيما بينه وبينهم. والصفح: الإعراض؛ عن الحسن وغيره. }إن ربك هو الخلاق} أي المقدر للخلق والأخلاق. }العليم} بأهل الوفاق والنفاق.
الآية رقم ( 87 )
{ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم}
قوله تعالى{ولقد آتيناك سبعا من المثاني} اختلف العلماء في السبع المثاني؛ فقيل: الفاتحة؛ قاله علي بن أبي طالب وأبو هريرة والربيع بن أنس وأبو العالية والحسن وغيرهم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة، من حديث أبي بن كعب وأبي سعيد بن المعلى. وقد تقدم في تفسير الفاتحة. وخرج الترمذي من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني). قال: هذا حديث حسن صحيح. وهذا نص، وقد تقدم في الفاتحة. وقال الشاعر:
نشدتكم بمنزل القرآن أم الكتاب السبع من مثاني
وقال ابن عباس: (هي السبع الطول: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال والتوبة معا؛ إذ ليس بينهما التسمية). روى النسائي حدثنا علي بن حجر أخبرنا شريك عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل{سبعا من المثاني} قال: السبع الطول، وسميت مثاني لأن العبر والأحكام والحدود ثنيت فيها. وأنكر قوم هذا وقالوا: أنزلت هذه الآية بمكة، ولم ينزل من الطول شيء إذ ذاك. وأجيب بأن الله تعالى أنزل القرآن إلى السماء الدنيا ثم أنزل منها نجوما، فما أنزله إلى السماء الدنيا فكأنما أتاه محمدا صلى الله عليه وسلم وإن لم ينزل عليه بعد. وممن قال إنها السبع الطول: عبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد. وقال جرير:
جزى الله الفرزدق حين يمسي مضيعا للمفصل والمثاني
وقيل: (المثاني القرآن كله؛ قال الله تعالى{كتابا متشابها مثاني}الزمر: 23]). هذا قول الضحاك وطاوس وأبو مالك، وقاله ابن عباس. وقيل له مثاني لأن الأنباء والقصص ثنيت فيه. وقالت صفية بنت عبدالمطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فقد كان نورا ساطعا يهتدى به يخص بتنزيل القران المعظم
أي القرآن. وقيل: المراد بالسبع المثاني أقسام القرآن من الأمر والنهي والتبشير والإنذار وضرب الأمثال وتعديد نعم وأنباء قرون؛ قال زياد بن أبي مريم. والصحيح الأول لأنه نص. وقد قدمنا في الفاتحة أنه ليس في تسميتها بالمثاني ما يمنع من تسمية غيرها بذلك؛ إلا أنه إذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عنه نص في شيء لا يحتمل التأويل كان الوقوف عنده.
قوله تعالى{والقرآن العظيم} فيه إضمار تقديره: وهو أن الفاتحة القرآن العظيم لاشتمالها على ما يتعلق بأصول الإسلام. وقد تقدم في الفاتحة. وقيل: الواو مقحمة، التقدير: ولقد آتيناك سبعا من المثاني القرآن العظيم. ومنه قول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
وقد تقدم عند قوله{حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}البقرة: 238]
الآية رقم ( 88 )
{لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين}
قوله تعالى{لا تمدن عينيك} المعنى: قد أغنيتك بالقرآن عما في أيدي الناس؛ فإنه ليس منا من لم يتغن بالقرآن؛ أي ليس منا من رأى أنه ليس يغني بما عنده من القرآن حتى يطمح بصره إلى زخارف الدنيا وعنده معارف المولى. يقال: إنه وافى سبع قوافل من البصرة وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد، فيها البر والطيب والجوهر وأمتعة البحر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله، فأنزل الله تعالى{ولقد آتيناك سبعا من المثاني} أي فهي خير لكم من القوافل السبع، فلا تمدن أعينكم إليها. وإلى هذا صار ابن عيينة، وأورد قوله عليه السلام: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) أي من لم يستغن به. وقد تقدم هذا المعنى في أول الكتاب. }أزواجا منهم} أي أمثالا في النعم، أي الأغنياء بعضهم أمثال بعض في الغنى، فهم أزواج.
هذه الآية تقتضي الزجر عن التشوف إلى متاع الدنيا على الدوام، وإقبال العبد على عبادة مولاه. ومثله }ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه}طه: 131] الآية. وليس كذلك؛ فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة). وكان عليه الصلاة والسلام متشاغل بالنساء، جبلة الآدمية وتشوف الخلقة الإنسانية، ويحافظ على الطيب، ولا تقر له عين إلا في الصلاة لدى مناجاة المولى. ويرى أن مناجاته أحرى من ذلك وأولى. ولم يكن في دين محمد الرهبانية والإقبال على الأعمال الصالحة بالكلية كما كان في دين عيسى، وإنما شرع الله سبحانه حنيفية سمحة خالصة عن الحرج خفيفة على الآدمي، يأخذ من الآدمية بشهواتها ويرجع إلى الله بقلب سليم. ورأى الفراء والمخلصون من الفضلاء الانكفاف عن اللذات والخلوص لرب الأرض والسماوات اليوم أولى؛ لما غلب على الدنيا من الحرام، واضطر العبد في المعاش إلى مخالطة من لا تجوز مخالطته ومصانعة من تحرم مصانعته، فكانت القراءة أفضل، والفرار عن الدنيا أصوب للعبد وأعدل؛ قال صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن).
قوله تعالى{ولا تحزن عليهم} أي ولا تحزن على المشركين إن لم يؤمنوا. وقيل: المعنى لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا فلك في الآخرة أفضل منه. وقيل: لا تحزن عليهم إن صاروا إلى العذاب فهم أهل العذاب. }واخفض جناحك للمؤمنين} أي ألن جانبك لمن آمن بك وتواضع لهم. وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه بسط جناحه ثم قبضه على الفرخ، فجعل ذلك وصفا لتقريب الإنسان أتباعه. ويقال: فلان خافض الجناح، أي وقور ساكن. والجناحان من ابن آدم جانباه؛ ومنه }واضمم يدك إلى جناحك}طه: 22] وجناح الطائر يده. وقال الشاعر:
وحسبك فتية لزعيم قوم يمد على أخي سقم جناحا
أي تواضعا ولينا.
الآية رقم ( 89 : 90 )
{وقل إني أنا النذير المبين، كما أنزلنا على المقتسمين}
في الكلام حذف؛ أي إني أنا النذير المبين عذابا، فحذف المفعول، إذ كان الإنذار يدل عليه، كما قال في موضع آخر{أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود}فصلت: 13]. وقيل: الكاف زائدة، أي أنذرتكم ما أنزلنا على المقتسمين؛ كقوله{ليس كمثله شيء}الشورى: 11] وقيل: أنذرتكم مثل ما أنزلنا بالمقتسمين. وقيل: المعنى كما أنزلنا على المقتسمين، أي من العذاب وكفيناك المستهزئين، فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين الذين بغوا، فإنا كفيناك أولئك الرؤساء الذين كنت تلقى منهم ما تلقى.
واختلف في }المقتسمين} على أقوال سبعة: الأول: قال مقاتل والفراء: هم ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا أعقاب مكة وأنقابها وفجاجها يقولون لمن سلكها: لا تغتروا بهذا الخارج فينا يدعي النبوة؛ فإنه مجنون، وربما قالوا ساحر، وربما قالوا شاعر، وربما قالوا كاهن. وسموا المقتسمين لأنهم اقتسموا هذه الطرق، فأماتهم الله شر ميتة، وكانوا نصبوا الوليد بن المغيرة حكما على باب المسجد، فإذا سألوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صدق أولئك.
الثاني: قال قتادة: هم قوم من كفار قريش اقتسموا كتاب الله فجعلوا بعضه شعرا، وبعضه سحرا، وبعضه كهانة، وبعضه أساطير الأولين. الثالث: قال ابن عباس: (هم أهل الكتاب آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه). وكذلك قال عكرمة: هم أهل الكتاب، وسموا مقتسمين لأنهم كانوا مستهزئين، فيقول بعضهم: هذه السورة لي وهذه السورة لك. وهو القول الرابع. الخامس: قال قتادة: قسموا كتابهم ففرقوه وبددوه وحرفوه. السادس: قال زيد بن أسلم: المراد قوم صالح، تقاسموا على قتله فسموا مقتسمين؛ كما قال تعالى{تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله}النمل: 49].
السابع: قال الأخفش: هم قوم اقتسموا أيمانا تحالفوا عليها. وقيل: إنهم العاص بن وائل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج؛ ذكره الماوردي.
الآية رقم ( 91 )
{الذين جعلوا القرآن عضين}
هذه صفة المقتسمين. وقيل: هو مبتدأ وخبره }لنسألنهم}. وواحد العضين عضة، من عضيت الشيء تعضية أي فرقته؛ وكل فرقة عضة. وقال بعضهم: كانت في الأصل عضوة فنقصت الواو، ولذلك جمعت عضين؛ كما قالوا: عزين في جمع عزة، والأصل عزوة. وكذلك ثبة وثبين. ويرجع المعنى إلى ما ذكرناه في المقتسمين. قال ابن عباس: (آمنوا ببعض وكفروا ببعض). وقيل: فرقوا أقاويلهم فيه فجعلوه كذبا وسحرا وكهانة وشعرا. عضوته أي فرقته. قال الشاعر - هو رؤبة - :
وليس دين الله بالمعضى
أي بالمفرق. ويقال: نقصانه الهاء وأصله عضهة؛ لأن العضه والعضين في لغة قريش السحر. وهم يقولون للساحر: عاضه وللساحرة عاضهة. قال الشاعر:
أعوذ بربي من النافثا ت في عُقَد العاضه المُعْضه
وفي الحديث: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة، وفسر: الساحرة والمستسحرة. والمعنى: أكثروا البهت على القرآن ونوعوا الكذب فيه، فقالوا: سحر وأساطير الأولين، وأنه مفترى، إلى غير ذلك. ونظير عضة في النقصان شفة، والأصل شفهة. كما قالوا: سنة، والأصل سنهة، فنقصوا الهاء الأصلية وأثبتت هاء العلامة وهي للتأنيث. وقيل: هو من العضه وهي النميمة. والعضيهة البهتان، وهو أن يعضه الإنسان ويقول، فيه ما ليس فيه. يقال عضهه عضها رماه بالبهتان. وقد أعضهت أي جئت بالبهتان. قال الكسائي: العضة الكذب والبهتان، وجمعها عضون؛ مثل عزة وعزون؛ قال تعالى{الذين جعلوا القرآن عضين}. ويقال: عضوه أي آمنوا بما أحبوا منه وكفروا بالباقي، فأحب كفرهم إيمانهم. وكان الفراء يذهب إلى أنه مأخوذ من العضاة، وهي شجر الوادي ويخرج كالشوك.
الآية رقم ( 92 : 93 )
{فوربك لنسألنهم أجمعين، عما كانوا يعملون}
قوله تعالى{فوربك لنسألنهم أجمعين} أي لنسألن هؤلاء الذين جرى ذكرهم عما عملوا في الدنيا. وفي البخاري: وقال عدة من أهل العلم في قوله{فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} عن لا إله إلا الله.
قلت: وهذا قد روي مرفوعا، روى الترمذي الحكيم قال: حدثنا الجارود بن معاذ قال حدثنا الفضل بن موسى عن شريك عن ليث عن بشير بن نهيك عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله{فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعمون} قال: (عن قول لا إله إلا الله) قال أبو عبدالله: معناه عندنا عن صدق لا إله إلا الله ووفائها؛ وذلك أن الله تعالى ذكر في تنزيله العمل فقال{عما كانوا يعملون} ولم يقل عما كانوا يقولون، وإن كان قد يجوز أن يكون القول أيضا عمل اللسان، فإنما المعني به ما يعرفه أهل اللغة أن القول قول والعمل عمل. وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عن لا إله إلا الله) أي عن الوفاء بها والصدق لمقالها. كما قال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي ولا الدين بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. ولهذا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة) قيل: يا رسول الله، وما إخلاصها؟ قال: (أن تحجزه عن محارم الله). رواه زيد بن أرقم. وعنه أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عهد إلي ألا يأتيني أحد من أمتي بلا إله إلا الله لا يخلط بها شيئا إلا وجبت له الجنة) قالوا: يا رسول الله، وما الذي يخلط بلا إله إلا الله؟ قال: (حرصا على الدنيا وجمعا لها ومنعا لها، يقولون قول الأنبياء ويعملون أعمال الجبابرة). وروى أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا إله إلا الله تمنع العباد من سخط الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم فإذا آثروا صفقة دنياهم على دينهم ثم قالوا لا إله إلا الله ردت عليهم وقال الله كذبتم). أسانيدها في نوادر الأصول.
قلت: والآية بعمومها تدل على سؤال الجميع) ومحاسبتهم كافرهم ومؤمنهم، إلا من دخل الجنة بغير حساب على ما بيناه في كتاب (التذكرة). فإن قيل: وهل يسأل الكافر ويحاسب؟ قلنا: فيه خلاف وذكرناه في التذكرة. والذي يظهر سؤال، للآية وقوله{وقفوهم إنهم مسؤولون}الصافات: 24] وقوله{إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم}الغاشية: 25 - 26]. فإن قيل: فقد قال تعالى{ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون}القصص: 78] وقال{فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان}الرحمن: 39]، وقال{ولا يكلمهم الله}البقرة: 174]، وقال{إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}المطففين: 15]. قلنا: القيامة مواطن، فموطن يكون فيه سؤال وكلام، وموطن لا يكون ذلك فيه. قال عكرمة: القيامة مواطن، يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها. وقال ابن عباس: (لا يسألهم سؤال استخبار واستعلام هل عملتم كذا وكذا؛ لأن الله عالم بكل شيء، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ فيقول لهم: لم عصيتم القرآن وما حجتكم فيه؟ واعتمد قطرب هذا القول. وقيل{لنسألنهم أجمعين} يعني المؤمنين المكلفين؛ بيانه قوله تعالى{ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم}التكاثر: 8]. والقول بالعموم أولى كما ذكر. والله أعلم.
الآية رقم ( 94 : 95 )
{فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين}
قوله تعالى{فاصدع بما تؤمر} أي بالذي تؤمر به، أي بلغ رسالة الله جميع الخلق لتقوم الحجة عليهم، فقد أمرك الله بذلك. والصدع: الشق. وتصدع القوم أي تفرقوا؛ ومنه }يومئذ يصدعون}الروم: 43] أي يتفرقون. وصدعته فانصدع أي انشق. أصل الصدع الفرق والشق. قال أبو ذؤيب يصف الحمار وأتنه:
وكأنهن ربابة وكأنه يسر يفيض على القداح ويصدع
أي يفرق ويشق. فقوله{اصدع بما تؤمر} قال الفراء: أراد فاصدع بالأمر، أي أظهر دينك، فـ }ما} مع الفعل على هذا بمنزلة المصدر. وقال ابن الأعرابي: معنى اصدع بما تؤمر، أي اقصد. وقيل{فاصدع بما تؤمر} أي فرق جمعهم وكلمتهم بأن تدعوهم إلى التوحيد فإنهم يتفرقون بأن يجيب البعض؛ فيرجع الصدع على هذا إلى صدع جماعة الكفار.
قوله تعالى{وأعرض عن المشركين} أي عن الاهتمام باستهزائهم وعن المبالاة بقولهم، فقد برأك الله عما يقولون. وقال ابن عباس: (هو منسوخ بقوله }فاقتلوا المشركين}التوبة: 5]). وقال عبدالله بن عبيد: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزل قوله تعالى{فاصدع بما تؤمر} فخرج هو وأصحابه. وقال مجاهد: أراد الجهر بالقرآن في الصلاة. }وأعرض عن المشركين} لا تبال بهم. قال ابن إسحاق: لما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء أنزل الله تعالى }فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزئين. الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون}. والمعنى: اصدع بما تؤمر ولا تخف غير الله؛ فإن الله كافيك من أذاك كما كفاك المستهزئين، وكانوا خمسة من رؤساء أهل مكة، وهم الوليد بن المغيرة وهو رأسهم، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب بن أسد أبو زمعة. والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة، أهلكهم الله جميعا، قيل يوم بدر في يوم واحد؛ لاستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبب هلاكهم فيما ذكر ابن إسحاق: أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي ووجعت عينه، فجعل يضرب برأسه الجدار. ومر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه حَبَنا. (يقال: حبِن (بالكسر) حَبَنا وحُبِن للمفعول عظم بطنه بالماء الأصفر، فهو أحبن، والمرأة حبناء؛ قاله في الصحاح). ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله، وكان أصابه قبل ذلك بسنين، وهو يجر سبله، وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلا له فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش في رجله ذلك الخدش وليس بشيء، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله، فمرج على حمار له يريد الطائف، فربض به على شبرمة فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته. ومر به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه فامتخط قيحا فقتله. وقد ذكر في سبب موتهم اختلاف قريب من هذا. وقيل: إنهم المراد بقوله تعالى{فخر عليهم السقف من فوقهم}النحل: 26] شبه ما أصابهم في موتهم بالسقف الواقع عليهم؛ على ما يأتي.
الآية رقم ( 96 )
{الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون}
هذه صفة المستهزئين. وقيل: هو ابتداء وخبره }فسوف يعلمون}.
الآية رقم ( 97 )
{ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون}
قوله تعالى{ولقد نعلم أنك يضيق صدرك} أي قلبك؛ لأن الصدر محل القلب. }بما يقولون} أي بما تسمعه من تكذيبك ورد قولك، وتنال. ويناله أصحابك من أعدائك.
الآية رقم ( 98 )
{فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين}
قوله تعالى{فسبح بحمد ربك} أي فافزع إلى الصلاة، فهي غاية التسبيح ونهاية التقديس.
قوله تعالى{وكن من الساجدين} لا خفاء أن غاية القرب في الصلاة حال السجود، كما قال عليه السلام: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأخلصوا الدعاء). ولذلك خص السجود بالذكر
قال ابن العربي: ظن بعض الناس أن المراد بالأمر هنا السجود نفسه، فرأى هذا الموضع محل سجود في القرآن، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس طهره الله، يسجد في هذا الموضع وسجدت معه فيها، ولم يره جماهير العلماء.
قلت: قد ذكر أبو بكر النقاش أن ههنا سجدة عند أبي حذيفة ويمان بن رئاب، ورأى أنها واجبة
الآية رقم ( 99 )
{واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}
فيه مسألة واحدة: وهو أن اليقين الموت. أمره بعبادته إذ قصر عباده في خدمته، وأن ذلك يجب عليه. فإن قيل: فما فائدة قوله{حتى يأتيك اليقين} وكان قوله{واعبد ربك} كافيا في الأمر بالعبادة. قيل له: الفائدة في هذا أنه لو قال{واعبد ربك} مطلقا ثم عبده مرة واحدة كان مطيعا؛ وإذا قال }حتى يأتيك اليقين} كان معناه لا تفارق هذا حتى تموت. فإن قيل: كيف قال سبحانه{واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} ولم يقل أبدا؛ فالجواب أن اليقين أبلغ من قوله: أبدا؛ لاحتمال لفظ الأبد للحظة الواحدة ولجميع الأبد. وقد تقدم هذا المعنى. والمراد استمرار العبادة مدة حياته، كما قال العبد الصالح: وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا. ويتركب على هذا أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق أبدا، وقال: نويت يوما أو شهرا كانت عليه الرجعة. ولو قال: طلقتها حياتها لم يراجعها. والدليل على أن اليقين الموت حديث أم العلاء الأنصارية، وكانت من المبايعات، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما عثمان - أعني عثمان بن مظعون - فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به) وذكر الحديث. انفرد بإخراجه البخاري رحمه الله وكان عمر بن عبدالعزيز يقول: ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت ثم لا يستعدون له؛ يعني كأنهم فيه شاكون. وقد قيل: إن اليقين هنا الحق الذي لا ريب فيه من نصرك على أعدائك؛ قال ابن شجرة؛ والأول أصح، وهو قول مجاهد وقتادة والحسن. والله اعلم. وقد روى جبير بن نفير عن أبي مسلم الخولاني أنه سمعه يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين لكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين).
سورة النحل وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده. وقيل: هي مكية غير قوله تعالى{وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}النحل: 126] الآية؛ نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد. وغير قوله تعالى{واصبر وما صبرك إلا بالله}النحل: 127]. وغير قوله{ثم إن ربك للذين هاجروا}النحل:110] الآية. وأما قوله{والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا}النحل: 41] فمكي، في شأن هجرة الحبشة. وقال ابن عباس: هي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة بعد قتل حمزة، وهي قوله{ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا} إلى قوله }بأحسن ما كانوا يعملون}النحل: 95].
الآية رقم ( 1 )
{أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون}
قوله تعالى{أتى أمر الله فلا تستعجلوه} قيل{أتى} بمعنى يأتي؛ فهو كقولك: إن أكرمتني أكرمتك. وقد تقدم أن أخبار الله تعالى في الماضي والمستقبل سواء؛ لأنه آت لا محالة، كقوله{ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار}الأعراف: 44]. و}أمر الله} عقابه لمن أقام على الشرك وتكذيب رسوله. قال الحسن وابن جريج والضحاك: إنه ما جاء به القرآن من فرائضه وأحكامه. وفيه بعد؛ لأنه لم ينقل أن أحدا من الصحابة استعجل فرائض الله من قبل أن تفرض عليهم، وأما مستعجلو العذاب والعقاب فذلك منقول عن كثير من كفار قريش وغيرهم، حتى قال النضر بن الحارث{اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} الآية، فاستعجل العذاب.
قلت: قد يستدل الضحاك بقول عمر رضي الله عنه: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر؛ خرجه مسلم والبخاري. وقال الزجاج: هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم، وهو كقوله{حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور}هود: 40]. وقيل: هو يوم القيامة أو ما يدل على قربها من أشراطها. قال ابن عباس: لما نزلت }اقتربت الساعة وانشق القمر}القمر: 1] قال الكفار: إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون، فأمسكوا وانتظروا فلم يروا شيئا، فقالوا: ما نرى شيئا فنزلت }اقترب للناس حسابهم}الأنبياء: 1] الآية. فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة، فامتدت الأيام فقالوا: ما نرى شيئا فنزلت }أتى أمر الله} فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وخافوا؛ فنزلت }فلا تستعجلوه} فاطمأنوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت أنا والساعة كهاتين) وأشار بأصبعيه: السبابة والتي تليها. يقول: (إن كادت لتسبقني فسبقتها). وقال ابن عباس: كان بعث النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وأن جبريل لما أمر بأهل السماوات مبعوثا إلى محمد صلى الله عليه وسلم قالوا الله أكبر، قد قامت الساعة.
قوله تعالى{سبحانه وتعالى عما يشركون} أي تنزيها له عما يصفونه به من أنه لا يقدر على قيام الساعة، وذلك أنهم يقولون: لا يقدر أحد على بعث الأموات، فوصفوه بالعجز الذي لا يوصف به إلا المخلوق، وذلك شرك. وقيل{عما يشركون} أي عن إشراكهم. وقيل{ما} بمعنى الذي أي ارتفع عن الذين أشركوا به.
الآية رقم ( 2 )
{ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون}
قرأ المفضل عن عاصم }تَنَزَّل الملائكةُ} والأصل تتنزل، فالفعل مسند إلى الملائكة. وقرأ الكسائي عن أبي بكر عن عاصم باختلاف عنه والأعمش }تُنَزَّل الملائكةُ} غير مسمى الفاعل. وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم }تُنَزِّل الملائكةَ} بالنون مسمى الفاعل، الباقون }يُنَزِّل} بالياء مسمى الفاعل، والضمير فيه لاسم الله عز وجل. وروي عن قتادة }تنزل الملائكة} بالنون والتخفيف. وقرأ الأعمش }تنزل} بفتح التاء وكسر الزاي، من النزول. }الملائكة} رفعا مثل }تنزل الملائكة}القدر: 4] }بالروح} أي بالوحي وهو النبوة؛ قاله ابن عباس. نظيره }يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده}غافر: 15]. الربيع بن أنس: بكلام الله وهو القرآن. وقيل: هو بيان الحق الذي يجب اتباعه. وقيل أرواح الخلق؛ قاله قتادة، لا ينزل ملك إلا ومعه روح. وكذا روي عن ابن عباس أن الروح خلق من خلق الله عز وجل كصور ابن آدم، لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم. وقيل بالرحمة؛ قاله الحسن وقتادة. وقيل بالهداية؛ لأنها تحيا بها القلوب كما تحيا بالأرواح الأبدان، وهو معنى قول الزجاج. قال الزجاج: الروح ما كان فيه من أمر الله حياة بالإرشاد إلى أمره. وقال أبو عبيدة: الروح هنا جبريل. والباء في قوله{بالروح} بمعنى مع، كقولك: خرج بثيابه، أي مع ثيابه. }من أمره} أي بأمره. }على من يشاء من عباده} أي على الذين اختارهم الله للنبوة. وهذا رد لقولهم{لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}الزخرف: 31]. }أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} تحذير من عبادة الأوثان، ولذلك جاء الإنذار؛ لأن أصله التحذير مما يخاف منه. ودل على ذلك قوله{فاتقون}. و}أن} في موضع نصب بنزع الخافض، أي بأن أنذروا أهل الكفر بأنه لا إله إلا الله، }فأن} في محل نصب بسقوط الخافض أو بوقوع الإنذار عليه.
الآية رقم ( 3 )
{خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون}
قوله تعالى{خلق السماوات والأرض بالحق} أي للزوال والفناء. وقيل{بالحق} أي للدلالة على قدرته، وأن له أن يتعبد العباد بالطاعة وأن يحيى بعد الموت. }تعالى عما يشركون} أي من هذه الأصنام التي لا تقدر على خلق شيء.
الآية رقم ( 4 )
{خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين}
قوله تعالى{خلق الإنسان من نطفة} لما ذكر الدليل على توحيده ذكر بعده الإنسان ومناكدته وتعدي طوره. و}الإنسان} اسم للجنس. وروي أن المراد به أبي بن خلف الجمحي، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم فقال: أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رم. وفي هذا أيضا نزل }أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين}يس: 77] أي خلق الإنسان من ماء يخرج من بين الصلب والترائب، فنقله أطوارا إلى أن ولد ونشأ بحيث يخاصم في الأمور. فمعنى الكلام التعجب من الإنسان }وضرب لنا مثلا ونسي خلقه}يس: 78] وقوله{فإذا هو خصيم} أي مخاصم، كالنسيب بمعنى المناسب. أي يخاصم الله عز وجل في قدرته. و}مبين} أي ظاهر الخصومة. وقيل: يبين عن نفسه الخصومة بالباطل. والمبين: هو المفصح عما في ضميره بمنطقه.
الآية رقم ( 5 )
{والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون}
قوله تعالى{والأنعام خلقها لكم} لما ذكر الإنسان ذكر ما من به عليه. والأنعام: الإبل والبقر والغنم. وأكثر ما يقال: نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع ولا يقال للغنم مفردة. قال حسان:
عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء منزلها خلاء
ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والسماء
وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء
فالنعم هنا الإبل خاصة. وقال الجوهري: والنعم واحد الأنعام وهي المال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. قال الفراء: هو ذكر لا يؤنث، يقولون: هذا نعم وارد، ويجمع على نعمان مثل حمل وحملان. والأنعام تذكر وتؤنث؛ قال الله تعالى{مما في بطونه}النحل:66]. وفي موضع }مما في بطونها}المؤمنون: 21]. وانتصب الأنعام عطفا على الإنسان، أو بفعل مقتدر، وهو أوجه.
قوله تعالى{دفء} الدفء: السخانة، وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها، ملابس ولحف وقطف. وروي عن ابن عباس: دفؤها نسلها؛ والله أعلم قال الجوهري في الصحاح: الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها؛ قال الله تعالى{لكم فيها دفء}. وفي الحديث (لنا من دفئهم ما سلموا بالميثاق). والدفء أيضا السخونة، تقول منه: دفئ الرجل دفاءة مثل كره كراهة. وكذلك دفئ دفأ مثل ظمئ ظمأ. والاسم الدفء بالكسر وهو الشيء الذي يدفئك، والجمع الأدفاء. تقول: ما عليه دفء؛ لأنه اسم. ولا تقول: ما عليك دفاءة؛ لأنه مصدر. وتقول: اقعد في دفء هذا الحائط أي ركنه. ورجل دفئ على فعل إذا لبس ما يدفئه. وكذلك رجل دفآن وامرأة دفأى. وقد أدفأه الثوب وتدفأ هو بالثوب واستدفأ به، وأدفأ به وهو افتعل؛ أي ما لبس ما يدفئه. ودفؤت ليلتنا، ويوم دفيء على فعيل وليلة دفيئة، وكذلك الثوب والبيت. والمدفئة الإبل الكثيرة؛ لأن بعضها يدفئ بعضا بأنفاسها، وقد يشدد. والمدفأة الإبل الكثيرة الأوبار والشحوم؛ عن الأصمعي. وأنشد الشماخ:
وكيف يضيع صاحب مدفآت على أثباجهن من الصقيع
قوله تعالى{ومنافع} قال ابن عباس: المنافع نسل كل دابة. مجاهد: الركوب والحمل والألبان واللحوم والسمن. }ومنها تأكلون} أفرد منفعة الأكل بالذكر لأنها معظم المنافع. وقيل: المعنى ومن لحومها تأكلون عند الذبح.
دلت هذه الآية على لباس الصوف، وقد لبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله كموسى وغيره. وفي حديث المغيرة: فغسل وجهه وعليه جبة من صوف شامية ضيقة الكمين... الحديث، خرجه مسلم وغيره. قال ابن العربي: وهو شعار المتقين ولباس الصالحين وشارة الصحابة والتابعين، واختيار الزهاد والعارفين، وهو يلبس لينا وخشنا وجيدا ومقاربا ورديئا، وإليه نسب جماعة من الناس الصوفية؛ لأنه لباسهم في الغالب، فالياء للنسب والهاء للتأنيث. وقد انشدني بعض أشياخهم بالبيت المقدس طهره الله:
تشاجر الناس في الصوفي واختلفوا فيه وظنوه مشتقا من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غير فتى صافى فصوفي حتى سمي الصوفي
الاية رقم ( 6 )
{ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون}
الجمال ما يتجمل به ويتزين. والجمال: الحسن. وقد جمُل الرجل - بالضم - جمالا فهو جميل، والمرأة جميلة، وجملاء أيضا؛ عن الكسائي. وأنشد:
فهي جملاء كبدر طالع بذَّت الخلق جميعا بالجمال
وقول أبي ذؤيب:
جمالك أيها القلب القريح
يريد: الزم تجملك وحياءك ولا تجزع جزعا قبيحا. قال علماؤنا: فالجمال يكون في الصورة وتركيب الخلقة، ويكون في الأخلاق الباطنة، ويكون في الأفعال. فأما جمال الخلقة فهو أمر يدركه البصر ويلقيه إلى القلب متلائما، فتتعلق به النفس من غير معرفة بوجه ذلك ولا نسبته لأحد من البشر. وأما جمال الأخلاق فكونها على الصفات المحمودة من العلم والحكمة والعدل والعفة، وكظم الغيظ وإرادة الخير لكل أحد. وأما جمال الأفعال فهو وجودها ملائمة لمصالح الخلق وقاضية لجلب المنافع فيهم وصرف الشر عنهم. وجمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة، وهو مرئي بالأبصار موافق للبصائر. ومن جمالها كثرتها وقول الناس إذا رأوها هذه نعم فلان؛ قاله السدي. ولأنها إذا راحت توفر حسنها وعظم شأنها وتعلقت القلوب بها؛ لأنها إذ ذاك أعظم ما تكون أسمنة وضروعا؛ قاله قتادة. ولهذا المعنى قدم الرواح على السراح لتكامل درها وسرور النفس بها إذ ذاك. والله أعلم. وروى أشهب عن مالك قال: يقول الله عز وجل }ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} وذلك في المواشي حين تروح إلى المرعى وتسرح عليه. والرواح رجوعها بالعشي من المرعى، والسراح بالغداة؛ تقول: سرحت الإبل أسرحها سرحا وسروحا إذا غدوت بها إلى المرعى فخليتها، وسرحت هي. المتعدي واللازم واحد.
الآية رقم ( 7 )
{وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم}
قوله تعالى{وتحمل أثقالكم} الأثقال أثقال الناس من متاع وطعام وغيره، وهو ما يثقل الإنسان حمله. وقيل: المراد أبدانهم؛ يدل على ذلك قوله تعالى{وأخرجت الأرض أثقالها}الزلزلة: 2]. والبلد مكة، في قول عكرمة. وقيل: هو محمول على العموم في كل بلد مسلكه على الظهر. وشق الأنفس: مشقتها وغاية جهدها. وقراءة العامة بكسر الشين. قال الجوهري: والشق المشقة؛ ومنه قوله تعالى{لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس} وهذا قد يفتح، حكاه أبو عبيدة. قال المهدوي: وكسر الشين وفتحها في }شق} متقاربان، وهما بمعنى المشقة، وهو من الشق في العصا ونحوها؛ لأنه ينال منها كالمشقة من الإنسان. وقال الثعلبي: وقرأ أبو جعفر }إلا بشق الأنفس} وهما لغتان، مثل رق ورق وجص وجص ورطل ورطل. وينشد قول الشاعر بكسر الشين وفتحها:
وذي إبل يسعى ويحسبها له أخي نصب من شقها ودؤوب
ويجوز أن يكون بمعمى المصدر، من شققت عليه شقا. والشق أيضا بالكسر النصف، يقال: أخذت شق الشاة وشقة الشاة. وقد يكون المراد من الآية هذا المعنى؛ أي لم تكونوا بالغيه إلا بنقص من القوة وذهاب شق منها، أي لم تكونوا تبلغوه إلا بنصف قوى أنفسكم وذهاب النصف الآخر. والشق أيضا الناحية من الجبل. وفي حديث أم زرع: وجدني في أهل غنيمة بشق. قال أبو عبيد: هو اسم موضع. والشق أيضا: الشقيق، يقال: هو أخي وشق نفسي. وشق اسم كاهن من كهان العرب. والشق أيضا: الجانب؛ ومنه قول امرئ القيس:
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق وتحتي شقها لم يحول
فهو مشترك.
منَّ الله سبحانه بالأنعام عموما، وخص الإبل هنا بالذكر في حمل الأثقال على سائر الأنعام؛ فإن الغنم للسرح والذبح، والبقر للحرث، والإبل للحمل. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها التفتت إليه البقرة فقالت إني لم أخلق لهذا ولكني إنما خلقت للحرث فقال الناس سبحان الله تعجبا وفزعا أبقرة تتكلم)؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإني أومن به وأبو بكر وعمر). فدل هذا الحديث على أن البقر لا يحمل عليها ولا تركب، وإنما هي للحرث وللأكل والنسل والرسل.
في هذه الآية دليل على جواز السفر بالدواب وحمل الأثقال عليها. ولكن على قدر ما تحتمله من غير إسراف في الحمل مع الرفق في السير. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق بها والإراحة لها ومراعاة التفقد لعلفها وسقيها. وروى مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض وإذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها) رواه مالك في الموطأ عن أبي عبيد عن خالد بن معدان. وروى معاوية بن قرة قال: كان لأبي الدرداء جمل يقال له دمون، فكان يقول: يا دمون، لا تخاصمني عند ربك. فالدواب عجم لا تقدر أن تحتال لنفسها ما تحتاج إليه، ولا تقدر أن تفصح بحوائجها، فمن ارتفق بمرافقها ثم ضيعها من حوائجها فقد ضيع الشكر وتعرض للخصومة بين يدي الله تعالى. وروى مطر بن محمد قال: حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن خالد قال حدثنا المسيب بن آدم قال. رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب جمالا وقال: تحمل على بعيرك ما لا يطيق.
الآية رقم ( 8 )
{والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون}
قوله تعالى{والخيل} بالنصب معطوف، أي وخلق الخيل. وقرأ ابن أبي عبلة }والخيل والبغال والحمير} بالرفع فيها كلها. وسميت الخيل خيلا لاختيالها في المشية. وواحد الخيل خائل، كضائن واحد ضين. وقيل لا واحد له. ولما أفرد سبحانه الخيل والبغال والحمير بالذكر دل على أنها لم تدخل تحت لفظ الأنعام وقيل دخلت ولكن أفردها بالذكر لما يتعلق بها من الركوب؛ فإنه يكثر في الخيل والبغال والحمير.
قال العلماء: ملكنا الله تعالى الأنعام والدواب وذللها لنا، وأباح لنا تسخيرها والانتفاع بها رحمة منه تعالى لنا، وما ملكه الإنسان وجاز له تسخيره من الحيوان فكراؤه له جائز بإجماع أهل العلم، لا اختلاف بينهم في ذلك. وحكم كراء الرواحل والدواب مذكور في كتب الفقه.
لا خلاف بين العلماء في اكتراء الدواب والرواحل عليها والسفر بها؛ لقوله تعالى{وتحمل أثقالكم}النحل: 7] الآية. وأجازوا أن يكري الرجل الدابة والراحلة إلى مدينة بعينها وإن لم يسم أين ينزل منها، وكم من منهل ينزل فيه، وكيف صفة سيره، وكم ينزل في طريقة، واجتزوا بالمتعارف بين الناس في ذلك. قال علماؤنا: والكراء يجري مجرى البيوع فيما يحل منه ويحرم. قال ابن القاسم فيمن اكترى دابة إلى موضع كذا بثوب مروي ولم يصف رقعته وذرعه: لم يجز؛ لأن مالكا لم يجيز هذا في البيع، ولا يجيز في ثمن الكراء إلا ما يجوز في ثمن البيع.
قلت: ولا يختلف في هذا إن شاء الله؛ لأن ذلك إجارة. قال ابن المنذر: وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن من اكترى دابة ليحمل عليها عشرة أقفزة قمح فحمل عليها ما اشترط فتلفت أن لا شيء عليه. وهكذا إن حمل عليها عشرة أقفزة شعير. واختلفوا فيمن اكترى دابة ليحمل عليها عشرة أقفزة فحمل عليها أحد عشر قفيزا، فكان الشافعي وأبو ثور يقولان: هو ضامن لقيمة الدابة وعليه الكراء. وقال ابن أبي ليلى: عليه قيمتها ولا أجر عليه. وفيه قول ثالث - وهو أن عليه الكراء وعليه جزء من أجر وجزء من قيمة الدابة بقدر ما زاد من الحمل؛ وهذا قول النعمان ويعقوب ومحمد. وقال ابن القاسم صاحب مالك: لا ضمان عليه في قول مالك إذا كان القفيز الزائد لا يفدح الدابة، ويعلم أن مثله لا تعطب فيه الدابة، ولرب الدابة أجر القفيز الزائد مع الكراء الأول؛ لأن عطبها ليس من أجل الزيادة. وذلك بخلاف مجاوزة المسافة؛ لأن مجاوزة المسافة تَعَد كله فيضمن إذا هلكت في قليله وكثيره. والزيادة على الحمل المشترط اجتمع فيه إذنٌ وتعد، فإذا كانت الزيادة لا تعطب في مثلها علم أن هلاكها مما أذن له فيه.
واختلف أهل العلم في الرجل يكتري الدابة بأجر معلوم إلى موضع مسمى، فيتعدى فيجتاز ذلك المكان ثم يرجع إلى المكان المأذون له في المصير إليه. فقالت طائفة: إذا جاوز ذلك المكان ضمن وليس عليه في التعدي كراء؛ هكذا قال الثوري. وقال أبو حنيفة: الأجر له فيما سمى، ولا أجر له فيما لم يسم؛ لأنه خالف فهو ضامن، وبه قال يعقوب. وقال الشافعي: عليه الكراء الذي سمى، وكراء المثل فيما جاوز ذلك، ولو عطبت لزمه قيمتها. ونحوه قال الفقهاء السبعة، مشيخة أهل المدينة قالوا: إذا بلغ المسافة ثم زاد فعليه كراء الزيادة إن سلمت وإن هلكت ضمن. وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور: عليه الكراء والضمان. قال ابن المنذر: وبه نقول. وقال ابن القاسم: إذا بلغ المكتري الغاية التي اكترى إليها ثم زاد ميلا ونحوه أو أميالا أو زيادة كثيرة فعطبت الدابة، فلربها كراؤه الأول والخيار في أخذه كراء الزائد بالغا ما بلغ، أو قيمة الدابة يوم التعدي. ابن المواز: وقد روى أنه ضامن ولو زاد خطوة. وقال ابن القاسم عن مالك في زيادة الميل ونحوه: وأما ما يعدل الناس إليه في المرحلة فلا يضمن. وقال ابن حبيب عن ابن الماجشون وأصبغ: إذا كانت الزيادة يسيرة أو جاز الأمد الذي تكاراها إليه بيسير، ثم رجع بها سالمة إلى موضع تكاراها إليه فماتت، أو ماتت في الطريق إلى الموضع الذي تكاراها إليه، فليس له إلا كراء الزيادة، كرده لما تسلف من الوديعة. ولو زاد كثيرا مما فيه مقام الأيام الكثيرة التي يتغير في مثلها سوقها فهو ضامن، كما لو ماتت في مجاوزة الأمد أو المسافة؛ لأنه إذا كانت زيادة يسيرة مما يعلم أن ذلك مما لم يعن على قتلها فهلاكها بعد ردها إلى الموضع المأذون له فيه كهلاك ما تسلف من الوديعة بعد رده لا محالة. وإن كانت الزيادة كثيرة فتلك الزيادة قد أعانت على قتلها.
قال ابن القاسم وابن وهب قال مالك قال الله تعالى{والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} فجعلها للركوب والزينة ولم يجعلها للأكل؛ ونحوه عن أشهب. ولهذا قال أصحابنا: لا يجوز أكل لحوم الخيل والبغال والحمير؛ لأن الله تعالى لما نص على الركوب والزينة دل على ما عداه بخلافه. وقال في }الأنعام} }ومنها تأكلون} مع ما امتن الله منها من الدفء والمنافع، فأباح لنا أكلها بالذكاة المشروعة فيها. وبهذه الآية احتج ابن عباس والحكم بن عيينة، قال الحكم: لحوم الخيل حرام في كتاب الله، وقرأ هذه الآية والتي قبلها وقال: هذه للأكل وهذه للركوب. وسئل ابن عباس عن لحوم الخيل فكرهها، وتلا هذه الآية وقال: هذه للركوب، وقرأ الآية التي قبلها }والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع} ثم قال: هذه للأكل. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والأوزاعي ومجاهد وأبو عبيد وغيرهم، واحتجوا بما أخرجه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، وكل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير. لفظ الدارقطني. وعند النسائي أيضا عن خالد بن الوليد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل أكل لحوم الخيل والبغال والحمير). وقال الجمهور من الفقهاء والمحدثين: هي مباحة. وروي عن أبي حنيفة. وشذت طائفة فقالت بالتحريم؛ منهم الحكم كما ذكرنا، وروي عن أبي حنيفة. حكى الثلاث روايات عنه الروياني في بحر المذهب على مذهب الشافعي.
قلت: الصحيح الذي يدل عليه النظر والخبر جواز أكل لحوم الخيل، وأن الآية والحديث لا حجة فيهما لازمة. أما الآية فلا دليل فيها على تحريم الخيل. إذ لو دلت عليه لدلت على تحريم لحوم الحمر، والسورة مكية، وأي حاجة كانت إلى تجديد تحريم لحوم الحمر عام خيبر وقد ثبت في الأخبار تحليل الخيل على ما يأتي. وأيضا لما ذكر تعالى الأنعام ذكر الأغلب من منافعها وأهم ما فيها، وهو حمل الأثقال والأكل، ولم يذكر الركوب ولا الحرث بها ولا غير ذلك مصرحا به، وقد تركب ويحرث بها؛ قال الله تعالى{الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون}غافر:79]. وقال في الخيل{لتركبوها وزينة} فذكر أيضا أغلب منافعها والمقصود منها، ولم يذكر حمل الأثقال عليها، وقد تحمل كما هو مشاهد فلذلك لم يذكر الأكل. وقد بينه عليه السلام الذي جعل إليه بيان ما أنزل عليه ما يأتي، ولا يلزم من كونها خلقت للركوب والزينة ألا تؤكل، فهذه البقرة قد أنطقها خالقها الذي أنطق كل شيء فقالت: إنما خلقت للحرث. فيلزم من علل أن الخيل لا تؤكل لأنها خلقت للركوب وألا تؤكل البقر لأنها خلقت للحرث. وقد أجمع المسلمون على جواز أكلها، فكذلك الخيل بالسنة الثابتة فيها. روى مسلم من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل. وقال النسائي عن جابر: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر. وفي رواية عن جابر قال: كنا نأكل لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: الرواية عن جابر بأنهم أكلوها في خيبر حكاية حال وقضية في عين، فيحتمل أن يكونوا ذبحوا لضرورة، ولا يحتج بقضايا الأحوال. قلنا: الرواية عن جابر وإخباره بأنهم كانوا يأكلون لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيل ذلك الاحتمال، ولئن سلمناه فمعنا حديث أسماء قالت: نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة فأكلناه؛ رواه مسلم. وكل تأويل من غير ترجيح في مقابلة النص فإنما هو دعوى، لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه. وقد روى الدارقطني زيادة حسنة ترفع كل تأويل في حديث أسماء، قالت أسماء: كان لنا فرس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرادت أن تموت فذبحناها فأكلناها. فذبحها إنما كان لخوف الموت عليها لا لغير ذلك من الأحوال. وبالله التوفيق. فإن قيل: حيوان من ذوات الحوافر فلا يؤكل كالحمار؟ قلنا: هذا قياس الشبه وقد اختلف أرباب الأصول في القول به، ولئن سلمناه فهو منتقض بالخنزير؛ فإنه ذو ظلف وقد باين ذوات الأظلاف، وعلى أن القياس إذا كان في مقابلة النص فهو فاسد الوضع لا التفات إليه. قال الطبري: وفي إجماعهم على جواز ركوب ما ذكر للأكل دليل على جواز أكل ما ذكر للركوب.
وأما البغال فإنها تلحق بالحمير، إن قلنا إن الخيل لا تؤكل؛ فإنها تكون متولدة من عينين لا يؤكلان. وإن قلنا إن الخيل تؤكل، فإنها عين متولدة من مأكول وغير مأكول فغلب التحريم على ما يلزم في الأصول. وكذلك ذبح المولود بين كافرين أحدهما من أهل الذكاة والآخر ليس من أهلها، لا تكون ذكاة ولا تحل به الذبيحة. وقد علل تحريم أكل الحمار بأنه أبدى جوهره الخبيث حيث نزا على ذكر وتلوط؛ فسمي رجسا.
في الآية دليل على أن الخيل لا زكاة فيها؛ لأن الله سبحانه من علينا بما أباحنا منها وكرمنا به من منافعها، فغير جائز أن يلزم فيها كلفة إلا بدليل. وقد روى مالك عن عبدالله بن دينار عن سليمان بن يسار عن عراك بن مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة). وروى أبو داود عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق). وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي والليث وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: إن كانت إناثا كلها أو ذكورا وإناثا، ففي كل فرس دينار إذا كانت سائمة، وإن شاء قومها فأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم. واحتج بأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (في الخيل السائمة في كل فرس دينار) وبقوله صلى الله عليه وسلم: (الخيل ثلاثة...) الحديث. وفيه: (ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها). والجواب عن الأول أنه حديث لم يروه إلا غورك السعدي عن جعفر عن محمد عن أبيه عن جابر. قال الدارقطني: تفرد به غورك عن جعفر وهو ضعيف جدا، ومن دونه ضعفاء. وأما الحديث فالحق المذكور فيه هو الخروج عليها إذا وقع النفير وتعين بها لقتال العدو إذا تعين ذلك عليه، ويحمل المنقطعين عليها إذا احتاجوا لذلك، وهذا واجب عليه إذا تعين ذلك، كما يتعين عليه أن يطعمهم عند الضرورة، فهذه حقوق الله في رقابها. فإن قيل: هذا هو الحق الذي في ظهورها وبقي الحق الذي في رقابها؛ قيل: قد روي (لا ينسى حق الله فيها) ولا فرق بين قوله: (حق الله فيها) أو (في رقابها وظهورها) فإن المعنى يرجع إلى شيء واحد؛ لأن الحق يتعلق بجملتها. وقد قال جماعة من العلماء : إن الحق هنا حسن ملكها وتعهد شبعها والإحسان إليها وركوبها غير مشقوق عليها؛ كما جاء في الحديث (لا تتخذوا ظهورها كراسي). وإنما خص رقابها بالذكر لأن الرقاب والأعناق تَسْتعّار كثيرا في مواضع الحقوق اللازمة والفروض الواجبة؛ ومنه قوله تعالى{فتحرير رقبة مؤمنة}النساء: 92] وكثر عندهم استعمال ذلك واستعارته حتى جعلوه في الرباع والأموال؛ ألا ترى قول كثير:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المال
وأيضا فإن الحيوان الذي تجب فيه الزكاة له نصاب من جنسه، ولما خرجت الخيل عن ذلك علمنا سقوط الزكاة فيها. وأيضا فإيجابه الزكاة في إناثها منفردة دون الذكور تناقض منه. وليس في الحديث فصل بينهما. ونقيس الإناث على الذكور في نفي الصدقة بأنه حيوان مقتنى لنسله لا لدره، ولا تجب الزكاة في ذكوره فلم تجب في إناثه كالبغال والحمير. وقد روي عنه أنه لا زكاة في إناثها وإن انفردت كذكورها منفردة، وهذا الذي عليه الجمهور. قال ابن عبدالبر: الخبر في صدقة الخيل عن عمر صحيح من حديث الزهري وغيره. وقد روي من حديث مالك، ورواه عنه جويرية عن الزهري أن السائب بن يزيد قال : لقد رأيت أبي يقوم الخيل ثم يدفع صدقتها إلى عمر. وهذا حجة لأبي حنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان، لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار أوجب الزكاة في الخيل غيرهما. تفرد به جويرية عن مالك وهو ثقة.
قوله تعالى{وزينة} منصوب بإضمار فعل، المعنى: وجعلها زينة. وقيل : هو مفعول من أجله. والزينة: ما يتزين به، وهذا الجمال والتزيين وإن كان من متاع الدنيا فقد أذن الله سبحانه لعباده فيه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخيل في نواصيها الخير). خرجه البرقاني وابن ماجة في السنن. وإنما جمع النبي صلى الله عليه وسلم العز في الإبل؛ لأن فيها اللباس والأكل واللبن والحمل والغزو وإن نقصها الكر والفر وجعل البركة في الغنم لما فيها من اللباس والطعام والشراب وكثرة الأولاد؛ فإنها تلد في العام ثلاث مرات إلى ما يتبعها من السكينة، وتحمل صاحبها عليه من خفض الجناح ولين الجانب؛ بخلاف الفدادين أهل الوبر. وقرن النبي صلى الله عليه وسلم الخير بنواصي الخيل بقية الدهر لما فيها من الغنيمة المستفادة للكسب والمعاش، وما يوصل إليه من قهر الأعداء وغلب الكفار وإعلاء كلمة الله تعالى.
قوله تعالى{ويخلق ما لا تعلمون} قال الجمهور: من الخلق. وقيل: من أنواع الحشرات والهوام في أسافل الأرض والبر والبحر مما لم يره البشر ولم يسمعوا به. وقيل : ويخلق ما لا تعلمون} مما أعد الله في الجنة لأهلها وفي النار لأهلها، مما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر. وقال قتادة والسدي: هو خلق السوس في الثياب والدود في الفواكه. ابن عباس: عين تحت العرش؛ حكاه الماوردي. الثعلبي: وقال ابن عباس عن يمين العرش نهر من النور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبع سبعين مرة، يدخله جبريل كل سحر فيغتسل فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله وعِظما إلى عظمه، ثم ينتفض فيخرج الله من كل ريشة سبعين ألف قطرة، ويخرج من كل قطرة سبعة آلاف ملك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك إلى البيت المعمور، وفي الكعبة سبعون ألفا لا يعدون إليه إلى يوم القيامة. وقول خامس: وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها أرض بيضاء، مسيرة الشمس ثلاثين يوما مشحونة خلقا لا يعلمون أن الله تعالى يعصى في الأرض، قالوا: يا رسول الله، من ولد آدم؟ قال: (لا يعلمون أن الله خلق آدم). قالوا: يا رسول الله، فأين إبليس منهم؟ قال : (لا يعلمون أن الله خلق إبليس) - ثم تلا }ويخلق ما لا تعلمون} ذكره الماوردي.
قلت: ومن هذا المعنى ما ذكر البيهقي عن الشعبي قال: إن لله عبادا من وراء الأندلس كما بيننا وبين الأندلس، ما يرون أن الله عصاه مخلوق، رضراضهم الدر والياقوت وجبالهم الذهب والفضة، لا يحرثون ولا يزرعون ولا يعملون عملا، لهم شجر على أبوابهم لها ثمر هي طعامهم وشجر لها أوراق عراض هي لباسهم؛ ذكره في بدء الخلق من }كتاب الأسماء والصفات}. وخرج من حديث موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام).
الآية رقم ( 9 )
{وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين}
قوله تعالى{وعلى الله قصد السبيل} أي على الله بيان قصد السبيل، فحذف المضاف وهو البيان. والسبيل: السلام، أي على الله بيانه بالرسل والحجج والبراهين. وقصد السبيل: استعانة الطريق؛ يقال: طريق قاصد أي يؤدي إلى المطلوب. }ومنها جائر} أي ومن السبيل جائر؛ أي عادل عن الحق فلا يهتدى به؛ ومنه قول امرئ القيس:
ومن الطريقة جائر وهدى قصد السبيل ومنه ذو دخل
وقال طرفة:
عدولية أو من سفين ابن يامن يجور بها الملاح طورا ويهتدي
العدولية سفينة منسوبة إلى عَدَوْلَي قرية بالبحرين. والعدولي: الملاح؛ قاله في الصحاح. وفي التنزيل }وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل}الأنعام: 153]. وقيل: المعنى ومنهم جائر عن سبيل الحق، أي عادل عنه فلا يهتدى إليه. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الأهواء المختلفة؛ قاله ابن عباس. الثاني: ملل الكفر من اليهودية والمجوسية والنصرانية. وفي مصحف عبدالله }ومنكم جائر} وكذا قرأ علي }ومنكم} بالكاف. وقيل: المعنى وعنها جائر؛ أي عن السبيل. فـ }من} بمعنى عن. وقال ابن عباس: أي من أراد الله أن يهديه سهل له طريق الإيمان، ومن أراد أن يضله ثقل عليه الإيمان وفروعه. وقيل: معنى }قصد السبيل} مسيركم ورجوعكم. والسبيل واحدة بمعنى الجمع، ولذلك أنث الكناية فقال{ومنها} والسبيل مؤنثة في لغة أهل الحجاز.
قوله تعالى{ولو شاء لهداكم أجمعين} بين أن المشيئة لله تعالى، وهو يصحح ما ذهب إليه ابن عباس في تأويل الآية، ويرد على القدرية ومن وافقها كما تقدم.
الآية رقم ( 10 )
{هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون}
الشراب ما يشرب، والشجر معروف. أي ينبت من الأمطار أشجارا وعروشا ونباتا. و}تسيمون} ترعون إبلكم؛ يقال: سامت السائمة تسوم سوما أي رعت، فهي سائمة. والسوام والسائم بمعنى، وهو المال الراعي. وجمع السائم والسائمة سوائم. وأسمتها أنا أي أخرجتها إلى الرعي، فأنا مسيم وهي مسامة وسائمة. قال:
أولى لك ابن مسيمة الأجمال
وأصل السوم الإبعاد في المرعى. وقال الزجاج: أخذ من السومة وهي العلامة؛ أي أنها تؤثر في الأرض علامات برعيها، أو لأنها تعلم للإرسال في المرعى.
قلت: والخيل المسومة تكون المرعية. وتكون المعلمة. وقوله{مسومين}آل عمران: 125] قال الأخفش تكون معلمين وتكون مرسلين؛ من قولك: سوم فيها الخيل أي أرسلها، ومنه السائمة، وإنما جاء بالياء والنون لأن الخيل سومت وعليها ركبانها.
الآية رقم ( 11 )
{ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون}
قوله تعالى{ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات} قرأ أبو بكر عن عاصم }ننبت} بالنون على التعظيم. العامة بالياء على معنى ينبت الله لكم؛ يقال: ينبت الأرض وأنبتت بمعنى، ونبت البقل وأنبت بمعنى. وأنشد الفراء:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا بها حتى إذا أنبت البقل
أي نبت. وأنبته الله فهو منبوت، على غير قياس. وأنبت الغلام نبتت عانته. ونبت الشجر غرسه؛ يقال: نبت أجلك بين عينيك. ونبت الصبي تنبيتا ربيته. والمنبت موضع النبات؛ يقال: ما أحسن نابتة بني فلان؛ أي ما ينت عليه أموالهم وأولادهم. ونبتت لهم نابتة إذا نشأ لهم نشء صغار. وإن بني فلان لنابتة شر. والنوابت من الأحادث الأغمار. والنبيت حي من اليمن. والينبوت شجر؛ كله عن الجوهري. }والزيتون} جمع زيتونة. ويقال للشجرة نفسها: زيتونة، وللثمرة زيتونة. }إن في ذلك} أي الإنزال والإنبات. }لآية} أي دلالة }لقوم يتفكرون}.
الآية رقم ( 12 )
{وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}
قوله تعالى{وسخر لكم الليل والنهار} أي للسكون والأعمال؛ كما قال{ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله}القصص: 73]. }والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} أي مذللات لمعرفة الأوقات ونضج الثمار والزرع والاهتداء بالنجوم في الظلمات. وقرأ ابن عامر وأهل الشام }والشمس والقمر والنجوم مسخرات} بالرفع على الابتداء والخبر. الباقون بالنصب عطفا على ما قبله. وقرأ حفص عن عاصم برفع }والنجوم}، }مسخرات} خبره. وقرئ }والشمس والقمر والنجوم} بالنصب. }مسخرات} بالرفع، وهو خبر ابتداء محذوف أي في مسخرات، وهي في قراءة من نصبها حال مؤكدة؛ كقوله{وهو الحق مصدقا}البقرة: 91]. }إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} أي يعقلون عن الله ما نبههم عليه ووفقهم له.
الآية رقم ( 13 )
{وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون}
قوله تعالى{وما ذرأ} أي وسخر ما ذرأ في الأرض لكم. }ذرأ} أي خلق؛ ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا خلقهم، فهو ذارئ؛ ومنه الذرية وهي نسل الثقلين، إلا أن العرب تركت همزها، والجمع الذراري. يقال: أنمى الله ذرأك وذروك، أي ذريتك. وأصل الذرو والذرء التفريق عن جمع. وفي الحديث: ذرء النار؛ أي أنهم خلقوا لها.
ما ذرأه الله سبحانه منه مسخر مذلل كالدواب والأنعام والأشجار وغيرها، ومنه غير ذلك. والدليل عليه ما رواه مالك في الموطأ عن كعب الأحبار قال: لولا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حمارا. فقيل له: وما هن؟ فقال: أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم، من شر ما خلق وبرأ وذرأ. وفيه عن يحيى بن سعيد أنه قال: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار، الحديث. وفيه: وشر ما ذرأ في الأرض. وقد ذكرناه وما في معناه في غير هذا الموضع.
قوله تعالى{مختلفا ألوانه} }مختلفا} نصب على الحال. و}ألوانه} هيئاته ومناظره، يعني الدواب والشجر وغيرها. }إن في ذلك} أي في اختلاف ألوانها. }لآية} أي لعبرة. }لقوم يذكرون} أي يتعظون ويعلمون أن في تسخير هذه المكونات لعلامات على وحدانية الله تعالى، وأنه لا يقدر على ذلك أحد غيره.
الآية رقم ( 14 )
{وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}
قوله تعالى{وهو الذي سخر البحر} تسخير البحر هو تمكين البشر من التصرف فيه وتذليله بالركوب والإرفاء وغيره، وهذه نعمة من نعم الله علينا، فلو شاء سلطه علينا وأغرقنا. وقد مضى الكلام في البحر وفي صيده. وسماه هنا لحما واللحوم عند مالك ثلاثة أجناس: فلحم ذوات الأربع جنس، ولحم ذوات الريش جنس، ولحم ذوات الماء جنس. فلا يجوز بيع الجنس من جنسه متفاضلا، ويجوز بيع لحم البقر والوحش بلحم الطير والسمك متفاضلا، وكذلك لحم الطير بلحم البقر والوحش والسمك يجوز متفاضلا. وقال أبو حنيفة: اللحم كلها أصناف مختلفة كأصولها؛ فلحم البقر صنف، ولحم الغنم صنف، ولحم الإبل صنف، وكذلك الوحش مختلف، كذلك الطير، وكذلك السمك، وهو جحد قولي الشافعي. والقول الآخر أن الكل من النعم والصيد والطير والسمك جنس واحد لا يجوز التفاضل فيه. والقول الأول هو المشهور من مذهبه عند أصحابه. ودليلنا هو أن الله تعالى فرق بين أسماء الأنعام في حياتها فقال{ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين}الأنعام: 143] ثم قال{ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين} فلما أن أم بالجميع إلى اللحم قال{أحلت لكم بهيمة الأنعام}المائدة: 1] فجمعها بلحم واحد لتقارب منافعها كتقارب لحم الضأن والمعز. وقال في موضع آخر{ولحم طير مما يشتهون}الواقعة: 21] وهذا جمع طائر الذي هو الواحد، لقوله تعالى{ولا طائر يطير بجناحيه}الأنعام: 38] فجمع لحم الطير كله باسم واحد. وقال هنا{لحما طريا} فجمع أصناف السمك بذكر واحد، فكان صغاره ككباره في الجمع بينهما. وقد روي عن ابن عمر أنه سئل عن لحم المعز بلحم الكباش أشيء واحد؟ فقال لا؛ ولا مخالف له فصار كالإجماع، والله أعلم. ولا حجة للمخالف في نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام إلا مثلا بمثل؛ فإن الطعام في الإطلاق يتناول الحنطة وغيرها من المأكولات ولا يتناول اللحم؛ ألا ترى أن القائل إذا قال: أكلت اليوم طعاما لم يسبق الفهم منه إلى أكل اللحم، وأيضا فإنه معارض بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم) وهذان جنسان، وأيضا فقد اتفقنا على جواز بيع اللحم بلحم الطير متفاضلا لا لعلة أنه بيع طعام لا زكاة له بيع بلحم ليس فيه الزكاة، وكذلك بيع السمك بلحم الطير متفاضلا.
وأما الجراد فالمشهور عندنا جواز بيع بعضه ببعض متفاضلا. وذكر عن سحنون أنه يمنع من ذلك، وإليه مال بعض المتأخرين ورآه مما يدخر.
اختلف العلماء فيمن حلف ألا يأكل لحما؛ فقال ابن القاسم: يحنث بكل نوع من هذه الأنواع الأربعة. وقال أشهب في المجموعة. لا يحنث إلا بكل لحوم الأنعام دون الوحش وغيره، مراعاة للعرف والعادة، وتقديما لها على إطلاق اللفظ اللغوي، وهو أحسن.
قوله تعالى{وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} يعني به اللؤلؤ والمرجان؛ لقوله تعالى{يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان}الرحمن: 22]. وإخراج الحلية إنما هي فيما عرف من الملح فقط. وقال: إن في الزمرد بحريا. وقد خطئ الهذلي في قوله في وصف الدرّة:
فجاء بها من در ة لطمية على وجهها ماء الفرات يدوم
فجعلها من الماء الحلو. فالحلية حق وهي نحلة الله تعالى لآدم وولده. خلق آدم وتوج وكلل بإكليل الجنة، وختم بالخاتم الذي ورثه عنه سليمان بن داود صلوات الله عليهم، وكان يقال له خاتم العز فيما روي.
امتن الله سبحانه على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنما حرم الله تعالى على الرجال الذهب والحرير. روى الصحيح عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة). وسيأتي في سورة }الحج} الكلام فيه إن شاء الله. وروى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب، وجعل فصه مما يلي باطن كفه، ونقش فيه محمد رسول الله؛ فاتخذ الناس مثله؛ فلما رآهم قد اتخذوها رمى به وقال: (لا ألبسه أبدا) ثم اتخذ خاتما من فضة فاتخذ الناس خواتيم الفضة. قال ابن عمر: فلبس الخاتم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، حتى وقع من عثمان في بئر أريس. قال أبو داود: لم يختلف الناس على عثمان حتى سقط الخاتم من يده. وأجمع العلماء على جواز التختم بالورق على الجملة للرجال. قال الخطابي. وكره للنساء التختم بالفضة؛ لأنه من زي الرجال، فإن لم يجدن ذهبا فليصفرنه بزعفران أو بشبهه. وجمهور العلماء من السلف والخلف على تحريم اتخاذ الرجال خاتم الذهب، إلا ما روي عن أبي بكر بن عبدالرحمن وخباب، وهو خلاف شاذ، وكل منهما لم يبلغهما النهي والنسخ. والله أعلم. وأما ما رواه أنس بن مالك أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق يوما واحدا، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتم، من ورق ولبسوها، فطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه فطرح الناس خواتيمهم - أخرجه الصحيحان واللفظ للبخاري - فهو عند العلماء وهم من ابن شهاب؛ لأن الذي نبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو خاتم الذهب. رواه عبدالعزيز بن صهيب وقتادة عن أنس، وهو خلاف ما روى ابن شهاب عن أنس فوجب القضاء بالجملة على الواحد إذا خالفها، مع ما يشهد للجماعة من حديث ابن عمر.
إذا ثبت جواز التختم للرجال بخاتم الفضة والتحلي به، فقد كره ابن سيرين وغيره من العلماء نقشه وأن يكون فيه ذكر الله. وأجاز نقشه جماعة من العلماء. ثم إذا نقش عليه اسم الله أو كلمة حكمة أو كلمات من القرآن وجعله في شماله، فهل يدخل به الخلاء ويستنجي بشماله؟ خففه سعيد بن المسيب ومالك. قيل لمالك: إن كان في الخاتم ذكر الله ويلبسه في الشمال أيستنجى به؟ قال: أرجو أن يكون خفيفا. وروي عنه الكراهة وهو الأولى. وعلى المنع من ذلك أكثر أصحابه. وقد روى همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه. قال أبو داود: هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد ابن سعد عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه. قال أبو داود: لم يحدث بهذا إلا همام.
روى البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من فضة ونقش فيه }محمد رسول الله} وقال: (إني اتخذت خاتما من ورق ونقشت فيه محمد رسول الله فلا ينقشن أحد على نقشه). قال علماؤنا: فهذا دليل على جواز نقش اسم صاحب الخاتم على خاتمه. قال مالك: ومن شأن الخلفاء والقضاة نقش أسمائهم على خواتيمهم، ونهيه عليه السلام: لا ينقشن أحد على نقش خاتمه، من أجل أن ذلك اسمه وصفته برسالة الله له إلى خلقه. وروى أهل الشام أنه لا يجوز الخاتم لغير ذي سلطان. وروى في ذلك حديثا عن أبي ريحانة، وهو حديث لا حجة فيه لضعفه. وقوله عليه السلام: (لا ينقشن أحد على نقشه) يرده ويدل على جواز اتخاذ الخاتم لجميع الناس، إذا لم ينقش على نقش خاتمه. وكان نقش خاتم الزهري }محمد يسأل الله العافية}. وكان نقش خاتم مالك }حسبي الله ونعم الوكيل}. وذكر الترمذي الحكيم في }نوادر الأصول} أن نقش خاتم موسى عليه السلام }لكل أجل كتاب}الرعد: 38]. وبلغ عمر بن عبدالعزيز أن ابنه اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه: إنه بلغني أنك اشتريت خاتما بألف درهم، فبعه وأطعم منه ألف جائع، واشتر خاتما من حديد بدرهم، واكتب عليه }رحم الله امرأ عرف قدر نفسه}.
من حلف ألا يلبس حليا فلبس لؤلؤا لم يحنث؛ وبه قال أبو حنيفة. قال ابن خويز منداد: لأن هذا وإن كان الاسم اللغوي يتناوله فلم يقصده باليمين، والأيمان تخص بالعرف؛ ألا ترى أنه لو حلف ألا ينام على فراش فنام على الأرض لم يحنث، وكذلك لا يستضيء بسراج فجلس في الشمس لا يحنث، وإن كان الله تعالى قد سمى الأرض فراشا والشمس سراجا. وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: من حلف ألا يلبس حليا ولبس اللؤلؤ فإنه يحنث؛ لقوله تعالى{وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} والذي يخرج منه: اللؤلؤ والمرجان.
قوله تعالى{وترى الفلك مواخر فيه} الفلك: السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، ويذكر ويؤنث. وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر؛ يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم: فلكان. والفلك المفرد مذكر؛ قال تعالى{في الفلك المشحون}يس: 41] فجاء به مذكرا، وقال{والفلك التي تجري في البحر} فأنث. ويحتمل واحدا وجمعا؛ وقال{حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة}يونس: 22] فجمع؛ فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب فيذكر، وإلى السفينة فيؤنث. وقيل: واحده فلك؛ مثل أسد وأسد، وخشب وخشب، وأصله من الدوران، ومنه: فلك السماء التي تدور عليه النجوم. وفلكت الجارية استدار ثديها؛ ومنه فلكة المغزل. وسميت السفينة فلكا لأنها تدور بالماء أسهل دور. وقوله{مواخر} قال ابن عباس: جواري، من جرت تجري. سعيد بن جبير: معترضة. الحسن: مواقر. قتادة والضحاك: أي تذهب وتجيء، مقبلة ومدبرة بريح واحدة. وقيل{مواخر} ملججة في داخل البحر؛ وأصل المخر شق الماء عن يمين وشمال. مخرت السفينة تمخر وتمخر مخرا ومخورا إذا جرت تشق الماء مع صوت؛ ومنه قوله تعالى{وترى الفلك مواخر فيه} يعني جواري. وقال الجوهري: ومخر السابح إذا شق الماء بصدره، ومخر الأرض شقها للزراعة، ومخرها بالماء إذا حبس الماء فيها حتى تصير أريضة؛ أي خليقة بجودة نبات الزرع. وقال الطبري: المخر في اللغة صوت هبوب الريح؛ ولم يقيد كونه في ماء، وقال: إن من ذلك قول واصل مولى أبي عيينة: إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح؛ أي لينظر في صوتها في الأجسام من أين تهب، فيتجنب استقبالها لئلا ترد عليه بوله. }ولتبتغوا من فضله} أي ولتركبوه للتجارة وطلب الربح. }ولعلكم تشكرون} تقدم
الآية رقم ( 15 )
{وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون}
قوله تعالى{وألقى في الأرض رواسي} أي جبالا ثابتة. رسا يرسو إذا ثبت وأقام. قال:
فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تُطلَّع
{أن تميد بكم} أي لئلا تميد؛ عند الكوفيين. وكراهية أن تميد؛ على قول البصريين. والميد: الاضطراب يمينا وشمالا؛ ماد الشيء يميد ميدا إذا تحرك؛ ومادت الأغصان تمايلت، وماد الرجل تبختر. قال وهب بن منبه: خلق الله الأرض فجعلت تميد وتمور، فقالت الملائكة. إن هذه غير مقرة أحدا على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال، ولم تدر الملائكة مم خلقت الجبال. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما خلق الله الأرض قمصت ومالت وقالت: أي رب! أتجعل علي من يعمل بالمعاصي والخطايا، ويلقي علي الجيف والنتن! فأرسى الله تعالى فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون. وروى الترمذي في آخر }كتاب التفسير} حدثنا محمد بن بشار حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا العوام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فعاد بها عليها فاستقرت فعجبت الملائكة من شدة الجبال قالوا يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال قال نعم الحديد قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد قال نعم النار فقالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من النار قال نعم الماء قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الماء قال نعم الريح قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح قال نعم ابن آدم تصدق بصدقة بيمينه يخفيها من شماله). قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه.
قلت: وفي هذه الآية أدل دليل على استعمال الأسباب، وقد كان قادرا على سكونها دون الجبال. وقد تقدم هذا المعنى. }وأنهارا} أي وجعل فيها أنهارا، أو ألقى فيها أنهارا. }وسبلا} أي طرقا ومسالك. }لعلكم تهتدون} أي إلى حيث تقصدون من البلاد فلا تضلون ولا تتحيرون.
الآية رقم ( 16 )
{وعلامات وبالنجم هم يهتدون}
قوله تعالى{وعلامات} قال ابن عباس: العلامات معالم الطرق بالنهار؛ أي جعل للطريق علامات يقع الاهتداء بها. }وبالنجم هم يهتدون} يعني بالليل، والنجم يراد به النجوم. وقرأ ابن وثاب }وبالنجم}. الحسن: بضم النون والجيم جميعا ومراده النجوم، فقصره؛ كما قال الشاعر:
إن الفقير بيننا قاض حكم أن ترد الماء إذا غاب النجم
وكذلك القول لمن قرأ }النجم} إلا أنه سكن استخفافا. ويجوز أن يكون النجم جمع نجم كسُقُف وسَقف. واختلف في النجوم؛ فقال الفراء: الجدي والفرقدان. وقيل: الثريا. قال الشاعر:
حتى إذا ما استقل النجم في غلس وغودر البقل ملوى ومحصود
أي منه ملوي ومنه محصود، وذلك عند طلوع الثريا يكون. وقال الكلبي: العلامات الجبال. وقال مجاهد: هي النجوم؛ لأن من النجوم ما يهتدى بها، ومنها ما يكون علامة لا يهتدى بها؛ وقاله قتادة والنخعي. وقيل: تم الكلام عند قوله }وعلامات} ثم ابتدأ وقال{وبالنجم هم يهتدون}. وعلى الأول: أي وجعل لكم علامات ونجوما تهتدون بها. ومن العلامات الرياح يهتدى بها. وفي المراد بالاهتداء قولان: أحدهما: في الأسفار، وهذا قول الجمهور. الثاني: في القبلة. وقال ابن عباس: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى{وبالنجم هم يهتدون} قال: (هو الجدي يا ابن عباس، عليه قبلتكم وبه تهتدون في بركم وبحركم) ذكره الماوردي.
قال ابن العربي: أما جميع النجوم فلا يهتدي بها إلا العارف بمطالعها ومغاربها، والفرق بين الجنوبي والشمالي منها، وذلك قليل في الآخرين. وأما الثريا فلا يهتدي بها إلا من يهتدي بجميع النجوم. وإنما الهدي لكل أحد بالجدي والفرقدين؛ لأنها من النجوم المنحصرة المطالع الظاهرة السمت الثابتة في المكان، فإنها تدور على القطب الثابت دورانا محصلا، فهي أبدا هدى الخلق في البر إذا عميت الطرق، وفي البحر عند مجرى السفن، وفي القبلة إذا جهل السمت، وذلك على الجملة بأن تجعل القطب على ظهر منكبك الأيسر فما استقبلت فهو سمت الجهة.
قلت: وسأل ابن عباس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجم فقال: (هو الجدي عليه قبلتكم وبه تهتدون في بركم وبحركم). وذلك أن آخر الجدي بنات نعش الصغرى والقطب الذي تستوي عليه القبلة بينها.
قال علماؤنا: وحكم استقبال القبلة على وجهين: أحدهما: أن يراها ويعاينها فيلزمه استقبالها وإصابتها وقصد جهتها بجميع بدنه. والآخر: أن تكون الكعبة بحيث لا يراها فيلزمه التوجه نحوها وتلقاءها بالدلائل، وهي الشمس والقمر والنجوم والرياح وكل ما يمكن به معرفة جهتها، ومن غابت عنه وصلى مجتهدا إلى غير ناحيتها وهو ممن يمكنه الاجتهاد فلا صلاة له؛ فإذا صلى مجتهدا مستدلا ثم انكشف له بعد الفراغ من صلاته أنه صلى إلى غير القبلة أعاد إن كان في وقتها، وليس ذلك بواجب عليه؛ لأنه قد أدى فرضه على ما أمر به. وقد مضى هذا المعنى في }البقرة} مستوفى والحمد لله.
الآية رقم ( 17 )
{أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون}
قوله تعالى{أفمن يخلق} هو الله تعالى. }كمن لا يخلق} يريد الأصنام. }أفلا تذكرون} أخبر عن الأوثان التي لا تخلق ولا تضر ولا تنفع، كما يخبر عمن يعقل على ما تستعمله العرب في ذلك؛ فإنهم كانوا يعبدونها فذكرت بلفظ }من} كقوله{ألهم أرجل}الأعراف: 195]. وقيل: لاقتران الضمير في الذكر بالخالق. قال الفراء: هو كقول العرب: اشتبه علي الراكب وجمله فلا أدري من ذا ومن ذا؛ وإن كان أحدهما غير إنسان. قال المهدوي: ويسأل بـ }من} عن البارئ تعالى ولا يسأل عنه بـ }ما}؛ لأن }ما} إنما يسأل بها عن الأجناس، والله تعالى ليس بذي جنس، ولذلك أجاب موسى عليه السلام حين قال له{فمن ربكما يا موسى}طه: 49] ولم يجب حين قال له{وما رب العالمين}الشعراء: 23] إلا بجواب }من} وأضرب عن جواب }ما} حين كان السؤال فاسدا. ومعنى الآية: من كان قادرا على خلق الأشياء المتقدمة الذكر كان بالعبادة أحق ممن هو مخلوق لا يضر ولا ينفع؛ }هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه}لقمان: 11] }أروني ماذا خلقوا من الأرض}فاطر: 40].
الآية رقم ( 18 : 19 )
{وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم، والله يعلم ما تسرون وما تعلنون}
قوله تعالى{أي إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} تقدم في إبراهيم. }إن الله لغفور رحيم، والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} أي ما تبطنونه وما تظهرونه. وقد تقدم.
الآية رقم ( 20 : 21 )
{والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون، أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون}
قوله تعالى{والذين يدعون من دون الله} قراءة العامة }تدعون} بالتاء لأن ما قبله خطاب. روى أبو بكر عن عاصم وهبيرة عن حفص }يدعون} بالياء، وهي قراءة يعقوب. فأما قوله{ما تسرون وما تعلنون} فكلهم بالتاء على الخطاب؛ إلا ما روى هبيرة عن حفص عن عاصم أنه قرأ بالياء. }لا يخلقون شيئا} أي لا يقدرون على خلق شيء }وهم يخلقون}. }أموات غير أحياء} أي هم أموات، يعني الأصنام، لا أرواح فيها ولا تسمع ولا تبصر، أي هي جمادات فكيف تعبدونها وأنتم أفضل منها بالحياة. }وما يشعرون} يعني الأصنام. }أيان يبعثون} وقرأ السلمي، }إيان} بكسر الهمزة، وهما لغتان، موضعه نصب بـ }يبعثون} وهي في معنى الاستفهام. والمعنى: لا يدرون متى يبعثون. وعبر عنها كما عبر عن الآدميين؛ لأنهم زعموا أنها تعقل عنهم وتعلم وتشفع لهم عند الله تعالى، فجرى خطابهم على ذلك. وقد قيل: إن الله يبعث الأصنام يوم القيامة ولها أرواح فتتبرأ من عبادتهم، وهي في الدنيا جماد لا تعلم متى تبعث. قال ابن عباس؛ تبعث الأصنام وتركب فيها الأرواح ومعها شياطينها فيتبرؤون من عبدتها، ثم يؤمر بالشياطين والمشركين إلى النار. وقيل: إن الأصنام تطرح في النار مع عبادتها يوم القيامة؛ دليله }إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم}الأنبياء: 98]. وقيل: تم الكلام عند قوله{لا يخلقون شيئا وهم يخلقون} ثم ابتدأ فوصف المشركين بأنهم أموات، وهذا الموت موت كفر. }وما يشعرون أيان يبعثون} أي وما يدري الكفار متى يبعثون، أي وقت البعث؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث حتى يستعدوا للقاء الله وقيل: أي وما يدريهم متى الساعة، ولعلها تكون قريبا.
الآية رقم ( 22 : 23 )
{إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون، لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين}
قوله تعالى{إلهكم إله واحد} لما بين استحالة الإشراك بالله تعالى بين أن المعبود واحد لا رب غيره ولا معبود سواه. }فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة} أي لا تقبل الوعظ ولا ينفع فيها الذكر، وهذا رد على القدرية. }وهم مستكبرون} متكبرون متعظمون عن قبول الحق. وقد تقدم. }لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون} أي من القول والعمل فيجازيهم. قال الخليل{لا جرم} كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا؛ يقال: فعلوا ذلك؛ فيقال: لا جرم سيندمون. أي حقا أن لهم النار. وقد مضى القول فيه. }إنه لا يحب المستكبرين} أي لا يثيبهم ولا يثني عليهم. وعن الحسن بن علي أنه مر بمساكين قد قدموا كسرا بينهم وهم يأكلون فقالوا: الغذاء يا أبا عبدالله، فنزل وجلس معهم وقال{إنه لا يحب المستكبرين} فلما فرغ قال: قد أجبتكم فأجيبوني؛ فقاموا معه إلى منزله فأطعمهم وسقاهم وأعطاهم وانصرفوا. قال العلماء. وكل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه إلا الكبر؛ فإنه فسق يلزمه الإعلان، وهو أصل العصيان كله. وفي الحديث الصحيح (إن المستكبرين يحشرون أمثال الذر يوم القيامة يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم). أو كما قال صلى الله عليه وسلم: (تصغر لهم أجسامهم في المحشر حتى يضرهم صغرها وتعظم لهم في النار حتى يضرهم عظمها).
الآية رقم ( 24 )
{وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين}
قوله تعالى{وإذا قيل لكم ماذا أنزل ربكم} يعني وإذا قيل لمن تقدم ذكره ممن لا يؤمن بالآخرة وقلوبهم منكرة بالبعث }ماذا أنزل ربكم}. قيل: القائل النضر بن الحارث، وأن الآية نزلت فيه، وكان خرج إلى الحيرة فاشترى أحاديث }كليلة ودمنة} فكان يقرأ على قريش ويقول: ما يقرأ محمد على أصحابه إلا أساطير الأولين؛ أي ليس هو من تنزيل ربنا. وقيل: إن المؤمنين هم القائلون لهم اختبارا فأجابوا بقولهم{أساطير الأولين} فأقروا بإنكار شيء هو أساطير الأولين. والأساطير: الأباطيل والترهات. والقول في }ماذا أنزل ربكم} كالقول في }ماذا ينفقون}البقرة: 215] وقوله{أساطير الأولين}. خبر ابتداء محذوف، التقدير: الذي أنزله أساطير الأولين.
الآية رقم ( 25 )
{ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون}
قوله تعالى{ليحملوا أوزارهم} قيل: هي لام كي، وهي متعلقة بما قبلها. وقيل: لام العاقبة، كقوله{ليكون لهم عدوا وحزنا}القصص: 8]. أي قولهم في القرآن والنبي أدّاهم إلى أن حملوا أوزارهم؛ أي ذنوبهم. وقيل: هي لام الأمر، والمعنى التهدد. }كاملة} لم يتركوا منها شيئا لنكبة أصابتهم في الدنيا بكفرهم. }ومن أوزار الذين يضلونهم} قال مجاهد: يحملون وزر من أضلوه ولا ينقص من إثم المضل شيء. وفي الخبر (أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء وأيما داع دعا إلى هدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء) خرجه مسلم بمعناه. و}من} للجنس لا للتبعيض؛ فدعاة الضلالة عليهم مثل أوزار من اتبعهم. وقوله{بغير علم} أي يضلون الخلق جهلا منهم بما يلزمهم من الآثام؛ إذ لو علموا لما أضلوا. }ألا ساء ما يزرون} أي بئس الوزر الذي يحملونه. ونظير هذه الآية }وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم}العنكبوت: 13] وقد تقدم.
الاية رقم ( 26 )
{قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون}
قوله تعالى{قد مكر الذين من قبلهم} أي سبقهم بالكفر أقوام مع الرسل المتقدمين فكانت العاقبة الجميلة للرسل. }فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم} قال ابن عباس وزيد بن أسلم وغيرهما: إنه النمرود بن كنعان وقومه، أرادوا صعود السماء وقتال أهله؛ فبنوا الصرح ليصعدوا منه بعد أن صنع بالنسور ما صنع، فخر. كما تقدم بيانه في آخر سورة }إبراهيم}. ومعنى }فأتى الله بنيانهم} أي أتى أمره البنيان، إما زلزلة أو ريحا فخربته. قال ابن عباس ووهب: كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع، وعرضه ثلاثة آلاف. وقال كعب ومقاتل: كان طول فرسخين، فهبت ريح فألقت رأسه في البحر وخر عليهم الباقي. ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع يومئذ، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا، فلذلك سمي بابل، وما كان لسان قبل ذلك إلا السريانية. وقرأ ابن هرمز وابن محيصن }السقف} بضم السين والقاف جميعا. وضم مجاهد السين وأسكن القاف تخفيفا؛ كما تقدم في }وبالنجم} في الوجهين. والأشبه أن يكون جمع سقف. والقواعد: أصول البناء، وإذا اختلت القواعد سقط البناء. وقوله{من فوقهم} قال ابن الأعرابي: وُكِد ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته. والعرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه. فجاء بقوله{من فوقهم} ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب فقال{من فوقهم} أي عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما أفلتوا. وقيل: إن المراد بالسقف السماء؛ أي إن العذاب أتاهم من السماء التي هي فوقهم؛ قال ابن عباس. وقيل: إن قوله{فأتى الله بنيانهم من القواعد} تمثيل، والمعنى: أهلكهم فكانوا بمنزلة من سقط عليه بنيانه. وقيل: المعنى أحبط الله أعمالهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه. وقيل: المعنى أبطل مكرهم وتدبيرهم فهلكوا كما هلك من نزل عليه السقف من فوقه. وعلى هذا اختلف في الذين خر عليهم السقف؛ فقال ابن عباس وابن زيد ما تقدم. وقيل: إنه بختنصر وأصحابه؛ قال بعض المفسرين. وقيل: المراد المقتسمون الذين ذكرهم الله في سورة الحجر؛ قال الكلبي. وعلى هذا التأويل يخرج وجه التمثيل، والله أعلم. }وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} أي من حيث ظنوا أنهم في أمان. وقال ابن عباس: يعني البعوضة التي أهلك الله بها نمرودا.
الآية رقم ( 27 )
{ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين}
قوله تعالى{ثم يوم القيامة يخزيهم} أي يفضحهم بالعذاب ويذلهم به ويهينهم }ويقول أين شركائي} أي بزعمكم وفي دعواكم، أي الآلهة التي عبدتم دوني، وهو سؤال توبيخ. }الذين كنتم تشاقون فيهم} أي تعادون أنبيائي بسببهم، فليدفعوا عنكم هذا العذاب. وقرأ ابن كثير }شركاي} بياء مفتوحة من غير همز، والباقون بالهمز. وقرأ نافع }تشاقون} بكسر النون على الإضافة، أي تعادونني فيهم. وفتحها الباقون. }قال الذين أوتوا العلم} قال ابن عباس: أي الملائكة. وقيل المؤمنون. }إن الخزي اليوم} أي الهوان والذل يوم القيامة. }والسوء} أي العذاب. }على الكافرين}.
الآية رقم ( 28 )
{الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون}
قوله تعالى{الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} هذا من صفة الكافرين. و}ظالمي أنفسهم} نصب على الحال؛ أي وهم ظالمون أنفسهم إذ أوردوها موارد الهلاك. }فألقوا السلم} أي الاستسلام. أي أقروا لله بالربوبية وانقادوا عند الموت وقالوا{ما كنا نعمل من سوء} أي من شرك. فقالت لهم الملائكة{بلى} قد كنتم تعملون الأسواء. }إن الله عليم بما كنتم تعملون} وقال عكرمة. نزلت هذه الآية بالمدينة في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا، فأخرجتهم قريش إلى بدر كرها فقتلوا بها؛ فقال{الذين تتوفاهم الملائكة} بقبض أرواحهم. }ظالمي أنفسهم} في مقامهم بمكة وتركهم الهجرة. }فألقوا السلم} يعني في خروجهم معهم. وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الصلح؛ قال الأخفش. الثاني: الاستسلام؛ قال قطرب. الثالث: الخضوع؛ قاله مقاتل. }ما كنا نعمل من سوء} يعني من كفر. }بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون} يعني أن أعمالهم أعمال الكفار. وقيل: إن بعض المسلمين لما رأوا قلة المؤمنين رجعوا إلى المشركين؛ فنزلت فيهم. وعلى القول الأول فلا يخرج كافر ولا منافق من الدنيا حتى ينقاد ويستسلم، ويخضع ويذل، ولا تنفعهم حينئذ توبة ولا إيمان؛ كما قال{فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا}غافر: 85].
الآية رقم ( 29 )
{فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين}
قوله تعالى{فادخلوا أبواب جهنم} أي يقال لهم ذلك عند الموت. وقيل: هو بشارة لهم بعذاب القبر؛ إذ هو باب من أبواب جهنم للكافرين. وقيل: لا تصل أهل الدركة الثانية إليها مثلا إلا بدخول الدركة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة هكذا. وقيل: لكل دركة باب مفرد، فالبعض يدخلون من باب والبعض يدخلون من باب آخر. فالله أعلم. }خالدين فيها} أي ماكثين فيها. }فلبئس مثوى} أي مقام }المتكبرين} الذين تكبروا عن الإيمان وعن عبادة الله تعالى، وقد بينهم بقوله الحق{إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون}الصافات: 35].
الآية رقم ( 30 : 31 )
{وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين، جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي الله المتقين}
قوله تعالى{وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} أي قالوا: أنزل خيرا؛ وتم الكلام. و}ماذا} على هذا اسم واحد. وكان يرد الرجل من العرب مكة في أيام الموسم فيسأل المشركين عن محمد عليه السلام فيقولون: ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون. ويسأل المؤمنين فيقولون: أنزل الله عليه الخير والهدى، والمراد القرآن. وقيل: إن هذا يقال لأهل الإيمان يوم القيامة. قال الثعلبي: فإن قيل: لم ارتفع الجواب في قوله{أساطير الأولين}النحل: 24] وانتصب في قوله{خيرا} فالجواب أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل، فكأنهم قالوا: الذي يقوله محمد هو أساطير الأولين. والمؤمنين آمنوا بالنزول فقالوا: أنزل خيرا، وهذا مفهوم معناه من الإعراب، والحمد لله.
قوله تعالى{للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة} قيل: هو من كلام الله عز وجل. وقيل: هو من جملة كلام الذين اتقوا. والحسنة هنا: الجنة؛ أي من أطاع الله فله الجنة غدا. وقيل{للذين أحسنوا} اليوم حسنة في الدنيا من النصر والفتح والغنيمة }ولدار الآخرة خير} أي ما ينالون في الآخرة من ثواب الجنة خير وأعظم من دار الدنيا؛ لفنائها وبقاء الآخرة. }ولنعم دار المتقين} فيه وجهان: قال الحسن: المعنى ولنعم دار المتقين الدنيا؛ لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة ودخول الجنة. وقيل: المعنى ولنعم دار المتقين الآخرة؛ وهذا قول الجمهور. وعلى هذا تكون }جنات عدن} بدلا من الدار فلذلك ارتفع. }جنات عدن} بدلا من الدار فلذلك ارتفع. وقيل: ارتفع على تقدير هي جنات، فهي مبينة لقوله{دار المتقين}. أو تكون مرفوعة بالابتداء، التقدير: جنات عدن نعم دار المتقين. }يدخلونها} في موضع الصفة، أي مدخولة. وقيل{جنات} رفع بالابتداء، وخبره }يدخلونها} وعليه يخرج قول الحسن. والله أعلم. }تجري من تحتها الأنهار} تقدم. }لهم فيها ما يشاؤون} أي مما تمنوه وأرادوه. }كذلك يجزي الله المتقين} أي مثل هذا الجزاء يجزي الله المتقين.
قوله تعالى{الذين تتوفاهم الملائكة طيبين} قرأ الأعمش وحمزة }يتوفاهم الملائكة} في الموضعين بالياء، واختاره أبو عبيد؛ لما روي عن ابن مسعود أنه قال: إن قريشا زعموا أن الملائكة إناث فذكروهم أنتم. الباقون بالتاء؛ لأن المراد به الجماعة من الملائكة. و}طيبين} فيه ستة أقوال: الأول{طيبين} طاهرين من الشرك. الثاني: صالحين. الثالث: زاكية أفعالهم وأقوالهم. الرابع: طيبين الأنفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله تعالى. الخامس: طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله. السادس{طيبين} أن تكون وفاتهم طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم؛ بخلاف ما تقبض به روح الكافر والمخلط. والله أعلم. }يقولون سلام عليكم} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون السلام إنذارا لهم بالوفاة. الثاني: أن يكون تبشيرا لهم بالجنة؛ لأن السلام أمان. وذكر ابن المبارك قال: حدثني حيوة قال أخبرني أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال: السلام عليك وليّ الله الله يقرأ عليك السلام. ثم نزع بهذه الآية }الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم}. وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال: ربك مقرئك السلام. وقال مجاهد: إن المؤمن ليبشر بصلاح ولده من بعده لتقر عينه. وقد أتينا على هذا في كتاب التذكرة وذكرنا هناك الأخبار الواردة في هذا المعنى، والحمد لله. }ادخلوا الجنة} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معناه أبشروا بدخول الجنة. الثاني: أن يقولوا ذلك لهم في الآخرة }بما كنتم تعملون} يعني في الدنيا من الصالحات.
الآية رقم ( 33 )
{هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}
قوله تعالى{هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة} هذا راجع إلى الكفار، أي ما ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وهم ظالمون لأنفسهم. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وخلف }يأتيهم الملائكة} بالياء. والباقون بالتاء على ما تقدم. }أو يأتي أمر ربك} أي بالعذاب من القتل كيوم بدر، أو الزلزلة والخسف في الدنيا. وقيل: المراد يوم القيامة. والقوم لم ينتظروا هذه الأشياء لأنهم ما آمنوا بها، ولكن امتناعهم عن الإيمان أوجب عليهم العذاب، فأضيف ذلك إليهم، أي عاقبتهم العذاب. }كذلك فعل الذين من قبلهم} أي أصروا على الكفر فأتاهم أمر الله فهلكوا. }وما ظلمهم الله} أي ما ظلمهم الله بتعذيبهم وإهلاكهم، ولكن ظلموا أنفسهم بالشرك.
الآية رقم ( 34 )
{فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}
قوله تعالى{فأصابهم سيئات ما عملوا} قيل: فيه تقديم وتأخير؛ التقدير: كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم سيئات ما عملوا، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، فأصابهم عقوبات كفرهم وجزاء الخبيث من أعمالهم. }وحاق بهم} أي أحاط بهم ودار. }ما كانوا به يستهزئون} أي عقاب استهزائهم.
الآية رقم ( 35 )
{وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين}
قوله تعالى{وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء} أي شيئا، و}من} صلة. قال الزجاج: قالوه استهزاء، ولو قالوه عن اعتقاد لكانوا مؤمنين. وقد مضى. }كذلك فعل الذين من قبلهم} أي مثل هذا التكذيب والاستهزاء فعل من كان قبلهم بالرسل فأهلكوا. }فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} أي ليس عليهم إلا التبليغ، وأما الهداية فهي إلى الله تعالى.
الآية رقم ( 36 )
{ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}
قوله تعالى{ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله} أي بأن اعبدوا الله ووحدوه. }واجتنبوا الطاغوت} أي اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم، وكل من دعا إلى الضلال. }فمنهم من هدى الله} أي أرشده إلى دينه وعبادته. }ومنهم من حقت عليه الضلالة} أي بالقضاء السابق عليه حتى مات على كفره، وهذا يرد على القدرية؛ لأنهم زعموا أن الله هدى الناس كلهم ووفقهم للهدى، والله تعالى يقول{فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة} وقد تقدم. }فسيروا في الأرض} أي فسيروا معتبرين في الأرض }فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} أي كيف صار آخر أمرهم إلى الخراب والعذاب والهلاك.
الآية رقم ( 37 )
{إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين}
قوله تعالى{إن تحرص على هداهم} أي إن تطلب يا محمد بجهدك هداهم. }فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين} أي لا يرشد من أضله، أي من سبق له من الله الضلالة لم يهده. وهذه قراءة ابن مسعود وأهل الكوفة. }فيهدي} فعل مستقبل وماضيه هدى. و}من} في موضع نصب }بيهدي} ويجوز أن يكون هدى يهدي بمعنى اهتدى يهتدي، رواه أبو عبيد عن الفراء قال: كما قرئ }أمن لا يهدي إلا أن يهدى}يونس: 35] بمعنى يهتدي. قال أبو عبيد. ولا نعلم أحدا روى هذا غير الفراء، وليس بمتهم فيما يحكيه. النحاس: حكي لي عن محمد بن يزيد كأن معنى }لا يهدي من يضل} من علم ذلك منه وسبق ذلك له عنده، قال: ولا يكون يهدي بمعنى يهتدي إلا أن يكون يهدي أو يهدي. وعلى قول الفراء }يهدي} بمعنى يهتدي، فيكون }من} في موضع رفع، والعائد إلى }من} الهاء المحذوفة من الصلة، والعائد إلى اسم }إن} الضمير المستكن في }يضل}. وقرأ الباقون }لا يهدى} بضم الياء وفتح الدال، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، على معنى من أضله الله لم يهده هاد؛ دليله قوله{من يضلل الله فلا هادي له}الأعراف: 186] و}من} في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسم فاعله، وهي بمعنى الذي، والعائد عليها من صلتها محذوف، والعائد على اسم إن من }فإن الله} الضمير المستكن في }يضل}.
الآية رقم ( 38 )
{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون}
قوله تعالى{وأقسموا بالله جهد أيمانهم} هذا تعجيب من صنعهم، إذ أقسموا بالله وبالغوا في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت. ووجه التعجيب أنهم يظهرون تعظيم الله فيقسمون به ثم يعجزونه عن بعث الأموات. وقال أبو العالية: كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه، وكان في بعض كلامه: والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا، فأقسم المشرك بالله: لا يبعث الله من يموت؛ فنزلت الآية. وقال قتادة : ذكر لنا أن ابن عباس قال له رجل: يا ابن عباس، إن ناسا يزعمون أن عليا مبعوث بعد الموت قبل الساعة، ويتأولون هذه الآية. فقال ابن عباس: كذب أولئك! إنما هذه الآية عامة للناس، لو كان علي مبعوثا قبل القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه. }بلى} هذا رد عليهم؛ أي بلى ليبعثنهم. }وعدا عليه حقا} مصدر مؤكد؛ لأن قوله }يبعثهم} يدل على الوعد، أي وعد البعث وعدا حقا. }ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أنهم مبعوثون. وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد). وقد تقدم.
الآية رقم ( 39 )
{ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين}
قوله تعالى{ليبين لهم} أي ليظهر لهم. }الذي يختلفون فيه} أي من أمر البعث. }وليعلم الذين كفروا} بالبعث وأقسموا عليه }أنهم كانوا كاذبين} وقيل: المعنى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ليبين لهم الذي يختلفون فيه، والذي اختلف فيه المشركون والمسلمون أمور: منها البعث، ومنها عبادة الأصنام، ومنها إقرار قوم بأن محمدا حق ولكن منعهم من اتباعه التقليد؛ كأبي طالب.
الآية رقم ( 40 )
{إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}
أعلمهم سهولة الخلق عليه، أي إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائهم، ولا في غير ذلك مما نحدثه؛ لأنا إنما نقول له كن فيكون. قراءة ابن عامر والكسائي }فيكون} نصبا عطفا على أن نقول. وقال الزجاج: يجوز أن يكون نصبا على جواب }كن}. الباقون بالرفع على معنى فهو يكون. وقال ابن الأنباري: أوقع لفظ الشيء على المعلوم عند الله قبل الخلق لأنه بمنزلة ما وجد وشوهد. وفي الآية دليل على أن القرآن غير مخلوق؛ لأنه لو كان قوله{كن} مخلوقا لاحتاج إلى قول ثان، والثاني إلى ثالث وتسلسل وكان محالا. وفيها دليل على أن الله سبحانه مريد لجميع الحوادث كلها خيرها وشرها نفعها وضرها؛ والدليل على ذلك أن من يرى في سلطانه ما يكرهه ولا يريده فلأحد شيئين: إما لكونه جاهلا لا يدري، وإما لكونه مغلوبا لا يطيق، ولا يجوز ذلك في وصفه سبحانه، وقد قام الدليل على أنه خالق لاكتساب العباد، ويستحيل أن يكون فاعلا لشيء وهو غير مريد له؛ لأن أكثر أفعالنا يحصل على خلاف مقصودنا وإرادتنا، فلو لم يكن الحق سبحانه مريدا لها لكانت تلك الأفعال تحصل من غير قصد؛ وهذا قول الطبيعيين، وقد أجمع الموحدون على خلافه وفساده.
الآية رقم ( 41 )
{والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}
قوله تعالى{والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا} قد تقدم في }النساء} معنى الهجرة، وهي ترك الأوطان والأهل والقرابة في الله أو في دين الله، وترك السيئات. وقيل{في} بمعنى اللام، أي لله. }من بعد ما ظلموا} أي عذبوا في الله. نزلت في صهيب وبلال وخباب وعمار، عذبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا، فلما خلوهم هاجروا إلى المدينة؛ قاله الكلبي. وقيل: نزلت في أبي جندل بن سهيل. وقال قتادة: المراد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة؛ ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة وجعل لهم أنصارا من المؤمنين. والآية تعم الجميع. }لنبوئنهم في الدنيا حسنة} في الحسنة ستة أقوال: الأول: نزول المدينة؛ قاله ابن عباس والحسن والشعبي وقتادة. الثاني: الرزق الحسن؛ قاله مجاهد. الثالث: النصر على عدوهم؛ قاله الضحاك. الرابع: إنه لسان صدق؛ حكاه ابن جريج. الخامس: ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات. السادس: ما بقي لهم في الدنيا من الثناء، وما صار فيها لأولادهم من الشرف. وكل ذلك اجتمع لهم بفضل الله، والحمد لله. }ولأجر الآخرة أكبر} أي ولأجر دار الآخرة أكبر، أي أكبر من أن يعلمه أحد قبل أن يشاهده؛ }وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا}الإنسان: 20] }لو كانوا يعلمون} أي لو كان هؤلاء الظالمون يعلمون ذلك. وقيل: هو راجع إلى المؤمنين. أي لو رأوا ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه أكبر من حسنة الدنيا. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا دفع إلى المهاجرين العطاء قال: هذا ما وعدكم الله في الدنيا وما أدخر لكم في الآخرة أكثر؛ ثم تلا عليهم هذه الآية.
الآية رقم ( 42 )
{الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}
قيل{الذين} بدل من }الذين} الأول. وقيل: من الضمير في }لنبوئنهم} وقيل: هم الذين صبروا على دينهم. }وعلى ربهم يتوكلون} في كل أمورهم. وقال بعض أهل التحقيق: خيار الخلق من إذا نابه أمر صبر، وإذا عجز عن أمر توكل؛ قال الله تعالى{الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}.
الآية رقم ( 43 : 44 )
{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}
قوله تعالى{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم} قراءة العامة }يوحى} بالياء وفتح الحاء. وقرأ حفص عن عاصم }نوحي إليهم} بنون العظمة وكسر الحاء. نزلت في مشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فهلا بعث إلينا ملكا؛ فرد الله تعالى عليهم بقوله{وما أرسلنا من قبلك} إلى الأمم الماضية يا محمد }إلا رجالا} آدميين. }فاسألوا أهل الذكر} قال سفيان: يعني مؤمني أهل الكتاب. وقيل: المعنى فاسألوا أهل الكتاب فإن لم يؤمنوا فهم معترفون بأن الرسل كانوا من البشر. روي معناه عن ابن عباس ومجاهد. وقال ابن عباس: أهل الذكر أهل القرآن. وقيل: أهل العلم، والمعنى متقارب. }إن كنتم لا تعلمون} يخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشرا. }بالبينات والزبر} قيل{بالبينات، متعلق }بأرسلنا}. وفي الكلام تقديم وتأخير، أي ما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا - أي غير رجال، }فإلا} بمعنى غير؛ كقوله: لا إله إلا الله، وهذا قول الكلبي - نوحي إليهم. وقيل: في الكلام حذف دل عليه }أرسلنا} أي أرسلناهم بالبينات والزبر. ولا يتعلق }بالبينات} بـ }أرسلنا} الأول على هذا القول؛ لأن ما قبل }إلا} لا يعمل فيما بعدها، وإنما يتعلق بأرسلنا المقدرة، أي أرسلناهم بالبينات. وقيل: مفعول }بتعلمون} والباء زائدة، أو نصب بإضمار أعني؛ كما قال الأعشى:
وليس مجيرا إن أتى الحي خائف ولا قائلا إلا هو المتعيبا
أي أعني المتعيب. والبينات: الحجج والبراهين. والزبر: الكتب. وقد تقدم. }وأنزلنا إليك الذكر} يعني القرآن. }لتبين للناس ما نزل إليهم} في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم مبين عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة، وغير ذلك مما لم يفصله. }ولعلهم يتفكرون} فيتعظون.
الآية رقم ( 45 : 47 )
{أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين، أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم}
قوله تعالى{أفأمن الذين مكروا السيئات} أي بالسيئات، وهذا وعيد للمشركين الذين احتالوا في إبطال الإسلام. }أن يخسف الله بهم الأرض} قال ابن عباس: كما خسف بقارون، يقال: خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسوفا أي غاب به فيها؛ ومنه قوله{فخسفنا به وبداره الأرض}القصص: 81]. وخسف هو في الأرض وخسف به. والاستفهام بمعنى الإنكار؛ أي يجب ألا يأمنوا عقوبة تلحقهم كما لحقت المكذبين. }أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون} كما فعل بقوم لوط وغيرهم. يريد يوم بدر؛ فإنهم أهلكوا ذلك اليوم، ولم يكن شيء منه في حسابهم. }أو يأخذهم في تقلبهم} أي في أسفارهم وتصرفهم؛ قاله قتادة. وقيل{في تقلبهم} على فراشهم أينما كانوا. وقال الضحاك: بالليل والنهار. }فما هم بمعجزين} أي مسابقين الله ولا فائتيه. }أو يأخذهم على تخوف} قال ابن عباس ومجاهد وغيرهم أي على تنقص من أموالهم ومواشيهم وزروعهم. وكذا قال ابن الأعرابي: أي على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى أهلكهم كلهم. وقال الضحاك: هو من الخوف؛ المعنى: يأخذ طائفة ويدع طائفة، فتخاف الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها. وقال الحسن{على تخوف} أن يأخذ القرية فتخافه القرية الأخرى، وهذا هو معنى القول الذي قبله بعينه، وهما راجعان إلى المعنى الأول، وأن التخوف التنقص؛ تخوفه تنقصه، وتخوفه الدهر وتخونه - بالفاء والنون - بمعنى؛ يقال: تخونني فلان حقي إذا تنقصك. قال ذو الرمة:
لا، بل هو الشوق من دار تخونها مرا سحاب ومرا بارح ترب
وقال لبيد:
تخونها نزولي وارتحالي
أي تنقص لحمها وشحمها. وقال الهيثم بن عدي: التخوف }بالفاء} التنقص، لغة لأزد شنوءة. وأنشد:
تخوف غدرهم مالي وأهدى سلاسل في الحلوق لها صليل
وقال سعيد بن المسيب: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: يا أيها الناس، ما تقولون في قول الله عز وجل{أو يأخذهم على تخوف} فسكت الناس، فقال شيخ من بني هذيل: هي لغتنا يا أمير المؤمنين، التخوف التنقص. فخرج رجل فقال: يا فلان، ما فعل دينك؟ قال: تخوفته، أي تنقصته؛ فرجع فأخبر عمر فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال نعم؛ قال شاعرنا أبو كبير الهذلي يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه:
تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر: يا أيها الناس، عليكم بديوانكم شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. تمك السنام يتمك تمكا، أي طال وارتفع، فهو تامك. والسفن والمسفن ما يُنجر به الخشب. وقال الليث بن سعد{على تخوف} على عجل. وقال: على تقريع بما قدموه من ذنوبهم، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. وقال قتادة{على تخوف} أن يعاقب أو يتجاوز. }فإن ربكم لرؤوف رحيم} أي لا يعاجل بل يمهل.
الآية رقم ( 48 )
{أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون}
قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والأعمش }تروا} بالتاء، على أن الخطاب لجميع الناس. الباقون بالياء خبرا عن الذين يمكرون السيئات؛ وهو الاختيار. }من شيء} يعني من جسم قائم له ظل من شجرة أو جبل؛ قاله ابن عباس. وإن كانت الأشياء كلها سميعة مطيعة لله تعالى. }يتفيأ ظلاله} قرأ أبو عمرو ويعقوب وغيرهما بالتاء لتأنيث الظلال. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد. أي يميل من جانب إلى جانب، ويكون أول النهار على حال ويتقلص ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى؛ فدورانها وميلانها من موضع إلى موضع سجودها؛ ومنه قيل للظل بالعشي: فيء؛ لأنه فاء من المغرب إلى المشرق، أي رجع. والفيء الرجوع؛ ومنه }حتى تفيء إلى أمر الله}الحجرات: 9]. روي معنى هذا القول عن الضحاك وقتادة وغيرهما، وقال الزجاج: يعني سجود الجسم، وسجوده انقياده وما يرى فيه من أثر الصنعة، وهذا عام في كل جسم. ومعنى }وهم داخرون} أي خاضعون صاغرون. والدخور: الصغار والذل. يقال: دخر الرجل - بالفتح - فهو داخر، وأدخره الله. وقال ذو الرمة:
فلم يبق إلا داخر في مخيس ومنجحر في غير أرضك في جحر
كذا نسبه الماوردي لذي الرمة، ونسبه الجوهري للفرزدق وقال: المخيس اسم سجن كان بالعراق؛ أي موضع التذلل، وقال.
أما تراني كيسا مكيسا بنيت بعد نافع مخيسا
ووحد اليمين في قوله{عن اليمين} وجمع الشمال؛ لأن معنى اليمين وإن كان واحدا الجمع. ولو قال: عن الأيمان والشمائل، واليمين والشمائل، أو اليمين والشمال، أو الأيمان والشمال لجاز؛ لأن المعنى للكثرة. وأيضا فمن شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شيء واحد أن تجمع إحداهما وتفرد الأخرى؛ كقوله تعالى{ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم}البقرة: 7] وكقوله{ويخرجهم من الظلمات إلى النور}المائدة: 16] ولو قال على أسماعهم وإلى الأنوار لجاز. ويجوز أن يكون رد اليمين على لفظ }ما} والشمال على معناها. ومثل هذا في الكلام كثير. فال الشاعر:
الواردون وتيم في ذرا سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس
ولم يقل جلود. وقيل: وحد اليمين لأن الشمس إذا طلعت وأنت متَوجّه إلى القبلة انبسط الظل عن اليمين ثم في حال يميل إلى جهة الشمال ثم حالات، فسماها شمائل.
الآية رقم ( 49 : 50 )
{ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون، يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون}
قوله تعالى{ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة} أي من كل ما يدب على الأرض. }والملائكة} يعني الملائكة الذين في الأرض، وإنما أفردهم بالذكر لاختصاصهم بشرف المنزلة، فميزهم من صفة الدبيب بالذكر وإن دخلوا فيها؛ كقوله{فيهما فاكهة ونخل ورمان}الرحمن: 68]. وقيل: لخروجهم من جملة ما يدب لما جعل الله لهم من الأجنحة، فلم يدخلوا في الجملة فلذلك ذكروا. وقيل: أراد }ولله يسجد من في السماوات} من الملائكة والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب، }وما في الأرض من دابة} وتسجد ملائكة الأرض. }وهم لا يستكبرون} عن عبادة ربهم. وهذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله. ومعنى }يخافون ربهم من فوقهم} أي عقاب ربهم وعذابه، لأن العذاب المهلك إنما ينزل من السماء. وقيل: المعنى يخافون قدرة ربهم التي هي فوق قدرتهم؛ ففي الكلام حذف. وقيل: معنى }يخافون ربهم من فوقهم} يعني الملائكة، يخافون ربهم وهي من فوق ما في الأرض من دابة ومع ذلك يخافون؛ فلأن يخاف من دونهم أولى؛ دليل هذا القول قوله تعالى{ويفعلون ما يؤمرون} يعني الملائكة.
الآية رقم ( 51 )
{وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون}
قوله تعالى{وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين} قيل: المعنى لا تتخذوا اثنين إلهين. وقيل: جاء قوله }اثنين} توكيدا. ولما كان الإله الحق لا يتعدد وأن كل من يتعدد فليس بإله، اقتصر على ذكر الاثنين؛ لأنه قصد نفي التعديد. }إنما هو إله واحد} يعني ذاته المقدسة. وقد قام الدليل العقلي والشرعي على وحدانيته والحمد لله. }فإياي فارهبوني} أي خافون. وقد تقدم.
الآية رقم ( 52 )
{وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون}
قوله تعالى{وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا} الدين: الطاعة والإخلاص. و}واصبا} معناه دائما؛ قال الفراء، حكاه الجوهري. وصب الشيء يصب وصوبا، أي دام. ووصب الرجل على الأمر إذا واظب عليه. والمعنى: طاعة الله واجبة أبدا. وممن قال واصبا دائما: الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك. ومنه قوله تعالى{ولهم عذاب واصب}الصافات:9] أي دائم. وقال الدولي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه بدم يكون الدهر أجمع واصبا
أنشد الغزنوي والثعلبي وغيرهما:
ما أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وقيل: الوصب التعب والإعياء؛ أي تجب طاعة الله وإن تعب العبد فيها. ومنه قول الشاعر:
لا يمسك الساق من أين ولا وصب ولا يعض على شرسوفه الصفر
وقال ابن عباس{واصبا} واجبا. الفراء والكلبي: خالصا. }أفغير الله تتقون} أي لا ينبغي أن تتقوا غير الله. }فغير} نصب بـ }تتقون}.
الآية رقم ( 53 : 55 )
{وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون، ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون، ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون}
قوله تعالى{وما بكم من نعمة فمن الله} قال الفراء. }ما} بمعنى الجزاء. والباء في }بكم} متعلقة بفعل مضمر، تقديره: وما يكن بكم. }من نعمة} أي صحة جسم وسعة رزق وولد فمن الله. وقيل: المعنى وما بكم من نعمة فمن الله هي. }ثم إذا مسكم الضر} أي السقم والبلاء والقحط. }فإليه تجأرون} أي تضجون بالدعاء. يقال: جأر يجار جؤارا. والجؤار مثل الخوار؛ يقال: جأر الثور يجأر، أي صاح. وقرأ بعضهم }عجلا جسدا له جؤار}؛ حكاه الأخفش. وجأر الرجل إلى الله، أي تضرع بالدعاء. وقال الأعشى يصف بقرة:
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة وكان النكير أن تضيف وتجأرا
{ثم إذا كشف الضر عنكم} أي البلاء والسقم. }إذا فريق منكم بربهم يشركون} بعد إزالة البلاء وبعد الجؤار. فمعنى الكلام التعجيب من الإشراك بعد النجاة من الهلاك، وهذا المعنى مكرر في القرآن، وقال الزجاج: هذا خاص بمن كفر. }ليكفروا بما آتيناهم} أي ليجحدوا نعمة الله التي أنعم بها عليهم من كشف الضر والبلاء. أي أشركوا ليجحدوا، فاللام لام كي. وقيل لام العاقبة. وقيل{ليكفروا بما آتيناهم} أي ليجعلوا النعمة سببا للكفر، وكل هذا فعل خبيث؛ كما قال:
والكفر مخبثة لنفس المنعم
}فتمتعوا} أمر تهديد. وقرأ عبدالله }قل تمتعوا}. }فسوف تعلمون} أي عاقبة أمركم.
الآية رقم ( 56 )
{ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون}
قوله تعالى{ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم} ذكر نوعا آخر من جهالتهم، وأنهم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضر وينفع - وهي الأصنام - شيئا من أموالهم يتقربون به إليه؛ قال مجاهد وقتادة وغيرهما. فـ }يعلمون} على هذا للمشركين. وقيل هي للأوثان، وجرى بالواو والنون مجرى من يعقل، فهو رد على }ما} ومفعول يعلم محذوف، والتقدير: ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعلم شيئا نصيبا. وقد مضى في }الأنعام:136} تفسير هذا المعنى، ثم رجع من الخبر إلى الخطاب فقال{تالله لتسئلن} وهذا سؤال توبيخ. }عما كنتم تفترون} أي تختلقونه من الكذب على الله أنه أمركم بهذا.
الآية رقم ( 57 )
{ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون}
قوله تعالى{ويجعلون لله البنات} نزلت في خزاعة وكنانة؛ فإنهم زعموا أن الملائكة بنات الله، فكانوا يقولون الحقوا البنات بالبنات. }سبحانه} نزه نفسه وعظمها عما نسبوه إليه من اتخاذ الأولاد. }ولهم ما يشتهون} أي يجعلون لأنفسهم البنين ويأنفون من البنات. وموضع }ما} رفع بالابتداء، والخبر }لهم} وتم الكلام عند قوله{سبحانه}. وأجاز الفراء كونها نصبا، على تقدير: ويجعلون لهم ما يشتهون. وأنكره الزجاج وقال: العرب تستعمل في مثل هذا ويجعلون لأنفسهم.
الآية رقم ( 58 )
{وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم}
أي متغيرا، وليس يريد السواد الذي هو ضد البياض، وإنما هو كناية عن غمه بالبنت. والعرب تقول لكل من لقي مكروها: قد اسود وجهه غما وحزنا؛ قال الزجاج. وحكى الماوردي أن المراد سواد اللون قال: وهو قول الجمهور. }وهو كظيم} أي ممتلئ من الغم. وقال ابن عباس: حزين. وقال الأخفش: هو الذي يكظم غيظه فلا يظهره. وقيل: إنه المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلم من الغم؛ مأخوذ من الكظامة وهو شد فم القربة؛ قاله علي بن عيسى. وقد تقدم.
الآية رقم ( 59 )
{يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون}
قوله تعالى{يتوارى من القوم} أي يختفي ويتغيب. }من سوء ما بشر به} أي من سوء الحزن والعار والحياء الذي يلحقه بسبب البنت. }أيمسكه} ذكر الكناية لأنه مردود على }ما}. }على هون} أي هوان. وكذا قرأ عيسى الثقفي }على هوان} والهون الهوان بلغة قريش؛ قاله اليزيدي وحكاه أبو عبيد عن الكسائي. وقال الفراء: هو القليل بلغة تميم. وقال الكسائي: هو البلاء والمشقة. وقالت:
نهين النفوس وهون النفو س يوم الكريهة أبقى لها
وقرأ الأعمش }أيمسكه على سوء} ذكره النحاس، قال: وقرأ الجحدري }أم يدسها في التراب} يرده على قوله{بالأنثى} ويلزمه أن يقرأ }أيمسكها}. وقيل: يرجع الهوان إلى البنت؛ أي أيمسكها وهي مهانة عنده. وقيل: يرجع إلى المولود له؛ أيمسكه على رغم أنفه أم يدسه في التراب، وهو ما كانوا يفعلونه من دفن البنت حية. قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء؛ وأشدهم في هذا تميم. زعموا خوف القهر عليهم وطمع غير الأكفاء فيهن. وكان صعصعة ابن ناجية عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت إبلا يستحييها بذلك. فقال الفرزدق يفتخر:
وعمي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يوأد
وقيل: دسها إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف، كالمدسوس في التراب لإخفائه عن الأبصار؛ وهذا محتمل.
مسألة:
ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئا، ثم قامت فخرجت وابنتاها، فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته حديثها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار). ففي هذا الحديث ما يدل على أن البنات بلية، ثم أخبر أن في الصبر عليهن والإحسان إليهن ما يقي من النار. وعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما؛ فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله عز وجل قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار). وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو) وضم أصابعه، خرجهما أيضا مسلم رحمه الله وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت له بنت فأدبها فأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه كانت له سترا أو حجابا من النار). وخطب إلى عقيل بن علفة ابنته الجرباء فقال:
إني وإن سيق إلي المهر ألف وعبدان وخور عشر
أحب أصهاري إلي القبر
وقال عبدالله بن طاهر:
لكل أبي بنت يراعي شؤونها ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر
فبعل يراعيها وخدر يكنها وقبر يواريها وخيرهم القبر
{ألا ساء ما يحكمون} أي في إضافة البنات إلى خالقهم وإضافة البنين إليهم. نظيره }ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذا قسمة ضيزى}النجم: 21] أي جائرة، وسيأتي.
{للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم}
قوله تعالى{للذين لا يؤمنون بالآخرة} أي لهؤلاء الواصفين لله البنات }مثل السوء} أي صفة السوء من الجهل والكفر. وقيل: هو وصفهم الله تعالى بالصاحبة والولد. وقيل: أي العذاب والنار. }ولله المثل الأعلى} أي الوصف الأعلى من الإخلاص والتوحيد؛ قاله قتادة. وقيل: أي الصفة العليا بأنه خالق رازق قادر ومجاز. وقال ابن عباس{مثل السوء} النار، و}المثل الأعلى }شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: ليس كمثله شيء. وقيل{ولله المثل الأعلى} كقوله{الله نور السماوات والأرض مثل نوره}النور: 35]. فإن قيل: كيف أضاف المثل هنا إلى نفسه وقد قال{فلا تضربوا لله الأمثال}النحل: 74] فالجواب أن قوله{فلا تضربوا لله الأمثال} أي الأمثال التي توجب الأشباه والنقائص؛ أي لا تضربوا لله مثلا يقتضي نقصا وتشبيها بالخلق. والمثل الأعلى وصفه بما لا شبيه له ولا نظير، جل وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. }وهو العزيز الحكيم} تقدم.
الآية رقم ( 61 )
{ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}
قوله تعالى{ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم} أي بكفرهم وافترائهم، وعاجلهم. }ما ترك عليها} أي على الأرض، فهو كناية عن غير مذكور، لكن دل عليه قوله{من دابة} فإن الدابة لا تدب إلا على الأرض. والمعنى المراد من دابة كافرة، فهو خاص. وقيل: المعنى أنه لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء. وقيل: المراد بالآية العموم؛ أي لو أخذ الله الخلق بما كسبوا ما ترك على ظهر هذه الأرض من دابة من نبي ولا غيره؛ وهذا قول الحسن. وقال ابن مسعود وقرأ هذه الآية: لو أخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان في حجرها، ولأمسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فمات الدواب، ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل؛ كما قال{ويعفو عن كثير}الشورى: 30]. }فإذا جاء أجلهم} أي أجل موتهم ومنتهى أعمارهم. أو الوقت المعلوم عند الله عز وجل. وقرأ ابن سيرين }جاء آجالهم} بالجمع وقيل{فإذا جاء أجلهم} أي فإذا جاء يوم القيامة. والله أعلم. }لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} وقد تقدم. فإن قيل: فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم؟ قيل: يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة. وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم). وعن أم سلمة وسئلت عن الجيش الذي يخسف به وكان ذلك في أيام ابن الزبير، فقالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعوذ بالبيت عائذ فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم) فقلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارها؟ قال: (يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته). وقد أتينا على هذا المعنى مجودا في }كتاب التذكرة} وتقدم في }المائدة} وآخر }الأنعام} ما فيه كفاية، والحمد لله. وقيل }فإذا جاء أجلهم} أي فإذا جاء يوم القيامة. والله أعلم.
الآية رقم 62 )
{ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون}
قوله تعالى{ويجعلون لله ما يكرهون} أي من البنات. }وتصف ألسنتهم الكذب} أي وتقول ألسنتهم الكذب. }الكذب} مفعول }تصف} و}أن} في محل نصب بدل من الكذب؛ لأنه بيان له. وقيل{الحسنى} الجزاء الحسن؛ قال الزجاج. وقرأ ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وابن محيصن }الكذب} برفع الكاف والذال والباء نعتا للألسنة؛ وكذا }ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب}النحل: 116]. والكذب جمع كذوب؛ مثل رسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر. }أن لهم الحسنى} قال مجاهد: هو قولهم أن لهم البنين ولله البنات. }لا جرم أن لهم النار} قال الخليل{لا جرم} كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا؛ يقال: فعلوا ذلك؛ فيقال: لا جرم سيندمون. أي حقا أن لهم النار. }وأنهم مفرطون} متركون منسيون في النار؛ قاله ابن الأعرابي وأبو عبيدة والكسائي والفراء، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد. وقال ابن عباس وصعيد بن جبير أيضا: مبعدون. قتادة والحسن: معجلون إلى النار مقدمون إليها. والفارط: الذي يتقدم إلى الماء؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا فرطكم على الحوض) أي متقدمكم. وقال القطامي:
فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فراط لوراد
والفراط: المتقدمون في طلب الماء. والوراد: المتأخرون. وقرأ نافع في رواية ورش }مفرطون} بكسر الراء وتخفيفها، وهي قراءة عبدالله بن مسعود وابن عباس، ومعناه مسرفون في الذنوب والمعصية، أي أفرطوا فيها. يقال: أفرط فلان على فلان إذا أربى عليه، وقال له أكثر مما قال من الشر. وقرأ أبو جعفر القارئ }مفرطون} بكسر الراء وتشديدها، أي مضيعون أمر الله؛ فهو من التفريط في الواجب.
الآية رقم ( 63 )
{تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم}
قوله تعالى{تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم} أي أعمالهم الخبيثة. هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن من تقدمه من الأنبياء قد كفر بهم قومهم. }فهو وليهم اليوم} أي ناصرهم في الدنيا على زعمهم. وقيل{فهو وليهم} أي قرينهم في النار. }اليوم} يعني يوم القيامة، وأطلق عليه اسم اليوم لشهرته. وقيل يقال لهم يوم القيامة: هذا وليكلم فاستنصروا به لينجيكم من العذاب، على جهة التوبيخ لهم. }ولهم عذاب أليم} في الآخرة.
الآية رقم ( 64 )
{وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}
قوله تعالى{وما أنزلنا عليك الكتاب} أي القرآن }إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه} من الدين والأحكام فتقوم الحجة عليهم ببيانك. وعطفك }هدى ورحمة} على موضع قوله{لتبين} لأن محله نصب. ومجاز الكلام: وما أنزلنا عليك الكتاب إلا تبيانا للناس. }وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} أي رشدا ورحمة للمؤمنين.
الآية رقم ( 65 )
{والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون}
قوله تعالى{والله أنزل من السماء} أي السحاب. }ماء فأحيا به الأرض بعد موتها} عاد الكلام إلى تعداد النعم وبيان كمال القدرة. }إن في ذلك لآية} أي دلالة على البعث على وحدانيته؛ إذ علموا أن معبودهم لا يستطيع شيئا، فتكون هذه الدلالة. }لقوم يسمعون} عن الله تعالى بالقلوب لا بالآذان؛ }فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}الحج: 46].
الآية رقم ( 66 )
{وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين}
قوله تعالى{وإن لكم في الأنعام لعبرة} قد تقدم القول في الأنعام، وهي هنا الأصناف الأربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز. }لعبرة} أي دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته. والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة، ومنه }فاعتبروا}الحشر: 2]. وقال أبو بكر الوراق: العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، وتمردك على ربك وخلافك له في كل شيء. ومن أعظم العبر بريء يحمل مذنبا.
قوله تعالى{نسقيكم} قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بفتح النون من سقى يسقي. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة. قيل: هما لغتان. وقال لبيد:
سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال
وقيل: يقال لما كان من يدك إلى فيه سقيته، فإذا جعلت له شرابا أو عرضته لأن يشرب بفيه أو يزرعه قلت أسقيته؛ قال ابن عزيز، وقد تقدم. وقرأت فرقة }تسقيكم} بالتاء، وهي ضعيفة، يعني الأنعام. وقرئ بالياء، أي يسقيكم الله عز وجل. والقراء على القراءتين المتقدمتين؛ ففتح النون لغة قريش وضمها لغة حمير.
قوله تعالى{مما في بطونه} اختلف الناس في الضمير من قوله{مما في بطونه} على ماذا يعود. فقيل: هو عائد إلى ما قبله وهو جمع المؤنث. قال سيبويه: العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد. قال ابن العربي: وما أراه عول عليه إلا من هذه الآية، وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه. وقيل: لما كان لفظ الجمع وهو اسم الجنس يذكر ويؤنث فيقال: هو الأنعام وهي الأنعام، جاز عود الضمير بالتذكير؛ وقال الزجاج، وقال الكسائي: معناه مما في بطون ما ذكرناه، فهو عائد على المذكور؛ وقد قال الله تعالى{إنها تذكرة، فمن شاء ذكره}عبس: 11 - 12] وقال الشاعر:
مثل الفراخ نتفت حواصله
ومثله كثير. وقال الكسائي{مما في بطونه} أي مما في بطون بعضه؛ إذ الذكور لا ألبان لها، وهو الذي عول عليه أبو عبيدة. وقال الفراء: الأنعام والنعم واحد، والنعم يذكر، ولهذا تقول العرب: هذا نعم وارد، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام. قال ابن العربي: إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال{نسقيكم مما في بطونها}المؤمنون: 21] وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاما حسنا. والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رمل يبرين وتيهاء فلسطين.
استنبط بعض العلماء الجلة وهو القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير، أن لبن الفحل يفيد التحريم، وقال: إنما جيء به مذكرا لأنه راجع إلى ذكر النعم؛ لأن اللبن للذكر محسوب، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأن لبن الفحل يحرم حين أنكرته عائشة في حديث أفلح أخي أبي القعيس (فللمرأة السقي وللرجل اللقاح) فجرى الاشتراك فيه بينهما. وقد مضى.
قوله تعالى{من بين فرث ودم لبنا خالصا} نبه سبحانه على عظيم قدرته بخروج اللبن خالصا بين الفرث والدم. والفرث: الزبل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج لم يسم فرثا. يقال: أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. والمعنى: أن الطعام يكون فيه ما في الكرش ويكون منه الدم، ثم يخلص اللبن من الدم؛ فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك وبين الدم في العروق. وقال ابن عباس: إن الدابة تأكل العلف فإذا استقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما، والكبد مسلط على هذه الأصناف فتقسم الدم وتميزه وتجريه في العروق، وتجري اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكرش؛ }حكمة بالغة فما تغن النذر}القمر:5]. }خالصا} يريد من حمرة الدم وقذارة الفرث وقد جمعهما وعاء واحد. وقال ابن بحر: خالصا بياضه. قال النابغة:
بخالصة الأردان خضر المناكب
أي بيض الأكمام. وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شيء بالمصلحة.
قال النقاش: في هذا دليل على أن المني ليس بنجس. وقاله أيضا غيره واحتج بأن قال: كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا كذلك يجوز أن يخرج المني على مخرج البول طاهرا. قال ابن العربي: إن هذا لجهل عظيم وأخذ شنيع. اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ليكون عبرة، فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة؛ وليس المني من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به أو مقيسا عليه.
قلت: قد يعارض هذا بأن يقال: وأي منة أعظم وأرفع من خروج المني الذي يكون عنه الإنسان المكرم؛ وقد قال تعالى{يخرج من بين الصلب والترائب}الطارق: 7]، وقال{والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة}النحل: 72] وهذا غاية في الامتنان. فإن قيل: إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول، قلنا: هو ما أردناه، فالنجاسة عارضة وأصله طاهر؛ وقد قيل: إن مخرجه غير مخرج البول وخاصة المرأة؛ فإن مدخل الذكر منها ومخرج الولد غير مخرج البول على ما قال العلماء. فإن قيل: أصله دم فهو نجس، قلنا ينتقض بالمسك، فإن أصله دم وهو طاهر. وممن قال بطهارته الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفري. قال الشافعي: فإن لم يفرك فلا بأس به. وكان سعد بن أبي وقاص يفرك المني من ثوبه. وقال ابن عباس: هو كالنخامة أمطه عنك بإذخرة وامسحه بخرقة. فإن قيل: فقد ثبت عن عائشة أنها قالت: كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه. قلنا: يحتمل أن تكون غسلته استقذارا كالأشياء التي تزال من الثوب كالنجاسة، ويكن هذا جمعا بين الأحاديث. والله أعلم. وقال مالك وأصحابه والأوزاعي: هو نجس. قال مالك: غسل الاحتلام من الثوب أمر واجب مجتمع عليه عندنا، وهو قول الكوفيين. ويروى عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وجابر بن سمرة أنهم غسلوه من ثيابهم. واختلف فيه عن ابن عمر وعائشة. وعلى هذين القولين في نجاسة المني وطهارته التابعون.
في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره، فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به؛ لأنه مانع طاهر حصل في وعاء نجس، وذلك أن ضرع الميتة نجس واللبن طاهر فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس. فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه، فمن قال: إن الإنسان طاهر حيا وميتا فهو طاهر. ومن قال: ينجس بالموت فهو نجس. وعلى القولين جميعا تثبت الحرمة؛ لأن الصبي قد يغتذي به كما يغتذي من الحية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم). ولم يخص.
قوله تعالى{سائغا للشاربين} أي لذيذا هينا لا يغص به من شربه. يقال: ساغ الشراب يسوغ سوغا أي سهل مدخله في الحلق، وأساغه شاربه، وسغته أنا أسيغه وأسوغه، يتعدى، والأجود أسغته إساغة. يقال: أسغ لي غصتي أي أمهلني ولا تعجلني؛ وقال تعالى{يتجرعه ولا يكاد يسيغه}إبراهيم: 17]. والسواغ - بكسر السين - ما أسغت به غصتك. يقال: الماء سواغ الغصص؛ ومنه قول الكميت:
فكانت سواغا أن جئزت بغصة
وروي أن اللبن لم يَشرَق به أحد قط، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
في هذه الآية دليل على استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها، ولا يقال: إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده، لكن إذا كان من وجهه ومن غير سرف ولا إكثار. وفي الصحيح عن أنس قال: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشراب كله: العسل والنبيذ واللبن والماء. وقد كره القراء أكل الفالوذج واللبن من الطعام، وأباحه عامة العلماء. وروي عن الحسن أنه كان على مائدة ومعه مالك بن دينار، فأتى بفالوذج فامتنع عن أكله، فقال له الحسن: كل فإن عليك في الماء البارد أكثر من هذا.
روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه. وإذا سقي لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يجزي عن الطعام والشراب إلا اللبن). قال علماؤنا: فكيف لا يكون ذلك وهو أول ما يغتذي به الإنسان وتنمي به الجثث والأبدان، فهو قوت خلي عن المفاسد به قوام الأجسام، وقد جعله الله تعالى علامة لجبريل على هداية هذه الأمة التي هي خير الأمم أمة؛ فقال في الصحيح: (فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال لي جبريل اخترت الفطرة أما إنك لو اخترت الخمر غوت أمتك). ثم إن في الدعاء بالزيادة منه علامة الخصب وظهور الخيرات والبركات؛ فهو مبارك كله.
الآية رقم ( 67 )
{ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون}
قوله تعالى{ومن ثمرات النخيل} قال الطبري: التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون؛ فحذف }ما} ودل على حذفه قوله{منه}. وقيل: المحذوف شيء، والأمر قريب. وقيل: معنى }منه} أي من المذكور، فلا يكون في الكلام حذف وهو أولى. ويجوز أن يكون قوله{ومن ثمرات} عطفا على }الأنعام}؛ أي ولكم من ثمرات النخيل والأعناب عبرة. ويجوز أن يكون معطوفا على }مما} أي ونسقيكم أيضا مشروبات من ثمرات. }سكرا} السكر ما يسكر؛ هذا هو المشهور في اللغة. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر. وأراد بالسكر الخمر، وبالرزق الحسن جميع ما يؤكل ويشرب حلالا من هاتين الشجرتين. وقال بهذا القول ابن جبير والنخعي والشعبي وأبو ثور. وقد قيل: إن السكر الخل بلغة الحبشة، والرزق الحسن الطعام. وقيل: السكر العصير الحلو الحلال، وسمي سكرا لأنه قد يصير مسكرا إذا بقي، فإذا بلغ الإسكار حرم. قال ابن العربي: أسَدُ هذه الأقوال قول ابن عباس، ويخرج ذلك على أحد معنيين، إما أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر، وإما أن يكون المعنى: أنعم الله عليكم بثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه ما حرم الله عليكم اعتداء منكم، وما أحل لكم اتفاقا أو قصدا إلى منفعة أنفسكم. والصحيح أن ذلك كان قبل تحريم الخمر فتكون منسوخة؛ فإن هذه الآية مكية باتفاق من العلماء، وتحريم الخمر مدني.
قلت: فعلى أن السكر الخمر أو العصير الحلو لا نسخ، وتكون الآية محكمة وهو حسن. قال ابن عباس: الحبشة يسمون الخل السكر، إلا أن الجمهور على أن السكر الخمر، منهم ابن مسعود وابن عمر وأبو رزين والحسن ومجاهد وابن أبي ليلى والكلبي وغيرهم ممن تقدم ذكرهم، كلهم قالوا: السكر ما حرمه الله من ثمرتيهما. وكذا قال أهل اللغة: السكر اسم للخمر وما يسكر، وأنشدوا:
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم المزاء والسكر
والرزق الحسن: ما أحله الله من ثمرتيهما. وقيل: إن قوله }تتخذون منه سكرا} خبر معناه الاستفهام بمعنى الإنكار، أي أتتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا الخل والزبيب والتمر؛ كقوله{فهم الخالدون}الأنبياء: 34] أي أفهم الخالدون. والله أعلم. وقال أبو عبيدة: السكر الطعم؛ يقال: هذا سكر لك أي طعم. وأنشد:
جعلت عيب الأكرمين سكرا
أي جعلت ذمهم طعما. وهذا اختيار الطبري أن السكر ما يطعم من الطعام وحل شربه من ثمار النخيل والأعناب، وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف والمعنى واحد؛ مثل }إنما أشكو بثي وحزني إلى الله}يوسف: 86] وهذا حسن ولا نسخ، إلا أن الزجاج قال: قول أبي عبيدة هذا لا يعرف، وأهل التفسير على خلافه، ولا حجة له في البيت الذي أنشده؛ لأن معناه عند غيره أنه يصف أنها تتخمر بعيوب الناس. وقال الحنفيون: المراد بقوله{سكرا} ما لا يسكر من الأنبذة؛ والدليل عليه أن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك، ولا يقع الامتنان إلا بمحلل لا بمحرم، فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ، فإذا انتهى إلى السكر لم يجز، وعضدوا هذا من السنة بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حرم الله الخمر بعينها والسكر من غيرها). وبما رواه عبدالملك بن نافع عن ابن عمر قال: رأيت رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند الركن، ودفع إليه القدح فرفعه إلى فيه فوجده شديدا فرده إلى صاحبه، فقال له حينئذ رجل من القوم: يا رسول الله، أحرام هو؟ فقال: (علي بالرجل) فأتى به فأخذ منه القدح، ثم دعا بماء فصبه فيه ثم رفعه إلى فيه فقطب، ثم دعا بماء أيضا فصبه فيه ثم قال: (إذا اغتلمت عليكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء). وروي أنه عليه السلام كان ينبذ له فيشربه ذلك اليوم، فإذا كان من اليوم الثاني أو الثالث سقاه الخادم إذا تغير، ولو كان حراما ما سقاه إياه. قال الطحاوي: وقد روى أبو عون الثقفي عن عبدالله بن شداد عن ابن عباس قال: حرمت الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر من كل شراب، خرجه الدارقطني أيضا. ففي هذا الحديث وما كان مثله، أن غير الخمر لم تحرم عينه كما حرمت الخمر بعينها. قالوا: والخمر شراب العنب لا خلاف فيها، ومن حجتهم أيضا ما رواه شريك بن عبدالله، حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن عمرو بن ميمون قال قال عمر بن الخطاب: إنا نأكل لحوم هذه الإبل وليس يقطعه في بطوننا إلا النبيذ. قال شريك: ورأيت الثوري يشرب النبيذ في بيت حبر أهل زمانه مالك بن مغول. والجواب أن قولهم: إن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده ولا يكون امتنانه إلا بما أحل فصحيح؛ بيد أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر كما بيناه فيكون منسوخا كما قدمناه. قال ابن العربي: إن قيل كيف ينسخ هذا وهو خبر والخبر لا يدخله النسخ، قلنا: هذا كلام من لم يتحقق الشريعة، وقد بينا أن الخبر إذا كان عن الوجود الحقيقي أو عن إعطاء ثواب فضلا من الله فهو الذي لا يدخله النسخ، فأما إذا تضمن الخبر حكما شرعيا فالأحكام تتبدل وتنسخ، جاءت بخبر أو أمر، ولا يرجع النسخ إلى نفس اللفظ وإنما يرجع إلى ما تضمنه، فإذا فهمتم هذا خرجتم عن الصنف الغبي الذي أخبر الله عن الكفار فيه بقوله{وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون}النحل: 101]. المعنى أنهم جهلوا أن الرب يأمر بما يشاء ويكلف ما يشاء، ويرفع من ذلك بعدل ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب.
قلت: هذا تشنيع شنيع حتى يلحق فيه العلماء الأخيار في قصور الفهم بالكفار، والمسألة أصولية، وهي أن الأخبار عن الأحكام الشرعية هل يجوز نسخها أم لا؟ اختلف في ذلك، والصحيح جوازه لهذه الآية وما كان مثلها، ولأن الخبر عن مشروعية حكم ما يتضمن طلب ذلك المشروع، وذلك الطلب هو الحكم الشرعي الذي يستدل على نسخه. والله أعلم. وأما ما ذكروا من الأحاديث فالأول والثاني ضعيفان؛ لأنه عليه السلام قد روي عنه بالنقل الثابت أنه قال: (كل شراب أسكر فهو حرام) وقال: (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام) وقال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام). قال النسائي: وهؤلاء أهل الثبت والعدالة مشهورون بصحة النقل، وعبدالملك لا يقوم مقام واحد منهم ولو عاضده من أشكاله جماعة، وبالله التوفيق. وأما الثالث وإن كان صحيحا فإنه ما كان يسقيه للخادم على أنه مسكر، وإنما كان يسقيه لأنه متغير الرائحة. وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه الرائحة، فلذلك لم يشربه، ولذلك تحيل عليه أزواجه في عسل زبيب بأن قيل له: إنا نجد منك ريح مغافير، يعني ريحا منكرة، فلم يشربه بعد. وسيأتي في التحريم. وأما حديث ابن عباس فقد روي عنه خلاف ذلك من رواية عطاء وطاوس ومجاهد أنه قال: ما أسكر كثيره فقليله حرام، ورواه عنه قيس بن دينار. وكذلك فتياه في المسكر؛ قاله الدارقطني. والحديث الأول رواه عنه عبدالله بن شداد وقد خالفه الجماعة، فسقط القول به مع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما ما روي عن عمر من قوله: ليس يقطعه في بطوننا إلا النبيذ، فإنه يريد غير المسكر بدليل ما ذكرنا. وقد روى النسائي عن عتبة بن فرقد قال: كان النبيذ الذي شربه عمر بن الخطاب قد خلل. قال النسائي: ومما يدل على صحة هذا حديث السائب، قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن القاسم: حدثني مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد، أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال: إني وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شراب الطلاء، وأنا سائل عما شرب، فإن كان مسكرا جلدته، فجلده عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحد تاما. وقد قال في خطبته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بعد، أيها الناس فإنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب والعسل والتمر والحنطة والشعير. والخمر ما خامر العقل. وقد تقدم في }المائدة}.
فإن قيل: فقد أحل شربه إبراهيم النخعي وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه، وكان سفيان الثوري يشربه. قلنا: ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي، وهذه زلة من عالم وقد حذرنا من زلة العالم، ولا حجة في قول أحد مع السنة. وذكر النسائي أيضا عن ابن المبارك قال: ما وجدت الرخصة في المسكر عن أحد صحيحا إلا عن إبراهيم. قال أبو أسامة: ما رأيت رجلا أطلب للعلم من عبدالله بن المبارك الشامات ومصر واليمن والحجاز. وأما الطحاوي وسفيان لو صح ذلك عنهما لم يحتج بهما على من خالفهما من الأئمة في تحريم المسكر مع ما ثبت من السنة؛ على أن الطحاوي قد ذكر في كتابه الكبير في الاختلاف خلاف ذلك. قال أبو عمر بن عبدالبر في كتاب التمهيد له: قال أبو جعفر الطحاوي اتفقت الأمة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد فهو خمر ومستحله كافر. واختلفوا في نقيع التمر إذا غلى وأسكر. قال: فهذا يدلك على أن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنب) غير معمول به عندهم؛ لأنهم لو قبلوا الحديث لكفروا مستحل نقيع التمر، فثبت أنه لم يدخل في الخمر المحرمة غير عصير العنب الذي قد اشتد وبلغ أن يسكر. قال: ثم لا يخلو من أن يكون التحريم معلقا بها فقط غير مقيس عليها غيرها أو يجب القياس عليها، فوجدناهم جميعا قد قاسوا عليها نقيع التمر إذا غلى وأسكر كثيره وكذلك نقيع الزبيب. قال: فوجب قياسا على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة. قال: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مسكر حرام) واستغنى عن مسنده لقبول الجميع له، وإنما الخلاف بينهم في تأويله، فقال بعضهم: أراد به جنس ما يسكر. وقال بعضهم: أراد به ما يقع السكر عنده كما لا يسمى قاتلا إلا مع وجود القتل.
قلت: فهذا يدل على أنه محرم عند الطحاوي لقوله، فوجب قياسا على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة. وقد روى الدارقطني في سننه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن الله لم يحرم الخمر لاسمها وإنما حرمها لعاقبتها، فكل شراب يكون عاقبته كعاقبة الخمر فهو حرام كتحريم الخمر. قال ابن المنذر: وجاء أهل الكوفة بأخبار معلولة، وإذا اختلف الناس في الشيء وجب رد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، وما روي عن بعض التابعين أنه شرب الشراب الذي يسكر كثيره فللقوم ذنوب يستغفرون الله منها، وليس يخلو ذلك من أحد معنيين: إما مخطئ أخطأ في التأويل على حديث سمعه، أو رجل أتى ذنبا لعله أن يكثر من الاستغفار لله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم حجة الله على الأولين والآخرين من هذه الأمة. وقد قيل في تأويل الآية: إنها إنما ذكرت للاعتبار، أي من قدر على خلق هذه الأشياء قادر على البعث، وهذا الاعتبار لا يختلف بأن كانت الخمر حلالا أو حراما، فاتخاذ السكر لا يدل على التحريم، وهو كما قال تعالى{قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس}البقرة: 219]. والله أعلم.
الآية رقم ( 68 )
{وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون}
قوله تعالى{وأوحى ربك إلى النحل} قد مضى القول في الوحي وأنه قد يكون بمعنى الإلهام، وهو ما يخلقه الله تعالى في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر، وهو من قوله تعالى{ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها}الشمس: 7 - 8]. ومن ذلك البهائم وما يخلق الله سبحانه فيها من درك منافعها واجتناب مضارها وتدبير معاشها. وقد أخبر عز وجل بذلك عن الموت فقال{تحدث أخبارها. بأن ربك أوحى لها}الزلزلة: 4 - 5]. قال إبراهيم الحربي. لله عز وجل في الموات قدرة لم يدر ما هي، لم يأتها رسول من عند الله ولكن الله تعالى عرفها ذلك؛ أي ألهمها. ولا خلاف بين المتأولين أن الوحي هنا بمعنى الإلهام. وقرأ يحيى بن وثاب }إلى النحل} بفتح الحاء. وسمي نحلا لأن الله عز وجل نحله العسل الذي يخرج منه؛ قاله الزجاج. الجوهري: والنحل والنحلة الدّبّر يقع على الذكر والأنثى، حتى يقال: يعسوب. والنحل يؤنث في لغة أهل الحجاز، وكل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء. وروي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الذبان كلها في النار يجعلها عذابا لأهل النار إلا النحل) ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وروي عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد، خرجه أبو داود أيضا، وسيأتي في }النمل} إن شاء الله تعالى. }أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر} هذا إذا لم يكن لها مالك. وجعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع، إما في الجبال وكواها، وإما في متجوف الأشجار، وإما فيما يعرش ابن آدم من الإجباح والخلايا والحيطان وغيرها. وعرش معناه هنا هيأ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من إتقان الأغصان والخشب وترتيب ظلالها؛ ومنه العريش الذي صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، ومن هذا لفظة العرش. يقال: عرش يعرش ويعرش (1)، وقرئ بهما. قرأ ابن عامر بالضم وسائرهم بالكسر، واختلف في ذلك عن عاصم.
قال ابن العربي: ومن عجيب ما خلق الله في النحل أن ألهمها لاتخاذ بيوتها مسدسة، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة، وذلك أن الأشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل وجاءت بينهما فرج، إلا الشكل المسدس؛ فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل كأنه كالقطعة الواحدة.
الآية رقم ( 69 )
{ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون}
قوله تعالى{ثم كلي من كل الثمرات} وذلك أنها إنما تأكل النوار من الأشجار. }فاسلكي سبل ربك} أي طرق ربك. والسبل: الطرق، وأضافها إليه لأنه خالقها. أي ادخلي طرق ربك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر. }ذللا} جمع ذلول وهو المنقاد؛ أي مطيعة مسخرة. فـ }ذللا} حال من النحل. أي تنقاد وتذهب حيث شاء صاحبها؛ لأنها تتبع أصحابها حيث ذهبوا؛ قاله ابن زيد. وقيل: المراد بقوله }ذللا} السبل. يقول: مذلل طرقها سهلة للسلوك عليها؛ واختاره الطبري، و}ذللا} حال من السبل. واليعسوب سيد النحل، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت.
قوله تعالى{يخرج من بطونها شراب} رجع الخطاب إلى الخبر على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة فقال{يخرج من بطونها شراب} يعني العسل. وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل؛ وورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في تحقيره للدنيا: أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه رجيع نحلة. فظاهر هذا أنه من غير الفم. وبالجملة فإنه يخرج ولا يدرى من فيها أو أسفلها، ولكن لا يتم صلاحه إلا بحمي أنفاسها. وقد صنع أرسطاطاليس بيتا من زجاج لينظر إلى كيفية ما تصنع، فأبت أن تعمل حتى لطخت باطن الزجاج بالطين؛ ذكره الغزنوي. وقال{من بطونها} لأن استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطن.
قوله تعالى{مختلف ألوانه} يريد أنواعه من الأحمر والأبيض والأصفر والجامد والسائل، والأم واحدة والأولاد مختلفون دليل على أن القدرة نوعته بحسب تنويع الغذاء، كما يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي؛ ومن هذا المعنى قول زينب للنبي صلى الله عليه وسلم: (جرست نحله العرفط) حين شبهت رائحته برائحة المغافير.
قوله تعالى{فيه شفاء للناس} الضمير للعسل؛ قال الجمهور. أي في العسل شفاء للناس. وروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك والفراء وابن كيسان: الضمير للقرآن؛ أي في القرآن شفاء. النحاس: وهذا قول حسن؛ أو فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس. وقيل: العسل فيه شفاء، وهذا القول بين أيضا؛ لأن أكثر الأشربة والمعجونات التي يتعالج بها أصلها من العسل. قال القاضي أبو بكر بن العربي: من قال إنه القرآن بعيد ما أراه يصح عنهم، ولو صح نقلا لم يصح عقلا؛ فإن مساق الكلام كله للعسل، ليس للقرآن فيه ذكر. قال ابن عطية: وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية يراد بها أهل البيت وبنو هاشم، وأنهم النحل، وأن الشراب القرآن والحكمة، وقد ذكر هذا بعضهم في مجلس المنصور أبي جعفر العباسي، فقال له رجل ممن حضر: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم، فأضحك الحاضرين وبهت الآخر وظهرت سخافة قوله.
اختلف العلماء في قوله تعالى{فيه شفاء للناس} هل هو على عمومه أم لا؛ فقالت طائفة: هو على العموم في كل حال ولكل أحد، فروي عن ابن عمر أنه كان لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا، حتى الدمل إذا خرج عليه طلى عليه عسلا. وحكى النقاش عن أبي وجرة أنه كان يكتحل بالعسل ويستمشي بالعسل ويتداوى بالعسل. وروي أن عوف بن مالك الأشجعي مرض فقيل له: ألا نعالجك؟ فقال: ائتوني بالماء، فإن الله تعالى يقول{ونزلنا من السماء ماء مباركا}ق: 9] ثم قال: ائتوني بعسل، فإن الله تعالى يقول{فيه شفاء للناس} وائتوني بزيت، فإن الله تعالى يقول{من شجرة مباركة}النور: 35] فجاؤوه بذلك كله فخلطه جميعا ثم شربه فبرئ. ومنهم من قال: إنه على العموم إذا خلط بالخل ويطبخ فيأتي شرابا ينتفع به في كل حالة من كل داء. وقالت طائفة: إن ذلك على الخصوص ولا يقتضي العموم في كل علة وفي كل إنسان، بل إنه خبر عن أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في بعض وعلى حال دون حال؛ ففائدة الآية إخبار منه في أنه دواء لما كثر الشفاء به وصار خليطا ومعينا للأدوية في الأشربة والمعاجين؛ وليس هذا بأول لفظ خصص فالقرآن مملوء منه ولغة العرب يأتي فيها العام كثيرا بمعنى الخاص والخاص بمعنى العام. ومما يدل على أنه ليس على العموم أن }شفاء} نكرة في سياق الإثبات، ولا عموم فيها باتفاق أهل اللسان ومحققي أهل العلم ومختلقي أهل الأصول. لكن قد حملته طائفة من أهل الصدق والعزم على العموم. فكانوا يستشفون بالعسل من كل الأوجاع والأمراض، وكانوا يشفون من عللهم ببركة القرآن وبصحة التصديق والإيقان. ابن العربي: ومن ضعفت نيته وغلبته على الدين عادته أخذه مفهوما على قول الأطباء، والكل من حكم الفعال لما يشاء.
إن قال قائل: قد رأينا من ينفعه العسل ومن يضره، فكيف يكون شفاء للناس؟ قيل له: الماء حياة كل شيء وقد رأينا من يقتله الماء إذا أخذه على ما يضاده من علة في البدن، وقد رأينا شفاء العسل في أكثر هذه الأشربة؛ قال معناه الزجاج. وقد اتفق الأطباء عن بكرة أبيهم على مدح عموم منفعة السكنجبين في كل مرض، وأصله العسل وكذلك سائر المعجونات، على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حسم داء الإشكال وأزاح وجه الاحتمال حين أمر الذي يشتكي بطنه بشرب العسل، فلما أخبره أخوه بأنه لم يزده إلا استطلاقا أمره بعود الشراب له فبرئ؛ وقال: (صدق الله وكذب بطن أخيك).
اعترض بعض زنادقة الأطباء على هذا الحديث فقال: قد أجمعت الأطباء على أن العسل يُسهِل فكيف يوصف لمن به الإسهال؛ فالجواب أن ذلك القول حق في نفسه لمن حصل له التصديق بنبيه عليه السلام، فيستعمله على الوجه الذي عينه وفي المحل الذي أمره بعقد نية وحسن طوية، فإنه يرى منفعته ويدرك بركته، كما قد اتفق لصاحب هذا العسل وغيره كما تقدم. وأما ما حكي من الإجماع فدليل على جهله بالنقل حيث لم يقيد وأطلق. قال الإمام أبو عبدالله المازري: ينبغي أن يعلم أن الإسهال يعرض من ضروب كثيرة، منها الإسهال الحادث عن التخم والهيضات؛ والأطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه بأن يترك للطبيعة وفعلها، وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية، فأما حبسها فضرر، فإذا وضح هذا قلنا: فيمكن أن يكون ذلك الرجل أصابه الإسهال عن امتلاء وهيضة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بشرب العسل فزاده إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال فوافقه شرب العسل. فإذا خرج هذا عن صناعة الطب أذِن ذلك بجهل المعترض بتلك الصناعة. قال: ولسنا نستظهر على قول نبينا بأن يصدقه الأطباء بل لو كذبوه لكذبناهم ولكفرناهم وصدقناه صلى الله عليه وسلم؛ فإن أوجدونا بالمشاهدة صحة ما قالوه فنفتقر حينئذ إلى تأويل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخريجه على ما يصح إذ قامت الدلالة على أنه لا يكذب.
في قوله تعالى{فيه شفاء للناس} دليل على جواز التعالج بشرب الدواء وغير ذلك خلافا لمن كره ذلك من جلة العلماء، وهو يرد على الصوفية الذين يزعمون أن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل به من البلاء، ولا يجوز له مداواة. ولا معنى لمن أنكر ذلك، روى الصحيح عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لكل داء دواء فإذا أصاب دواء الداء برأ بإذن الله). وروى أبو داود والترمذي عن أسامة بن شريك قال قالت الأعراب: ألا نتداوى يا رسول الله؟ قال: (نعم. يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحد) قالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال: (الهرم) لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وروي عن أبي خزامة عن أبيه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: (هي من قدر الله) قال: حديث حسن، ولا يعرف لأبي خزامة غير هذا الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة من عسل أو لذعة بنار وما أحب أن أكتوي) أخرجه الصحيح. والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصى. وعلى إباحة التداوي والاسترقاء جمهور العلماء. روي أن ابن عمر اكتوى من اللقوة ورقي من العقرب. وعن ابن سيرين أن ابن عمر كان يسقي ولده الترياق. وقال مالك: لا بأس بذلك. وقد احتج من كره ذلك بما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دخلت أمة بقضها وقضيضها الجنة كانوا لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون). قالوا: فالواجب على المؤمن أن يترك ذلك اعتصاما بالله وتوكلا عليه وثقة به وانقطاعا إليه؛ فإن الله تعالى قد علم أيام المرض وأيام الصحة فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا؛ قال الله تعالى{ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها}الحديد: 22]. وممن ذهب إلى هذا جماعة من أهل الفضل والأثر، وهو قول ابن مسعود وأبي الدرداء رضوان الله عليهم. دخل عثمان بن عفان على ابن مسعود في مرضه الذي قبض فيه فقال له عثمان: ما تشتكي؟ قال ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال رحمة ربي. قال: ألا أدعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني... وذكر الحديث. وسيأتي بكماله في فضل الواقعة إن شاء الله تعالى. وذكر وكيع قال: حدثنا أبو هلال عن معاوية بن قرة قال: مرض أبو الدرداء فعادوه وقالوا: ألا ندعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أضجعني. وإلى هذا ذهب الربيع بن خيثم. وكره سعيد بن جبير الرقى. وكان الحسن يكره شرب الأدوية كلها إلا اللبن والعسل. وأجاب الأولون عن الحديث بأنه لا حجة فيه، لأنه يحتمل أن يكون قصد إلى نوع من الكي مكروه بدليل كي النبي صلى الله عليه وسلم أبيا يوم الأحزاب على أكحله لما رمي. وقال: (الشفاء في ثلاثة) كما تقدم. ويحتمل أن يكون قصد إلى الرقى بما ليس في كتاب الله، وقد قال سبحانه وتعالى{وننزل من القرآن ما هو شفاء}الإسراء: 82] على ما يأتي بيانه. ورقى أصحابه وأمرهم بالرقية؛ على ما يأتي بيانه.
ذهب مالك وجماعة أصحابه إلى أن لا زكاة في العسل وإن كان مطعوما مقتاتا. واختلف فيه قول الشافعي، والذي قطع به في قوله الجديد: أنه لا زكاة فيه. وقال أبو حنيفة بوجوب زكاة العسل في قليله وكثيره؛ لأن النصاب عنده فيه ليس بشرط. وقال محمد بن الحسن: لا شيء فيه حتى يبل ثمانية أفراق، والفرق ستة وثلاثون رطلا من أرطال العراق. وقال أبو يوسف: في كل عشرة أزقاق زق؛ متمسكا بما رواه الترمذي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في العسل في كل عشرة أزقاق زق) قال أبو عيسى: في إسناده مقال، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كبير شيء، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم: ليس في العسل شيء.
قوله تعالى{إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} أي يعتبرون؛ ومن العبرة في النحل بإنصاف النظر وإلطاف الفكر في عجيب أمرها. فيشهد اليقين بأن ملهمها الصنعة اللطيفة مع البنية الضعيفة، وحذقها باحتيالها في تفاوت أحوالها هو الله سبحانه وتعالى؛ كما قال{وأوحى ربك إلى النحل}النحل: 68] الآية. ثم أنها تأكل الحامض والمر والحلو والمالح والحشائش الضارة، فيجعله الله تعالى عسلا حلوا وشفاء، وفي هذا دليل على قدرته.
الآية رقم ( 70 )
{والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير}
قوله تعالى{والله خلقكم ثم يتوفاكم} بين معناه. }ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} يعني أردأه وأوضعه. وقيل: الذي ينقص قوته وعقله ويصيره إلى الخرف ونحوه. وقال ابن عباس: يعني إلى أسفل العمر، يصير كالصبي الذي لا عقل له؛ والمعنى متقارب. وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الكسل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من الهرم وأعوذ بك من البخل). وفي حديث سعد بن أبي وقاص (وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر) الحديث. خرجه البخاري. }لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير} أي يرجع إلى حالة الطفولية فلا يعلم ما كان يعلم قبل من الأمور لفرط الكبر. وقد قيل: هذا لا يكون للمؤمن، لأن المؤمن لا ينزع عنه علمه. وقيل: المعنى لكيلا يعمل بعد علم شيئا؛ فعبر عن العمل بالعلم لافتقاره إليه؛ لأن تأثير الكبر في عمله أبلغ من تأثيره في علمه. والمعنى المقصود الاحتجاج على منكري البعث، أي الذي رده إلى هذه الحال قادر على أن يميته ثم يحييه.
الآية رقم ( 71 )
{والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون}
قوله تعالى{والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} أي جعل منكم غنيا وحرا وعبدا. }فما الذين فضلوا} أي في الرزق. }برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم} أي لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق شيئا حتى يستوي المملوك والمالك في المال. وهذا مثل ضربه الله لعبدة الأصنام، أي إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء فكيف تجعلون عبيدي معي سواء؛ فلما لم يكن يشركهم عبيدهم في أموالهم لم يجز لهم أن يشاركوا الله تعالى في عبادة غيره من الأوثان والأنصاب وغيرهما مما عبد؛ كالملائكة والأنبياء وهم عبيده وخلقه. حكى معناه الطبري، وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم. وعن ابن عباس أيضا أنها نزلت في نصارى نجران حين قالوا عيسى ابن الله فقال الله لهم }فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم} أي لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق حتى يكون المولى والعبد في المال شرعا سواء، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم فتجعلون لي ولدا من عبيدي. ونظيرها }ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء}الروم: 28] على ما يأتي. ودل هذا على أن العبد لا يملك، على ما يأتي أنفا.
الآية رقم ( 72 )
{والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون}
قوله تعالى{والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا} جعل بمعنى خلق }من أنفسكم أزواجا} يعني آدم خلق منه حواء. وقيل: المعنى جعل لكم من أنفسكم، أي من جنسكم ونوعكم وعلى خلقتكم؛ كما قال{لقد جاءكم رسول من أنفسكم}التوبة: 128] أي من الآدميين. وفي هذا رد على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوج الجن وتباضعها، حتى روي أن عمرو بن هند تزوج منهم غولا وكان يخبؤها عن البرق لئلا تراه فتنفر، فلما كان في بعض الليالي لمع البرق وعاينته السعلاة فقالت: عمرو ونفرت، فلم يرها أبدا. وهذا من أكاذيبها، وإن كان جائزا في حكم الله وحكمته فهو رد على الفلاسفة الذين ينكرون وجود الجن ويحيلون طعامهم. }أزواجا} زوج الرجل هي ثانيته، فإنه فرد فإذا انضافت إليه كانا زوجين، وإنما جعلت الإضافة إليه دونها لأنه أصلها في الوجود كما تقدم.
قوله تعالى{وجعل لكم من أزواجكم بنين} ظاهر في تعديد النعمة في الأبناء، ووجود الأبناء يكون منهما معا؛ ولكنه لما كان خلق المولود فيها وانفصاله عنها أضيف إليها، ولذلك تبعها في الرق والحرية وصار مثلها في المالية. قال ابن العربي: سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء علي بن عقيل يقول: إنما تبع الولد الأم في المالية وصار بحكمها في الرق والحرية؛ لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ولا مالية فيه ولا منفعة، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها فلأجل ذلك تبعها. كما لو أكل رجل تمرا في أرض رجل وسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة لأنها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها.
قوله تعالى{وحفدة} روى ابن القاسم عن مالك قال وسألته عن قوله تعالى{بنين وحفدة} قال: الحفدة الخدم والأعوان في رأيي. وروي عن ابن عباس في قوله تعالى{وحفدة} قال هم الأعوان، من أعانك فقد حفدك. قيل له: فهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم وتقول أو ما سمعت قول الشاعر:
حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأجمال
أي أسرعن الخدمة. والولائد: الخدم، الواحدة وليدة؛ قال الأعشى:
كلفت مجهولها نوقا يمانية إذا الحداة على أكسائها حفدوا
أي أسرعوا. وقال ابن عرفة: الحفدة عند العرب الأعوان، فكل من عمل عملا أطاع فيه وسارع فهو حافد، قال: ومنه قولهم إليك نسعى ونحفد، والحفدان السرعة. قال أبو عبيد: الحفد العمل والخدمة. وقال الخليل بن أحمد: الحفدة عند العرب الخدم، وقاله مجاهد. وقال الأزهري: قيل الحفدة أولاد الأولاد. وروي عن ابن عباس. وقيل الأختان؛ قاله ابن مسعود وعلقمة وأبو الضحاك وسعيد بن جبير وإبراهيم؛ ومنه قول الشاعر:
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت لها حفد ما يعد كثير
ولكنها نفس علي أبية عيوف لإصهار اللئام قذور
وروى زر عن عبدالله قال: الحفدة الأصهار؛ وقاله إبراهيم، والمعنى متقارب. قال الأصمعي: الختن من كان من قبل المرأة، مثل أبيها وأخيها وما أشبههما؛ والأصهار منها جميعا. يقال: أصهر فلان إلى بني فلان وصاهر. وقول عبدالله هم الأختان، يحتمل المعنيين جميعا. يحتمل أن يكون أراد أبا المرأة وما أشبهه من أقربائها، ويحتمل أن يكون أراد وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوجونهن، فيكون لكم بسببهن أختان. وقال عكرمة: الحفدة من نفع الرجال من ولده؛ وأصله من حفد يحفد - بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل - إذا أسرع في سيره؛ كما قال كثير:
حفد الولائد بينهن... البيت
ويقال: حفدت وأحفدت، لغتان إذا خدمت. ويقال: حافد وحفد؛ مثل خادم وخدم، وحافد وحفدة مثل كافر وكفرة. قال المهدوي: ومن جعل الحفدة الخدم جعله منقطعا مما قبله ينوي به التقديم؛ كأنه قال: جعل لكم حفدة وجعل لكم من أزواجكم بنين.
قلت: ما قال الأزهري من أن الحفدة أولاد الأولاد هو ظاهر القرآن بل نصه؛ ألا ترى أنه قال{وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} فجعل الحفدة والبنين منهن. وقال ابن العربي: الأظهر عندي في قوله }بنين وحفدة} أن البنين أولاد الرجل لصلبه والحفدة أولاد ولده، وليس في قوة اللفظ أكثر من هذا، ويكون تقدير الآية على هذا: وجعل لكم من أزواجكم بنين ومن البنين حفدة. وقال معناه الحسن.
إذا فرعنا على قول مجاهد وابن عباس ومالك وعلماء اللغة في قولهم إن الحفدة الخدم والأعوان، فقد خرجت خدمة الولد والزوجة من القرآن بأبدع بيان؛ قاله ابن العربي. روي البخاري وغيره عن سهل بن سعد أن أبا أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعرسه فكانت امرأته خادمهم... الحديث، وفي الصحيح عن عائشة قالت: أنا فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم بيدي. الحديث. ولهذا قال علماؤنا: عليها أن تفرش الفراش وتطبخ القدر وتقم الدار، بحسب حالها وعادة مثلها؛ قال الله تعالى{وجعل منها زوجها ليسكن إليها}الأعراف: 189] فكأنه جمع لنا فيها السكن والاستمتاع وضربا من الخدمة بحسب جري العادة.
ويخدم الرجل زوجته فيما خف من الخدمة ويعينها، لما روته عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكون في مهنة أهله فإذا سمع الأذان خرج. وهذا قول مالك: ويعينها. وفي أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخصف النعل ويقم البيت ويخيط الثوب. وقالت عائشة وقد قيل لها: ما كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: كان بشرا من البشر يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه.
وينفق على خادمة واحدة، وقيل على أكثر؛ على قدر الثروة والمنزلة. وهذا أمر دائر على العرف الذي هو أصل من أصول الشريعة، فإن نساء الأعراب وسكان البوادي يخدمن أزواجهن في استعذاب الماء وسياسة الدواب، ونساء الحواضر يخدم المقل منهم زوجته فيما خف ويعينها، وأما أهل الثروة فيخدمون أزواجهن ويترفهن معهم إذا كان لهم منصب ذلك؛ فإن كان أمرا مشكلا شرطت عليه الزوجة ذلك، فتشهد أنه قد عرف أنها ممن لا تخدم نفسها فالتزم إخدامها، فينفذ ذلك وتنقطع الدعوى فيه.
قوله تعالى{ورزقكم من الطيبات} أي من الثمار والحبوب والحيوان. }أفبالباطل} يعني الأصنام؛ قال ابن عباس. }يؤمنون} قراءة الجمهور بالياء. وقرأ أبو عبدالرحمن بالتاء. }وبنعمة الله} أي بالإسلام. }هم يكفرون}.
الآية رقم ( 73 : 74 )
{ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون، فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون}
قوله تعالى{ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات} يعني المطر. }والأرض}
يعني النبات. }شيئا} قال الأخفش: هو بدل من الرزق. وقال الفراء: هو منصوب بإيقاع الرزق عليه؛ أي يعبدون ما لا يملك أن يرزقهم شيئا. }ولا يستطيعون} أي لا يقدرون على شيء، يعني الأصنام. }فلا تضربوا لله الأمثال} أي لا تشبهوا به هذه الجمادات؛ لأنه واحد قادر لا مثل له. وقد تقدم.
الآية رقم ( 75 )
{ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون}
قوله تعالى{ضرب الله مثلا} نبه تعالى على ضلالة المشركين، وهو منتظم بما قبله من ذكر نعم الله عليهم وعدم مثل ذلك من آلهتهم. }ضرب الله مثلا} أي بين شبها؛ ثم ذكر ذلك فقال{عبدا مملوكا} أي كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجل حر قد رزق رزقا حسنا فكذلك أنا وهذه الأصنام. فالذي هو مثال في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة مملوك لا يقدر على شيء من المال ولا من أمر نفسه، وإنما هو مسخر بإرادة سيده. ولا يلزم من الآية أن العبيد كلهم بهذه الصفة؛ فإن النكرة في الإثبات لا تقتضي الشمول عند أهل اللسان كما تقدم، وإنما تفيد واحدا، فإذا كانت بعد أمر أو نهي أو مضافة إلى مصدر كانت للعموم الشيوعي؛ كقوله: أعتق رجلا ولا تهن رجلا، والمصدر كإعتاق رقبة، فأي رجل أعتق فقد خرج عن عهدة الخطاب، ويصح منه الاستثناء. وقال قتادة: هذا المثل للمؤمن والكافر؛ فذهب قتادة إلى أن العبد المملوك هو الكافر؛ لأنه لا ينتفع في الآخرة بشيء من عبادته، وإلى أن معنى }ومن رزقناه منا رزقا حسنا} المؤمن. والأول عليه الجمهور من أهل التأويل. قال الأصم: المراد بالعبد المملوك الذي ربما يكون أشد من مولاه أسرا وأنضر وجها، وهو لسيده ذليل لا يقدر إلا على ما أذن له فيه؛ فقال الله تعالى ضربا للمثال. أي فإذا كان هذا شأنكم وشأن عبيدكم فكيف جعلتم أحجارا مواتا شركاء لله تعالى في خلقه وعبادته، وهي لا تعقل ولا تسمع.
فهم المسلمون من هذه الآية ومما قبلها نقصان رتبة العبد عن الحر في الملك، وأنه لا يملك شيئا وإن ملك. قال أهل العراق: الرق ينافي الملك، فلا يملك شيئا البتة بحال، وهو قول الشافعي في الجديد، وبه قال الحسن وابن سيرين. ومنهم من قال: يملك إلا أنه ناقص الملك، لأن لسيده أن ينتزعه منه أي وقت شاء، وهو قول مالك ومن اتبعه، وبه قال الشافعي في القديم. وهو قول أهل الظاهر؛ ولهذا قال أصحابنا: لا تجب عليه عبادات الأموال من زكاة وكفارات، ولا من عبادات الأبدان ما يقطعه عن خدمة سيده كالحج والجهاد وغير ذلك. وفائدة هذه المسألة أن سيده لو ملكه جارية جاز له أن يطأها بملك اليمين، ولو ملكه أربعين من الغنم فحال عليها الحول لم تجب على السيد زكاتها لأنها ملك غيره، ولا على العبد لأن ملكه غير مستقر. والعراقي يقول: لا يجوز له أن يطأ الجارية، والزكاة في النصاب واجبة على السيد كما كانت. ودلائل هذه المسألة للفريقين في كتب الخلاف. وأدل دليل لنا قوله تعالى{الله الذي خلقكم ثم رزقكم}الروم: 40] فسوى بين العبد والحر في الرزق والخلق. وقال عليه السلام: (من أعتق عبدا وله مال...) فأضاف المال إليه. وكان ابن عمر يرى عبده يتسرى في ماله فلا يعيب عليه ذلك. وروي عن ابن عباس أن عبدا له طلق امرأته طلقتين فأمره أن يرتجعها بملك اليمين؛ فهذا دليل على أنه يملك ما بيده ويفعل فيه ما يفعل المالك في ملكه ما لم ينتزعه سيده. والله أعلم.
وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن طلاق العبد بيد سيده، وعلى أن بيع الأمة طلاقها؛ معولا على قوله تعالى{لا يقدر على شيء}. قال: فظاهره يفيد أنه لا يقدر على شيء أصلا، لا على الملك ولا على غيره فهو على عمومه، إلا أن يدل دليل على خلافه. وفيما ذكرناه عن ابن عمر وابن عباس ما يدل على التخصيص. والله تعالى أعلم.
قال أبو منصور في عقيدته: الرزق ما وقع الاغتذاء به. وهذه الآية ترد هذا التخصيص؛ وكذلك قوله تعالى{ومما رزقناهم ينفقون}البقرة: 3]. و}أنفقوا مما رزقناكم}البقرة: 254] وغير ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (جعل رزقي تحت ظل رمحي) وقوله: (أرزاق أمتي في سنابك خيلها وأسنة رماحها). فالغنيمة كلها رزق، وكل ما صح به الانتفاع فهو رزق، وهو مراتب: أعلاها ما يغذي. وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه الانتفاع في قوله: (يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت). وفي معنى اللباس يدخل الركوب وغير ذلك. وفي ألسنة المحدثين: السماع رزق، يعنون سماع الحديث، وهو صحيح.
قوله تعالى{ومن رزقناه منا رزقا حسنا} هو المؤمن، يطيع الله في نفسه وماله. والكافر ما لم ينفق في الطاعة صار كالعبد الذي لا يملك شيئا. }هل يستوون} أي لا يستوون، ولم يقل يستويان لمكان }من} لأنه اسم مبهم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث. وقيل{إن عبدا مملوكا}، }ومن رزقناه} أريد بهما الشيوع في الجنس. }الحمد لله} أي هو مستحق للحمد دون ما يعبدون من دونه؛ إذ لا نعمة للأصنام عليهم من يد ولا معروف فتحمد عليه، إنما الحمد الكامل لله؛ لأنه المنعم الخالق. }بل أكثرهم} أي أكثر المشركين. }لا يعلمون} أن الحمد لي، وجميع النعمة مني. وذكر الأكثر وهو يريد الجميع، فهو خاص أريد به التعميم. وقيل: أي بل أكثر الخلق لا يعلمون، وذلك أن أكثرهم المشركون.
الآية رقم ( 76 )
{وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم}
قوله تعالى{وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم} هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لنفسه وللوثن، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى؛ قاله قتادة وغيره. وقال ابن عباس: الأبكم عبد كان لعثمان رضي الله عنه، وكان يعرض عليه الإسلام فيأبى، ويأمر بالعدل عثمان. وعنه أيضا أنه مثل لأبي بكر الصديق ومولى له كافر. وقيل: الأبكم أبو جهل، والذي يأمر بالعدل عمار بن ياسر العنسي، وعنس }بالنون} حي من مذحج، وكان حليفا لبني مخزوم رهط أبي جهل، وكان أبو جهل يعذبه على الإسلام ويعذب أمه سمية، وكانت مولاة لأبي جهل، وقال لها ذات يوم: إنما آمنت بمحمد لأنك تحبينه لجماله، ثم طعنها بالرمح في قبلها فماتت، فهي أول شهيد مات في الإسلام، رحمها الله. من كتاب النقاش وغيره. وسيأتي هذا في آية الإكراه مبينا إن شاء الله تعالى. وقال عطاء: الأبكم أبي بن خلف، كان لا ينطق بخير. }وهو كل على مولاه} أي قومه لأنه كان يؤذيهم ويؤذي عثمان بن مظعون. وقال مقاتل: نزلت في هشام بن عمرو بن الحارث، كان كافرا قليل الخير يعادي النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن الأبكم الكافر، والذي يأمر بالعدل المؤمن جملة بجملة؛ روى عن ابن عباس وهو حسن لأنه يعم. والأبكم الذي لا نطق له. وقيل الذي لا يعقل. وقيل الذي لا يسمع ولا يبصر. وفي التفسير إن الأبكم ها هنا الوثن. بين أنه لا قدرة له ولا أمر، وأن غيره ينقله وينحته فهو كل عليه. والله الآمر بالعدل، الغالب على كل شيء. }وهو كل على مولاه} أي ثقل على وليه وقرابته، ووبال على صاحبه وابن عمه. وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكفله؛ ومنه قول الشاعر:
أكول لمال الكل قبل شبابه إذا كان عظم الكل غير شديد
والكل أيضا الذي لا ولد له ولا والد. والكل العيال، والجمع الكلول، يقال منه: كل السكين يكل كلا أي غلظت شفرته فلم يقطع. }أينما يوجه لا يأت بخير} قرأ الجمهور }يوجهه} وهو خط المصحف؛ أي أينما يرسله صاحبه لا يأت بخير، لأنه لا يعرف ولا يفهم ما يقال له ولا يفهم عنه. وقرأ يحيى بن وثاب }أينما يوجه} على الفعل المجهول. وروي عن ابن مسعود أيضا }توجه} على الخطاب. }هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم} أي هل يستوي هذا الأبكم ومن يأمر بالعدل وهو على الصراط المستقيم.
الآية رقم ( 77 )
{ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير}
قوله تعالى{ولله غيب السماوات والأرض} تقدم معناه. وهذا متصل بقوله }إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون}النحل: 74] أي شرع التحليل والتحريم إنما يحسن ممن يحيط بالعواقب والمصالح وأنتم أيها المشركون لا تحيطون بها فلم تتحكمون. }وما أمر الساعة إلا كلمح البصر} وتجازون فيها بأعمالكم. والساعة هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة؛ سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة فيموت الخلق بصيحة. واللمح النظر بسرعة؛ يقال لمحه لمحا ولمحانا. ووجه التأويل أن الساعة لما كانت آتية ولا بد جعلت من القرب كلمح البصر. وقال الزجاج: لم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها؛ أي يقول للشيء كن فيكون. وقيل: إنما مثل بلمح البصر لأنه يلمح السماء مع ما هي عليه من البعد من الأرض. وقيل: هو تمثيل للقرب؛ كما يقول القائل: ما السنة إلا لحظة، وشبهه. وقيل: المعنى هو عند الله كذلك لا عند المخلوقين؛ دليله قوله{إنهم يرونه بعيدا. ونراه قريبا}. [المعارج: 6 - 7]. }أو هو أقرب} ليس }أو} للشك بل للتمثيل بأيهما أراد الممثل. وقيل: دخلت لشك المخاطب. وقيل{أو} بمنزلة بل. }إن الله على كل شيء قدير} تقدم.
الآية رقم ( 78 )
{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون}
قوله تعالى{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} ذكر أن من نعمه أن أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا لا علم لكم بشيء. وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: لا تعلمون شيئا مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم. الثاني: لا تعلمون شيئا مما قضى عليكم من السعادة والشقاء. الثالث: لا تعلمون شيئا من منافعكم؛ وتم الكلام، ثم ابتدأ فقال{وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} أي التي تعلمون بها وتدركون؛ لأن الله جعل ذلك لعباده قبل إخراجهم من البطون وإنما أعطاهم ذلك بعدما أخرجهم؛ أي وجعل لكم السمع لتسمعوا به الأمر والنهي، والأبصار لتبصروا بها آثار صنعه، والأفئدة لتصلوا بها إلى معرفته. والأفئدة: جمع الفؤاد نحو غراب وأغربة. وقد قيل في ضمن قوله }وجعل لكم السمع} إثبات النطق لأن من لم يسمع لم يتكلم، وإذا وجدت حاسة السمع وجد النطق. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة }إمهاتكم} هنا وفي النور والزمر والنجم، بكسر الهمزة والميم. وأما الكسائي فكسر الهمزة وفتح الميم؛ وإنما كان هذا للإتباع. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم على الأصل. وأصل الأمهات: أمات، فزيدت الهاء تأكيدا كما زادوا هاء في أهرقت الماء وأصله أرقت. وقد تقدم هذا المعنى في }الفاتحة}. }لعلكم تشكرون} فيه تأويلان: أحدهما: تشكرون نعمه. الثاني: يعني تبصرون آثار صنعته؛ لأن إبصارها يؤدي إلى الشرك.
الآية رقم ( 79 )
{ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}
قوله تعالى{ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله} قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وابن عامر وحمزة ويعقوب }تروا} بالتاء على الخطاب، واختاره أبو عبيد. الباقون بالياء على الخبر. }مسخرات} مذللات لأمر الله تعالى؛ قاله الكلبي. وقيل{مسخرات} مذللات لمنافعكم. }في جو السماء} الجو ما بين السماء والأرض؛ وأضاف الجو إلى السماء لارتفاعه عن الأرض. وفي قوله }مسخرات} دليل على مسخر سخرها ومدبر مكنها من التصرف. }ما يمسكهن إلا الله} في حال القبض والبسط والاصطفاف. بين لهم كيف يعتبرون بها على وحدانيته. }إن في ذلك لآيات} أي علامات وعبرا ودلالات. }لقوم يؤمنون} بالله وبما جاءت به رسلهم.
الأية رقم ( 80 )
{والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين}
قوله تعالى{جعل لكم} معناه صير. وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء، وكل ما أقلك فهو أرض، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار؛ فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت. وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت، فذكر أولا بيوت المدن وهي التي للإقامة الطويلة. وقوله{سكنا} أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة، وقد تتحرك فيه وتسكن في غيره؛ إلا أن القول خرج على الغالب. وعد هذا في جملة النعم فإنه لو شاء خلق العبد مضطربا أبدا كالأفلاك لكان ذلك كما خلق وأراد، لو خلقه ساكنا كالأرض لكان كما خلق وأراد، ولكنه أوجده خلقا يتصرف للوجهين، ويختلف حاله بين الحالتين، وردده كيف وأين. والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع.
قوله تعالى{وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها} ذكر تعالى بيوت القلة والرحلة فقال }وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها} أي من الأنطاع والأدم. }بيوتا} يعني الخيام والقباب يخف عليكم حملها في الأسفار. }يوم ظعنكم} الظعن: سير البادية في الانتجاع والتحول من موضع إلى موضع؛ ومنه قول عنترة:
ظعن الذين فراقهم أتوقع وجرى ببينهم الغراب الأبقع
والظعن الهودج أيضا؛ قال:
ألا هل هاجك الأظعان إذ بانوا وإذ جادت بوشك البين غربان
وقرئ بإسكان العين وفتحها كالشعر والشعر. وقيل: يحتمل أن يعم بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف؛ لأن هذه من الجلود لكونها ثابتة فيها؛ نحا إلى ذلك ابن سلام. وهو احتمال حسن، ويكون قوله }ومن أصوافها} ابتداء كلام، كأنه قال جعل أثاثا؛ يريد الملابس والوطاء، وغير ذلك؛ قال الشاعر:
أهاجتك الظعائن يوم بانوا بذي الزي الجميل من الأثاث
ويحتمل أن يريد بقوله }من جلود الأنعام} بيوت الأدم فقط كما قدمناه أولا. ويكون قوله }ومن أصوافها} عطفا على قوله }من جلود الأنعام} أي جعل بيوتا أيضا. قال ابن العربي: وهذا أمر انتشر في تلك الديار، وعزبت عنه بلادنا، فلا تضرب الأخبية عندنا إلا من الكتان والصوف، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم قبة من أدم، وناهيك من أدم الطائف غلاء في القيمة، واعتلاء في الصنعة، وحسنا في البشرة، ولم يعد ذلك صلى الله عليه وسلم ترفا ولا رآه سرفا؛ لأنه مما امتن الله سبحانه من نعمته وأذن فيه من متاعه، وظهرت وجوه منفعته في الاكتنان والاستظلال الذي لا يقدر على الخروج عنه جنس الإنسان. ومن غريب ما جرى أني زرت بعض المتزهدين من الغافلين مع بعض المحدثين، فدخلنا عليه في خباء كتان فعرض عليه صاحبي المحدث أن يحمله إلى منزله ضيفا، وقال: إن هذا موضع يكثر فيه الحر والبيت أرفق بك وأطيب لنفسي فيك؛ فقال: هذا الخباء لنا كثير، وكان في صنعنا من الحقير؛ فقلت: ليس كما زعمت فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رئيس الزهاد قبة من أدم طائفي يسافر معها ويستظل بها؛ فبهت، ورأيته على منزلة من العي فتركته مع صاحبي وخرجت عنه.
قوله تعالى{ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها} أذن الله سبحانه بالانتفاع بصوف الغنم ووبر الإبل وشعر المعز، كما أذن في الأعظم، وهو ذبحها وأكل لحومها، ولم يذكر القطن والكتان لأنه لم يكن في بلاد العرب المخاطبين به، وإنما عدد عليهم ما أنعم به عليهم، وخوطبوا فيما عرفوا بما فهموا. وما قام مقام هذه وناب منابها فيدخل في الاستعمال والنعمة مدخلها؛ وهذا كقوله تعالى{وينزل من السماء من جبال فيها من برد}النور: 43]؛ فخاطبهم بالبرد لأنهم كانوا يعرفون نزوله كثيرا عندهم، وسكت عن ذكر الثلج؛ لأنه لم يكن في بلادهم، وهو مثله في الصفة والمنفعة، وقد ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم معا في التطهير فقال: (اللهم اغسلني بماء وثلج وبرد). قال ابن عباس: الثلج شيء أبيض ينزل من السماء وما رأيته قط. وقيل: إن ترك ذكر القطن والكتان إنما كان إعراضا عن الترف؛ إذ ملبس عباد الله الصالحين إنما هو الصوف. وهذا فيه نظر؛ فإنه سبحانه يقول{يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم}الأعراف: 26] وقال هنا{وجعل لكم سرابيل} فأشار إلى القطن والكتان في لفظة }سرابيل} والله أعلم. و}أثاثا} قال الخليل: متاعا منضما بعضه إلى بعض؛ من أث إذا كثر. قال:
وتضمنت هذه الآية جواز الانتفاع بالأصواف والأوبار والأشعار على كل حال، ولذلك قال أصحابنا: صوف الميتة وشعرها طاهر يجوز الانتفاع به على كل حال، ويغسل مخافة أن يكون علق به وسخ؛ وكذلك روت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل) لأنه مما لا يحله الموت، سواء كان شعر ما يؤكل لحمه أو لا، كشعر ابن آدم والخنزير، فإنه طاهر كله؛ وبه قال أبو حنيفة، ولكنه زاد علينا فقال: القرن والسن والعظم مثل الشعر؛ قال: لأن هذه الأشياء كلها لا روح فيها لا تنجس بموت الحيوان. وقال الحسن البصري والليث بن سعد والأوزاعي: إن الشعور كلها نجسة ولكنها تطهر بالغسل. وعن الشافعي ثلاث روايات: الأولى: طاهرة لا تنجس بالموت. الثانية: تنجس. الثالثة: الفرق بين شعر ابن آدم وغيره، فشعر ابن آدم طاهر وما عداه نجس. ودليلنا عموم قوله تعالى{ومن أصوافها} الآية. فمن علينا بأن جعل لنا الانتفاع بها، ولم يخصى شعر الميتة من المذكاة، فهو عموم إلا أن يمنع منه دليل. وأيضا فإن الأصل كونها طاهرة قبل الموت بإجماع، فمن زعم أنه انتقل إلى نجاسة فعليه الدليل. فإن قيل قوله{حرمت عليكم الميتة}المائدة: 3] وذلك عبارة عن الجملة. قلنا: نخصه بما ذكرنا؛ فإنه منصوص عليه في ذكر الصوف، وليس في آيتكم ذكره صريحا، فكان دليلنا أولى. والله أعلم. وقد عول الشيخ الإمام أبو إسحاق إمام الشافعية ببغداد على أن الشعر جزء متصل بالحيوان خِلقة، فهو ينمي بنمائه ويتنجس بموته كسائر الأجزاء. وأجيب بأن الماء ليس بدليل على الحياة؛ لأن النبات ينمي وليس بحي. وإذا عولوا على النماء المتصل لما على الحيوان عولنا نحن على الإبانة التي تدل على عدم الإحساس الذي يدل على عدم الحياة. وأما ما ذكره الحنفيون في العظم والسن والقرن أنه مثل الشعر، فالمشهور عندنا أن ذلك نجس كاللحم. وقال ابن وهب مثل قول أبي حنيفة. ولنا قول ثالث: هل تلحق أطراف القرون والأظلاف بأصولها أو بالشعر، قولان. وكذلك الشعري من الريش حكمه حكم الشعر، والعظمي منه حكمه حكمه. ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنتفعوا من الميتة بشيء) وهذا عام فيها وفي كل جزء منها، إلا ما قام دليله؛ ومن الدليل القاطع على ذلك قوله تعالى{قال من يحيي العظام وهي رميم}يس: 78]، وقال تعالى{وانظر إلى العظام كيف ننشزها}البقرة: 259]، وقال{فكسونا العظام لحما}المؤمنون: 14]، وقال{أئذا كنا عظاما نخرة}النازعات: 11] فالأصل هي العظام، والروح والحياة فيها كما في اللحم والجلد. وفي حديث عبدالله بن عكيم: (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب). فإن قيل: قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شاة ميمونة: (ألا انتفعتم بجلدها)؟ فقالوا: يا رسول الله، إنها ميتة. فقال: (إنما حرم أكلها) والعظم لا يؤكل. قلنا: العظم يؤكل، وخاصة عظم الجمل الرضيع والجدي والطير، وعظم الكبير يشوى ويؤكل. وما ذكرناه قبل يدل على وجود الحياة فيه، وما كان طاهرا بالحياة ويستباح بالذكاة ينجس بالموت. والله أعلم.
قوله تعالى{من جلود الأنعام} عام في جلد الحي والميت، فيجوز الانتفاع بجلود الميتة وإن لم تدبغ؛ وبه قال ابن شهاب الزهري والليث بن سعد. قال الطحاوي: لم نجد عن أحد من الفقهاء جواز بيع جلد الميتة قبل الدباغ إلا عن الليث. قال أبو عمر: يعني من الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار بعد التابعين، وأما ابن شهاب فذلك عنه صحيح، وهو قول أباه جمهور أهل العلم. وقد روي عنهما خلاف هذا القول، والأول أشهر.
قلت: قد ذكر الدارقطني في سننه حديث يحيى بن أيوب عن يونس وعقيل عن الزهري، وحديث بقية عن الزبيدي، وحديث محمد بن كثير العبدي وأبي سلمة المنقري عن سليمان بن كثير عن الزهري، وقال في آخرها: هذه أسانيد صحاح.
اختلف العلماء في جلد الميتة إذا دبغ هل يطهر أم لا؛ فذكر ابن عبدالحكم عن مالك ما يشبه مذهب ابن شهاب في ذلك. وذكره ابن خويز منداد في كتابه عن ابن عبدالحكم أيضا. قال ابن خويز منداد: وهو قول الزهري والليث. قال: والظاهر من مذهب مالك ما ذكره ابن عبدالحكم، وهو أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة، ولكن يبيح الانتفاع به في الأشياء اليابسة، ولا يصلى عليه ولا يؤكل فيه. وفي المدونة لابن القاسم: من اغتصب جلد ميتة غير مدبوغ فأتلفه كان عليه قيمته. وحكى أن ذلك قول مالك. وذكر أبو الفرج أن مالكا قال: من اغتصب لرجل جلد ميتة غير مدبوغ فلا شيء عليه. قال إسماعيل: إلا أن يكون لمجوسي. وروى ابن وهب، وابن عبدالحكم عن مالك جواز بيعه، وهذا في جلد كل ميتة إلا الخنزير وحده؛ لأن الزكاة لا تعمل فيه، فالدباغ أولى. قال أبو عمر: وكل جلد ذكي فجائز استعماله للوضوء وغيره. وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ على اختلاف من قوله، ومرة قال: إنه لم يكرهه إلا في خاصة نفسه، وتكره الصلاة عليه وبيعه، وتابعه على ذلك جماعة من أصحابه. وأما أكثر المدنيين فعلى إباحة ذلك وإجازته؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما إهاب دبغ فقد طهر). وعلى هذا أكثر أهل الحجاز والعراق من أهل الفقه والحديث، وهو اختيار ابن وهب.
ذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه إلى أنه لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة في شيء وإن دبغت؛ لأنها كلحم الميتة. والأخبار بالانتفاع بعد الدباغ ترد قوله. واحتج بحديث عبدالله بن عكيم - رواه أبو داود - قال: قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض جهينة وأنا غلام شاب: (ألا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب). وفي رواية: قبل موته بشهر. رواه القاسم بن مخيمرة عن عبدالله بن عكيم، قال: حدثنا مشيخة لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم.. قال داود بن علي: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، فضعفه وقال: ليس بشيء، إنما يقول حدثني الأشياخ، قال أبو عمر: ولو كان ثابتا لاحتمل أن يكون مخالفا للأحاديث المروية عن ابن عباس وعائشة وسلمة بن المحبق وغيرهم، لأنه جائز أن يكون معنى حديث ابن عكيم (ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب) قبل الدباغ؛ وإذا احتمل ألا يكون مخالف ا فليس لنا أن نجعله مخالفا، وعلينا أن نستعمل الخبرين ما أمكن، وحديث عبدالله بن عكيم وإن كان قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهر كما جاء في الخبر فيمكن أن تكون قصة ميمونة وسماع ابن عباس منه (أيما إهاب دبغ فقد طهر) قبل موته بجمعة أو دون جمعة، والله أعلم.
المشهور عندنا أن جلد الخنزير لا يدخل في الحديث ولا يتناوله العموم، وكذلك الكلب عند الشافعي. وعند الأوزاعي وأبي ثور: لا يطهر بالدباغ إلا جلد ما يؤكل لحمه. وروى معن بن عيسى عن مالك أنه سئل عن جلد الخنزير إذا دبغ فكرهه. قال ابن وضاح: وسمعت سحنونا يقول لا بأس به؛ وكذلك قال محمد بن عبدالحكم وداود بن علي وأصحابه؛ لقوله عليه السلام: (أيما مسك دبغ فقد طهر). قال أبو عمر: يحتمل أن يكون أراد بهذا القول عموم الجلود المعهود الانتفاع بها، فأما الخنزير فلم يدخل في المعنى لأنه غير معهود الانتفاع بجلده، إذ لا تعمل فيه الذكاة. ودليل آخر وهو ما قاله النضر بن شميل: إن الإهاب جلد البقر والغنم والإبل، وما عداه فإنما يقال له: جلد لا إهاب.
قلت: وجلد الكلب وما لا يؤكل لحمه أيضا غير معهود الانتفاع به فلا يطهر؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أكل كل ذي ناب من السباع حرام) فليست الذكاة فيها ذكاة، كما أنها ليست في الخنزير ذكاة. وروى النسائي عن المقدام بن معد يكرب قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير والذهب ومياثر النمور )
اختلف الفقهاء في الدباغ التي تطهر به جلود الميتة ما هو؟ فقال أصحاب مالك وهو المشهور من مذهبه: كل شيء دبغ الجلد من ملح أو قرظ أو شب أو غير ذلك فقد جاز الانتفاع به. وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول داود. وللشافعي في هذه المسألة قولان: أحدهما: هذا، والآخر أنه لا يطهر إلا الشب والقرظ؛ لأنه الدباغ المعهود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه خرج الخطابي - والله أعلم - ما رواه النسائي عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحصان؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أخذتم إهابها) قالوا. إنها ميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يطهرها الماء والقرظ).
قوله تعالى{أثاثا} الأثاث متاع البيت، واحدها أثاثة؛ هذا قول أبي زيد الأنصاري. وقال الأموي: الأثاث متاع البيت، وجمعه آثة وأثث. وقال غيرهما: الأثاث جميع أنواع المال ولا واحد له من لفظه. وقال الخليل: أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض حتى يكثر؛ ومنه شعر أثيث أي كثير. وأث شعر فلان يأث أثا إذا كثر والتف؛ قال امرؤ القيس:
وقيل: الأثاث ما يلبس ويفترش. وقد تأثثت إذا اتخذت أثاثا. وعن ابن عباس رضي الله عنه }أثاثا} مالا. وقد تقدم القول في الحين؛ وهو هنا وقت غير معين بحسب كل إنسان، إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء التي هي أثاث. ومن هذه اللفظة قول الشاعر:
أهاجتك الظعائن يوم بانوا بذي الزي الجميل من الأثاث
{والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون}
قوله تعالى{والله جعل لكم مما خلق ظلالا} الظلال: كل ما يستظل به من البيوت والشجر. وقوله }مما خلق} يعم جميع الأشخاص المظلة. }أكنانا} الأكنان: جمح كن، وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك؛ وهي هنا الغيران في الجبال، جعلها الله عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون به أو يعتزلون عن الخلق فيها. وفي الصحيح أنه عليه السلام كان في أول أمره يتعبد بغار حراء ويمكث فيه الليالي.. الحديث، وفي صحيح البخاري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا هاربا من قومه فارا بدينه مع صاحبه أبي بكر حتى لحقا بغار في جبل ثور، فمكنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما فيه عبدالله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث... وذكر الحديث. انفراد بإخراجه البخاري.
قوله تعالى{وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر} يعني القمص، واحدها سربال. }وسرابيل تقيكم بأسكم} يعني الدروع التي تقي الناس في الحرب؛ ومنه قول كعب بن زهير:
شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل
إن قال قائل: كيف قال }وجعل لكم من الجبال أكنانا} ولم يذكر السهل، فالجواب أن القوم كانوا أصحاب جبال ولم يكونوا أصحاب سهل، وأيضا: فذكر أحدهما يدال على الآخر؛ ومنه قول الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني
قال العلماء: في قوله تعالى{وسرابيل تقيكم بأسكم} دليل على اتخاذ العباد عدة الجهاد ليستعينوا بها على قتال الأعداء، وقد لبسها النبي صلى الله عليه وسلم تقاة الجراحة وإن كان يطلب الشهادة، وليس للعبد أن يطلبها بأن يستسلم للحتوف وللطعن بالسنان وللضرب بالسيوف، ولكنه يلبس لأمة حرب لتكون له قوة على قتال عدوه، ويقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويفعل الله بعد ما يشاء.
قوله تعالى{كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون} قرأ ابن محيصن وحميد }تتم} بتاءين، }نعمته} رفعا على أنها الفاعل. الباقون }يتم} بضم الياء على أن الله هو يتمها. و}تسلمون} قراءة ابن عباس وعكرمة }تسلمون} بفتح التاء واللام، أي تسلمون من الجراح، وإسناده ضعيف؛ رواه عباد بن العوام عن حنظلة عن شهر عن ابن عباس. الباقون بضم التاء، ومعناه تستسلمون وتنقادون إلى معرفة الله وطاعته شكرا على نعمه. قال أبو عبيد: والاختيار قراءة العامة؛ لأن ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح.
الآية رقم ( 82 )
{فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين}
قوله تعالى{فإن تولوا} أي أعرضوا عن النظر والاستدلال والإيمان. }فإنما عليك البلاغ} أي ليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية فإلينا.
الآية رقم ( 83 )
{يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون}
قوله تعالى{يعرفون نعمة الله} قال السدي: يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، أي يعرفون نبوته }ثم ينكرونها} ويكذبونه. وقال مجاهد: يريد ما عدد الله عليهم في هذه السورة من النعم؛ أي يعرفون أنها من عند الله وينكرونها بقولهم إنهم ورثوا ذلك عن آبائهم. وبمثله قال قتادة. وقال عون بن عبدالله: هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا، ولولا فلان ما أصبت كذا، وهم يعرفون النفع والضر من عند الله. وقال الكلبي: هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرفهم بهذه النعم كلها عرفوها وقالوا: نعم، هي كلها نعم من الله، ولكنها بشفاعة آلهتنا. وقيل: يعرفون نعمة الله بتقلبهم فيها، وينكرونها بترك الشكر عليها. ويحتمل سادسا: يعرفونها في الشدة وينكرونها في الرخاء. ويحتمل سابعا: يعرفونها بأقوالهم وينكرونها بأفعالهم. ويحتمل ثامنا: يعرفونها بقلوبهم ويجحدونها بألسنتهم؛ نظيرها }وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم}النمل: 14] }وأكثرهم الكافرون} يعني جميعهم؛ حسبما تقدم.
الآية رقم ( 84 )
{ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون}
قوله تعالى{ويوم نبعث من كل أمة شهيدا} نظيره{فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد}النساء: 41] وقد تقدم. }ثم لا يؤذن للذين كفروا} أي في الاعتذار والكلام؛ كقوله{ولا يؤذن لهم فيعتذرون}المرسلات: 36]. وذلك حين تطبق عليهم جهنم، كما تقدم في أول }الحجر} ويأتي.
قوله تعالى{ولا هم يستعتبون} يعني يسترضون، أي لا يكلفون أن يرضوا ربهم؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون. وأصل الكلمة من العتب وهي الموجدة؛ يقال: عتب عليه يعتب إذا وجد عليه، فإذا فاوضه ما عتب عليه فيه قيل عاتبه، فإذا رجع إلى مسرتك فقد أعتب، والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب؛ قال الهروي. وقال النابغة:
فإن كنت مظلوما فعبدا ظلمته وإن كنت ذا عتبى فمثلك يُعْتِب
الآية رقم ( 85 )
{وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون}
قوله تعالى{وإذا رأى الذين ظلموا} أي أشركوا. }العذاب} أي عذاب جهنم بالدخول فيها. }فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون} أي لا يمهلون؛ إذ لا توبة لهم ثم.
الآية رقم ( 86 : 87 )
{وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون، وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون}
قوله تعالى{وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم} أي أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها وذلك أن الله يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى يوردوهم النار. وفي صحيح مسلم: (من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت...) الحديث، خرجه من حديث أنس، والترمذي من حديث أبي هريرة، وفيه: (فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون...) وذكر الحديث. }قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك} أي الذين جعلناهم لك شركاء. }فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون} أي ألقت إليهم الآلهة القول، أي نطقت بتكذيب من عبدها بأنها لم تكن آلهة، ولا أمرتهم بعبادتها، فيُنطق الله الأصنام حتى تظهر عند ذلك فضيحة الكفار. وقيل: المراد بذلك الملائكة الذين عبدوهم. }وألقوا إلى الله يومئذ السلم} يعني المشركين، أي استسلموا لعذابه وخضعوا لعزه. وقيل: استسلم العابد والمعبود وانقادوا لحكمه فيهم. }وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي زال عنهم ما زين لهم الشيطان وما كانوا يؤملون من شفاعة آلهتهم.
الآية رقم ( 88 )
{الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون}
قوله تعالى{الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب} قال ابن مسعود: عقارب أنيابها كالنخل الطوال، وحيات مثل أعناق الإبل، وأفاعي كأنها البخاتي تضربهم، فتلك الزيادة وقيل: المعنى يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار. وقيل: المعنى زدنا القادة عذابا فوق السفلة، فأحد العذابين على كفرهم والعذاب الآخر على صدهم. }بما كانوا يفسدون} في الدنيا من الكفر والمعصية.
الآية رقم ( 89 )
{ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين}
قوله تعالى{ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم} وهم الأنبياء شهداء على أممهم يوم القيامة بأنهم قد بلغوا الرسالة ودعوهم إلى الإيمان، في كل زمان شهيد وإن لم يكن نبيا؛ وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أئمة الهدى الذين هم خلفاء الأنبياء. الثاني: أنهم العلماء الذين حفظ الله بهم شرائع أنبيائه.
قلت: فعلى هذا لم تكن فترة إلا وفيها من يوحد الله؛ كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (يبعث أمة وحده)، وسَطيح، وورقة بن نوفل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيته ينغمس في أنهار الجنة). فهؤلاء ومن كان مثلهم حجة على أهل زمانهم وشهيد عليهم. والله أعلم. وقوله{ وجئنا بك شهيدا على هؤلاء} تقدم في }البقرة و}النساء}.
قوله تعالى{ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} نظيره{ما فرطنا في الكتاب من شيء}الأنعام: 38] وقد تقدم. وقال مجاهد: تبيانا للحلال والحرام.
الاية رقم ( 90 )
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}
قوله تعالى{إن الله يأمر بالعدل والإحسان} روي عن عثمان بن مظعون أنه قال: لما نزلت هذه الآية قرأتها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فتعجب فقال: يا آل غالب، اتبعوه تفلحوا، فوالله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق. وفي حديث - إن أبا طالب لما قيل له: إن ابن أخيك زعم أن الله أنزل عليه }إن الله يأمر بالعدل والإحسان} الآية، قال: اتبعوا ابن أخي، فوالله إنه لا يأمر إلا بمحاسن الأخلاق. وقال عكرمة: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الوليد بن المغيرة }إن الله يأمر بالعدل والإحسان} إلى آخرها، فقال: يا ابن أخي أعد، فأعاد عليه فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لمورق، وأعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر، وذكر الغزنوي أن عثمان بن مظعون هو القارئ. قال عثمان: ما أسلمت ابتداء إلا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الإيمان في قلبي، فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال: يا ابن أخي أعد فأعدت فقال: والله إن له لحلاوة... وذكر تمام الخبر. وقال ابن مسعود: هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل، ولشر يجتنب. وحكى النقاش قال: يقال زكاة العدل الإحسان، وزكاة القدرة العفو، وزكاة الغنى المعروف، وزكاة الجاه كتب الرجل إلى إخوانه.
اختلف العلماء في تأويل العدل والإحسان؛ فقال ابن عباس: العدل لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض. وقيل: العدل الفرض، والإحسان النافلة. وقال سفيان بن عيينة: العدل ها هنا استواء السريرة، والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية. علي بن أبي طالب: العدل الإنصاف، والإحسان التفضل. قال ابن عطية: العدل هو كل مفروض، من عقائد وشرائع في أداء الأمانات، وترك الظلم والإنصاف، وإعطاء الحق. والإحسان هو فعل كل مندوب إليه؛ فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه، ومنها ما هو فرض، إلا أن حد الإجزاء منه داخل في العدل، والتكميل الزائد على الإجزاء داخل في الإحسان. وأما قول ابن عباس ففيه نظر؛ لأن أداء الفرائض هي الإسلام حسبما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل، وذلك هو العدل، وإنما الإحسان التكميلات والمندوب إليه حسبما يقتضيه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). فإن صح هذا عن ابن عباس فإنما أراد الفرائض مكملة. وقال ابن العربي: العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر. وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعها مما فيه هلاكها؛ قال الله تعالى{ونهى النفس عن الهوى}النازعات: 40] وعزوب الأطماع عن الأتباع، ولزوم القناعة في كل حال ومعنى. وأما العدل بينه وبين الخلق فبذل النصيحة، وترك الخيانة فيما قل وكثر، والإنصاف من نفسك لهم بكل وجه، ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل لا في سر ولا في علن، والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى، وأقل ذلك الإنصاف وترك الأذى.
قلت: هذا التفصيل في العدل حسن وعدل، وأما الإحسان فقد قال علماؤنا: الإحسان مصدر أحسن يحسن إحسانا. ويقال على معنيين: أحدهما متعد بنفسه؛ كقولك: أحسنت كذا، أي حسنته وكلمته، وهو منقول بالهمزة من حسن الشيء. وثانيهما متعد بحرف جر؛ كقولك: أحسنت إلى فلان، أي أوصلت إليه ما ينتفع به.
قلت: وهو في هذه الآية مراد بالمعنيين معا؛ فإنه تعالى يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض، حتى أن الطائر في سجنك والسنور في دارك لا ينبغي أن تقصر تعهده بإحسانك؛ وهو تعالى غني عن إحسانهم، ومنه الإحسان والنعم والفضل والمنن. وهو في حديث جبريل بالمعنى الأول لا بالثاني؛ فإن المعنى الأول راجع إلى إتقان العبادة ومراعاتها بأدائها المصححة والمكملة، ومراقبة الحق فيها واستحضار عظمته وجلاله حالة الشروع وحالة الاستمرار. وهو المراد بقوله (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين: أحدهما غالب عليه مشاهدة الحق فكأنه يراه. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحالة بقوله: (وجعلت قرة عيني في الصلاة). وثانيهما: لا تنتهي إلى هذا، لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه مطلع عليه ومشاهد له، وإليه الإشارة بقوله تعالى{الذي يراك حين تقوم. وتقلبك في الساجدين}الشعراء: 218 - 219] وقوله{إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه}يونس: 61].
قوله تعالى{وإيتاء ذي القربى} أي القرابة؛ يقول: يعطيهم المال كما قال }وآت ذا القربى حقه}الإسراء: 26] يعني صلته. وهذا من باب عطف المندوب على الواجب، وبه استدل الشافعي في إيجاب إيتاء المكاتب، على ما يأتي بيانه. وإنما خص ذا القربى لأن حقوقهم أوكد وصلتهم أوجب؛ لتأكيد حق الرحم التي اشتق الله اسمها من اسمه، وجعل صلتها من صلته، فقال في الصحيح: (أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك). ولا سيما إذا كانوا فقراء.
قوله تعالى{وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} الفحشاء: الفحش، وهو كل قبيح من قول أو فعل. ابن عباس: هو الزنى. والمنكر: ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها. وقيل هو الشرك. والبغي: هو الكبر والظلم والحقد والتعدي؛ وحقيقته تجاوز الحد، وهو داخل تحت المنكر، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به لشدة ضرره. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا ذنب أسرع عقوبة من بغيٍ). وقال عليه السلام: (الباغي مصروع). وقد وعد الله من بُغي عليه بالنصر. وفي بعض الكتب المنزلة: لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكا..
ترجم الإمام أبو عبدالله بن إسماعيل البخاري في صحيحه فقال: (باب قول الله تعالى{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} وقوله{إنما بغيكم على أنفسكم}يونس: 23]، }ثم بغي عليه لينصرنه الله}، وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر) ثم ذكر حديث عائشة في سحر لبيد بن الأعصم النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن بطال: فتأول رضي الله عنه من هذه الآيات ترك إثارة الشر على مسلم أو كافر؛ كما دل عليه حديث عائشة حيث قال عليه السلام: (أما الله فقد شفاني وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرا). ووجه ذلك - والله أعلم - أنه تأول في قول الله تعالى{إن الله يأمر بالعدل والإحسان} الندب بالإحسان إلى المسيء وترك معاقبته على إساءته. فإن قيل: كيف يصح هذا التأويل في آيات البغي. قيل: وجه ذلك - والله أعلم - أنه لما أعلم الله عباده بأن ضرر البغي ينصرف على الباغي بقوله{إنما بغيكم على أنفسكم} وضمن تعالى نصرة من بغي عليه، كان الأولى بمن بغي عليه شكر الله على ما ضمن من نصره ومقابلة ذلك بالعفو عمن بغى عليه؛ وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم باليهودي الذي سحره، وقد كان له الانتقام منه بقوله{وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}النحل: 126]. ولكن آثر الصفح أخذا بقوله{ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}الشورى: 43].
تضمنت هذه الآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. روي أن جماعة رفعت عاملها إلى أبي جعفر المنصور العباسي، فحاجها العامل وغلبها؛ بأنهم لم يثبتوا عليه كبير ظلم ولا جوره في شيء؛ فقام فتى من القوم فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإنه عدل ولم يحسن. قال: فعجب أبو جعفر من إصابته وعزل العامل.
الآية رقم ( 91 )
{وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون}
قوله تعالى{وأوفوا بعهد الله} لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان بالعدل والإحسان لأن المعنى فيها: افعلوا كذا، وانتهوا عن كذا؛ فعطف على ذلك التقدير. وقد قيل: إنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام. وقيل: نزلت في التزام الحلف الذي كان في الجاهلية وجاء الإسلام بالوفاء؛ قاله قتادة ومجاهد وابن زيد. والعموم يتناول كل ذلك كما بيناه. روى الصحيح عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) يعني في نصرة الحق والقيام به والمواساة. وهذا كنحو حلف الفضول الذي ذكره ابن اسحاق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبدالله بن جدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته؛ فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، أي حلف الفضائل. والفضول هنا جمع فضل للكثرة كفلس وفلوس. روى ابن اسحاق عن ابن شهاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم لو أدعى به في الإسلام لأجبت). وقال ابن اسحاق: تحامل الوليد بن عتبة على حسين بن علي في مال له، لسلطان الوليد فإنه كان أميرا على المدينة؛ فقال له حسين بن علي: احلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول. قال عبدالله بن الزبير: وأنا أحلف والله لئن دعانا لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا. وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك. وبلغت عبدالرحمن بن عثمان بن عبيدالله التيمي فقال مثل ذلك. فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه. قال العلماء: فهذا الحلف الذي كان في الجاهلية هو الذي شده الإسلام وخصه النبي عليه الصلاة والسلام من عموم قوله: (لا حلف في الإسلام). والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم وأخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عاما على من قدر من المكلفين، وجعل لهم السبيل على الظالمين فقال تعالى{إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم}الشورى: 42]. وفي الصحيح: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: (تأخذ على يديه: في رواية: تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره). وقد تقدم قوله عليه السلام: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده).
قوله تعالى{ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} يقول بعد تشديدها وتغليظها؛ يقال: توكيد وتأكيد، ووكد وأكد، وهما لغتان.
قوله تعالى{وقد جعلتم الله عليكم كفيلا} يعني شهيدا. ويقال حافظا، ويقال ضامنا. وإنما قال }بعد توكيدها} فرقا بين اليمين المؤكدة بالعزم وبين لغو اليمين وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك التوكيد هو حلف الإنسان في الشيء الواحد مرارا، يردد فيه الأيمان ثلاثا أو أكثر من ذلك؛ كقوله: والله لا أنقصه من كذا، والله لا أنقصه من كذا، والله لا أنقصه من كذا. قال: فكفارة ذلك واحدة مثل كفارة اليمين. وقال يحيى بن سعيد: هي العهود، والعهد يمين، ولكن الفرق بينهما أن العهد لا يكفر. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان). وأما اليمين بالله فقد شرع الله سبحانه فيها الكفارة بخصلة واحدة، وحل ما انعقدت عليه اليمين. وقال ابن عمر: التوكيد هو أن يحلف مرتين، فإن حلف واحدة فلا كفارة فيه. وقد تقدم.
الآية رقم ( 92 )
{ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون}
قوله تعالى{ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا} النقض والنكث واحد، والاسم النكث والنقض، والجمع الأنكاث. فشبهت هذه الآية الذي يحلف ويعاهد ويبرم عهده ثم ينقضه بالمرأة تغزل غزلها وتفتله محكما ثم تحله. ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة تسمى ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة كانت تفعل ذلك، فبها وقع التشبيه؛ قال الفراء، وحكاه عبدالله بن كثير والسدي ولم يسميا المرأة، وقال مجاهد وقتادة: وذلك ضرب مثل، لا على امرأة معينة. و}أنكاثا} نصب على الحال. والدخل: الدغل والخديعة والغش. قال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل. }أن تكون أمة هي أربى من أمة} قال المفسرون: نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذ حالفت أخرى، ثم جاءت إحداهما قبيلة كثيرة قوية فداخلتها غدرت الأولى ونقضت عهدها ورجعت إلى هذه الكبرى - قاله مجاهد - فقال الله تعالى: لا تنقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى أو أكثر أموالا فتنقضون أيمانكم إذا رأيتم الكثرة والسعة في الدنيا لأعدائكم المشركين. والمقصود النهي عن العود إلى الكفر بسبب كثرة الكفار وكثرة أموالهم. وقال الفراء: المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم أو لقلتكم وكثرتهم، وقد عززتموهم بالأيمان. }أربى} أي أكثر؛ من ربا الشيء يربو إذا كثر. والضمير في (به) يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به. ويحتمل أن يعود على الرباء؛ أي أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد وطلب بعضهم الظهور على بعض، واختبرهم بذلك من يجاهد نفسه فيخالفها ممن يتبعها ويعمل بمقتضى هواها؛ وهو معنى قوله{إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} من البعث وغيره.
الآية رقم ( 93 )
{ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون}
قوله تعالى{ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} أي على ملة واحدة. }ولكن يضل من يشاء} بخذلانه إياهم؛ عدلا منه فيهم. }ويهدي من يشاء} بتوفيقه إياهم؛ فضلا منه عليهم، ولا يسأل عما يفعل بل تسألون أنتم. والآية ترد على أهل القدر كما تقدم. واللام في }وليبينن، ولتسئلن} مع النون المشددة يدلان على قسم مضمر، أي والله ليبينن لكم ولتسئلن.
الآية رقم ( 94 )
{ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم}
قوله تعالى{ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم} كرر ذلك تأكيدا. }فتزل قدم بعد ثبوتها} مبالغة في النهي عنه لعظم موقعه في الدين وتردده في معاشرات الناس؛ أي لا تعقدوا الأيمان بالانطواء على الخديعة والفساد فتزل قدم بعد ثبوتها، أي عن الأيمان بعد المعرفة بالله. وهذه استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه؛ لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شر؛ ومن هذا المعنى قول كثير:
فلما توافينا ثبت وزلت
والعرب تقول لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة: زلت قدمه؛ كقول الشاعر:
سيمنع منك السبق إن كنت سابقا وتقتل إن زلت بك القدمان
ويقال لمن أخطأ في شيء: زل فيه. ثم توعد تعالى بعدُ بعذاب في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة. وهذا الوعيد إنما هو فيمن نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن من عاهده ثم نقض عهده خرج من الإيمان، ولهذا قال{وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله} أي بصدكم. وذوق السوء في الدنيا هو ما يحل بهم من المكروه.
الآية رقم ( 95 : 96 )
{ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون، ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}
قوله تعالى{ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا} نهى عن الرُشا وأخذ الأموال على نقض العهد؛ أي لا تنقضوا عهودكم لعرض قليل من الدنيا. وإنما كان قليلا وإن كثر لأنه مما يزول، فهو على التحقيق قليل، وهو المراد بقوله{ما عندكم ينفد وما عند الله باق} فبين الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتحول، وما عند الله من مواهب فضله ونعيم جنته ثابت لا يزول لمن وفي بالعهد وثبت على العقد. ولقد أحسن من قال:
المال ينفد حله وحرامه يوما وتبقى في غد آثامه
ليس التقي بمتق لإلهه حتى يطيب شرابه وطعامه
آخر:
هب الدنيا تساق إليك عفوا أليس مصير ذاك إلى انتقال
وما دنيال إلا مثل فيء أظلك ثم آذن بالزوال
قوله تعالى{ولنجزين الذين صبروا} أي على الإسلام والطاعات وعن المعاصي. }أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} أي من الطاعات، وجعلها أحسن لأن ما عداها من الحسن مباح، والجزاء إنما يكون على الطاعات من حيث الوعد من الله. وقرأ عاصم وابن كثير }ولنجزين} بالنون على التعظيم. الباقون بالياء. وقيل: إن هذه الآية }ولا تشتروا...} نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي وخصمه ابن أسوع، اختصما في أرض فأراد امرؤ القيس أن يحلف فلما سمع هذه الآية نكل وأقر له بحقه؛ والله أعلم.
الآية رقم ( 97 )
{من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}
قوله تعالى{من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} شرط وجوابه.
وفي الحياة الطيبة خمسة أقوال: الأول: أنه الرزق الحلال؛ قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك. الثاني: القناعة؛ قاله الحسن البصري وزيد بن وهب ووهب بن منبه، ورواه الحكم عن عكرمة عن ابن عباس، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الثالث: توفيقه إلى الطاعات فإنها تؤديه إلى رضوان الله؛ قال معناه الضحاك. وقال أيضا: من عمل صالحا وهو مؤمن في فاقة وميسرة فحياته طيبة، ومن أعرض عن ذكر الله ولم يؤمن بربه ولا عمل صالحا فمعيشته ضنك لا خير فيها. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: هي الجنة، وقاله الحسن، وقال: لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة. وقيل هي السعادة، روي عن ابن عباس أيضا. وقال أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة. وقال سهل بن عبدالله التستري: هي أن ينزع عن العبد تدبيره ويرد تدبيره إلى الحق. وقال جعفر الصادق: هي المعرفة بالله، وصدق المقام بين يدي الله. وقيل: الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق. وقيل: الرضا بالقضاء. }ولنجزينهم أجرهم} أي في الآخرة. وقال (فلنحيينه) ثم قال (ولنجزينهم) لأن (من) يصلح للواحد والجمع، فأعاد مرة على اللفظ ومرة على المعنى، وقد تقدم. وقال أبو صالح: جلس ناس من أهل التوراة وناس من أهل الإنجيل وناس من أهل الأوثان، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل؛ فنزلت.
الآية رقم ( 98 )
{فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}
هذه الآية متصلة بقوله{ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء}النحل: 89] فإذا أخذت في قراءته فاستعذ بالله من أن يعرض لك الشيطان فيصدك عن تدبره والعمل بما فيه؛ وليس يريد استعذ بعد القراءة؛ بل هو كقولك: إذا أكلت فقل بسم الله؛ أي إذا أردت أن تأكل. وقد روى جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة قال (اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه). وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة. قال الكيا الطبري: ونقل عن بعض السلف التعوذ بعد القراءة مطلقا، احتجاجا بقوله تعالى{فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} ولا شك أن ظاهر ذلك يقتضي أن تكون الاستعاذة بعد القراءة؛ كقوله تعالى{فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا}النساء: 103]. إلا أن غيره محتمل، مثل قوله تعالى{وإذا قلتم فاعدلوا}الأنعام: 152] }وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب}الأحزاب: 53] وليس المراد به أن يسألها من وراء حجاب بعد سؤال متقدم. ومثله قول القائل: إذا قلت فاصدق، وإذا أحرمت فاغتسل؛ يعني قبل الإحرام. والمعنى في جميع ذلك: إذا أردت ذلك؛ فكذلك الاستعاذة. وقد تقدم هذا المعنى.
الآية رقم ( 99 : 100 )
{إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون}
قوله تعالى{إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا} أي بالإغواء والكفر، أي ليس لك قدرة على أن تحملهم على ذنب لا يغفر؛ قاله سفيان. وقال مجاهد: لا حجة له على ما يدعوهم إليه من المعاصي. وقيل: إنه ليس عليهم سلطان بحال؛ لأن الله تعالى صرف سلطانه عليهم حين قال عدو الله إبليس لعنه الله }ولأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين}الحجر: 39 - 40] قال الله تعالى{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين}الحجر: 42].
قلت: قد بينا أن هذا عام يدخله التخصيص، وقد أغوى آدم وحواء عليهما السلام بسلطانه، وقد شوش على الفضلاء أوقاتهم بقوله: من خلق ربك؟ حسبما تقدم في }الأعراف}. }إنما سلطانه على الذين يتولونه} أي يطيعونه. يقال: توليته أي أطعته، وتوليت عنه، أي أعرضت عنه. }والذين هم به مشركون} أي بالله؛ قاله مجاهد والضحاك. وقيل: يرجع }به} إلى الشيطان؛ قاله الربيع بن أنس والقتيبي. والمعنى: والذين هم من أجله مشركون. يقال: كفرت بهذه الكلمة، أي من أهلها. وصار فلان بك عالما، أي من أجلك. أي والذي تولى الشيطان مشركون بالله.
الآية رقم ( 101 : 102 )
{وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون، قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين}
قوله تعالى{وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل} قيل: المعنى بدلنا شريعة متقدمة بشريعة مستأنفة؛ قاله ابن بحر. مجاهد: أي رفعنا آية وجعلنا موضعها غيرها. وقال الجمهور: نسخنا آية بآية أشد منها عليهم. والنسخ والتبديل رفع الشيء مع وضع عيره مكانه. }قالوا} يريد كفار قريش. }إنما أنت مفتر} أي كاذب مختلق، وذلك لما رأوا من تبديل الحكم. فقال الله{بل أكثرهم لا يعلمون} لا يعلمون أن الله شرع الأحكام وتبديل البعض بالبعض. وقوله{قل نزله روح القدس} يعني جبريل، نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه. وروي بإسناد صحيح عن عامر الشعبي قال: وكل إسرافيل بمحمد صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، فكان يأتيه بالكلمة والكلمة، ثم نزل عليه جبريل بالقرآن. وفي صحيح مسلم أيضا أنه نزل عليه بسورة }الحمد} ملك لم ينزل إلى الأرض قط. كما تقدم في الفاتحة بيانه. }من ربك بالحق} أي من كلام ربك. }ليثبت الذين آمنوا} أي بما فيه من الحجج والآيات. }وهدى} أي وهو هدى }وبشرى للمسلمين}.
الآية رقم ( 103 )
{ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين}
قوله تعالى{ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر} اختلف في اسم هذا الذي قالوا إنما يعلمه؛ فقيل: هو غلام الفاكه بن المغيرة واسمه جبر، كان نصرانيا فأسلم؛ وكانوا إذا سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما مضى وما هو آت مع أنه أمي لم يقرأ قالوا: إنما يعلمه جبر وهو أعجمي؛ فقال الله تعالى{لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} أي كيف يعلمه جبر وهو أعجمي هذا الكلام الذي لا يستطيع الإنس والجن أن يعارضوا منه سورة واحدة فما فوقها. وذكر النقاش أن مولى جبر كان يضربه ويقول له: أنت تعلم محمدا، فيقول: لا والله، بل هو يعلمني ويهديني. وقال ابن اسحاق: كان النبي صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام نصراني يقال له جبر، عبد بني الحضرمي، وكان يقرأ الكتب، فقال المشركون: والله ما يعلم محمدا ما يأتي به إلا جبر النصراني. وقال عكرمة: اسمه يعيش عبد لبني الحضرمي، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقنه القرآن؛ ذكره المارودي. وذكر الثعلبي عن عكرمة وقتادة أنه غلام لبني المغيرة اسمه يعيش، وكان يقرأ الكتب الأعجمية، فقالت قريش: إنما يعلمه بشر، فنزلت. المهدوي عن عكرمة: هو غلام لبني عامر بن لؤي، واسمه يعيش. وقال عبدالله بن مسلم الحضرمي: كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر، اسم أحدهما يسار واسم الآخر جبر. كذا ذكر الماوردي والقشيري والثعلبي؛ إلا أن الثعلبي قال: يقال لأحدهما نبت ويكنى أبا فكيهة، والآخر جبر، وكانا صيقلين يعملان السيوف؛ وكانا يقرأن كتابا لهم. الثعلبي: يقرأن التوراة والإنجيل. الماوردي والمهدوي: التوراة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بهما ويسمع قراءتهما، وكان المشركون يقولون: يتعلم منهما، فأنزل الله هذه الآية وأكذبهم. وقيل: عنوا سلمان الفارسي رضي الله عنه؛ قاله الضحاك. وقيل: نصرانيا بمكة اسمه بلعام، وكان غلاما يقرأ التوراة؛ قاله ابن عباس. وقال القتبي: كان بمكة رجل نصراني يقال له أبو ميسرة يتكلم بالرومية، فربما قعد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الكفار: إنما يتعلم محمد منه، فنزلت. وفي رواية أنه عداس غلام عتبة بن ربيعة. وقيل: عابس غلام حويطب بن عبدالعزى ويسار أبو فكيهة مولى ابن الحضرمي، وكانا قد أسلما. والله أعلم
قلت: والكل محتمل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ربما جلس إليهم في أوقات مختلفة ليعلمهم مما علمه الله، وكان ذلك بمكة. وقال النحاس: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة؛ لأنه يجوز أن يكونوا أومأوا إلى هؤلاء جميعا، وزعموا أنهم يعلمونه.
قلت: وأما ما ذكره الضحاك من أنه سلمان ففيه بعد؛ لأن سلمان إنما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهذه الآية مكية.
قوله تعالى{لسان الذي يلحدون إليه أعجمي} الإلحاد: الميل؛ يقال: لحد وألحد، أي مال عن القصد. وقرأ حمزة }يلحدون} بفتح الياء والحاء؛ أي لسان الذي يميلون إليه ويشيرون أعجمي. والعجمة: الإخفاء وضد البيان. ورجل أعجم وامرأة عجماء، أي لا يفصح؛ ومنه عجم الذنب لاستتاره. والعجماء: البهيمة؛ لأنها لا توضح عن نفسها. وأعجمت الكتاب أي أزلت عجمته. والعرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بكلامهم أعجميا. وقال الفراء: الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب، والأعجمي أو العجمي الذي أصله من العجم. وقال أبو علي: الأعجمي الذي لا يفصح، سواء كان من العرب أو من العجم، وكذلك الأعجم والأعجمي المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحا. وأراد باللسان القرآن؛ لأن العرب تقول للقصيدة والبيت: لسان؛ قال الشاعر:
لسان الشر تهديها إلينا وخنت وما حسبتك أن تخونا
يعني باللسان القصيدة. }وهذا لسان عربي مبين} أي أفصح ما يكون من العربية.
الآية رقم ( 104 )
{إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم}
قوله تعالى{إن الذين لا يؤمنون بآيات الله} أي هؤلاء المشركون الذين لا يؤمنون بالقرآن. }لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم}.
الآية رقم ( 105 )
{إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون}
قوله تعالى{إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله} هذا جواب وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالافتراء. }وأولئك هم الكاذبون} هذا مبالغة في وصفهم بالكذب؛ أي كل كذب قليل بالنسبة إلى كذبهم. ويقال: كذب فلان ولا يقال إنه كاذب؛ لأن الفعل قد يكون لازما وقد لا يكون لازما. فأما النعت فيكون لازما ولهذا يقال: عصى آدم ربه فغوى، ولا يقال: إنه عاص غاو. فإذا قيل: كذب فلان فهو كاذب، كان مبالغة في الوصف بالكذب؛ قاله القشيري.
الآية رقم ( 106 )
{من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم}
قوله تعالى{من كفر بالله} هذا متصل بقوله تعالى{ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها}النحل: 91] فكان مبالغة في الوصف بالكذب؛ لأن معناه لا ترتدوا عن بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم. أي من كفر من بعد إيمانه وارتد فعليه غضب الله. قال الكلبي: نزلت في عبدالله بن أبي سرح ومقيس بن ضبابة وعبدالله بن خطل، وقيس بن الوليد بن المغيرة، كفروا بعد إيمانهم. وقال الزجاج{من كفر بالله من بعد إيمانه} بدل ممن يفتري الكذب؛ أي إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه؛ لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام فعلقه بما قبله. وقال الأخفش{من} ابتداء وخبره محذوف، اكتفي منه بخبر}من} الثانية؛ كقولك: من يأتنا من يحسن نكرمه.
قوله تعالى{إلا من أكره} هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر، في قول أهل التفسير؛ لأنه قارب بعض ما ندبوه إليه. قال ابن عباس: أخذه المشركون وأخذوا أباه وأمه سمية وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم، وربطت سمية بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة، وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال؛ فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام. وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف تجد قلبك)؟ قال: مطمئن بالإيمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن عادوا فعد). وروى منصور بن المعتمر عن مجاهد قال: أول شهيدة في الإسلام أم عمار، قتلها أبو جهل، وأول شهيد من الرجال مهجع مولى عمر. وروى منصور أيضا عن مجاهد قال: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وبلال، وخباب، وصهيب، وعمار، وسمية أم عمار. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأخذوا الآخرين فألبسوهم أدرع الحديد، ثم صهروهم في الشمس حتى بلغ منهم الجهد كل مبلغ من حر الحديد والشمس، فلما كان من العشي أتاهم أبو جهل ومعه حربة، فجعل يسبهم ويوبخهم، وأتى سمية فجعل يسبها ويرفث، ثم طعن فرجها حتى خرجت الحربة من فمها فقتلها؛ رضي الله عنها. قال: وقال الآخرون ما سئلوا إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله، فجعلوا يعذبونه ويقولون له: ارجع عن دينك، وهو يقول أحد أحد؛ حتى ملوه، ثم كتفوه وجعلوا في عنقه حبلا من ليف، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به بين أخشبي مكة حتى ملوه وتركوه، قال فقال عمار: كلنا تكلم بالذي قالوا - لولا أن الله تداركنا - غير بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله، فهان على قومه حتى ملوه وتركوه. والصحيح أن أبا بكر اشترى بلالا فأعتقه. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن ناسا من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالمدينة: أن هاجروا إلينا، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة حتى أدركتهم قريش بالطريق، ففتنوهم فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الآية. ذكر الروايتين عن مجاهد إسماعيل بن اسحاق. وروى الترمذي عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما) هذا حديث حسن غريب. وروي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة علي وعمار وسلمان بن ربيعة). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن صالح.
لما سمح الله عز وجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم؛ وبه جاء الأثر المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) الحديث. والخبر وإن لم يصح سنده فإن معناه صحيح باتفاق من العلماء؛ قاله القاضي أبو بكر بن العربي. وذكر أبو محمد عبدالحق أن إسناده صحيح قال: وقد ذكره أبو بكر الأصيلي في الفوائد وابن المنذر في كتاب الإقناع.
أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر؛ هذا قول مالك والكوفيين والشافعي؛ غير محمد بن الحسن فإنه قال: إذا أظهر الشرك كان مرتدا في الظاهر، وفيما بينه وبين الله تعالى على الإسلام، وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلما. وهذا قول يرده الكتاب والسنة، قال الله تعالى{إلا من أكره} الآية. وقال{إلا أن تتقوا منهم تقاة}آل عمران: 28] وقال{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض}النساء: 97] الآية. وقال{إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان}النساء: 98] الآية. فعذر الله المستضعفين الذين يمتنعون من ترك ما أمر الله به، والمكره لا يكون إلا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما أمر به؛ قاله البخاري.
ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه، مثل أن يكرهوا على السجود لغير الله أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم أو ضربه أو أكل ماله، أو الزنى وشرب الخمر وأكل الربا؛ يروى هذا عن الحسن البصري، رضي الله عنه. وهو قول الأوزاعي وسحنون من علمائنا. وقال محمد بن الحسن: إذا قيل للأسير: اسجد لهذا الصنم وإلا قتلتك. فقال: إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد ويكون نيته لله تعالى، وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه. والصحيح أنه يسجد وإن كان لغير القبلة، وما أحراه بالسجود حينئذ؛ ففي الصحيح عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت }فأينما تولوا فثم وجه الله}البقرة: 115] في رواية: ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. فإذا كان هذا مباحا في السفر في حالة الأمن لتعب النزول عن الدابة للتنفل فكيف بهذا. واحتج من قصر الرخصة على القول بقول ابن مسعود: ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلما به. فقصر الرخصة على القول ولم يذكر الفعل، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يحتمل أن يجعل للكلام مثالا وهو يريد أن الفعل في حكمه. وقالت طائفة: الإكراه في الفعل والقول سواء إذا أسر الإيمان. روي ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق. روى ابن القاسم عن مالك أن من أكره على شرب الخمر وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان، أن الإثم عنه مرفوع.
أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولا يحل له أن يفدي نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.
واختلف في الزنى، فقال مطرف وأصبغ وابن عبدالحكم وابن الماجشون: لا يفعل أحد ذلك، وإن قتل لم يفعله، فإن فعله فهو آثم ويلزمه الحد؛ وبه قال أبو ثور والحسن. قال ابن العربي: الصحيح أنه يجوز الإقدام على الزنى ولا حد عليه، خلافا لمن ألزمه ذلك؛ لأنه رأى أنها شهوة خلقية لا يتصور الإكراه عليها، وغفل عن السبب في باعث الشهوة وهو الإلجاء إلى ذلك، وهو الذي أسقط حكمه، وإنما يجب الحد على شهوة بعث عليها سبب اختياري، فقاس الشيء على ضده، فلم يحل بصواب من عنده. وقال ابن خويز منداد في أحكامه: اختلف أصحابنا متى أكره الرجل على الزنى؛ فقال بعضهم: عليه الحد؛ لأنه إنما يفعل ذلك باختياره. وقال بعضهم: لا حد عليه. قال ابن خويز منداد: وهو الصحيح. وقال أبو حنيفة: إن أكرهه غير السلطان حد، وإن أكرهه السلطان فالقياس أن يحد، ولكن استحسن ألا يحد. وخالفه صاحباه فقالا: لا حد عليه في الوجهين، ولم يراعوا الانتشار، وقالوا: متى علم أنه يتخلص من القتل بفعل الزنى جاز أن ينتشر. قال ابن المنذر: لا حد عليه، ولا فرق بين السلطان في ذلك وغير السلطان.
اختلف العلماء في طلاق المكره وعتاقه؛ فقال الشافعي وأصحابه: لا يلزمه شيء. وذكر ابن وهب عن عمر وعلي وابن عباس أنهم كانوا لا يرون طلاقه شيئا. وذكره ابن المنذر عن ابن الزبير وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس والحسن وشريح والقاسم وسالم ومالك والأوزاعي وأحمد واسحاق وأبي ثور. وأجازت طائفة طلاقه؛ روي ذلك عن الشعبي والنخعي وأبي قلابة والزهري وقتادة، وهو قول الكوفيين. قال أبو حنيفة: طلاق المكره يلزم؛ لأنه لم يعدم فيه أكثر من الرضا، وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل. وهذا قياس باطل؛ فإن الهازل قاصد إلى إيقاع الطلاق راض به، والمكره غير راض ولا نية له في الطلاق، وقد قال عليه السلام: (إنما الأعمال بالنيات ). وفي البخاري: وقال ابن عباس فيمن يكرهه اللصوص فيطلق: ليس بشيء؛ وبه قال ابن عمر وابن الزبير والشعبي والحسن. وقال الشعبي: إن أكرهه اللصوص فليس بطلاق، وإن أكرهه السلطان فهو طلاق. وفسره ابن عيينة فقال: إن اللص يقدم على قتله والسلطان لا يقتله.
وأما بيع المكره والمضغوط فله حالتان. الأولى: أن يبيع ماله في حق وجب عليه؛ فذلك ماض سائغ لا رجوع فيه عند الفقهاء؛ لأنه يلزمه أداء الحق إلى ربه من غير المبيع، فلما لم يفعل ذلك كان بيعه اختيارا منه فلزمه. وأما بيع المكره ظلما أو قهرا فذلك بيع لا يجوز عليه. وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن، ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم؛ فإن فات المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه. قال مطرف: ومن كان من المشترين يعلم حال المكره فإنه ضامن لما ابتاع من رقيقه وعروضه كالغاصب، وكلما أحدث المبتاع في ذلك من عتق أو تدبير أو تحبيس فلا يلزم المكره، وله أخذ متاعه. قال سحنون: أجمع أصحابنا وأهل العراق على أن بيع المكره على الظلم والجور لا يجوز. وقال الأبهري : إنه إجماع.
وأما نكاح المكره؛ فقال سحنون: أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة، وقالوا: لا يجوز المقام عليه، لأنه لم ينعقد. قال محمد بن سحنون: وأجاز أهل العراق نكاح المكره، وقالوا: لو أكره على أن ينكح امرأة بعشرة آلاف درهم، وصداق مثلها ألف درهم، أن النكاح جائز وتلزمه الألف ويبطل الفضل. قال محمد: فكما أبطلوا الزائد على الألف فكذلك يلزمهم إبطال النكاح بالإكراه. وقولهم خلاف السنة الثابتة في حديث خنساء بنت خذام الأنصارية، ولأمره صلى الله عليه وسلم بالاستئمار في أبضاعهن، وقد تقدم، فلا معنى لقولهم.
فان وطئها المكره على النكاح غير مكره على الوطء والرضا بالنكاح لزمه النكاح عندنا على المسمى من الصداق ودرئ عنه الحد. وإن قال: وطئتها على غير رضا مني بالنكاح فعليه الحد والصداق المسمى؛ لأنه مدع لإبطال الصداق المسمى، وتحد المرأة إن أقدمت وهي عالمة أنه مكره على النكاح. وأما المكرهة على النكاح وعلى الوطء فلا حد عليها ولها الصداق، ويحد الواطئ؛ فأعلمه. قاله سحنون.
إذا استكرهت المرأة على الزنى فلا حد عليها؛ لقوله }إلا من أكره} وقوله عليه السلام: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). ولقول الله تعالى{فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم}النور: 33] يريد الفتيات. وبهذا المعنى حكم عمر في الوليدة التي استكرهها العبد فلم يحدها. والعلماء متفقون على أنه لا حد على امرأة مستكرهة. وقال مالك: إذا وجدت المرأة حاملا وليس لها زوج فقالت استكرهت فلا يقبل ذلك منها وعليها الحد، إلا أن تكون لها بينة أو جاءت تدمي على أنها أوتيت، أو ما أشبه ذلك. واحتج بحديث عمر بن الخطاب أنه قال: الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول.
واختلفوا في وجوب الصداق للمستكرهة؛ فقال عطاء والزهري: لها صداق مثلها؛ وهو قول مالك والشافعي وأحمد واسحاق وأبي ثور. وقال الثوري: إذا أقيم الحد على الذي زنى بها بطل الصداق. وروي ذلك عن الشعبي، وبه قال أصحاب مالك وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: القول الأول صحيح.
إذا أكره الإنسان على إسلام أهله لما لم يحل أسلمها، ولم يقتل نفسه دونها ولا احتمل أذية في تخليصها. والأصل في ذلك ما خرجه البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة ودخل بها قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة فأرسل إليه أن أرسل بها إلي فأرسل بها فقام إليها فقامت تتوضأ وتصلي فقالت اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك فلا تسلط علي هذا الكافر فغط حتى ركض برجله). ودل هذا الحديث أيضا على أن سارة لما لم يكن عليها ملامة، فكذلك لا يكون على المستكرهة ملامة، ولا حد فيما هو أكبر من الخلوة. والله أعلم.
وأما يمين المكره فغير لازمة عند مالك والشافعي وأبي ثور وأكثر العلماء. قال ابن الماجشون: وسواء حلف فيما هو طاعة لله أو فيما هو معصية إذ أكره على اليمين؛ وقاله أصبغ. وقال مطرف: إن أكره على اليمين فيما هو لله معصية أو ليس في فعله طاعة ولا معصية فاليمين فيه ساقطة، وإن أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذ الوالي رجلا فاسقا فيكرهه أن يحلف بالطلاق لا يشرب خمرا، أولا يفسق ولا يغش في عمله، أو الولد يحلف ولده تأديبا له فإن اليمين تلزم؛ وإن كان المكره قد أخطأ فيما يكلف من ذلك. وقال به ابن حبيب. وقال أبو حنيفة ومن اتبعه من الكوفيين: إنه إن حلف ألا يفعل ففعل حنث، قالوا: لأن المكره له أن يوري في يمينه كلها، فلما لم يور ولا ذهبت نيته إلى خلاف ما أكره عليه فقد قصد إلى اليمين. احتج الأولون بأن قالوا: إذا أكره عليها فنيته مخالفة لقوله؛ لأنه كاره لما حلف عليه.
قال ابن العربي: ومن غريب الأمر أن علماءنا اختلفوا في الإكراه على الحنث هل يقع به أم لا؛ وهذه مسألة عراقية سرت لنا منهم، لا كانت هذه المسألة ولا كانوا! وأي فرق يا معشر أصحابنا بين الإكراه على اليمين في أنها لا تلزم وبين الحنث في أنه لا يقع! فاتقوا الله وراجعوا بصائركم، ولا تغتروا بهذه الروية فإنها وصمة في الدراية.
إذا أكره الرجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال كأصحاب المكس وظلمة السعاة وأهل الاعتداء؛ فقال مالك: لا تقية له في ذلك، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه لا ماله. وقال ابن الماجشون: لا يحنث وإن درأ عن ماله ولم يخف على بدنه. وقال ابن القاسم بقول مطرف، ورواه عن مالك، وقاله ابن عبدالحكم وأصبغ.
قلت: قول ابن الماجشون صحيح؛ لأن المدافعة عن المال كالمدافعة عن النفس؛ وهو قول الحسن وقتادة وسيأتي. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) وقال: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه). وروى أبو هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجلا يريد أخذ مالي؟ قال: (فلا تعطه مالك). قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: (قاتله) قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: (فأنت شهيد) قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: (هو في النار) خرجه مسلم. وقد مضى الكلام فيه. وقال مطرف وابن الماجشون: وإن بدر الحالف بيمينه للوالي الظالم قبل أن يسألها ليذب بها عما خاف عليه من ماله وبدنه فحلف له فإنها تلزمه. وقاله ابن عبدالحكم وأصبغ. وقال أيضا ابن الماجشون فيمن أخذه ظالم فحلف له بالطلاق البتة من غير أن يحلفه وتركه وهو كاذب، وإنما حلف خوفا من ضربه وقتله وأخذ ماله: فإن كان إنما تبرع باليمين غلبة خوف ورجاء النجاة من ظلمه فقد دخل في الإكراه ولا شيء عليه، وإن لم يحلف على رجاء النجاة فهو حانث.
قال المحققون من العلماء: إذا تلفظ المكره بالكفر فلا يجوز له أن يجريه على لسانه إلا مجرى المعاريض؛ فإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب. ومتى لم يكن كذلك كان كافرا؛ لأن المعاريض لا سلطان للإكراه عليها. مثاله - أن يقال له: اكفر بالله فيقول باللاهي؛ فيزيد الياء. وكذلك إذا قيل له: أكفر بالنبي فيقول هو كافر بالنبي، مشددا وهو المكان المرتفع من الأرض. ويطلق على ما يعمل من الخوص شبه المائدة فيقصد أحدهما بقلبه ويبرأ من الكفر ويبرأ من إثمه. فإن قيل له: أكفر بالنبيء (مهموزا) فيقول هو كافر بالنبيء يريد بالمخبر، أي مخبر كان كطليحة ومسلمة الكذاب. أو يريد به النبيء الذي قال فيه الشاعر:
فأصبح رتما دقاق الحصى مكان النبيء من الكاثب
أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجرا عند الله ممن اختار الرخصة. واختلفوا فيمن أكره على غير القتل من فعل ما لا يحل له؛ فقال أصحاب مالك: الأخذ بالشدة في ذلك واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة، ذكره ابن حبيب وسحنون. وذكر ابن سحنون عن أهل العراق أنه إذا تهدد بقتل أو قطع أو ضرب يخاف منه التلف فله أن يفعل ما أكره عليه من شرب خمر أو أكل خنزير؛ فان لم يفعل حتى قتل خفنا أن يكون آثما لأنه كالمضطر. وروى خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلت: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون). فوصفه صلى الله عليه وسلم هذا عن الأمم السالفة على جهة المدح لهم والصبر على المكروه في ذات الله، وأنهم لم يكفروا في الظاهر وتبطنوا الإيمان ليدفعوا العذاب عن أنفسهم. وهذه حجة من آثر الضرب والقتل والهوان على الرخصة والمقام بدار الجنان. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة [الأخدود] [البروج] إن شاء الله تعالى. وذكر أبو بكر محمد بن محمد بن الفرج البغدادي قال: حدثنا شريح بن يونس عن إسماعيل بن إبراهيم عن يونس بن عبيد عن الحسن أن عيونا لمسيلمة أخذوا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فذهبوا بهما إلى مسيلمة، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال نعم. قال.: أتشهد أني رسول الله؟ قال نعم. فخلى عنه. وقال للآخر: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال نعم. قال: وتشهد أني رسول الله؟ قال: أنا أصم لا أسمع؛ فقدمه وضرب عنقه. فجاء هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت، قال: (وما أهلكك)؟ فذكر الحديث، قال: أما صاحبك فأخذ بالثقة وأما أنت فأخذت بالرخصة على ما أنت عليه الساعة)قال: أشهد أنك رسول الله. قال (أنت على ما أنت عليه). الرخصة فيمن حلفه سلطان ظالم على نفسه أو على أن يدله على رجل أو مال رجل؛ فقال الحسن: إذا خاف عليه وعلى ماله فليحلف ولا يكفر يمينه؛ وهو قول قتادة إذا حلف على نفسه أو مال نفسه. وقد تقدم ما للعلماء في هذا.
وذكر موسى بن معاوية أن أبا سعيد بن أشرس صاحب مالك استحلفه السلطان بتونس على رجل أراد السلطان قتله أنه ما آواه، ولا يعلم له موضعا؛ قال: فحلف له ابن أشرس؛ وابن أشرس يومئذ قد علم موضعه وآواه، فحلفه بالطلاق ثلاثا، فحلف له ابن أشرس، ثم قال لامرأته: اعتزلي فاعتزلته؛ ثم ركب ابن أشرس حتى قدم على البهلول بن راشد القيروان، فأخبره بالخبر؛ فقال له البهلول: قال مالك إنك حانث. فقال ابن أشرس: وأنا سمعت مالكا يقول ذلك، وإنما أردت الرخصة أو كلام هذا معناه؛ فقال له البهلول ابن راشد: قال الحسن البصري إنه لا حنث عليك. قال: فرجع ابن أشرس إلى زوجته وأخذ بقول الحسن. وذكر عبدالملك بن حبيب قال: حدثني معبد عن المسيب بن شريك عن أبي شيبة قال: سألت أنس بن مالك عن الرجل يؤخذ بالرجل، هل ترى أن يحلف ليقيه بيمينه؟ فقال نعم؛ ولأن أحلف سبعين يمينا وأحنث أحب إلي أن أدل على مسلم. وقال إدريس بن يحيى كان الوليد بن عبدالملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق يأتونه بالأخبار، قال: فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد، فرفع ذلك إليه فقال: يا رجاء! اذكر بالسوء في مجلسك ولم تغير! فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين؛ فقال له الوليد: قل آلله الذي لا إله إلا هو، قال: آلله الذي لا إله إلا هو، فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطا، فكان يلقى رجاء فيقول: يا رجاء، بك يستقى المطر، وسبعون سوطا في ظهري! فيقول رجاء: سبعون سوطا في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم.
واختلف العلماء في حد الإكراه؛ فروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ليس الرجل آمن على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته. وقال ابن مسعود: ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنت متكلما به. وقال الحسن: التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، إلا أن الله تبارك وتعالى ليس يجعل في القتل تقية. وقال النخعي: القيد إكراه، والسجن إكراه. وهذا قول مالك، إلا أنه قال: والوعيد المخوف إكراه وإن لم يقع إذا تحقق ظلم ذلك المعتدي وإنفاذه لما يتوعد به، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن توقيت، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يدخل منه الضيق على المكره. وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه. وتناقض الكوفيون فلم يجعلوا السجن والقيد إكراه ما يدل على أن الإكراه يكون من غير تلف نفس. وذهب مالك إلى أن من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يحلف، ولا حنث عليه؛ وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور وأكثر العلماء.
ومن هذا الباب ما ثبت إن من المعاريض لمندوحة عن الكذب. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه قال: لا بأس إذا بلغ الرجل عنك شيء أن تقول: والله، إن الله يعلم ما قلت فيك من ذلك من شيء. قال عبدالملك بن حبيب: معناه أن الله يعلم أن الذي قلت، وهو في ظاهره انتفاء من القول، ولا حنث علن من قال ذلك في يمينه ولا كذب عليه في كلامه. وقال النخعي: كان لهم كلام من ألغاز الأيمان يدرؤون به عن أنفسهم، لا يرون ذلك من الكذب ولا يخشون فيه الحنث. قال عبدالملك: وكانوا يسمون ذلك المعاريض من الكلام، إذا كان ذلك في غير مكر ولا خديعة في حق. وقال الأعمش: كان إبراهيم النخعي إذا أتاه أحد يكره الخروج إليه جلس في مسجد بيته وقال لجاريته: قولي له هو والله في المسجد. وروى مغيرة عن إبراهيم أنه كان يجيز للرجل من البعث إذا عرضوا على أميرهم أن يقول: والله ما أهتدي إلا ما سدد لي غيري، ولا أركب إلا ما حملني غيري؛ ونحو هذا من الكلام. قال عبدالملك: يعني بقوله (غيري) الله تعالى، هو مسدده وهو يحمله؛ فلم يكونوا يرون على الرجل في هذا حنثا في يمينه، ولا كذبا في كلامه، وكانوا يكرهون أن يقال هذا في خديعة وظلم وجحدان حق فمن اجترأ وفعل أثم في خديعته ولم تجب عليه كفارة في يمينه.
قوله تعالى{ولكن من شرح بالكفر صدرا} أي وسعه لقبول الكفر، ولا يقدر أحد على ذلك إلا الله؛ فهو يرد على القدرية. و(صدرا) نصب على المفعول. }فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} وهو عذاب جهنم.
الآية رقم ( 107 : 109 )
{ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين، أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون، لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون}
قوله تعالى{ذلك} أي ذلك الغضب. }بأنهم استحبوا الحياة الدنيا} أي اختاروها على الآخرة. }وأن الله} }أن} في موضع خفض عطفا على }بأنهم} فقال{أولئك الذين طبع الله على قلوبهم} أي عن فهم المواعظ. }وسمعهم} عن كلام الله تعالى. }وأبصارهم} عن النظر في الآيات. }وأولئك هم الغافلون} عما يراد بهم. }لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} تقدم.
الآية رقم ( 110 )
{ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم}
قوله تعالى{ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا} هذا كله في عمار. والمعنى وصبروا على الجهاد؛ ذكره النحاس. وقال قتادة: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين إلى المدينة بعد أن فتنهم المشركون وعذبوهم، وقد تقدم ذكرهم في هذه السورة. وقيل: نزلت في ابن أبي سرح، وكان قد ارتد ولحق بالمشركين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة، فاستجار بعثمان فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره النسائي عن عكرمة عن ابن عباس قال: في سورة النحل }من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره - إلى قوله - ولهم عذاب عظيم} فنسخ، واستثنى من ذلك فقال{ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} وهو عبدالله بن سعد بن أبي سرح الذي كان على مصر، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به أن يقتل يوم الفتح؛ فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم. }إن ربك من بعدها لغفور رحيم} أي إن الله غفور رحيم في ذلك. أو ذكرهم:
الآية رقم ( 111 )
{يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون}
قوله تعالى{يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} أي تخاصم وتحاج عن نفسها؛ جاء في الخبر أن كل أحد يقول يوم القيامة: نفسي نفسي! من شدة هول يوم القيمة سوى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يسأل في أمته. وفي حديث عمر أنه قال لكعب الأحبار: يا كعب، خوّفنا هيّجنا حدّثنا نبّهنا. فقال له كعب: يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لأتت عليك تارات لا يهمك إلا نفسك، وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي منتخب إلا وقع جاثيا على ركبتيه، حتى إن إبراهيم الخليل ليدلي بالخلة فيقول: يا رب، أنا خليلك إبراهيم، لا أسألك اليوم إلا نفسي! قال: يا كعب، أين تجد ذلك في كتاب الله؟ قال: قوله تعالى{يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون}. وقال ابن عباس في هذه الآية: ما تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد؛ فتقول الروح: رب، الروح منك أنت خلقته، لم تكن لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها، ولا أذن أسمع بها ولا عقل أعقل به، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد، فضعف عليه أنواع العذاب ونجني؛ فيقول الجسد: رب، أنت خلقتني بيدك فكنت كالخشبة، ليس لي يد أبطش بها، ولا قدم أسعى به، ولا بصر أبصر به، ولا سمع أسمع به، فجاء هذا كشعاع النور، فبه نطق لساني، وبه أبصرت عيني، وبه مشت رجلي، وبه سمعت أذني، فضعف عليه أنواع العذاب ونجني منه. قال: فيضرب الله لهما مثلا أعمى ومقعدا دخلا بستانا فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثمرة والمقعد لا ينالها، فنادى المقعد الأعمى ايتني فاحملني آكل وأطعمك، فدنا منه فحمله، فأصابوا من الثمرة؛ فعلى من يكون العذاب؟ قال: عليكما جميعا العذاب؛ ذكره الثعلبي.
الآية رقم ( 112 )
{وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}
قوله تعالى{وضرب الله مثلا قرية} هذا متصل بذكر المشركين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على مشركي قريش وقال: (اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف). فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام، ووجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما ففرق فيهم. }كانت آمنة} لا يهاج أهلها. }يأتيها رزقها رغدا من كل مكان} من البر والبحر؛ نظيره }يجبى إليه ثمرات كل شيء}القصص: 57] الآية. }فكفرت بأنعم الله} الأنعم: جمع النعمة؛ كالأشد جمع الشدة. وقيل: جمع نعمى؛ مثل بؤسى وأبؤس. وهذا الكفران تكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم. }فأذاقها الله} أي أذاق أهلها. }لباس الجوع والخوف} سماه لباسا لأنه يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس. }بما كانوا يصنعون} أي من الكفر والمعاصي. وقرأه حفص بن غياث ونصر بن عاصم وابن أبي اسحاق والحسن وأبو عمرو فيما روى عنه عبدالوارث وعبيد وعباس }والخوف} نصبا بإيقاع أذاقها عليه، عطفا على }لباس الجوع} وأذاقها الخوف. وهو بعث النبي صلى الله عليه وسلم سراياه التي كانت تطيف بهم. وأصل الذوق بالفم ثم يستعار فيوضع موضع الابتلاء. وضرب مكة مثلا لغيرها من البلاد؛ أي أنها مع جوار بيت الله وعمارة مسجده لما كفر أهلها أصابهم القحط فكيف بغيرها من القرى. وقد قيل: إنها المدينة، آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كفرت بأنعم الله لقتل عثمان بن عفان، وما حدث بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتن. وهذا قول عائشة وحفصة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنه مثل مضروب بأي قرية كانت على هذه الصفة من سائر القرى.
الآية رقم ( 113 )
{ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون}
قوله تعالى{ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه} هذا يدل على أنها مكة. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. }فأخذهم العذاب} وهو الجوع الذي وقع بمكة. وقيل: الشدائد والجوع منها.
الآية رقم ( 114 )
{فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون}
قوله تعالى{فكلوا مما رزقكم الله} أي كلوا يا معشر المسلمين من الغنائم. وقيل: الخطاب للمشركين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم بطعام رقة عليهم، وذلك أنهم لما ابتلوا بالجوع سبع سنين، وقطع العرب عنهم الميرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أكلوا العظام المحرقة والجيفة والكلاب الميتة والجلود والعلهز، وهو الوبر يعالج بالدم. ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا وقالوا: هذا عذاب الرجال فما بال النساء والصبيان. وقال له أبو سفيان: يا محمد، إنك جئت تأمر بصلة الرحم والعفو، وإن قومك قد هلكوا؛ فادع الله لهم. فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذن للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون.
الآية رقم ( 115 )
{إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم}
تقدم في }البقرة} القول فيها مستوفى.
الآية رقم ( 116 : 117 )
{ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، متاع قليل ولهم عذاب أليم}
قوله تعالى{لما تصف} ما هنا مصدرية، أي لوصف. وقيل: اللام لام سبب وأجل، أي لا تقول لأجل وصفكم }الكذب} بنزع الخافض،، أي لما تصف ألسنتكم من الكذب. وقرئ }الكذب} بضم الكاف والذال والباء، نعتا للألسنة. وقرأ الحسن هنا خاصة }الكذب} بفتح الكاف وخفض الذال والباء، نعتا }لما}؛ التقدير: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب. وقيل على البدل من ما؛ أي ولا تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب. الآية خطاب للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كان ميتة. فقوله تعالى{هذا حلال} إشارة إلى ميتة بطون الأنعام، وكل ما أحلوه. }وهذا حرام} إشارة إلى البحائر والسوائب وكل ما حرموه. }إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، متاع قليل} أي ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عن قريب. وقال الزجاج: أي متاعهم متاع قليل. وقيل: لهم متاع قليل ثم يردون إلى عذاب أليم.
أسند الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا هارون عن حفص عن الأعمش قال: ما سمعت إبراهيم قط يقول حلال ولا حرام، ولكن كان يقول: كانوا يكرهون وكانوا يستحبون. وقال ابن وهب قال مالك: لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولوا إياكم كذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا. ومعنى هذا: أن التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل، وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان، إلا أن يكون البارئ تعالى يخبر بذلك عنه. وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول: إني أكره كذا. وكذلك كان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى. فإن قيل: فقد قال فيمن قال لزوجته أنت علي حرام إنها حرام ويكون ثلاثا. فالجواب أن مالكا لما سمع علي بن أبي طالب يقول إنها حرام اقتدى به. وقد يقوى الدليل على التحريم عند المجتهد فلا بأس عند ذلك أن يقول ذلك، كما يقول إن الربا حرام في غير الأعيان الستة، وكثيرا ما يطلق مالك رحمه الله؛ فذلك حرام لا يصلح في الأموال الربوية وفيما خالف المصالح وخرج عن طريق المقاصد لقوة الأدلة في ذلك.
الآية رقم ( 118 )
{وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}
قوله تعالى{وعلى الذين هادوا} بين أن الأنعام والحرث حلال لهذه الأمة، فأما اليهود فحرمت عليهم منها أشياء. }حرمنا ما قصصنا عليك من قبل} أي في سورة الأنعام. }وما ظلمناهم} أي بتحريم ما حرمنا عليهم، ولكن ظلموا أنفسهم فحرمنا عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم؛ كما تقدم في }النساء}.
الآية رقم ( 119 )
{ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم}
قوله تعالى{ثم إن ربك للذين عملوا السوء} أي الشرك؛ قاله ابن عباس. وقد تقدم في }النساء}.
الآية رقم ( 120 )
{إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين}
قوله تعالى{إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا} دعا عليه السلام مشركي العرب إلى ملة إبراهيم؛ إذ كان أباهم وباني البيت الذي به عزهم؛ والأمة: الرجل الجامع للخير، وقد تقدم محامله. وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك قال: بلغني أن عبدالله بن مسعود قال: يرحم الله معاذا! كان أمة قانتا. فقيل له: يا أبا عبدالرحمن، إنما ذكر الله عز وجل بهذا إبراهيم عليه السلام. فقال ابن مسعود: إن الأمة الذي يعلم الناس الخير، وإن القانت هو المطيع. وقد تقدم القنوت في }البقرة} و}حنيفا} في }الأنعام}.
الآية رقم ( 121 : 122 )
{شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم، وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين}
قوله تعالى{شاكرا} أي كان شاكرا. }لأنعمه} الأنعم جمع نعمة، وقد تقدم. }اجتباه} أي اختاره. } وهداه إلى صراط مستقيم، وآتيناه في الدنيا حسنة} قيل: الولد الطيب. وقيل الثناء الحسن. وقيل: النبوة. وقيل: الصلاة مقرونة بالصلاة على محمد عليه السلام في التشهد. وقيل: إنه ليس أهل دين إلا وهم يتولونه. وقيل: بقاء ضيافته وزيارة قبره. وكل ذلك أعطاه الله وزاده صلى الله عليه وسلم. }وإنه في الآخرة لمن الصالحين} }من} بمعنى مع، أي مع الصالحين؛ لأنه كان في الدنيا أيضا مع الصالحين. وقد تقدم.
الآية رقم ( 123 )
{ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين}
قال ابن عمر: أمر باتباعه في مناسك الحج كما علم إبراهيم جبريل عليهما السلام. وقال الطبري: أمر باتباعه في التبرؤ من الأوثان والتزين بالإسلام. وقيل: أمر باتباعه في جميع ملته إلا ما أمر بتركه؛ قاله بعض أصحاب الشافعي على ما حكاه الماوردي. والصحيح الاتباع في عقائد الشرع دون الفروع؛ لقوله تعالى{لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}المائدة: 48].
مسألة:
في هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول - لما تقدم في الأصول - والعمل به، ولا درك على الفاضل في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء عليهم السلام، وقد أمر بالاقتداء بهم فقال{فبهداهم اقتده}الأنعام: 90]. وقال هنا{ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم}.
الآية رقم ( 124 )
{إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}
قوله تعالى{إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} أي لم يكن في شرع إبراهيم ولا في دينه، بل كان سمحا لا تغليظ فيه، وكان السبت تغليظا على اليهود في رفض الأعمال وترك التبسيط في المعاش بسبب اختلافهم فيه، ثم جاء عيسى عليه السلام بيوم الجمعة فقال: تفرغوا للعبادة في كل سبعة أيام يوما واحدا. فقالوا: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، فاختاروا الأحد. وقد اختلف العلماء في كيفية ما وقع لهم من الاختلاف؛ فقالت طائفة: إن موسى عليه السلام أمرهم بيوم الجمعة وعينه لهم، وأخبرهم بفضيلته على غيره، فناظروه أن السبت أفضل؛ فقال الله له: (دعهم وما اختاروا لأنفسهم). وقيل: إن الله تعالى لم يعينه لهم، وإنما أمرهم بتعظيم يوم في الجمعة فاختلف اجتهادهم في تعيينه، فعينت اليهود السبت؛ لأن الله تعالى فرغ فيه من الخلق. وعينت النصارى يوم الأحد؛ لأن الله تعالى بدأ فيه بالخلق. فألزم كل منهم ما أداه إليه اجتهاده. وعين الله لهذه الأمة يوم الجمعة من غير أن يكلهم إلى اجتهادهم فضلا منه ونعمة، فكانت خير الأمم أمة. روى الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فيه فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له - قال يوم الجمعة - فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى) فقوله: (فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه) يقوي قول من قال: إنه لم يعين لهم؛ فإنه لو عين لهم وعاندوا لما قيل (اختلفوا). وإنما كان ينبغي أن يقال فخالفوا فيه وعاندوا. ومما يقويه أيضا قوله عليه السلام: (أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا). وهذا نص في المعنى. وقد جاء في بعض طرقه (فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم اختلفوا فيه). وهو حجة للقول الأول. وقد روي: (إن الله كتب الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع).
قوله تعالى{على الذين اختلفوا فيه} يريد في يوم الجمعة كما بيناه؛ اختلفوا على نبيهم موسى وعيسى. ووجه الاتصال بما قبله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع الحق، وحذر الله الأمة من الاختلاف عليه فيشدد عليهم كما شدد على اليهود.
الآية رقم ( 125 )
{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}
هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة 0 فهي محكمة في جهة العصاة من الموحدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين. وقد قيل: إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة. والله أعلم.
الآية رقم ( 126 )
{وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}
أطبق جمهور أهل التفسير أن هذه الآية مدنية، نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري وفي كتاب السير. وذهب النحاس إلى أنها مكية، والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالا حسنا؛ لأنها تتدرج الرتب من الذي يُدعى ويُوعظ، إلى الذي يجادل، إلى الذي يجازى على فعله. ولكن ما روى الجمهور أثبت. روى الدارقطني عن ابن عباس قال: لما انصرف المشركون عن قتلى أحد انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى منظرا ساءه رأى حمزة قد شُق بطنه، واصطلم أنفه، وجدعت أذناه، فقال: (لولا أن يحزن النساء أو تكون سنة بعدي لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير لأمثلن مكانه بسبعين رجلا) ثم دعا ببردة وغطى بها وجهه، فخرجت رجلاه فغطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وجعل على رجليه من الإذخر، ثم قدمه فكبر عليه عشرا، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه، حتى صلى عليه سبعين صلاة، وكان القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة - إلى قوله - واصبر وما صبرك إلا بالله} فصبر. رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمثل بأحد. خرجه إسماعيل بن اسحاق من حديث أبي هريرة، وحديث ابن عباس أكمل. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة ألا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره. وحكاه الماوردي عن ابن سيرين ومجاهد.
واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه؛ فقالت فرقة: له ذلك؛ منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد؛ واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها. وقال مالك وفرقة معه: لا يجوز له ذلك؛ واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك). رواه الدارقطني. ووقع في مسند ابن اسحاق أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنى بامرأة آخر، ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر؛ فاستشار ذلك الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر فقال له: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك). وعلى هذا يتقوى قول مالك في أمر المال؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك، وهي رذيلة لا انفكاك عنها، فينبغي أن يتجنبها لنفسه؛ فإن تمكن من الانتصاف من مال لم يأتمنه عليه فيشبه أن ذلك جائز وكأن الله حكم له؛ كما لو تمكن الأخذ بالحكم من الحاكم. وقد قيل: إن هذه الآية منسوخة، نسختها }واصبر وما صبرك إلا بالله}.
في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص؛ فمن قتل بحديدة قتل بها. ومن قتل بحجر قتل به، ولا يتعدى قدر الواجب، وقد تقدم.
سمى الله تعالى الإذايات في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية، وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب ديباجة القول، وهذا بعكس قوله{ومكروا ومكر الله}آل عمران: 54] وقوله{الله يستهزئ بهم}البقرة: 15] فإن الثاني هنا هو المجاز والأول هو الحقيقة؛ قاله ابن عطية.
الآية رقم ( 127 : 128 )
{واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}
قال ابن زيد: هي منسوخة بالقتال. وجمهور الناس على أنها محكمة. أي اصبر بالعفو عن المعاقبة بمثل ما عاقبوا في المثلة. }ولا تحزن عليهم} أي على قتلى أحد فإنهم صاروا إلى رحمة الله. }ولا تكن في ضيق} ضيق جمع ضيقة؛ قال الشاعر:
كشف الضيقة عنا وفسح
وقراءة الجمهور بفتح الضاد. وقرأ ابن كثير بكسر الضاد، ورويت عن نافع، وهو غلظ ممن رواه. قال بعض اللغويين: الكسر والفتح في الضاد لغتان في المصدر. قال الأخفش: الضيق والضيق مصدر ضاق يضيق. والمعنى: لا يضيق صدرك من كفرهم. وقال الفراء: الضيق ما ضاف عنه صدرك، والضيق ما يكون في الذي يتسع ويضيق؛ مثل الدار والثواب. وقال ابن السكيت: هما سواء؛ يقال: في صدره ضيق وضيق. القتبي: ضيق مخفف ضيق؛ أي لا تكن في أمر ضيق فخفف؛ مثل هين وهين. وقال ابن عرفة: يقال ضاق الرجل إذا بخل، وأضاق إذا افتقر. وقوله{إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} أي الفواحش والكبائر بالنصر والمعونة والفضل والبر والتأييد. وتقدم معنى الإحسان. وقيل لهَرم بن حِبان عند موته: أوصنا؛ فقال: أوصيكم بآيات الله وآخر سورة النحل }ادع إلى سبيل ربك} إلى آخرها.
هذه السورة مكية، إلا ثلاث آيات: قوله عز وجل (وإن كادوا ليستفزونك) [الإسراء: 76] حين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف، وحين قالت اليهود: ليست هذه بأرض الأنبياء. وقوله عز وجل: (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) [الإسراء: 80] وقوله تعالى (إن ربك أحاط بالناس) [الإسراء: 60] الآية. وقال مقاتل: وقوله عز وجل (إن الذين أوتوا العلم من قبله) [الإسراء: 107] الآية. وقال ابن مسعود رضي الله عنه في بني إسرائيل والكهف ومريم: إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي؛ يريد من قديم كسبه.
الآية رقم ( 1 )
{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير}
قوله تعالى{سبحان } اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكن؛ لأنه لا يجرى بوجوه الإعراب، ولا تدخل عليه الألف واللام، ولم يجر منه فعل، ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين، تقول: سبحت تسبيحا وسبحانا، مثل كفرت اليمين تكفيرا وكفرانا. ومعناه التنزيه والبراءة لله عز وجل من كل نقص. فهو ذكر عظيم لله تعالى لا يصلح لغيره؛ فأما قول ا لشاعر:
أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
فإنما ذكره على طريق النادر. وقد روى طلحة بن عبيدالله الفياض أحد العشرة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما معنى سبحان الله؟ فقال: (تنزيه الله من كل سوء). والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي من معناه لا من لفظه، إذ لم يجر من لفظه فعل، وذلك مثل قعد القرفصاء، واشتمل الصماء؛ فالتقدير عنده: أنزه الله تنزيها؛ فوقع (سبحان الله) مكان قولك تنزيها.
قوله تعالى {أسرى بعبده} {أسرى} فيه لغتان: سرى وأسرى؛ كسقى وأسقى، كما تقدم. قال:
أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليه جامد البرد
وقال آخر:
حي النضيرة ربة الخدر أسرت إلي ولم تكن تسري
فجمع بين اللغتين في البيتين. والإسراء: سير الليل؛ يقال: سريت مسرى وسرى، وأسريت إسراء؛ قال الشاعر:
وليلة ذات ندى سريت ولم يلتني من سراها ليت
وقيل: أسرى سار من أول الليل، وسرى سار من آخره؛ والأول أعرف.
قوله تعالى{بعبده} قال العلماء: لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية. وفي معناه أنشدوا:
يا قوم قلبي عند زهراء يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
وقد تقدم. قال القشيري: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية تواضعا للأمة.
ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه. وذكر النقاش: ممن رواه عشرين صحابيا. روى الصحيح عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه - قال - فركبته حتى أتيت بيت المقدس - قال - فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء - قال - ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة - قال - ثم عرج بنا إلى السماء...) وذكر الحديث. ومما ليس في الصحيحين ما خرجه الآجري والسمرقندي، قال الآجري عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} قال أبو سعيد: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتيت بدابة هي أشبه الدواب بالبغل له أذنان يضطربان وهو البراق الذي كانت الأنبياء تركبه قبل فركبته فانطلق تقع يداه عند منتهى بصره فسمعت نداء عن يميني يا محمد على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج عليه ثم سمعت نداء عن يساري يا محمد على رسلك فمضيت ولم أعرج عليه ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج ثم أتيت بيت المقدس الأقصى فنزلت عن الدابة فأوثقته في الحلقة التي كانت الأنبياء توثق بها ثم دخلت المسجد وصليت فيه فقال لي جبريل عليه السلام ما سمعت يا محمد فقلت نداء عن يميني يا محمد على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج فقال ذلك داعي اليهود ولو وقفت لتهودت أمتك - قال - ثم سمعت نداء عن يساري على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج عليه فقال ذلك داعي النصارى أما إنك لو وقفت لتنصرت أمتك - قال - ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رسلك فمضيت ولم أعرج عليها فقال تلك الدنيا لو وقفت لاخترت الدنيا على الآخرة - قال - ثم أتيت بإناءين أحدهما فيه لبن والآخر فيه خمر فقيل لي خذ فاشرب أيهما شئت فأخذت اللبن فشربته فقال لي جبريل أصبت الفطرة ولو أنك أخذت الخمر غوت أمتك ثم جاء بالمعراج الذي تعرج فيه أرواح بني آدم فإذا هو أحسن ما رأيت أو لم تروا إلى الميت كيف يحد بصره إليه فعرج بنا حتى أتينا باب السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل من هذا قال جبريل قالوا ومن معك قال محمد قالوا وقد أرسل إليه؟ قال نعم ففتحوا لي وسلموا علي وإذا ملك يحرس السماء يقال له إسماعيل معه سبعون ألف ملك مع كل ملك مائة ألف - قال - وما يعلم جنود ربك إلا هو...) وذكر الحديث إلى أن قال: (ثم مضينا إلى السماء الخامسة وإذا أنا بهارون بن عمران المحب في قومه وحوله تبع كثير من أمته فوصفه النبي صلى الله عليه وسلم وقال طويل اللحية تكاد لحيته تضرب في سرته ثم مضينا إلى السماء السادسة فإذا أنا بموسى فسلم علي ورحب بي - فوصفه النبي صلى الله عليه وسلم فقال - رجل كثير الشعر ولو كان عليه قميصان خرج شعره منهما...) الحديث.
وروى البزار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بفرس فحمل عليه، كل خطوة منه أقصى بصره... وذكر الحديث. وقد جاء في صفة البراق من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم في الحجر إذ أتاني آت فحركني برجله فاتبعت الشخص فإذا هو جبريل عليه السلام قائم على باب المسجد معه دابة دون البغل وفوق الحمار وجهها وجه إنسان وخفها خف حافر وذنبها ذنب ثور وعرفها عرف الفرس فلما أدناها مني جبريل عليه السلام نفرت ونفشت عرفها فمسحها جبريل عليه السلام وقال يا برقة لا تنفري من محمد فوالله ما ركبك ملك مقرب ولا نبي مرسل أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم ولا أكرم على الله منه قالت قد علمت أنه كذلك وأنه صاحب الشفاعة وإني أحب أن أكون في شفاعته فقلت أنت في شفاعتي إن شاء الله تعالى...) الحديث. وذكر أبو سعيد عبدالملك بن محمد النيسابوري عن أبي سعيد الخدري قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بإدريس عليه السلام في السماء الرابعة قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح الذي وعدنا أن نراه فلم نره إلا الليلة قال فإذا فيها مريم بنت عمران لها سبعون قصرا من لؤلؤ ولأم موسى بن عمران سبعون قصرا من مرجانة حمراء مكللة باللؤلؤ أبوابها وأسرتها من عرق واحد فلما عرج المعراج إلى السماء الخامسة وتسبيح أهلها سبحان من جمع بين الثلج والنار من قالها مرة واحدة كان له مثل ثوابهم استفتح الباب جبريل عليه السلام ففتح له فإذا هو بكهل لم ير قط كهل أجمل منه عظيم العينين تضرب لحيته قريبا من سرته قد كان أن تكون شمطه وحوله قوم جلوس يقص عليهم فقلت يا جبريل من هذا قال هارون المحب في قومه..) وذكر الحديث.
فهذه نبذة مختصرة من أحاديث الإسراء خارجة عن الصحيحين، ذكرها أبو الربيع سليمان ابن سبع بكمالها في كتاب (شفاء الصدور) له. ولا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في حين الإسراء حين عرج به إلى السماء. واختلفوا في تاريخ الإسراء وهيئة الصلاة، وهل كان إسراء بروحه أو جسده؛ فهذه ثلاث مسائل تتعلق بالآية، وهي مما ينبغي الوقوف عليها والبحث عنها، وهي أهم من سرد تلك الأحاديث، وأنا أذكر ما وقفت عليه فيها من أقاويل العلماء واختلاف الفقهاء بعون الله تعالى.
فأما المسألة الأولى: وهي هل كان إسراء بروحه أو جسده؛ اختلف في ذلك السلف والخلف، فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، ولم يفارق شخصه مضجعه، وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق، ورؤيا الأنبياء حق. ذهب إلى هذا معاوية وعائشة، وحكي عن الحسن وابن إسحاق. وقالت طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح؛ واحتجوا بقوله تعالى{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء. قالوا: ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فإنه كان يكون أبلغ في المدح. وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه كان إسراء بالجسد وفي اليقظة، وأنه ركب البراق بمكة، ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه ثم أسري بجسده. وعلى هذا تدل الأخبار التي أشرنا إليها والآية. وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، ولو كان مناما لقال بروح عبده ولم يقل بعبده. وقوله {ما زاغ البصر وما طغى}النجم: 17] يدل على ذلك. ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما قالت له أم هانئ: لا تحدث الناس فيكذبوك، والأفضل أبو بكر بالتصديق، ولما أمكن قريشا التشنيع والتكذيب، وقد كذبه قريش فيما أخبر به حتى ارتد أقوام كانوا آمنوا، فلو كان بالرؤيا لم يستنكر، وقد قال له المشركون: إن كنت صادقا فخبرنا عن عيرنا اين لقيتها؟ قال: (بمكان كذا وكذا مررت عليها ففزع فلان) فقيل له: ما رأيت يا فلان، قال: ما رأيت شيئا! غير أن الإبل قد نفرت. قالوا: فأخبرنا متى تأتينا العير؟ قال: (تأتيكم يوم كذا وكذا). قالوا: أية ساعة؟ قال: (ما أدري، طلوع الشمس من ها هنا أسرع أم طلوع العير من ها هنا). فقال رجل: ذلك اليوم؟ هذه الشمس قد طلعت. وقال رجل: هذه عيركم قد طلعت، واستخبروا النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة بيت المقدس فوصفه لهم ولم يكن رآه قبل ذلك. روى الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربا ما كربت مثله قط - قال - فرفعه الله لي أنظر إليه فما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به...) الحديث. وقد اعترض قول عائشة ومعاوية (إنما أسري بنفس رسول الله صلى الله عليه وسلم (بأنها كانت صغيرة لم تشاهد، ولا حدثت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما معاوية فكان كافرا في ذلك الوقت غير مستشهد للحال، ولم يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أراد الزيادة على ما ذكرنا فليقف على (كتاب الشفاء) للقاضي عياض يجد من ذلك الشفاء. وقد احتج لعائشة بقوله تعالى{وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس}الإسراء: 60] فسماها رؤيا. وهذا يرده قوله تعالى{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} ولا يقال في النوم أسرى. وأيضا فقد يقال لرؤية العين: رؤيا، على ما يأتي بيانه في هذه السورة. وفي نصوص الأخبار الثابتة دلالة واضحة على أن الإسراء كان بالبدن، وإذا ورد الخبر بشيء هو مجوز في العقل في قدرة الله تعالى فلا طريق إلى الإنكار، لا سيما في زمن خرق العوائد، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم معارج؛ فلا يبعد أن يكون البعض بالرؤيا، وعليه يحمل قوله عليه السلام في الصحيح: (بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان...) الحديث. ويحتمل أن يرد من الإسراء إلى نوم. والله أعلم.
في تاريخ الإسراء، وقد اختلف العلماء في ذلك أيضا، واختلف في ذلك على ابن شهاب؛ فروى عنه موسى بن عقبة أنه أسري به إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة. وروى عنه يونس عن عروة عن عائشة قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة. قال ابن شهاب: وذلك بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسبعة أعوام. وروي عن الوقاصي قال: أسري به بعد مبعثه بخمس سنين. قال ابن شهاب: وفرض الصيام بالمدينة قبل بدر، وفرضت الزكاة والحج بالمدينة، وحرمت الخمر بعد أحد. وقال ابن إسحاق: أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس، وقد فشا الإسلام بمكة في القبائل. وروى عنه يونس بن بكير قال: صلت خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلم. وسيأتي. قال أبو عمر: وهذا يدلك على أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام؛ لأن خديجة قد توفيت قبل الهجرة بخمس سنين وقيل بثلاث وقيل بأربع. وقول ابن إسحاق مخالف لقول ابن شهاب، على أن ابن شهاب قد اختلف عنه كما تقدم. وقال الحربي: أسري به ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة. وقال أبو بكر محمد بن علي ابن القاسم الذهبي في تاريخه: أسري به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا. قال أبو عمر: لا أعلم أحدا من أهل السير قال ما حكاه الذهبي، ولم يسند قول إلى أحد ممن يضاف إليه هذا العلم منهم، ولا رفعه إلى من يحتج به عليهم.
وأما فرض الصلاة وهيئتها حين فرضت، فلا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما فرضت بمكة ليلة الإسراء حين عرج به إلى السماء، وذلك منصوص في الصحيح وغيره. وإنما اختلفوا في هيئتها حين فرضت؛ فروي عن عائشة رضي الله عنها أنها فرضت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعا، وأقرت صلاة السفر على ركعتين. وبذلك قال الشعبي وميمون بن مهران ومحمد بن إسحاق. قال الشعبي: إلا المغرب. قال يونس بن بكير: وقال ابن إسحاق ثم إن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم حين فرضت عليه الصلاة يعني في الإسراء فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت عين ماء فتوضأ جبريل ومحمد ينظر عليهما السلام فوضأ وجهه واستنشق وتمضمض ومسح برأسه وأذنيه ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه، ثم قام يصلي ركعتين بأربع سجدات، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من أمر الله تعالى، فأخذ بيد خديجة ثم أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سواء. وروي عن ابن عباس أنها فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين. وكذلك قال نافع بن جبير والحسن بن أبي الحسن البصري، وهو قول ابن جريج، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوافق ذلك. ولم يختلفوا في أن جبريل عليه السلام هبط صبيحة ليلة الإسراء عند الزوال، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ومواقيتها. وروى يونس بن بكير عن سالم مولى أبي المهاجر قال سمعت ميمون بن مهران يقول: كان أول الصلاة مثنى، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا فصارت سنه، وأقرت الصلاة للمسافر وهي تمام. قال أبو عمر: وهذا إسناد لا يحتج بمثله، وقوله (فصارت سنة) قول منكر، وكذلك استثناء الشعبي المغرب وحدها ولم يذكر الصبح قول لا معنى له. وقد أجمع المسلمون أن فرض الصلاة في الحضر أربع إلا المغرب والصبح ولا يعرفون غير ذلك عملا ونقلا مستفيضا، ولا يضرهم الاختلاف فيما كان أصل فرضها.
قد مضى الكلام في الأذان في المائدة والحمد لله. ومضى في آل عمران أن أول مسجد وضع في الأرض المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى. وأن بينهما أربعين عاما من حديث أبي ذر، وبناء سليمان عليه السلام المسجد الأقصى ودعاؤه له من حديث عبدالله بن عمرو ووجه الجمع في ذلك؛ فتأمله هناك فلا معنى للإعادة. ونذكر هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس)." خرجه مالك من حديث أبي هريرة". وفيه ما يدل على فضل هذه المساجد الثلاثة على سائر المساجد؛ لهذا قال العلماء: من نذر صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا برحلة وراحلة فلا يفعل، ويصلي في مسجده، إلا في الثلاثة المساجد المذكورة فإنه من نذر صلاة فيها خرج إليها. وقد قال مالك وجماعة من أهل العلم فيمن نذر رباطا في ثغر يسده: فإنه يلزمه الوفاء حيث كان الرباط لأنه طاعة الله عز وجل. وقد زاد أبو البختري في هذا الحديث مسجد الجند، ولا يصح وهو موضوع، وقد تقدم في مقدمة الكتاب.
قوله تعالى{إلى المسجد الأقصى} سمي الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظم بالزيارة، ثم قال{الذي باركنا حوله} قيل: بالثمار وبمجاري الأنهار. وقيل: بمن دفن حوله من الأنبياء والصالحين؛ وبهذا جعله مقدسا. وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى يا شام أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي). {لنريه من آياتنا} هذا من باب تلوين الخطاب.
والآيات التي أراه الله من العجائب التي أخبر بها الناس، وإسراؤه من مكة إلى المسجد الأقصى في ليلة وهو مسيرة شهر، وعروجه إلى السماء ووصفه الأنبياء واحدا واحدا، حسبما ثبت في صحيح مسلم وغيره. {إنه هو السميع البصير} تقدم.
الآية رقم ( 2 )
{وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا}
أي كرمنا محمدا صلى الله عليه وسلم بالمعراج، وأكرمنا موسى بالكتاب وهو التوراة. {وجعلناه} أي ذلك الكتاب. وقيل موسى. وقيل معنى الكلام: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وأتى موسى الكتاب؛ فخرج من الغيبة إلى الإخبار عن نفسه جل وعز. وقيل: إن معنى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا، معناه أسرينا، يدل عليه ما بعده من قوله{لنريه من آياتنا}الإسراء: 1] فحمل {وآتينا موسى الكتاب} على المعنى. {ألا تتخذوا} قرأ أبو عمرو (يتخذوا) بالياء. الباقون بالتاء. فيكون من باب تلوين الخطاب. {وكيلا} أي شريكا؛ عن مجاهد. وقيل: كفيلا بأمورهم؛ حكاه الفراء. وقيل: ربا يتوكلون عليه في أمورهم؛ قاله الكلبي. وقال الفراء: كافيا؛ والتقدير: عهدنا إليه في الكتاب ألا تتخذوا من دوني وكيلا. وقيل: التقدير لئلا تتخذوا. والوكيل: من يوكل إليه الأمر.
الآية رقم ( 3 )
{ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا }
أي يا ذرية من حملنا، على النداء؛ قال مجاهد ورواه عنه ابن أبي نجيح. والمراد بالذرية كل من احتج عليه بالقرآن، وهم جميع من على الأرض؛ ذكره المهدوي. وقال الماوردي: يعني موسى وقومه من بني إسرائيل، والمعنى يا ذرية من حملنا مع نوح لا تشركوا. وذكر نوحا ليذكرهم نعمة الإنجاء من الغرق على آبائهم. وروى سفيان عن حميد عن مجاهد أنه قرأ (ذرية) بفتح الذال وتشديد الراء والياء. وروى هذه القراءة عامر بن الواجد عن زيد بن ثابت. وروي عن زيد بن ثابت أيضا {ذرية} بكسر الذال وشد الراء. ثم بين أن نوحا كان عبدا شكورا يشكر الله على نعمه ولا يرى الخير إلا من عنده. قال قتادة: كان إذا لبس ثوبا قال: بسم الله، فإذا نزعه قال: الحمد لله. كذا روى عنه معمر. وروى معمر عن منصور عن إبراهيم قال: شكره إذا أكل قال: بسم الله، فإذا فرغ من الأكل قال: الحمد لله. قال سلمان الفارسي: لأنه كان يحمد الله على طعامه. وقال عمران بن سليم: إنما سمى نوحا عبدا شكورا لأنه كان إذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء لأجاعني، وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء لأظمأني، وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء لأعراني، وإذا احتذى قال: الحمد لله الذي حذاني ولو شاء لأحفاني، وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني الأذى ولو شاء لحبسه في. ومقصود الآية: إنكم من ذرية نوح وقد كان عبدا شكورا فأنتم أحق بالاقتداء به دون آبائكم الجهال. وقيل: المعنى أن موسى كان عبدا شكورا إذ جعله الله من ذرية نوح. وقيل: يجوز أن يكون {ذرية} مفعولا ثانيا {لتتخذوا} ويكون قوله{وكيلا} يراد به الجمع فيسوغ ذلك في القراءتين جميعا أعني الياء والتاء في {تتخذوا}. ويجوز أيضا في القراءتين جميعا أن يكون {ذرية} بدلا من قوله {وكيلا} لأنه بمعنى الجمع؛ فكأنه قال لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح. ويجوز نصبها بإضمار أعني وأمدح، والعرب قد تنصب على المدح والذم. ويجوز رفعها على البدل من المضمر في {تتخذوا} في قراءة من قرأ بالياء؛ ولا يحسن ذلك لمن قرأ بالتاء لأن المخاطب لا يبدل منه الغائب. ويجوز جرها على البدل من بني إسرائيل في الوجهين. فأما {أن} من قوله {ألا تتخذوا} فهي على قراءة من قرأ بالياء في موضع نصب بحذف الجار، التقدير: هديناهم لئلا يتخذوا. ويصلح على قراءة التاء أن تكون زائدة والقول مضمر كما تقدم. ويصلح أن تكون مفسرة بمعنى أي، لا موضع لها من الإعراب، وتكون {لا} للنهي فيكون خروجا من الخبر إلى النهي.
الآية رقم ( 4 )
{وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا}
قوله تعالى{وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} قرأ سعيد بن جبير وأبو العالية في الكتب على لفظ الجمع. وقد يرد لفظ الواحد ويكون معناه الجمع؛ فتكون القراءتان بمعنى واحد. ومعنى {قضينا} أعلمنا وأخبرنا؛ قاله ابن عباس: وقال قتادة: حكمنا؛ وأصل القضاء الإحكام للشيء والفراغ منه، وقيل: قضينا أوحينا؛ ولذلك قال{إلى بني إسرائيل}. وعلى قول قتادة يكون {إلى} بمعنى على؛ أي قضينا عليهم وحكمنا. وقاله ابن عباس أيضا. والمعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. {لتفسدن} وقرأ ابن عباس {لتفسدن}. عيسى الثقفي {لتفسدن}. والمعنى في القراءتين قريب؛ لأنهم إذا أفسدوا فسدوا، والمراد بالفساد مخالفة أحكام التوراة. {في الأرض} يريد أرض الشام وبيت المقدس وما والاها. {مرتين ولتعلن} اللام في {لتفسدن ولتعلن} لام قسم مضمر كما تقدم. {علوا كبيرا} أراد التكبر والبغي والطغيان والاستطالة والغلبة والعدوان.
الآية رقم ( 5 )
{فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا}
قوله تعالى{فإذا جاء وعد أولاهما} أي أولى المرتين من فسادهم. {بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد} هم أهل بابل، وكان عليهم بختنصر في المرة الأولى حين كذبوا إرمياء وجرحوه وحبسوه؛ قاله ابن عباس وغيره. وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد. وقال مجاهد: جاءهم جند من فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بختنصر فوعى حديثهم من بين أصحابه، ثم رجعوا إلى فارس ولم يكن قتال، وهذا في المرة الأولى، فكان منهم جوس خلال الديار لا قتل؛ ذكره القشيري أبو نصر. وذكر المهدوي عن مجاهد أنه جاءهم بختنصر فهزمه بنو إسرائيل، ثم جاءهم ثانية فقتلهم ودمرهم تدميرا. ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد؛ ذكره النحاس. وقال محمد بن إسحاق في خبر فيه طول: إن المهزوم سنحاريب ملك بابل، جاء ومعه ستمائة ألف راية تحت كل راية مائة ألف فارس فنزل حول بيت المقدس فهزمه الله تعالى وأمات جميعهم إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه، وبعث ملك بني إسرائيل واسمه صديقة في طلب سنحاريب فأخذ مع الخمسة، أحدهم بختنصر، فطرح في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيلياء ويرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، ثم أطلقهم فرجعوا إلى بابل، ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين، واستخلف بختنصر وعظمت الأحداث في بني إسرائيل، واستحلوا المحارم وقتلوا نبيهم شعيا؛ فجاءهم بختنصر ودخل هو وجنوده بيت المقدس وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم. وقال ابن عباس وابن مسعود: أول الفساد قتل زكريا. وقال ابن إسحاق: فسادهم في المرة الأولى قتل شعيا نبي الله في الشجرة؛ وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم مرج أمرهم وتنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا وهم لا يسمعون من نبيهم؛ فقال الله تعالى له قم في قومك أوح على لسانك، فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها. وذكر ابن إسحاق أن بعض العلماء أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل وإنما المقتول شعيا. وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى{ثم بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار} هو سنحاريب من أهل نينوى بالموصل ملك بابل. وهذا خلاف ما قال ابن إسحاق، فالله أعلم. وقيل: إنهم العمالقة وكانوا كفارا، قاله الحسن. ومعنى جاسوا: عاثوا وقتلوا؛ وكذلك جاسوا وهاسوا وداسوا، قاله ابن عزيز، وهو قول القتبي. وقرأ ابن عباس: (حاسوا) بالحاء المهملة. قال أبو زيد: الحوس والجوس والعوس والهوس: لطواف بالليل. وقال الجوهري: الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار، أي تخللوها فطلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الأخبار أي يطلبها؛ وكذلك الاجتياس. والجوسان (بالتحريك) الطوفان بالليل؛ وهو قول أبي عبيدة. وقال الطبري: طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين؛ فجمع بين قول أهل اللغة. قال ابن عباس: مشوا وترددوا بين الدور والمساكن. وقال الفراء: قتلوكم بين بيوتكم؛ وأنشد لحسان:
ومنا الذي لاقى بسيف محمد فجاس به الأعداء عرض العساكر
وقال قطرب: نزلوا؛ قال:
فجسنا ديارهم عنوة وأبنا بسادتهم موثقينا
{وكان وعدا مفعولا} أي قضاء كائنا لا خلف فيه.
الآية رقم ( 6 )
{ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا }
قوله تعالى{ثم رددنا لكم الكرة عليهم} أي الدولة والرجعة؛ وذلك لما تبتم وأطعتم. ثم قيل: ذلك بقتل داود جالوت أو بقتل غيره، على الخلاف في من قتلهم. {وأمددناكم بأموال وبنين} حتى عاد أمركم كما كان. {وجعلناكم أكثر نفيرا} أي أكثر عددا ورجالا من عدوكم. والنفير من نفر مع الرجل من عشيرته؛ يقال: نفير ونافر مثل قدير وقادر ويجوز أن يكون النفير جمع نفر كالكليب والمعيز والعبيد؛ قال الشاعر:
فاكرم بقحطان من والد وحمير أكرم بقوم نفيرا
والمعنى: أنهم صاروا بعد هذه الوقعة الأولى أكثر انضماما وأصلح أحوالا؛ جزاء من الله تعالى لهم على عودهم إلى الطاعة.
الآية رقم ( 7 )
{إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا}
قوله تعالى{إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} أي نفع إحسانكم عائد عليكم. {وإن أسأتم فلها} أي فعليها؛ نحو سلام لك، أي سلام عليك. قال:
فخر صريعا لليدين وللفم
أي على اليدين وعلى الفم. وقال الطبري: اللام بمعنى إلى، يعني وإن أسأتم فإليها، أي فإليها ترجع الإساءة؛ لقوله تعالى} بأن ربك أوحى لها}الزلزلة: 5] أي إليها. وقيل: فلها الجزاء والعقاب. وقال الحسين بن الفضل: فلها رب يغفر الإساءة. ثم يحتمل أن يكون هذا خطابا لبني إسرائيل في أول الأمر؛ أي أسأتم فحل بكم القتل والسبي والتخريب ثم أحسنتم فعاد إليكم الملك والعلو وانتظام الحال. ويحتمل أنه خوطب بهذا بنو إسرائيل في زمن محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي عرفتم استحقاق أسلافكم للعقوبة على العصيان فارتقبوا مثله. أو يكون خطابا لمشركي قريش على هذا الوجه. {فإذا جاء وعد الآخرة{ من إفسادكم؛ وذلك أنهم قتلوا في المرة الثانية يحيى بن زكريا عليهما السلام، قتله ملك من بني إسرائيل يقال له لاخت؛ قاله القتبي. وقال الطبري: اسمه هردوس، ذكره في التاريخ؛ حمله على قتله امرأة اسمها أزبيل. وقال السدي: كان ملك بني إسرائيل يكرم يحيى بن زكريا ويستشيره في الأمر، فاستشاره الملك أن يتزوج بنت امرأة له فنهاه عنها وقال: إنها لا تحل لك؛ فحقدت أمها على يحيى عليه السلام، ثم ألبست ابنتها ثيابا حمرا رقاقا وطيبتها وأرسلتها إلى الملك وهو على شرابه، وأمرتها أن تتعرض له، وإن أرادها أبت حتى يعطيها ما تسأله؛ فإذا أجاب سألت أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طست من ذهب؛ ففعلت ذلك حتى أتى برأس يحيى بن زكريا والرأس تتكلم حتى وضع بين يديه وهو يقول: لا تحل لك؛ لا تحل لك؛ فلما أصبح إذا دمه يغلي، فألقى عليه التراب فغلى فوقه، فلم يزل يلقى عليه التراب حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يغلي؛ ذكره الثعلبي وغيره. وذكر ابن عساكر الحافظ في تاريخه عن الحسين بن علي قال: كان ملك من هذه الملوك مات وترك امرأته وابنته فورث ملكه أخوه، فأراد أن يتزوج امرأة أخيه، فاستشار يحيى بن زكريا في ذلك، وكانت الملوك في ذلك الزمان يعملون بأمر الأنبياء، فقال له: لا تتزوجها فإنها بغي؛ فعرفت ذلك المرأة أنه قد ذكرها وصرفه عنها، فقالت: من أين هذا! حتى بلغها أنه من قبل يحيى، فقالت: ليقتلن يحيى أو ليخرجن من ملكه، فعمدت إلى ابنتها وصنعتها، ثم قالت: اذهبي إلى عمك عند الملأ فإنه إذا رآك سيدعوك ويجلسك في حجره، ويقول سليني ما شئت، فإنك لن تسأليني شيئا إلا أعطيتك، فإذا قال لك ذلك فقولي: لا أسأل إلا رأس يحيى. قال: وكانت الملوك إذا تكلم أحدهم بشيء على رؤوس الملأ ثم لم يمض له نزع من ملكه؛ ففعلت ذلك. قال: فجعل يأتيه الموت من قتله يحيى، وجعل يأتيه الموت من خروجه من ملكه، فاختار ملكه فقتله. قال: فساخت بأمها الأرض. قال ابن جدعان: فحدثت بهذا الحديث ابن المسيب فقال أفما أخبرك كيف كان قتل زكريا؟ قلت لا؛ إن زكريا حيث قتل ابنه انطلق هاربا منهم واتبعوه حتى أتى على شجرة ذات ساق فدعته إليها فانطوت عليه وبقيت من ثوبه هدبة تكفتها الرياح، فانطلقوا إلى الشجرة فلم يجدوا أثره بعدها، ونظروا بتلك الهدبة فدعوا بالمنشار فقطعوا الشجرة فقطعوه معها.
قلت: وقع في التاريخ الكبير للطبري فحدثني أبو السائب قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكريا في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس، قال: كان فيما نهوهم عنه نكاح ابنة الأخ، قال: وكان لملكهم ابنة أخ تعجبه... )وذكر الخبر بمعناه. وعن ابن عباس قال: (بعث يحيى بن زكريا في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس، وكان فيما يعلمونهم ينهونهم عن نكاح بنت الأخت، وكان لملكهم بنت أخت تعجبه، وكان يريد أن يتزوجها، وكان لها كل يوم حاجة يقضيها، فلما بلغ ذلك أمها أنهم نهوا عن نكاح بنت الأخت قالت لها: إذا دخلت على الملك فقال ألك حاجة فقولي: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا؛ فقال: سليني سوى هذا! قالت: ما أسألك إلا هذا. فلما أبت عليه دعا بطست ودعا به فذبحه، فندرت قطرة من دمه على وجه الأرض فلم تزل تغلي حتى بعث الله عليهم بختنصر فألقى في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ذلك الدم، فقتل عليه منهم سبعين ألفا، في رواية خمسة وسبعين ألفا. قال سعيد بن المسيب: هي دية كل نبي. وعن ابن عباس قال: (أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا). وعن سمير بن عطية قال: قتل على الصخرة التي في بيت المقدس سبعون نبيا منهم يحيى بن زكريا. وعن زيد بن واقد قال: رأيت رأس يحيى عليه السلام حيث أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبة التي تلي المحراب مما يلي الشرق، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير. وعن قرة بن خالد قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي؛ وحمرتها بكاؤها. وعن سفيان بن عيينة قال: أوحش ما يكون ابن آدم في ثلاثة مواطن: يوم ولد فيخرج إلى دار هم، وليلة يبيت مع الموتى فيجاور جيرانا لم ير مثلهم، ويوم يبعث فيشهد مشهدا لم ير مثله؛ قال الله تعالى ليحيى في هذه الثلاثة مواطن{وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا}مريم: 15]. كله من التاريخ المذكور.
واختلف فيمن كان المبعوث عليهم في المرة الآخرة؛ فقيل: بختنصر. وقاله القشيري أبو نصر، لم يذكر غيره. قال السهيلي: وهذا لا يصح؛ لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى ابن مريم عليهما السلام بزمان طويل.، وقبل الإسكندر؛ وبين الإسكندر وعيسى نحو من ثلاثمائة سنة، ولكنه أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا شعيا، فقد كان بختنصر إذ ذاك حيا، فهو الذي قتلهم وخرب بيت المقدس واتبعهم إلى مصر. وأخرجهم منها. وقال الثعلبي: ومن روى أن بختنصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا فغلط عند أهل السير والأخبار؛ لأنهم مجمعون على أن بختنصر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم شعيا وفي عهد إرمياء. قالوا: ومن عهد إرمياء وتخريب بختنصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكريا عليهما السلام أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة، وذلك أنهم يعدون من عهد تخريب بيت المقدس إلى عمارته في عهد كوسك سبعين سنة، ثم من بعد عمارته إلى ظهور الإسكندر على بت المقدس ثمانية وثمانين سنة، ثم من بعد مملكة الإسكندر إلى مولد يحيى ثلاثمائة وثلاثا وستين سنة.
قلت: ذكر جميعه الطبري في التاريخ رحمه الله. قال الثعلبي: والصحيح من ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق قال: لما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى - وبعض الناس يقول: لما قتلوا زكريا - بعث الله إليهم ملكا من ملوك بابل يقال له: خردوس، فسار إليهم بأهل بابل وظهر عليهم بالشأم، ثم قال لرئيس جنوده: كنت حلفت بإلهي لئن أظهرني الله على بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، وأمر أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، فدخل الرئيس بيت المقدس فوجد فيها دماء تغلي، فسألهم فقالوا: دم قربان قربناه فلم يتقبل منا منذ ثمانين سنة. قال ما صدقتموني، فذبح على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلا من رؤسائهم فلم يهدأ، فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحوا على الدم فلم يهدأ، فأمر بسبعة آلاف من سبيهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فقال: يا بني إسرائيل، أصدقوني قبل ألا أترك منكم نافخ نار من أنثى ولا من ذكر إلا قتلته. فلما رأوا الجهد قالوا: إن هذا دم نبي منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله فقتلناه، فهذا دمه، كان اسمه يحيى بن زكريا، ما عصى الله قط طرفة عين ولا هم بمعصية. فقال: الآن صدقتموني، وخر ساجدا ثم قال: لمثل هذا ينتقم منكم، وأمر بغلق الأبواب وقال: أخرجوا من كان ها هنا من جيش خردوس، وخلا في بني إسرائيل وقال: يا نبي الله يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، فاهدأ بإذن الله قبل ألا أبقي منهم أحدا. فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله عز وجل، ورفع عنهم القتل وقال: رب إني آمنت بما آمن به بنو إسرائيل وصدقت به؛ فأوحى الله تعالى إلى رأس من رؤوس الأنبياء: إن هذا الرئيس مؤمن صدوق. ثم قال: إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لا أعصيه، فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الإبل والخيل والبغال والحمير والبقر والغنم فذبحوها حتى سال الدم إلى العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، ثم انصرف عنهم إلى بابل، وقد كاد أن يفني بني إسرائيل.
قلت: قد ورد في هذا الباب حديث مرفوع فيه طول من حديث حذيفة، وقد كتبناه في كتاب التذكرة مقطعا في أبواب في أخبار المهدي، نذكر منها هنا ما يبين معنى الآية ويفسرها حتى لا يحتاج معه إلى بيان، قال حذيفة: قلت يا رسول الله، لقد كان بيت المقدس عند الله عظيما جسيم الخطر عظيم القدر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو من أجل البيوت ابتناه الله لسليمان بن داود عليهما السلام من ذهب وفضة ودر وياقوت وزمرد): وذلك أن سليمان بن داود لما بناه سخر الله له الجن فأتوه بالذهب والفضة من المعادن، وأتوه بالجواهر والياقوت والزمرد، وسخر الله تعالى له الجن حتى بنوه من هذه الأصناف. قال حذيفة: فقلت يا رسول الله، وكيف أخذت هذه الأشياء من بيت المقدس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل لما عصوا الله وقتلوا الأنبياء سلط الله عليهم بختنصر وهو من المجوس وكان ملكه سبعمائة سنة، وهو قوله{فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا{ فدخلوا بيت المقدس وقتلوا الرجال وسبوا النساء والأطفال وأخذوا الأموال وجميع ما كان في بيت المقدس من هذه الأصناف فاحتملوها على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعوها أرض بابل، فأقاموا يستخدمون بني إسرائيل ويستملكونهم بالخزي والعقاب والنكال مائة عام، ثم إن الله عز وجل رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس أن يسير إلى المجوس في أرض بابل، وأن يستنقذ من في أيديهم من بني إسرائيل؛ فسار إليهم ذلك الملك حتى دخل أرض بابل فاستنقذ من بقي من بني إسرائيل من أيدي المجوس واستنقذ ذلك الحلي الذي كان في بيت المقدس ورده الله إليه كما كان أول مرة وقال لهم: يا بني إسرائيل إن عدتم إلى المعاصي عدنا عليكم بالسبي والقتل، وهو قوله{عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا}الإسراء: 8] فلما رجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس عادوا إلى المعاصي فسلط الله عليهم ملك الروم قيصر، وهو قوله{فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبير{ فغزاهم في البر والبحر فسباهم وقتلهم وأخذ أموالهم ونساءهم، وأخذ حلي جميع بيت المقدس واحتمله على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعه في كنيسة الذهب، فهو فيها الآن حتى يأخذه المهدي فيرده إلى بيت المقدس، وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة يرسى بها على يافا حتى تنقل إلى بيت المقدس وبها يجمع الله الأولين والآخرين... وذكر الحديث.
قوله تعالى{فإذا جاء وعد الآخرة{ أي من المرتين؛ وجواب {إذا{ محذوف، تقديره بعثناهم؛ دل عليه {بعثنا{ الأول. {ليسوؤوا وجوهكم{ أي بالسبي والقتل فيظهر أثر الحزن في وجوهكم؛ فـ{ليسوؤوا{ متعلق بمحذوف؛ أي بعثنا عبادا ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم. قيل: المراد بالوجوه السادة؛ أي ليذلوهم. وقرأ الكسائي {لنسوء{ بنون وفتح الهمزة، فعل مخبر عن نفسه معظم، اعتبارا بقوله {وقضينا - وبعثنا - ورددنا{. ونحوه عن علي. وتصديقها قراءة أُبَي (لنسوءن) بالنون وحرف التوكيد. وقرأ أبو بكر والأعمش وابن وثاب وحمزة وابن عامر (ليسوء) بالياء على التوحيد وفتح الهمزة؛ ولها وجهان: أحدهما: ليسوء الله وجوهكم. والثاني: ليسوء الوعد وجوهكم. وقرأ الباقون {ليسوؤوا{ بالياء وضم الهمزة على الجمع؛ أي ليسوء العباد الذين هم أولو بأس شديد وجوهكم. { وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا{ أي ليدمروا ويهلكوا. وقال قطرب: يهدموا؛ قال الشاعر:
فما الناس إلا عاملان فعامل يتبر ما يبني وآخر رافع
{ما علوا{ أي غلبوا عليه من بلادكم {تتبيرا}.
الآية رقم ( 8 )
{عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا}
قوله تعالى{عسى ربكم أن يرحمكم{ وهذا مما أخبروا به في كتابهم. و{عسى{ وعد من الله أن يكشف عنهم. و{عسى{ من الله واجبة. {أن يرحمكم{ بعد انتقامه منكم، وكذلك كان؛ فكثر عددهم وجعل منهم الملوك. {وإن عدتم عدنا{ قال قتادة: فعادوا فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم؛ فهم يعطون الجزية بالصغار؛ وروي عن ابن عباس. وهذا خلاف ما تقدم في الحديث وغيره 0 وقال القشيري: وقد حل العقاب ببني إسرائيل مرتين على أيدي الكفار، ومرة على أيدي المسلمين. وهذا حين عادوا فعاد الله عليهم. وعلى هذا يصح قول قتادة. {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا{ أي محبسا وسجنا، من الحصر وهو الحبس. قال الجوهري: يقال حصره يحصره حصرا ضيق عليه وأحاط به. والحصير: الضيق البخيل. والحصير: البارية. والحصير: الجنب، قال الأصمعي: هو ما بين العرق الذي يظهر في جنب البعير والفرس معترضا فما فوقه إلى منقطع الجنب. والحصير: الملك؛ لأنه محجوب. قال لبيد:
وقماقم غلب الرقاب كأنهم جن لدى باب الحصير قيام
ويروى:
ومقامة غلب الرقاب...
على أن يكون (غلب) به لا من (مقامة) كأنه قال: ورب غلب الرقاب. وروي عن أبي عبيدة:
. .. لدى طرف الحصير قيام
أي عند طرف البساط للنعمان بن المنذر. والحصير: المحبس؛ قال الله تعالى{وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا{. قال القشيري: ويقال للذي يفرش حصير؛ لحصر بعضه على بعض بالنسج. وقال الحسن: أي فراشا ومهادا؛ ذهب إلى الحصير الذي يفرش، لأن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا. قال الثعلبي: وهو وجه حسن.
الآية رقم ( 9 : 10 )
{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما}
قوله تعالى{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم{ لما ذكر المعراج ذكر ما قضى إلى بني إسرائيل، وكان ذلك دلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بين أن الكتاب الذي أنزله الله عليه سبب اهتداء. ومعنى {للتي هي أقوم{ أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب؛ فـ {التي{ نعت لموصوف محذوف، أي الطريقة إلى نص أقوم. وقال الزجاج: للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله. وقاله الكلبي والفراء.
قوله تعالى{ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات{ تقدم. {أن لهم{ في موضع نصب بـ {بشر{ وقال الكسائي وجماعة من البصريين{أن{ في موضع خفض بإضمار الباء. أي بأن لهم. {أجرا كبيرا{ أي الجنة. {وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة{ أي ويبشرهم بأن لأعدائهم العقاب. والقرآن معظمه وعد ووعيد. وقرأ حمزة والكسائي {ويَبْشُر{ مخففا بفتح الياء وضم الشين، وقد ذكر.
الآية رقم ( 11 )
{ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا}
قوله تعالى{ويدع الإنسان بالشر{ قال ابن عباس وغيره: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له: اللهم أهلكه، ونحوه. {دعاءه بالخير{ أي كدعائه ربه أن يهب له العافية؛ فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشر هلك لكن بفضله لا يستجيب له في ذلك. نظيره{ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير}يونس: 11] وقد تقدم. وقيل: نزلت في النضر بن الحارث، كان يدعو ويقول{اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}الأنفال: 32]. وقيل: هو أن يدعو في طلب المحظور كما يدعو في طلب المباح، قال الشاعر وهو ابن جامع:
أطوف بالبيت فيمن يطوف وارفع من مئزري المسبل
وأسجد بالليل حتى الصباح واتلو من المحكم المنزل
عسى فارج الهم عن يوسف يسخر لي ربة المحمل
قال الجوهري: يقال ما على فلان محمل مثال مجلس أي معتمد. والمحمل أيضا: واحد محامل الحاج. والمحمل مثال المرجل: علاقة السيف. وحذفت الواو من {ويدع الإنسان{ في اللفظ والحظ ولم تحذف في المعنى لأن موضعها رفع فحذفت لاستقبالها اللام الساكنة؛ كقوله تعالى{سندع الزبانية}العلق: 18] {ويمح الله الباطل}الشورى: 24] {وسوف يؤت الله المؤمنين}النساء: 146] {يناد المناد}ق: 41] {فما تغن النذر}القمر: 5]. {وكان الإنسان عجولا{ أي طبعه العجلة، فيعجل بسؤال الشر كما يعجل بسؤال الخير. وقيل: أشار به إلى آدم عليه السلام حين نهض قبل أن يركب فيه الروح على الكمال. قال سلمان: أول ما خلق الله تعالى من آدم رأسه فجعل ينظر وهو يخلق جسده، فلما كان عند العصر بقيت رجلاه لم ينفخ فيهما الروح فقال: يا رب عجل قبل الليل؛ فذلك قوله{وكان الإنسان عجولا{. وقال ابن عباس: لما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فذهب لينهض فلم يقدر؛ فذلك قوله{وكان الإنسان عجولا{. وقال ابن مسعود: لما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة؛ فذلك حين يقول{خلق الإنسان من عجل{ ذكره البيهقي. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما صور الله تعالى آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك) وقد تقدم. وقيل: سلم عليه السلام أسيرا إلى سودة فبات يئن فسألته فقال: أنيني لشدة القد والأسر؛ فأرخت من كتافه فلما نامت هرب؛ فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (قطع الله يديك) فلما أصبحت كانت تتوقع الآفة؛ فقال عليه السلام: (إني سألت الله تعالى أن يجعل دعائي على من لا يستحق من أهلي لأني بشر أغضب كما يغضب البشر) ونزلت الآية؛ ذكره القشيري أبو نصر رحمه الله. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفينه فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة). وفي الباب عن عائشة وجابر. وقيل: معنى {وكان الإنسان عجولا{ أي يؤثر العاجل وإن قل، على الآجل وإن جل.
الآية رقم ( 12 )
{وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا}
قوله تعالى{وجعلنا الليل والنهار آيتين{ أي علامتين على وحدانيتنا ووجودنا وكمال علمنا وقدرتنا. والآية فيهما: إقبال كل واحد منهما من حيث لا يعلم، وإدباره إلى حيث لا يعلم. ونقصان أحدهما بزيادة الآخر وبالعكس آية أيضا. وكذلك ضوء النهار وظلمة الليل. وقد مضى هذا. {فمحونا آية الليل{ ولم يقل: فمحونا الليل، فلما أضاف الآية إلى الليل والنهار دل على أن الآيتين المذكورتين لهما لا هما. و{محونا{ معناه طمسنا. وفي الخبر أن الله تعالى أمر جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء وكان كالشمس في النور، والسواد الذي يرى في القمر من أثر المحو. قال ابن عباس: جعل الله الشمس سبعين جزءا والقمر سبعين جزءا، فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعله مع نور الشمس، فالشمس على مائة وتسع وثلاثين جزءا والقمر على جزء واحد. وعنه أيضا: خلق الله شمسين من نور عرشه، وجعل ما سبق في علمه أن يكون شمسا مثل الدنيا على قدرها ما بين مشارقها إلى مغاربها، وجعل القمر دون الشمس؛ فأرسل جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجهه ثلاث مرات وهو يومئذ شمس فطمس ضوءه وبقي نوره؛ فالسواد الذي ترونه في القمر أثر المحو، ولو تركه شمسا لم يعرف الليل من النهار ذكر عنه الأول الثعلبي والثاني المهدوي؛ وسيأتي مرفوعا. وقال علي رضي الله عنه وقتادة: يريد بالمحو اللطخة السوداء التي في القمر، ليكون ضوء القمر أقل من ضوء الشمس فيتميز به الليل من النهار. {وجعلنا آية النهار مبصرة{ أي جعلنا شمسه مضيئة للأبصار. قال أبو عمرو بن العلاء: أي يبصر بها. قال الكسائي: وهو من قول العرب أبصر النهار إذا أضاء، وصار بحالة يبصر بها. وقيل: هو كقولهم خبيث مخبث إذا كان أصحابه خبثاء. ورجل مضعف إذا كانت دوابه ضعافا؛ فكذلك النهار مبصرا إذا كان أهله بصراء. {لتبتغوا فضلا من ربكم{ يريد التصرف في المعاش. ولم يذكر السكون في الليل اكتفاء بما ذكر في النهار. وقد قال في موضع آخر{هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا}يونس: 67]. {ولتعلموا عدد السنين والحساب{ أي لو لم يفعل ذلك لما عرف الليل من النهار، ولا كان يعرف الحساب والعدد. {وكل شيء فصلناه تفصيلا{ أي من أحكام التكليف؛ وهو كقوله{تبيانا لكل شيء}النحل: 89] {ما فرطنا في الكتاب من شيء}الأنعام: 38]. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما أبرم الله خلقه فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمسا من نور عرشه وقمرا فكانا جميعا شمسين فأما ما كان في سابق علم الله أن يدعها شمسا فخلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها وأما ما كان في علم الله أن يخلقها قمرا فخلقها دون الشمس في العظم ولكن إنما يرى صغرهما من شدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض فلو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولا كان الأجير يدري إلى متى يعمل ولا الصائم إلى متى يصوم ولا المرأة كيف تعتد ولا تدرى أوقات الصلوات والحج ولا تحل الديون ولا حين يبذرون ويزرعون ولا متى يسكنون للراحة لأبدانهم وكأن الله نظر إلى عباده وهو أرحم بهم من أنفسهم فأرسل جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات وهو يومئذ شمس فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور فذلك قوله {وجعلنا الليل والنهار آيتين{ الآية.
الآية رقم ( 13 : 14 )
{وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا}
قوله تعالى{وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه{ قال الزجاج: ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق. وقال ابن عباس{طائره{ عمله وما قدر عليه من خير وشر، وهو ملازمه أينما كان. وقال مقاتل والكلبي: خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به. وقال مجاهد: عمله ورزقه، وعنه: ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة فيها مكتوب شقي أو سعيد. وقال الحسن{ألزمناه طائره{ أي شقاوته وسعادته وما كتب له من خير وشر وما طار له من التقدير، أي صار له عند القسمة في الأزل. وقيل: أراد به التكليف، أي قدرناه إلزام الشرع، وهو بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به وينزجر عما زجر به أمكنه ذلك. {ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا{ يعني كتاب طائره الذي في عنقه. وقرأ الحسن وأبو رجاء ومجاهد{طيره{ بغير ألف؛ ومنه ما روي في الخبر (اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا رب غيرك). وقرأ ابن عباس والحسن ومجاهد وابن محيصن وأبو جعفر ويعقوب {ويخرج{ بفتح الياء وضم الراء، على معنى ويخرج له الطائر كتابا؛ فـ {كتابا{ منصوب على الحال. ويحتمل أن يكون المعنى: ويخرج الطائر فيصير كتابا. وقرأ يحيى بن وثاب {ويخرج{ بضم الياء وكسر الراء؛ وروي عن مجاهد؛ أي يخرج الله. وقرأ شيبة ومحمد بن السميقع، وروي أيضا عن أبي جعفر{ويخرج{ بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول، ومعناه: ويخرج له الطائر كتابا. الباقون {ونخرج{ بنون مضمومة وكسر الراء؛ أي ونحن نخرج. احتج أبو عمرو في هذه القراءة بقوله {ألزمناه{. وقرأ أبو جعفر والحسن وابن عامر {يلقاه{ بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، بمعنى يؤتاه. الباقون بفتح الياء خفيفة، أي يراه منشورا. وقال {منشورا{ تعجيلا للبشرى بالحسنة والتوبيخ بالسيئة. وقال أبو السوار العدوي وقرأ هذه الآية {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه{ قال: هما نشرتان وطية؛ أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت؛ فإذا مت طويت حتى إذا بعثت نشرت. {اقرأ كتابك{ قال الحسن: يقرأ الإنسان كتابه أميا كان أو غير أمي. {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا{ أي محاسبا. وقال بعض الصلحاء: هذا كتاب، لسانك قلمه، وريقك مداده، وأعضاؤك قرطاسه، أنت كنت المملي على حفظتك، ما زيد فيه ولا نقص منه، ومتى أنكرت منه شيئا يكون فيه الشاهد منك عليك.
الآية رقم ( 15 )
{من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}
قوله تعالى{من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها{ أي إنما كل أحد يحاسب عن نفسه لا عن غيره؛ فمن اهتدى فثواب اهتدائه له، ومن ضل فعقاب كفره عليه. {ولا تزر وازرة وزر أخرى{ تقدم في الأنعام. وقال ابن عباس: نزلت في الوليد بن المغيرة، قال لأهل مكة: اتبعون واكفروا بمحمد وعلي أوزاركم، فنزلت هذه الآية؛ أي إن الوليد لا يحمل آثامكم وإنما إثم كل واحد عليه. يقال: وزر يزر وزرا، ووزرة، أي أثم. والوزر: الثقل المثقل والجمع أوزار؛ ومنه {يحملون أوزارهم على ظهورهم}الأنعام: 31] أي أثقال ذنوبهم. وقد وزر إذا حمل فهو وازر؛ ومنه وزير السلطان الذي يحمل ثقل دولته. والهاء في قوله كناية عن النفس، أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى، حتى أن الوالدة تلقي ولدها يوم القيامة فتقول: يا بني ألم يكن حجري لك وطاء، ألم يكن ثديي لك سقاء، ألم يكن بطني لك وعاء، فيقول: بلى يا أمه فتقول: يا بني فإن ذنوبي أثقلتني فاحمل عني منها ذنبا واحدا فيقول: إليك عني يا أمه فإني بذنبي عنك اليوم مشغول.
مسألة:
نزعت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية في الرد على ابن عمر حيث قال: إن الميت ليعذب ببكاء أهله. قال علماؤنا: وإنما حملها على ذلك أنها لم تسمعه، وأنه معارض للآية. ولا وجه لإنكارها، فإن الرواة لهذا المعنى كثير، كعمر وابنه والمغيرة بن شعبة وقيلة بنت مخرمة، وهم جازمون بالرواية؛ فلا وجه لتخطئتهم. ولا معارضة بين الآية والحديث؛ فإن الحديث محمله على ما إذا كان النوح من وصية الميت وسنته، كما كانت الجاهلية تفعله، حتى قال طرفة:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا بنت معبد
وقال:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وإلى هذا نحا البخاري. وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم داود إلى اعتقاد ظاهر الحديث، وأنه إنما يعذب بنوحهم؛ لأنه أهمل نهيهم عنه قبل موته وتأديبهم بذلك، فيعذب بتفريطه في ذلك؛ وبترك ما أمره الله به من قوله{قوا أنفسكم وأهليكم نارا}التحريم: 6] لا بذنب غيره، والله أعلم.
قوله تعالى{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا{ أي لم نترك الخلق سدى، بل أرسلنا الرسل. وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع، خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبح ويحسن ويبيح ويحظر. وقد تقدم في البقرة القول فيه. والجمهور على أن هذا في حكم الدنيا؛ أي أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار. وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة، لقوله تعالى{كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا}الملك: 8]. قال ابن عطية: والذي يعطيه النظر أن بعثه آدم عليه السلام بالتوحيد وبث المعتقدات في بنيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر توجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك في زمن نوح عليه السلام بعد غرق الكفار. وهذه الآية أيضا يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا في الذين لم تصلهم رسالة، وهم أهل الفترات الذين قد قدر وجودهم بعض أهل العلم. وأما ما روي من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال فحديث لم يصح، ولا يقتضي ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف. قال المهدوي: وروي عن أبي هريرة أن الله عز وجل يبعث يوم القيامة رسولا إلى أهل الفطرة والأبكم والأخرس والأصم؛ فيطيعه منهم من كان يريد أن يطيعه في الدنيا، وتلا الآية؛ رواه معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة، ذكره النحاس.
قلت: هذا موقوف، وسيأتي مرفوعا في آخر سورة (1) إن شاء الله تعالى؛ ولا يصح. وقد استدل قوم في أن أهل الجزائر إذا سمعوا بالإسلام وآمنوا فلا تكليف عليهم فيما مضى؛ وهذا صحيح، ومن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب من جهة العقل، والله أعلم.
الآية رقم ( 16 )
{وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا}
أخبر الله تعالى في الآية التي قبل أنه لم يهلك القرى قبل ابتعاث الرسل، لا لأنه يقبح منه ذلك إن فعل، ولكنه وعد منه، ولا خلف في وعده. فإذا أراد إهلاك قرية مع تحقيق وعده على ما قاله تعالى أمر مترفيها بالفسق والظلم فيها فحق عليها القول بالتدمير. يعلمك أن من هلك هلك بإرادته، فهو الذي يسبب الأسباب ويسوقها إلى غاياتها ليحق القول السابق من الله تعالى.
{أمرنا{ قرأ أبو عثمان النهدي وأبو رجاء وأبو العالية، والربيع ومجاهد والحسن {أمرنا{ بالتشديد، وهي قراءة علي رضي الله عنه؛ أي سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم. وقال أبو عثمان النهدي {أمرنا{ بتشديد الميم، جعلناهم أمراء مسلطين؛ وقاله ابن عزيز. وتأمر عليهم تسلط عليهم. وقرأ الحسن أيضا وقتادة وأبو حيوة الشامي ويعقوب وخارجة عن نافع وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعلى وابن عباس باختلاف عنهما {آمرنا{ بالمد والتخفيف، أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها؛ قاله الكسائي. وقال أبو عبيدة: آمرته بالمد وأمرته، لغتان بمعنى كثرته؛ ومنه الحديث (خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة) أي كثيرة النتاج والنسل. وكذلك قال ابن عزيز: آمرنا وأمرنا بمعنى واحد؛ أي أكثرنا. وعن الحسن أيضا ويحيى بن يعمر {أمرنا{ بالقصر وكسر الميم على فعلنا، ورويت عن ابن عباس. قال قتادة والحسن: المعنى أكثرنا؛ وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد، وأنكره الكسائي وقال: لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد؛ قال وأصلها {أأمرنا{ فخفف، حكاه المهدوي. وفي الصحاح: وقال أبو الحسن أمر ماله بالكسر أي كثر. وأمر القوم أي كثروا؛ قال الشاعر:
أمرون لا يرثون سهم القعدد
وآمر الله ماله: بالمد: الثعلبي: ويقال للشيء الكثير أمر، والفعل منه: أمر القوم يأمرون أمرا إذا كثروا. قال ابن مسعود: كنا نقول في الجاهلية للحي إذا كثروا: أمر أمر بني فلان؛ قال لبيد:
كل بني حرة مصيرهم قل وإن أكثرت من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا يوما يصيروا للهلك والنكد
قلت: وفي حديث هرقل الحديث الصحيح: (لقد أمِر أمْرُ ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر) أي كثر. وكله غير متعد ولذلك أنكره الكسائي، والله اعلم. قال المهدوي: ومن قرأ {أمر{ فهي لغة، ووجه تعدية {أمر{ أنه شبهه بعمر من حيث كانت الكثرة أقرب شيء إلى العمارة، فعدي كما عدي عمر. الباقون {أمرنا{ من الأمر؛ أي أمرناهم بالطاعة إعذارا وإنذارا وتخويفا ووعيدا. {ففسقوا فيها{ أي فخرجوا عن الطاعة عاصين لنا. {فحق عليها القول{ فوجب، عليها الوعيد؛ عن ابن عباس. وقيل{أمرنا{ جعلناهم أمراء؛ لأن العرب تقول: أمير غير مأمور، أي غير مؤمر. وقيل: معناه بعثنا مستكبريها. قال هارون: وهي قراءة أُبَي {بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا{ ذكره الماوردي. وحكى النحاس: وقال هارون في قراءة أبي {وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول{. ويجوز أن يكون {أمرنا{ بمعنى أكثرنا؛ ومنه (خير المال مهرة مأمورة) على ما تقدم. وقال قوم: مأمورة اتباع لمأبورة؛ كالغدايا والعشايا. وكقوله: (ارجعن مأزورات غير مأجورات). وعلى هذا لا يقال: أمرهم الله، بمعنى كثرهم، بل يقال: آمره وأمره. واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة العامة. قال أبو عبيد: وإنما اخترنا {أمرنا{ لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها من الأمر والإمارة والكثرة. والمترف: المنعم؛ وخصوا بالأمر لأن غيرهم تبع لهم.
قوله تعالى{فدمرناها{ أي استأصلناها بالهلاك. {تدميرا{ وذكر المصدر للمبالغة في العذاب الواقع بهم. وفي الصحيح من حديث بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول: (لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها. قالت: فقلت يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث). وقد تقدم الكلام في هذا الباب، وأن المعاصي إذا ظهرت ولم تغير كانت سببا لهلاك الجميع؛ والله اعلم.
الآية رقم ( 17 )
{وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا}
قوله تعالى{وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح{ أي كم من قوم كفروا حل بهم البوار. يخوف كفار مكة، وقد تقدم. {وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا{ {خبيرا{ عليما بهم. {بصيرا{ يبصر أعمالهم؛ وقد تقدم.
الآية رقم ( 18 : 19 )
{من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا}
قوله تعالى{من كان يريد العاجلة{ يعني الدنيا، والمراد الدار العاجلة؛ فعبر بالنعت عن المنعوت. {عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد{ أي لم نعطه منها إلا ما نشاء ثم نؤاخذه بعمله، وعاقبته دخول النار. {مذموما مدحورا{ أي مطردا مبعدا من رحمة الله. وهذه صفة المنافقين الفاسقين، والمرائين المداجين، يلبسون الإسلام والطاعة لينالوا عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها، فلا يقبل ذلك العمل منهم في الآخرة ولا يعطون في الدنيا إلا ما قسم لهم. وقد تقدم في {هود{ أن هذه الآية تقيد الآيات المطلقة؛ فتأمله. {ومن أراد الآخرة{ أي الدار الآخرة. {وسعى لها سعيها{ أي عمل لها عملها من الطاعات. {وهو مؤمن{ لأن الطاعات لا تقبل إلا من مؤمن. {فأولئك كان سعيهم مشكورا{ أي مقبولا غير مردود. وقيل: مضاعفا؛ أي تضاعف لهم الحسنات إلى عشر، وإلى سبعين وإلى سبعمائة ضعف، وإلى أضعاف كثيرة؛ كما روي عن أبي هريرة وقد قيل له: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة )؟ فقال سمعته يقول: (إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة).
الآية رقم ( 20 : 22 )
{كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا، انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا، لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا}
قوله تعالى{كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك{ اعلم أنه يرزق المؤمنين والكافرين. {وما كان عطاء ربك محظورا{ أي محبوسا ممنوعا؛ من حظر يحظر حظرا وحظارا. ثم قال تعالى{انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض{ في الرزق والعمل؛ فمن مقل ومكثر. {وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا{ أي للمؤمنين؛ فالكافر وإن وسع عليه في الدنيا مرة، وقتر على المؤمن مرة فالآخرة لا تقسم إلا مرة واحدة بأعمالهم؛ فمن فاته شيء منها لم يستدركه فيها. وقوله{لا تجعل مع الله إلها آخر{ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. وقيل: الخطاب للإنسان. {فتقعد{ أي تبقى. {مذموما مخذولا{ لا ناصر لك ولا وليا.
الآية رقم ( 23 : 24 )
{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}
قوله تعالى{وقضى{ أي أمر وألزم وأوجب. قال ابن عباس والحسن وقتادة: وليس هذا قضاء حكم بل هو قضاء أمر. وفي مصحف ابن مسعود {ووصى{ وهي قراءة أصحابه وقراءة ابن عباس أيضا وعلي وغيرهما، وكذلك عند أبي بن كعب. قال ابن عباس: إنما هو {ووصى ربك{ فالتصقت إحدى الواوين فقرئت {وقضى ربك{ إذ لو كان على القضاء ما عصى الله أحد. وقال الضحاك: تصحفت على قوم {وصى بقضي{ حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف. وذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك. وقال عن ميمون بن مهران أنه قال: إن على قول ابن عباس لنورا؛ قال الله تعالى{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك}الشورى: 13] ثم أبى أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك. وقال: لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا، ثم قال علماؤنا المتكلمون وغيرهم: القضاء يستعمل في اللغة على وجوه: فالقضاء بمعنى الأمر؛ كقوله تعالى{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه{ معناه أمر. والقضاء بمعنى الخلق؛ كقوله{فقضاهن سبع سماوات في يومين}فصلت: 12] يعني خلقهن. والقضاء بمعنى الحكم؛ كقوله تعالى{فاقض ما أنت قاض{ يعني احكم ما أنت تحكم. والقضاء بمعنى الفراغ؛ كقوله{قضى الأمر الذي فيه تستفتيان}يوسف: 41] أي فرغ منه؛ ومنه قوله تعالى {فإذا قضيتم مناسككم}البقرة: 200]. وقوله تعالى{فإذا قضيت الصلاة{. والقضاء بمعنى الإرادة؛ كقوله تعالى{إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون}آل عمران: 47]. والقضاء بمعنى العهد؛ كقوله تعالى{وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر}القصص: 44].
فإذا كان القضاء يحتمل هذه المعاني فلا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله؛ لأنه إن أريد به الأمر فلا خلاف أنه لا يجوز ذلك، لأن الله تعالى لم يأمر بها، فإنه لا يأمر بالفحشاء. وقال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن فقال إنه طلق امرأته ثلاثا. فقال: إنك قد عصيت ربك وبانت منك. فقال الرجل: قضى الله ذلك علي فقال الحسن وكان فصيحا: ما قضى الله ذلك أي ما أمر الله به، وقرأ هذه الآية{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه{.
أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره فقال{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا{. وقال{أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير}لقمان: 14]. وفي صحيح البخاري عن عبدالله قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: (الصلاة على وقتها) قال: ثم أي؟ قال: (ثم بر الوالدين) قال ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله) فأخبر صلى الله عليه وسلم أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام. ورتب ذلك بـ (ثم) التي تعطي الترتيب والمهلة.
من البر بهما والإحسان إليهما ألا يتعرض لسبهما ولا يعقهما؛ فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف، وبذلك وردت السنة الثابتة؛ ففي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الكبائر شتم الرجل والديه) قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال (نعم. يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه).
عقوق الوالدين مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما؛ كما أن برهما موافقتهما على أغراضهما. وعلى هذا إذا أمرا أو أحدهما ولدهما بأمر وجبت طاعتهما فيه، إذا لم يكن ذلك الأمر معصية، وإن كان ذلك المأمور به من قبيل المباح في أصله، وكذلك إذا كان من قبيل المندوب. وقد ذهب بعض الناس إلى أن أمرهما بالمباح يصيره في حق الولد مندوبا إليه وأمرهما بالمندوب يزيده تأكيدا في ندبيته.
روى الترمذي عن عمر قال: كانت تحتي امرأة أحبها، وكان أبي يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا عبدالله بن عمر طلق امرأتك). قال هذا حديث حسن صحيح.
روى الصحيح عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: (أمك) قال: ثم من؟ قال: (ثم أمك) قال: ثم من؟ قال: (ثم أمك) قال: ثم من؟ قال: (ثم أبوك). فهذا الحديث يدل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب؛ لذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأم ثلاث مرات وذكر الأب في الرابعة فقط. وإذا توصل هذا المعنى شهد له العيان. وذلك أن صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم دون الأب؛ فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب. وروي عن مالك أن رجلا قال له: إن أبي في بلد السودان، وقد كتب إلي أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك؛ فقال: أطع أباك، ولا تعص أمك. فدل قول مالك هذا أن برهما متساو عنده. وقد سئل الليث عن هذه المسألة فأمره بطاعة الأم؛ وزعم أن لها ثلثي البر. وحديث أبي هريرة يدل على أن لها ثلاثة أرباع البر؛ وهو الحجة على من خالف. وقد زعم المحاسبي في (كتاب الرعاية) له أنه لا خلاف بين العلماء أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع؛ على مقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والله اعلم.
ا يختص بر الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل إن كانا كافرين يبرهما ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد؛ قال الله تعالى{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم}الممتحنة: 8]. وفي صحيح البخاري عن أسماء قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيها، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: (نعم صلي أمك). وروي أيضا عن أسماء قالت: أتتني أمي راغبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أأصلها؟ قال: (نعم). قال ابن عينية: فأنزل الله عز وجل فيها{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين}الممتحنة: 8] الأول معلق والثاني مسند.
من الإحسان إليهما والبر بهما إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد إلا بإذنهما. روى الصحيح عن عبدالله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: (أحي والداك)؟ قال نعم. قال: (ففيهما فجاهد). لفظ مسلم. في غير الصحيح قال: نعم؛ وتركتهما يبكيان. قال: (اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما). وفي خبر آخر أنه قال: (نومك مع أبويك على فراشهما يضاحكانك ويلاعبانك أفضل لك من الجهاد معي). ذكره ابن خويز منداد. ولفظ البخاري في كتاب بر الوالدين: أخبرنا أبو نعيم أخبرنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبدالله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان فقال: (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما). قال ابن المنذر: في هذا الحديث النهي عن الخروج بغير إذن الأبوين ما لم يقع النفير؛ فإذا وقع وجب الخروج على الجميع. وذلك بين في حديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيش الأمراء...؛ فذكر قصة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وابن رواحة وأن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى بعد ذلك: أن الصلاة جامعة؛ فاجتمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أيها الناس، اخرجوا فأمدوا إخوانكم ولا يتخلفن أحد) فخرج الناس مشاة وركبانا في حر شديد. فدل قوله: (اخرجوا فأمدوا إخوانكم) أن العذر في التخلف عن الجهاد إنما هو ما لم يقع النفير؛ مع قوله عليه السلام: (فإذا استنفرتم فانفروا).
قلت: وفي هذه الأحاديث دليل على أن المفروض أو المندوبات متى اجتمعت قدم الأهم منها. وقد استوفى هذا المعنى المحاسبي في كتاب الرعاية.
واختلفوا في الوالدين المشركين هل يخرج بإذنهما إذا كان الجهاد من فروض الكفاية؛ فكان الثوري يقول: لا يغزو إلا بإذنهما. وقال الشافعي: له أن يغزو بغير إذنهما. قال ابن المنذر: والأجداد آباء، والجدات أمهات فلا يغزو المرء إلا بإذنهم، ولا أعلم دلالة توجب ذلك لغيرهم من الأخوة وسائر القرابات. وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل.
من تمام برهما صلة أهل ودهما؛ ففي الصحيح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أبر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي). وروى أبو أسيد وكان بدريا قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم جالسا فجاءه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر والدي من بعد موتهما شيء أبرهما به؟ قال: (نعم. الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما بعدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما فهذا الذي بقي عليك). وكان صلى الله عليه وسلم يهدي لصدائق خديجة برا بها ووفاء لها وهي زوجته، فما ظنك بالوالدين.
قوله تعالى{إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما{ خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر؛ فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل، لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلا عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه؛ فلذلك خص هذه الحالة بالذكر. وأيضا فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة ويحصل الملل ويكثر الضجر فيظهر غضبه على أبويه وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما بدالة البنوة وقلة الديانة، وأقل المكروه ما يظهره بتنفسه المتردد من الضجر. وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة، وهو السالم عن كل عيب فقال{فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما{. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه) قيل: من يا رسول الله؟ قال: (من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة). وقال البخاري في كتاب الوالدين: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا عبدالرحمن بن إسحاق عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي. رغم أنف رجل أدرك أبويه عند الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له). حدثنا ابن أبي أويس حدثنا أخي عن سليمان بن بلال عن محمد بن هلال عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة السالمي عن أبيه رضي الله عنه قال: إن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحضروا المنبر) فلما خرج رقي إلى المنبر، فرقي في أول درجة منه قال آمين ثم رقي في الثانية فقال آمين ثم لما رقى في الثالثة قال آمين، فلما فرغ ونزل من المنبر قلنا: يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه منك؟ قال: (وسمعتموه)؟ قلنا نعم. قال: (إن جبريل عليه السلام اعترض قال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له فقلت آمين فلما رقيت في الثانية قال بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين فلما رقيت في الثالثة قال بعد من أدرك عنده أبواه الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت آمين). حدثنا أبو نعيم حدثنا سلمة بن وردان سمعت أنسا رضي الله عنه يقول: ارتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر درجة فقال آمين ثم ارتقى درجة فقال آمين ثم ارتقى الدرجة الثالثة فقال آمين، ثم استوى وجلس فقال أصحابه: يا رسول الله، علام أمنت؟ قال: (أتاني جبريل عليه السلام فقال رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين ورغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخل الجنة فقلت آمين) الحديث. فالسعيد الذي يبادر اغتنام فرصة برهما لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك. والشقي من عقهما، لا سيما من بلغه الأمر ببرهما.
قوله تعالى{فلا تقل لهما أف{ أي لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم. وعن أبي رجاء العطاردي قال: الأف الكلام القذع الرديء الخفي. وقال مجاهد: معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه منك في الصغر فلا تقذرهما وتقول أف. والآية أعم من هذا. والأف والتف وسخ الأظفار. ويقال لكل ما يضجر ويستثقل: أف له. قال الأزهري: والتف أيضا الشيء الحقير. وقرئ {أف{ منون مخفوض؛ كما تخفض الأصوات وتنون، تقول: صه ومه. وفيه عشر لغات: أف، وإف، وأف، وأفا وأف، وأفه، وإف لك (بكسر الهمزة)، وأف (بضم الهمزة وتسكين الفاء)، وأفا (مخففة الفاء). وفي الحديث: (فألقى طرف ثوبه على أنفه ثم قال أف أف). قال أبو بكر: معناه استقذار لما شم. وقال بعضهم: معنى أف الاحتقار والاستقلال؛ أخذ من الأف وهو القليل. وقال القتبي: أصله نفخك الشيء يسقط عليك من رماد وتراب وغير ذلك، وللمكان تريد إماطة شيء لتقعد فيه؛ فقيلت هذه الكلمة لكل مستثقل. وقال أبو عمرو بن العلاء: الأف وسخ بين الأظفار، والتف قلامتها. وقال الزجاج: معنى أف النتن. وقال الأصمعي: الأف وسخ الأذن، والتف وسخ الأظفار؛ فكثر استعماله حتى ذكر في كل ما يتأذى به. وروي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو علم الله من العقوق شيئا أردأ من {أف{ لذكره فليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار. وليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة). قال علماؤنا: وإنما صارت قولة {أف{ للأبوين أردأ شيء لأنه رفضهما رفض كفر النعمة، وجحد التربية ورد الوصية التي أوصاه في التنزيل. و{أف{ كلمة مقولة لكل شيء مرفوض؛ ولذلك قال إبراهيم لقومه{أف لكم ولما تعبدون من دون الله}الأنبياء: 67] أي رفض لكم ولهذه الأصنام معكم.
قوله تعالى{ولا تنهرهما{ النهر: الزجر والغلظة. {وقل لهما قولا كريما{ أي لينا لطيفا، مثل: يا أبتاه ويا أماه، من غير أن يسميهما ويكنيهما؛ قال عطاء. وقال ابن البداح التجيبي: قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله{وقل لهما قولا كريما{ ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب السيد الفظ الغليظ.
قوله تعالى{واخفض لهما جناح الذل من الرحمة{ هذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما تذلل الرعية للأمير والعبيد للسادة؛ كما أشار إليه سعيد بن المسيب. وضرب خفض الجناح ونصبه مثلا لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه لولده. والذل: هو اللين. وقراءة الجمهور بضم الذال، من ذل يذل ذلا وذلة ومذلة فهو ذال وذليل. وقرأ سعيد بن جبير وابن عباس وعروة بن الزبير {الذل{ بكسر الذال، ورويت عن عاصم؛ من قولهم: دابة ذلول بينة الذل. والذل في الدواب المنقاد السهل دون الصعب. فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة، في أقواله وسكناته ونظره، ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب.
الخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته؛ إذ لم يكن له عليه السلام في ذلك الوقت أبوان. ولم يذكر الذل في قوله تعالى{واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين}الشعراء: 215] وذكره هنا بحسب عظم الحق وتأكيده. و{من{ في قوله{من الرحمة{ لبيان الجنس، أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس، لا بأن يكون ذلك استعمالا. ويصح أن يكون لانتهاء الغاية،
قوله تعالى{وقل رب ارحمهما{ أمر تعالى عباده بالترحم على آبائهم والدعاء لهم، وأن ترحهما كما رحماك وترفق بهما كما رفقا بك؛ إذ ولياك صغيرا جاهلا محتاجا فآثراك على أنفسهما، وأسهرا ليلهما، وجاعا وأشبعاك، وتعريا وكسواك، فلا تجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر الحد الذي كنت فيه من الصغر، فتلي منهما ما وليا منك، ويكون لهما حينئذ فضل التقدم. قال صلى الله عليه وسلم: (لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه). وسيأتي في سورة (2) الكلام على هذا الحديث. والآية {وقل رب أرحمهما{ نزلت في سعد بن أبي وقاص، فإنه أسلم، فألقت أمه نفسها في الرمضاء متجردة، فذكر ذلك لسعد فقال: لتمت، فنزلت الآية
قوله تعالى{كما ربياني{ خص التربية بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتبعهما في التربية، فيزيده ذلك إشفاقا لهما وحنانا عليهما، وهذا كله في الأبوين المؤمنين. وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قربى، كما تقدم. وذكر عن ابن عباس وقتادة أن هذا كله منسوخ بقوله{ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين - إلى قوله - أصحاب الجحيم}التوبة: 113] فإذا كان والدا المسلم ذميين استعمل معهما ما أمره الله به هاهنا؛ إلا الترحم لهما بعد موتهما على الكفر؛ لأن هذا وحده نسخ بالآية المذكورة. وقيل: ليس هذا موضع نسخ، فهو دعاء بالرحمة الدنيوية للأبوين المشركين ما داما حيين، كما تقدم. أو يكون عموم هذه الآية خص بتلك، لا رحمة الآخرة، لا سيما وقد قيل إن قوله{وقل رب أرحمهما{ نزلت في سعد بن أبي وقاص، فإنه أسلم، فألقت أمه نفسها في الرمضاء متجردة، فذكر ذلك لسعد فعال: لتمت، فنزلت الآية. وقيل: الآية خاصة في الدعاء للأبوين المسلمين. والصواب أن ذلك عموم كما ذكرنا، وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أمسى مرضيا لوالديه وأصبح أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان من الجنة وإن واحدا فواحدا. ومن أمسى وأصبح مسخطا لوالديه أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان إلى النار وإن واحدا فواحدا) فقال رجل: يا رسول الله، وإن ظلماه؟ قال: (وإن ظلماه وإن ظلماه وإن ظلماه). وقد روينا بالإسناد المتصل عن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبي أخذ مالي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: (فأتني بأبيك) فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه) فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله)؟ فقال: سله يا رسول الله، هل أنفقه إلا على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسي! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إيه، دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك)؟ فقال الشيخ: والله يا رسول الله، ما زال الله عز وجل يزيدنا بك يقينا، لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي. قال: (قل وأنا أسمع) قال قلت:
غذوتك مولودا ومنتك يافعا تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المصاقب يفعل
فأوليتني حق الجوار ولم تكن علي بمال دون مالك تبخل
قال: فحينئذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال: (أنت ومالك لأبيك). قال الطبراني: اللخمي لا يروى - يعني هذا الحديث - عن ابن المنكدر بهذا التمام والشعر إلا بهذا الإسناد؛ وتفرد به عبيدالله بن خلصة. والله اعلم.
{ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا}
قوله تعالى{ربكم أعلم بما في نفوسكم{ أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما، أو من غير ذلك من العقوق، أو من جعل ظاهر برهما رياء. وقال ابن جبير: يريد البادرة التي تبدر، كالفلتة والزلة، تكون من الرجل إلى أبويه أو أحدهما، لا يريد بذلك بأسا؛ قال الله تعالى{إن تكونوا صالحين{ أي صادقين في نية البر بالوالدين فإن الله يغفر البادرة. وقوله{فإنه كان للأوابين غفورا{ وعد بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة بعد الأوبة إلى طاعة الله سبحانه وتعالى. قال سعيد بن المسيب: هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب. وقال ابن عباس رضي الله عنه: الأواب: الحفيظ الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها. وقال عبيد بن عمير: هم الذين يذكرون ذنوبهم في الخلاء ثم يستغفرون الله عز وجل. وهذه الأقوال متقاربة. وقال عون العقيلي: الأوابون هم الذين يصلون صلاة الضحى. وفي الصحيح: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال). وحقيقة اللفظ من آب يؤوب إذا رجع.
الآية رقم ( 26 : 27 )
{وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا}
قوله تعالى{وآت ذا القربى حقه{ أي كما راعيت حق الوالدين فصل الرحم، ثم تصدق على المسكين وابن السبيل. وقال علي بن الحسين في قوله تعالى{وآت ذا القربى حقه{: هم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، أمر صلى الله عليه وسلم بإعطائهم حقوقهم من بيت المال، أي من سهم ذوي القربى من الغزو والغنيمة، ويكون خطابا للولاة أو من قام مقامهم. والحق في هذه الآية ما يتعين من صلة الرحم، وسد الخلة، والمواساة عند الحاجة بالمال، والمعونة بكل وجه.
قوله تعالى{ولا تبذر{ أي لا تسرف في الإنفاق في غير حق. قال الشافعي رضي الله عنه: والتبذير إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير. وهذا قول الجمهور. وقال أشهب عن مالك: التبذير هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه، وهو الإسراف، وهو حرام لقوله تعالى{إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين{ وقوله{إخوان{ يعني أنهم في حكمهم؛ إذ المبذر ساع في إفساد كالشياطين، أو أنهم يفعلون ما تسول لهم أنفسهم، أو أنهم يقرنون بهم غدا في النار؛ ثلاثة أقوال. والإخوان هنا جمع أخ من غير النسب؛ ومنه قوله تعالى{إنما المؤمنون إخوة}الحجرات: 10]. وقوله تعالى{وكان الشيطان لربه كفورا{ أي احذروا متابعته والتشبه به في الفساد. والشيطان اسم الجنس. وقرأ الضحاك {إخوان الشيطان{ على الانفراد، وكذلك ثبت في مصحف أنس بن مالك رضي الله عنه.
من أنفق مال في الشهوات زائدا على قدر الحاجات وعرضه بذلك للنفاد فهو مبذر. ومن أنفق ربح مال في شهواته وحفظ الأصل أو الرقبة فليس بمبذر. ومن أنفق درهما في حرام فهو مبذر، ويحجر عليه في نفقته الدرهم في الحرام، ولا يحجر عليه إن بذله في الشهوات إلا إذا خيف عليه النفاد.
الآية رقم ( 28 )
{وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا}
وهو أنه سبحانه وتعالى خص نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله{وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها{. وهو تأديب عجيب وقول لطيف بديع، أي لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر الغنى والقدرة فتحرمهم. وإنما يجوز أن تعرض عنهم عند عجز يعرض وعائق يعوق، وأنت عند ذلك ترجو من الله سبحانه وتعالى فتح باب الخير لتتوصل به إلى مواساة السائل؛ فإن قعد بك الحال فقل لهم قولا ميسورا.
في سبب نزولها؛ فال ابن زيد: نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأبى أن يعطيهم؛ لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد، فكان يعرض عنهم رغبة في الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم. وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها{ قال: ليس هذا في ذكر الوالدين، جاء ناس من مزينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستحملونه؛ فقال: (لا أجد ما أحملكم عليه) فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا؛ فأنزل الله تعالى{وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها{. والرحمة الفيء. والضمير في {عنهم{ عائد على من تقدم ذكرهم من الآباء والقرابة والمساكين وأبناء السبيل.
قوله تعالى{فقل لهم قولا ميسورا{ أمره بالدعاء لهم، أي يسر فقرهم عليهم بدعائك لهم. وقيل: ادع لهم دعاء يتضمن الفتح لهم والإصلاح. وقيل: المعنى {وإما تعرضن{ أي إن أعرضت يا محمد عن إعطائهم لضيق يد فقل لهم قولا ميسورا؛ أي أحسن القول وأبسط العذر، وادع لهم بسعة الرزق، وقل إذا وجدت فعلت وأكرمت؛ فإن ذلك يعمل في مسرة نفسه عمل المواساة. وكان عليه الصلاة والسلام إذا سئل وليس عنده ما يعطي سكت انتظارا لرزق يأتي من الله سبحانه وتعالى كراهة الرد، فنزلت هذه الآية، فكان صلى الله عليه وسلم إذا سئل وليس عنده ما يعطي قال: (يرزقنا الله وإياكم من فضله). فالرحمة على هذا التأويل الرزق المنتظر. وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة. و{قولا ميسورا{ أي لينا لطيفا طيبا، مفعول بمعنى الفاعل، من لفظ اليسر كالميمون، أي وعدا جميلا، على ما بيناه. ولقد أحسن من قال:
إلا تكن وَرِقٌ يوما أجود بها للسائلين فإني لين العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوالي وإما حسن مردودي
تقول: يسرت لك كذا إذا أعددته.
الآية رقم ( 29 )
{ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا}
قوله تعالى{ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك{ هذا مجاز عبر به عن البخيل الذي لا يقدر من قلبه على إخراج شيء من ماله؛ فضرب له مثل الغل الذي يمنع من التصرف باليد. وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديه قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها. قال أبو هريرة رضي الله عنه: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعيه هكذا في جيبه فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع.
قوله تعالى{ولا تبسطها كل البسط{ ضرب بسط اليد مثلا لذهاب المال، فإن قبض الكف يحبس ما فيها، وبسطها يذهب ما فيها. وهذا كله خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، وكثيرا ما جاء في القرآن؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم عبر به عنهم على عادة العرب في ذلك. وأيضا فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يدخر شيئا لغد، وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه من الجوع. وكان كثير من الصحابة ينفقون في سبيل الله جميع أموالهم، فلم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم. وإنما نهى الله سبحانه وتعالى عن الإفراط في الإنفاق، وإخراج ما حوته يده من المال من خيف عليه الحسرة على ما خرج من يده، فأما من وثق بموعود الله عز وجل وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية، والله اعلم. وقيل: إن هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه، علمه فيه كيفية الإنفاق، وأمره بالاقتصاد. قال جابر وابن مسعود: جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي تسألك كذا وكذا. فقال: (ما عندنا اليوم شيء). قال: فتقول لك اكسني قميصك؛ فخلع قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت عريانا. وفي رواية جابر: فأذن بلال للصلاة وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج، واشتغلت القلوب، فدخل بعضهم فإذا هو عار؛ فنزلت هذه الآية. وكل هذا في إنفاق الخير. وأما إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرام، كما تقدم.
نهت هذه الآية عن استفراغ الوجد فيما يطرأ أولا من سؤال المؤمنين؛ لئلا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له، أو لئلا يضيع المنفق عياله. ونحوه من كلام الحكمة: ما رأيت قط سرفا إلا ومعه حق مضيع. وهذه من آيات فقه الحال فلا يبين حكمها إلا باعتبار شخص شخص من الناس.
قوله تعالى{فتقعد ملوما محسورا{ قال ابن عرفة: يقول لا تسرف ولا تتلف مالك فتبقى محسورا منقطعا عن النفقة والتصرف؛ كما يكون البعير الحسير، وهو الذي ذهبت قوته فلا انبعاث به؛ ومنه قوله تعالى{ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير}الملك: 4] أي كليل منقطع. وقال قتادة: أي نادما على ما سلف منك؛ فجعله من الحسرة، وفيه بعد؛ لأن الفاعل من الحسرة حسر وحسران ولا يقال محسور. والملوم: الذي يلام على إتلاف ماله، أو يلومه من لا يعطيه.
الآية رقم ( 30 : 31 )
{إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا، ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا}
قد مضى الكلام في هذه الآية في الأنعام، والحمد لله. والإملاق: الفقر وعدم الملك. أملق الرجل أي لم يبق له إلا الملقات؛ وهي الحجارة العظام الملس. قال الهذلي يصف صائدا:
أتيح لها أقيدر ذو حَشيف إذا سامت على الملقات ساما
الواحدة ملقة. والأقيدر تصغير الأقدر، وهو الرجل القصير. والحشيف من الثياب: الخلق. وسامت مرت. وقال شمر: أملق لازم ومتعد، أملق إذا افتقر، وأملق الدهر ما بيده. قال أوس:
وأملق ما عندي خطوب تَنَبَّل
قوله تعالى{خطئا{ قراءة الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمزة والقصر. وقرأ ابن عامر {خطأ{ بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة، وهي قراءة أبي جعفر يزيد. وهاتان قراءتان مأخوذتان من {خطئ{ إذا أتى الذنب على عمد. قال ابن عرفة: يقال خطئ في ذنبه خطأ إذا أثم فيه، وأخطأ إذا سلك سبيل خطأ عامدا أو غير عامد. قال: ويقال خطئ في معنى أخطأ. وقال الأزهري: يقال خطئ يخطأ خطئا إذا تعمد الخطأ؛ مثل أثم يأثم إثما. وأخطأ إذا لم يتعمد إخطاء وخطأ. قال الشاعر:
دعيني إنما خطئي وصوبي علي وإن ما أهلكت مال
والخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء، وهو ضد الصواب. وفيه لغتان: القصر وهو الجيد، والمد وهو قليل، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما {خطأ{ بفتح الخاء وسكون الطاء وهمزة. وقرأ ابن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة. قال النحاس: ولا أعرف لهذه القراءة وجها، ولذلك جعلها أبو حاتم غلطا. قال أبو علي: هي مصدر من خاطأ يخاطئ، وإن كنا لا نجد خاطأ، ولكن وجدنا تخاطأ، وهو مطاوع خاطأ، فدلنا عليه؛ ومنه قول الشاعر:
تخاطأت النبل أحشاءه وأخر يومي فلم أعجل
وقول الآخر في وصف مهاة:
تخاطأه القناص حتى وجدته وخرطومه في منقع الماء راسب
الجوهري: تخاطأه أي أخطأه؛ وقال أوفى بن مطر المازني:
ألا أبلغا خلتي جابرا بأن خليلك لم يقتل
تخاطأت النبل أحشاءه وأخر يومي فلم يعجل
وقرأ الحسن {خطاء{ بفتح الخاء والطاء والمد في الهمزة. قال أبو حاتم: لا يعرف هذا في اللغة وهي غلط غير جائز. وقال أبو الفتح: الخطأ من أخطأت بمنزلة العطاء من أعطيت، هو اسم بمعنى المصدر، وعن الحسن أيضا {خطى{ بفتح الخاء والطاء منونة من غير همز.
الآية رقم ( 32 )
{ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا}
قال العلماء: قوله تعالى {ولا تقربوا الزنى{ أبلغ من أن يقول: ولا تزنوا؛ فإن معناه لا تدنوا من الزنى. والزنى يمد ويقصر، لغتان. قال الشاعر:
كانت فريضة ما تقول كما كان الزناء فريضة الرجم
و {سبيلا{ نصب على التمييز؛ التقدير: وساء سبيله سبيلا. أي لأنه يؤدي إلى النار. والزنى من الكبائر، ولا خلاف فيه وفي قبحه لا سيما بحليلة الجار. وينشأ عنه استخدام ولد الغير واتخاذه ابنا وغير ذلك من الميراث وفساد الأنساب باختلاط المياه. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بامرأة مُجح على باب فسطاط فقال: (لعله يريد أن يُلم بها) فقالوا: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له).
الآية رقم ( 33 )
{ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا}
قوله تعالى{ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما{ أي بغير سبب يوجب القتل. {فقد جعلنا لوليه{ أي لمستحق دمه. قال ابن خويز منداد: الولي يجب أن يكون ذكرا؛ لأنه أفرده بالولاية بلفظ التذكير. وذكر إسماعيل بن إسحاق في قوله تعالى{فقد جعلنا لوليه{ ما يدل على خروج المرأة عن مطلق لفظ الولي، فلا جرم، ليس للنساء حق في القصاص لذلك ولا أثر لعفوها، وليس لها الاستيفاء. وقال المخالف: إن المراد ها هنا بالولي الوارث؛ وقد قال تعالى{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}التوبة: 71]، وقال{والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء{، [الأنفال: 72]، وقال{وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}الأنفال: 75] فاقتضى ذلك إثبات القود لسائر الورثة؛ وأما ما ذكروه من أن الولي في ظاهره على التذكير وهو واحد، كأن ما كان بمعنى الجنس يستوي المذكر والمؤنث فيه، وتتمته في كتب الخلاف. {سلطانا{ أي تسليطا إن شاء قتل وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية؛ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك وأشهب والشافعي. وقال ابن وهب قال مالك: السلطان أمر الله. ابن عباس: السلطان الحجة. وقيل: السلطان طلبه حتى يدفع إليه. قال ابن العربي: وهذه الأقوال متقاربة، وأوضحها قول مالك: إنه أمر الله. ثم إن أمر الله عز وجل لم يقع نصا فاختلف العلماء فيه؛ فقال ابن القاسم عن مالك وأبي حنيفة: القتل خاصة. وقال أشهب: الخيرة؛ كما ذكرنا آنفا، وبه قال الشافعي. وقد مضى في سورة {البقرة{ هذا المعنى.
قوله تعالى{فلا يسرف في القتل{ فيه ثلاثة أقوال: لا يقتل غير قاتله؛ قاله الحسن والضحاك ومجاهد وسعيد بن جبير. الثاني: لا يقتل بدل وليه اثنين كما كانت العرب تفعله. الثالث: لا يمثل بالقاتل؛ قاله طلق بن حبيب، وكله مراد لأنه إسراف منهي عنه. وقد مضى في {البقرة{ القول في هذا مستوفى. وقرأ الجمهور {يسرف{ بالياء، يريد الولي، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {تسرف{ بالتاء من فوق، وهي قراءة حذيفة. وروى العلاء بن عبدالكريم عن مجاهد قال: هو للقاتل الأول، والمعنى عندنا فلا تسرف أيها القاتل. وقال الطبري: هو على معنى الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعده. أي لا تقتلوا غير القاتل. وفي حرف أبي {فلا تسرفوا في القتل{.
قوله تعالى{إنه كان منصورا{ أي معانا، يعني الولي. فإن قيل: وكم من ولي مخذول لا يصل إلى حقه. قلنا: المعونة تكون بظهور الحجة تارة وباستيفائها أخرى، وبمجموعهما ثالثة، فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه وتعالى. وروى ابن كثير عن مجاهد قال: إن المقتول كان منصورا. النحاس: ومعنى قوله إن الله نصره بوليه. وروي أنه في قراءة أُبَي {فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصورا{. قال النحاس: الأبين بالياء ويكون للولي؛ لأنه إنما يقال: لا يسرف إن كان له أن يقتل، فهذا للولي. وقد يجوز بالتاء ويكون للولي أيضا، إلا أنه يحتاج فيه إلى تحويل المخاطبة. قال الضحاك: هذا أول ما نزل من القرآن في شأن القتل، وهي مكية.
الآية رقم ( 34 )
{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا}
قوله تعالى{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده{ قد مضى الكلام فيه في الأنعام.
قوله تعالى{وأوفوا بالعهد{ قد مضى الكلام فيه في غير موضع. قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد. {إن العهد كان مسؤولا{ عنه، فحذف؛ كقوله{ويفعلون ما يؤمرن}التحريم: 6] به وقيل: إن العهد يسأل تبكيتا لناقضه فيقال: نقضت، كما تسأل الموؤودة تبكيتا لوائدها.
الآية رقم ( 35 )
{وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا}
قوله تعالى{وأوفوا الكيل إذا كلتم{ تقدم الكلام فيه أيضا في الأنعام. وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع، وقد مضى في سورة {يوسف{ فلا معنى للإعادة. والقسطاس (بضم القاف وكسرها): الميزان بلغة الروم؛ قاله ابن عزيز. وقال الزجاج: القسطاس: الميزان صغيرا كان أو كبيرا. وقال مجاهد: القسطاس العدل، وكان يقول: هي لغة رومية، وكأن الناس قيل لهم: زنوا بمعدلة في وزنكم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر {القسطاس{ بضم القاف. وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم (بكسر القاف) وهما لغتان.
قوله تعالى{ذلك خير{ أي وفاء الكيل وإقامة الوزن خير عند ربك وأبرك. {وأحسن تأويلا{ أي عاقبة. قال الحسن: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس لديه إلا مخافة الله تعالى إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك). ">الآية رقم ( 36 )">
الآية رقم ( 36 )
{ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}
قوله تعالى{ولا تقف{ أي لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك. قال قتادة: لا تقل رأيت وأنت لم تر، وسمعت وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم؛ وقاله ابن عباس رضي الله عنهما. قال مجاهد: لا تذم أحدا بما ليس لك به علم؛ وقاله ابن عباس رضي الله عنهما أيضا. وقال محمد ابن الحنفية: هي شهادة الزور. وقال القتبي: المعنى لا تتبع الحدس والظنون؛ وكلها متقاربة. وأصل القفو البهت والقذف بالباطل؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (نحن بنو النضر ابن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا) أي لا نسب أمنا. وقال الكميت:
فلا أرمي البريء بغير ذنب ولا أقفو الحواصن إن قفينا
يقال: قفوته أقفوه، وقفته أقوفه، وقفيته إذا اتبعت أثره. ومنه القافة لتتبعهم الآثار وقافية كل شيء آخره، ومنه قافية الشعر؛ لأنها تقفو البيت. ومنه اسم النبي صلى الله عليه وسلم المقفي؛ لأنه جاء آخر الأنبياء. ومنه القائف، وهو الذي يتبع أثر الشبه. يقال: قاف القائف يقوف إذا فعل ذلك. وتقول: فقوت للأثر، بتقديم الفاء على القاف. ابن عطية: ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ؛ كما قالوا: رعملي في لعمري. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: قفا وقاف، مثل عتا وعات. وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب. وبالجملة فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف، وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والرديئة. وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي {تقف{ بضم القاف وسكون الفاء. وقرأ الجراح {والفاد{ بفتح الفاء، وهي لغة لبعض الناس، وأنكرها أبو حاتم وغيره.
قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة؛ لأنه لما قال{ولا تقف ما ليس لك به علم{ دل على جواز ما لنا به علم، فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به، وبهذا احتججنا على إثبات القرعة والخرص؛ لأنه ضرب من غلبة الظن، وقد يسمى علما اتساعا. فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه. وفي الصحيح عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: (ألم تري أن مُجززا نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال إن بعض هذه الأقدام لمن بعض). وفي حديث يونس بن يزيد: (وكان مجززا قائفا).
قال الإمام أبو عبدالله المازري: كانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد، وكان زيد أبوه أبيض من القطن، هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح. قال القاضي عياض: وقال غير أحمد كان زيد أزهر اللون، وكان أسامة شديد الأدمة؛ وزيد بن حارثة عربي صريح من كلب، أصابه سباء، حسبما يأتي في سورة {الأحزاب{ إن شاء الله تعالى.
استدل جمهور العلماء على الرجوع إلى القافة عند التنازع في الولد، بسرور النبي صلى الله عليه وسلم بقول هذا القائف؛ وما كان عليه السلام بالذي يسر بالباطل ولا يعجبه. ولم يأخذ بذلك أبو حنيفة وإسحاق والثوري وأصحابهم متمسكين بإلغاء النبي صلى الله عليه وسلم الشبه في حديث اللعان؛ على ما يأتي في سورة (1) إن شاء الله تعالى.
واختلف الآخذون بأقوال القافة، هل يؤخذ بذلك في أولاد الحرائر والإماء أو يختص بأولاد الإماء، على قولين؛ فالأول: قول الشافعي ومالك رضي الله عنهما في رواية ابن وهب عنه، ومشهور مذهبه قصره على ولد الأمة. والصحيح ما رواه ابن وهب عنه وقال الشافعي رضي الله عنه؛ لأن الحديث الذي هو الأصل في الباب إنما وقع في الحرائر، فإن أسامة وأباه حران فكيف يلغى السبب الذي خرج عليه دليل الحكم وهو الباعث عليه، هذا مما لا يجوز عند الأصوليين. وكذلك اختلف هؤلاء، هل يكتفي بقول واحد من القافة أو لا بد من اثنين لأنها شهادة؛ وبالأول قال ابن القاسم وهو ظاهر الخبر بل نصه. وبالثاني قال مالك والشافعي رضي الله عنهما.
قوله تعالى{إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا{ أي يسأل كل واحد منهم عما اكتسب، فالفؤاد يسأل عما افتكر فيه واعتقده، والسمع والبصر عما رأس من ذلك وسمع. وقيل: المعنى أن الله سبحانه وتعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده؛ ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) فالإنسان راع على جوارحه؛ فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسؤولا، فهو على حذف مضاف. والمعنى الأول أبلغ في الحجة؛ فإنه يقع تكذيبه من جوارحه، وتلك غاية الخزي؛ كما قال{اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون}يس:60]، وقوله {شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون}فصلت:20]. وعبر عن السمع والبصر والفؤاد بأولئك لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالة من يعقل، فلذلك عبر عنها بأولئك. وقال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى{رأيتهم لي ساجدين}يوسف: 4]: إنما قال{رأيتهم{ في نجوم، لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل؛ وقد تقدم. وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك، وأنشد هو والطبري:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
وهذا أمر يوقف عنده. وأما البيت فالرواية فيه {الأقوام{ والله اعلم.
الآية رقم ( 27 : 28 )
{ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا، كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها}
قوله تعالى{ولا تمش في الأرض مرحا{ هذا نهي عن الخيلاء وأمر بالتواضع. والمرح: شدة الفرح. وقيل: التكبر في المشي. وقيل: تجاوز الإنسان قدره. وقال قتادة: هو الخيلاء في المشي. وقيل: هو البطر والأشر. وقيل: هو النشاط وهذه الأقوال متقاربة ولكنها منقسمة قسمين: أحدهما مذموم والآخر محمود؛ فالتكبر والبطر والخيلاء وتجاوز الإنسان قدره مذموم والفرح والنشاط محمود. وقد وصف الله تعالى نفسه بأحدهما؛ ففي الحديث الصحيح (لله أفرح بتوبة العبد من رجل...) الحديث. والكسل مذموم شرعا والنشاط ضده. وقد يكون التكبر وما في معناه محمودا، وذلك على أعداء الله والظلمة. أسند أبو حاتم بن حبان عن ابن جابر بن عتيك عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من الغيرة ما يبغض الله عز وجل ومنها ما يحب الله عز وجل ومن الخيلاء ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله فأما الغيرة التي يحب الله الغيرة في الدين والغيرة التي يبغض الله الغيرة في غير دينه والخيلاء التي يحب الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة والاختيال الذي يبغض الله الخيلاء في الباطل) وأخرجه أبو داود في مصنفه وغيره. وأنشدوا:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا فكم تحتها قوم همو منك أرفع
وإن كنت في عز وحرز ومَنعة فكم مات من قوم همو منك أمنع
إقبال الإنسان على الصيد ونحوه ترفعا دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية، وفيه تعذيب الحيوان وإجراؤه لغير معنى. وأما الرجل يستريح في اليوم النادر والساعة من يومه، ويجم فيها نفسه في التطرح والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر، كقراءة علم أو صلاة، فليس بداخل في هذه الآية.
قوله تعالى{مرحا{ قراءة الجمهور بفتح الراء. وقراءة فرقة فيما حكى يعقوب بكسر الراء على بناء اسم الفاعل. والأول أبلغ، فإن قولك: جاء زيد ركضا أبلغ من قولك: جاء زيد راكضا؛ فكذلك قولك مرحا. والمرح المصدر أبلغ من أن يقال مرحا.
قوله تعالى{إنك لن تخرق الأرض{ يعني لن تتولج باطنها فتعلم ما فيها {ولن تبلغ الجبال طولا{ أي لن تساوي الجبال بطولك ولا تطاولك، ويقال: خرق الثوب أي شقه، وخرق الأرض قطعها. والخرق: الواسع من الأرض. أي لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها. {ولن تبلغ الجبال طولا{ بعظمتك، أي بقدرتك لا تبلغ هذا المبلغ، بل أنت عبد ذليل، محاط بك من تحتك ومن فوقك، والمحاط محصور ضعيف، فلا يليق بك التكبر. والمراد بخرق الأرض هنا نقبها لا قطعها بالمسافة؛ والله اعلم. وقال الأزهري: معناه لن تقطعها. النحاس: وهذا أبين؛ لأنه مأخوذ من الخرق وهي الصحراء الواسعة. ويقال: فلان أخرق من فلان، أي أكثر سفرا وعزة ومنعة. ويروي أن سبأ دوخ الأرض بأجناده شرقا وغربا وسهلا وجبلا، وقتل سادة وسبى - وبه سمي سبأ - ودان له الخلق، فلما رأى ذلك انفرد عن أصحابه ثلاثة أيام ثم خرج إليهم فقال: إني لما نلت ما لم ينل أحد رأيت الابتداء بشكر هذه النعم، فلم أر أوقع في ذلك من السجود للشمس إذا أشرقت، فسجدوا لها، وكان ذلك أول عبادة الشمس؛ فهذه عاقبة الخيلاء والتكبر والمرح؛ نعوذ بالله من ذلك.
قوله تعالى{كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها{ {ذلك {إشارة إلى جملة ما تقدم ذكره مما أمر به ونهى عنه. {ذلك{ يصلح للواحد والجمع والمؤنث والمذكر. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ومسروق {سيئة{ على إضافة سيئ إلى الضمير، ولذلك قال{مكروها{ نصب على خبر كان. والسيء: هو المكروه، وهو الذي لا يرضاه الله عز وجل ولا يأمر به. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآي من قوله{وقضى ربك - إلى قوله - كان سيئة}الإسراء: 23] مأمورات بها ومنهيات عنها، فلا يخبر عن الجميع بأنه سيئة فيدخل المأمور به في المنهي عنه. واختار هذه القراءة أبو عبيد. ولأن في قراءة أُبَي {كل ذلك كان سيئاته{ فهذه لا تكون إلا للإضافة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {سيئة{ بالتنوين؛ أي كل ما نهى الله ورسوله عنه سيئة. وعلى هذا انقطع الكلام عند قوله{وأحسن تأويلا}النساء: 59] ثم قال{ولا تقف ما ليس لك به علم}الإسراء: 36]، {ولا تمش{، ثم قال{كل ذلك كان سيئة{ بالتنوين. وقيل: إن قوله {ولا تقتلوا أولادكم}الأنعام: 151] إلى هذه الآية كان سيئة لا حسنة فيه، فجعلوا {كلا{ محيطا بالمنهي عنه دون غيره. وقوله{مكروها{ ليس نعتا لسيئة، بل هو بدل منه؛ والتقدير: كان سيئة وكان مكروها. وقد قيل: إن {مكروها{ خبر ثان لكان حمل على لفظه كل، و{سيئة{ محمول على المعنى في جميع هذه الأشياء المذكورة قبل. وقال بعضهم: وهو نعت لسيئة؛ لأنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جاز أن توصف بمذكر. وضعف أبو علي الفارسي هذا وقال: إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغي أن يكون ما بعده مذكرا، وإنما التساهل أن يتقدم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في صيغة ما يسند إلى المذكر؛ ألا ترى قول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
مستقبح عندهم. ولو قال قائل: أبقل أرض لم يكن قبيحا. قال أبو علي: ولكن يجوز في قوله {مكروها{ أن يكون بدلا من {سيئة{. ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذي في {عند ربك{ ويكون {عند ربك{ في موضع الصفة لسيئة.
استدل العلماء بهذه الآية على ذم الرقص وتعاطيه. قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل: قد نص القرآن على النهي عن الرقص فقال{ولا تمشي في الأرض مرحا{ وذم المختال. والرقص أشد المرح والبطر. أو لسنا الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقهما في الإطراب والسكر، فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشعر معه على الطنبور والمزمار والطبل لاجتماعهما. فما أقبح من ذي لحية، وكيف إذا كان شيبة، يرقص ويصفق على إيقاع الألحان والقضبان، وخصوصا إن كانت أصوات لنسوان ومردان، وهل يحسن لمن بين يديه الموت والسؤال والحشر والصراط، ثم هو إلى إحدى الدارين، يشمس بالرقص شمس البهائم، ويصفق تصفيق النسوان، ولقد رأيت مشايخ في عمري ما بان لهم سن من التبسم فضلا عن الضحك مع إدمان مخالطتي لهم وقال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ولقد حدثني بعض المشايخ عن الإمام الغزالي رضي الله عنه أنه قال: الرقص حماقة بين الكتفين لا تزول إلا باللعب. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في {الكهف{ وغيرها إن شاء الله تعالى.
الآية رقم ( 39 )
{ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا}
الإشارة بـ {ذلك{ إلى هذه الآداب والقصص والأحكام التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة التي نزل بها جبريل عليه السلام. أي هذه من الأفعال المحكمة التي تقتضيها حكمة الله عز وجل في عباده، وخلقها لهم من محاسن الأخلاق والحكمة وقوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة. ثم عطف قوله {ولا تجعل{ على ما تقدم من النواهي. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم المراد كل من سمع الآية من البشر. والمدحور: المهان المبعد المقصى. وقد تقدم في هذه السورة. ويقال في الدعاء: اللهم ادحر عنا الشيطان؛ أي أبعده.
يقول تعالى راداً على المشركين الكاذبين الزاعمين - عليهم لعائن اللّه - أن الملائكة بنات اللّه، فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، ثم ادعوا أنهم بنات اللّه، ثم عبدوهم فأخطأوا في كل من المقامات الثلاث خطأ عظيماً، فقال تعالى منكراً عليهم: {أفأصفاكم ربكم بالبنين} أي خصصكم بالذكور {واتخذ من الملائكة إناثا} أي واختار لنفسه على زعمكم البنات، ثم شدد الإنكار عليهم فقال: {إنكم لتقولون قولا عظيما} أي في زعمكم أن للّه ولداً ثم جعلكم ولده الإناث التي تأنفون أن يكن لكم وربما قتلتموهن بالوأد، فتلك إذا قسمة ضيزى، وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * ما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا}.
الآية رقم ( 41 )
{ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا}
قوله تعالى{ولقد صرفنا{ أي بينا. وقيل كررنا. والتصريف: صرف الشيء من جهة إلى جهة. والمراد بهذا التصريف البيان والتكرير. وقيل: المغايرة؛ أي غايرنا بين المواعظ ليذكروا ويعتبروا ويتعظوا. وقراءة العامة {صرفنا{ بالتشديد على التكثير حيث وقع. وقرأ الحسن بالتخفيف. قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم الحسين يقول بحضرة الإمام الشيخ أبي الطيب: لقوله تعالى{صرفنا{ معنيان؛ أحدهما لم يجعله نوعا واحدا بل وعدا ووعيدا ومحكما ومتشابها ونهيا وأمرا وناسخا ومنسوخا وأخبارا وأمثالا؛ مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال، وصريف الأفعال من الماضي والمستقبل والأمر والنهي والفعل والفاعل والمفعول ونحوها. والثاني أنه لم ينزل مرة واحدة بل نجوما؛ نحو قوله {وقرآنا فرقناه}الإسراء: 106] ومعناه: أكثرنا صرف جبريل عليه السلام إليك. وقوله {في هذا القرآن{ قيل {في{ زائدة، والتقدير: ولقد صرفنا هذا القرآن؛ مثل {وأصلح لي في ذريتي}الأحقاف: 15] أي أصلح ذريتي. وقوله {في هذا القرآن{ يعني الأمثال والعبر والحكم والمواعظ والأحكام والإعلام.
قوله تعالى{ليذكروا }
قراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي {ليذكروا{ مخففا، وكذلك في الفرقان {ولقد صرفناه بينهم ليذكروا}الفرقان:50]. الباقون بالتشديد. واختاره أبو عبيد؛ لأن معناه ليتذكروا وليتعظوا. قال المهدوي: من شدد {ليذكروا{ أراد التدبر. وكذلك من قرأ {ليذكروا{. ونظير الأول {ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون}القصص: 51] والثاني{واذكروا ما فيه}البقرة: 63]
قوله تعالى{وما يزيدهم }
أي التصريف والتذكير.
قوله تعالى{إلا نفورا }
أي تباعدا عن الحق وغفلة عن النظر والاعتبار؛ وذلك لأنهم اعتقدوا في القرآن أنه حيلة وسحر وكهانة وشعر.
الآية رقم ( 42 : 43 )
{قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا}
قوله تعالى{قل لو كان معه آلهة{ هذا متصل بقوله تعالى{ولا تجعل مع الله إلها آخره}الإسراء 22] وهو رد على عُباد الأصنام. {كما يقولون{ قرأ ابن كثير وحفص {يقولون{ بالياء. الباقون {تقولون{ بالتاء على الخطاب. {إذا لابتغوا{ يعني الآلهة. {إلى ذي العرش سبيلا{ قال ابن العباس رضي الله تعالى عنهما: لطلبوا مع الله منازعة وقتالا كما تفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض. وقال سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه: المعنى إذاً لطلبوا طريقا إلى الوصول إليه ليزيلوا ملكه، لأنهم شركاؤه. وقال قتادة: المعنى إذا لابتغت الآلهة القربة إلى ذي العرش سبيلا، والتمست الزلفة عنده لأنهم دونه، والقوم اعتقدوا أن الأصنام تقربهم إلى الله زلفى، فإذا اعتقدوا في الأصنام أنها محتاجة إلى الله سبحانه وتعالى فقد بطل أنها آلهة. {سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا{ نزه سبحانه نفسه وقدسه ومجده عما لا يليق به. والتسبيح: التنزيه. وقد تقدم.
الآية رقم ( 44 )
{تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا}
قوله تعالى{تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن{ أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل، لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح. وقوله{ومن فيهن{ يريد الملائكة والإنس والجن، ثم عمّ بعد ذلك الأشياء كلها في قوله{وإن من شيء إلا يسبح بحمده{. واختلف في هذا العموم، هل هو مخصص أم لا؛ فقالت فرقة: ليس مخصوصا والمراد به تسبيح الدلالة، وكل محدث يشهد على نفسه بأن الله عز وجل خالق قادر. وقالت طائفة: هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء على العموم يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان ما قاله الأولون من أنه أثر الصنعة والدلالة لكان أمرا مفهوما، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه. وأجيبوا بأن المراد بقوله{لا تفقهون{ الكفار الذين يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله سبحانه وتعالى في الأشياء. وقالت فرقة: قوله {من شيء{ عموم، ومعناه الخصوص في كل حي ونام، وليس ذلك في الجمادات. ومن هذا قول عكرمة: الشجرة تسبح والاسطوان لا يسبح. وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام وقد قدم الخوان: أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد؟ فقال: قد كان يسبح مرة؛ يريد أن الشجرة في زمن ثمرها واعتدالها كانت تسبح، وأما الآن فقد صار خوانا مدهونا.
قلت: ويستدل لهذا القول من السنة بما ثبت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من البول) قال: فدعا بعسيب رطب فشقه اثنين، ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا). فقوله عليه الصلاة والسلام. (ما لم ييبسا) إشارة إلى أنهما ما داما رطبين يسبحان، فإذا يبسا صارا جمادا. والله اعلم. وفي مسند أبي داود الطيالسي: فتوضع على أحدهما نصفا وعلى الآخر نصفا وقال: (لعله أن يهون عليهما العذاب ما دام فيهما من بلوتهما شيء). قال علماؤنا: ويستفاد من هذا غرس، الأشجار وقراءة القرآن على القبور، وإذا خفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن. وقد بينا هذا المعنى في كتاب التذكرة بيانا شافيا، وأنه يصل إلى الميت ثواب ما يهدى إليه. والحمد لله على ذلك. وعلى التأويل الثاني لا يحتاج إلى ذلك؛ فإن كل شيء من الجماد وغيره يسبح.
قلت: ويستدل لهذا التأويل وهذا القول من الكتاب بقوله سبحانه وتعالى{واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب. إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق}ص: 17]، وقوله{وإن منها لما يهبط من خشية الله}البقرة: 74] - على قول مجاهد - ، وقوله{وتخر الجبال هدا. أن دعوا للرحمن ولدا}مريم:90]. وذكر ابن المبارك في (دقائقه) أخبرنا مسعر عن عبدالله بن واصل عن عوف بن عبدالله قال قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: إن الجبل يقول للجبل: يا فلان، هل مر بك اليوم ذاكر لله عز وجل؟ فإن قال نعم سر به. ثم قرأ عبدالله {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا{ الآية. قال: أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير. وفيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما من صباح ولا رواح إلا تنادي بقاع الأرض بعضها بعضا. يا جاراه؛ هل مر بك اليوم عبد فصلى لله أو ذكر الله عليك؟ فمن قائلة لا، ومن قائلة نعم، فإذا قالت نعم رأت لها بذلك فضلا عليها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة). رواه ابن ماجه في سننه، ومالك في موطئه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وخرج البخاري عن عبدالله رضي الله عنه قال: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. في غير هذه الرواية عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كنا نأكل مع وسول الله صلى الله عليه وسلم الطعام ونحن نسمع تسبيحه. وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن). قيل: إنه الحجر الأسود، والله اعلم. والأخبار في هذا المعنى كثيرة؛ وقد أتينا على جملة منها في اللمع اللؤلئية في شرح العشرينيات النبوية للفاداري رحمه الله، وخبر الجذع أيضا مشهور في هذا الباب خرجه البخاري في موضع من كتابه. وإذا ثبت ذلك في جماد واحد جاز في جميع الجمادات، ولا استحالة في شيء من ذلك؛ فكل شيء يسبح للعموم. وكذا قال النخعي وغيره: هو عام فيما فيه روح وفيما لا روح فه حتى صرير الباب. واحتجوا بالأخبار التي ذكرنا. وقيل: تسبيح الجمادات أنها تدعو الناظر إليها إلى أن يقول: سبحان الله! لعدم الإدراك منها. وقال الشاعر:
تُلقى بتسبيحة من حيث ما انصرفت وتستقر حشا الرائي بترعاد
أي يقول من رآها: سبحان خالقها. فالصحيح أن الكل يسبح للأخبار الدالة على ذلك لو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود، وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح كما ذكرنا. وقد نصت السنة على ما دل عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شيء فالقول به أولى. والله اعلم. وقرأ الحسن وأبو عمرو ويعقوب وحفص وحمزة والكسائي وخلف {تفقهون{ بالتاء لتأنيث الفاعل. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد، قال: للحائل بين الفعل والتأنيث. {إنه كان حليما{ عن ذنوب عباده في الدنيا. {غفورا{ للمؤمنين في الآخرة.
الآية رقم ( 45 )
{وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا}
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: لما نزلت سورة {تبت يدا أبي لهب{ أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فِهر وهي تقول:
مذمما عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا
والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه؛ فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، لقد أقبلت وأنا أخاف أن تراك! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها لن تراني) وقرأ قرآنا فاعتصم به كما قال. وقرأ {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا{. فوقفت على أبي بكر رضي الله عنه ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر، أخبرت أن صاحبك هجاني! فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك. قال: فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: لما نزلت {تبت يدا أبي لهب وتب}المسد: 1] جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فقال أبو بكر: لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك، فإنها امرأة بذيئة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه سيحال بيني وبينها) فلم تره. فقالت لأبي بكر: يا أبا بكر، هجانا صاحبك! فقال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله. فقالت: وإنك لمصدقه؛ فاندفعت راجعة. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، أما رأتك؟ قال: (لا ما زال ملك ببني وبينها يسترني حتى ذهبت). وقال كعب رضي الله عنه في هذه الآية: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستتر من المشركين بثلاث آيات: الآية التي في الكهف {إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا{، [الكهف: 57]، والآية في النحل {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم}النحل: 108]، والآية التي في الجاثية {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة}الجاثية: 23] الآية. فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأهن يستتر من المشركين. قال كعب رضي الله تعالى عنه: فحدثت بهن رجلا من أهل الشام، فأتى أرض الروم فأقام بها زمانا، ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن فصاروا يكونون معه على طريقه ولا يبصرونه. قال الثعلبي: وهذا الذي يروونه عن كعب حدثت به رجلا من أهل الري فأسر بالديلم، فمكث زمانا ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن حتى جعلت ثيابهن لتلمس ثيابه فما يبصرونه.
قلت: ويزاد إلى هذه الآية أول سورة يس إلى قوله {فهم لا يبصرون{. فإن في السيرة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومقام علي رضي الله عنه في فراشه قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده، وأخذ الله عز وجل على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس{يس. والقرآن الحكيم. إنك لمن المرسلين. على صراط مستقيم. تنزيل العزيز الرحيم - إلى قوله - وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون}يس: 6]. حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب.
قلت: ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا. وذلك أني هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شيء، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن؛ فعبرا علي ثم رجعا من حيث جاءا وأحدهما يقول للآخر: هذا ديبله؛ يعنون شيطانا. وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني، والحمد لله حمدا كثيرا على ذلك. وقيل: الحجاب المستور طبع الله على قلوبهم حتى لا يفقهوه ولا يدركوا ما فيه من الحكمة؛ قاله قتادة. وقال الحسن: أي أنهم لإعراضهم عن قراءتك وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب في عدم رؤيته لك حتى كأن على قلوبهم أغطية. وقيل: نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن، وهم أبو جهل وأبو سفيان والنضر بن الحارث وأم جميل امرأة أبي لهب وحويطب؛ فحجب الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن أبصارهم عند قراءة القرآن، وكانوا يمرون به ولا يرونه؛ قاله الزجاج وغيره. وهو معنى القول الأول بعينه، وهو الأظهر في الآية، والله اعلم. وقوله{مستورا{ فيه قولان: أحدهما - أن الحجاب مستور عنكم لا ترونه. والثاني: أن الحجاب ساتر عنكم ما وراءه؛ ويكون مستورا به بمعنى ساتر.
الآية رقم ( 46 )
{وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا}
قوله تعالى{وجعلنا على قلوبهم أكنة{ {أكنة{ جمع كنان، وهو ما ستر الشيء. وقد تقدم في {الأنعام{. {أن يفقهوه{ أي لئلا يفقهوه، أو كراهية أن يفقهوه، أي أن يفهموا ما فيه من الأوامر والنواهي والحكم والمعاني. وهذا رد على القدرية. {وفي آذانهم وقرا{ أي صمما وثقلا. وفي الكلام إضمار، أي أن يسمعوه. {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده{ أي قلت: لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن. وقال أبو الجوزاء أوس بن عبدالله: ليس شيء أطرد للشياطين من القلب من قول لا إله إلا الله، ثم تلا {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا{. وقال علي بن الحسين: هو قوله بسم الله الرحمن الرحيم. وقد تقدم هذا في البسملة. {ولوا على أدبارهم نفورا{ قيل: يعني بذلك المشركين. وقيل الشياطين. و{نفورا{ جمع نافر؛ مثل شهود جمع شاهد، وقعود جمع قاعد، فهو منصوب على الحال. ويجوز أن يكون مصدوا على غير الصدر؛ إذ كان قوله {ولوا{ بمعنى نقروا، فيكون معناه نفورا نفورا.
الآية رقم ( 47 )
{نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا}
قوله تعالى{نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك{ قيل: الباء زائدة في قوله {به{ أي يستمعونه. وكانوا يستمعون من النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ثم ينفرون فيقولون: هو ساحر ومسحور؛ كما أخبر الله تعالى به عنهم؛ قاله قتادة وغيره. {وإذ هم نجوى{ أي متناجون في أمرك. قال قتادة: وكانت نجواهم قولهم إنه مجنون وإنه ساحر وإنه يأتي بأساطير الأولين، وغير ذلك. وقيل: نزلت حين دعا عتبة أشراف قريش إلى طعام صنعه لهم، فدخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله؛ فتناجوا؛ يقولون ساحر ومجنون. وقيل: أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين؛ ففعل ذلك علي ودخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد، وقال: (قولوا لا إله إلا الله لتطيعكم العرب وتدين لكم العجم) فأبوا، وكانوا يستمعون من النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون بينهم متناجين: هو ساحر وهو مسحور؛ فنزلت الآية. وقال الزجاج: النجوى اسم للمصدر؛ أي وإذ هم ذو نجوى، أي سرار. {إذ يقول الظالمون{ أبو جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما. {إن تتبعون إلا رجلا مسحورا{ أي مطبوبا قد خبله السحر فاختلط عليه أمره، يقولون ذلك لينفروا عنه الناس. وقال مجاهد{مسحورا{ أي مخدوعا؛ مثل قوله{فأني تسحرون}المؤمنون: 89] أي من أين تخدعون. وقال أبو عبيدة{مسحورا{ معناه أن له سحرا، أي رئة، فهو لا يستغني عن الطعام والشراب؛ فهو مثلكم وليس بملك. وتقول العرب للجبان: قد انتفخ سحره. ولكل من أكل من آدمي وغيره أو شرب مسحور ومسحر. قال لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر
وقال امرؤ القيس:
أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
أي نغذي ونعلل. وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من هذه التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري.
الآية رقم ( 48 )
{انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا}
قوله تعالى{انظر كيف ضربوا لك الأمثال{ عجّبه من صنعهم كيف يقولون تارة ساحر وتارة مجنون وتارة شاعر. {فضلوا فلا يستطيعون سبيلا{ أي حيلة في صد الناس عنك. وقيل: ضلوا عن الحق فلا يجدون سبيلا، أي إلى الهدى. وقيل: مخرجا؛ لتناقض كلامهم في قولهم: مجنون، ساحر، شاعر.
قوله تعالى{وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا{ أي قالوا وهم يتناجون لما سمعوا القرآن وسمعوا أمر البعث: لو لم يكن مسحورا مخدوعا لما قال هذا. قال ابن عباس: الرفات الغبار. مجاهد: التراب. والرفات ما تكسر وبلي من كل شيء؛ كالفتات والحطام والرضاض؛ عن أبي عبيدة والكسائي والفراء والأخفش. تقول منه: رفت الشيء رفتا، أي حطم؛ فهو مرفوت. {أئنا لمبعوثون خلقا جديدا{ {أئنا{ استفهام والمراد به الجحد والإنكار. و{ خلقا{ نصب لأنه مصدر؛ أي بعثا جديدا. وكان هذا غاية الإنكار منهم.
الآية رقم ( 50 : 51 )
{قل كونوا حجارة أو حديدا، أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا}
أي قل لهم يا محمد كونوا على جهة التعجيز حجارة أو حديدا في الشدة والقوة. قال الطبري: أي إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاما ولحما فكونوا أنتم حجارة أو حديدا إن قدرتم. وقال علي بن عيسى: معناه أنكم لو كنتم حجارة أو حديدا لم تفوتوا الله عز وجل إذا أرادكم؛ إلا أنه خرج مخرج الأمر، لأنه أبلغ في الإلزام. وقيل: معناه لو كنتم حجارة أو حديدا لأعادكم كما بدأكم، ولأماتكم ثم أحياكم. وقال مجاهد: المعنى كونوا ما شئتم فستعادون. النحاس: وهذا قول حسن؛ لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة، وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم، فلو كنتم حجارة أو حديدا لبعثتم كما خلقتم أول مرة. {أو خلقا مما يكبر في صدوركم{ قال مجاهد: يعني السماوات والأرض والجبال لعظمها في النفوس. وهو معنى قول قتادة. يقول: كونوا ما شئتم، فإن الله يميتكم ثم يبعثكم. وقال ابن عباس وابن عمر وعبدالله بن عمرو بن العاص وابن جبير ومجاهد أيضا وعكرمة وأبو صالح والضحاك: يعني الموت؛ لأنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم منه؛ قال أمية بن أبي الصلت:
وللموت خلق في النفوس فظيع
يقول: إنكم لو خلقتم من حجارة أو حديد أو كنتم الموت لأميتنكم ولأبعثنكم؛ لأن القدرة التي بها أنشأتكم بها نعيدكم. وهو معنى قوله{فسيقولون من يعيدنا{. وفي الحديث أنه (يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار). وقيل: أراد به البعث؛ لأنه كان أكبر في صدورهم؛ قاله الكلبي. {فطركم{ خلقكم وأنشأكم. {فسينغضون إليك رؤوسهم{ أي يحركون رؤوسهم استهزاء؛ يقال: نغض رأسه ينغض وينغض نغضا ونغوضا؛ أي تحرك. وأنغض رأسه أي حركه، كالمتعجب من الشيء؛ ومنه قوله تعالى{فسينغضون إليك رؤوسهم{. قال الراجز:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا
ويقال أيضا: نغض فلان رأسه أي حركه؛ يتعدى ولا يتعدى، حكاه الأخفش. ويقال: نغضت سنه؛ أي حركت وانقلعت. قال الراجز:
ونغضت من هرم أسنانها
وقال آخر:
لما رأتني انغضت لي الرأسا
وقال آخر:
لا ماء في المقراة إن لم تنهض بمسد فوق المحال النغض
المحال والمحالة: البكرة العظيمة التي يستقي بها الإبل. {ويقولون متى هو{ أي البعث والإعادة وهذا الوقت. {قل عسى أن يكون قريبا{ أي هو قريب؛ لأن عسى واحب؛ نظيره {وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا}الأحزاب: 63] و{لعل الساعة قريب}الشورى: 17]. وكل، ما هو آت فهو قريب.
الآية رقم ( 52 )
{يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا}
قوله تعالى{يوم يدعوكم{ الدعاء: النداء إلى المحشر بكلام تسمعه الخلائق، يدعوهم الله تعالى فيه بالخروج. وقيل: بالصيحة التي يسمعونها؛ فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض القيامة. قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم). {فتستجيبون بحمده{ أي باستحقاقه الحمد على الإحياء. وقال أبو سهل: أي والحمد لله؛ كما قال:
فإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست، ولا من غدرة أتقنع
وقيل: حامدين لله تعالى بألسنتكم. قال سعيد بن جبير: تخرج الكفار من قبورهم وهم يقولون سبحانك وبحمدك؛ ولكن لا ينفعهم اعتراف ذلك اليوم. وقال ابن عباس{بحمده{ بأمره؛ أي تقرون بأنه خالقكم. وقال قتادة: بمعرفته وطاعته. وقيل: المعنى بقدرته. وقيل: بدعائه إياكم. قال علماؤنا: وهو الصحيح؛ فإن النفخ في الصور إنما هو سبب لخروج أهل القبور؛ بالحقيقة إنما هو خروج الخلق بدعوة الحق، قال الله تعالى{يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده{ فيقومون يقولون سبحانك اللهم وبحمدك. قال: فيوم القيامة يوم يبدأ بالحمد ويختم به؛ قال الله تعالى{يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده{ وقال في آخر {وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين}الزمر: 75]. {وتظنون إن لبثتم إلا قليلا{ يعني بين النفختين؛ وذلك أن العذاب يكف عن المعذبين بين النفختين، وذلك أربعون عاما فينامون؛ فذلك قوله تعالى{من بعثنا من مرقدنا}يس: 52] فيكون خاصا للكفار. وقال مجاهد: للكافرين هجعة قبل يوم القيامة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور قاموا مذعورين. وقال قتادة: المعنى أن الدنيا تحاقرت في أعينهم وقلت حين رأوا يوم القيامة. الحسن{وتظنون إن لبثتم إلا قليلا{ في الدنيا لطول لبثكم في الآخرة.
الآية رقم ( 53 )
{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا}
قوله تعالى{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن{ تقدم إعرابه. والآية نزلت في عمر بن الخطاب. وذلك أن رجلا من العرب شتمه، وسبه عمر وهم بقتله، فكادت تثير فتنة فأنزل الله تعالى فيه{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن{ ذكره الثعلبي والماوردي وابن عطية والواحدي. وقيل: نزلت لما قال المسلمون: ايذن لنا يا رسول الله في قتالهم فقد طال إيذاؤهم إيانا، فقال: (لم أومر بعد بالقتال) فأنزل الله تعالى{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن{؛ قاله الكلبي. وقيل: المعنى قل لعبادي الذين اعترفوا بأني خالقهم وهم يعبدون الأصنام، يقولوا التي هي أحسن من كلمة التوحيد والإقرار بالنبوة. وقيل: المعنى وقل لعبادي المؤمنين إذا جادلوا الكفار في التوحيد، أن يقولوا الكلمة التي هي أحسن. كما قال{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم}الأنعام: 108]. وقال الحسن: هو أن يقول للكافر إذا تشطط: هداك الله! يرحمك الله! وهذا قبل أن أمروا بالجهاد. وقيل: المعنى قل لهم يأمروا بما أمر الله به وينهوا عما نهى الله عنه؛ وعلى هذا تكون الآية عامة في المؤمن والكافر، أي قل للجميع. والله أعلم. وقالت طائفة: أمر الله تعالى في هذه الآية المؤمنين فيما بينهم خاصة، بحسن الأدب وإلانة القول، وخفض الجناح وإطراح نزغات الشيطان؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخوانا). وهذا أحسن، وتكون الآية محكمة.
قوله تعالى{إن الشيطان ينزغ بينهم{ أي بالفساد وإلقاء العداوة والإغواء. وقد تقدم في آخر {الأعراف}ويوسف]. يقال: نزغ بيننا أي أفسد؛ قاله اليزيدي. وقال غيره: النزغ الإغراء. {إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا{ أي شديد العداوة. وقد تقدم في {البقرة{. وفي الخبر (أن قوما جلسوا يذكرون الله، عز وجل فجاء الشيطان ليقطع مجلسهم فمنعته الملائكة فجاء إلى قوم جلسوا قريبا منهم لا يذكرون الله فحرش بينهم فتخاصموا وتواثبوا فقال هؤلاء الذاكرون قوموا بنا نصلح بين إخواننا فقاموا وقطعوا مجلسهم وفرح بذلك الشيطان). فهذا من بعض عداوته.
الآية رقم ( 54 )
{ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا}
قوله تعالى{ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم{ هذا خطاب للمشركين، والمعنى: إن يشأ يوفقكم للإسلام فيرحمكم، أو يميتكم على الشرك فيعذبكم؛ قاله ابن جريج. و{اعلم{ بمعنى عليم؛ نحو قولهم: الله أكبر، بمعنى كبير. وقيل: الخطاب للمؤمنين؛ أي إن يشأ يرحمكم بأن يحفظكم من كفار مكة، أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم؛ قاله الكلبي. {وما أرسلناك عليهم وكيلا{ أي وما وكلناك في منعهم من الكفر ولا جعلنا إليك إيمانهم. وقيل: ما جعلناك كفيلا لهم تؤخذ بهم؛ قاله الكلبي. وقال الشاعر:
ذكرت أبا أروى فبت كأنني برد الأمور الماضيات وكيل
أي كفيل.
الآية رقم ( 55 )
{وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا}
قوله تعالى{وربك أعلم بمن في السماوات والأرض{ أعاد بعد أن قال{ربكم اعلم بكم{ ليبين أنه خالقهم وأنه جعلهم مختلقين في أخلاقهم وصورهم وأحوالهم ومالهم {ألا يعلم من خلق}الملك: 14]. وكذا النبيون فضل بعضهم على بعض عن علم منه بحالهم. وقد مضى القول في هذا في (البقرة). {وآتينا داود زبورا{ الزبور: كتاب ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود؛ وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد. أي كما آتينا داود الزبور فلا تنكروا أن يؤتى محمد القرآن. وهو في محاجة اليهود.
الآية رقم ( 56 )
{قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا}
قوله تعالى{قل ادعوا الذين زعمتم من دونه{ لما ابتليت قريش بالقحط وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله هذه الآية؛ أي ادعوا الذين تعبدون من دون الله وزعمتم أنهم آلهة. وقال الحسن: يعني الملائكة وعيسى وعزيرا. ابن مسعود: يعني الجن. {فلا يملكون كشف الضر عنكم{ أي القحط سبع سنين، على قول مقاتل. {ولا تحويلا{ من الفقر إلى الغنى ومن السقم إلى الصحة.
الآية رقم ( 57 )
{أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا}
قوله تعالى{أولئك الذين يدعون{ {أولئك{ مبتدأ {الذين{ صفة {أولئك{ وضمير الصلة محذوف؛ أي يدعونهم. يعني أولئك المدعوون. و{يبتغون{ خبر، أو يكون حالا، و{الذين يدعون{ خبر؛ أي يدعون إليه عبادا إلى عبادته. وقرأ ابن مسعود {تدعون{ بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر. ولا خلاف في {يبتغون{ أنه بالياء. وفي صحيح مسلم من كتاب التفسير عن عبدالله بن مسعود في قوله عز وجل{أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة{ قال: نفر من الجن أسلموا وكانوا يعبدون، فبقي الذين كانوا يعبدون على عبادتهم وقد أسلم النفر من الجن. في رواية قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون؛ فنزلت {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة{. وعنه أيضا أنهم الملائكة كانت تعبدهم قبائل من العرب؛ ذكره الماوردي. وقال ابن عباس ومجاهد: عزير وعيسى. و{يبتغون{ يطلبون من الله الزلفة والقربة، ويتضرعون إلى الله تعالى في طلب الجنة، وهي الوسيلة. أعلمهم الله تعالى أن المعبودين يبتغون القربة إلى ربهم. والهاء والميم في {ربهم{ تعود على العابدين أو على المعبودين أو عليهم جميعا. وأما {يدعون{ فعلى العابدين. {ويبتغون{ على المعبودين. {أيهم أقرب{ ابتداء وخبر. ويجوز أن يكون {أيهم أقرب{ بدلا من الضمير في {يبتغون{، والمعنى يبتغي أيهم أقرب الوسيلة إلى الله. {ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا{ أي مخوفا لا أمان لأحد منه؛ فينبغي أن يحذر منه ويخاف. وقال سهل بن عبدالله: الرجاء والخوف زمانان على الإنسان، فإذا استويا استقامت أحواله، وإن رجح أحدهما بطل الآخر.
الآية رقم ( 58 )
{وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا}
قوله تعالى{وإن من قرية إلا نحن مهلكوها{ أي مخربوها. {قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا{ قال مقاتل: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب. وقال ابن مسعود: إذا ظهر الزنى والربا في قرية أذن الله في هلاكهم. فقيل: المعنى وإن من قرية ظالمة؛ يقوي ذلك قوله{وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون}القصص: 59]. أي فليتق المشركون، فإنه ما من قرية كافرة إلا سيحل بها العذاب. {كان ذلك في الكتاب{ أي في اللوح. {مسطورا{ أي مكتوبا. والسطر: الخط والكتابة وهو في الأصل مصدر. والسطر(بالتحريك)، مثله. قال جرير:
من شاء بايعته مالي وخُلعته ما تكمل التيم في ديوانهم سطرا
الخلعة (بضم الخاء): خيار المال. والسطر جمع أسطار؛ مثل سبب وأسباب، ثم يجمع على أساطير. وجمع السطر أسطر وسطور؛ مثل أفلس وفلوس. والكتاب هنا يراد به اللوح المحفوظ.
الآية رقم ( 59 )
{وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا}
قوله تعالى{وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون{ في الكلام حذف، والتقدير: وما منعنا أن نرسل بالآيات التي اقترحوها إلا أن يكذبوا بها فيهلكوا كما فعل بمن كان قبلهم. قال معناه قتادة وابن جريج وغيرهما. فأخر الله تعالى العذاب عن كفار قريش لعلمه أن فيهم من يؤمن وفيهم من يولد مؤمنا. وقد تقدم في {الأنعام{ وغيرها أنهم طلبوا أن يحول الله لهم الصفا ذهبا وتتنحى الجبال عنهم؛ فنزل جبريل وقال: (إن شئت كان ما سأل قومك ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا وإن شئت استأنيت بهم). فقال: (لا بل استأن بهم). و{أن{ الأولى في محل نصب بوقوع المنع عليهم، و{أن{ الثانية في محل رفع. والباء في {بالآيات{ زائدة. ومجاز الكلام: وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين، والله تعالى لا يكون ممنوعا عن شيء؛ فالمعنى المبالغة في أنه لا يفعل، فكأنه قد منع عنه. ثم بين ما فعل بمن سأل الآيات فلم يؤمن بها فقال{وآتينا ثمود الناقة مبصرة{ أي آية دالة مضيئة نيرة على صدق صالح، وعلى قدرة الله تعالى. وقد تقدم ذلك. {فظلموا بها{ أي ظلموا بتكذيبها. وقيل: جحدوا بها وكفروا أنها من عند الله فاستأصلهم الله بالعذاب. {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا{ فيه خمسة أقوال: الأول: العبر والمعجزات التي جعلها الله على أيدي الرسل من دلائل الإنذار تخويفا للمكذبين. الثاني: أنها آيات الانتقام تخويفا من المعاصي. الثالث: أنها تقلب الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهل ثم إلى مشيب، لتعتبر بتقلب أحوالك فتخاف عاقبة أمرك؛ وهذا قول أحمد بن حنبل رضي الله عنه. الرابع: القرآن. الخامس: الموت الذريع؛ قاله الحسن.
الآية رقم ( 60 )
{وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا}
قوله تعالى{وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس{ قال ابن عباس: الناس هنا أهل مكة، وإحاطته بهم إهلاكه إياهم؛ أي أن الله سيهلكهم. وذكره بلفظ الماضي لتحقق كونه. وعني بهذا الإهلاك الموعود ما جرى يوم بدر ويوم الفتح. وقيل: معنى {أحاط بالناس{ أي أحاطت قدرته بهم، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته؛ قاله مجاهد وابن أبي نجيح. وقال الكلبي: المعنى أحاط علمه بالناس. وقيل: المراد عصمته من الناس أن يقتلوه حتى يبلغ رسالة ربه؛ أي وما أرسلناك عليهم حفيظا، بل عليك التبليغ، فبلغ بجدك فإنا نعصمك منهم ونحفظك، فلا تهبهم، وامض لما آمرك به من تبليغ الرسالة، فقدرتنا محيطة بالكل؛ قال معناه الحسن وعروة وقتادة وغيرهم.
قوله تعالى{وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس{ لما بين أن إنزال آيات القرآن تتضمن التخويف ضم إليه ذكر آية الإسراء، وهي المذكورة في صدر السورة. وفي البخاري والترمذي عن ابن عباس في قوله تعالى{وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس{ قال: هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس. قال{والشجرة الملعونة في القرآن{ هي شجرة الزقوم. قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث صحيح. وبقول ابن عباس قالت عائشة ومعاوية والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والضحاك وابن أبي نجيح وابن زيد. وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسري به. وقيل: كانت رؤيا نوم. وهذه الآية تقضي بفساده، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها، وما كان أحد لينكرها. وعن ابن عباس قال: الرؤيا التي في هذه الآية هي رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدخل مكة في سنة الحديبية، فرد فافتتن المسلمون لذلك، فنزلت الآية، فلما كان العام المقبل دخلها، وأنزل الله تعالى {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق}الفتح: 27]. وفي هذا التأويل ضعف؛ لأن السورة مكية وتلك الرؤيا كانت بالمدينة. وقال في رواية ثالثة: إنه عليه السلام رأى في المنام بني مروان ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك فقيل: إنما هي الدنيا أعطوها، فسري عنه، وما كان له بمكة منبر ولكنه يجوز أن يرى بمكة رؤيا المنبر بالمدينة. وهذا التأويل الثالث قاله أيضا سهل بن سعد رضي الله عنه. قال سهل إنما هذه الرؤيا هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، فاغتم لذلك، وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات صلى الله عليه وسلم. فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من تملكهم وصعودهم يجعلها الله فتنة للناس وامتحانا. وقرأ الحسن بن على في خطبته في شأن بيعته لمعاوية{وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين}الأنبياء: 111]. قال ابن عطية: وفي هذا التأويل نظر، ولا يدخل في هذه الرؤيا عثمان ولا عمر بن عبدالعزيز ولا معاوية.
قوله تعالى{والشجرة الملعونة في القرآن{ فيه تقديم وتأخير؛ أي ما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. وفتنتها أنهم لما خوفوا بها قال أبو جهل استهزاء: هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر، وما نعرف الزقوم إلا التمر والزبد، ثم أمر أبو جهل جارية فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه: تزقموا. وقد قيل: إن القائل ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد ابن الزبعرى حيث قال: كثر الله من الزقوم في داركم، فإنه التمر بالزبد بلغة اليمن. وجائز أن يقول كلاهما ذلك. فافتتن أيضا لهذه المقالة بعض الضعفاء، فأخبر الله تعالى نبيه عليه السلام أنه إنما جعل الإسراء وذكر شجرة الزقوم فتنة واختبارا ليكفر من سبق عليه الكفر ويصدق من سبق له الإيمان. كما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قيل له صبيحة الإسراء: إن صاحبك يزعم أنه جاء البارحة من بيت المقدس فقال: إن كان قال ذلك فلقد صدق. فقيل له: أتصدقه قبل أن تسمع منه؟ فقال: أين عقولكم؟ أنا أصدقه بخبر السماء، فكيف لا أصدقه بخبر بيت المقدس، والسماء أبعد منها بكثير.
قلت: ذكر هذا الخبر ابن إسحاق، ونصه: قال كان من الحديث فيما بلغني عن مسراه صلى الله عليه وسلم عن عبدالله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعائشة ومعاوية بن أبي سفيان والحسن بن أبي الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم وأم هانئ بنت أبي طالب، ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمره حين أسري به صلى الله عليه وسلم، وكان في مسراه وما ذكر عنه بلاء وتمحيص وأمر من أمر الله عز وجل في قدرته وسلطانه فيه عبرة لأولي الألباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق وكان من أمر الله تعالى على يقين؛ فأسرى به صلى الله عليه وسلم كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد. وكان عبدالله بن مسعود فيما بلغني عنه يقول: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق - وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله تضع حافرها في منتهى طرفها - فحمل عليها، ثم خرج به صاحبه يُرى الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له فصلى بهم ثم أتي بثلاثة آنية: إناء فيه لبن وإناء فيه خمر؛ وإناء فيه ماء. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فسمعت قائلا يقول حين عُرضَت عليّ إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته وإن أخذ الخمر فغوي وغوت أمته وإن أخذ اللبن فهُدي وهُديت أمته قال فأخذت إناء اللبن فشربت فقال له جبريل هُديت وهُديت أمتك يا محمد). قال ابن إسحاق: وحدثت عن الحسن أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما أنا نائم في الحجر جاءني جبريل عليه السلام فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا ثم عدت لمضجعي فجاءني الثانية فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فأخذ بعضدي فقمت معه فخرج إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض بين البغل والحمار في فخديه جناحان يحفز بهما رجليه يضع حافره في منتهى طرفه فحملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته). قال ابن إسحاق: وحدثت عن قتادة أنه قال: حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما دنوت منه لأركبه شمس فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال ألا تستحي يا براق مما تصنع فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه قال فاستحيا حتى أرفض عرقا ثم قر حتى ركبته).
قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى معه جبريل حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ثم أتى بإناءين: في أحدهما خمر وفي الآخر لبن، قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إناء اللبن فشرب منه وترك إناء الخمر. قال: فقال له جبريل: هديت الفطرة وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر؛ فقال أكثر الناس: هذا والله الأمر البين والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام، مدبرة شهرا ومقبلة شهرا، فيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة قال: فارتد كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبي بكر فقالوا: هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس، وصلى فيه ورجع إلى مكة. قال فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى، ها هو ذا في المسجد يحدث به الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق فما يعجبكم من ذلك فوالله إنه ليخبرني إن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه. ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال (نعم) قال: يا نبي الله، فصفه لي فإني قد جئته؟ فقال الحسن: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رفع لي حتى نظرت إليه) فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفه لأبي بكر ويقول أبو بكر رضي الله عنه: صدقت، أشهد أنك رسول الله. كلما وصف له منه شيئا قال: صدقت، أشهد أنك رسول الله. قال: حتى إذا انتهى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: (وأنت يا أبا بكر الصديق) فيومئذ سماه الصديق. قال الحسن: وأنزل الله تعالى فيمن ارتد عن الإسلام لذلك{وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة قي القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا{. فهذا حديث الحسن عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما دخل فيه من حديث قتادة. وذكر باقي الإسراء عمن تقدم في السيرة. وقال ابن عباس: هذه الشجرة بنو أمية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الحكم. وهذا قول ضعيف محدث والسورة مكية، فيبعد هذا التأويل؛ إلا أن تكون هذه الآية مدنية، ولم يثبت ذلك. وقد قالت عائشة لمروان: لعن الله أباك وأنت في صلبه فأنت بعض من لعنة الله. ثم قال{والشجرة الملعونة في القرآن{ ولم يجر في القرآن لعن هذه الشجرة، ولكن الله لعن الكفار وهم آكلوها. والمعنى: والشجرة الملعونة في القرآن آكلوها. ويمكن أن يكون هذا على قول العرب لكل طعام مكروه ضار: ملعون. وقال ابن عباس: الشجرة الملعونة هي هذه الشجرة التي تلتوي على الشجر فتقتله، يعني الكشوث. {ونخوفهم{ أي بالزقوم. {فما يزيدهم{ التخويف إلا الكفر.
{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا، قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا}
قوله تعالى{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم{ تقدم ذكر كون الشيطان عدو الإنسان، فانجر الكلام إلى ذكر آدم. والمعنى: اذكر بتمادي هؤلاء المشركين وعتوهم على ربهم قصة إبليس حين عصى ربه وأبى السجود، وقال ما قال، وهو ما أخبر الله تعالى في قوله تعالى{فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا{ أي من طين. وهذا استفهام إنكار. وقد تقدم القول في خلق آدم في {البقرة{ و{الأنعام{ مستوفى. {قال أرأيتك{ أي قال إبليس. والكاف توكيد للمخاطبة. {هذا الذي كرمت علي{ أي فضلته علي. ورأى جوهر النار خيرا من جوهر الطين ولم يعلم أن الجواهر متماثلة. وقد تقدم هذا في {الأعراف{. و{هذا{ نصب بـ {أرأيت{. {الذي{ نعته. والإكرام: اسم جامع لكل ما يحمد. وفي الكلام حذف تقديره: أخبرني عن هذا الذي فضلته علي، لم فضلته وقد خلقتني من نار وخلقته من طين؟ فحذف لعلم السامع. وقيل: لا حاجة إلى تقدير الحذف؛ أي أترى هذا الذي كرمته علي لأفعلن به كذا وكذا. ومعنى {لأحتنكن{ في قول ابن عباس: لأستولين عليهم. وقاله الفراء. مجاهد: لأحتوينهم. ابن زيد: لأضلنهم. والمعنى متقارب؛ أي لأستأصلن ذريته بالإغواء والإضلال، ولأجتاحنهم. وروي عن العرب: إحتنك الجراد الزرع إذا ذهب به كله. وقيل: معناه لأسوقنهم حيث شئت وأقودنهم حيث أردت. ومن قولهم: حنكت الفرس أحنكه وأحنكه حنكا إذا جعلت في فيه الرسن. وكذلك إحتنكه. والقول الأول قريب من هذا؛ لأنه إنما يأتي على الزرع بالحنك. وقال الشاعر:
أشكو إليك سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا وأضعفت
واحتنكت أموالنا واجتلفت
{إلا قليلا} يعني المعصومين، وهم الذين ذكرهم الله في قوله{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}الإسراء: 65] وإنما قال إبليس ذلك ظنا؛. كما قال الله تعالى{ولقد صدق عليهم إبليس ظنه}سبأ: 20] أو علم من طبع البشر تركب الشهوة فيهم؛ أو بنى على قول الملائكة{أتجعل فيها من يفسد فيها}البقرة: 30]. وقال الحسن: ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم عليه السلام فلم يجد له عزما.
الآية رقم ( 63 )
{قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا}
قوله تعالى{قال اذهب{ هذا أمر إهانة؛ أي اجهد جهدك فقد أنظرناك {فمن تبعك منهم{ أي أطاعك من ذرية آدم. {فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا{ أي وافرا؛ عن مجاهد وغيره. وهو نصب على المصدر، يقال: وفرته أفره وفرا، ووفر المال بنفسه يفر وفورا فهو وافر؛ فهو لازم ومتعد.
الآية رقم ( 64 )
{واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا}
قوله تعالى{واستفزز{ أي استزل واستخف. وأصله القطع، ومنه تفزز الثوب إذا انقطع. والمعنى استزله بقطعك إياه عن الحق. واستفزه الخوف أي استخفه. وقعد مستفزا أي غير مطمئن. {واستفزز{ أمر تعجيز، أي أنت لا تقدر على إضلال أحد، وليس لك على أحد سلطان فافعل ما شئت. {بصوتك{ وصوته كل داع يدعو إلى معصية الله تعالى؛ عن ابن عباس. مجاهد: الغناء والمزامير واللهو. الضحاك: صوت المزمار. وكان آدم عليه السلام أسكن أولاد هابيل أعلى الجبل، وولد قابيل أسفله، وفيهم بنات حسان، فزمر اللعين فلم يتمالكوا أن انحدروا فزنوا ذكره الغزنوي. وقيل{بصوتك{ بوسوستك.
قوله تعالى{وأجلب عليهم بخيلك ورجلك{ أصل الإجلاب السوق بجلبة من السائق؛ يقال: أجلب إجلابا. والجلب والجلبة: الأصوات؛ تقول منه: جلبوا بالتشديد. وجلب الشيء يجلبه ويجلبه جلبا وجلبا. وجلبت الشيء إلى نفسي واجتلبته بمعنى. وأجلب على العدو إجلابا؛ أي جمع عليهم. فالمعنى أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك وقال أكثر المفسرين: يريد كل راكب وماش في معصية الله تعالى. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس. فما كان من راكب وماش يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس ورجالته. وروى سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس قال: كل خيل سارت في معصية الله، وكل رجل مشى في معصية الله، وكل مال أصيب من حرام، وكل ولد بغية فهو للشيطان. والرجل جمع راجل؛ مثل صحب وصاحب. وقرأ حفص {ورجلك{ بكسر الجيم وهما لغتان؛ يقال: رجل ورجل بمعنى راجل. وقرأ عكرمة وقتادة {ورجالك{ على الجمع.
قوله تعالى{وشاركهم في الأموال والأولاد{ أي اجعل لنفسك شركة في ذلك. فشركته في الأموال إنفاقها في معصية الله؛ قاله الحسن. وقيل: هي التي أصابوها من غير حلها؛ قاله مجاهد. ابن عباس: ما كانوا يحرمونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقاله قتادة. الضحاك: ما كانوا يذبحونه لآلهتهم. والأولاد قيل: هم أولاد الزنى، قاله مجاهد والضحاك وعبدالله بن عباس. وعنه أيضا هو ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم من الجرائم. وعنه أيضا: هو تسميتهم عبد الحارث وعبد العزى وعبد اللات وعبد الشمس ونحوه. وقيل: هو صبغة أولادهم في الكفر حتى هودوهم ونصروهم، كصنع النصارى بأولادهم بالغمس في الماء الذي لهم؛ قال قتادة. وقول خامس - روى عن مجاهد قال: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه، فذلك قوله تعالى{لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان{ وسيأتي. وروى من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن فيكم مغرِّبين) قلت: يا رسول الله، وما المغربون؟ قال:(الذين يشترك فيهم الجن). رواه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. قال الهروي: سموا مغربين لأنه دخل فيهم عرق غريب. قال الترمذي الحكيم: فللجن مساماة بابن آدم في الأمور والاختلاط؛ فمنهم من يتزوج فيهم، وكانت بلقيس ملكة سبأ أحد أبويها من الجن. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى{وعدهم{ أي منّهم الأماني الكاذبة، وأنه لا قيامة ولا حساب، وأنه إن كان حساب وجنة ونار فأنتم أولى بالجنة من غيركم يقويه قوله تعالى{يعديهم ويمنيهم وما بعدهم الشيطان إلا غرورا{ أي باطلا. وقبل {وعدهم{ أي عدهم النصر على من أرادهم بسوء. وهذا الأمر للشيطان تهدد ووعيد له. وقيل: استخفاف به وبمن اتبعه.
في الآية ما يدل على تحريم المزامير والغناء واللهو؛ لقوله{واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم{ على قول مجاهد. وما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يستحسنه فواجب التنزه عنه. وروى نافع عن ابن عمر أنه سمع صوت زمارة فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع! أتسمع؟ فأقول نعم؛ فمضى حتى قلت له لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت زمارة راع فصنع مثل هذا. قال علماؤنا: إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال، فكيف بغناء أهل هذا الزمان وزمرهم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة (1) إن شاء الله تعالى.
الآية رقم ( 65 )
{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا}
قوله تعالى{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان{ قال ابن عباس: هم المؤمنون. وقد تقدم الكلام فيه. {وكفى بربك وكيلا{ أي عاصما من القبول من إبليس، وحافظا من كيده وسوء مكره.
الآية رقم ( 66 )
{ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما}
قوله تعالى{ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر{ الإزجاء: السوق؛ ومنه قوله تعالى{ألم تر أن الله يزجي سحابا{. وقال الشاعر:
يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بنى أسد ما هذه الصوت
وإزجاء الفلك: سوقه بالريح اللينة. والفلك هنا جمع، وقد تقدم. والبحر الماء الكثير عذبا كان أو ملحا، وقد غلب هذا الاسم على الملح. وهذه الآية توقيف على آلاء الله وفضله عند عباده؛ أي ربكم الذي أنعم عليكم بكذا وكذا فلا تشركوا به شيئا. {لتبتغوا من فضله{ أي في التجارات. وقد تقدم. {إنه كان بكم رحيما{.
الآية رقم ( 67 )
{وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا}
قوله تعالى{وإذا مسكم الضر في البحر{ {الضر{ لفظ يعم خوف الغرق والإمساك عن الجري. وأهوال حالاته اضطرابه وتموجه. {ضل من تدعون إلا إياه{ {ضل{ معناه تلف وفقد؛ وهي عبارة تحقير لمن يدعي إلها من دون الله. المعنى في هذه الآية: أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم أنها شافعة، وأن لها فضلا. وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علما لا يقدر على مدافعته أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام، فوقفهم الله من ذلك على حالة البحر حيث تنقطع الحيل. {فلما نجاكم إلى البر أعرضتم{ أي عن الإخلاص. {وكان الإنسان كفورا{ الإنسان هنا الكافر. وقيل: وطبع الإنسان كفورا للنعم إلا من عصمه الله؛ فالإنسان لفظ الجنس.
الآية رقم ( 68 )
{أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا}
قوله تعالى{أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر{ بين أنه قادر على هلاكهم في البر وإن سلموا من البحر. والخسف: أن تنهار الأرض بالشيء؛ يقال: بئر خسيف إذا انهدم أصلها. وعين خاسف أي غارت حدقتها في الرأس. وعين من الماء خاسفو أي غاز ماؤها. وخسفت الشمس أي غابت عن الأرض. وقال أبو عمرو: والخسيف البئر التي تحفر في الحجارة فلا ينقطع ماؤها كثرة. والجمع خسف. وجانب البر: ناحية الأرض؛ وسماه جانبا لأنه يصير بعد الخسف جانبا. وأيضا فإن البحر جانب والبر جانب. وقيل: إنهم كانوا على ساحل البحر، وساحله جانب البر، وكانوا فيه آمنين من أهوال البحر، فحذرهم ما أمنوه من البر كما حذرهم ما خافوه من البحر. {أو يرسل عليكم حاصبا{ يعني ريحا شديدة، وهي التي ترمي بالحصباء، وهي الحصى الصغار؛ قاله أبو عبيدة والقتبي. وقال قتادة: يعني حجارة من السماء تحصبهم، كما فعل بقوم لوط. ويقال للسحابة التي ترمي بالبرد: صاحب، وللريح التي تحمل التراب والحصباء حاصب وحصبة أيضا. قال لبيد:
جرت عليها أن خوت من أهلها أذيالها كل عصوف حصبه
وقال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام يضربنا بحاصب كنديف القطن منثور
{ثم لا تجدوا لكم وكيلا{ أي حافظا ونصيرا يمنعكم من بأس الله.
الآية رقم ( 69 )
{أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا}
قوله تعالى{أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى{ يعني في البحر. {فيرسل عليكم قاصفا من الريح{ القاصف: الريح الشديدة التي تكسر بشدة؛ من قصف الشيء يقصفه؛ أي كسره بشدة. والقصف: الكسر؛ يقال: قصفت الريح السفينة. وريح قاصف: شديدة. ورعد قاصف: شديد الصوت. يقال: قصف الرعد وغيره قصيفا. والقصيف: هشيم الشجر. والتقصف التكسر. والقصف أيضا: اللهو واللعب؛ يقال: إنها مولدة. {فيغرقكم بما كفرتم{ أي بكفركم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {نخسف بكم{ {أو نرسل عليكم{ {أن نعيدكم{ {فنرسل عليكم{ {فنغرقكم{ بالنون في الخمسة على التعظيم، لقوله{علينا{ الباقون بالياء؛ لقوله في الآية قبل{إياه{. وقرأ أبو جعفر وشيبة ورويس ومجاهد {فتغرقكم{ بالتاء نعتا للريح. وعن الحسن وقتادة {فيغرقكم{ بالياء مع التشديد في الراء. وقرأ أبو جعفر {الرياح{ هنا وفي كل القرآن. وقيل: إن القاصف المهلكة في البر، والعاصف المغرقة في البحر؛ حكاه الماوردي. {ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا{ قال مجاهد: ثائرا. النحاس: وهو من الثأر. وكذلك يقال لكل من طلب بثأر أو غيره: تبيع وتابع؛ ومنه {فاتباع بالمعروف}البقرة: 178] أي مطالبة.
الآية رقم ( 70 )
{ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}
قوله تعالى{ولقد كرمنا بني آدم{ الآية. لما ذكر من الترهيب ما ذكر بين النعمة عليهم أيضا. {كرمنا{ تضعيف كرم؛ أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا. وهذا هو كرم نفي النقصان لا كرم المال. وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة، وحملهم في البر والبحر مما لا يصح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره. وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس، وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم؛ لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب ويأكلون المركبات من الأطعمة. وغاية كل حيوان يأكل لحما نيئا أو طعاما غير مركب. وحكى الطبري عن جماعة أن التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوان بالفم. وروي عن ابن عباس؛ ذكره المهدوي والنحاس؛ وهو قول الكلبي ومقاتل؛ ذكره الماوردي. وقال الضحاك: كرمهم بالنطق والتمييز. عطاء: كرمهم بتعديل القامة وامتدادها. يمان: بحسن الصورة. محمد بن كعب: بأن جعل محمدا صلى الله عليه وسلم منهم. وقيل أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب. وقال محمد بن جرير الطبري: بتسليطهم على سائر الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم. وقيل: بالكلام والخط. وقيل: بالفهم والتمييز. والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف، وبه يعرف الله ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله؛ إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب. فمثال الشرع الشمس، ومثال العقل العين؛ فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء. وما تقدم من الأقوال بعضه أقوى من بعض. وقد جعل الله في بعض الحيوان خصالا يفضل بها ابن آدم أيضا؛ كجري الفرس وسمعه وإبصاره، وقوة الفيل وشجاعة الأسد وكرم الديك. وإنما التكريم والتفضيل بالعقل كما بيناه. والله اعلم.
قالت فرقة: هذه الآية تقتضي تفضيل الملائكة على الإنس والجن من حيث إنهم المستثنون في قوله تعالى{ولا الملائكة المقربون}النساء: 171]. وهذا غير لازم من الآية، بل التفضيل فيها بين الإنس والجن؛ فإن هذه الآية إنما عدد الله فيها على بني آدم ما خصهم به من سائر الحيوان، والجن هو الكثير المفضول، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول، ولم تتعرض الآية لذكرهم، بل يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل العكس، ويحتمل التساوي، وعلى الجملة فالكلام لا ينتهي في هذه المسألة إلى القطع. وقد تحاشى قوم من الكلام في هذا كما تحاشوا من الكلام في تفضيل بعض الأنبياء على بعض؛ إذ في الخبر (لا تخايروا بين الأنبياء ولا تفضلوني على يونس بن متى). وهذا ليس بشيء؛ لوجود النص في القرآن في التفضيل بين الأنبياء. وقد بيناه في {البقرة{ ومضى فيها الكلام في تفضيل الملائكة والمؤمن.
قوله تعالى{ورزقناهم من الطيبات{ يعني لذيذ المطاعم المشارب. قال مقاتل: السمن والعسل والزبد والتمر والحلوى، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم من التبن والعظام وغيرها. {وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا{ أي على البهائم والدواب والوحش والطير بالغلبة والاستيلاء، والثواب والجزاء والحفظ والتمييز وإصابة الفراسة.
هذه الآية ترد ما روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احرموا أنفسكم طيب الطعام فإنما قوى الشيطان أن يجري في العروق منها). وبه يستدل كثير من الصوفية في ترك أكل الطيبات، ولا أصل له؛ لأن القرآن يرده، والسنة الثابتة بخلافه، على ما تقرر في غير موضع. وقد حكى أبو حامد الطوسي قال: كان سهل يقتات من ورق النبق مدة. وأكل دقاق ورق التين ثلاث سنين. وذكر إبراهيم بن البنا قال: صحبت ذا النون من إخميم إلى الإسكندرية، فلما كان وقت إفطاره أخرجت قرصا وملحا كان معي، وقلت: هلم. فقال لي: ملحك مدقوق؟ قلت نعم. قال: لست تفلح! فنظرت إلى مزوده وإذا فيه قليل سويق شعير يسف منه. وقال أبو يزيد: ما أكلت شيئا مما يأكله بنو آدم أربعين سنة. قال علماؤنا: وهذا مما لا يجوز حمل النفس عليه؛ لأن الله تعالى أكرم الآدمي بالحنطة وجعل قشورها لبهائمهم، فلا يصح مزاحمة الدواب في أكل التبن، وأما سويق الشعير فإنه يورث القولنج، وإذا اقتصر الإنسان على خبز الشعير والملح الجريش فإنه ينحرف مزاجه؛ لأن خبز الشعير بارد مجفف، والملح يابس قابض يضر الدماغ والبصر. وإذا مالت النفس إلى ما يصلحها فمنعت فقد قوومت حكمة البارئ سبحانه بردها، ثم يؤثر ذلك في البدن، فكان هذا الفعل مخالفا للشرع والعقل. ومعلوم أن البدن مطية الآدمي، ومتى لم يرفق بالمطية لم تبلغ. وروي عن إبراهيم بن أدهم أنه اشترى زبدا وعسلا وخبز حُوارى، فقيل له: هذا كله؟ فقال: إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال. وكان الثوري يأكل اللحم والعنب والفالوذج ثم يقوم إلى الصلاة. ومثل هذا عن السلف كثير. وقد تقدم منه ما يكفي في المائدة والأعراف وغيرهما. والأول غلو في الدين إن صح عنهم {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم}الحديد:27].
الآية رقم ( 71 )
{يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا}
قوله تعالى{يوم ندعو كل أناس بإمامهم{ روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى{يوم ندعو كل أناس بإمامهم{ قال: (يدعي أحدهم فيعطي كتابه بيمينه، ويمد له في جسمه ستون ذراعا، ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول أبشروا لكل منكم مثل هذا - قال - وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له في جسمه ستون ذراعا على صورة آدم ويلبس تاجا فيراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من شر هذا! اللهم لا تأتنا بهذا. قال: فيأتيهم فيقولون اللهم أخره. فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. ونظير هذا قوله{وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعي إلى كتابهم اليوم تجزون ما كنتم تعملون{. والكتاب يسمى إماما؛ لأنه يرجع إليه في تعرف أعمالهم. وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك{بإمامهم{ أي بكتابهم، أي بكتاب كل إنسان منهم الذي فيه عمله؛ دليله {فمن أوتي كتابه بيمينه{. وقال ابن زيد: بالكتاب المنزل عليهم. أي يدعي كل إنسان بكتابه الذي كان يتلوه؛ فيدعي أهل التوراة بالتوراة، وأهل القرآن بالقرآن؛ فيقال: يأهل القرآن، ماذا عملتم، هل امتثلتم أوامره هل اجتنبتم نواهيه! وهكذا. وقال مجاهد{بإمامهم{ بنبيهم، والإمام من يؤتم به. فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم عليه السلام، هاتوا متبعي موسى عليه السلام، هاتوا متبعي الشيطان، هاتوا متبعي الأصنام. فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم، ويقوم أهل الباطل فيأخذون كتابهم بشمالهم. وقاله قتادة. وقال على رضى الله عنه: بإمام عصرهم. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله{يوم ندعو كل أناس بإمامهم{ فقال: (كل يدعي بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم فيقول هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي عيسى هاتوا متبعي محمد - عليهم أفضل الصلوات والسلام - فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم، ويقول: هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلالة إمام هدى وإمام ضلالة). وقال الحسن وأبو العالية{بإمامهم{ أي بأعمالهم. وقاله ابن عباس. فيقال: أين الراضون بالمقدور، أين الصابون عن المحذور. وقيل: بمذاهبهم؛ فيدعون بمن كانوا يأتمون به في الدنيا: يا حنفي، يا شافعي، يا معتزلي، يا قدري، ونحوه؛ فيتبعونه في خير أو شر أو على حق أو باطل، وهذا معنى قوله أبي عبيدة. وقد تقدم. وقال أبو هريرة: يدعي أهل الصداقة من باب الصداقة، وأهل الجهاد من باب الجهاد...، الحديث بطوله. أبو سهل: يقال أين فلان المصلي والصوام، وعكسه الدفاف والنمام. وقال محمد بن كعب{بإمامهم{ بأمهاتهم. وإمام جمع آم. قالت الحكماء: وفي ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة؛ أحدها - لأجل عيسى. والثاني - إظهار لشرف الحسن والحسين. والثالث - لئلا يفتضح أولاد الزنى.
قلت: وفي هذا القول نظر؛ فإن في الحديث الصحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيام يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان) خرجه مسلم والبخاري. فقوله{هذه غدرة فلان ابن فلان{ دليل على أن الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وهذا يرد على من قال: إنما يدعون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك سترا على آبائهم. والله أعلم.
قوله تعالى{فمن أوتي كتابه بيمينه{ هذا يقوي قول من قال{بإمامهم{ بكتابهم ويقويه أيضا قوله{وكل شيء أحصيناه في إمام مبين}يس:12]. {فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا{ الفتيل الذي في شق النواة. وقد مضى في {النساء{.
الآية رقم ( 72 )
{ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا}
قوله تعالى{ومن كان في هذه أعمى{ أي في الدنيا عن الاعتبار وإبصار الحق. {فهو في الآخرة{ أي في أمر الآخرة {أعمى{ وقال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسألوه عن هذه الآية فقال: اقرؤوا ما قبلها {ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر - إلى - تفضيلا{. قال ابن عباس: من كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى فهو عن الآخرة التي لم يعاين أعمى وأضل سبيلا. وقيل: المعنى من عمى عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى. وقيل: المعنى من كان في الدنيا التي أمهل فيها وفسح له ووعد بقبول التوبة أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا. وقيل: ومن كان في الدنيا أعمى عن حجج الله بعثه الله يوم القيامة أعمى؛ كما قال{ونحشره يوم القيامة أعمى{ الآيات. وقال{ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم{. وقيل: المعنى في قوله {فهو في الآخرة أعمى{ في جميع الأقوال: أشد عمى؛ لأنه من عمى القلب، ولا يقال مثله في عمى العين. قال الخليل وسيبويه: لأنه خلقة بمنزلة اليد والرجل، فلم يقل ما أعماه كما لا يقال ما أيداه. الأخفش: لم يقل فيه ذلك لأنه على أكثر من ثلاثة أحرف، وأصله أعمى. وقد أجاز بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه؛ لأن فعله عمى وعشى. وقال الفراء: حدثني بالشام شيخ بصرى أنه سمع العرب تقول: ما أسود شعره. قال الشاعر:
ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر وفي المخازى لكم أشباح أشياخ
أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم لؤما وأبيضهم سربال طباخ
وأمال أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف الحرفين {أعمى{ و{أعمى{ وفتح الباقون. وأمال أبو عمرو الأول وفتح الثاني. {وأضل سبيلا{ يعني أنه لا يجد طريقا إلى الهداية.
الآية رقم ( 73 )
{وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا}
قوله تعالى{وإن كادوا ليفتنونك{ قال سعيد بن جبير: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود في طوافه، فمنعته قريش وقالوا: لا ندعك تستلم حتى تُلِم بآلهتنا. فحدث نفسه وقال: (ما علي أن أُلِم بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر والله يعلم أني لها كاره) فأبى الله تعالى ذلك وأنزل عليه هذه الآية؛ قال مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت في وفد ثقيف، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه شططا وقالوا: متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها، فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا، وحرم وادينا كما حرمت مكة، حتى تعرف العرب فضلنا عليهم؛ فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك فنزلت هذه الآية. وقيل: هو قول أكابر قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد عنا هؤلاء السقاط والموالي حتى نجلس معك ونسمع منك؛ فهم بذلك حتى نهي عنه. وقال قتادة ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه، ويسودونه ويقاربونه؛ فقالوا: إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا يا سدنا؛ وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله من ذلك، وأنزل الله تعالى هذه الآية. ومعنى {ليفتنونك{ أي يزيلونك. يقال: فتنت الرجل عن رأيه إذا أزلته عما كان عليه؛ قاله الهروي. وقيل يصرفونك، والمعنى واحد. {عن الذي أوحينا إليك{ أي حكم القرآن؛ لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن. {لتفتري علينا غيره{ أي لتختلق علينا غير ما أوحينا إليك، وهو قول ثقيف: وحرم وادينا كما حرمت مكة، شجرها وطيرها ووحشها، فإن سألتك العرب لم خصصتهم فقل الله أمرني بذلك حتى يكون عذرا لك. {وإذا لاتخذوك خليلا{ أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلا، أي والوك وصافوك؛ مأخوذ من النخلة (بالضم) وهي الصداقة لممايلته لهم. وقيل{لاتخذوك خليلا{ أي فقيرا. مأخوذ من الخلة (بفتح الخاء) وهي الفقر لحاجته إليهم.
الآية رقم ( 74 : 75 )
{ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا، إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا}
قوله تعالى{ولولا أن ثبتناك{ أي على الحق وعصمناك من موافقتهم. {لقد كدت تركن إليهم{ أي تميل. {شيئا قليلا{ أي ركونا قليلا. قال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام: (اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين). وقيل: ظاهر الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وباطنه إخبار عن ثقيف. والمعنى: وإن كادوا ليركنونك، أي كادوا يخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم؛ فنسب فعلهم إليه مجازا واتساعا؛ كما تقول لرجل: كدت تقتل نفسك، أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت؛ ذكره المهدوي. وقيل ما كان منه هم بالركون إليهم، بل المعنى: ولولا فضل الله عليك لكان منك ميل إلى موافقتهم، ولكن تم فضل الله عليك فلم تفعل؛ ذكره القشيري. وقال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوما، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه.
وقوله{إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات{ أي لو ركنت لأذقناك مثلي عذاب الحياة في الدنيا ومثلي عذاب الممات في الآخرة؛ قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وهذا غاية الوعيد. وكلما كانت الدرجة أعلى كان العذاب عند المخالفة أعظم. قال الله تعالى{يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين}الأحزاب: 30] وضعف الشيء مثله مرتين، وقد يكون الضعف النصيب؛ كقوله عز وجل{لكل ضعف}الأعراف: 38] أي نصيب. وقد تقدم في الأعراف.
الآية رقم ( 76 )
{وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا}
هذه الآية قيل إنها مدنية؛ حسبما تقدم في أول السورة. قال ابن عباس: حسدت اليهود مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقالوا: إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام، فإن كنت نبيا فالحق بها؛ فإنك إن خرجت إليها صدقناك وآمنا بك؛ فوقع ذلك في قلبه لما يحب من إسلامهم، فرحل من المدينة على مرحلة فأنزل الله هذه الآية. وقال عبدالرحمن بن غنم: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما نزل تبوك نزل {وإن كانوا ليستفزونك من الأرض{ بعد ما ختمت السورة، وأمر بالرجوع. وقيل: إنها مكية. قال مجاهد وقتادة: نزلت في همّ أهل مكة بإخراجه، ولو أخرجوه لما أمهلوا ولكن الله أمره بالهجرة فخرج، وهذا أصح؛ لأن السورة مكية، ولأن ما قبلها خبر عن أهل مكة، ولم يجر لليهود ذكر. وقول{من الأرض{ يريد أرض مكة. كقوله{فلن أبرح الأرض}يوسف: 80] أي أرض مصر؛ دليله {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك}محمد: 13] يعني مكة. معناه: هم أهلها بإخراجه؛ فلهذا أضاف إليها وقال {أخرجتك{. وقيل: هم الكفار كلهم أن يستخفوه من أرض العرب بتظاهرهم عليه فمنعه الله، ولو أخرجوه من أرض العرب لم يمهلوا، وهو معنى قوله{وإذا لا يلبثون خلافك{ وقرأ عطاء بن أبي رباح {لا يلبثون{ الباء مشددة. {خلفك{ نافع وابن كثير وأبو بكر وأبو عمرو، ومعناه بعدك. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي {خلافك{ واختاره أبو حاتم، اعتبارا بقوله{فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله}التوبة: 81] ومعناه أيضا بعدك؛ قال الشاعر:
عفت الديار خلافهم فكأنما بسط الشواطب بينهن حصيرا
بسط البواسط؛ في الماوردي. يقال: شطبت المرأة الجريد إذا شقته لتعمل منه الحصر. قال أبو عبيد ثم تلفيه الشاطبة إلى المنقية. وقيل{خلفك{ بمعنى بعدك. {وخلافك{ بمعنى مخالفتك؛ ذكره ابن الأنباري. {إلا قليلا{ فيه وجهان: أحدهما - أن المدة التي لبثوها بعده ما بين إخراجهم له إلى قتلهم يوم بدر؛ وهذا قول من ذكر أنهم قريش. الثاني - ما بين ذلك وقتل بنى قريظة وجلاء بن النضير؛ وهذا قول من ذكر أنهم اليهود.
الآية رقم ( 77 )
{سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا}
قوله تعالى{سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا{ أي يعذبون كسنة من قد أرسلنا؛ فهو بإضمار يعذبون؛ فلما سقط الخافض عمل الفعل؛ قاله الفراء. وقيل: انتصب على معنى سننا سنة من قد أرسلنا. وقيل: هو أرسلنا؛ فلا يوقف على هذا التقدير على قوله{إلا قليلا{ ويوقف على الأول والثاني. {قبلك من رسلنا{ وقف حسن. {ولا تجد لسنتنا تحويلا{ أي لا خلف في وعدها.
الآية رقم ( 78 )
{أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا}
قوله تعالى{أقم الصلاة لدلوك الشمس{ لما ذكر مكايد المشركين أمر نبيه عليه السلام بالصبر والمحافظة على الصلاة، وفيها طلب النصر على الأعداء. ومثله {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين{. وتقدم القول في معنى إقامة الصلاة في أول سورة {البقرة{. وهذا الآية بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة. واختلف العلماء في الدلوك على قولين: أحدهما - أنه زوال الشمس عن كبد السماء؛ قاله عمر وابنه وأبو هريرة وابن عباس وطائفة سواهم من علماء التابعين وغيرهم. الثاني - أن الدلوك هو المغرب؛ قاله علي وابن مسعود وأبي بن كعب، وروى عن ابن عباس. قال الماوردي: من جعل الدلوك اسما لغروبها فلأن الإنسان يدلك عينيه براحته لتبينها حالة المغيب، ومن جعله اسما لزوالها فلأنه يدلك عينيه لشدة شعاعها. وقال أبو عبيد: دلوكها غروبها. ودلكت براح يعني الشمس؛ أي غابت وأنشد قطرب:
هذا مقام قدمي رباح ذبب حتى دلكت براح
براح بفتح الباء على وزن حزام وقطام ورقاس اسم من أسماء الشمس. ورواه الفراء بكسر الباء وهو جمع راحة وهي الكف؛ أي غابت وهو ينظر إليها وقد جعل كفه على حاجبه. ومنه قوله العجاج:
والشمس قد كادت تكون دنفا أدفعها بالراح كي تزحلفا
قال ابن الأعرابي: الزحلوفة مكان منحدر أملس، لأنهم يتزحلفون فيه. قال: والزحلفة كالدحرجة والدفع؛ يقال: زحلفته فتزحلف. ويقال: دلكت الشمس إذا غابت. قال ذو الرمة:
مصابيح ليست باللواتي تقودها نجوم ولا بالآفلات الدوالك
قال ابن عطية: الدلوك هو الميل - في اللغة - فأول الدلوك هو الزوال وآخره هو الغروب. ومن وقت الزوال إلى الغروب يسمى دلوكا، لأنها في حالة ميل. فذكر الله تعالى الصلوات التي تكون في حالة الدلوك وعنده؛ فيدخل في ذلك الظهر والعصر والمغرب، ويصح أن تكون المغرب داخلة في غسق الليل. وقد ذهب قوم إلى أن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب؛ لأنه سبحانه علق وجوبها على الدلوك، وهذا دلوك كله؛ قاله الأوزاعي وأبو حنيفة في تفصيل. وأشار إليه مالك والشافعي في حالة الضرورة.
قوله تعالى{إلى غسق الليل{ روى مالك عن ابن عباس قال: دلوك الشمس ميلها، وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته. وقال أبو عبيدة: الغسق سواد الليل. قال ابن قيس الرقيات:
إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا
وقد قيل: غسق الليل مغيب الشفق. وقيل: إقبال ظلمته. قال:
ظلت تجود يدها وهي لاهية حتى إذا جنح الإظلام والغسق
يقال: غسق الليل غسوقا. والغسق اسم بفتح السين. وأصل الكلمة من السيلان؛ يقال: غسقت العين إذا سالت، تغسق. وغسق الجرح غسقانا، أي سال منه ماء أصفر. وأغسق المؤذن، أي أخر المغرب إلى غسق الليل. وحكى الفراء: غسق الليل وأغسق، وظلم أظلم، ودجا وأدجى، وغبس وأغبس، وغبش وأغبش. وكان الربيع بن خثيم يقول لمؤذنه في يوم غيم: أغسق أغسق. يقول: أخر المغرب حتى يغسق الليل، وهو إظلامه.
اختلف العلماء في آخر وقت المغرب؛ فقيل: وقتها وقت واحد لا وقت لها إلا حين تحجب الشمس، وذلك بين في إمامة جبريل؛ فإنه صلاها باليومين لوقت واحد وذلك غروب الشمس، وهو الظاهر من مذهب مالك عند أصحابه. وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه أيضا وبه قال الثوري. وقال مالك في الموطأ: فإذا غاب الشفق فقد خرجت من وقت المغرب ودخل وقت العشاء. وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود؛ لأن وقت الغروب إلى الشفق غسق كله. ولحديث أبي موسى، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالسائل المغرب في اليوم الثاني فأخر حتى كان سقوط الشفق. خرجه مسلم. قالوا: وهذا أولى من أخبار إمامة جبريل؛ لأنه متأخر بالمدنية وإمامة جبريل بمكة، والمتأخر أولى من فعله وأمره؛ لأنه ناسخ لما قبله. وزعم ابن العربي أن هذا القول هو المشهور من مذهب مالك، وقوله في موطئه الذي أقرأه طول عمره وأملاه في حياته.
والنكتة في هذا أن الأحكام المتعلقة بالأسماء هل تتعلق بأوائلها أو بآخرها أو يرتبط الحكم بجميعها؟ والأقوى في النظر أن يرتبط الحكم بأوائلها لئلا يكون ذكرها لغوا فإذا ارتبط بأوائلها جرى بعد ذلك النظر في تعلقه بالكل إلى الآخر.
قلت: القول بالتوسعة أرجح. وقد خرج الإمام الحافظ أبو محمد عبدالغني بن سعيد من حديث الأجلح بن عبدالله الكندي عن أبي الزبير عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قريبا من غروب الشمس فلم يصل المغرب حتى أتى سرف، وذلك تسعة أميال. وأما القول بالنسخ فليس بالبين وإن كان التاريخ معلوما؛ فإن الجمع ممكن. قال علماؤنا: تحمل أحاديث جبريل على الأفضلية في وقت المغرب، ولذلك اتفقت الأمة فيها على تعجيلها والمبادرة إليها في حين غروب الشمس. قال ابن خويز منداد: ولا نعلم أحدا من المسلمين تأخر بإقامة المغرب في مسجد جماعة عن وقت غروب الشمس. وأحاديث التوسعة تبين وقت الجواز، فيرتفع التعارض ويصح الجمع، وهو أولى من الترجيح باتفاق الأصوليين؛ لأن فيه إعمال كل واحد من الدليلين، والقول بالنسخ أو الترجيح فيه إسقاط أحدهما. والله اعلم.
قوله تعالى{وقرآن الفجر{ انتصب {قرآن{ من وجهين: أحدهما أن يكون معطوفا على الصلاة؛ المعنى: وأقم قرآن الفجر أي صلاة الصبح؛ قاله الفراء. وقال أهل البصرة. انتصب على الإغراء؛ أي فعليك بقرآن الفجر؛ قال الزجاج. وعبر عنها بالقرآن خاصة دون غيرها من الصلوات؛ لأن القرآن هو أعظمها، إذ قراءتها طويلة مجهور بها حسبما هو مشهور مسطور؛ عن الزجاج أيضا.
قلت: وقد استقر عمل المدينة على استحباب إطالة القراءة في الصبح قدرا لا يضر بمن خلفه - يقرأ فيها بطوال المفصل، ويليها في ذلك الظهر والجمعة - وتخفيف القراءة في المغرب وتوسطها في العصر والعشاء. وقد قيل في العصر: إنها تخفف كالمغرب. وأما ما ورد في صحيح مسلم وغيره من الإطالة فيما استقر فيه التقصير، أو من التقصير فيما استقرت فيه الإطالة؛ كقراءته في الفجر المعوذتين - كما رواه النسائي - وكقراءة الأعراف والمرسلات والطور في المغرب، فمتروك بالعمل. ولإنكاره على معاذ التطويل، حين أم قومه في العشاء فافتتح سورة البقرة. خرجه الصحيح. وبأمره الأئمة بالتخفيف فقال: (أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أمّ الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والمريض والسقيم والضعيف وذا الحاجة). وقال: (فإذا صلى أحدكم وحده فليطول ما شاء). كله مسطور في صحيح الحديث.
قوله تعالى{وقرآن الفجر{ دليل على أن لا صلاة إلا بقراءة؛ لأنه سمى الصلاة قرآنا. وقد اختلف العلماء في القراءة في الصلاة فذهب جمهورهم إلى وجوب قراءة أم القرآن للإمام والفذّ في كل ركعة. وهو مشهور قول مالك. وعنه أيضا أنها واجبة في جل الصلاة. وهو قول إسحاق. وعنه أيضا تجب في ركعة واحدة؛ قاله المغيرة وسحنون. وعنه أن القراءة لا تجب في شيء من الصلاة. وهو أشذ الروايات عنه. وحكي عن مالك أيضا أنها تجب في نصف الصلاة، وإليه ذهب الأوزاعي. وعن الأوزاعي أيضا وأيوب أنها تجب على الإمام والفذ والمأموم على كل حال. وهو أحد قولي الشافعي. وقد مضى في {الفاتحة{ مستوفى.
قوله تعالى{كان مشهودا{ روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله{وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا{ قال: (تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار) هذا حديث حسن صحيح. ورواه علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح ). يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا{. ولهذا المعنى أيضا قال مالك والشافعي: التغليس بالصبح أفضل. وقال أبو حنيفة: الأفضل الجمع بين التغليس والإسفار، فإن فاته ذلك فالإسفار أولى من التغليس. وهذا مخالف لما كان عليه السلام يفعله من المداومة على التغليس، وأيضا فإن فيه تفويت شهود ملائكة الليل. والله اعلم.
استدل بعض العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم: (تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار) على أن صلاة الصبح ليست من صلاة الليل ولا من صلاة النهار.
قلت: وعلى هذا فلا تكون صلاة العصر أيضا لا من صلاة الليل ولا من صلاة النهار؛ فإن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم الفصيح عليه السلام فيما رواه أبو هريرة: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر) الحديث. ومعلوم أن صلاة العصر من النهار فكذلك تكون صلاة الفجر من الليل وليس كذلك، وإنما هي من النهار كالعصر بدليل الصيام والإيمان، وهذا واضح.
الآية رقم ( 79 )
{ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}
قوله تعالى{ومن الليل فتهجد به{ {من{ للتبعيض. والفاء في قوله {فتهجد{ ناسقة على مضمر، أي قم فتهجد. {به{ أي بالقرآن. والتهجد من الهجود وهو من الأضداد. يقال: هجد نام، وهجد سهر؛ على الضد. قال الشاعر:
ألا زارت وأهل منى هجود وليت خيالها بمنى يعود
آخر:
ألا طرقتنا والرفاق هجود فباتت بعلات النوال تجود
يعني نياما. وهجد وتهجد بمعنى. وهجدته أي أنمته، وهجدته أي أيقظته. والتهجد التيقظ بعد رقدة، فصار اسما للصلاة؛ لأنه ينتبه لها. فالتهجد القيام إلى الصلاة من النوم. قال معناه الأسود وعلقمة وعبدالرحمن بن الأسود وغيرهم. وروى إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث الحجاج بن عمر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل كله أنه قد تهجد! إنما التهجد الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة. كذلك كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: الهجود النوم. يقال: تهجد الرجل إذا سهر، وألقى الهجود وهو النوم. ويسمى من قام إلى الصلاة متهجدا؛ لأن المتهجد هو الذي يلقى الهجود الذي هو النوم عن نفسه. وهذا الفعل جار مجرى تحوب وتحرج وتأثم وتحنث وتقذر وتنجس؛ إذا ألقى ذلك عن نفسه. ومثله قوله تعالى{فظلتم تفكهون{ معناه تندمون؛ أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم، وهي انبساط النفوس وسرورها. يقال: رجل فكه إذا كان كثير السرور والضحك. والمعنى في الآية: ووقتا من الليل اسهر به في صلاة وقراءة.
قوله تعالى{نافلة لك{ أي كرامة لك؛ قاله مقاتل. واختلف العلماء في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر دون أمته؛ فقيل: كانت صلاة الليل فريضة عليه لقوله{نافلة لك{ أي فريضة زائدة على الفريضة الموظفة على الأمة.
قلت: وفي هذا التأويل بعد لوجهين: أحدهما - تسمية الفرض بالنفل، وذلك مجاز لا حقيقة. الثاني - قوله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات فرضهن الله على العباد) وقوله تعالى: (هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي) وهذا نص، فكيف يقال افترض عليه صلاة زائدة على خمس، هذا ما لا يصح؛ وإن كان قد روى عنه عليه السلام:(ثلاث على فريضة ولأمتي تطوع قيام الليل والوتر والسواك). وقيل: كانت صلاة الليل تطوعا منه وكانت في الابتداء واجبة على الكل، ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة؛ كما قالت عائشة، على ما يأتي مبينا في سورة (2) إن شاء الله تعالى. وعلى هذا يكون الأمر بالتنفل على جهة الندب ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مغفور له. فهو إذا تطوع بما ليس بواجب عليه كان ذلك زيادة في الدرجات. وغيره من الأمة تطوعهم كفارات وتدارك لخلل يقع في الفرض؛ قال معناه مجاهد وغيره. وقيل: عطية؛ لأن العبد لا ينال من السعادة عطاء أفضل من التوفيق في العبادة.
قوله تعالى{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا{ اختلف في المقام المحمود على أربعة أقوال:
[الأول] وهو أصحها - الشفاعة للناس يوم القيامة؛ قاله حذيفة بن اليمان. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا كل أمة تتبع نبيها تقول: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود. وفي صحيح مسلم عن أنس قال حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون له اشفع لذريتك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم عليه السلام فإنه خليل الله فيأتون إبراهيم فيقول لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيؤتى موسى فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى عليه السلام فإنه روح الله وكلمته فيؤتى عيسى فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأوتي فأقول أنا لها...) وذكر الحديث. وروى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه في قوله{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا{ سئل عنها قال: (هي الشفاعة) قال: هذا حديث حسن صحيح.
إذا ثبت أن المقام المحمود هو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء عليهم السلام، حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع هذه الشفاعة لأهل الموقف ليعجل حسابهم ويراحوا من هول موقفهم، وهي الخاصة به صلى الله عليه وسلم؛ ولأجل ذلك قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر). قال النقاش: لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات: العامة، وشفاعة في السبق إلى الجنة، وشفاعة في أهل الكبائر. ابن عطية: والمشهور أنهما شفاعتان فقط: العامة، وشفاعة في إخراج المذنبين من النار. وهذه الشفاعة الثانية لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء. وقال القاضي أبو الفضل عياض: شفاعات نبينا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة خمس شفاعات: العامة. والثانية في إدخال قوم الجنة دون حساب. الثالثة في قوم من موحدي أمته استوجبوا النار بذنوبهم فيشفع فيها نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن شاء الله أن يشفع ويدخلون الجنة. وهذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعة: الخوارج والمعتزلة، فمنعتها على أصولهم الفاسدة، وهي الاستحقاق العقلي المبنى على التحسين والتقبيح. الرابعة فيمن دخل النار من المذنبين فيخرجون بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والملائكة وإخوانهم المؤمنين. الخامسة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وترفيعها، وهذه لا تنكرها المعتزلة ولا تنكر شفاعة الحشر الأول.
قال القاضي عياض: وعرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ورغبتهم فيها، وعلى هذا لا يلتفت لقول من قال: إنه يكره أن تسأل الله أن يرزقك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لا تكون إلا للمذنبين، فإنها قد تكون كما قدمنا لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات. ثم كل عاقل معترف بالتقصير محتاج إلى العفو غير معتد بعمله مشفق أن يكون من الهالكين، ويلزم هذا القائل ألا يدعو بالمغفرة والرحمة؛ لأنها لأصحاب الذنوب أيضا، وهذا كله خلاف ما عرف من دعاء السلف والخلف. روى البخاري عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة).
القول الثاني: أن المقام المحمود إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة.
قلت: وهذا القول لا تنافر بينه وبين الأول؛ فإنه يكون بيده لواء الحمد ويشفع روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي آدم فمن سواه إلا تحت لوائي...{ الحديث.
القول الثالث: ما حكاه الطبري عن فرقة، منها مجاهد، أنها قالت: المقام المحمود هو أن يجلس الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم معه على كرسيه؛ وروت في ذلك حديثا. وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول، وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى، وفيه بعد. ولا ينكر مع ذلك أن يروى، والعلم يتأوله. وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم، ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا، من أنكر جوازه على تأويله. قال أبو عمر: ومجاهد، وإن كان أحد الأئمة، يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم: أحدهما هذا والثاني في تأويل قوله تعالى{وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة}القيامة: 22] تنتظر الثواب؛ ليس من النظر.
قلت. ذكر هذا في باب ابن شهاب في حديث التنزيل. وروي عن مجاهد أيضا في هذه الآية قال: يجلسه على العرش. وهذا تأويل غير مستحيل؛ لأن الله تعالى كان قبل خلقه الأشياء كلها والعرش قائما بذاته، ثم خلق الأشياء من غير حاجة إليها، بل إظهارا لقدرته وحكمته، وليعرف وجوده وتوحيده وكمال قدرته وعلمه بكل أفعاله المحكمة، وخلق لنفسه عرشا استوى عليه كما شاء من غير أن صار له مماسا، أو كان العرش له مكانا. قيل: هو الآن على الصفة التي كان عليها من قبل أن يخلق المكان والزمان؛ فعلى هذا القول سواء في الجواز أقعد محمد على العرش أو على الأرض؛ لأن استواء الله تعالى على العرش ليس بمعنى الانتقال والزوال وتحويل الأحوال من القيام والقعود والحال التي تشغل العرش، بل هو مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه بلا كيف. وليس إقعاده محمدا على العرش موجبا له صفة الربوبية أو مخرجا له عن صفة العبودية، بل هو رفع لمحله وتشريف له على خلقه. وأما قوله في الإخبار: (معه) فهو بمنزلة قوله{إن الذين عند ربك{، و{رب ابن لي عندك بيتا في الجنة}التحريم: 11]. {وإن الله لمع المحسنين}العنكبوت: 69] ونحو ذلك. كل ذلك عائد إلى الرتبة والمنزلة والحظوة والدرجة الرفيعة، لا إلى المكان.
الرابع: إخراجه من النار بشفاعته من يخرج؛ قاله جابر بن عبدالله. ذكره مسلم. وقد ذكرناه في كتاب التذكرة والله الموفق.
اختلف العلماء في كون القيام بالليل سببا للمقام المحمود على قولين: أحدهما: أن البارئ تعالى يجعل ما شاء من فعله سببا لفضله من غير معرفه بوجه الحكمة فيه، أو بمعرفة وجه الحكمة. الثاني: أن قيام الليل فيه الخلوة مع البارئ والمناجاة دون الناس، فأعطى الخلوة به ومناجاته في قيامه وهو المقام المحمود. ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم، فأجلهم فيه درجة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يعطي ما لا يعطي أحد ويشفع ما لا يشفع أحد. و{عسى{ من الله عز وجل واجبة. و{مقاما{ نصب على الظرف. أي في مقام أو إلى مقام. وذكر الطبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي). فالمقام الموضع الذي يقوم فيه الإنسان للأمور الجليلة كالمقامات ببن يدي الملوك.
الآية رقم ( 80 )
{وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا}
قيل: المعنى أمتني إماتة صدق، وابعثني يوم القيامة مبعث صدق؛ ليتصل بقوله{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا{. كأنه لما وعده ذلك أمره أن يدعو لينجز له الوعد. وقيل: أدخلني في المأمور وأخرجني من المنهي. وقيل: علمه ما يدعو به في صلاته وغيرها من إخراجه من بين المشركين وإدخاله موضع الأمن؛ فأخرجه من مكة وصيره إلى المدينة. وهذا المعنى رواه الترمذي عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة فنزلت {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا{. وقال الضحاك: هو خروجه من مكة ودخوله مكة يوم الفتح آمنا. أبو سهل: حين رجع من تبوك وقد قال المنافقون{ليخرجن الأعز منها الأذل}المنافقون: 8] يعني إدخال عز وإخراج نصر إلى مكة. وقيل: المعنى أدخلني في الأمر الذي أكرمتني به من النبوة مدخل صدق وأخرجني منه مخرج صدق إذا أمتني؛ قال معناه مجاهد. والمدخل والمخرج (بضم الميم) بمعنى الإدخال والإخراج؛ كقوله{أنزلني منزلا مباركا}المؤمنون: 29] أي إنزالا لا أرى فيه ما أكره. وهي قراءة العامة. وقرأ الحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم {مدخل{ و{مخرج{. بفتح الميمين بمعنى الدخول والخروج؛ فالأول رباعي وهذا ثلاثي. وقال ابن عباس: أدخلني القبر مدخل صدق عند الموت وأخرجني مخرج صدق عند البعث. وقيل: أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق وأخرجني بالصدق؛ أي لا تجعلني ممن يدخل بوجه ويخرج بوجه؛ فإن ذا الوجهين لا يكون وجيها عندك. وقيل: الآية عامة في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال، وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة. فهي دعاء، ومعناه: رب اصلح لي وردي في كل الأمور وصدري. وقوله{واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا{ قال الشعبي وعكرمة: أي حجة ثابتة. وذهب الحسن إلى أنه العز والنصر وإظهار دينه على الدين كله. قال: فوعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرها فيجعله له.
الآية رقم ( 81 )
{وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}
روى البخاري والترمذي عن ابن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يطعنها بمخصرة في يده - وربما قال بعود - ويقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) لفظ الترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وكذا في حديث مسلم (نصبا). وفي رواية (صنما). قال علماؤنا: إنما كانت بهذا العدد لأنهم كانوا يعظمون في يوم صنما ويخصون أعظمها بيومين. وقوله: (فجعل يطعنها بعود في يده) يقال إنها كانت مثبتة بالرصاص وأنه كلما طعن منها صنما في وجهه خر لقفاه، أو في قفاه خر لوجهه. وكان يقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) حكاه أبو عمر والقاضي عياض. وقال القشيري: فما بقي منها صنم إلا خر لوجهه، ثم أمر بها فكسرت.
في هذه الآية دليل على كسر نصب المشركين وجميع الأوثان إذا غلب عليهم، ويخل بالمعنى كسر آلة الباطل كله، وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير التي لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله تعالى. قال ابن المنذر: وفي معنى الأصنام الصور المتخذة من المدر والخشب وشبهها، وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا اللهو المنهي عنه. ولا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص، إذا غيرت عما هي عليه وصارت نقرا أو قطعا فيجوز بيعها والشراء بها. قال المهلب: وما كسر من آلات الباطل وكان في حبسها بعد كسرها منفعة فصاحبها أولى بها مكسورة؛ إلا أن يرى الإمام حرقها بالنار على معنى التشديد والعقوبة في المال. وقد تقدم حرق ابن عمر رضي الله عنه. وقد هم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق دور من تخلف عن صلاة الجماعة. وهذا أصل في العقوبة في المال مع قوله عليه السلام في الناقة التي لعنتها صاحبتها: (دعوها فإنها ملعونة) فأزال ملكها عنها تأديبا لصاحبتها، وعقوبة لها فيما دعت عليه بما دعت به. وقد أراق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبنا شيب بماء على صاحبه.
ما ذكرنا من تفسير الآية ينظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (والله لينزلن عيسى بن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها...) الحديث. خرجه الصحيحان. ومن هذا الباب هتك النبي صلى الله عليه وسلم الستر الذي فيه الصور، وذلك أيضا دليل على إفساد الصور وآلات الملاهي كما ذكرنا. وهذا كله يحظر المنع من اتخاذها ويوجب التغيير على صاحبها. إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم؛ وحسبك! وسيأتي هذا المعنى في {النمل{ إن شاء الله تعالى. قوله تعالى{وقل جاء الحق{ أي الإسلام. وقيل: القرآن؛ قال مجاهد. وقيل: الجهاد. {وزهق الباطل{ قيل الشرك. وقيل الشيطان؛ قاله مجاهد. والصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة، فيكون التفسير جاء الشرع بجميع ما انطوى فيه. {وزهق الباطل{: بطل الباطل. ومن هذا زهوق النفس وهو بطلانها. يقال زهقت نفسه تزهق زهوقا، وأزهقتها. {إن الباطل كان زهوقا{ أي لا بقاء له والحق الذي يثبت.
الآية رقم ( 82 )
{وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا}
قوله تعالى{وننزل{ قرأ الجمهور بالنون. وقرأ مجاهد {وينزل{ بالياء خفيفة، ورواها المروزي عن حفص. و{من{ لابتداء الغاية، ويصح أن تكون لبيان الجنس؛ كأنه قال: وننزل ما فيه شفاء من القرآن. وفي الخبر (من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله). وأنكر بعض المتأولين أن تكون {من{ للتبعيض؛ لأنه يحفظ من أن يلزمه أن بعضه لا شفاء فيه. ابن عطية: وليس يلزمه هذا، بل يصح أن تكون للتبعيض بحسب أن إنزاله إنما هو مبعض، فكأنه قال: وننزل من القرآن شيئا شفاء؛ ما فيه كله شفاء. وقيل: شفاء في الفرائض والأحكام لما فيه من البيان.
اختلف العلماء في كونه شفاء على قولين: أحدهما: أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة الريب، ولكشف غطاء القلب من مرض الجهل لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى. الثاني: شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقي والتعوذ ونحوه. وقد روى الأئمة - واللفظ للدارقطني - عن أبي سعيد الخدري قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية ثلاثين راكبا قال: فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا؛ قال: فلدغ سيد الحي، فأتونا فقالوا: فيكم أحد يرقي من العقرب؟ في رواية ابن قتة: إن الملك يموت. قال: قلت أنا نعم، ولكن لا أفعل حتى تعطونا. فقالوا: فإنا نعطيكم ثلاثين شاة. قال: فقرأت عليه {الحمد لله رب العالمين{ سبع مرات فبرأ. في رواية سليمان بن قتة عن أبي سعيد: فأفاق وبرأ. فبعث إلينا بالنزل وبعث إلينا بالشاء، فأكلنا الطعام أنا وأصحابي وأبوا أن يأكلوا من الغنم، حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر فقال: (وما يدريك أنها رقية) قلت: يا رسول الله، شيء ألقي في روعي. قال: (كلوا وأطعمونا من الغنم) خرجه في كتاب السنن.
وخرج في (3) من حديث السري بن يحيى قال: حدثني المعتمر بن سليمان عن ليث بن أبي سليم عن الحسن عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينفع بإذن الله تعالى من البرص والجنون والجذام والبطن والسل والحمى والنفس أن تكتب بزعفران أو بمشق - يعني المغرة - أعوذ بكلمات الله التامة وأسمائه كلها عامة من شر السامة والغامة ومن شر العين اللامة ومن شر حاسد إذا حسد ومن أبي فروة وما ولد). كذا قال، ولم يقل من شر أبي قترة. العين اللامة: التي تصيب بسوء. تقول: أعيذه من كل هامة لامة. وأما قوله: أعيذه من حادثات اللمة فيقول: هو الدهر. ويقال الشدة. والسامة: الخاصة. يقال: كيف السامة والعامة. والسامة السم. ومن أبي فروة وما ولد. وقال: ثلاثة وثلاثون من الملائكة أتوا ربهم عز وجل فقالوا: وصب بأرضنا. فقال: خذوا تربة من أرضكم فامسحوا نواصيكم. أو قال: نوصيكم رقية محمد صلى الله عليه وسلم لا أفلح من كتمها أبدا أو أخذ عليها صفدا. ثم تكتب فاتحة الكتاب وأربع آيات من أول {البقرة{، والآية التي فيها تصريف الرياح وآية الكرسي والآيتين اللتين بعدها، وخواتيم سورة {البقرة{ من موضع {لله ما في السماوات وما في الأرض}البقرة: 284] إلى آخرها، وعشرا من أول {آل عمران{ وعشرا من آخرها، وأول آية من {النساء{، وأول آية من {المائدة{، وأول آية من {الأنعام{، وأول آية من {الأعراف{، والآية التي في {الأعراف{ {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض}الأعراف: 54] حتى تختم الآية؛ والآية التي في {يونس{ من موضع {قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين}يونس: 81]. والآية التي في {طه] {وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى}طه: 69]، وعشرا من أول [الصافات]، و{قل هو الله أحد}الإخلاص: 1]، والمعوذتين. تكتب في إناء نظيف ثم تغسل ثلاث مرات بماء نظيف ثم يحثو منه الوجع ثلاث حثوات ثم يتوضأ منه كوضوئه للصلاة ويتوضأ قبل وضوئه للصلاة حتى يكون على طهر قبل أن يتوضأ به ثم يصب على رأسه وصدره وظهره ولا يستنجي به ثم يصلي ركعتين ثم يستشفي الله عز وجل؛ يفعل ذلك ثلاثة أيام، قدر ما يكتب في كل يوم كتابا. في رواية: ومن شر أبي قترة وما ولد. وقال: (فامسحوا نواصيكم) ولم يشك. وروى البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها. فسألت الزهري كيف كان ينفث؟ قال: كان ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه. وروى مالك عن ابن شهاب عن عروه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى قرأ على نفسه المعوذتين وتفل أو نفث. قال أبو بكر بن الأنباري: قال اللغويون تفسير {نفث{ نفخ نفحا ليس معه ريق. ومعنى {تفل{ نفخ نفخا معه ريق. قال الشاعر:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه وإن يفقد فحق له الفقود
وقال ذو الرمة:
ومن جوف ماء عرمض الحول فوقه متى يحس منه مائح القوم يتفل
أراد ينفخ بريق. وسيأتي ما للعلماء في النفث في سورة الفلق إن شاء الله تعالى.
روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره الرقي إلا بالمعوذات. قال الطبري: وهذا حديث لا يجوز الاحتجاج بمثله في الدين؛ إذ في نقلته من لا يعرف. ولو كان صحيحا لكان إما غلطا وإما منسوخا؛ لقوله عليه السلام في الفاتحة (ما أدراك أنها رقية). وإذا جاز الرقي بالمعوذتين وهما سورتان من القرآن كانت الرقية بسائر القرآن مثلهما في الجواز إذ كله قرآن. وروي عنه عليه السلام أنه قال: (شفاء أمته في ثلاث آية من كتاب الله أو لعقة من عسل أو شرطة من محجم). وقال رجاء الغنوي: ومن لم يستشف بالقرآن فلا شفاء له.
واختلف العلماء في النشرة، وهي أن يكتب شيئا من أسماء الله أو من القرآن ثم يغسله بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقيه، فأجازها سعيد بن المسيب. قيل له: الرجل يؤخذ عن امرأته أيُحل عنه ويُنشر؟ قال: لا بأس به، وما ينفع لم ينه عنه. ولم ير مجاهد أن تكتب آيات من القران ثم تغسل ثم يسقاه صاحب الفزع. وكانت عائشة تقرأ بالمعوذتين في إناء ثم تأمر أن يصب على المريض. وقال المازري أبو عبدالله: النشرة أمر معروف عند أهل التعزيم؛ وسميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبها أي تحل. ومنعها الحسن وإبراهيم النخعي، قال النخعي: أخاف أن يصيبه بلاء؛ وكأنه ذهب إلى أنه ما يجيء به القرآن فهو إلى أن يعقب بلاء أقرب منه إلى أن يفيد شفاء. وقال الحسن: سألت أنسا فقال: ذكروا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها من الشيطان. وقد روى أبو داود من حديث جابر بن عبدالله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النشرة فقال: (من عمل الشيطان). قال ابن عبدالبر. وهذه آثار لينة ولها وجوه محتملة، وقد قيل: إن هذا محمول على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، وعى المداواة المعروفة. والنشرة من جنس الطب فهي غسالة شيء له فضل، فهي كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ومن استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل).
قلت: قد ذكرنا النص في النشرة مرفوعا وأن ذلك لا يكون إلا من كتاب الله فليعتمد عليه.
قال مالك: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله عز وجل على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بتعليقها مدافعة العين. وهذا معناه قبل أن ينزل به شيء من العين. وعلى هذا القول جماعة أهل العلم، لا يجوز عندهم أن يعلق على الصحيح من البهائم أو بني آدم شيء من العلائق خوف نزول العين، وكل ما يعلق بعد نزول البلاء من أسماء الله عز وجل وكتابه رجاء الفرج والبرء من الله تعالى، فهو كالرقى المباح الذي وردت السنة بإباحته من العين وغيرها. وقد روى عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا فزع أحدكم في نومه فليقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وسوء عقابه ومن شر الشياطين وأن يحضرون). وكان عبدالله يعلمها ولده من أدرك منهم، ومن لم يدرك كتبها وعلقها عليه. فإن قيل: فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من علق شيئا وكل إليه). ورأى ابن مسعود على أم ولده تميمة مربوطة فجبذها جبذا شديدا فقطعها وقال: إن آل ابن مسعود لأغنياء عن الشرك، ثم قال: إن التمائم والرقى والتولة من الشرك. قيل: ما التولة؟ قال: ما تحببت به لزوجها. وروي عن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من علق تميمة فلا أتم الله له ومن علق ودعة فلا ودع الله له قلبا). قال الخليل بن أحمد: التميمة قلادة فيها عوذ، والودعة خرز. وقال أبو عمر: التميمة في كلام العرب القلادة، ومعناه عند أهل العلم ما علق في الأعناق من القلائد خشية العين أو غيرها أن تنزل أو لا تنزل قبل أن تنزل. فلا أتم الله عليه صحته وعافيته، ومن تعلق ودعة - وهي مثلها في المعنى - فلا ودع الله له؛ أي فلا بارك الله له ما هو فيه من العافية. والله اعلم. وهذا كله تحذير مما كان أهل الجاهلية يصنعونه من تعليق التمائم والقلائد، ويظنون أنها تقيهم وتصرف عنهم البلاء، وذلك لا يصرفه إلا الله عز وجل، وهو المعافي والمبتلي، لا شريك له. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كانوا يصنعون من ذلك في جاهليتهم. وعن عائشة قالت: ما تعلق بعد نزول البلاء فليس من التمائم. وقد كره بعض أهل العلم تعليق التميمة على كل حال قبل نزول البلاء وبعده. والقول الأول أصح في الأثر والنظر إن شاء الله تعالى. وما روي عن ابن مسعود يجوز أن يريد بما كره تعليقه غير القرآن أشياء مأخوذة عن العراقيين والكهان؛ إذ الاستشفاء بالقرآن معلقا وغير معلق لا يكون شركا، وقوله عليه السلام: (من علق شيئا وكل إليه) فمن علق القرآن ينبغي أن يتولاه الله ولا يكله إلى غيره؛ لأنه تعالى هو المرغوب إليه والمتوكل عليه في الاستشفاء بالقرآن. وسئل ابن المسيب عن التعويذ أيعلق؟ قال: إذا كان في قصبة أو رقعة يحرز فلا بأس به. وهذا على أن المكتوب قرآن. وعن الضحاك أنه لم يكن يرى بأسا أن يعلق الرجل الشيء من كتاب الله إذا وضعه عند الجماع وعند الغائط. ورخص أبو جعفر محمد بن علي في التعويذ يعلق على الصبيان. وكان ابن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان.
قوله تعالى{ورحمة للمؤمنين{ تفريج الكروب وتطهير العيوب وتكفير الذنوب مع ما تفضل به تعالى من الثواب في تلاوته؛ كما روى الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف). قال هذا حديث حسن صحيح غريب. وقد تقدم. {ولا يزيد الظالمين إلا خسارا{ لتكذيبهم. قال قتادة: ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، ثم قرأ {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين{ الآية. ونظير هذه الآية قوله{قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليه عمى}فصلت: 44].
الآية رقم ( 83 )
{وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوسا}
قوله تعالى{وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه{ أي هؤلاء الذين يزيدهم القرآن خسارا صفتهم الإعراض عن تدبر آيات الله والكفران لنعمه. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة. ومعنى {نأى بجانبه{ أي تكبر وتباعد. وناء مقلوب منه؛ والمعنى: بعد عن القيام بحقوق الله عز وجل؛ يقال: نأى الشيء أي بعد. ونأيته ونأيت عنه بمعنى، أي بعدت. وأنأيته فانتأى؛ أي أبعدته فبعد. وتناؤوا تباعدوا. والمنتأى: الموضع البعيد. قال النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان {ناء{ مثل باع، الهمزة مؤخرة، وهو على طريقة القلب من نأى؛ كما يقال: راء ورأى. وقيل: هو من النوء وهو النهوض والقيام. وقد يقال أيضا للوقوع والجلوس نوء؛ وهو من الأضداد. وقرئ {ونئى{ بفتح النون وكسر الهمزة. والعامة {نأي{ في وزن رأى. {وإذا مسه الشر كان يؤوسا{ أي إذا ناله شدة من فقر أو سقم أو بؤس يئس وقنط؛ لأنه لا يثق بفضل الله تعالى.
{قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا}
قوله تعالى{قل كل يعمل على شاكلته{ قال ابن عباس: ناحيته. وقال الضحاك. مجاهد: طبيعته. وعنه: حدته. ابن زيد: على دينه. الحسن وقتادة: نيته. مقاتل: جبلته. الفراء: على طريقته ومذهبه الذي جبل عليه. وقيل. قل كل يعمل على ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب في اعتقاده. وقيل: هو مأخوذ من الشكل؛ يقال: لست على شكلي ولا شاكلتي. قال الشاعر:
كل امرئ يشبهه فعله ما يفعل المرء فهو أهله
فالشكل هو المثل والنظير والضرب. كقوله تعالى{وآخر من شكله أزواج}ص: 58]. الشكل (بكسر الشين): الهيئة. يقال: جارية حسنة الشكل. وهذه الأقوال كلها متقاربة. والمعنى: أن كل أحد يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه التي ألفها، وهذا ذم للكافر ومدح للمؤمن. والآية والتي قبلها نزلتا في الوليد بن المغيرة؛ ذكره المهدوي. {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا{ أي بالمؤمن والكافر وما سيحصل من كل واحد منهم. وقيل{أهدى سبيلا{ أي أسرع قبولا. وقيل: أحسن دينا. وحكي أن الصحابة رضوان الله عليهم تذاكروا القرآن فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر فيه آية أرجى وأحسن من قوله تعالى{بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم.. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول}غافر: 1] قدم غفران الذنوب على قبول التوبة، وفي هذا إشارة للمؤمنين. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: قرأت جميع القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى{نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم}الحجر: 49]. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}الزمر: 53].
قلت: وقرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}الأنعام: 82].
الآية رقم ( 85 )
{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}
روى البخاري ومسلم والترمذي عن عبدالله قال: بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متكئ على عسيب إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. فقال: ما رابكم إليه؟ وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه. فقالوا: سلوه. فسألوه عن الروح فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا؛ فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا{ لفظ البخاري. وفي مسلم: فأسكت النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه: وما أوتوا. وقد اختلف الناس في الروح المسؤول عنه، أي الروح هو؟ فقيل: هو جبريل؛ قاله قتادة. قال: وكان ابن عباس يكتمه. وقيل هو عيسى. وقيل القرآن، على ما يأتي بيانه في آخر الشورى. وقال علي بن أبي طالب: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف لسان، في كل لسان سبعون ألف لغة، يسبح الله تعالى بكل تلك اللغات، يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة. ذكره الطبري. قال ابن عطية: وما أظن القول يصح عن علي رضي الله عنه.
قلت: أسند البيهقي أخبرنا أبو زكريا عن أبي إسحاق أخبرنا أبو الحسن الطرائفي حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله{ويسألونك عن الروح{ يقول: الروح ملك. وبإسناده عن معاوية بن صالح حدثني أبو هران (1) يزيد بن سمرة عمن حدثه عن علي بن أبي طالب أنه قال في قوله تعالى{ويسألونك عن الروح{ فال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه... الحديث بلفظه ومعناه. وروى عطاء عن ابن عباس قال: الروح ملك له أحد عشر ألف جناح وألف وجه، يسبح الله إلى يوم القيامة؛ ذكره النحاس. وعنه: جند من جنود الله لهم أيد وأرجل يأكلون الطعام؛ ذكره الغزنوي. وقال الخطابي: وقال بعضهم، هو ملك من الملائكة بصفة وضعوها من عظم الخلقة. وذهب أكثر أهل التأويل إلى أنهم سألوه عن الروح الذي يكون به حياة الجسد. وقال أهل النظر منهم: إنما سألوه عن كيفية الروح ومسلكه في بدن الإنسان، وكيف امتزاجه بالجسم واتصال الحياة به، وهذا شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل. وقال أبو صالح: الروح خلق كخلق بني آدم وليسوا ببني آدم، لهم أيد وأرجل. والصحيح الإبهام لقوله{قل الروح من أمر ربي{ أي هو أمر عظيم وشأن كبير من أمر الله تعالى، مبهما له وتاركا تفصيله؛ ليعرف الإنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها. وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه هكذا كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى. وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له، دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز.
قوله تعالى{وما أوتيتم من العلم إلا قليلا{ اختلف فيمن خوطب بذلك؛ فقالت فرقة: السائلون فقط. وقال قوم: المراد اليهود بجملتهم. وعلى هذا هي قراءة ابن مسعود {وما أوتوا{ ورواها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة: المراد العالم كله. وهو الصحيح، وعليه قراءة الجمهور {وما أوتيتم{. وقد قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا؟ فعارضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم الله فغلبوا. وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في بعض الأحاديث: (كلا) يعني أن المراد {بما أوتيتم{ جميع العالم. وذلك أن يهود قالت له: نحن عنيت أم قومك. فقال: (كلا). وفي هذا المعنى نزلت {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام}لقمان: 27]. حكى ذلك الطبري رحمه الله وقد قيل: إن السائلين عن الروح هم قريش، قالت لهم اليهود: سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أخبركم عن اثنين وأمسك عن واحدة فهو نبي؛ فأخبرهم خبر أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين على ما يأتي. وقال في الروح{قل الروح من أمر ربي{ أي من الأمر الذي لا يعلمه إلا الله. ذكره المهدوي وغيره من المفسرين عن ابن عباس
الآية رقم ( 86 : 87 )
{ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا، إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا}
قوله تعالى{ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك{ يعني القرآن. أي كما قدرنا على إنزاله نقدر على إذهابه حتى ينساه الخلق. ويتصل هذا بقوله{وما أوتيتم من العلم إلا قليلا{ أي ولو شئت أن أذهب بذلك القليل لقدرت عليه. {ثم لا تجد لك به علينا وكيلا{ أي ناصرا يرده عليك. {إلا رحمة من ربك{ يعني لكن لا نشاء ذلك رحمة من ربك؛ فهو استثناء ليس من الأول. وقيل: إلا أن يرحمك ربك فلا يذهب به. {إن فضله كان عليك كبيرا{ إذ جعلك سيد ولد آدم. وأعطاك المقام المحمود وهذا الكتاب العزيز. وقال عبدالله بن مسعود: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، وأن هذا القرآن كأنه قد نزع منكم، تصبحون يوما وما معكم منه شيء. فقال رجل: كيف يكون ذلك يا أبا عبدالرحمن وقد ثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا، نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة! قال: يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحف وما في القلوب، فتصبح الناس كالبهائم. ثم قرأ عبدالله {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك{ الآية. أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة بمعناه قال: أخبرنا أبو الأحوص عن عبدالعزيز ابن رفيع عن شداد بن معقل قال: قال عبدالله - يعني ابن مسعود - : إن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن ينزع منكم. قال: قلت كيف ينزع منا وقد أثبته الله في قلوبنا وثبتناه في مصاحفنا! قال: يسرى عليه في ليلة واحدة فينزع ما في القلوب ويذهب ما في المصاحف ويصبح الناس منه فقراء. ثم قرأ {لئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك{ وهذا إسناد صحيح. وعن ابن عمر: لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل، له دوي كدوي النحل، فيقول الله ما بالك. فيقول: يا رب منك خرجت وإليك أعود، أتلى فلا يعمل بي، أتلى ولا يعمل بي..
قلت: قد جاء معنى هذا مرفوعا من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص وحذيفة. قال حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة فيسرى على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى منه في الأرض آية وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله. وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة). قال له صلة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله! وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؛ فأعرض عنه حذيفة؛ ثم رددها ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة. ثم أقبل عليه حذيفة فقال: يا صلة! تنجيهم من النار، ثلاثا. خرجه ابن ماجة في السنن. وقال عبدالله بن عمر: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوب الرأس من وجع فضحك، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أيها الناس ما هذه الكتب التي تكتبون أكتاب غير كتاب الله يوشك أن يغضب الله لكتابه فلا يدع ورقا ولا قلبا إلا أخذ منه) قالوا: يا رسول الله، فكيف بالمؤمنين والمؤمنات يومئذ؟ قال: (من أراد الله به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلا الله) ذكره الثعلبي والغزنوي وغيرهما في التفسير.
الآية رقم ( 88 )
{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}
أي عونا ونصيرا؛ مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر فيقيمونه. نزلت حين قال الكفار: لو نشاء لقلنا مثل هذا؛ فأكذبهم الله تعالى. وقد مضى القول في إعجاز القرآن في أول الكتاب والحمد لله. و{لا يأتون{ جواب القسم في {لئن{ وقد يجزم على إرادة الشرط. قال الشاعر:
لئن كان ما حدثته اليوم صادقا أقم في نهار القيظ للشمس باديا
الآية رقم ( 89 )
{ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا}
قوله تعالى{ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل{ أي وجهنا القول فيه بكل مثل يجب به الاعتبار؛ من الآيات والعبر والترغيب والترهيب، والأوامر والنواهي وأقاصيص الأولين، والجنة والنار والقيامة. {فأبى أكثر الناس إلا كفورا{ يريد أهل مكة، بين لهم الحق وفتح لهم وأمهلهم حتى تبين لهم أنه الحق، فأبوا إلا الكفر وقت تبين الحق. قال المهدوي: ولا حجة للقدري في قولهم: لا يقال أبى إلا لمن أبى فعل ما هو قادر عليه؛ لأن الكافر وإن كان غير قادر على الإيمان بحكم الله عليه بالإعراض عنه وطبعه على قلبه، فقد كان قادرا وقت الفسحة والمهلة على طلب الحق وتمييزه من الباطل.
الآية رقم ( 90 : 93 )
{وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا}
قوله تعالى{وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا{ الآية نزلت في رؤساء قريش مثل عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي سفيان والنضر بن الحارث، وأبي جهل وعبدالله بن أبي أمية، وأمية بن خلف وأبي البختري، والوليد بن المغيرة وغيرهم. وذلك أنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن ولم يرضوا به معجزة، اجتمعوا - فيما ذكر ابن إسحاق وغيره - بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فأتهم، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بدو، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم فقالوا له: يا محمد! إنا فد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك؛ لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، أو كما قالوا له. فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا - فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا وليخرق لنا فيها أنهارا كأنهار الشام، وليبعث لنا من مضى من آبائنا؛ وليكن فيمن يبعث لنا قصي بن كلاب؛ فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول، أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك من الله تعالى، وأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال لهم صلوات الله عليه وسلامه: (ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله تعالى بما بعثني به وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم). قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك! سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وأسأله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي؛ فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمس، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله: (ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت بهذا إليكم ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا - أو كما قال - فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم) قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل؛ فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذلك إلى الله عز وجل إن شاء أن يفعله بكم فعل) قالوا: يا محمد، فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألنا عنه ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك بما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به. إنه قد بلغنا إنما يعلمك هذا رجل من اليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عنهم وقام معه عبدالله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته، هو لعاتكة بنت عبدالمطلب، فقال له: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل - أو كما قال له - فوالله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها، ثم تأتي معك بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه، كله لفظ ابن إسحاق. وذكر الواحدي عن عكرمة عن ابن عباس: فأنزل الله تعالى {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا{. {ينبوعا{ يعني العيون؛ عن مجاهد. وهي يفعول، من نبع ينبع. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {تفجر لنا{ مخففة؛ واختاره أبو حاتم لأن الينبوع واحد. ولم يختلفوا في تفجر الأنهار أنه مشدد. قال أبو عبيد: والأولى مثلها. قال أبو حاتم. ليست مثلها، لأن الأولى بعدها ينبوع وهو واحد، والثانية بعدها الأنهار وهي جمع، والتشديد يدل على التكثير. أجيب بأن {ينبوعا{ وإن كان واحدا فالمراد به الجمع، كما قال مجاهد. الينبوع عين الماء، والجمع الينابيع. وقرأ قتادة {أو يكون لك جنة{. {خلالها{ أي وسطها. {أو تسقط السماء{ قراءة العامة. وقرأ مجاهد {أو يسقط السماء{ على إسناد الفعل إلى السماء. {كسفا{ قطعا، عن ابن عباس وغيره. والكسف (بفتح السين) جمع كسفة، وهي قراءة نافع وابن عامر وعاصم. الباقون {كسفا{ بإسكان السين. قال الأخفش: من قرأ كسْفا من السماء جعله واحدا، ومن قرأ كسَفا جعله جمعا. قال المهدوي: ومن أسكن السين جاز أن يكون جمع كسفة وجاز أن يكون مصدرا، من كسفت الشيء إذا غطيته. فكأنهم قالوا: أسقطها طبقا علينا. وقال الجوهري. الكسفة القطعة من الشيء؛ يقال: أعطني كسفة من ثوبك، والجمع كسف وكسف. ويقال: الكسفة واحد.
قوله تعالى{أو تأتي بالله والملائكة قبيلا{ أي معاينة؛ عن قتادة وابن جريج. وقال الضحاك وابن عباس: كفيلا. قال مقاتل: شهيدا. مجاهد: هو جمع القبيلة؛ أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة. وقيل: ضمناء يضمنون لنا إتيانك به. {أو يكون لك بيت من زخرف{ أي من ذهب؛ عن ابن عباس وغيره. وأصله الزينة. والمزخرف المزين. وزخارف الماء طرائقه. وقال مجاهد: كنت لا أدري ما الزخرف حتى رأيته في قراءة ابن مسعود {بيت من ذهب{ أي نحن لا ننقاد لك مع هذا الفقر الذي نرى. {أو ترقى في السماء{ أي تصعد؛ يقال: رقيت في السلم أرقى رقيا ورقيا إذا صعدت. وارتقيت مثله. {ولن نؤمن لرقيك{ أي من أجل رقيك، وهو مصدر؛ نحو مضى يمضي مضيا، وهوى يهوي هويا، كذلك رقي يرقي رقيا. {حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه{ أي كتابا من الله تعالى إلى كل رجل منا؛ كما قال تعالى{بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة}المدثر: 52]. {قل سبحان ربي{ وقرأ أهل مكة والشام {قال سبحان ربي{ يعني النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي قال ذلك تنزيها لله عز وجل عن أن يعجز عن شيء وعن أن يعترض عليه في فعل. وقيل: هذا كله تعجب عن فرط كفرهم واقتراحاتهم. الباقون {قل{ على الأمر؛ أي قل لهم يا محمد {هل كنت{ أي ما أنا {إلا بشرا رسولا{ اتبع ما يوحى إلي من ربي، ويفعل الله ما يشاء من هذه الأشياء التي ليست في قدرة البشر، فهل سمعتم أحدا من البشر أتى بهذه الآيات وقال بعض الملحدين: ليس هذا جوابا مقنعا، وغلطوا؛ لأنه أجابهم فقال: إنما أنا بشر لا أقدر على شيء مما سألتموني، وليس لي أن أتخير على ربي، ولم تكن الرسل قبلي يأتون أممهم بكل ما يريدونه ويبغونه، وسبيلي سبيلهم، وكانوا يقتصرون على ما آتاهم الله من آياته الدالة على صحة نبوتهم، فإذا أقاموا عليهم الحجة لم يجب لقومهم أن يقترحوا غيرها، ولو وجب على الله أن يأتيهم بكل ما يقترحونه من الآيات لوجب عليه أن يأتيهم بمن يختارونه من الرسل، ولوجب لكل إنسان أن يقول: لا أومن حتى أوتى بآية خلاف ما طلب غيري. وهذا يؤول إلى أن يكون التدبير إلى الناس. وإنما التدبير إلى الله تعالى
الآية رقم ( 94 )
{وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا}
قوله تعالى{وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى{ يعني الرسل والكتب من عند الله بالدعاء إليه. {إلا أن قالوا{ قالوا جهلا منهم. {أبعث الله بشرا رسولا{ أي الله أجل من أن يكون رسوله من البشر. فبين الله تعالى فرط عنادهم لأنهم قالوا: أنت مثلنا فلا يلزمنا الانقياد، وغفلوا عن المعجزة. {فأن{ الأولى في محل نصب بإسقاط حرف الخفض. و{أن{ الثانية في محل رفع {بمنع{ أي وما منع الناس من أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا قولهم أبعث الله بشرا رسولا.
الآية رقم ( 95 )
{قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا}
أعلم الله تعالى أن الملك إنما يرسل إلى الملائكة؛ لأنه لو أرسل ملكا إلى الآدميين لم يقدروا أن يروه على الهيئة التي خلق عليها، وإنما أقدر الأنبياء على ذلك وخلق فيهم ما يقدرون به، ليكون ذلك آية لهم ومعجزة. وقد تقدم في {الأنعام{ نظير هذه الآية؛ وهو قوله{وقالوا لولا أنزل علبه ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون. ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا}الأنعام: 9] وقد تقدم الكلام فيه
الآية رقم ( 96 )
{قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا}
يروى أن كفار قريش قالوا حين سمعوا قوله {هل كنت إلا بشرا رسولا{: فمن يشهد لك أنك رسول الله. فنزل {قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا{.
الآية رقم ( 97 )
{ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا}
قوله تعالى{ومن يهد الله فهو المهتدي{ أي لو هداهم الله لاهتدوا. {ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه{ أي لا يهديهم أحد. {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم{ فيه وجهان: أحدهما: أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم؛ من قول العرب: قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا. الثاني: أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه. وهذا هو الصحيح؛ لحديث أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، الذين يحشرون على وجوههم، أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أليس الذي أمشاه على الرجلين قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة): قال قتادة حين بلغه: بلى وعزة ربنا. أخرجه البخاري ومسلم. وحسبك. {عميا وبكما وصما{ قال ابن عباس والحسن: أي عمي عما يسرهم، بكم عن التكلم بحجة، صم عما ينفعهم؛ وعلى هذا القول حواسهم باقية على ما كانت عليه. وقيل: إنهم يحشرون على الصفة التي وصفهم الله بها؛ ليكون ذلك زيادة في عذابهم، ثم يخلق ذلك لهم في النار، فأبصروا؛ لقوله تعالي{ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها}الكهف: 53]، وتكلموا، لقوله تعالى{دعوا هنالك ثبورا}الفرقان: 13]، وسمعوا؛ لقوله تعالى{سمعوا لها تغيظا وزفيرا}الفرقان: 12]. وقال مقاتل بن سليمان: إذا قيل لهم {اخسؤوا فيها ولا تكلمون}المؤمنون: 108] صاروا عميا لا يبصرون صما لا يسمعون بكما لا يفقهون. وقيل: عموا حين دخلوا النار لشدة سوادها، وانقطع كلامهم حين قيل لهم: اخسؤوا فيها ولا تكلمون. وذهب الزفير والشهيق بسمعهم فلم يسمعوا شيئا. {مأواهم جهنم{ أي مستقرهم ومقامهم. {كلما خبت{ أي سكنت؛ عن الضحاك وغيره. مجاهد طفئت. يقال: خبت النار تخبو خبوا أي طفئت، وأخبيتها أنا. {زدناهم سعيرا{ أي نار تتلهب. وسكون التهابها من غير نقصان في آلامهم ولا تخفيف عنهم من عذابهم. وقيل: إذا أرادت أن تخبو. كقوله{وإذا قرأت القرآن}الإسراء: 45].
الآية رقم ( 98 : 99 )
{ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا، أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا}
قوله تعالى{ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا{ أي ذلك العذاب جزاء كفرهم. {وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا{ أي ترابا. {أئنا لمبعوثون خلقا جديدا{ فأنكروا البعث فأجابهم الله تعالى فقال{أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه{ قيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل لهم أجلا لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم. والأجل: مدة قيامهم في الدنيا ثم موتهم، وذلك ما لا شك فيه إذ هو مشاهد. وقيل: هو جواب قولهم{أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا}الإسراء: 92]. وقيل: وهو يوم القيامة. {فأبى الظالمون إلا كفورا{ أي أبى المشركون إلا جحودا بذلك الأجل وبآيات الله. وقيل: ذلك الأجل هو وقت البعث، ولا ينبغي أن يشك فيه.
الآية رقم ( 100 )
{قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا}
قوله تعالى{قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي{ أي خزائن الأرزاق. وقيل: خزائن النعم، وهذا أعم. {إذا لأمسكتم خشية الإنفاق{ من البخل، وهو جواب قولهم{لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا}الإسراء: 90] حتى نتوسع في المعيشة. أي لو توسعتم لبخلتم أيضا. وقيل: المعنى لو ملك أحد المخلوقين خزائن الله لما جاد بها كجود الله تعالى؛ لأمرين: أحدهما: أنه لا بد أن يمسك منها لنفقته وما يعود بمنفعته. الثاني: أنه يخاف الفقر ويخشى العدم. والله تعالى يتعالى في جوده عن هاتين الحالتين. والإنفاق في هذه الآية بمعنى الفقر؛ قاله ابن عباس وقتادة. وحكى أهل اللغة أنفق وأصرم وأعدم وأقتر إذا قل ماله. {وكان الإنسان قتورا{ أي بخيلا مضيقا. يقال: قتر على عياله يقتر ويقتر قترا وقتورا إذا ضيق عليهم في النفقة، وكذلك التقتير والإقتار، ثلاث لغات. واختلف في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها نزلت في المشركين خاصة؛ قاله الحسن. والثاني: أنها عامة، وهو قول الجمهور؛ وذكره الماوردي.
الآية رقم ( 101 )
ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا}
قوله تعالى{ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات{ اختلف في هذه الآيات؛ فقيل: هي بمعنى آيات الكتاب؛ كما روى الترمذي والنسائي عن صفوان بن عسال المرادي أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله؛ فقال: لا تقل له نبي فإنه إن سمعنا كان له أربعة أعين؛ فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن قول الله تعالى{ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات{ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف - شك شعبة - وعليكم يا معشر اليهود خاصة ألا تعدوا في السبت) فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي. قال: (فما يمنعكما أن تسلما) قالا: إن داود دعا الله ألا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقد مضى في {البقرة{. وقيل: الآيات بمعنى المعجزات والدلالات. قال ابن عباس والضحاك: الآيات التسع العصا واليد واللسان والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم؛ آيات مفصلات. وقال الحسن والشعبي: الخمس المذكورة في {الأعراف{؛ يعنيان الطوفان وما عطف عليه، واليد والعصا والسنين والنقص من الثمرات. وروي نحوه عن الحسن؛ إلا أنه يجعل السنين والنقص من الثمرات واحدة، وجعل التاسعة تلقف العصا ما يأفكون. وعن مالك كذلك؛ إلا أنه جعل مكان السنين والنقص من الثمرات؛ البحر والجبل. وقال محمد بن كعب: هي الخمس التي في {الأعراف{ والبحر والعصا والحجر والطمس على أموالهم. وقد تقدم شرح هذه الآيات مستوفى والحمد لله. {فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم{ أي سلهم يا محمد إذ جاءهم موسى بهذه الآيات، حسبما تقدم بيانه في {يونس{. وهذا سؤال استفهام ليعرف اليهود صحة ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم. {فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا{ أي ساحرا بغرائب أفعالك؛ قاله الفراء وأبو عبيدة. فوضع المفعول موضع الفاعل؛ كما تقول: هذا مشؤوم وميمون، أي شائم ويامن. وقيل مخدوعا. وقيل مغلوبا؛ قاله مقاتل. وقيل غير هذا؛ وقد تقدم. وعن ابن عباس وأبي نهيك أنهما قرآ {فسأل بني إسرائيل{ على الخبر؛ أي سأل موسى فرعون أن يخلي بني إسرائيل ويطلق سبيلهم ويرسلهم معه.
الآية رقم ( 102 )
{قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا}
قوله تعالى{قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء{ يعني الآيات التسع. و{أنزل{ بمعنى أوجد. {إلا رب السماوات والأرض بصائر{ أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته. وقراءة العامة {علمت{ بفتح التاء، خطابا لفرعون. وقرأ الكسائي بضم التاء، وهي قراءة علي رضي الله عنه؛ وقال: والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي يعلم، فبلغت ابن عباس فقال: إنها {لقد علمتَ{، واحتج بقوله تعالى{وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا}النمل: 14]. ونسب فرعون إلى العناد. وقال أبو عبيد: والمأخوذ به عندنا فتح التاء، وهو الأصح للمعنى الذي احتج به ابن عباس؛ ولأن موسى لا يحتج بقوله: علمت أنا، وهو الرسول الداعي، ولو كان مع هذا كله تصح به القراءة عن علي لكانت حجة، ولكن لا تثبت عنه، إنما هي عن كلثوم المرادي وهو مجهول لا يعرف، ولا نعلم أحدا قرأ بها غير الكسائي. وقيل: إنما أضاف موسى إلى فرعون العلم بهذه المعجزات؛ لأن فرعون قد علم مقدار ما يتهيأ للسحرة فعله، وأن مثل ما فعل موسى لا يتهيأ لساحر، وأنه لا يقدر على فعله إلا من يفعله، الأجسام ويملك السماوات والأرض. وقال مجاهد: دخل موسى على فرعون في يوم شات وعليه قطيفة له، فألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان، فرأى فرعون جانبي البيت بين فُقميها، ففزع وأحدث في قطيفته. {وإني لأظنك يا فرعون مثبورا{ الظن هنا بمعنى التحقيق. والثبور: الهلال والخسران أيضا. قال الكميت:
ورأت قضاعة في الأيا من رأي مثبور وثابر
أي مخسور وخاسر، يعني في انتسابها إلى اليمن. وقيل: ملعونا. رواه المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقال أبان بن تغلب. وأنشد:
يا قومنا لا تروموا حربنا سقها إن السفاه وإن البغي مثبور
أي ملعون. وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس{مثبورا{ ناقص العقل. ونظر المأمون رجلا فقال له: يا مثبور؛ فسأل عنه قال. قال الرشيد قال المنصور لرجل: مثبور؛ فسألته فقال: حدثني ميمون بن مهران... فذكره. وقال قتادة هالكا. وعنه أيضا والحسن ومجاهد. مهلكا. والثبور: الهلاك؛ يقال: ثبر الله العدو ثبورا أهلكه. وقيل: ممنوعا من الخير حكى أهل اللغة: ما ثبرك عن كذا أي ما منعك منه. وثبره الله ثبرا. قال ابن الزبعرى:
إذ أجاري الشيطان في سنن الغـ ـي ومن مال ميله مثبور
الضحاك{مثبورا{ مسحورا. رد عليه مثل ما قال له باختلاف اللفظ. وقال ابن زيد{مثبورا{ مخبولا لا عقل له.
الآية رقم ( 103 : 104 )
{فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا، وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا}
قوله تعالى{فأراد أن يستفزهم من الأرض{ أي أراد فرعون أن يخرج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر بالقتل أو الإبعاد؛ فأهلكه الله عز وجل. {وقلنا من بعده لبني إسرائيل{ أي من بعد إغراقه {اسكنوا الأرض{ أي أرض الشام ومصر. {فإذا جاء وعد الآخرة{ أي القيامة. {جئنا بكم لفيفا{ أي من قبوركم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن بالكافر لا يتعارفون ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيه. وقال ابن عباس وقتادة: جئنا بكم جميعا من جهات شتى. والمعنى واحد. قال الجوهري: واللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى؛ يقال: جاء القوم بلفهم ولفيفهم، أي وأخلاطهم. وقوله تعالى {جئنا بكم لفيفا{ أي مجتمعين مختلطين. وطعام لفيف إذا كان مخلوطا من جنسين فصاعدا. وفلان لفيف فلان أي صديقه. قال الأصمعي: اللفيف جمع وليس له واحد، وهو مثل الجميع. والمعنى: أنهم يخرجون وقت الحشر من القبور كالجراد المنتشر، مختلطين لا يتعارفون. وقال الكلبي{فإذا جاء وعد الآخرة{ يعني مجيء عيسى عليه السلام من السماء.
الآية رقم ( 105 )
{وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا}
قوله تعالى{وبالحق أنزلناه وبالحق نزل{ هذا متصل بما سبق من ذكر المعجزات والقرآن. والكناية ترجع إلى القرآن. ووجه التكرير في قوله {وبالحق نزل{ يجوز أن يكون معنى الأول: أوجبنا إنزاله بالحق. ومعنى الثاني: ونزل وفيه الحق؛ كقوله خرج بثيابه، أي وعليه ثيابه. وقيل الباء في {وبالحق{ الأول بمعنى مع، أي مع الحق؛ كقولك ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه. {وبالحق نزل{ أي بمحمد صلى الله عليه وسلم، أي نزل عليه، كما تقول نزلت بزيد. وقيل: يجوز أن يكون المعنى وبالحق قدرنا أن ينزل، وكذلك نزل.
الآية رقم ( 106 )
{وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا}
قوله تعالى{وقرآنا فرقناه{ مذهب سيبويه أن {قرآنا{ منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر. وقرأ جمهور الناس {فرقناه{ بتخفيف الراء، ومعناه بيناه وأوضحناه، وفرقنا فيه بين الحق والباطل؛ قاله الحسن. وقال ابن عباس: فصلناه. وقرأ ابن عباس وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة وأبو رجاء والشعبي {فرقناه{ بالتشديد، أي أنزلناه شيئا بعد شيء لا جملة واحدة؛ إلا أن في قراءة ابن مسعود وأبي {فرقناه عليك{.
واختلف في كم نزل القرآن من المدة؛ فقيل: في خمس وعشرين سنة. ابن عباس: في ثلاث وعشرين. أنس: في عشرين. وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف أنه نزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة. وقد مضى هذا في {البقرة{. {على مكث{ أي تطاول في المدة شيئا بعد شيء. ويتناسق هذا القرآن على قراءة ابن مسعود، أي أنزلناه آية آية وسورة سورة. وأما على القول الأول فيكون {على مكث{ أي على ترسل في التلاوة وترتيل؛ قاله مجاهد وابن عباس وابن جريج. فيعطي القارئ القراءة حقها من ترتيلها وتحسينها وتطييبها بالصوت الحسن ما أمكن من غير تلحين ولا تطريب مؤد إلى تغيير لفظ القرآن بزيادة أو نقصان فإن ذلك حرام على ما تقدم أول الكتاب. وأجمع القراء على ضم الميم من {مكث{ إلا ابن محيصن فإنه قرأ {مكث{ بفتح الميم. ويقال: مكث ومكت ومكث؛ ثلاث لغات. قال مالك{على مكث{ على تثبت وترسل. {ونزلناه تنزيلا{ مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم، أي أنزلناه نجما بعد نجم؛ ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا.
الآية رقم ( 107 )
{قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا}
قوله تعالى{قل آمنوا به أو لا تؤمنوا{ يعني القرآن. وهذا من الله عز وجل على وجه التبكيت لهم والتهديد لا على وجه التخيير. {إن الذين أوتوا العلم من قبله{ أي من قبل نزول القرآن وخروج النبي صلى الله عليه وسلم، وهم مؤمنو أهل الكتاب؛ في قول ابن جريج وغيره. قال ابن جريج: معنى {إذا يتلى عليهم{ كتابهم. وقيل القرآن. {يخرون للأذقان سجدا{ وقيل: هم قوم من ولد إسماعيل تمسكوا بدينهم إلى أن بعث الله تعالى النبي عليه السلام، منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل. وعلى هذا ليس يريد أوتوا الكتاب بل يريد أوتوا علم الدين. وقال الحسن: الذين أوتوا العلم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: إنهم ناس من اليهود؛ وهو أظهر لقوله {من قبله{. {إذا يتلى عليهم{ يعني القرآن في قول مجاهد. كانوا إذا سمعوا ما أنزل الله تعالى من القرآن سجدوا وقالوا{سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا{. وقيل: كانوا إذا تلوا كتابهم وما أنزل عليه من القرآن خشعوا وسجدوا وسبحوا، وقالوا: هذا هو المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة، وجنحوا إلى الإسلام؛ فنزلت الآية فيهم. وقالت فرقة: المراد بالذين أوتوا العلم من قبله محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في {قبله{ عائد على القرآن حسب الضمير في قوله {قل آمنوا به{. وقيل: الضميران لمحمد صلى الله عليه وسلم، واستأنف ذكر القرآن في قوله{إذا يتلى عليهم{.
الآية رقم ( 108 )
{ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا}
دليل على جواز التسبيح في السجود. وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في سجوده وركوعه (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي).
الآية رقم ( 109 )
{ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا}
قوله تعالى{ويخرون للأذقان يبكون{ هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم. وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه المرتبة، فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل. وفي مسند الدارمي أبي محمد عن التيمي قال: من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتي علما؛ لأن الله تعالى نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية. ذكره الطبري أيضا. والأذقان جمع ذقن، وهو مجتمع اللحيين. وقال الحسن: الأذقان عبارة عن اللحى؛ أي يضعونها على الأرض في حال السجود، وهو غاية التواضع. واللام بمعنى على؛ تقول سقط لفيه أي على فيه. وقال ابن عباس{ويخرون للأذقان سجدا{ أي للوجوه، وإنما خص الأذقان بالذكر لأن الذقن أقرب شيء من وجه الإنسان. قال ابن خويز منداد: ولا يجوز السجود على الذقن؛ لأن الذقن ها هنا عبارة عن الوجه، وقد يعبر بالشيء عما جاوره وببعضه عن جميعه؛ فيقال: خر لوجهه ساجدا وإن كان لم يسجد على خده ولا عينه. ألا ترى إلى قوله:
فخر صريعا لليدين وللفم
فإنما أراد: خر صريعا على وجهه ويديه.
قوله تعالى{يبكون{ فيه دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالي، أو على معصيته في دين الله، وأن ذلك لا يقطعها ولا يضرها. ذكر ابن المبارك عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن مطرف بن عبدالله بن الشخير عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وفي كتاب أبي داود: وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء.
واختلف الفقهاء في الأنين؛ فقال مالك: الأنين لا يقطع الصلاة للمريض، وأكرهه للصحيح؛ وبه قال الثوري. وروى ابن الحكم عن مالك: التنحنح والأنين والنفخ لا يقطع الصلاة. وقال ابن القاسم: يقطع. وقال الشافعي: إن كان له حروف تسمع وتفهم يقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة: إن كان من خوف الله لم يقطع، وإن كان من وجع قطع. وروي عن أبي يوسف أن صلاته في ذلك كله تامة؛ لأنه لا يخلو مريض ولا ضعيف من أنين. {ويزيدهم خشوعا{ تقدم.
الآية رقم ( 110 )
{قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}
قوله تعالى{قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى{ سبب نزول هذه الآية أن المشركين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا (يا الله يا رحمن) فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين؛ قاله ابن عباس. وقال مكحول: تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال في دعائه: (يا رحمن يا رحيم) فسمعه رجل من المشركين، وكان باليمامة رجل يسمى الرحمن، فقال ذلك السامع: ما بال محمد يدعو رحمان اليمامة. فنزلت الآية مبينة أنهما اسمان لمسمى واحد؛ فإن دعوتموه بالله فهو ذاك، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك. وقيل: كانوا يكتبون في صدر الكتب: باسمك اللهم؛ فنزلت {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم}النمل: 30] فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم {بسم الله الرحمن الرحيم{ فقال المشركون: هذا الرحيم نعرفه فما الرحمن؛ فنزلت الآية. وقيل: إن اليهود قالت: ما لنا لا نسمع في القرآن اسما هو في التوراة كثير؛ يعنون الرحمن؛ فنزلت الآية. وقرأ طلحة بن مصرف {أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى{ أي التي تقتضي أفضل الأوصاف وأشرف المعاني. وحسن الأسماء إنما يتوجه بتحسين الشرع؛ لإطلاقها والنص عليها. وانضاف إلى ذلك أنها تقتضي معاني حسانا شريفة، وهي بتوقيف لا يصح وضع اسم لله ينظر إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث أو الإجماع. حسبما بيناه في (2).
قوله تعالى{ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا{ اختلفوا في سبب نزولها على خمسة أقوال: الأول: ما روى ابن عباس في قوله تعالى{ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها{ قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به؛ فقال الله تعالى {ولا تجهر بصلاتك{ فيسمع المشركون قراءتك. {ولا تخافت بها{ عن أصحابك. أسمعهم القرآن ولا تجهر ذلك الجهر. {وابتغ بين ذلك سبيلا{ قال: يقول بين الجهر والمخافتة؛ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم. واللفظ لمسلم. والمخافتة: خفض الصوت والسكون؛ يقال للميت إذا برد: خفت. قال الشاعر:
لم يبق إلا نفس خافت ومقلة إنسانها باهت
رثى لها الشامت مما بها يا ويح من يرثى له الشامت
الثاني: ما رواه مسلم أيضا عن عائشة في قوله عز وجل{ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها{ قالت: أنزل هذا في الدعاء. الثالث: قال ابن سيرين: كان الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك.
قلت: وعلى هذا فتكون الآية متضمنة لإخفاء التشهد، وقد قال ابن مسعود: من السنة أن تخفي التشهد؛ ذكره ابن المنذر. الرابع: ما روي عن ابن سيرين أيضا أن أبا بكر رضي الله عنه كان يِسُر قراءته، وكان عمر يجهر بها، فقيل لهما في ذلك؛ فقال أبو بكر: إنما أناجي ربي، وهو يعلم حاجتي. إليه. وقال عمر: أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان؛ فلما نزلت هذه الآية قيل لأبي بكر: ارفع قليلا، وقيل لعمر اخفض أنت قليلا؛ ذكره الطبري وغيره. [الخامس] ما روي عن ابن عباس أيضا أن معناها ولا تجهر بصلاة النهار، ولا تخافت بصلاة الليل؛ ذكره يحيى بن سلام والزهراوي. فتضمنت أحكام الجهر والإسرار بالقراءة في النوافل والفرائض، فأما النوافل فالمصلي مخير في الجهر والسر في الليل والنهار، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل الأمرين جميعا. وأما الفرائض فحكمها في القراءة معلوم ليلا ونهارا. [وقول سادس] قال الحسن: يقول الله لا ترائي بصلاتك تحسنها في العلانية ولا تسيئها في السر. وقال ابن عباس: لا تصل مرائيا للناس ولا تدعها مخافة الناس.
عبر تعالى بالصلاة هنا عن القراءة كما عبر بالقراءة عن الصلاة في قوله{وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا}الإسراء: 78] لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر؛ لأن الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود فهي من جملة أجزائها؛ فعبر بالجزء عن الجملة وبالجملة عن الجزء على عادة العرب في المجاز وهو كثير؛ ومنه الحديث الصحيح: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي) أي قراءة الفاتحة على ما تقدم.
الآية رقم ( 111 )
{وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا}
قوله تعالى{وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا{ هذه الآية رادة على اليهود والنصارى والعرب في قولهم أفذاذا: عزيز وعيسى والملائكة ذرية الله سبحانه؛ تعالى الله عن أقوالهم. {ولم يكن له شريك في الملك{ لأنه واحد لا شريك له في ملكه ولا في عبادته. {ولم يكن له ولي من الذل{ قال مجاهد: المعنى لم يحالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد؛ أي لم يكن له ناصر يجيره من الذل فيكون مدافعا. وقال الكلبي: لم يكن له ولي من اليهود والنصارى؛ لأنهم أذل الناس، ردا لقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وقال الحسن بن الفضل{ولم يكن له ولي من الذل{ يعني لم يذل فيحتاج إلى ولي ولا ناصر لعزته وكبريائه. {وكبره تكبيرا{ أي عظمه عظمة تامة. ويقال: أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال: الله أكبر؛ أي صفة بأنه أكبر من كل شيء. قال الشاعر:
رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأكثرهم جنودا
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة قال: (الله أكبر) وقد تقدم أول الكتاب. وقال عمر بن الخطاب. قولُ العبدِ {الله أكبر{ خير من الدنيا وما فيها. وهذا الآية هي خاتمة التوراة. روى مطرف عن عبدالله بن كعب قال: افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام وختمت بخاتمة هذه السورة. وفي الخبر أنها آية العز؛ رواه معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبدالمطلب علمه {وقل الحمد لله الذي{ الآية. وقال عبدالحميد. بن واصل: سمعت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ وقل الحمد لله الآية كتب الله له من الأجر مثل الأرض والجبل لأن الله تعالى يقول فيمن زعم أن له ولدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا). وجاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجل شكا إليه الدين بأن يقرأ {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن}الإسراء: 110] - إلى آخر السورة ثم يقول: توكلت على الحي الذي لا يموت؛ ثلاث مرات.
تمت سورة الإسراء، والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
سورة الكهف وهي مكية في قول جميع المفسرين. روي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله {جرزا}الكهف: 8]، والأول أصح. وروي في فضلها من حديث أنس أنه قال: من قرأ بها أعطي نورا بين السماء والأرض ووقي بها فتنة القبر. وقال إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك ملأ عظمها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك). قالوا: بلى يا رسول الله؟ قال: (سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطي نورا يبلغ السماء ووقي فتنة الدجال) ذكره الثعلبي، والمهدوي أيضا بمعناه. وفي مسند الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال: من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق. وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال). وفي رواية (من آخر الكهف). وفي مسلم أيضا من حديث النواس بن سمعان (فمن أدركه - يعني الدجال - فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف). وذكره الثعلبي. قال: سمرة بن جندب قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضره فتنة الجال). ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة.
الآية رقم ( 1 : 3 )
{الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا، ماكثين فيه أبدا}
ذكر ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما: سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم أنبياء؛ فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم؛ فإنه قد كان لهم حديث عجب. سلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح، ما هي؛ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبي، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم. فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ قال فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبركم بما سألتم عنه غدا) ولم يستثن. فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه؛ وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف والروح. قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: (لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا{ فقال له جبريل{وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا}مريم: 64].
فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده، وذكر نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم لما أنكروا عليه من ذلك فقال{الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب{ يعني محمدا، إنك رسول مني، أي تحقيق لما سألوا عنه من نبوتك. {ولم يجعل له عوجا قيما{ أي معتدلا لا اختلاف فيه. {لينذر بأسا شديدا من لدنه{ أي عاجل عقوبته في الدنيا، وعذابا أليما في الآخرة، أي من عند ربك الذي بعثك رسولا. {ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات، أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا{ أي دار الخلد لا يموتون فيها، الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال. {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا}الكهف: 4] بعني قريشا في قولهم: إنا نعبد الملائكة وهي بنات الله. {ما لهم به من علم ولا لآبائهم}الكهف: 5] الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم. {كبرت كلمة تخرج من أفواههم}الكهف: 5] أي لقولهم إن الملائكة بنات الله. {إن يقولون إلا كذبا. فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}الكهف: 6] لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجوه منهم، أي لا تفعل. فال ابن هشام{باخع نفسك{ مهلك نفسك؛ فيما حدثني أبو عبيدة. قال ذو الرمة:
ألا أي هذا الباخع الوجد نفسه بشيء نحته عن يديه المقادر
وجمعها باخعون وبخعه. وهذا البيت في قصيدة له. وقول العرب: قد بخعت له نصحي ونفسي، أي جهدت له. {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا}الكهف: 7] قال ابن إسحاق: أي أيهم اتبع لأمري وأعمل بطاعتي{وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا}الكهف: 8] أي الأرض، وإن ما عليها لفان وزائل، وإن المرجع إلي فأجزي كلا بعمله؛ فلا تأس ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها. قال ابن هشام: الصعيد وجه الأرض، وجمعه صعد. قال ذو الرمة يصف ظبيا صغيرا:
كأنه بالضحى ترمي الصعيد به دبابة في عظام الرأس خرطوم
وهذا البيت في قصيدة له. والصعيد أيضا: الطريق، وقد جاء في الحديث: (إياكم والقعود على الصعدات) يريد الطرق. والجرز: الأرض التي لا تنبت شيئا، وجمعها أجراز. ويقال: سنة جرز وسنون أجراز؛ وهي التي لا يكون فيها مطر. وتكون فيها جدوبة ويبس وشدة. قال ذو الرمة يصف إبلا:
طوى النحز والأجراز ما في بطونها فما بقيت إلا الضلوع الجراشع
قال ابن إسحاق: ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال{أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا}الكهف: 9] أي قد كان من آياتي فيه وضعت على العباد من حجتي ما هو أعجب من ذلك. قال ابن هشام: والرقيم الكتاب الذي رقم بخبرهم، وجمعه رقم. قال العجاج:
ومستقر المصحف المرقم
وهذا البيت في أرجوزة له. قال ابن إسحاق: ثم قال {إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا. فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا. ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا}الكهف: 12]. ثم قال{نحن نقص عليك نبأهم بالحق}الكهف: 13] أي بصدق الخبر {إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى. وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا}الكهف: 14] أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم. قال ابن هشام: والشطط الغلو ومجاوزة الحق. قال أعشى بن قيس بن ثعلبة:
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وهذا البيت في قصيدة له. قال ابن إسحاق{هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين}الكهف: 15]. قال ابن إسحاق: أي بحجة بالغة. {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا. وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا. وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الحال وهم في فجوة منه}الكهف: 17]. قال ابن هشام: تزاور تميل؛ وهو من الزور. وقال أبو الزحف الكليبي يصف بلدا:
جدب المندي عن هوانا أزور ينضي المطايا خمسه العشنزر
وهذان البيتان في أرجوزة له. و{تقرضهم ذات الشمال{ تجاوزهم وتتركهم عن شمالها. قال ذو الرمة:
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف شمالا وعن أيمانهن الفوارس
وهذا البيت في قصيدة له. والفجوة: السعة، وجمعها الفجاء. قال الشاعر:
ألبست قومك مخزاة ومنقصة حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار
{ذلك من آيات الله{ أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم. {من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد}الكهف: ] قال ابن هشام: الوصيد الباب. قال العبسي واسمه عبد بن وهب:
بأرض فلاة لا يسد وصيلاها علي ومعروفي بها غير منكر
وهذا البيت في أبيات له. والوصيد أيضا الفناء، وجمعه وصائد ووصد وصدان. {لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا - إلى قوله - الذين غلبوا على أمرهم}الكهف: ] أهل السلطان والملك منهم. {لنتخذن عليهم مسجدا. سيقولون}الكهف:21] يعني أحبار اليهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم. {ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي اعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم}أي لا تكابرهم. {إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا}الكهف:22] فإنهم لا علم لهم بهم. {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا. إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا}الكهف:24] أي لا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا إني مخبركم غدا، واستثن مشيئة الله، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لخبر ما سألتموني عنه رشدا، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك. {ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا}الكهف: ] أي سيقولون ذلك. {قل الله اعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به واسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا}الكهف:26] أي لم يخف عليه شيء ما سألوك عنه.
قلت: هذا ما وقع في السيرة من خبر أصحاب الكهف ذكرناه على نسقه. ويأتي خبر ذي القرنين، ثم نعود إلى أول السورة فنقول:
قد تقدم معنى الحمد لله. وزعم الأخفش والكسائي والفراء وأبو عبيد وجمهور المتأولين أن في أول هذه السورة تقديما وتأخيرا، وأن المعنى: الحمد لله الزي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. و{قيما{ نصب على الحال. وقال قتادة: الكلام على سياقه من غير تقديم ولا تأخير، ومعناه: ولم يجعل له عوجا ولكن جعلناه قيما. وقول الضحاك فيه حسن، وأن المعنى: مستقيم، أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض. وقيل{قيما{ على الكتب السابقة يصدقها. وقيل{قيما{ بالحجج أبدا. {عوجا{ مفعول به؛ والعوج (بكسر العين) في الدين والرأي والأمر والطريق. وبفتحها في الأجسام كالخشب والجدار؛ وقد تقدم. وليس في القرآن عوج، أي عيب، أي ليس متناقضا مختلقا؛ كما قال تعالى{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}النساء:82] وقيل: أي لم يجعله مخلوقا؛ كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى {قرآنا عربيا غير ذي عوج}الزمر:28] قال: غير مخلوق. وقال مقاتل{عوجا{ اختلافا. قال الشاعر: أدوم بودي للصديق تكرما ولا خير فيمن كان في الود أعوجا
{لينذر بأسا شديدا{ أي لينذر محمد أو القرآن. وفيه إضمار، أي لينذر الكافرين عقاب الله. وهذا العذاب الشديد قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة. {من لدنه{ أي من عنده وقرأ أبو بكر عن عاصم {من لدنه{ بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون، والهاء موصولة بياء. والباقون {لدنه{ بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء. قال الجوهري: وفي {لدن{ ثلاث لغات: لدن، ولدي، ولد. وقال:
من لد لحييه إلى منحوره
المنحور لغة المنحر.
قوله تعالى{ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم{ أي بأن لهم {أجرا حسنا{ وهي الجنة. {ماكثين{ دائمين. {فيه أبدا{ لا إلى غاية. وإن حملت التبشير على البيان لم يحتج إلى الباء في {بأن{. والأجر الحسن: الثواب العظيم الذي يؤدي إلى الجنة.
الآية رقم ( 4 : 5 )
{وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا، ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا}
وهم اليهود، قالوا عزير ابن الله، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، وقريش قالت الملائكة بنات الله. فالإنذار في أول السورة عام، وهذا خاص فيمن قال لله ولد. {ما لهم به من علم{ {من{ صلة، أي ما لهم بذلك القول علم؛ لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل. {ولا لآبائهم{ أي أسلافهم. {كبرت كلمة{ {كلمة{ نصب على البيان؛ أي كبرت تلك الكلمة كلمة. وقرأ الحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق {كلمة{ بالرفع؛ أي عظمت كلمة؛ يعني قولهم اتخذ الله ولدا. وعلى هذه القراءة فلا حاجة إلى إضمار. يقال: كبر الشيء إذا عظم. وكبر الرجل إذا أسن. {تخرج من أفواههم{ في موضع الصفة. {إن يقولون إلا كذبا{ أي ما يقولون إلا كذبا.
الآية رقم ( 6 )
{فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}
قوله تعالى{فلعلك باخع نفسك على آثارهم{ {باخع{ أي مهلك وقاتل؛ وقد تقدم. {آثارهم{ جمع أثر، ويقال إثر. والمعنى: على أثر توليهم وإعراضهم عنك. {إن لم يؤمنوا بهذا الحديث{ أي القرآن. {أسفا{ أي حزنا وغضبا على كفرهم؛ وانتصب على التفسير.
الآية رقم ( 7 )
{إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا}
قوله تعالى{إنا جعلنا ما على الأرض زينة{ {ما{ و{زينة{ مفعولان. والزينة كل ما على وجه الأرض؛ فهو عموم لأنه دال على بارئه. وقال ابن جبير عن ابن عباس: أراد بالزينة الرجال؛ قال مجاهد. وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والأمراء. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى{إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها{ قال: العلماء زينة الأرض. وقالت فرقة: أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه، ونحو هذا مما فيه زينة؛ ولم يدخل فيه الجبال الصم وكل ما لا زينة فيه كالحيات والعقارب. والقول بالعموم أولى، وأن كل ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه. والآية بسط في التسلية؛ أي لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإنا إنما جعلنا ذلك امتحانا واختبارا لأهلها؛ فمنهم من يتدبر ويؤمن، ومنهم من يكفر، ثم يوم القيامة بين أيديهم؛ فلا يعظمن عليك كفرهم فإنا نجازيهم.
معنى هذه الآية ينظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا خضرة حلوة والله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون). وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا) قال: وما زهرة الدنيا؟ قال: (بركات الأرض) خرجهما مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدري. والمعنى: أن الدنيا مستطابة في ذوقها معجبة في منظرها كالثمر المستحلى المعجب المرأى؛ فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملا. أي من أزهد فيها وأترك لها؛ ولا سبيل للعباد إلى معصية ما زينة الله إلا (1) يعينه على ذلك. ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه. فدعا الله أن يعينه على إنفاقه في حقه. وهذا معنى قوله عليه السلام: (فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع). وهكذا هو المكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها بل همته جمعها؛ وذلك لعدم الفهم عن الله تعالى ورسوله؛ فإن الفتنة معها حاصلة وعدم السلامة غالبة، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه. وقال ابن عطية: كان أبي رضى الله عنه يقول في قوله {أحسن عملا{: أحسن العمل أخذ بحق وإنفاق في حق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه.
قلت: هذا قول حسن، وجيز في ألفاظه بليغ في معناه، وقد جمعه النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ واحد وهو قوله لسفيان بن عبدالله الثقفي لما قال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك - في رواية: غيرك. قال: (قل آمنت بالله ثم استقم) خرجه مسلم. وقال سفيان الثوري{أحسن عملا{ أزهدهم فيها. وكذلك قال أبو عصام العسقلاني{أحسن عملا{ أترك لها. وقد اختلفت عبارات العلماء في الزهد؛ فقال قوم: قصر الأمل وليس بأكل الخشن ولبس العباء؛ قاله سفيان الثوري. قال علماؤنا: وصدق رضي الله عنه لأن من قصر أمله لم يتأنق في المطعومات ولا يتفنن في الملبوسات، وأخذ من الدنيا ما تيسر، واجتزأ منها بما يبلغ. وقال قوم: بغض المحمدة وحب الثناء. وهو قول الأوزاعي ومن ذهب إليه. وقال قوم: ترك الدنيا كلها هو الزهد؛ أحب تركها أم كره. وهو قول فضيل. وعن بشر بن الحارث قال: حب الدنيا حب لقاء الناس، والزهد في الدنيا الزهد في لقاء الناس. وعن الفضيل أيضا: علامة الزهد في الدنيا الزهد في الناس. وقال قوم: لا يكون الزاهد زاهدا حتى يكون ترك الدنيا أحب إليه من أخذها؛ قال إبراهيم بن أدهم. وقال قوم: الزهد أن تزهد في الدنيا بقلبك؛ قاله ابن المبارك. وقالت فرقة: الزهد حب الموت. والقول الأول يعم هذه الأقوال بالمعنى فهو أولى.
الآية رقم ( 8 )
{وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا}
تقدم بيانه. وقال أبو سهل: ترابا لا نبات به؛ كأنه قطع نباته. والجرز: القطع؛ ومنه سنة جرز. قال الراجز:
قد جرفتهن النون الأجراز
والأرض الجرز التي لا نبات فيها ولا شيء من عمارة وغيرها؛ كأنه قطع وأزيل. يعني يوم القيامة؛ فإن الأرض تكون مستوية لا مستتر فيها. النحاس: والجرز في اللغة الأرض التي لا نبات بها. قال الكسائي: يقال جرزت الأرض تجرز، وجرزها القوم يجرزونها إذا أكلوا كل ما جاء فيا من النبات والزرع فهي مجروزة وجرز.
الآية رقم ( 9 )
{أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا}
مذهب سيبويه أن {أم{ إذا جاءت دون أن يتقدمها ألف استفهام أنها بمعنى بل وألف الاستفهام، وهي المنقطعة. وقيل{أم{ عطف على معنى الاستفهام في لعلك، أو بمعنى ألف الاستفهام على الإنكار. قال الطبري: وهو تقرير للنبي صلى الله عليه وسلم على حسابه أن أصحاب الكهف كانوا عجبا، بمعنى إنكار ذلك عليه؛ أي لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم وأشيع؛ هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن المشركين سألوه عن فتية فقدوا، وعن ذي القرنين وعن الروح، وأبطأ الوحي على ما تقدم. فلما نزل قال الله تعالى لنبيه عليه السلام: أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا؛ أي ليسوا بعجب من آياتنا، بل في آياتنا ما هو أعجب من خبرهم. الكلبي: خلق السماوات والأرض أعجب من خبرهم. الضحاك: ما أطلعتك عله من الغيب أعجب. الجنيد: شأنك في الإسراء أعجب. الماوردي: معنى الكلام النفي؛ أي ما حسبت لولا إخبارنا. أبو سهل: استفهام تقرير؛ أي أحسبت ذلك فإنهم عجب. والكهف: النقب المتسع في الجبل؛ وما لم يتسع فهو غار. وحكى النقاش عن أنس بن مالك أنه قال: الكهف الجبل؛ وهذا غير شهير في اللغة.
واختلف الناس في الرقيم؛ فقال ابن عباس: كل شيء في القرآن أعلمه إلا أربعة: غسلين وحنان والأواه والرقيم. وسئل مرة عن الرقيم فقال: زعم كعب أنها قرية خرجوا منها. وقال مجاهد: الرقيم واد. وقال السدي: الرقيم الصخرة التي كانت على الكهف. وقال ابن زيد: الرقيم كتاب غم الله علينا أمره، ولم يشرح لنا قصته. وقالت فرقة: الرقيم كتاب في لوح من نحاس. وقال ابن عباس: في لوح من رصاص كتب فيه القوم الكفار الذي فر الفتية منهم قصتهم وجعلوها تاريخا لهم، ذكروا وقت فقدهم، وكم كانوا، وبين من كانوا. وكذا قال القراء، قال: الرقيم لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم وأنسابهم ودينهم وممن هربوا. فال ابن عطية: ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قوما مؤرخين للحوادث، وذلك من نبل المملكة، وهو أمر مفيد. وهذه الأقوال مأخوذة من الرقم؛ ومنه كتاب مرقوم. ومنه الأرقم لتخطيطه. ومنه رقمة الوادي؛ أي مكان جري الماء وانعطافه. وما روي عن ابن عباس ليس بمتناقض؛ لأن القول الأول إنما سمعه من كعب. والقول الثاني يجوز أن يكون عرف الرقيم بعده. وروى عنه سعيد بن جبير قال: ذكر ابن عباس أصحاب الكهف فقال: إن الفتية فقدوا فطلبهم أهلوهم فلم يجدوهم فرفع ذلك إلى الملك فقال: ليكونن لهم نبأ، وأحضر لوحا من رصاص فكتب فيه أسماءهم وجعله في خزانته؛ فذلك اللوح هو الرقيم. وقيل: إن مؤمنين كانا في بيت الملك فكتبا شأن الفتية وأسماءهم وأنسابهم في لوح من رصاص ثم جعلاه في تابوت من نحاس وجعلاه في البنيان؛ فالله اعلم. وعن ابن عباس أيضا: الرقيم كتاب مرقوم كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام. وقال النقاش عن قتادة: الرقيم دراهمهم. وقال أنس بن مالك والشعبي: الرقيم كلبهم. وقال عكرمة: الرقيم الدواة. وقيل: الرقيم اللوح من الذهب تحت الجدار الذي أقامه الخضر. وقيل: الرقيم أصحاب الغار الذي انطبق عليهم؛ فذكر كل واحد منهم أصلح عمله.
قلت: وفي هذا خير معروف أخرجه الصحيحان، وإليه نحا البخاري. وقال قوم: أخبر الله عن أصحاب الكهف، ولم يخبر عن أصحاب الرقيم بشيء. وقال الضحاك: الرقيم بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفسا كأنهم نيام على هيئة أصحاب الكهف، فعلى هذا هم فتية آخرون جرى لهم ما جرى لأصحاب الكهف. والله اعلم. وقيل: الرقيم واد دون فلسطين فيه الكهف؛ مأخوذ من رقمة الوادي وهي موضع الماء؛ يقال: عليك بالرقمة ودع الضفة؛ ذكره الغزنوي. قال ابن عطية: وبالشام على ما سمعت به من ناس كثير كهف فيه موتى، يزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلب رمة. وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة، وأكثرهم قد تجرد لحمه وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم أثارة. ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف، دخلت إليهم ورأيهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة، وعليهم مسجد، وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم، كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه، وهو في فلاة من الأرض خربة، وبأعلى غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس، وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها.
قلت: ما ذكر من رؤيته لهم بالأندلس فإنما هم غيرهم، لأن الله تعالى يقول في حق أصحاب الكهف{لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا}الكهف: 18]. وقال ابن عباس لمعاوية لما أراد رؤيتهم: قد منع الله من هو خير منك عن ذلك؛ وسيأتي في آخر القصة. وقال مجاهد في قول {كانوا من آياتنا عجبا{ قال: هم عجب. كذا روى ابن جريج عنه؛ يذهب إلى أنه بإنكار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عنده أنهم عجب. وروى ابن نجيح عنه قال: يقول ليس بأعجب آياتنا.
الآية رقم ( 10 )
{إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا}
قوله تعالى{إذ أوى الفتية إلى الكهف{ روي أنهم قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر، ويقال فيه دقينوس. وروي أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى. وقيل: كانوا قبل عيسى، والله اعلم. وقال ابن عباس: إن ملكا من الملوك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس. وقيل هي طرسوس وكان بعد زمن عيسى عليه السلام فأمر بعبادة الأصنام فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام، وكان بها سبعة أحداث يعبدون سرا، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلا، ومروا براع معه كلب فتبعهم فآووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار، فوجد أثر دخولهم ولم يجد أثر خروجهم، فدخلوا فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئا؛ فقال الملك: سدوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعا وعطشا. وروى مجاهد عن ابن عباس أيضا أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين - حسبما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم - فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله؛ فرفع أمرهم إلى الملك وقيل لي: إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها، فاستحضرهم الملك إلى مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته، وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل؛ فقالوا له فيما روي{ربنا رب السماوات والأرض - إلى قوله - وإذا اعتزلتموهم}الكهف: 16] وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به، فقال لهم الملك: إنكم شبان أغمار لا عقول لكم، وأنا لا أعجل بكم بل استأني فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري، وضرب لهم في ذلك أجلا، ثم إنه خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم، فقال لهم أحدهم: إني أعرف كهفا في جبل كذا، وكان أبي يدخل فيه غنمه فلنذهب فلنختف فيه حتى يفتح الله لنا؛ فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم. وروي أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس، ثم أخذوا باللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك. وروى وهب بن منبه أن أول أمرهم إنما كان حواري لعيسى بن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها، فأجر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة. عظيمة، فألقى إليه بكل أمره، وعرف ذلك الرجل فتيان من المدينة فعرفهم الله تعالى فآمنوا به واتبعوه على دينه، واشتهرت خلطتهم به؛ فأتى يوما إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة بها، فنهاه ذلك الحواري فانتهى، ثم جاء مرة أخرى فنهاه فشتمه، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي، فدخل فماتا فيه جميعا؛ فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتلهما؛ ففروا جميعا حتى دخلوا الكهف. وقيل في خروجهم غير هذا.
وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لهم، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكلب معهم؛ قال ابن عباس. واسم الكلب حمران وقيل قطمير. وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية، والسند في معرفتها واه. والذي ذكره الطبري هي هذه: مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم، ومحسيميلنينا ويمليخا، وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس. قال مقاتل: وكان الكلب لمكسلمينا، وكان أسنهم وصاحب غنم.
هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم فارا بدينه، وكذلك أصحابه، وجلس في الغار حسبما تقدم في سورة {النحل{. وقد نص الله تعالى على ذلك في {براءة{ وقد تقدم. وهجروا أوطانهم وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين. فسكنى الجبال ودخول الغيران، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الأنبياء صلوات الله عليهم والأولياء. وقد فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم العزلة، وفضلها جماعة العلماء لا سيما عند ظهور الفتن وفساد الناس، وقد نص الله تعالى عليها في كتابه فقال{فأووا إلى الكهف{.
وقال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب، ومرة في السواحل والرباط، ومرة في البيوت؛ وقد جاء في الخبر: (إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك). ولم يخص موضعا من موضع. وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك، إن كنت بين أظهرهم. وقال ابن المبارك في تفسير العزلة: أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت. وروى البغوي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم). وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعم صوامع المؤمنين بيوتهم) من مراسل الحسن وغيره. وقال عقبة بن عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما النجاة يا رسول الله؟ فقال: (يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك). وقال صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن). خرجه البخاري. وذكر علي بن سعد عن الحسن بن واقد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد حلت لأمتي العزبة والعزلة والترهب في رؤوس الجبال). وذكر أيضا علي بن سعد عن عبدالله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله فإذا كان ذلك حلت العزبة). قالوا: يا رسول الله، كيف تحل العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج؟ قال: (إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران). قالوا وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: (يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها).
قلت: أحوال الناس في هذا الباب تختلف، فرب رجل تكون له قوة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال، وهي أرفع الأحوال لأنها الحالة التي اختارها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في بداية أمره، ونص عليها في كتابه مخبرا عن الفتية، فقال{وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف}الكهف: 16]. ورب رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل؛ وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم. ورب رجل متوسط بينهما فيكون له من القوة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذاهم، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن. وذكر ابن المبارك حدثنا وهيب بن الورد قال: جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: إن الناس وقعوا فيما وقعوا وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم. فقال: لا تفعل إنه لا بد لك من الناس، ولا بد لهم منك، ولك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصم سميعا، أعمى بصيرا، سكوتا نطوقا. وقد قيل: إن كل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشعاب؛ مثل الاعتكاف في المساجد، ولزوم السواحل للرباط والذكر، ولزوم البيوت فرارا عن شرور الناس. وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم - والله اعلم - لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها؛ فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معناه، كما ذكرنا، والله الموفق وبه العصمة. وروى عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول الله عز وجل انظروا إلى عبدي يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة). خرجه النسائي.
قوله تعالى{فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة{ لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجؤوا إلى الله تعالى فقالوا{ربنا آتنا من لدنك رحمة{ أي مغفرة ورزقا. {وهيئ لنا من أمرنا رشدا{ توفيقا للرشاد. وقال ابن عباس: مخرجا من الغار في سلامة. وقيل صوابا. ومن هذا المعنى أنه عليه السلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
الآية رقم ( 11 )
{فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا}
عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم. وهذه من فصيحات القرآن التي أقرت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله. قال الزجاج: أي منعناهم عن أن يسمعوا؛ لأن النائم إذا سمع انتبه. وقال ابن عباس: ضربنا على آذانهم بالنوم؛ أي سددنا آذانهم عن نفوذ الأصوات إليها. وقيل: المعنى {فضربنا على آذانهم{ أي فاستجبنا دعاءهم، وصرفنا عنهم شر قومهم، وأنمناهم. والمعنى كله متقارب. وقال قطرب: هذا كقول العرب ضرب الأمير على يد الرعية إذا منعهم الفساد، وضرب السيد على يد عبده المأذون له في التجارة إذا منعه من التصرف. قال الأسود بن يعفر وكان ضريرا:
ومن الحوادث لا أبالك أنني ضربت علي الأرض بالأسداد
وأما تخصيص الأذان بالذكر فلأنها الجارحة التي منها عظم فساد النوم، وقلما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه، ولا يستحكم نوم إلا من تعطل السمع. ومن ذكر الأذن في النوم قوله صلى الله عليه وسلم: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنه) خرجه الصحيح. أشار عليه السلام إلى رجل طويل النوم، لا يقوم الليل. و{عددا{ نعت للسنين؛ أي معدودة، والقصد به العبارة عن التكثير؛ لأن القليل لا يحتاج إلى عدد لأنه قد عرف. والعد المصدر، والعدد اسم المعدود كالنفض والخبط. وقال أبو عبيدة{عددا{ نصب على المصدر. ثم قال قوم: بين الله تعالى عدد تلك السنين من بعد فقال{ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا}الكهف: 25].
الآية رقم ( 12 )
{ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا}
قوله تعالى{ثم بعثناهم{ أي من بعد نومهم. ويقال لمن أحيي أو أقيم من نومه مبعوث؛ لأنه كان ممنوعا من الانبعاث والتصرف. {لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا{ {لنعلم{ عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود ومشاهدته؛ وهذا على نحو كلام العرب، أي نعلم ذلك موجودا، إلا فقد كان الله تعالى علم أي الحزبين أحصى الأمد. وقرأ الزهري {ليعلم{ بالياء. والحزبان الفريقان، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية إذ ظنوا لبثهم قليلا. والحزب الثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية. وهذا قول الجمهور من المفسرين. وقالت فرقة: هما حزبان من الكافرين، اختلفا في مدة أصحاب الكهف. وقيل: هما حزبان من المؤمنين. وقيل غير ذلك مما لا يرتبط بألفاظ الآية. و{أحصى{ فعل ماض. و{أمدا{ نصب على المفعول به؛ قاله أبو علي. وقال الفراء: نصب على التمييز. وقال الزجاج: نصب على الظرف، أي أي الحزبين أحصى للبثهم في الأمد، والأمد الغاية. وقال مجاهد{أمدا{ نصب معناه عددا، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب. وقال الطبري{أمدا{ منصوب بـ {لبثوا{. ابن عطية: وهذا غير متجه، وأما من قال إنه نصب على التفسير فيلحقه من الاختلال أن أفعل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ، و{أحصى{ فعل رباعي. وقد يحتج له بأن يقال: إن أفعل في الرباعي قد كثر؛ كقولك: ما أعطاه للمال وآتاه للخير. وقال في صفة حوضه صلى الله عليه وسلم: (ماؤه أبيض من اللبن). وقال عمر بن الخطاب: فهو لما سواها أضيع.
قوله تعالى{نحن نقص عليك نبأهم بالحق{ لما اقتضى قوله تعالى {لنعلم أي الحزبين أحصى{ اختلافا وقع في أمد الفتية، عقب بالخبر عن أنه عز وجل يعلم من أمرهم بالحق الذي وقع. {إنهم فتية{ أي شباب وأحداث حكم لهم بالفتوة حين آمنوا بلا واسطة؛ كذلك قال أهل اللسان: رأس الفتوة الإيمان. وقال الجنيد: الفتوة بذل الندى وكف الأذى وترك الشكوى. وقيل: الفتوة اجتناب المحارم واستعجال المكارم. وقيل غير هذا. وهذا القول حسن جدا؛ لأنه يعم بالمعنى جميع ما قيل في الفتوة. {وزدناهم هدى{ أي يسرناهم للعمل الصالح؛ من الانقطاع إلى الله تعالى، ومباعدة الناس، والزهد في الدنيا. وهذه زيادة على الإيمان. وقال السدي: زادهم هدى بكلب الراعي حين طردوه ورجموه مخافة أن ينبح عليهم وينبه بهم؛ فرفع الكلب يديه إلى السماء كالداعي فأنطقه الله، فقال: يا قوم لم تطردونني، لم ترجمونني لم تضربونني فوالله لقد عرفت الله قبل أن تعرفوه بأربعين سنة؛ فزادهم الله بذلك هدى.
الآية رقم ( 14 )
{وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا}
قوله تعالى{وربطنا على قلوبهم{ عبارة عن شدة عزم وقوة صبر، أعطاها الله لهم حتى قالوا بين يدي الكفار{ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا{. ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط؛ ومنه يقال: فلان رابط الجأش، إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها. ومنه الربط على قلب أم موسى. وقوله تعالى{وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام}الأنفال: 11] وقد تقدم.
قوله تعالى{إذ قاموا فقالوا{ يحتمل ثلاثة معان: أحدها: أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر - كما تقدم، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه، ورفضوا في ذات الله هيبته. والمعنى الثاني فيما قيل: إنهم أولاد عظماء تلك المدينة، فخرجوا واجتمعوا وراء تلك المدينة من غير ميعاد؛ فقال أسنهم: إني أجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض؛ فقالوا ونحن كذلك نجد في أنفسنا. فقاموا جميعا فقالوا{ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا{. أي لئن دعونا إلها غيره فقد قلنا إذا جورا ومحالا. والمعنى الثالث: أن يعبر بالقيام، عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله تعالى ومنابذة الناس؛ كما تقول: قام فلان إلى أمر كذا إذا عزم عليه بغاية الجد. قال ابن عطية: تعلقت الصوفية في القيام والقول بقول {إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض{.
قلت: وهذا تعلق غير صحيح هؤلاء قاموا فذكروا الله على هدايته، وشكروا لما أولاهم من نعمه ونعمته، ثم هاموا على وجوههم منقطعين إلى ربهم خائفين من قومهم؛ وهذه سنة الله في الرسل والأنبياء والفضلاء الأولياء. أين هذا من ضرب الأرض بالأقدام والرقص بالأكمام وخاصة في هذه الأزمان عند سماع الأصوات الحسان من المرد والنسوان؛ هيهات بينهما والله ما بين الأرض والسماء. ثم هذا حرام عند جماعة العلماء، على ما يأتي بيانه في سورة لقمان إن شاء الله تعالى. وقد تقدم في {سبحان{ عند قوله{ولا تمش في الأرض مرحا}الإسراء: 37] ما فيه كفاية. وقال الإمام أبو بكر الطرسوسي وسئل عن مذهب الصوفية فقال: وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري؛ لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون؛ فهو دين الكفار وعباد العجل، على ما يأتي.
الآية رقم ( 15 )
{هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا}
قوله تعالى{هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة{ أي قال بعضهم لبعض: هؤلاء قومنا أي أهل عصرنا وبلدنا، عبدوا الأصنام تقليدا من غير حجة. {لولا{ أي هلا. {يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا{ أي بحجة على عبادتهم الصنم. وقيل{عليهم{ راجع إلى الآلهة؛ أي هلا أقاموا بينة على الأصنام في كونها آلهة؛ فقولهم {لولا{ تحضيض بمعنى التعجيز؛ وإذا لم يمكنهم ذلك لم يجب أن يلتفت إلى دعواهم.
الآية رقم ( 16 )
{وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا}
قوله تعالى{وإذ اعتزلتموهم{ قيل: هو من قول الله لهم. أي وإذ اعتزلتموهم فاؤوا إلى الكهف. وقيل: هو من قول رئيسهم يمليخا؛ فيما ذكر ابن عطية. وقال الغزنوي: رئيسهم مكسلمينا، قال لهم ذلك؛ أي إذ اعتزلتموهم واعتزلتم ما يعبدون. ثم استثنى وقال {إلا الله{ أي إنكم لم تتركوا عبادته؛ فهو استثناء منقطع. قال ابن عطية: وهذا على تقدير إن الذين فر أهل الكهف منهم لا يعرفون الله، ولا علم لهم به؛ وإنما يعتقدون الأصنام في ألوهيتهم فقط. وإن فرضنا أنهم يعرفون الله كما كانت العرب تفعل لكنهم يشركون أصنامهم معه في العبادة فالاستثناء متصل؛ لأن الاعتزال وقع في كل ما يعبد الكفار إلا في جهة الله. وفي مصحف عبدالله بن مسعود {وما يعبدون من دون الله{. قال قتادة هذا تفسيرها.
قلت: ويدل على هذا ما ذكره أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني في قوله تعالى {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله{ قال: كان فتية من قوم يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله.
ابن عطية: فعلى ما قال قتادة تكون {إلا{ بمنزلة غير، و{ما{ من قوله {وما يعبدون إلا الله{ قي موضع نصب، عطفا على الضمير في قول {اعتزلتموهم{. ومضمن هذه الآية أن بعضهم قال لبعض: إذا فارقنا الكفار وانفردنا بالله تعالى فلنجعل الكهف مأوى ونتكل على الله؛ فإنه سيبسط لنا رحمته، وينشرها علينا، ويهيئ لنا من أمرنا مرفقا. وهذا كله دعاء بحسب الدنيا، وعلى ثقة كانوا من الله في أمر آخرتهم. وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه: كان أصحاب الكهف صياقلة، واسم الكهف حيوم. {مرفقا{ قرئ بكسر الميم وفتحها، وهو ما يرتفق به وكذلك مرفق الإنسان ومرفقه؛ ومنهم من يجعل {المرفق{ بفتح الميم الموضع كالمسجد وهما لغتان.
الآية رقم ( 17 )
{وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا}
قوله تعالى{وترى الشمس إذا طلعت تتزاور عن كهفهم ذات اليمين{ أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم. والمعنى: إنك لو رأيتهم لرأيتهم كذا؛ لا أن المخاطب رآهم على التحقيق. و{تزاور{ تتنحى وتميل؛ من الازورار. والزور الميل. والأزور في العين المائل النظر إلى ناحية، ويستعمل في غير العين؛ كما قال ابن أبي ربيعة:
وجنبي خيفة القوم أزور
ومن اللفظة قول عنترة:
فازور من وقع القنا بلبانه
وفي حديث غزوة مؤتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في سرير عبدالله بن رواحة ازورارا عن سرير جعفر وزيد بن حارثة. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو {تزاور{ بإدغام التاء في الزاي، والأصل {تتزاور{. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {تزاور{ مخففة الزاي. وقرأ ابن عامر {تزور{ مثل تحمر. وحكى الفراء {تزوار{ مثل تحمار؛ كلها بمعنى واحد. {وإذا غربت تقرضهم{ قرأ الجمهور بالتاء على معنى تتركهم؛ قاله مجاهد. وقال قتادة: تدعهم. النحاس: وهذا معروف في اللغة، حكى البصريون أنه يقال: قرضه يقرضه إذا تركه؛ والمعنى: أنهم كانوا لا تصيبهم شمس البتة كرامة لهم؛ وهو قول ابن عباس. يعني أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين، أي يمين الكهف، وإذا غربت تمر بهم ذات الشمال، أي شمال الكهف، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار. وكان كهفهم مستقبل بنات نعش في أرض الروم، فكانت الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة وجارية لا تبلغهم لتؤذيهم بحرها، وتغير ألوانهم وتبلي ثيابهم. وقد قيل: إنه كان لكهفهم حاجب من جهة الجنوب، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاويته. وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله، دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك. وقرأت فرقة {بقرضهم{ بالياء من القرض وهو القطع، أي يقطعهم الكهف بظله من ضوء الشمس. وقيل{وإذا غربت تقرضهم{ أي يصيبهم يسير منها، مأخوذ من قارضة الذهب والفضة، أي تعطيهم الشمس اليسير من شعاعها. وقالوا: كان في مسها لهم بالعشي إصلاح لأجسادهم. وعلى الجملة فالآية في ذلك أن الله تعالى آواهم إلى كهف هذه صفته لا إلى كهف آخر يتأذون فيه بانبساط الشمس علبهم في معظم النهار. وعلى هذا فيمكن أن يكون صرف الشمس عنهم بإظلال غمام أو سبب آخر. والمقصود بيان حفظهم عن تطرق البلاء وتغير الأبدان والألوان إليهم، والتأذي بحر أو برد. {وهم في فجوة منه{ أي من الكهف والفجوة المتسع، وجمعها فجوات وفجاء؛ مثل ركوة وركاء وركوات وقال الشاعر:
ونحن ملأنا كل واد وفجوة رجالا وخيلا غير ميل ولا عزل
أي كانوا بحيث يصيبهم نسيم الهواء. {ذلك من آيات الله{ لطف بهم. {من يهد الله فهو المهتدي{ أي لو هداهم الله لاهتدوا. {ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا{ أي لا يهديهم أحد.
الآية رقم ( 18 )
{وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا}
قوله تعالى{وتحسبهم أيقاظا{ وقال أهل التفسير: كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون؛ فكذلك كان الرائي يحسبهم أيقاظا. وقيل: تحسبهم أيقاظا لكثرة تقلبهم كالمستيقظ في مضجعه. و{أيقاظا{ جمع يقظ ويقظان، وهو المنتبه. {وهم رقود{ كقولهم: وهم قوم ركوع وسجود وقعود فوصف الجمع بالمصدر. {ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال{ قال ابن عباس: لئلا تأكل الأرض لحومهم. قال أبو هريرة: كان لهم في كل عام تقليبتان. وقيل: في كل سنة مرة. وقال مجاهد: في كل سبع سنين مرة. وقالت فرقة: إنما قلبوا في التسع الأواخر، وأما في الثلاثمائة فلا. وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان من فعل الله، ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله، فيضاف إلى الله تعالى.
قوله تعالى{وكلبهم{ قال عمرو بن دينار: إن مما أخذ على العقرب ألا تضر أحدا (2) في ليله أو في نهاره: صلى الله على نوح. وإن مما أخذ على الكلب ألا يضر من حمل عليه (3): وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد.
أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه أو غنمه؛ على ما قال مقاتل. واختلف في لونه اختلافا كثيرا، ذكره الثعلبي. تحصيله: أي لون ذكرت أصبت؛ حتى قيل لون الحجر وقيل لون السماء. واختلف أيضا في اسمه؛ فعن علي: ريان. ابن عباس: قطمير. الأوزاعي: مشير. عبدالله بن سلام: بسيط. كعب: صهيا. وهب: نقيا. وقيل قطمير؛ ذكره الثعلبي. وكان اقتناء الكلب جائزا في وقتهم، كما هو عندنا اليوم جائز في شرعنا. وقال ابن عباس: هربوا ليلا، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فاتبعهم على دينهم. وقال كعب: مروا بكلب فنبح لهم فطردوه فعاد فطردوه مرارا، فقام الكلب على رجليه ورفع يديه إلى السماء كهيئة الداعي، فنطق فقال: لا تخافوا مني أنا أحب أحباء الله تعالى فناموا حتى أحرسكم.
ورد في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان). وروى الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انقص من أجره كل يوم قيراط). قال الزهري: وذكر لابن عمر قول أبي هريرة فقال: يرحم الله أبا هريرة كان صاحب زرع. فقد دلت السنة الثابتة على اقتناء الكلب للصيد والزرع والماشية. وجعل النقص في أجر من اقتناها على غير ذلك من المنفعة؛ إما لترويع الكلب المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه، أو لمنع دخول الملائكة البيت، أو لنجاسته، على ما يراه الشافعي، أو لاقتحام النهي عن اتخاذ ما لا منفعة فيه؛ والله اعلم. وقال في إحدى الروايتين (قيراطان) وفي الأخرى (قيراط). وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر، كالأسود الذي أمر عليه السلام بقتله، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها كما هو منصوص في حديث جابر؛ أخرجه الصحيح. وقال: (عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان). ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع، فيكون ممسكه بالمدينة مثلا أو بمكة ينقص قيراطان وبغيرها قيراط. وأما المباح اتخاذه فلا ينقص؛ كالفرس والهرة. والله اعلم.
وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها، لا الذي يحفظها في الدار من السراق. وكلب الزرع هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار لا من السراق. وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع. وقد تقدم في {المائدة{ من أحكام الكلاب ما فيه كفاية، والحمد لله.
الرابعة: قال ابن عطية: وحدثني أبي رضي الله عنه قال سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة: إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم؛ كلب أحب أهل فضل وصحبهم في ذكره الله في محكم تنزيله.
قلت: إذ كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله تعالى بذلك في كتابه جل وعلا فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين المحبين للأولياء والصالحين بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال، المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم وآله خير آل. روى الصحيح عن أنس بن مالك قال: بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أعددت لها) قال: ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال: (فأنت مع من أحببت). في رواية قال أنس بن مالك: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأنت مع من أحببت). قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم.
قلت: وهذا الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين كل ذي نفس، فكذلك تعلقت أطماعنا بذلك وإن كنا مقصرين، ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين؛ كلب أحب قوما فذكره الله معهم فكيف بنا وعندنا عقد الإيمان وكلمة الإسلام، وحب النبي صلى الله عليه وسلم، {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}الإسراء: 7].
وقالت فرقة: لم يكن كلبا حقيقة، وإنما كان أحدهم، وكان قد قعد عند باب الغار طليعة لهم كما سمي النجم التابع للجوزاء كلبا؛ لأنه منها كالكلب من الإنسان؛ ويقال له: كلب الجبار. قال ابن عطية: فسمي باسم الحيوان اللازم لذلك الموضع أما إن هذا القول يضعفه ذكر بسط الذراعين فإنها في العرف من صفة الكلب حقيقة؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب). وقد حكى أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت أنه قرئ {وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد{. فيحتمل أن يريد بالكالب هذا الرجل على ما روي؛ إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الريبة المستخفي بنفسه. ويحتمل أن يريد بالكالب الكلب. وقرأ جعفر بن محمد الصادق {كالبهم{ يعني صاحب الكلب.
قوله تعالى{باسط ذراعيه{ أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي؛ لأنها حكاية حال ولم يفصد الإخبار عن فعل الكلب. والذرع من طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى. ثم قيل: بسط ذراعيه لطول المدة. وقيل: نام الكلب، وكان ذلك من الآيات. وقيل: نام مفتوح العين. {بالوصيد{ الوصيد: القناء؛ قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير، أي فناء الكهف، والجمع وصائد ووصد. وقيل الباب. وقال ابن عباس أيضا. وأنشد:
بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر
وقد تقدم. وقال عطاء: عتبة الباب، والباب الموصد هو المغلق. وقد أوصدت الباب وآصدته أي أغلقته. والوصيد: النبات المتقارب الأصول، فهو مشترك، والله اعلم.
قوله تعالى{لو اطلعت عليهم{ قرأ الجمهور بكسر الواو. والأعمش ويحيى بن وثاب بضمها. {لوليت منهم فرارا{ أي لو أشرفت عليهم لهربت منهم. {ولملئت منهم رعبا{ أي لما حفهم الله تعالى من الرعب واكتنفهم من الهيبة. وقيل: لوحشة مكانهم؛ وكأنهم آواهم الله إلى هذا المكان الوحش في الظاهر لينقر الناس عنهم. وقيل: كان الناس محجوبين عنهم بالرعب، لا يجسر أحد منهم على الدنو إليهم. وقيل: الفرار منهم لطول شعورهم وأظفارهم؛ وذكره المهدوي والنحاس والزجاج والقشيري. وهذا بعيد؛ لأنهم لما استيقظوا قال بعضهم لبعض: لبثنا يوما أو بعض يوم. ودل هذا على أن شعورهم وأظفارهم كانت بحالها؛ إلا أن يقال: إنما قالوا ذلك قبل أن ينظروا إلى أظفارهم وشعورهم. قال ابن عطية: والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية، فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم. وقرأ نافع وابن كثير وابن عباس وأهل مكة والمدينة {لملئت منهم{ بتشديد اللام على تضعيف المبالغة؛ أي ملئت ثم ملئت. وقرأ الباقون {لملئت{ بالتخفيف، والتخفيف أشهر في اللغة. وقد جاء التثقيل في قول المخبَّل السعدي:
وإذ فتك النعمان بالناس محرما فملِّىء من كعب بن عوف سلاسله
وقرأ الجمهور {رعبا{ بإسكان العين. وقرأ بضمها أبو جعفر. قال أبو حاتم: هما لغتان. و{فرارا{ نصب على الحال و{رعبا{ مفعول ثان أو تمييز.
الآية رقم ( 19 )
{وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا}
قوله تعالى{وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم{ البعث: التحريك عن سكون. والمعنى: كما ضربنا على آذانهم وزدناهم هدى وقلبناهم بعثناهم أيضا؛ أي أيقظناهم من نومهم على ما كانوا عليهم من هيئتهم في ثيابهم وأحوالهم. قال الشاعر:
وفتيان صدق قد بعثت بسحرة فقاموا جميعا بين عاث ونشوان
أي أيقظت واللام في قوله {ليتساءلوا{ لام الصيرورة وهي لام العاقبة؛ كقوله {ليكون لهم عدوا وحزنا}القصص: 8] فبعثهم لم سكن لأجل تساؤلهم. {قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم{ وذلك أنهم دخلوه غدوة وبعثهم الله في آخر النهار؛ فقال رئيسهم يمليخا أو مكسلمينا: الله اعلم بالمدة.
قوله تعالى{فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة{ قال ابن عباس: كانت ورقهم كأخفاف الربع؛ ذكره النحاس. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم {بورقكم{ بكسر الراء. وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم {بورقكم{ بسكون الراء، حذفوا الكسرة لثقلها، وهما لغتان. وقرأ الزجاج {بورقكم{ بكسر الواو وسكون الراء. ويروى أنهم انتبهوا جياعا، وأن المبعوث هو يمليخا، كان أصغرهم؛ فيما ذكر الغزنوي. والمدينة: أفسوس ويقال هي طرسوس، وكان اسمها في الجاهلية أفسوس؛ فلما جاء الإسلام سموها طرسوس. وقال ابن عباس: كان معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم.
قوله تعالى{فلينظر أيها أزكى طعاما{ قال ابن عباس: أحل ذبيحة؛ لأن أهل بلدهم كانوا يذبحون على اسم الصنم، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم. ابن عباس: كان عامتهم مجوسا. وقيل {أزكى طعاما{ أي أكثر بركة. قيل: إنهم أمروه أن يشتري ما يظن أنه طعام اثنين أو ثلاثة لئلا يطلع عليهم، ثم إذا طبخ كفى جماعة؛ ولهذا قيل ذلك الطعام الأرز. وقيل: كان زبيبا. وقيل تمرا؛ فالله اعلم. وقيل{أزكى{ أطيب. وقيل أرخص.
قوله تعالى{فليأتكم برزق منه{ أي بقوت. {وليتلطف{ أي في دخول المدينة وشراء الطعام. {ولا يشعرن بكم أحدا{ أي لا يخبرن. وقيل: إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما وقع فيه.
في هذه البعثة بالورق دليل على الوكالة وصحتها. وقد وكل علي بن أبي طالب أخاه عقيلا عند عثمان رضي الله عنه؛ ولا خلاف فيها في الجملة. والوكالة معروفه في الجاهلية والإسلام؛ ألا ترى إلى عبدالرحمن بن عوف كيف وكل أمية بن خلف بأهله وحاشيته بمكة؛ أي يحفظهم، وأمية مشرك، والتزم عبدالرحمن لأمية من حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاة لصنعه. روى البخاري عن عبدالرحمن بن عوف قال: كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة؛ فلما ذكرت الرحمن؛ قال: لا أعرف الرحمن كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته عبد عمرو... وذكر الحديث. قال الأصمعي: صاغية الرجل الذين يميلون إليه ويأتونه؛ وهو مأخوذ من صغا يصغو ويصغى إذا مال، وكل مائل إلى الشيء أو معه فقد صغا إليه وأصغى؛ من كتاب الأفعال.
الوكالة عقد نيابة، أذن الله سبحانه فيه للحاجة إليه وقيام المصلحة في ذلك، إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره أو يترفه فيستنيب من يريحه.
وقد استدل علماؤنا على صحتها بآيات من الكتاب، منها هذه الآية، وقوله تعالى{والعاملين عليها}التوبة: 60] وقوله {اذهبوا بقميصي في آخر الأنعام. روى جبر بن عبدالله قال أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إني أردت الخروج إلى خيبر؛ فقال: (إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته) خرجه أبو داود. والأحاديث كثيرة في هذه المعنى، وفي إجماع الأمة على جوازها كفاية.
الوكالة جائزة في كل حق تجوز النيابة فيه، فلو وكل الغاصب لم يجز، وكان هو الوكيل؛ لأن كل محرم فعله لا تجوز النيابة فيه.
في هذه الآية نكتة بديعة، وهي أن الوكالة إنما كانت مع التقية خوف أن يشعر بعم أحد لما كانوا عليه من الخوف على أنفسهم. وجواز توكيل ذوي العذر متفق عليه؛ فأما من لا عذر له فالجمهور على جوازها. وقال أبو حنيفة وسحنون: لا تجوز. قال ابن العربي: وكأن سحنون تلقفه من أسد بن الفرات فحكم به أيام قضائه، ولعله كان يفعل ذلك بأهل الظلم والجبروت؛ إنصافا منهم وإذلالا لهم، وهو الحق؛ فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل.
قلت: هذا حسن؛ فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين أصحاء. والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح ما خرجه الصحيحان وغيرهما عن أبي هريرة قال: كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال: (أعطوه) فطلبوا له سنة فلم يجدوا إلا سنا فوقها؛ فقال: (أعطوه) فقال: أوفيتني أوفى الله لك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن خيركم أحسنكم قضاء). لفظ البخاري. فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي كانت عليه؛ وذلك توكيد منه لهم على ذلك، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مريضا ولا مسافرا. وهذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما: أنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح البدن إلا برضا خصمه؛ وهذا الحديث خلاف قولهما.
قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية جواز الشركة لأن الورق كان لجميعهم وتضمنت جواز الوكالة لأنهم بعثوا من وكلوه بالشراء. وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معا، وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر؛ ومثله قوله تعالى{وإن تخالطوهم فإخوانكم}البقرة: 220] حسبما تقدم بيانه في {البقرة{. ولهذا قال أصحابنا في المسكين يتصدق عليه فيخلطه بطعام لغني ثم يأكل معه: إن ذلك جائز. وقد قالوا في المضارب يخلط طعامه بطعام غيره ثم يأكل معه: إن ذلك جائز. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من اشترى له أضحية. قال ابن العربي: ليس في الآية دليل على ذلك؛ لأنه يحتمل أن يكون كل واحد منهم قد أعطاه منفردا فلا يكون فيه اشتراك. ولا معول في هذه المسألة إلا على حديثين: أحدهما: أن ابن عمر مر بقوم يأكلون تمرا فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاقتران إلا أن يستأذن الرجل أخاه. الثاني: حديث أبي عبيدة في جيش الخبط. وهذا دون الأول في الظهور؛ لأنه يحتمل أن يكون أبو عبيدة يعطيهم كفافا من ذلك القوت ولا يجمعهم عليه.
قلت: ومما يدل على خلاف هذا من الكتاب قوله تعالى{وإن تخالطوهم فإخوانكم}البقرة: 220] وقوله {ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا}النور: 61] على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
الآية رقم ( 20 )
{إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا}
قال الزجاج: معناه بالحجارة، وهو أخبث القتل. وقيل: يرموكم بالسب والشتم؛ والأول أصح، لأنه كان عازما على قتلهم كما تقدم في قصصهم. والرجم فيما سلف هي كانت على ما ذكر قبله (4) مخالفة دين الناس إذ هي أشفى لجملة أهل ذلك الدين من حيث إنهم يشتركون فيها.
الآية رقم ( 21 )
{وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا}
قوله تعالى{وكذلك أعثرنا عليهم{ أي أطلعنا عليهم وأظهرناهم. و{أعثر{ تعدية عثر بالهمزة، وأصل العثار في القدم. {ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم{ {يتنازعون{ يعني الأمة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم. وذلك أن دقيانوس مات ومضت قرون وملك أهل تلك الدار رجل صالح، فاختلف أهل بلده في الحشر وبعث الأجساد من القبور، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه وقالوا: إنما تحشر الأرواح والجسد تأكله الأرض. وقال بعضهم: تبعث الروح والجسد جميعا؛ فكبر ذلك على الملك وبقي حيران لا يدري كيف يتبين أمره لهم، حتى لبس المسوح وقعد على الرماد وتضرع إلى الله تعالى في حجة وبيان، فأعثر الله على أهل الكهف؛ فيقال: إنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها استنكر شخصه واستنكرت دراهمه لبعد العهد، فحمل إلى الملك وكان صالحا قد آمن من معه، فلما نظر إليه قال: لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك، فقد كنت أدعو الله أن يرينيهم، وسأل الفتى فأخبره؛ فسر الملك بذلك وقال: لعل الله قد بعث لكن آية، فلنسر إلى الكهف معه، فركب مع أهل المدينة إليهم، فلما دنوا إلى الكهف قال تمليحا: أنا أدخل عليهم لئلا يرعبوا فدخل عليهم فأعلمهم الأمر وأن الأمة أمة إسلام، فروي أنهم سروا بذلك وخرجوا إلى الملك وعظموه وعظمهم ثم رجعوا إلى كهفهم. وأكثر الروايات على انهم ماتوا حين حدثهم تمليخا ميتة الحق، على ما يأتي. ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين. فهذا معنى {أعثرنا عليهم{. {ليعلموا أن وعد الله حق{ أي ليعلم الملك ورعيته أن القيامة حق والبعث حق {إذ يتنازعون بينهم أمرهم{. وإنما استدلوا بذلك الواحد على خبرهم وهابوا الدخول عليهم فقال الملك: ابنوا عليهم بنيانا؛ فقال الذين. هم على دين الفتية: اتخذوا عليهم مسجدا. وروي أن طائفة كافرة قالت: نبني بيعة أو مضيفا، فمانعهم المسلمون وقالوا لنتخذن عليهم مسجدا. وروي أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم وتركهم فيه مغيبين. وروي عن عبدالله بن عمر أن الله تعالى أعمى على الناس حينئذ أثرهم وحجبهم عنهم، فذلك دعا إلى بناء البنيان ليكون معلما لهم. وقيل: إن الملك أراد أن يدفنهم في صندوق من ذهب فأتاه آت منهم في المنام فقال: أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل؛ فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود، فدعنا.
وتنشأ هنا مسائل ممنوعة وجائزة؛ فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها، إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهي عنه ممنوع لا يجوز؛ لما روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. قال الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة حديث ابن عباس حديث حسن. وروى الصحيحان عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة). لفظ مسلم. قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد. وروى الأئمة عن أبي مرثد الغنوي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) لفظ مسلم. أي لا تتخذوها قبلة فتصلوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى، فيؤدي إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام. فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد). وروى الصحيحان عن عائشة وعبدالله بن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا. وروى مسلم عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه. وخرجه أبو داود والترمذي أيضا عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى الصحيح عن أبي الهياج الأسدي قال قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته - في رواية - ولا صورة إلا طمستها. وأخرجه أبو داود والترمذي.
قال علماؤنا: ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة. وقد قال به بعض أهل العلم. وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم، ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم، وذلك صفة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما - على ما ذكر مالك في الموطأ - وقبر أبينا آدم صلى الله عليه وسلم، على ما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس. وأما ثعلبة البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيما وتعظيما فذلك يهدم ويزال؛ فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبها بمن كان يعظم القبور ويعبدها. وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهي أن ينبغي أن يقال: هو حرام. والتسنيم في القبر: ارتفاعه قدر شبر؛ مأخوذ من سنام البعير. ويرش عليه بالماء لئلا ينتثر بالريح. وقال الشافعي لا بأس أن يطين القبر. وقال أبو حنيفة: لا يجصص القبر ولا يطين ولا يرفع عليه بناء فيسقط. ولا بأس بوضع الأحجار لتكون علامة؛ لما رواه أبو بكر الأثرم قال: حدثنا مسدد حدثنا نوح بن دراج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال: كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزور قبر حمزة بن عبدالمطلب كل جمعة وعلمته بصخرة؛ ذكره أبو عمر.
وأما الجائزة: فالدفن في التابوت؛ وهو جائز لا سيما في الأرض الرخوة. روي أن دانيال صلوات الله عليه كان في تابوت من حجر، وأن يوسف عليه السلام أوصى بأن يتخذ له تابوت من زجاج ويلقى في ركية مخافة أن يعبد، وبقي كذلك إلى زمان موسى صلوات الله عليهم أجمعين؛ فدلته عليه عجوز فرفعه ووضعه في حظيرة إسحاق عليه السلام. وفي الصحيح عن سعد ابن أبي وقاص أنه قال في مرضه الذي هلك فيه: اتخذوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا؛ كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم. اللحد: هو أن يشق في الأرض ثم يحفر قبر آخر في جانب الشق من جانب القبلة إن كانت الأرض صلبة يدخل فيه الميت ويسد عليه باللبن. وهو أفضل عندنا من الشق؛ لأنه الذي اختاره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم. وبه قال أبو حنيفة قال: السنة اللحد. وقال الشافعي: الشق. ويكره الآجر في اللحد. وقال الشافعي: لا بأس به لأنه نوع من الحجر. وكرهه أبو حنيفة وأصحابه؛ لأن الآجر لإحكام البناء، والقبر وما فيه للبلى، فلا يليق به الإحكام. وعلى هذا يسوي بين الحجر والآجر. وقيل: إن الآجر أثر النار فيكره تفاؤلا؛ فعلى هذا يفرق بين الحجر والآجر. قالوا: ويستحب اللبن والقصب لما روي أنه وضع على قبر النبي صلى الله عليه وسلم حزمة من قصب. وحكي عن الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل الحنفي رحمه الله أنه جوز اتخاذ التابوت في بلادهم لرخاوة الأرض. وقال: لو اتخذ تابوت من حديد فلا بأس به، لكن ينبغي أن يفرش فيه التراب وتطين الطبقة العليا مما يلي الميت، ويجعل اللبن الخفيف على يمين الميت ويساره ليصير بمنزلة اللحد.
قلت: ومن هذا المعنى جعل القطيفة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن المدينة سبخة، قال شقران: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر. قال أبو عيسى الترمذي: حديث شقران حديث حسن غريب.
الآية رقم ( 22 )
{سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا}
قوله تعالى{سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم{ الضمير في {سيقولون{ يراد به أهل التوراة ومعاصري محمد صلى الله عليه وسلم. وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص. وقيل: المراد به النصارى؛ فإن قوما منهم حضروا النبي صلى الله عليه وسلم من نجران فجرى ذكر أصحاب الكهف فقالت اليعقوبية: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وقالت النسطورية: كانوا خمسة سادسهم كلبهم. وقال المسلمون: كانوا سبعة ثامنهم كلبهم. وقيل: هو إخبار عن اليهود الذين أمروا المشركين بمسألة النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف. والواو في قول {وثامنهم كلبهم{ طريق النحو بين أنها واو عطف دخلت في آخر إخبار عن عددهم؛ لتفصل أمرهم، وتدل على أن هذا غاية ما قيل، ولو سقطت لصح الكلام. وقالت فرقة منها ابن خالويه: هي واو الثمانية. وحكى الثعلبي عن أبي بكر بن عياش أن قريشا كانت تقول في عددها ستة سبعة وثمانية؛ فتدخل الواو في الثمانية. وحكى نحوه القفال، فقال: إن قوما قالوا العدد ينتهي عند العرب إلى سبعة، فإذا احتيج إلى الزيادة عليها استؤنف خبر آخر بإدخال الواو، كقوله {التائبون العابدون - ثم قال - والناهون عن المنكر والحافظون}التوبة: 112]. يدل عليه أنه لما ذكر أبواب جهنم {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها}الزمر: 71] بلا واو، ولما ذكر الجنة قال{وفتحت أبوابها}الزمر: 73] بالواو. وقال {خير منكن مسلمات}التحريم: 5] ثم قال {وأبكارا}التحريم: 5] فالسبعة نهاية العدد عندهم كالعشرة الآن عندنا. قال القشيري أبو نصر: ومثل هذا الكلام تحكم، ومن أين السبعة نهاية عندهم ثم هو منقوض بقوله تعالى{هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر}الحشر: 23] ولم يذكر الاسم الثامن بالواو. وقال قوم ممن صار إلى أن عددهم سبعة: إنما ذكر الواو في قوله {سبعة وثامنهم{ لينبه على أن هذا العدد هو الحق، وأنه مباين للأعداد الأخر التي قال فيها أهل الكتاب؛ ولهذا قال تعالى في الجملتين المتقدمتين {رجما بالغيب{ ولم يذكره في الجملة الثالثة ولم يقدح فيها بشيء؛ فكأنه قال لنبيه هم سبعة وثامنهم كلبهم. والرجم: القول بالظن؛ يقال لكل ما يخرص: رجم فيه ومرجوم ومرجم؛ كما قال:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
قلت: قد ذكر الماوردي والغزنوي: وقال ابن جريج ومحمد بن إسحاق كانوا ثمانية، وجعلا قوله تعالى {وثامنهم كلبهم{ أي صاحب كلبهم. وهذا مما يقوي طريق النحويين في الواو، وأنها كما قالوا. وقال القشري: لم يذكر الواو في قوله: رابعهم سادسهم، ولو كان بالعكس لكان جائزا، فطلب الحكمة والعلة في مثل هذه الواو تكلف بعيد، وهو كقوله في موضع آخر {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم}الحجر: 4]. وفي موضع آخر{إلا لها منذرون. ذكرى}الشعراء: 208].
قوله تعالى{قل ربي أعلم بعدتهم{ أمر الله تعالى نبيه عليه السلام في هذه الآية أن يرد علم عدتهم إليه عز وجل. ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل. والمراد به قوم من أهل الكتاب؛ في قول عطاء. وكان ابن عباس يقول: أنا من ذلك القليل، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، ثم ذكر السبعة بأسمائهم، والكلب اسمه قطمير كلب أنمر، فوق القلطي ودون الكردي. وقال محمد بن سعيد بن المسيب: هو كلب صيني. والصحيح أنه زبيري. وقال: ما بقي بنيسابور محدث إلا كتب عني هذا الحديث إلا من لم يقدر له. قال: وكتبه أبو عمرو الحيري عني.
قوله تعالى{فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا{ أي لا تجادل في أصحاب الكهف إلا بما أوحيناه إليك؛ وهو رد علم عدتهم إلى الله تعالى. وقيل: معنى المراء الظاهر أن تقول: ليس كما تقولون، ونحو هذا، ولا تحتج على أمر مقدر في ذلك. وفي هذا دليل على أن الله تعالى لم يبين لأحد عددهم فلهذا قال {إلا مراء ظاهرا{ أي ذاهبا؛ كما قال:
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
ولم يبح له في هذه الآية أن يماري؛ ولكن قوله {إلا مراء{ استعارة من حيث يماريه أهل الكتاب. سميت مراجعته لهم مراء ثم قيد بأنه ظاهر؛ ففارق المراء الحقيقي المذموم. والضمير في قوله {قيهم{ عائد على أهل الكهف. وقوله{فلا تمار فيهم{ يعني في عدتهم؛ وجذفت العدة لدلالة ظاهر القول عليها. {ولا تستفت فيهم منهم أحدا{ روي أنه عليه السلام سأل نصارى نجران عنهم فنهي عن السؤال. والضمير في قوله {منهم{ عائد على أهل الكتاب المعارضين. وفي هذا دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم.
الآية رقم ( 23 : 24 )
{ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا، إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا}
قال العلماء عاتب الله تعالى نبيه عليه السلام على قوله للكفار حين سألوه عن الروح والفتية وذي القرنين: غدا أخبركم بجواب أسئلتكم؛ ولم يستثن في ذلك. فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوما حتى شق ذلك عليه وأرجف الكفار به، فنزلت عليه هذه السورة مفرجة. وأمر في هذه الآية ألا يقول في أمر من الأمور إني أفعل غدا كذا وكذا، إلا أن يعلق ذلك بمشيئة الله عز وجل حتى لا يكون محققا لحكم الخبر؛ فإنه إذا قال: لأفعلن ذلك ولم يفعل كان كاذبا، وإذا قال لأفعلن ذلك إن شاء الله خرج عن أن بكون محققا للمخبر عنه. واللام في قوله {لشيء{ بمنزلة في، أو كأنه قال لأجل شيء.
قوله تعالى{إلا أن يشاء الله{ قال ابن عطية: وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين، والآية ليست في الأيمان وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين. وقوله{إلا أن يشاء الله{ في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ويحسنه الإيجاز؛ تقديره: إلا أن تقول إلا أن يشاء الله؛ أو إلا أن تقول إن شاء الله. فالمعنى: إلا أن يذكر مشيئة الله؛ فليس {إلا أن يشاء الله{ من القول الذي نهي عنه.
قلت: ما اختاره ابن عطية وارتضاه هو قول الكسائي والفراء والأخفش. وقال البصريون: المعنى إلا بمشيئة الله. فإذا قال الإنسان أنا أفعل هذا إن شاء الله فمعناه بمشيئة الله. قال ابن عطية: وقالت فرقة {إلا أن يشاء الله{ استثناء من قوله {ولا تقولن{. قال: وهذا قول حكاه الطبري ورد عليه، وهو من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكى. وقد تقدم القول في الاستثناء في اليمين وحكمه في {المائدة{.
قوله تعالى{واذكر ربك إذا نسيت{ وفيه مسألة واحدة، وهي الأمر بالذكر بعد النسيان - واختلف في الذكر المأمور به؛ فقيل: هو قوله {وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا{ قال محمد الكوفي المفسر: إنها بألفاظها مما أمر أن يقولها كل من لم يستثن، وإنها كفارة لنسيان الاستثناء. وقال الجمهور: هو دعاء مأمور به دون هذا التخصيص. وقيل: هو قوله {إن شاء الله}الصافات: 102] الذي كان نسيه عند يمينه. حكي عن ابن عباس أنه إن نسي الاستثناء ثم ذكر ولو بعد سنة لم يحنث إن كان حالفا. وهو قول مجاهد. وحكى إسماعيل بن إسحاق ذلك عن أبي العالية في قوله تعالى{واذكر ربك إذا نسيت{ قال: يستثني إذا ذكره. الحسن: ما دام في مجلس الذكر. ابن عباس: سنتين؛ ذكره الغزنوي قال: فيحمل على تدارك التبرك بالاستثناء للتخلص عن الإثم. فأما الاستثناء المفيد حكما فلا يصح إلا متصلا. السدي: أي كل صلاة نسيها إذا ذكرها. وقيل: استثن باسمه لئلا تنسى. وقيل: اذكره متى ما نسيته. وقيل: إذا نسيت شيئا فاذكره يذكركه. وقيل: اذكره إذا نسيت غيره أو نسيت نفسك؛ فذلك حقيقة الذكر. وهذه الآية مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي استفتاح كلام على الأصح، ولست من الاستثناء في المين بشيء، وهي بعد تعم جميع أمته؛ لأنه حكم يتردد في الناس لكثرة وقوعه. والله الموفق.
الآية رقم ( 25 )
{ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا}
هذا خبر من الله تعالى عن مدة لبثهم. وفي قراءة ابن مسعود {وقالوا لبثوا{. قال الطبري: إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة بعد الإعثار عليهم إلى مدة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: إنهم لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين، فأخبر الله تعالى نبيه أن هذه المدة في كونهم نياما، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر. فأمر الله تعالى أن يرد علم ذلك إليه. قال ابن عطية: فقوله على هذا {لبثوا{ الأول يريد في نوم الكهف، و{لبثوا{ الثاني يريد بعد الإعثار إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم، أو إلى وقت عدمهم بالبلاء. مجاهد: إلى وقت نزول القرآن. الضحاك: إلى أن ماتوا. وقال بعضهم: إنه لما قال {وازدادوا تسعا{ لم يدر الناس أهي ساعات أم أيام أم جمع أم شهور أم أعوام. واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك، فأمر الله تعالى برد العلم إليه في التسع، فهي على هذا مبهمة. وظاهر كلام العرب المفهوم منه أنها أعوام، والظاهر من أمرهم أنهم قاموا ودخلوا الكهف بعد عيسى بيسير وقد بقيت من الحواريين بقية. وقيل غير هذا على ما يأتي. قال القشيري: لا يفهم من التسع تسع ليال وتسع ساعات لسبق ذكر السنين؛ كما تقول: عندي مائة درهم وخمسة؛ والمفهوم منه خمسة دراهم. وقال أبو علي {وازدادوا تسعا{ أي ازدادوا لبث تسع؛ فحذف. وقال الضحاك: لما نزلت {ولبثوا في كهفهم ثلثمائة{ قالوا سنين أم شهور أم جمع أم أيام؛ فأنزل الله عز وجل {سنين{. وحكى النقاش ما معناه أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية بحساب الأيام؛ فلما كان الإخبار هنا للنبي العربي ذكرت التسع؛ إذ المفهوم عنده من السنين القمرية، وهذه الزيادة هي ما بين الحسابين. ونحوه ذكر الغزنوي. أي باختلاف سني الشمس والقمر؛ لأنه يتفاوت في كل ثلاث وثلاثين وثلث سنة سنة فيكون في ثلثمائة تسع سنين. وقرأ الجمهور {ثلثمائة سنين{ بتنوين مائة ونصب سنين، على التقديم والتأخير؛ أي سنين ثلاثمائة فقدم الصفة على الموصوف، فتكون {سنين{ على هذا بدلا أو عطف بيان. وقيل: على التفسير والتمييز. و{سنين{ في موضع سنة. وقرأ حمزة والكسائي بإضافة مائة إلى سنين، وترك التنوين؛ كأنهم جعلوا سنين بمنزلة سنة إذ المعنى بهما واحد. قال أبو علي: هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلاثمائة رجل وثوب قد تضاف إلى الجموع. وفي مصحف عبدالله {ثلثمائة سنة{. وقرأ الضحاك {ثلثمائة سنون{ بالواو. وقرأ أبو عمرو بخلاف {تسعا{ بفتح التاء وقرأ الجمهور بكسرها. وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة: التقدير ولبثوا في كهفهم سنين ثلثمائة.
الآية رقم ( 26 )
{قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا}
قوله تعالى{قل الله أعلم بما لبثوا{ قيل بعد موتهم إلى نزول القرآن فيهم، على قول مجاهد. أو إلى أن ماتوا؛ على قول الضحاك. أو إلى وقت تغيرهم بالبلى؛ على ما تقدم. وقيل: بما لبثوا في الكهف، وهي المدة التي ذكرها الله تعالى عن اليهود وإن ذكروا زيادة ونقصانا. أي لا يعلم علم ذلك إلا الله أو من علمه ذلك {له غيب السماوات والأرض{. {أبصر به وأسمع{ أي ما أبصره وأسمعه. قال قتادة: لا أحد أبصر من الله ولا اسمع. وهذه عبارات عن الإدراك. ويحتمل أن يكون المعنى {أبصر به{ أي بوحيه وإرشاده هداك وحججك والحق من الأمور، واسمع به العالم؛ فيكونان أمرين لا على وجه التعجب. وقيل. المعنى أبصرهم وأسمعهم ما قال الله فيهم.
قوله تعالى{ما لهم من دونه من ولي{ أي لم يكن لأصحاب الكهف ولي يتولى حفظهم دون الله. ويحتمل أن يعود الضمير في {لهم{ على معاصري محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار. والمعنى: ما لهؤلاء المختلفين في مدة لبثهم ولي دون الله يتولى تدبير أمرهم؛ فكيف يكونون اعلم منه، أو كيف يتعلمون من غير إعلامه إياهم.
قوله تعالى{ولا يشرك في حكمه أحدا{ قرئ بالياء ورفع الكاف، على معنى الخبر عن الله تعالى. وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري {ولا تشرك{ بالتاء من فوق وإسكان الكاف على جهة النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون قوله {ولا يشرك{ عطفا على قوله{أبصر به واسمع{. وقرأ مجاهد {يشرك{ بالياء من تحت والجزم. قال يعقوب: لا أعرف وجهه.
مسألة:
اختلف في أصحاب الكهف هل ماتوا وفنوا، أو هم نيام وأجسادهم محفوظة؛ فروي عن ابن عباس أنه مر بالشام في بعض غزواته مع ناس على موضع الكهف وجبله، فمشى الناس معه إليه فوجدوا عظاما فقالوا: هذه عظام أهل الكهف. فقال لهم ابن عباس: أولئك قوم فنوا وعدموا منذ مدة طويلة؛ فسمعه راهب فقال: ما كنت أحسب أن أحدا من العرب يعرف هذا؛ فقيل له: هذا ابن عم نبينا صلى الله عليه وسلم. وروت فرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليحجن عيسى بن مريم ومعه أصحاب الكهف فإنهم لم يحجوا بعد). ذكره ابن عطية.
قلت: ومكتوب في التوراة والإنجيل أن عيسى بن مريم عبدالله ورسوله، وأنه يمر بالروحاء حاجا أو معتمرا أو يجمع الله له ذلك فيجعل الله حواريه أصحاب الكهف والرقيم، فيمرون حجاجا فإنهم لم يحجوا ولم يموتوا. وقد ذكرنا هذا الخبر بكماله في كتاب {التذكرة{. فعلى هذا هم نيام ولم يموتوا إلى يوم القيامة، بل يموتون قبيل الساعة.
الآية رقم ( 27 )
{واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا}
قوله تعالى{واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته{ قيل: هو من تمام قصة أصحاب الكهف؛ أي اتبع القرآن فلا مبدل لكلمات الله ولا خلف فيما أخبر به من قصة أصحاب الكهف. وقال الطبري: لا مغير لما أوعد بكلماته أهل معاصيه والمخالفين لكتابه. {ولن تجد{ أنت {من دونه{ إن لم تتبع القرآن وخالفته. {ملتحدا{ أي ملجأ وقيل موئلا وأصله الميل ومن لجأت إليه فقد ملت إليه. قال القشيري أبو نصر عبدالرحيم: وهذا آخر قصة أصحاب الكهف. ولما غزا معاوية غزوة المضيق نحو الروم وكان معه ابن عباس فانتهى إلى الكهف الذي فيه أصحاب الكهف؛ فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فننظر إليهم؛ فقال ابن عباس: قد منع الله من هو خير منك عن ذلك، فقال{لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا}الكهف: 18] فقال: لا انتهي حتى اعلم علمهم، وبعث قوما لذلك، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم؛ ذكره الثعلبي أيضا. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يريه إياهم، فقال إنك لن تراهم في دار الدنيا ولكن أبعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: كيف أبعثهم؟ فقال: ابسط كساءك واجلس على طرف من أطرافه أبا بكر وعلى الطرف الآخر عمر وعلى الثالث عثمان وعلى الرابع علي بن أبي طالب، ثم ادع الريح الرخاء المسخرة لسليمان فإن الله تعالى يأمرها أن تطيعك؛ ففعل فحملتهم الريح إلى باب الكهف، فقلعوا منه حجرا، فحمل الكلب عليهم فلما رآهم حرك رأسه وبصبص بذنبه وأومأ إليهم برأسه أن ادخلوا فدخلوا الكهف فقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ فرد الله على الفتية أرواحهم فقاموا بأجمعهم وقالوا: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته؛ فقالوا لهم: معشر الفتية، إن النبي محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليكم السلام؛ فقالوا: وعلى محمد رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض، وعليكم بما أبلغتم، وقبلوا دينه وأسلموا، ثم قالوا: أقرئوا محمدا رسول الله منا السلام، وأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدي. فيقال: إن المهدي يسلم عليهم فيحييهم الله ثم يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون حتى تقوم الساعة، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان منهم، ثم ردتهم الريح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف وجدتموهم)؟. فأخبروه الخبر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تفرق بيني وبين أصحابي وأصهاري واغفر لمن أجنبي وأحب أهل بيتي وخاصتي وأصحابي). وقيل: إن أصحاب الكهف دخلوا الكهف قبل المسيح؛ فأخبر الله تعالى المسيح بخبرهم ثم بعثوا في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: كانوا قبل موسى عليه السلام وأن موسى ذكرهم في التوراة؛ ولهذا سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: دخلوا الكهف بعد المسيح؛ فالله اعلم أي ذلك كان.
الآية رقم ( 28 )
{واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}
قوله تعالى{واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي{ هذا مثل قوله{ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي}الأنعام: 52] في سورة {الأنعام{ وقد مضى الكلام فيه. وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فقالوا: يا رسول الله؛ إنك لو جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم - يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف لم يكن عليهم غيرها - جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله تعالى {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا. واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه - حتى بلغ - إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها{. يتهددهم بالنار. فقام النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسهم حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله قال: (الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات). {يريدون وجهه{ أي طاعته. وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبدالرحمن {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي{ وحجتهم أنها في السواد بالواو. وقال أبو جعفر النحاس: وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو، ولا تكاد العرب تقول الغدوة لأنها معروفة. وروي عن الحسن أي لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم من أبناء الدنيا طلبا لزينتها؛ حكاه اليزيدي. وقيل: لا تحتقرهم عيناك؛ كما يقال فلان تنبو عنه العين؛ أي مستحقرا.
قوله تعالى{تريد زينة الحياة الدنيا{ أي تتزين بمجالسة هؤلاء الرؤساء الذين اقترحوا إبعاد الفقراء من مجلسك؛ ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، ولكن الله نهاه عن أن يفعله، وليس هذا بأكثر من قوله {لئن أشركت ليحبطن عملك}الزمر: 65]. وإن كان الله أعاذه من الشرك. و{تريد{ فعل مضارع في موضع الحال؛ أي لا تعد عيناك مريدا؛ كقول امرئ القيس:
فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
وزعم بعضهم أن حق الكلام: لا تعد عينيك عنهم؛ لأن {تعد{ متعد بنفسه. قيل له: والذي وردت به التلاوة من رفع العينين يؤول إلى معنى النصب فيها، إذا كان لا تعد عيناك عنهم بمنزلة لا تنصرف عيناك عنهم، ومعنى لا تنصرف عيناك عنهم لا تصرف عينيك عنهم؛ فالفعل مسند إلى العينين وهو في الحقيقة موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى{فلا تعجبك أموالهم{ فأسند الإعجاب إلى الأموال، والمعنى: لا تعجبك يا محمد أموالهم. ويزيدك وضوحا قول الزجاج: إن المعنى لا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة.
قوله تعالى{ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا{ روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى{ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا{ قال: نزلت في أمية بن خلف الجمحي، وذلك أنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر كرهه من تجرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة؛ فأنزل الله تعالى{ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا{ يعني من ختمنا على قلبه عن التوحيد. {واتبع هواه{ يعني الشرك. {وكان أمره فرطا{ قيل هو من التفريط الذي هو التقصير وتقديم العجز بترك الإيمان. وقيل: من الإفراط ومجاوزة الحد، وكان القوم قالوا: نحن أشراف مضر إن أسلمنا أسلم الناس؛ وكان هذا من التكبر والإفراط ف في القول. وقيل{فرطا{ أي قدما في الشر؛ من قولهم: فرط منه أمر أي سبق. وقيل: معنى {أغفلنا قلبه{ وجدناه غافلا؛ كما تقول: لقيت فلانا فأحمدته؛ أي وجدته محمودا. وقال عمرو بن معد يكرب لبني الحارث بن كعب: والله لقد سألناكم فما أبخلناكم، وقاتلناكم فما أجبناكم، وهاجيناكم فما أفحمناكم؛ أي ما وجدناكم بخلاء ولا جبناء ولا مفحمين. وقيل: نزلت {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا{ في عيينة بن حصن الفزاري؛ ذكره عبدالرزاق، وحكاه النحاس عن سفيان الثوري. والله اعلم.
{وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا}
قوله تعالى{وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر{ {الحق{ رفع على خبر الابتداء المضمر؛ أي قل هو الحق. وقيل: هو رفع على الابتداء، وخبره في قوله {من ربكم{. ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: أيها الناس من ربكم الحق فإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال، يهدي من يشاء فيؤمن، ويضل من يشاء فيكفر؛ ليس إلي من ذلك شيء، فالله يؤتي الحق من يشاء وإن كان ضعيفا، ويحرمه من يشاء وإن كان قويا غنيا، ولست بطارد المؤمنين لهواكم؛ فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا. وليس هذا بترخيص وتخيير بين الإيمان والكفر، وإنما هو وعيد وتهديد. أي إن كفرتم فقد أعد لكم النار، وإن آمنتم فلكم الجنة.
قوله تعالى{إنا أعتدنا{ أي أعددنا. {للظالمين{ أي للكافرين الجاحدين. {نارا أحاط بهم سرادقها{ قال الجوهري: السرادق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار. وكل بيت من كرسف فهو سرادق. قال رؤبة:
يا حكم بن المنذر بن الجارود سرادق المجد عليك ممدود
يقال: بيت مسردق. وقال سلامة بن جندل يذكر أبرويز وقتله النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة:
هو المدخل النعمان بيتا سماؤه صدور الفيول بعد بيت مسردق
وقال ابن الأعرابي{سرادقها{ سورها. وعن ابن عباس: حائط من نار. الكلبي: وقال ابن الأعرابي{سرادقها{ سورها. وعن ابن عباس: حائط من نار. الكلبي: عنق تخرج من النار فتحيط بالكفار كالحظيرة. القتبي: السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط. وقال ابن عزيز. وقيل: هو دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الذي ذكره الله تعالى في سورة {والمرسلات{. حيث يقول{انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب}المرسلات: 30] وقوله{وظل من يحموم}الواقعة: 43] قاله قتادة. وقيل: إنه البحر المحيط بالدنيا. وروي يعلي بن أمية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البحر هو جهنم - ثم تلا - نارا أحاط بهم سرادقها - ثم قال - والله لا أدخلها أبدا ما دمت حيا ولا يصيبني منها قطرة) ذكره الماوردي. وخرج ابن المبارك من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لسرادق النار أربع جدر كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة). وخرجه أبو عيسى الترمذي، وقال فيه: حديث حسن صحيح غريب.
قلت: وهذا يدل على أن السرادق ما يعلو الكفار من دخان أو نار، وجدره ما وصف.
قوله تعالى{وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه{ قال ابن عباس: المهل ماء غليظ مثل دردي الزيت. مجاهد: القيح والدم. الضحاك: ماء أسود، وإن جهنم لسوداء، وماؤها أسود وشجرها أسود وأهلها سود. وقال أبو عبيدة: هو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس وقصدير، فتموج بالغليان، فذلك المهل. ونحوه عن ابن مسعود قال سعيد بن جبير: هو الذي قد انتهى حره. وقال: المهل ضرب من القطران؛ يقال: مهلت البعير فهو ممهول. وقيل: هو السم. والمعنى في هذه الأقوال متقارب. وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله {كالمهل{ قال: (كعكر الزيت فإذا قربه إلى وجهه سقطت فروة وجهه) قال أبو عيسى: هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد ورشدين قد تكلم فيه من قبل حفظه. وخرج عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله{ويسقى من ماء صديد يتجرعه{ قال: (يقرب إلى فيه فكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه إذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره. يقول الله تعالى {وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم}محمد: 15] يقول {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا{ قال: حديث غريب.
قلت: وهذا يدل على صحة تلك الأقوال، وأنها مرادة، والله اعلم. وكذلك نص عليها أهل اللغة. في الصحاح {المهل{ النحاس المذاب. ابن الأعرابي: المهل المذاب من الرصاص. وقال أبو عمرو. المهل دردي الزيت. والمهل أيضا القيح والصديد. وفي حديث أبي بكر: ادفنوني في ثوبي هذين فإنهما للمهل والتراب. و{مرتفقا{ قال مجاهد: معناه مجتمعا، كأنه ذهب إلى معنى المرافقة. ابن عباس: منزلا. عطاء: مقرا. وقيل مهادا. وقال القتبي: مجلسا، والمعنى متقارب؛ وأصله من المتكأ، يقال منه: ارتفقت أي اتكأت على المرفق. قال الشاعر:
قالت له وارتفقت ألا فتى يسوق بالقوم غزالات الضحى
ويقال: ارتفق الرجل إذا نام على مرفقه لا يأتيه نوم. قال أبو ذؤيب الهذلي:
نام الخلي وبت الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مدبوح
الصاب: عصارة شجر مر.
الآية رقم ( 30 : 31 )
{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا، أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا}
لما ذكر ما أعد للكافرين من الهوان ذكر أيضا ما للمؤمنين من الثواب. وفي الكلام إضمار؛ أي لا نضيع أجر من أحسن منهم عملا، فأما من أحسن عملا من غير المؤمنين فعمله محبط. و{عملا{ نصب على التمييز، وإن شئت بإيقاع {أحسن{ عليه. وقيل{إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا{ كلام معترض، والخبر قوله {أولئك لهم جنات عدن{. و{جنات عدن{ سرة الجنة، أي وسطها وسائر الجنات محدقة بها وذكرت بلفظ الجمع لسعتها؛ لأن كل بقعة منها تصلح أن تكون جنة وقيل: العدن الإقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به وعدنت البلد توطنته وعدنت الإبل بمكان كذا لزمته فلم تبرح منه؛ ومنه {جنات عدن{ أي جنات إقامة ومنه سمي المعدن (بكسر الدال)؛ لأن الناس يقيمون فيه بالصيف والشتاء ومركز كل شيء معدنه والعادن: الناقة المقيمة في المرعى. وعدن بلد؛ قاله الجوهري. {تجري من تحتهم الأنهار{ تقدم. {يحلون فيها من أساور من ذهب{ وهو جمع سوار. قال سعيد بن جبير: على كل واحد منهم ثلاثة أسورة: واحد من ذهب، وواحد من ورق، وواحد من لؤلؤ.
قلت: هذا منصوص في القرآن، قال هنا {من ذهب{ وقال في الحج وفاطر {من ذهب ولؤلؤا}الحج: 23] وفي الإنسان {من فضة}الإنسان: 21]. وقال أبو هريرة: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) خرجه مسلم. وحكى الفراء{يحلون{ بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام خفيفة؛ يقال: حليت المرأة تحلى فهي حالية إذا لبست الحلي. وحلي الشيء بعيني يحلى؛ ذكره النحاس. والسوار سوار المرأة، والجمع أسورة، وجمع الجمع أساورة. وقرئ {فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب}الزخرف: وقد يكون الجمع أساور. وقال الله تعالى {يحلون فيها من أساور من ذهب{ قاله الجوهري. وقال ابن عزيز: أساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار وسوار، وهو الذي يلبس في الذراع من ذهب، فإن كان من فضة فهو قلب وجمعه قلبة؛ فإن كان من قرن أو عاج فهي مسكة وجمعه مسك. قال النحاس: وحكى قطرب في واحد الأساور إسوار، وقطرب صاحب شذوذ، قد تركه يعقوب وغيره فلم يذكره.
قلت: قد جاء في الصحاح وقال أبو عمرو بن العلاء: وأحدها إسوار. وقال المفسرون: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور. والتيجان جعل الله تعالى ذلك لأهل الجنة.
قوله تعالى{ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق{ السندس: الرفيق النحيف، واحده سندسة؛ قال الكسائي. والإستبرق: ما ثخن منه - عن عكرمة - وهو الحرير. قال الشاعر:
تراهن يلبسن المشاعر مرة وإستبرق الديباج طورا لباسها
فالإستبرق الديباج. ابن بحر: المنسوج بالذهب. القتبي: فارسي معرب. الجوهري: وتصغيره أبيرق. وقيل: هو استفعل من البريق. والصحيح أنه وفاق بين اللغتين؛ إذ ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب، على ما تقدم، والله اعلم.{ وخص الأخضر بالذكر لأنه الموافق للبصر؛ لأن البياض يبدد النظر ويؤلم، والسواد يذم، والخضرة بين البياض والسواد، وذلك يجمع الشعاع. والله اعلم. روى النسائي عن عبدالله بن عمرو بن العاص فال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، أخبرنا عن ثياب الجنة، أخلق يخلق أم نسج ينسج؟ فضحك بعض القوم. فقال لهم: (مم تضحكون من جاهل يسأل عالما) فجلس يسيرا أو قليلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين السائل عن ثياب الجنة)؟ فقال: ها هو ذا يا رسول الله؛ قال (لا بل تشقق عنها ثمر الجنة) قالها ثلاثا. وقال أبو هريرة: دار المؤمن درة مجوفة في وسطها شجرة تنبت الحلل ويأخذ بأصبعه أو قال بأصبعيه سبعين حلة منظمة بالدر والمرجان. ذكره يحيى بن سلام في تفسيره وابن المبارك في رقائقه. وقد ذكرنا إسناده في كتاب التذكرة. وذكر في الحديث أنه يكون على كل واحد منهم الحلة لها وجهان لكل وجه لون، يتكلمان به بصوت يستحسنه سامعه، يقول أحد الوجهين للآخر: أنا أكرم على ولي الله منك، أنا ألي جسده وأنت لا تلي. ويقول الآخر: أنا أكرم على ولي الله منك، أنا أبصر وجهه وأنت لا تبصر.
قوله تعالى{متكئين فيها على الأرائك{ {الأرائك{ جمع أريكة، وهي السرر في الحجال. وقيل الفرش في الحجال؛ قاله الزجاج. ابن عباس: هي الأسرة من ذهب، وهي مكللة بالدر والياقوت عليها الحجال، الأريكة ما بين صنعاء إلى أيلة وما بين عدن إلى الجابية. وأصل متكئين موتكئين، وكذلك اتكأ أصله أو تكأ، وأصل التكأة وكأة؛ ومنه التوكأ للتحامل على الشيء، فقلبت الواو تاء وأدغمت. ورجل وكأة كثير الاتكاء. {نعم الثواب وحسنت مرتفقا{ يعني الجنات، عكس {وساءت مرتفقا{. وقد تقدم. ولو كان {نعمت{ لجاز لأنه اسم للجنة. وعلى هذا {وحسنت مرتفقا{. وروى البراء بن عازب أن أعرابيا قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فقال: إني رجل مسلم فأخبرني عن هذه الآية {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات{ الآية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنت منهم ببعيد ولا هم ببعيد منك هم هؤلاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت فيهم) ذكره الماوردي، وأسنده النحاس في كتاب معاني القرآن، قال: حدثنا أبو عبدالله أحمد بن علي بن سهل قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا يحيى بن الضريس عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: قام أعرابي...؛ فذكره. وأسنده السهيلي في كتاب الأعلام. وقد روينا جميع ذلك بالإجازة، والحمد لله.
الآية رقم ( 32 : 34 )
{واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا، كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا، وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا}
قوله تعالى{واضرب لهم مثلا رجلين{ هذا مثل لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة المؤمنين، وهو متصل بقوله {واصبر نفسك}الكهف: 28]. واختلف في اسم هذين الرجلين وتعيينهما؛ فقال الكلبي: نزلت في أخوين من أهل مكة مخزوميين، أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبدالله بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم. والآخر كافر وهو الأسود بن عبدالأسد، وهما الأخوان المذكوران في سورة {الصافات{ في قوله {قال قائل منهم إني كان لي قرين}الصافات: 51]، ورث كل واحد منهما أربعة آلاف دينار، فأنفق أحدهما مال في سبيل الله وطلب من أخيه شيئا فقال ما قال...؛ ذكره الثعلبي والقشيري. وقيل: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة. وقيل: هو مثل لجميع من آمن بالله وجميع من كفر. وقيل: هو مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وصهيب وأصحابه؛ شبههم الله برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا؛ في قول ابن عباس. وقال مقاتل: اسمه تمليخا. والآخر كافر واسمه قرطوش. وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة الصافات. وكذا ذكر محمد بن الحسن المقرئ قال: اسم الخير منهما تمليخا، والآخر قرطوش، وأنهما كانا شريكين ثم اقتسما المال فصار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فاشترى المؤمن منهما عبيدا بألف وأعتقهم، وبالألف الثانية ثيابا فكسا العراة، وبالألف الثالثة طعاما فأطعم الجوع، وبنى أيضا مساجد، وفعل خيرا. وأما الآخر فنكح بماله نساء ذوات يسار، واشترى دواب وبقرا فاستنتجها فنمت له نماء مفرطا، وأتجر بباقيها فربح حتى فاق أهل زمانه غنى؛ وأدركت الأول الحاجة، فأراد أن يستخدم نفسه في جنة يخدمها فقال: لو ذهبت لشريكي وصاحبي فسألته أن يستخدمني في بعض جناته رجوت أن يكون ذلك أصلح بي، فجاءه فلم يكد يصل إليه من غلظ الحجاب، فلما دخل عليه وعرفه وسأله حاجته قال له: ألم أكن قاسمتك المال نصفين فما صنعت بمالك؟. قال: اشتريت به من الله تعالى ما هو خير منه وأبقى. فقال. أإنك لمن المصدقين، ما أظن الساعة قائمة وما أراك إلا سفيها، وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان، أو ما ترى ما صنعت أنا بمالي حتى آل إلى ما تراه من الثروة وحسن الحال، وذلك أني كسبت وسفهت أنت، اخرج عني. ثم كان من قصة هذا الغني ما ذكره الله تعالى في القرآن من الإحاطة بثمره وذهابها أصلا بما أرسل عليها من السماء من الحسبان. وقد ذكر الثعلبي هذه القصة بلفظ آخر، والمعنى متقارب.
قال عطاء: كانا شريكين لهما ثمانية آلاف دينار. وقيل: ورثاه من أبيهما وكانا أخوين فاقتسماها، فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار، فقال صاحبه: اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار وإني اشتريت منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال: اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإني اشتري منك دارا في الجنة بألف دينار، فتصدق بها، ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار، فقال: اللهم إن فلانا تزوج امرأة بألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، وإني أشتري منك خدما ومتاعا من الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم أصابته حاجة شديدة فقال: لعل صاحبي ينالني معروفه فأتاه فقال: ما فعل مالك؟ فأخبره قصته فقال: وإنك لمن المصدقين بهذا الحديث والله لا أعطيك شيئا ثم قال له: أنت تعبد إله السماء، وأنا لا أعبد إلا صنما؛ فقال صاحبه: والله لأعظنه، فوعظه وذكره وخوفه. فقال: سر بنا نصطد السمك، فمن صاد أكثر فهو على حق؛ فقال له: يا أخي إن الدنيا أحقر عند الله من أن يجعلها ثوابا لمحسن أو عقابا لكافر. قال: فأكرهه على الخروج معه، فابتلاهما الله، فجعل الكافر يرمي شبكته ويسمي باسم صنمه، فتطلع متدفقه سمكا. وجعل المؤمن يرمي شبكته ويسمي باسم الله فلا يطلع له فيها شيء؛ فقال له: كيف ترى أنا أكثر منك في الدنيا نصيبا ومنزلة ونفرا، كذلك أكون أفضل منك في الآخرة إن كان ما تقول بزعمك حقا. قال: فضج الملك الموكل بهما، فأمر الله تعالى جبريل أن يأخذه فيذهب به إلى الجنان فيريه منازل المؤمن فيها، فلما رأى ما أعد الله له قال: وعزتك لا يضره ما ناله من الدنيا بعد ما يكون مصيره إلى هذا؛ وأراه منازل الكافر في جهنم فقال: وعزتك لا ينفعه ما أصابه من الدنيا بعد أن يكون مصيره إلى هذا. ثم إن الله تعالى توفى المؤمن وأهلك الكافر بعذاب من عنده، فلما استقر المؤمن في الجنة ورأى ما أعد الله له أقبل هو وأصحابه يتساءلون، فقال{إني كان لي قرين. يقول أإنك لمن المصدقين}الصافات: 51] الآية؛ فنادى مناد: يا أهل الجنة هل أنتم مطلعون فاطلع إلى جهنم فرآه في سواء الجحيم؛ فنزلت {واضرب لهم مثلا{.
بين الله تعالى حال الأخوين في الدنيا في هذه السورة، وبين حالهما في الآخرة في سورة {الصافات{ في قول {إني كان لي قرين. يقول أإنك لمن المصدقين - إلى قوله - لمثل هذا فليعمل العاملون}الصافات: 51]. قال ابن عطية: وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين، وكانتا لأخوين فباع أحدهما نصيبه من الآخر فأنفق في طاعة الله حتى عيره الآخر، وجرت بينهما المحاورة فغرقها الله تعالى في ليلة، وإياها عني بهذه الآية. وقد قيل: إن هذا مثل ضربه الله تعالى لهذه الأمة، وليس بخبر عن حال متقدمة، لتزهد في الدنيا وترغب في الآخرة، وجعله زجرا وإنذارا؛ ذكره الماوردي. وسياق الآية يدل على خلاف هذا، والله اعلم.
قوله تعالى{وحففناهما بنخل{ أي أطفناهما من جوانبهما بنخل. والحفاف الجانب، وجمعه أحفة؛ ويقال: حف القوم بفلان يحفون حفا، أي طافوا به؛ ومنه {حافين من حول العرش}الزمر: 75]. {وجعلنا بينهما زرعا{ أي جعلنا حول الأعناب النخل، ووسط الأعناب الزرع.
قوله تعالى{كلتا الجنتين{ أي كل واحدة من الجنتين، واختلف في لفظ {كلتا وكلا{ هل هو مفرد أو مثنى؛ فقال أهل البصرة: هو مفرد؛ لأن كلا وكلتا في توكيد الاثنين نظير {كل{ في المجموع، وهو اسم مفرد غير مثنى؛ فإذا ولي اسما ظاهرا كان في الرفع والنصب والخفض على حالة واحدة، تقول: رأيت كلا الرجلين وجاءني كلا الرجلين ومررت بكلا الرجلين؛ فإذا اتصل بمضمر قلبت الألف ياء في موضع الجر والنصب، تقول: رأيت كليهما ومررت بكليهما، كما تقول عليهما. وقال الفراء: هو مثنى، وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية. وكذلك كلتا للمؤنث، ولا يكونان إلا مضافين ولا يتكلم بواحد، ولو تكلم به لقيل: كل وكلت وكلان وكلتان. واحتج بقول الشاعر:
في كلت رجليها سلامى واحده كلتاهما مقرونة بزائده
أراد في إحدى رجليها فأفرد. وهذا القول ضعيف عند أهل البصرة؛ لأنه لو كان مثنى لوجب أن تكون ألفه في النصب والجر ياء مع الاسم الظاهر، ولأن معنى {كلا{ مخالف لمعنى {كل{ لأن {كلا{ للإحاطة و{كلا{ يدل على شيء مخصوص، وأما هذا الشاعر فإما حذف الألف للضرورة وقدر أنها زائدة، وما يكون ضرورة لا يجوز أن يجعل حجة، فثبت أنه اسم مفرد كمعى، إلا أنه وضع ليدل على التثنية، كما أن قولهم {نحن{ اسم مفرد يدل على اثنين فما فوقهما، يدل على ذلك قول جرير:
كلا يومي أمامة يوم صد وإن لم نأتها إلا لماما
فأخبر عن {كلا{ بيوم مفرد، كما أفرد الخبر بقوله {آتت{ ولو كان مثنى لقال آتتا، ويوما. واختلف أيضا في ألف {كلتا{؛ فقال سيبويه: ألف {وكلتا{ للتأنيث والتاء بدل من لام الفعل وهي واو والأصل كلوا، وإنما أبدلت تاء لأن في التاء علم التأنيث، والألف {في كلتا{ قد تصير ياء مع المضمر فتخرج عن علم التأنيث، فصار في إبدال الواو تاء تأكيد للتأنيث. وقال أبو عمر الجرمي: التاء ملحقة والألف لام الفعل، وتقديرها عنده: فعتل، ولو كان الأمر على ما زعم الجرمي: التاء ملحقة والألف لام الفعل، وتقديرها عنده: فعتل، ولو كان الأمر على ما زعم لقالوا في النسبة إليها كلتوي، فلما قالوا كلوي وأسقطوا التاء دل على أنهم أجروها مجرى التاء في أخت إذا نسبت إليها قلت أخوي؛ ذكره الجوهري. قال أبو جعفر النحاس: وأجاز النحويون في غير القرآن الحمل على المعنى، وأن تقول: كلتا الجنتين آتتا أكلهما؛ لأن المعنى المختار كلتاهما آتتا. وأجاز الفراء: كلتا الجنتين آتى أكله، قال: لأن المعنى كل الجنتين. قال: وفي قراءة عبدالله {كل الجنتين أتى أكله{. والمعنى على هذا عند الفراء: كل شيء من الجنتين آتي أكله. والأكل (بضم الهمزة) ثمر النخل والشجر. وكل ما يؤكل فهو أكل؛ ومنه قوله تعالى{أكلها دائم}الرعد: 35] وقد تقدم. {آتت أكلها{ تاما ولذلك لم يقل آتتا. {ولم تظلم منه شيئا{ أي لم تنقص.
قوله تعالى{وفجرنا خلالهما نهرا{ أي أجرينا وشققنا وسط الجنتين بنهر. {وكان له ثمر{ قرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم ويعقوب وابن أبي إسحاق {ثمر{ بفتح الثاء والميم، وكذلك قوله {وأحيط بثمره}الكهف: 42] جمع ثمرة. قال الجوهري: الثمرة واحدة الثمر والثمرات، وجمع الثمر ثمار؛ مثل جبل وجبال. قال الفراء: وجمع الثمار ثمر؛ مثل كتاب وكتب، وجمع الثمر أثمار؛ مثل أعناق وعنق. والثمر أيضا المال المثمر؛ يخفف ويثقل. وقرأ أبو عمرو {وكان له ثمر{ بضم الثاء وإسكان الميم، وفسره بأنواع المال. والباقون بضمها في الحرفين. قال ابن عباس: ذهب وفضة وأموال. وقد مضى في {الأنعام{ نحو هذا مبينا. ذكر النحاس: حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمران بن بكار قال حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي قال حدثنا شعيب بن إسحاق قال هارون قال حدثني أبان عن ثعلب عن الأعمش أن الحجاج قال: لو سمعت أحدا يقرأ {وكان له ثمر{ لقطعت لسانه؛ فقلت للأعمش: أتأخذ بذلك؟ فقال: لا؟ ولا نعمة عين. فكان يقرأ {ثمر{ ويأخذه من جمع الثمر. قال النحاس: فالتقدير على هذا القول أنه جمع ثمرة على ثمار، ثم جمع ثمار على ثمر؛ وهو حسن في العربية إلا أن القول الأول أشبه والله اعلم؛ لأن قوله {كلتا الجنتين آتت أكلها{ يدل على أن له ثمرا.
قوله تعالى{فقال لصاحبه وهو يحاوره{ أي يراجعه في الكلام ويجاوبه. والمحاورة المجاوبة، والتحاور التجاوب. ويقال: كلمته فما أحار إلي جوابا، وما رجع إلي حويرا ولا حويرة ولا محورة ولا حوارا؛ أي ما رد جوابا. {أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا{ النفر: الرهط وهو ما دون العشرة. وأراد ههنا الاتباع والخدم والولد، حسبما تقدم بيانه.
الآية رقم ( 35 : 36 )
{ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا، وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا}
قوله تعالى{ودخل جنته{ قيل: أخذ بيد أخيه المؤمن يطيف به فيها ويريه إياها. {وهو ظالم لنفسه{ أي بكفره، وهو جملة في موضع الحال. ومن أدخل نفسه النار بكفره فهو ظالم لنفسه. {قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا{ أنكر فناء الدار. {وما أظن الساعة قائمة{ أي لا أحسب البعث كائنا. {ولئن رددت إلى ربي{ أي وإن كان بعث فكما أعطاني هذه النعم في الدنيا فسيعطيني أفضل منه لكرامتي عليه؛ وهو معنى قوله {لأجدن خيرا منها منقلبا{ وإنما قال ذلك لما دعاه أخوه إلى الإيمان بالحشر والنشر. وفي مصاحف مكة والمدينة والشام {منهما{. وفي مصاحف أهل البصرة والكوفة {منها{ على التوحيد، والتثنية أولى؛ لأن الضمير أقرب إلى الجنتين.
الآية رقم ( 37 : 38 )
{قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا، لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا}
قوله تعالى{قال له صاحبه وهو يحاوره{ يهوذا أو تمليخا؛ على الخلاف في اسمه. {أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا{ وعظه وبين له أن ما اعترف به من هذه الأشياء التي لا ينكرها أحد أبدع من الإعادة. و{سواك رجلا{ أي جعلك معتدل القامة والخلق، صحيح الأعضاء ذكرا. {لكنا هو الله ربي{ كذا قرأه أبو عبدالرحمن السلمي وأبو العالية. وروي عن الكسائي {لكن هو الله{ بمعنى لكن الأمر هو الله ربي، فأضمر اسمها فيها. وقرأ الباقون {لكنا{ بإثبات الألف. قال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، تقديره: لكن الله هو ربي أنا، فحذفت الهمزة من {أنا{ طلبا للخفة لكثرة الاستعمال وأدغمت إحدى النونين في الأخرى وحذفت ألف {أنا{ في الوصل وأثبتت في الوقف. وقال النحاس: مذهب الكسائي والفراء والمازني أن الأصل لكن أنا فألقيت حركة الهمزة على نون لكن وحذفت الهمزة وأدغمت النون في النون فالوقف عليها لكنا وهي ألف أنا لبيان الحركة. وقال أبو عبيدة: الأصل لكن أنا، فحذفت الألف فالتقت نونان فجاء بالتشديد لذلك، وأنشدنا الكسائي:
لهنك من عبسية لوسيمة على هنوات كاذب من يقولها
أراد: لله إنك، فأسقط إحدى اللامين من {لله{ وحذف الألف من إنك. وقال آخر فجاء به على الأصل:
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكن إياك لا أقلي
أي لكن أنا. وقال أبو حاتم: ورووا عن عاصم {لكنا هو الله ربي{ وزعم أن هذا لحن، يعني إثبات الألف في الإدراج. قال الزجاج: إثبات الألف في {لكنا هو الله ربي{ في الإدراج جيد؛ لأنه قد حذفت الألف من أنا فجاؤوا بها عوضا. قال: وفي قراءة أبي {لكن أنا هو الله ربي{. وقرأ ابن عامر والمسيلي عن نافع ورويس عن يعقوب {لكنا{ في حال الوقف والوصل معا بإثبات الألف. وقال الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميدا قد تذريت السناما
وقال الأعشى:
فكيف أنا وانتحال القوافي بعد المشيب كفى ذاك عارا
ولا خلاف في إثباتها في الوقف. {هو الله ربي{ {هو{ ضمير القصة والشأن والأمر؛ كقوله {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا}الأنبياء: 97] وقوله{قل هو الله أحد}الإخلاص: 1]. {ولا أشرك بربي أحدا{ دل مفهومه على أن الأخ الآخر كان مشركا بالله تعالى يعبد غيره. ويحتمل أنه أراد لا أرى الغني والفقر إلا منه، واعلم أنه لو أراد أن يسلب صاحب الدنيا دنياه قدر عليه؛ وهو الذي آتاني الفقر. ويحتمل أنه أراد جحودك البعث مصيره إلى أن الله تعالى لا يقدر عليه، وهو تعجيز الرب سبحانه وتعالى، ومن عجزه سبحانه وتعالى شبهه بخلقه؛ فهو إشراك.
الآية رقم ( 39 : 41 )
{ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا، فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا، أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا}
قوله تعالى{ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله{ أي بالقلب، وهو توبيخ ووصية من المؤمن للكافر ورد عليه، إذ قال {ما أظن أن تبيد هذه أبدا}الكهف: 35] و{ما{ في موضع رفع، تقديره: هذه الجنة هي ما شاء الله. وقال الزجاج والفراء: الأمر ما شاء الله، أو هو ما شاء الله؛ أي الأمر مشيئة الله تعالى. وقيل: الجواب مضمر، أي ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون. {لا قوة إلا بالله{ أي ما اجتمع لك من المال فهو بقدرة الله تعالى وقوته لا بقدرتك وقوتك، ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع.
قال أشهب قال مالك: ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا. وقال ابن وهب وقال لي حفص بن ميسرة: رأيت على باب وهب بن منبه مكتوبا {ما شاء الله لا قوة إلا بالله{. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي هريرة: (ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة - أو قال كنز من كنوز الجنة) قلت: بلى يا رسول الله، قال (لا حول ولا قوة إلا بالله إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى. وفيه: فقال (يا أبا موسى أو يا عبدالله بن قيس ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة - في رواية على كنز من كنوز الجنة - ) قلت: ما هي يا رسول الله، قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله). وعنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال كنز من كنوز الجنة) قلت: بلى؛ فقال (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم). وروي أنه من دخل منزل أو خرج منه فقال: باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله تنافرت عنه الشياطين من بين يديه وأنزل الله تعالى عليه البركات. وقالت عائشة: إذا خرج الرجل من منزله فقال باسم الله قال الملك هديت، وإذا قال ما شاء الله قال الملك كفيت، وإذا قال لا قوة إلا بالله قال الملك وقيت. خرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال - يعني إذا خرج من بيته - باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان) هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. خرجه أبو داود أيضا وزاد فيه - فقال له: (هديت وكفيت ووقيت). وأخرجه ابن ماجة من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج الرجل من باب بيته أو باب داره كان معه ملكان موكلان به فإذا قال باسم الله قالا هديت وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله قالا وقيت وإذا قال توكلت على الله قالا كفيت قال فيلقاه قريناه فيقولان ماذا تريدان من رجل قد هدي ووقي وكفي). وقال الحاكم أبو عبدالله في علوم الحديث: سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار فقالت هذه - يعني الجنة - يدخلني الضعفاء) من الضعيف؟ قال: الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة. وقال أنس بن مالك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره عين). وقد قال قوم: ما من أحد قال ما شاء الله كان فأصابه شيء إلا رضي به. وروي أن من قال أربعا أمن من أربع: من قال هذه أمن من العين، ومن قال حسبنا الله ونعم الوكيل أمن من كيد الشيطان، ومن قال وأفوض أمري إلى الله أمن مكر الناس، ومن قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أمن من الغم.
قوله تعالى{إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا{ {إن{ شرط {ترن{ مجزوم به، والجواب {فعسى ربي{ و{أنا{ فاصلة لا موضع لها من الإعراب. ويجوز أن تكون في موضع نصب توكيدا للنون والياء. وقرأ عيسى بن عمر {إن ترن أنا أقل منك{ بالرفع؛ يجعل {أنا{ مبتدأ و{أقل{ خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني، والمفعول الأول النون والياء؛ إلا أن الياء حذفت لأن الكسرة تدل عليها، وإثباتها جيد بالغ وهو الأصل لأنها الاسم على الحقيقة. و{فعسى{ بمعنى لعل أي فلعل ربي. {أن يؤتيني خيرا من جنتك{ أي في الآخرة. وقيل في الدنيا. {ويرسل عليها{ أي على جنتك. {حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا{ أي مرامي من السماء، وأحدها حسبانة؛ قاله الأخفش والقتبي وأبو عبيدة. وقال ابن الأعرابي: والحسبانة السحابة، والحسبانة الوسادة، والحسبانة الصاعقة. وقال الجوهري: والحسبان (بالضم): العذاب. وقال أبو زياد الكلابي: أصاب الأرض حسبان أي جراد. والحسبان أيضا الحساب، قال الله تعالى{الشمس والقمر بحسبان}الرحمن: 5]. وقد فسر الحسبان هنا بهذا. قال الزجاج: الحسبان من الحساب؛ أي يرسل عليها عذاب الحساب، وهو حساب ما اكتسبت يداك؛ فهو من باب حذف المضاف. والحسبان أيضا: سهام قصار يرمى بها في طلق واحد، وكان من رمي الأكاسرة. والمرامي من السماء عذاب. {فتصبح صعيدا زلقا{ يعني أرضا بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم، وهي أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض؛ و{زلقا{ تأكيد لوصف الصعيد؛ أي وتزل عنها الأقدام لملاستها. يقال: مكان زلق (بالتحريك) أي دحض، وهو في الأصل مصدر قولك: زلقت رجله تزلق زلقا، وأزلقها غيره. والزلق أيضا عجز الدابة. قال رؤبة:
كأنها حقباء بلقاء الزلق
والمزلقة والمزلقة: الموضع الذي لا يثبت عليه قدم. وكذلك الزلاقة. والزلق الحلق، زلق رأسه يزلقه زلقا حلقه؛ قال الجوهري. والزلق المحلوق، كالنقض والنقض. وليس المراد أنها تصير مزلقة، بل المراد أنها لا يبقى فيها نبات كالرأس إذا حلق لا يبقى عليه شعر؛ قاله القشيري. {أو يصبح ماؤها غورا{ أي غائرا ذاهبا، فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كانت أوجد أرض للماء. والغور مصدر وضع موضع الاسم؛ كما يقال: رجل صوم وفطر وعدل ورضا وفضل وزور ونساء نوح؛ ويستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع. قال عمرو بن كلثوم:
تظل جياده نوحا عليه مقلدة أعنتها صفونا
آخر:
هريقي من دموعهما سجاما ضباع وجاوبي نوحا قياما
أي نائحات. وقيل: أو يصبح ماؤها ذا غور؛ فحذف المضاف؛ مثل {واسأل القرية}يوسف: 82] ذكره النحاس. وقال الكسائي: ماء غور. وقد غار الماء يغور غورا وغوورا، أي سفل في الأرض، ويجوز الهمزة لانضمام الواو. وغارت عينه تغور غورا وغوورا؛ دخلت في الرأس. وغارت تغار لغة فيه. وقال:
أغارت عينه أم لم تغارا
وغارت الشمس تغور غيارا، أي غربت. قال أبو ذؤيب:
هل الدهر إلا ليلة ونهارها وإلا طلوع الشمس ثم غيارها
{فلن تستطيع له طلبا{ أي لن تستطيع رد الماء الغائر، ولا تقدر عليه بحيلة. وقيل: فلن تستطيع طلب غيره بدلا منه. وإلى هذا الحديث انتهت مناظرة أخيه وإنذاره.
الآية رقم ( 42 )
{وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا}
قوله تعالى{وأحيط بثمره{ اسم ما لم يسم فاعله مضمر، وهو المصدر. ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع. ومعنى {أحيط بثمره{ أي أهلك ماله كله. وهذا أول ما حقق الله تعالى به إنذار أخيه. {فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها{ أي فأصبح الكافر يضرب إحدى يديه على الأخرى ندما؛ لأن هذا يصدر من النادم. وقيل: يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق؛ وهذا لأن الملك قد يعبر عنه باليد، من قولهم: في يده مال، أي في ملكه مال. ودل قوله {فأصبح{ على أن هذا الإهلاك جرى بالليل؛ كقوله {فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون. فأصبحت كالصريم}القلم: 19] ويقال: أنفقت في هذه الدار كذا وأنفقت عليها. {وهي خاوية على عروشها{ أي خالية قد سقط بعضها على بعض؛ مأخوذ من خوت النجوم تخوى خيا أمحلت، وذلك إذا سقطت ولم تمطر في نوئها. وأخوت مثله. وخوت الدار خواء أقوت، وكذلك إذا سقطت؛ ومنه قوله تعالى{فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا}النمل: 52] ويقال ساقطة؛ كما يقال فهي خاوية على عروشها أي ساقطة على سقوفها؛ فجمع عليه بين هلاك الثمر والأصل، وهذا من أعظم الجوانح، مقابلة على بغية. {ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا{ أي يا ليتني عرفت نعم الله علي، وعرفت أنها كانت بقدرة الله ولم أكفر به. وهذا ندم منه حين لا ينفعه الندم.
الآية رقم ( 43 )
{ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا}
قوله تعالى{ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله{ {فئة{ اسم {تكن{ و{له{ الخبر. {ينصرونه{ في موضع الصفة، أي فئة ناصرة. ويجوز أن يكون {ينصرونه{ الخبر. والوجه الأول عند سيبويه أولى لأنه قد تقدم {له{. وأبو العباس يخالفه، ويحتج بقول الله عز وجل {ولم يكن له كفوا أحد}الإخلاص: 4]. وقد أجاز سيبويه الآخر. و{ينصرونه{ على معنى فئة؛ لأن معناها أقوام، ولو كان على اللفظ لقال ولم تكن له فئة تنصره؛ أي فرقة وجماعة يلتجئ إليهم.
قوله تعالى{وما كان منتصرا{ أي ممتنعا؛ قاله قتادة. وقيل: مستردا بدل ما ذهب منه. وقد تقدم اشتقاق الفئة في {آل عمران{. والهاء عوض من الياء التي نقصت من وسطه، أصله فيء مثل فيع؛ لأنه من فاء، ويجمع على فئون وفئات، مثل شيات ولدات ومئات. أي لم تكن له عشيرة يمنعونه من عذاب الله، وضل عنه من افتخر بهم من الخدم والولد.
الآية رقم ( 44 )
{هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا}
قوله تعالى{هنالك الولاية لله الحق{ اختلف في العامل في قوله {هنالك{ وهو ظرف؛ فقيل: العامل فيه {ولم تكن له فئة{ ولا كان هنالك؛ أي ما نصر ولا انتصر هنالك، أي لما أصابه من العذاب. وقيل: تم الكلام عند قوله {منتصرا{. والعامل في قوله {هنالك{{الولاية{. وتقديره على التقديم والتأخير: الولاية لله الحق هنالك، أي في القيامة. وقرأ أبو عمرو والكسائي {الحق{ بالرفع نعتا للولاية. وقرأ أهل المدينة وحمزة {الحق{ بالخفض نعتا لله عز وجل، والتقدير: لله ذي الحق. قال الزجاج: ويجوز {الحق{ بالنصب على المصدر والتوكيد؛ كما تقول: هذا لك حقا. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي {الولاية{ بكسر الواو، الباقون بفتحها، وهما بمعنى واحد كالرضاعة والرضاعة. وقيل: الولاية بالفتح من الموالاة؛ كقوله {الله ولي الذين آمنوا}البقرة: 257]. {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا}محمد: 11]. وبالكسر يعني السلطان والقدرة والإمارة؛ كقوله {والأمر يومئذ لله}الانفطار: 19] أي له الملك والحكم يومئذ، أي لا يرد أمره إلى أحد؛ والملك في كل وقت لله ولكن تزول الدعاوي والتوهمات يوم القيامة. وقال أبو عبيد: إنها بفتح الواو للخالق، وبكسرها للمخلوق. {هو خير ثوابا{ أي الله خير ثوابا في الدنيا والآخرة لمن آمن به، وليس ثم غير يرجى منه، ولكنه أراد في ظن الجهال؛ أي هو خير من يرجى. {وخير عقبا{ قرأ عاصم والأعمش وحمزة ويحيى {عقبا{ ساكنة القاف، الباقون بضمها، وهما بمعنى واحد؛ أي هو خير عافية لمن رجاه وآمن به. يقال: هذا عاقبة أمر فلان وعقباه وعقبه، أي آخره.
الآية رقم ( 45 )
{واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا}
قوله تعالى{واضرب لهم مثل الحياة الدنيا{ أي صف لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقواء المؤمنين مثل الحياة الدنيا، أي شبهها. {كماء أنزلناه من السماء فاختلط به{ أي بالماء. {نبات الأرض{ حتى استوى. وقيل: إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء؛ لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر. وقد تقدم هذا المعنى في {يونس{ مبينا. وقالت الحكماء: إنما شبه تعالى الدنيا بالماء لأن الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا، ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل: يا رسول الله، إني أريد أن أكون من الفائزين؛ قال: (ذر الدنيا وخذ منها كالماء الراكد فإن القليل منها يكفي والكثير منها يطغي). وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أتاه). {فأصبح{ أي النبات {هشيما{ أي متكسرا من اليبس متفتتا، يعني بانقطاع الماء عنه، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه. والهشم: كسر الشيء اليابس. والهشيم من النبات اليابس المتكسر، والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف يشاء. ومنه قولهم: ما فلان إلا هشيمة كرم؛ إذا كان سمحا. ورجل هشيم: ضعيف البدن. وتهشم عليه فلان إذا تعطف. واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه. ويقال: هشم الثريد؛ ومنه سمي هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو، وفيه يقول عبدالله بن الزبعرى:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
وكان سبب ذلك أن قريشا أصابتهم سنون ذهبن بالأموال فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز له، فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة، وهشم ذلك الخبز، يعني كسره وثرده، ونحر تلك الإبل، ثم أمر الطهاة فطبخوا، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة؛ فكان ذلك أول الحباء بعد السنة التي أصابتهم؛ فسمي بذلك هاشما. {تذروه الرياح{ أي تفرقه؛ قاله أبو عبيدة. ابن قتيبة: تنسفه. ابن كيسان: تذهب به وتجيء. ابن عباس: تديره؛ والمعنى متقارب. وقرأ طلحة بن مصرف {تذريه الريح{. قال الكسائي: وفي قراءة عبدالله {تذريه{. يقال: ذرته الريح تذروه ذروا و[تذريه] ذريا وأذريه تذريه إذراء إذا طارت به. وحكى الفراء: أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته. وأنشد سيبويه والفراء:
فقلت له صوب ولا تجهدنه فيذرك من أخرى القطاة فتزلق
قوله تعالى{وكان الله على كل شيء مقتدرا{ من الإنشاء والإفناء والإحياء، سبحانه.
الآية رقم ( 46 )
{المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا}
قوله تعالى{المال والبنون زينة الحياة الدنيا{ ويجوز {زينتا{ وهو خبر الابتداء في التثنية والإفراد. وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لأن في المال جمالا ونفعا، وفي البنين قوة ودفعا، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين؛ لأن المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة فلا تتبعوها نفوسكم. وهو رد على عيينة بن حصن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى، كالهشيم حين ذرته الريح؛ إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعدد الآخرة. وكان يقال: لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب، ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدا مع غيرك، ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغدا لغيرك. ويكفي قي هذا قول الله تعالى{إنما أموالكم وأولادكم فتنة}التغابن: 15]. وقال تعالى{إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم}التغابن: 14].
قوله تعالى{والباقيات الصالحات{ أي ما يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين من الطاعات {خير عند ربك ثوابا{ أي أفضل {وخير أملا{ أي أفضل أملا من ذي المال والبنين دون عمل صالح، وليس في زينة الدنيا خير، ولكنه خرج مخرج قوله {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا}الفرقان: 24]. وقيل: خير في التحقيق مما يظنه الجهال أنه خير في ظنهم.
واختلف العلماء في {الباقيات الصالحات{؛ فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة وعمرو ابن شرحبيل: هي الصلوات الخمس. وعن ابن عباس أيضا: أنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة. وقاله ابن زيد ورجحه الطبري. وهو الصحيح إن شاء الله؛ لأن كل ما بقي ثوابه جاز أن يقال له هذا. وقال علي رضي الله عنه: الحرث حرثان فحرث الدنيا المال والبنون؛ وحرث الآخرة الباقيات الصالحات، وقد يجمعهن الله تعالى لأقوام. وقال الجمهور: هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. خرجه مالك في موطئه عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في الباقيات الصالحات: إنها قول العبد: الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. أسنده النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (استكثروا من الباقيات الصالحات) قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: (التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله). صححه أبو محمد عبدالحق رحمه الله. وروى قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ غصنا فخرطه حتى سقط ورقه وقال: (إن المسلم إذا قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تحاتت خطاياه كما تحات هذا خذهن إليك أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن فإنهن من كنوز الجنة وصفايا الكلام وهن الباقيات الصالحات). ذكره الثعلبي، وخرجه ابن ماجة بمعناه من حديث أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنهن يعني يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها). وأخرجه الترمذي من حديث الأعمش عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشجرة يابسة الورقة فضربها بعصاه فتناثر الورق فقال: (إن الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر لتساقط من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة). قال: هذا حديث غريب ولا نعرف للأعمش سماعا من أنس، إلا أنه قد رآه ونظر إليه. وخرج الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام واخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) قال: حديث حسن غريب، خرجه الماوردي بمعناه. وفيه - فقلت: ما غراس الجنة؟ قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله). وخرج ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به وهو يغرس غرسا فقال: (يا أبا هريرة ما الذي تغرس) قلت غراسا. قال: (ألا أدلك على غراس خير من هذا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة). وقد قيل: إن الباقيات الصالحات هي النيات والهمات؛ لأن بها تقبل الأعمال وترفع؛ قال الحسن. وقال عبيد بن عمير: هن البنات؛ يدل عليه أوائل، الآية؛ قال الله تعالى{المال والبنون زينة الحياة الدنيا{ ثم قال {والباقيات الصالحات{ يعني البنات الصالحات هن عند الله لآبائهن خير ثوابا، وخير أملا في الآخرة لمن أحسن إليهن. يدل عليه ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي امرأة مسكينة.. الحديث، وقد ذكرناه في سورة النحل في قوله {يتوارى من القوم}النحل: 59] الآية. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقد رأيت رجلا من أمتي أمر به إلى النار فتعلق به بناته وجعلن يصرخن ويقلن رب إنه كان يحسن إلينا في الدنيا فرحمه الله بهن). وقال قتادة في قوله تعالى{فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما}الكهف: 81] قال: أبدلهما منه ابنة فتزوجها نبي فولدت له اثني عشر غلاما كلهم أنبياء.
الآية رقم ( 47 )
{ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا}
قوله تعالى{ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة{ قال بعض النحويين: التقدير والباقيات الصالحات خير عند ربك يوم نسير الجبال. قال النحاس: وهذا غلط من أجل الواو وقيل: المعنى واذكر يوم نسير الجبال، أي نزيلها من أماكنها من على وجه الأرض، ونسيرها كما نسير السحاب؛ كما قال في آية أخرى {وهي تمر مر السحاب}النمل: 88]. ثم تكسر فتعود إلى الأرض؛ كما قال{وبست الجبال بسا. فكانت هباء منبثا}الواقعة: 6]. وقرأ ابن كثير والحسن وأبو عمرو وابن عامر {ويوم تسير{ بتاء مضمومة وفتح الياء. و{الجبال{ رفعا على الفعل المجهول. وقرأ ابن محيصن ومجاهد {ويوم تسير الجبال{ بفتح التاء مخففا من سار. {الجبال{ رفعا. دليل قراءة أبي عمرو {وإذا الجبال سيرت{. ودليل قراءة ابن محيصن {وتسير الجبال سيرا{. واختار أبو عبيد القراءة الأولى {نسير{ بالنون لقوله {وحشرناهم{. ومعنى {بارزة{ ظاهرة، وليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان؛ أي قد اجتثت ثمارها وقلعت جبالها، وهدم بنيانها؛ فهي بارزة ظاهرة. وعلى هذا القول أهل التفسير. وقيل{وترى الأرض بارزة{ أي برز ما فيها من الكنوز والأموات؛ كما قال {وألقت ما فيها وتخلت}الانشقاق: 4] وقال {وأخرجت الأرض أثقالها}الزلزلة: 2] وهذا قول عطاء. {وحشرناهم{ أي إلى الموقف. {فلم نغادر منهم أحدا{ أي لم نترك؛ يقال: غادرت كذا أي تركته. قال عنترة:
غادرته متعفرا أوصاله والقوم بين مجرح ومجدل
أي تركته. والمغادرة الترك؛ ومنه الغدر؛ لأنه ترك الوفاء. وإنما سمى الغديرا لأن الماء ذهب وتركه. ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها. يقول: حشرنا برهم وفاجرهم وجنهم وإنسهم.
الآية رقم ( 48 )
{وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا}
قوله تعالى{وعرضوا على ربك صفا{ {صفا{ نصب على الحال. قال مقاتل: يعرضون صفا بعد صف كالصفوف في الصلاة، كل أمة وزمرة صفا؛ لا أنهم صف واحد. وقيل جميعا؛ كقوله {ثم ائتوا صفا}طه: 64] أي جميعا. وقيل قياما. وخرج الحافظ أبو القاسم عبدالرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون أحضروا حجتكم ويسروا جوابا فإنكم مسؤولون محاسبون. يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب).
قلت: هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية، ولم يذكره كثير من المفسرين، وقد كتبناه في كتاب التذكرة، ومنه نقلناه والحمد لله.
قوله تعالى{لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة{ أي يقال لهم: لقد جئتمونا حفاة عراة، لا مال معكم ولا ولدا وقيل فرادى؛ دليله قوله {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة}الأنعام: 94]. وقد تقدم. وقال الزجاج: أي بعثناكم كما خلقناكم. {بل زعمتم{ هذا خطاب لمنكري البعث أي زعمتم في الدنيا أن لن تبعثوا وأن لن نجعل لكم موعدا للبعث. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا) قلت: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: (يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض). {غرلا{ أي غير مختونين. وقد تقدم في {الأنعام{ بيانه.
الآية رقم ( 49 )
{ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا}
قوله تعالى{ووضع الكتاب{ {الكتاب{ اسم جنس، وفيه وجهان: أحدهما: أنها كتب الأعمال في أيدي العباد؛ قاله مقاتل. الثاني: أنه وضع الحساب؛ قاله الكلبي، فعبر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة. والقول الأول أظهر؛ ذكره ابن المبارك قال: أخبرنا الحكم أو أبو الحكم - شك نعيم - عن إسماعيل بن عبدالرحمن عن رجل من بني أسد قال قال عمر لكعب: ويحك يا كعب حدثنا من حديث الآخرة؛ قال: نعم يا أمير المؤمنين إذا كان يوم القيامة رفع اللوح المحفوظ فلم يبق أحد من الخلائق إلا وهو ينظر إلى عمله - قال - ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنثر حول العرش، وذلك قوله تعالى{ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها - قال الأسدي: الصغيرة ما دون الشرك؛ والكبيرة الشرك، إلا أحصاها - قال كعب؛ ثم يدعى المؤمن فيعطى كتابه بيمينه فينظر فيه فإذا حسناته باديات للناس وهو يقرأ سيئاته لكيلا يقول كانت لي حسنات فلم تذكر فأحب الله أن يريه عمله كله حتى إذا استنقص ما في الكتاب وجد في آخر ذلك كله أنه مغفور وأنك من أهل الجنة؛ فعند ذلك يقبل إلى أصحابه ثم يقول {هاؤم اقرؤوا كتابيه. إني ظننت أني ملاق حسابيه}الحاقة: 19] ثم يدعي بالكافر فيعطى كتابه بشماله ثم يلف فيجعل من وراء ظهره ويلوي عنقه؛ فذلك قوله {وأما من أوتي كتابه وراء ظهره}الانشقاق: 10] فينظر في كتابه فإذا سيئاته باديات للناس وينظر في حسناته لكيلا يقول أفأثاب على السيئات. وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول: يا ويلتاه ضجوا إلى الله تعالى من الصغائر قبل الكبائر. قال ابن عباس: الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك؛ يعني ما كان من ذلك في معصية الله عز وجل؛ ذكره الثعلبي. وحكى الماوردي عن ابن عباس أن الصغيرة الضحك.
قلت فيحتمل أن يكون صغيرة إذا لم يكن في معصية، فإن الضحك من المعصية رضا بها والرضا بالمعصية معصية، وعلى هذا تكون كبيرة، فيكون وجه الجمع هذا والله اعلم. أو يحمل الضحك فيما ذكر الماوردي على التبسم، وقد قال تعالى{فتبسم ضاحكا من قولها}النمل: 19]. وقال سعيد بن جبير: إن الصغائر اللمم كالمسيس والقبل، والكبيرة المواقعة والزنى. وقد مضى في {النساء{ بيان هذا. قال قتادة: اشتكى القوم الإحصاء وما اشتكى أحد ظلما، فإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه. وقد مضى. ومعنى {أحصاها{ عدها وأحاط بها؛ وأضيف الإحصاء إلى الكتاب توسعا. {ووجدوا ما عملوا حاضرا{ أي وجدوا إحصاء ما عملوا حاضرا وقيل: وجدوا جزاء ما عملوا حاضرا. {ولا يظلم ربك أحدا{ أي لا يأخذ أحدا بجرم أحد، ولا يأخذوه بما لم يعمله؛ قال الضحاك. وقيل: لا ينقص طائعا من ثوابه ولا يزيد عاصيا في عقابه.
الآية رقم ( 50 )
{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا}
قوله تعالى{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه{ تقدم. قال أبو جعفر النحاس: وفي هذه الآية سؤال، يقال: ما معنى {ففسق عن أمر ربه{ ففي هذا قولان: أحدهما: وهو مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى أتاه الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب الفسق أمر ربه؛ كما تقول: أطعمته عن جوع. والقول الآخر: وهو مذهب محمد بن قطرب أن المعنى: ففسق عن رد أمر ربه {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو{ وقف عز وجل الكفرة على جهة التوبيخ بقوله أفتتخذونه يا بني آدم وذريته أولياء وهم لكم عدو؛ أي أعداء، فهو اسم جنس. {بئس للظالمين بدلا{ أي بئس عبادة الشيطان بدلا عن عبادة الله. أو بئس إبليس بدلا عن الله. واختلف هل لإبليس ذرية من صلبه؛ فقال الشعبي: سألني رجل فقال هل إبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك عرس لم أشهده، ثم ذكرت قوله {أفتتخذونه وذريته أولياء{ فعلمت أنه لا يكون ذرية إلا من زوجة فقلت نعم. وقال مجاهد: إن إبليس أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات؛ فهذا أصل ذريته. وقيل: إن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرا وفي اليسرى فرجا؛ فهو ينكح هذا بهذا، فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة، فهو يخرج وهو يطير، وأعظمهم عند أبيهم منزلة أعظمهم في بني آدم فتنة، وقال قوم: ليس له أولاد ولا ذرية، وذريته أعوانه من الشياطين. قال القشيري أبو نصر: والجملة أن الله تعالى أخبر أن لإبليس اتباعا وذرية، وأنهم يوسوسون إلى بني آدم وهم أعداؤهم، ولا يثبت عندنا كيفية في كيفية التوالد منهم وحدوث الذرية عن إبليس، فيتوقف الأمر فيه على نقل صحيح.
قلت: الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبي بكر البرقاني أنه خرج في كتابه مسندا عن أبي محمد عبدالغني بن سعيد الحافظ من رواية عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ). وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه، والله اعلم. قال ابن عطية: وقول {وذريته{ ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين، الذين يأتون بالمنكر ويحملون على الباطل. وذكر الطبري وغيره أن مجاهدا قال: ذرية إبليس الشياطين، وكان يعدهم: زلنبور صاحب الأسواق، يضع رايته في كل سوق بين السماء والأرض، يجعل تلك الراية على حانوت أول من يفتح وآخر من يغلق. وثبر صاحب المصائب، يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب، والدعاء بالويل والحرب. والأعور صاحب أبواب الزنى. ومسوط صاحب الأخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلا. وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع وما لم يحسن موضعه، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه. قال الأعمش: وإني ربما دخلت البيت فلم أذكر الله ولم أسلم، فرأيت مطهرة فقلت: ارفعوا هذه وخاصمتهم، ثم أذكر فأقول: داسم داسم أعوذ بالله منه زاد الثعلبي وغيره عن مجاهد: والأبيض، وهو الذي يوسوس للأنبياء. وصخر وهو الذي اختلس خاتم سليمان عليه السلام. والولهان وهو صاحب الطهارة يوسوس فيها. والأقيس وهو صاحب الصلاة يوسوس فيها. ومرة وهو صاحب المزامير وبه يكنى. والهفاف يكون بالصحارى يضل الناس ويتيههم. ومنهم الغيلان. وحكى أبو مطيع مكحول بن الفضل النسفي في كتاب اللؤلئيات عن مجاهد أن الهفاف هو صاحب الشراب، ولقوس صاحب التحريش، والأعور صاحب أبواب السلطان. قال وقال الداراني: إن لإبليس شيطانا يقال له المتقاضي، يتقاضى ابن آدم فيخبر بعمل كان عمله في السر منذ عشرين سنة، فيحدث به في العلانية. قال ابن عطية: وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح، وقد طول النقاش في هذا المعنى وجلب حكايات تبعد عن الصحة، ولم يمر بي في هذا صحيح إلا ما في كتاب مسلم من أن للصلاة شيطانا يسمى خنزب. وذكر الترمذي أن للوضوء شيطانا يسمى الولهان.
قلت: أما ما ذكر من التعيين في الاسم فصحيح؛ وأما أن له اتباعا وأعوانا وجنودا فمقطوع به، وقد ذكرنا الحديث الصحيح في أن له أولادا من صلبه، كما قال مجاهد وغيره. وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود: إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون فيقول الرجل منهم سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث. وفي مسند البزار عن سلمان الفارسي قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته). وفي مسند أحمد بن حنبل قال: أنبأنا عبدالله بن المبارك قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي عن أبي موسى الأشعري قال: إذا أصبح إبليس بث جنوده فيقول من أضل مسلما ألبسته التاج قال فيقول له القائل لم أزل بفلان حتى طلق زوجته، قال: يوشك أن يتزوج. ويقول آخر: لم أزل بفلان حتى عق؛ قال: يوشك أن يبر. فال ويقول القائل: لم أزل بفلان حتى شرب؛ قال: أنت قال ويقول: لم أزل بفلان حتى زنى؛ قال: أنت قال ويقول: لم أزل بفلان حتى فتل؛ قال: أنت أنت وفي صحيح مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا قال ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال فيدنيه أو قال فيلتزمه ويقول نعم أنت). وقد تقدم وسمعت شيخنا الإمام أبا محمد عبدالمعطي بثغر الإسكندرية يقول: إن شيطانا يقال له البيضاوي يتمثل للفقراء المواصلين في الصيام فإذا استحكم منهم الجوع وأضر بأدمغتهم يكشف لهم عن ضياء ونور حتى يملأ عليهم البيوت فيظنون أنهم قد وصلوا وأن ذلك من الله وليس كما ظنوا.
الآية رقم ( 51 )
{ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا}
قوله تعالى{ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم{ قيل: الضمير عائد على إبليس وذريته؛ أي لم أشاورهم في خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم، بل خلقتهم على ما أردت. وقيل: ما أشهدت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض {ولا خلق أنفسهم{ أي أنفس المشركين فكيف اتخذوهم أولياء من دوني؟. وقيل: الكناية في قوله{ما أشهدتهم{ ترجع إلى المشركين، وإلى الناس بالجملة، فتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين من الأطباء وسواهم من كل من ينخرط في هذه الأشياء. وقال ابن عطية: وسمعت أبي رضي الله عنه يقول سمعت الفقيه أبا عبدالله محمد بن معاذ المهدي بالمهدية يقول: سمعت عبدالحق الصقلي يقول هذا القول، ويتأول هذا التأويل في هذه الآية، وأنها رادة على هذه الطوائف، وذكر هذا بعض الأصوليين. قال ابن عطية وأقول: إن الغرض المقصود أولا بالآية هم إبليس وذريته؛ وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة، وعلى الكهان والعرب والمعظمين للجن؛ حين يقولون: أعوذ بعزيز هذا الوادي؛ إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته وهم أضلوا الجميع، فهم المراد الأول بالمضلين؛ وتندرج هذه الطوائف في معناهم.
قال الثعلبي: وقال بعض أهل العلم {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض{ رد على المنجمين أن قالوا: إن الأفلاك تحدث في الأرض وفي بعضها في بعض، وقوله{والأرض{ رد على أصحاب الهندسة حيث قالوا: إن الأرض كرية والأفلاك تجري تحتها، والناس ملصقون عليها وتحتها، وقوله{ولا خلق أنفسهم{ رد على الطبائعيين حيث زعموا أن الطبائع هي الفاعلة في النفوس. وقرأ أبو جعفر {ما أشهدناهم{ بالنون والألف على التعظيم. الباقون بالتاء بدليل قوله{وما كنت متخذ{ يعني ما استعنتهم على خلق السماوات والأرض ولا شاورتهم. {المضلين{ يعني الشياطين. وقيل: الكفار. {عضدا{ أي أعوانا يقال: اعتضدت بفلان إذا استعنت به وتقويت والأصل فيه عضد اليد، ثم يوضع موضع العون؛ لأن اليد قوامها العضد. يقال: عضده وعاضده على كذا إذا أعانه وأعزه. ومنه قوله{سنشد عضدك بأخيك}القصص: 35] أي سنعينك بأخيك. ولفظ العضد على جهة المثل، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى عون أحد. وخص المضلين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ. وقرأ أبو جعفر الجحدري {وما كنت{ بفتح التاء أي وما كنت يا محمد متخذ المضلين عضدا. وفي عضد ثمانية أوجه{عضدا{ بفتح العين وضم الضاد وهي قراءة الجمهور، وأفصحها. و{عَضْدا{ بفتح العين وإسكان الضاد، وهي لغة بني تميم. و{عُضُدا{ بضم العين والضاد، وهي قراءة أبي عمرو والحسن. و{عُضْدا{ بضم العين وإسكان الضاد، وهي قراءة عكرمة. و{عِضَدا{ بكسر العين وفتح الضاد، وهي قراءة الضحاك. و{عَضَدا{ بفتح العين والضاد وهي قراءة عيسى بن عمر. وحكى هارون القارئ {عَضِدا{ واللغة الثامنة {عِضْدا{ على لغة من قال: كتف وفخذ.
الآية رقم ( 52 )
{ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا}
قوله تعالى{ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم{ أي اذكروا يوم يقول الله: أين شركائي؟ أي ادعوا الذين أشركتموهم بي فليمنعوكم من عذابي. وإنما يقول ذلك لعبدة الأوثان. وقرأ حمزة ويحيى وعيسى بن عمر {نقول{ بنون. الباقون بالياء؛ لقوله{شركائي{ ولم يقل: شركائنا. {فدعوهم{ أي فعلوا ذلك. {فلم يستجيبوا لهم{ أي لم يجيبوهم إلى نصرهم ولم يكفوا عنهم شيئا. {وجعلنا بينهم موبقا{ قال أنس بن مالك:(هو واد في جهنم من قيح ودم). وقال ابن عباس:(أي وجعلنا بين المؤمنين والكافرين حاجزا) وقيل: بين الأوثان وعبدتها، ونحو قوله{فزيلنا بينهم{ قال ابن الأعرابي: كل شيء حاجز بين شيئين موبق، وذكر ابن وهب عن مجاهد في قوله تعالى{موبقا{ قال واد في جهنم يقال له موبق، وكذلك قال نوف البكالي إلا أنه قال: يحجز بينهم وبين المؤمنين. عكرمة: هو نهر في جهنم يسيل نارا على حافتيه حيات مثل البغال الدهم فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا منها بالاقتحام في النار. وروى زيد بن درهم عن أنس بن مالك قال{موبقا{ (واد من قيح ودم في جهنم). وقال عطاء والضحاك: مهلكا في جهنم؛ ومنه يقال: أو بقته ذنوبه إيباقا. وقال أبو عبيدة: موعد للهلاك. الجوهري: وبق يبق وبوقا هلك، والموبق مثل الموعد مفعل من وعد يعد، ومنه قوله تعالى{وجعلنا بينهم موبقا{. وفيه لغة أخرى: وبق يوبق وبقا. وفيه لغة ثالثة: بق يبق بالكسر فيهما، وأوبقه أي أهلكه. وقال زهير:
ومن يشتري حسن الثناء بماله يصن عرضه من كل شنعاء موبق
قال الفراء: جعل تواصلهم في الدنيا مهلكا لهم في الآخرة.
الآية رقم ( 53 )
{ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا}
قوله تعالى{ورأى المجرمون النار{ {رأى{ أصله رأي؛ قلبت الياء ألفا لانفتاحها وانفتاح ما قبلها؛ ولهذا زعم الكوفيون أن {رأى{ يكتب بالياء، وتابعهم على هذا القول بعض البصريين. فأما البصريون الحذاق، منهم محمد بن يزيد فإنهم يكتبونه بالألف. قال النحاس: سمعت علي ابن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: لا يجوز أن يكتب مضى ورمى وكل ما كان من ذوات الياء إلا بالألف، ولا فرق بين ذوات الياء وبين ذوات الواو في الخط، كما أنه لا فرق بينهما في اللفظ، ولو وجب أن يكتب ذوات الياء بالياء لوجب أن يكتب ذوات الواو بالواو، وهم مع هذا يناقضون فيكتبون رمى بالياء رماه بالألف، فإن كانت العلة أنه من ذوات الياء وجب أن يكتبوا رماه بالياء، ثم يكتبون ضحا جمع ضحوة، وكسا جمع كسوة، وهما من ذوات الواو بالياء، وهذا ما لا يحصل ولا يثبت على أصل. {فظنوا أنهم مواقعوها{ {فظنوا {هنا بمعنى اليقين والعلم كما قال:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
أي أيقنوا؛ وقد تقدم. قال ابن عباس:(أيقنوا أنهم مواقعوها) وقيل: رأوها من مكان بعيد فتوهموا أنهم مواقعوها، وظنوا أنها تأخذهم في الحال. وفي الخبر: (إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة). والمواقعة ملابسة الشيء بشدة. وعن علقمة أنه قرأ {فظنوا أنهم ملافوها{ أي مجتمعون فيها، واللفف الجمع. {ولم يجدوا عنها مصرفا{ أي مهربا لإحاطتها بهم من كل جانب. وقال القتبي: معدلا ينصرفون إليه. وقيل: ملجأ يلجؤون إليه، والمعنى واحد. وقيل: ولم تجد الأصنام مصرفا للنار عن المشركين.
الآية رقم ( 54 )
{ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا}
قوله تعالى{ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل{ يحتمل وجهين: أحدهما: ما ذكره لهم من العبر والقرون الخالية. الثاني: ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية وقد تقدم في {سبحان{؛ فهو على الوجه الأول زجر، وعلى الثاني بيان. {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا{ أي جدالا ومجادلة والمراد به النضر بن الحرث وجداله في القرآن وقيل: الآية في أبي بن خلف. وقال الزجاج: أي الكافرون أكثر شيء جدلا؛ والدليل على الكافر قوله {ويجادل الذين كفروا بالباطل{
وروي أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل يوم القيامة من الكفار فيقول الله له ما صنعت فيما أرسلت إليك فيقول رب آمنت بك وصدقت برسلك وعملت بكتابك فيقول الله له هذه صحيفتك ليس فيها من ذلك فيقول يا رب إني لا أقبل ما في هذه الصحيفة فيقال له هذه الملائكة الحفظة يشهدون عليك فيقول يا رب ولا أقبلهم يا رب أقبلهم ولا هم من عندي ولا من جهتي فيقول الله تعالى هذا اللوح المحفوظ أم الكتاب قد شهد بذلك فقال يا رب ألم تجرني من الظلم قال بلى فقال يا رب لا أقبل إلا شاهدا علي من نفسي فيقول الله تعالى الآن نبعث عليك شاهدا من نفسك فيتفكر من الذي يشهد عليه من نفسه فيختم على فيه ثم تنطق جوارحه بالشرك ثم يخلى بينه وبين الكلام فيدخل النار وإن بعضه ليلعن بعضا يقول لأعضائه لعنكم الله فعنكن كنت أناضل فتقول أعضاؤه لعنك الله أفتعلم أن الله تعالى يُكتم حديثا فذلك قوله تعالى{كان الإنسان أكثر شيء جدلا) أخرجه مسلم بمعناه من حديث أنس أيضا. وفي صحيح مسلم عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة فقال: (ألا تصلون؟ فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا؛ فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول{وكان الإنسان أكثر شيء جدلا{)
الآية رقم ( 55 )
{وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا}
قوله تعالى{وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى{ أي القرآن والإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام {ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين{ أي سنتنا في إهلاكهم إي ما منعهم عن الإيمان إلا حكمي عليهم بذلك؛ ولو حكمت عليهم بالإيمان آمنوا. وسنة الأولين عادة الأولين في عذاب الاستئصال. وقيل: المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين فحذف. وسنة الأولين معاينة العذاب، فطلب المشركون ذلك، وقالوا {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك...}الأنفال:32] الآية. {أو يأتيهم العذاب قبلا{ نصب على الحال، ومعناه عيانا قاله ابن عباس. وقال الكلبي: هو السيف يوم بدر. وقال مقاتل: فجأة وقرأ أبو جعفر وعاصم والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي {قبلا{ بضمتين أرادوا به أصناف العذاب كله، جمع قبيل نحو سبيل وسبل. النحاس: ومذهب الفراء أن {قبلا{ جمع قبيل أي متفرقا يتلو بعضه بعضا. ويحوز عنده أن يكون المعنى عيانا. وقال الأعرج: وكانت قراءته {قبلا{ معناه جميعا وقال أبو عمرو: وكانت قراءته {قبلا{ ومعناه عيانا.
{وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا}
قوله تعالى{وما نرسل المرسلين إلا مبشرين{ أي بالجنة لمن آمن {ومنذرين{ أي مخوفين بالعذاب من الكفر. وقد تقدم {ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق{ قيل: نزلت في المقتسمين كانوا يجادلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: ساحر ومجنون وشاعر وكاهن كما تقدم. ومعنى {يدحضوا{ يزيلوا ويبطلوا وأصل الدحض الزلق يقال: دحضت رجله أي زلقت، تدحض دحضا ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت ودحضت حجته دحوضا بطلت، وأدحضها الله والإدحاض الإزلاق. وفي وصف الصراط: (ويضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة فيقولون اللهم سلم قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: دحض مزلقة أي تزلق فيه القدم) قال طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض
{واتخذوا آياتي{ يعني القرآن {وما أنذروا{ و{ما{ بمعنى المصدر أي والإنذار وقيل: بمعنى الذي؛ أي اتخذوا القرآن والذي أنذروا به من الوعيد هزوا أي لعبا وباطلا؛ {هزوا{ أي اتخذوا القرآن والذي أنذروا به من الوعيد هزوا أي لعبا وباطلا؛ وقد تقدم في {البقرة{ بيانه. وقيل: هو قول أبي جهل في الزبد والتمر هذا هو الزقوم وقيل: هو قولهم في القرآن هو سحر وأضغاث أحلام وأساطير الأولين، وقالوا للرسول{هل هذا إلا بشر مثلكم}الأنبياء: 3] {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القرنين عظيم}الزخرف: 31] و{ماذا أراد الله بهذا مثلا}المدثر: 31].
الآية رقم ( 57 )
{ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا}
قوله تعالى{ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها{ أي لا أحد أظلم لنفسه ممن، وعظ بآيات ربه، فتهاون بها وأعرض عن قبولها. {ونسي ما قدمت يداه{ أي ترك كفره ومعاصيه فلم يتب منها، فالنسيان هنا بمعنى الترك قيل: المعنى نسي ما قدم لنقسه وحصل من العذاب؛ والمعنى متقارب. {إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا{ بسبب كفرهم؛ أي نحن منعنا الإيمان من أن يدخل قلوبهم وأسماعهم. {وإن تدعهم إلى الهدى{ أي إلى الإيمان. {فلن يهتدوا إذا أبدا{ نزل في قوم معينين، وهو يرد على القدرية قولهم؛ وقد تقدم معنى هذه الآية في {سبحان}الإسراء:1] وغيرها.
الآية رقم ( 58 )
{وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا}
قوله تعالى{وربك الغفور ذو الرحمة{ أي للذنوب. وهذا يختص به أهل الإيمان دون الكفرة بدليل قوله{إن الله لا يغفر أن يشرك{ النساء: 48]. {ذو الرحمة{ فيه أربع تأويلات: أحدها ذو العفو. الثاني ذو الثواب؛ وهو على هذين الوجهين مختص بأهل الإيمان دون الكفر. الثالث ذو النعمة. الرابع ذو الهدى؛ وهو على هذين الوجهين يعم أهل الأيمان والكفر، لأنه ينعم في الدنيا على الكافر، كإنعامه على المؤمن. وقد أوضح هداه للكافر كما أوضحه للمؤمن وإن اهتدى به المؤمن دون الكافر. {لو يؤاخذهم بما كسبوا{ أي من الكفر والمعاصي. {لعجل لهم العذاب{ ولكنه يمهل. {بل لهم موعد{ أي أجل مقدر يؤخرون إليه، نظيره {لكل نبأ مستقر}الأنعام: 67]، {لكل أجل كتاب}الرعد: 38] أي إذا حل لم يتأخر عنهم إما في الدنيا وإما في الآخرة. {لن يجدوا من دونه موئلا{ (أي ملجأ) قاله ابن عباس وابن زيد، وحكاه الجوهري في الصحاح. وقد وأل يئل وألا ووؤولا على فعول أي لجأ؛ وواءل منه على فاعل أي طلب النجاة. وقال مجاهد: محرزا. قتادة: وليا. وأبو عبيدة: منجى. وقيل: محيصا؛ والمعنى واحد والعرب تقول: لا وألت نفسه أي لا نجت؛ منه قول الشاعر:
لا وألت نفسك خليتها للعامريين ولم تكلم
وقال الأعشى:
وقد أخالس رب البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل
أي ما ينجو.
">الآية رقم ( 59 )">
الآية رقم ( 59 )
{وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا}
قوله تعالى{وتلك القرى أهلكناهم{ {تلك{ في موضع رفع بالابتداء. {القرى{ نعت أو بدل. و{أهلكناهم{ في موضع الخبر محمول على المعنى؛ لأن المعنى أهل القرى. ويجوز أن تكون {تلك{ في موضع نصب على قول من قال: زيدا ضربته؛ أي وتلك القرى التي قصصنا عليك نبأهم، نحو قرى عاد وثمود ومدين وقوم لوط أهلكناهم لما ظلموا وكفروا. {وجعلنا لمهلكهم موعدا{ أي وقتا معلوما لم تعده و{مهلك{ من أهلكوا. وقرأ عاصم {مهلكهم{ بفتح الميم واللام وهو مصدر هلك. وأجاز الكسائي والفراء {لمهلكهم{ بكسر اللام وفتح الميم. النحاس: قال الكسائي وهو أحب إلي لأنه من هلك. الزجاج: اسم للزمان والتقدير: لوقت مهلكهم، كما يقال: أتت الناقة على مضربها.
">الآية رقم ( 60 )">
الآية رقم ( 60 )
{وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا}
قوله تعالى{وإذ قال موسى لفتاه{ الجمهور من العلماء وأهل التاريخ أنه موسى بن عمران المذكور في القرآن ليس فيه موسى غيره. وقالت فرقة منها نوف البكالي: إنه ليس ابن عمران وإنما هو موسى بن منشا بن يوسف بن يعقوب وكان نبيا قبل موسى بن عمران. وقد رد هذا القول ابن عباس في صحيح البخاري وغيره. وفتاه: هو يوشع بن نون. وقد مضى ذكره في {المائدة{ وآخر {يوسف{. ومن قال هو ابن منشا فليس الفتى يوشع بن نون. {لا أبرح{ أي لا أزال أسير؛ قال الشاعر:
وأبرح ما أدام الله قومي بحمد الله منتطقا مجيدا
وقيل{لا أبرح{ لا أفارقك. {حتى أبلغ مجمع البحرين{ أي ملتقاهما. قال قتادة: وهو بحر فارس والروم؛ وقال مجاهد. قال ابن عطية: وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام هو مجمع البحرين على هذا القول. وقيل: هما بحر الأردن وبحر القلزم. وقيل: مجمع البحرين عند طنجة؛ قال محمد بن كعب. وروي عن أبي بن كعب أنه بأفريقية. وقال السدي: الكر والرس بأرمينية. وقال بعض أهل العلم: هو بحر الأندلس من البحر المحيط؛ حكاه النقاش؛ وهذا مما يذكر كثيرا. وقالت فرقة: إنما هما موسى والخضر؛ وهذا قول ضعيف؛ وحكي عن ابن عباس، ولا يصح؛ فإن الأمر بين من الأحاديث أنه إنما وسم له بحر ماء.
وسبب هذه القصة ما خرجه الصحيحان عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى يا رب فكيف لي به قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم...) وذكر الحديث، واللفظ للبخاري. وقال ابن عباس:(لما ظهر موسى وقومه على أرض مصر أنزل قومه مصر، فلما استقرت بهم الدار أمره الله أن ذكّرهم بأيام الله، فخطب قومه فذكرهم ما آتاهم الله من الخير والنعمة إذ نجاهم من آل فرعون، وأهلك عدوهم، واستخلفهم في الأرض، ثم قال: وكلم الله نبيكم تكليما، واصطفاه لنفسه، وألقى علي محبة منه، وآتاكم من كل ما سألتموه، فجعلكم أفضل أهل الأرض، ورزقكم العز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والتوراة بعد أن كنتم جهالا؛ فقال له رجل من بني إسرائيل: عرفنا الذي تقول، فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ قال: لا؛ فعتب عليه حين لم يرد العلم إليه، فبعث الله جبريل: أن يا موسى وما يدريك أين أضع علمي؟ بلى إن لي عبدا بمجمع البحرين أعلم منك...) وذكر الحديث. قال علماؤنا: قوله في الحديث (هو أعلم منك) أي بأحكام وقائع مفصلة، وحكم نوازل معينة، لا مطلقا بدليل قول الخضر لموسى:(إنك على علم علمكه الله لا أعلمه أنا، وأنا على علم علمنيه لا تعلميه أنت) وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما أنه أعلم من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه كل واحد منهما ولا يعلمه الآخر، فلما سمع موسى هذا تشوقت نفسه الفاضلة، وهمته العالية، لتحصيل علم ما لم يعلم، وللقاء من قيل فيه: إنه أعلم منك؛ فعزم فسأل سؤال الذليل بكيف السبيل، فأمر بالارتحال على كل حال وقيل له احمل معك حوتا مالحا في مكتل - وهو الزنبيل فحيث يحيا وتفقده فثم السبيل، فانطلق مع فتاه لما واتاه، مجتهدا طلبا قائلا{لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين{. {أو أمضي حقبا{ بضم الحاء والقاف وهو الدهر، والجمع أحقاب. وقد تسكن قافه فيقال حقب. وهو ثمانون سنة. ويقال: أكثر من ذلك. والجمع حقاب والحقبة بكسر الحاء واحدة الحقب وهي السنون.
في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم، وذلك كان في دأب السلف الصالح، وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح، وحصلوا على السعي الناجح، فرسخت لهم في العلوم أقدام، وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام قال. البخاري: ورحل جابر بن عبدالله مسيرة شهر إلى عبدالله بن أنيس في حديث.
قوله تعالى{وإذ قال موسى لفتاة{ للعلماء فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان معه يخدمه، والفتى في كلام العرب الشاب، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانا قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي) فهذا ندب إلى التواضع؛ وقد تقدم هذا في {يوسف{. والفتى في الآية هو الخادم وهو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه السلام. ويقال: هو ابن أخت موسى عليه السلام. وقيل: إنما سمي فتى موسى لأنه لزمه ليتعلم منه وإن كان حرا؛ وهذا معنى الأول. وقيل: إنما سماه فتى لأنه قام مقام الفتى وهو العبد، قال الله تعالى{وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم...}يوسف: 62] وقال{تراود فتاها عن نفسه...{ قال ابن العربي: فظاهر القرآن يقتضي أنه عبد، وفي الحديث:(أنه كان يوشع بن نون) وفي التفسير: أنه ابن أخته، وهذا كله مما لا يقطع به، والتوقف فيه أسلم. {أو أمضي حقبا{ قال عبدالله بن عمر:(والحقب ثمانون سنة) مجاهد: سبعون خريفا. قتادة: زمان، النحاس: الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة زمان من الدهر مبهم غير محدود؛ كما أن رهطا وقوما مبهم غير محدود: وجمعه أحقاب.
">الآية رقم ( 61 )">
الآية رقم ( 61 )
{فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا}
الضمير في قوله{بينهما{ للبحرين؛ قال مجاهد. والسرب المسلك؛ قال مجاهد. وقال قتادة: جمد الماء فصار كالسراب. وجمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغا، وأن موسى مشى عليه متبعا للحوت، حتى أفضى به الطريق إلى جزيرة في البحر، وفيها وجد الخضر. وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر وقوله{نسيا حوتهما{ وإنما كان النسيان من الفتى وحده فقيل: المعنى؛ نسي أن يعلم موسى بما رأى من حال فنسب النسيان إليهما للصحبة، كقوله تعالى{يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان}الرحمن: 22] وإنما يخرج من الملح، وقوله{يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم...{ وإنما الرسل من الإنس لا من الجن وفي البخاري؛(فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلفت كثيرا؛ فذلك قوله عز وجل{وإذ قال موسى لفتاه...{ يوشع بن نون - ليست عن سعيد - قال فبينا هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذ تضرب الحوت وموسى نائم فقال فتاه: لا أوقظه؛ حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كأن أثره في حجر؛ قال لي عمرو: هكذا كأن أثره في حجر وحلق بين إبهاميه واللتين تليانهما) وفي رواية(وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه{آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا{ ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه{أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره{) وقيل: إن النسيان كان منهما لقوله تعالى{نسيا{ فنسب النسيان إليهما؛ وذلك أن بدو حمل الحوت كان من موسى لأنه الذي أمر به، فلما مضيا كان فتاه الحامل له حتى أويا إلى الصخرة نزلا.
">الآية رقم ( 62 )">
الآية رقم ( 62 )
{فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا}
قوله تعالى{فلما جاوزا{ يعني الحوت هناك منسياً - أي متروكاً - فلما سأل موسى الغداء نسب الفتى النسيان إلى نفسه عند المخاطبة، وإنما ذكر الله نسيانهما عند بلوغ مجمع البحرين. وهو الصخرة، فقد كان موسى شريكا في النسيان لأن النسيان التأخير؛ من ذلك قولهم في الدعاء: أنسأ الله في أجلك. فلما مضيا من الصخرة أخرا حوتهما عن حمله فلم يحمله واحد منهما فجاز أن ينسب إليهما لأنهما مضيا وتركا الحوت.
قوله تعالى{آتنا غداءنا{ فيه مسألة واحدة، وهو اتخاذ الزاد في الأسفار، وهو رد على الصوفية الجهلة الأغمار، الذين يقتحمون المهامه والقفار، زعما منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار؛ هذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الأرض قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه، وتوكله على رب العباد. وفي صحيح البخاري (إن ناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس، فأنزل الله تعالى {وتزودوا{) وقد مضى هذا في {البقرة{. واختلف في زاد موسى؛ فقال ابن عباس: كان حوتا مملوحا في زنبيل، وكانا يصيبان منه غداء وعشاء، فلما انتهيا إلى الصخرة على ساحل البحر، وضع فتاه المكتل، فأصاب الحوت جري البحر فتحرك الحوت في المكتل، فقلب المكتل وانسرب الحوت، ونسي الفتى أن يذكر قصة الحوت لموسى. وقيل: إنما كان الحوت دليلا على موضع الخضر لقوله في الحديث: (أحمل معك حوتا في مكتل فحيث فقدت الحوت فهو ثم) على هذا فيكون تزودا شيئا آخر غير الحوت، وهذا ذكره شيخنا الإمام أبو العباس واختاره. وقال ابن عطية: قال أبي رضي الله عنه، سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظه: مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوما لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم. وقوله{نصبا{ أي تعبا، والنصب التعب والمشقة. وقيل: عنى به هنا الجوع، وفي هذا دليل على جواز الإخبار بما يجده الإنسان من الألم والأمراض، وأن ذلك لا يقدح في الرضا، ولا في التسليم للقضاء لكن إذا لم يصدر ذلك عن ضجر ولا سخط.
">الآية رقم ( 63 )">
الآية رقم ( 63 )
{قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا}
قوله تعالى{وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره{ أن مع الفعل بتأويل المصدر، وهو منصوب بدل اشتمال من الضمير في {أنسانيه{ وهو بدل الظاهر من المضمر، أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان؛ وفي مصحف عبدالله {وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان{. وهذا إنما ذكره يوشع في معرض الاعتذار لقول موسى: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت؛ فقال: ما كلفت كثيرا، فاعتذر بذلك القول.
قوله تعالى{واتخذ سبيله في البحر عجبا{ يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى؛ أي اتخذ الحوت سبيله عجبا للناس ويحتمل أن يكون قوله{واتخذ سبيله في البحر{ تمام الخبر، ثم استأنف التعجيب فقال من نفسه{عجبا{ لهذا الأمر. وموضع العجب أن يكون حوت قد مات فأكل شقه الأيسر ثم حي بعد ذلك. قال أبو شجاع في كتاب الطبري: رأيته - أتيت به - فإذا هو شق حوت وعين واحدة، وشق آخر ليس فيه شيء قال ابن عطية: وأنا رأيته والشق الذي ليس فيه شيء عليه قشرة رقيقة ليست تحتها شوكه. ويحتمل أن يكون قوله{واتخذ سبيله{ إخبارا من الله تعالى، وذلك على وجهين: إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر عجبا، أي تعجب منه وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله عجبا للناس. ومن غريب ما روي في البخاري عن ابن عباس من قصص هذه الآية:(أن الحوت إنما حيي لأنه مسه ماء عين هناك تدعى عين الحياة، ما مست قط شيئا إلا حيي) وفي التفسير: إن العلامة كانت أن يحيا الحوت؛ فقيل: لما نزل موسى بعد ما أجهده السفر على صخرة إلى جنبها ماء الحياة أصاب الحوت شيء من ذلك الماء فحيي. وقال الترمذي في حديثه قال سفيان: (يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة، ولا يصيب ماؤها شيئا إلا عاش، قال: وكان الحوت قد أكل منه فلما قطر عليه الماء عاش) وذكر صاحب كتاب العروس: أن موسى عليه السلام توضأ من عين الحياة فقطرت من لحيته على الحوت قطرة فحيي؛ والله أعلم.
">الآية رقم ( 64 )">
الآية رقم ( 64 )
{قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا}
قوله تعالى{قال ذلك ما كنا نبغ{ أي قال موسى لفتاه أمر الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب، فإن الرجل الذي جئنا له ثمَّ؛ فرجعا يقصان أثارهما لئلا يخطئا طريقهما. وفي البخاري:(فوجدا خضرا على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضك من سلام؟ من أنت ؟ قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: فما شأنك؟ قال جئت لتعلمني مما علمت رشدا...) الحديث. وقال الثعلبي في كتاب العرائس:(إن موسى وفتاه وجدا الخضر وهو نائم على طنفسة خضراء على وجه الماء وهو متشح بثوب أخضر فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه فقال: وأنى بأرضنا السلام؟ ثم رفع رأسه واستوى جالسا وقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال له موسى: وما أدراك بي؟ ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ قال: الذي أدراك بي ودلك علي؛ ثم قال: يا موسى لقد كان لك في بني إسرائيل شغل، قال موسى: إن ربي أرسلني إليك لأتبعك وأتعلم من علمك، ثم جلسا يتحدثان، فجاءت خطافة وحملت بمنقارها من الماء...) وذكر الحديث على ما يأتي. {فارتدا على آثارهما قصصا{ فرجعا يقصان أثارهما لئلا يخطئا طريقهما.
">الآية رقم ( 65 )">
الآية رقم ( 65 )
{فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما}
قوله تعالى{فوجدا عبدا من عبادنا{ العبد هو الخضر عليه السلام في قول الجمهور، وبمقتضى الأحاديث الثابتة وخالف من لا يعتد بقوله، فقال: ليس صاحب موسى بالخضر بل هو عالم آخر وحكى أيضا هذا القول القشيري، قال: وقال قوم هو عبد صالح، والصحيح أنه كان الخضر؛ بذلك ورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: سمي الخضر لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، وروى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء) هذا حديث صحيح غريب. الفروة هنا وجه الأرض؛ قاله الخطابي وغيره. والخضر نبي عند الجمهور. وقيل: هو عبد صالح غير نبي، والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي. وأيضا فان الإنسان لا يتعلم ولا يتبع إلا من فوقه، وليس يجوز أن يكون فوق النبي من ليس نبي وقيل: كان ملكا أمر الله موسى أن يأخذ عنه مما حمله من علم الباطن. والأول الصحيح؛ والله أعلم.
قوله تعالى{آتيناه رحمة من عندنا{ الرحمة في هذه الآية النبوة وقيل: النعمة. {وعلمناه من لدنا علما{ أي علم الغيب، ابن عطية: كان علم الخضر علم معرفة بواطن قد أوحيت إليه، لا تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها؛ وكان علم موسى علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم.
">الآية رقم ( 66 : 68 )">
الآية رقم ( 66 : 68 )
{قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا، قال إنك لن تستطيع معي صبرا، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا}
{قال له موسى هل أتبعك{ هذا سؤال الملاطف، والمخاطب المستنزل المبالغ في حسن الأدب، المعنى: هل يتفق لك ويخف عليك؟ وهذا كما في الحديث: (هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟...) وعلى بعض التأويلات يجيء كذلك قوله تعالى{هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء...}المائدة: 112] حسب ما تقدم بيانه في {المائدة{.
في هذه الآية دليل أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر يدل على أن الخضر كان أفضل منه، فقد يشذ عن الفاضل ما يعلمه المفضول، والفضل لمن فضله الله؛ فالخضر إن كان وليا فموسى أفضل منه، لأنه نبي والنبي أفضل من الولي، وإن كان نبيا فموسى فضله بالرسالة. والله أعلم. {ورشدا{ مفعول ثان بـ {تعلمني{. {قال{ الخضر. {إنك لن تستطيع معي صبرا{ أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي؛ لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه، ولا طريق الصواب، وهو معنى قوله{وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا{ والأنبياء لا يقرون على منكر، لا يجوز لهم التقرير أي لا يسعك السكوت جريا على عادتك وحكمك. وانتصب {خبرا{ على التمييز المنقول عن الفاعل. وقيل: على المصدر الملاقى في المعنى، لأن قوله{لم تحط{. معناه لم تخبره، فكأنه قال: لم تخبره خبرا؛ وإليه أشار مجاهد والخبير بالأمور هو العالم بخفاياها وبما يختبر منها.
">الآية رقم ( 69 )">
الآية رقم ( 69 )
{قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا}
قوله تعالى{قال ستجدني إن شاء الله صابرا{ أي سأصبر بمشيئة الله. {ولا أعصي لك أمرا{ أي قد ألزمت نفسي طاعتك وقد اختلف في الاستثناء، هل هو يشمل قوله{ولا أعصي لك أمرا{ أم لا؟ فقيل: يشمله كقوله{ والذاكرين الله كثيرا والذاكرات}الأحزاب: 35]. وقيل: استثنى في الصبر فصبر، وما استثنى في قوله{ولا أعصي لك أمرا{ فاعترض وسأل، قال علماؤنا: إنما كان ذلك منه؛ لأن الصبر أمر مستقبل ولا يدرى كيف، يكون حاله فيه، ونفي المعصية معزوم عليه حاصل في الحال، فالاستثناء فيه ينافي العزم عليه، ويمكن أن يفرق بينهما بأن الصبر ليس مكتسبا لنا بخلاف فعل المعصية وتركه، فإن ذلك كله مكتسب لنا؛ والله أعلم.
">الآية رقم ( 70 )">
الآية رقم ( 70 )
{قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا}
أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك، وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضي دوام الصحبة، فلو صبر ودأب لرأى العجب، لكنه أكثر من الاعتراض فتعين الفراق والإعراض.
">الآية رقم ( 71 : 73 )">
الآية رقم ( 71 : 73 )
{فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا، قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا}
قوله تعالى{فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها{ في صحيح مسلم والبخاري: (فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ موسى إلا والخضر قد قلع منها لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها {لقد جئت شيئا إمرا. قال إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا{ قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وكانت الأولى من موسى نسيانا) قال:(وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر). قال علماؤنا: حرف السفينة طرفها وحرف كل شيء طرفه، ومنه حرف الجبل وهو أعلاه المحدد. والعلم هنا بمعنى المعلوم، كما قال{ولا يحيطون بشيء من علمه}البقرة: 255] أي من معلوماته، وهذا من الخضر تمثيل؛ أي معلوماتي ومعلوماتك لا أثر لها في علم الله؛ كما أن ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر لا أثر له بالنسبة إلى ماء البحر، وإنما مثل له ذلك بالبحر لأنه أكثر. ما يشاهده مما بين أيدينا، وإطلاق لفظ النقص هنا تجوز قصد به التمثيل والتفهيم، إذ لا نقص في علم الله، ولا نهاية لمعلوماته. وقد أوضح هذا المعنى البخاري فقال: (والله ما علمي وما علمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطير بمنقاره من البحر) وفي التفسير عن أبي العالية: لم ير الخضر حين خرق السفينة غير موسى وكان عبدا لا تراه إلا عين من أراد الله له أن يريه، ولو رآه القوم لمنعوه من خرق السفينة. وقيل: خرج أهل السفينة إلى جزيرة، وتخلف الخضر فخرق السفينة، وقال ابن عباس: (لما خرق الخضر السفينة تنحى موسى ناحية، وقال في نفسه: ما كنت أصنع بمصاحبة هذا الرجل كنت في بني إسرائيل أتلو كتاب الله عليهم غدوة وعشية فيطيعوني قال له الخضر: يا موسى أتريد أن أخبرك بما حدثت به نفسك؟ قال: نعم. قال: كذا وكذا قال: صدقت؛ ذكره الثعلبي في كتاب العرائس.
في خرق السفينة دليل أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا، مثل أن يخاف على ريعه ظالما فيخرّب بعضه وقال أبو يوسف: يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم عن البعض وقرأ حمزة والكسائي {ليغرق{ بالياء {أهلها{ بالرفع فاعل يغرق، فاللام على قراءة الجماعة في {لتغرق{ لام المآل مثل {ليكون لهم عدو وحزنا{. وعلى قراءة حمزة لام كي، ولم يقل لتغرقني؛ لأن الذي غلب الحال فرط الشفقة عليهم، ومراعاة حقهم. و{إمرا{ معناه عجبا؛ قاله القتبي، وقيل: منكرا؛ قاله مجاهد، وقال أبو عبيدة: الإمر الداهية العظيمة؛ وأنشد
قد لقي الأقران مني نكرا داهية دهياء إدا إمرا
وقال الأخفش: يقال أمر يأمر {أمر{ إذا أشتد والاسم الإمر.
قوله تعالى{قال{ الخضر. {ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا{ أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي؛ لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه، ولا طريق الصواب.
في معناه قولان: أحدهما: يروى ابن عباس، قال:(هذا من معاريض الكلام). والآخر: أنه نسي فاعتذر؛ ففيه ما يدل على أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة، وأنه لا يدخل تحت التكليف، ولا يتعلق به حكم طلاق ولا غيره؛ وقد تقدم، ولو نسي في الثانية لاعتذر.
الآية رقم ( 74 )
{فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا}
في البخاري قال يعلى قال سعيد:(وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما كافرا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين) {قال أقتلت نفسا زكية{ لم تعمل بالحنث، وفي الصحيحين وصحيح الترمذي: (ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، قال له موسى{أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا. قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا{ قال: وهذه أشد من الأولى. {قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا{) لفظ البخاري. وفي التفسير: إن الخضر مر بغلمان يلعبون فأخذ بيده غلاما ليس فيهم أضوأ منه، وأخذ حجرا فضرب به رأسه حتى دمغه، فقتله. قال أبو العالية: لم يره إلا موسى، ولو رأوه لحالوا بينه وبين الغلام.
قلت: ولا اختلاف بين هذه الأحوال الثلاثة، فإنه أن يكون دمغه أولا بالحجر، ثم أضجعه فذبحه، ثم اقتلع رأسه؛ والله أعلم بما كان من ذلك وحسبك بما جاء في الصحيح. وقرأ الجمهور {زاكية{ بالألف وقرأ الكوفيون وابن عامر {زكية{ بغير ألف وتشديد الياء؛ قيل المعنى واحد؛ قال الكسائي وقال ثعلب: الزكية أبلغ قال أبو عمرو: الزاكية التي لم تذنب قط، والزكية التي أذنبت ثم تابت.
قوله تعالى{غلاما{ اختلف العلماء في الغلام هل كان بالغا أم لا؟ فقال الكلبي: كان بالغا يقطع الطريق بين قريتين، وأبوه من عظماء أهل إحدى القريتين، وأمه من عظماء القرية الأخرى، فأخذه الخضر فصرعه، ونزع رأسه عن جسده. قال الكلبي: واسم الغلام شمعون وقال الضحاك: حيسون وقال وهب: اسم أبيه سلاس واسم أمه رحمى وحكى السهيلي أن اسم أبيه كازير واسم أمه سهوى وقال الجمهور: لم يكن بالغا؛ ولذلك قال موسى زاكية لم تذنب، وهو الذي يقتضيه لفظ الغلام؛ فان الغلام في الرجال يقال على من لم يبلغ، وتقابله الجارية في النساء وكان الخضر قتله لما علم من سيره، وأنه طبع كافرا كما في، صحيح الحديث، وأنه لو أدرك لأرهق أبويه كفرا، وقتل الصغير غير مستحيل إذا أذن الله في ذلك؛ فان الله تعالى الفعال لما يريد، القادر على ما يشاء، وفي كتاب العرائس: إن موسى لما قال للخضر {أقتلت نفسا زكية...{ الآية - غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر، وقشر اللحم عنه، وإذا في عظم كتفه مكتوب: كافر لا يؤمن بالله أبدا. وقد احتج أهل القول الأول بأن العرب تبقي على الشاب اسم الغلام، ومنه قول ليلى الأخيلية:
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها
وقال صفوان لحسان:
تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر
وفي الخبر: إن هذا الغلام كان يفسد في الأرض، ويقسم لأبويه أنه ما فعل، فيقسمان على قسمه، ويحميانه ممن يطلبه، قالوا وقوله{بغير نفس{ يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس لم يكن به بأس، وهذا يدل على كبر الغلام، وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس، وإنما جاز قتله لأنه كان بالغا عاصيا. قال ابن عباس: كان شابا يقطع الطريق، وذهب ابن جبير إلى أنه بلغ سن التكليف لقراءة أبي وابن عباس {وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين{ والكفر والإيمان من صفات المكلفين، ولا يطلق على غير مكلف إلا بحكم التبعية لأبويه، وأبوا الغلام كانا مؤمنين بالنص فلا يصدق عليه اسم الكافر إلا بالبلوغ، فتعين أن يصار إليه والغلام من الاغتلام وهو شدة الشبق.
قوله تعالى{نكرا{ اختلف الناس أيهما أبلغ {إمرا{ أو قوله {نكرا{ فقالت فرقة: هذا قتل بين، وهناك مترقب؛ فـ {نكرا{ أبلغ، وقالت فرقة: هذا قتل واحد وذاك قتل جماعة فـ {إمرا{ أبلغ. قال ابن عطية: وعندي أنهما لمعنيين وقوله{إمرا{ أفظع وأهول من حيث هو متوقع عظيم، و{نكرا{ بين في الفساد لأن مكروهه قد وقع؛ وهذا بين.
الآية رقم ( 75 : 76 )
{قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا، قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا}
قوله تعالى{قال{ الخضر. {ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا{ أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي؛ لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه، ولا طريق الصواب.
قوله تعالى{قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني{ شرط وهو لازم، والمسلمون عند شروطهم، وأحق الشروط أن يوفى به ما التزمه الأنبياء، والتزم للأنبياء. {فلا تصاحبني{ كذا قرأ الجمهور؛ أي تتابعني. وقرأ الأعرج {تصحبني{ بفتح التاء والباء وتشديد النون وقرئ {تصحبني{ أي تتبعني وقرأ يعقوب {تصحبني{ بضم التاء وكسر الحاء؛ ورواها سهل عن أبي عمرو؛ قال الكسائي: معناه فلا تتركني أصحبك.
قوله تعالى{قد بلغت من لدني عذرا{ يدل على قيام الاعتذار بالمرة الواحدة مطلقا، وقيام الحجة من المرة الثانية بالقطع؛ قاله ابن العربي. ابن عطية: ويشبه أن تكون هذه القصة أيضا أصلا للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة، وأيام المتلوم ثلاثة؛ فتأمله.
{قد بلغت من لدن عذرا{ أي بلغت مبلغا تعذر به في ترك مصاحبتي، وقرأ الجمهور{من لدني{ بضم الدال، إلا أن نافعا وعاصما خففا النون {لدن{ اتصلت بها ياء المتكلم التي في غلامي وفرسي، وكسر ما قبل الياء كما كسر في هذه. وقرأ أبو بكر عن عاصم {لَدْني{ بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون وروي عن عاصم {لدني{ بضم اللام وسكون الدال؛ قال ابن مجاهد: وهي غلط؛ قال أبو علي: هذا التغليط يشبه أن يكون من جهة الرواية، فأما على قياس العربية فهي صحيحة وقرأ الجمهور {عذر{ وقرأ عيسى {عذرا{ بضم الذال وحكى الداني أن أبيا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم {عذري{ بكسر الراء وياء بعدها.
مسألة:
أسند الطبري قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه، فقال يوما: رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب ولكنه قال {فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا{) والذي في صحيح مسلم قال رسو ل الله صلى الله عليه وسلم: (رحمة الله علينا وعلى موسى لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة ولو صبر لرأى العجب) قال: وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه:(رحمة الله علينا وعلى أخي كذا) وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا أمرهما) الذمامة بالذال المعجمة المفتوحة، وهو بمعنى المذمة بفتح الذال وكسرها، وهي الرقة والعار من تلك الحرمة: يقال أخذتني منك مذمة ومذمة وذمامة وكأنه استحيا من تكرار مخالفته، ومما صدر عنه من تغليظ الإنكار.
الآية رقم ( 77 )
{فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا}
قوله تعالى{فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما{ في صحيح مسلم عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: لئاما؛ فطافا في المجالس فـ {استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدار يريد أن ينقض{ يقول: مائل قال{فأقامه{ الخضر بيده قال له موسى: قوم أتيناهم فلم يضيفونا، ولم يطعمونا {لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا{ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهما). واختلف العلماء في القرية فقيل: هي أبلة؛ قال قتادة، وكذلك قال محمد بن سيرين، وهى أبخل قرية وأبعدها من السماء وقيل: أنطاكية وقيل: بجزيرة الأندلس؛ روي ذلك عن أبي هريرة وغيره، ويذكر أنها الجزيرة الخضراء وقالت فرقة: هي باجروان وهي بناحية أذربيجان وحكى السهيلي وقال: إنها برقة الثعلبي: هي قرية من قرى الروم يقال لها ناصرة، وإليها تنسب النصارى؛ وهذا كله بحسب الخلاف في أي ناحية من الأرض كانت قصة موسى والله أعلم بحقيقة ذلك.
كان موسى عليه السلام حين سقى لبنتي شعيب أحوج منه حين أتى القرية مع الخضر؛ ولم يسأل قوتا بل سقى ابتداء، وفي القرية سألا القوات؛ وفي ذلك للعلماء انفصالات كثيرة؛ منها أن موسى كان في حديث مدين منفردا وفي قصة الخضر تبعا لغيره.
قلت: وعلى هذا المعنى يتمشى قوله في أول الآية لفتاه {آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا{ فأصابه الجوع مراعاة لصاحبه يوشع؛ والله أعلم.
وقيل: لما كان هذا سفر تأديب وكل إلى تكلف المشقة، وكان ذلك سفر هجرة فوكل إلى العون والنصرة بالقوت.
في هذه الآية دليل على سؤال القوت، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يرد جوعه خلافا لجهال المتصوفة والاستطعام سؤال الطعام، والمراد به هنا سؤال الضيافة. بدليل قوله{فأبوا أن يضيفوهما{ فاستحق أهل القرية لذلك أن يذموا، وينسبوا إلى اللؤم والبخل، كما وصفهم بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام قال قتادة في هذه الآية: شر القرى التي لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقه. ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما وجب لهما من الضيافة، وهذا هو الأليق بحال الأنبياء، ومنصب الفضلاء والأولياء وقد تقدم القول في الضيافة في {هود{ والحمد لله.
ويعفو الله عن الحريري حيث استخف في هذه الآية وتمجن، وأتى بخطل من القول وزل؛ فاستدل بها على الكدية والإلحاح فيها، وأن ذلك ليس بمعيب على فاعله، ولا منقصة عليه؛ فقال:
وإن رددت فما في الرد منقصة عليك قد رد موسى قبل والخضر
قلت: وهذا لعب بالدين، وانسلال عن احترام النبيين، وهي شنشنة أدبية، وهفوة سخافية؛ ويرحم الله السلف الصالح، فلقد بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح، فقالوا: مهما كنت لاعبا بشيء فإياك أن تلعب بدينك.
قوله تعالى{فوجدا فيها جدارا{ الجدار والجدر بمعنى واحد؛ وفي الخبر: (حتى يبلغ الماء الجدر). ومكان جدير بُني حواليه جدار، وأصله الرفع وأجدرت الشجرة طلعت؛ ومنه الجدري.
قوله تعالى{يريد أن ينقض{ أي قرب أن يسقط، وهذا مجاز وتوسع وقد فسره في الحديث بقوله: (مائل) فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن، وهو مذهب الجمهور. وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحي الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هي استعارة، أي لو كان مكانهما إنسان لكان متمثلا لذلك الفعل، هذا كلام العرب وأشعارها كثير؛ فمن ذلك قول الأعشى:
أتنتهون ولا ينهي ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
فأضاف النهي إلى الطعن. ومن ذلك قول الآخر:
يريد الرمح صدر أبي براء ويرغب عن دماء بني عقيل
وقال آخر:
إن دهرا يلف شملي بجمل لزمان يهم بالإحسان
وقال آخر:
في مهمه فلقت به هاماتها فلق الفؤس إذا أردن نصولا
أي ثبوتا في الأرض؛ من قولهم: نصل السيف إذا ثبت في الرمية؛ فشبه وقع السيوف على رؤوسهم بوقع الفؤوس في الأرض فإن الفأس يقع فيها ويثبت لا يكاد يخرج. وقال حسان بن ثابت:
لو أن اللوم ي نسب كان عبدا قبيح الوجه أعور من ثقيف
وقال عنترة:
فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحم
وقد فسر هذا المعنى بقوله:
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
وهذا في هذا المعنى كثير جدا ومنه قول الناس: إن داري تنظر إلى دار فلان وفي الحديث: (اشتكت النار إلى ربها) وذهب قوم إلى منع المجاز في القرآن، منهم أبو إسحاق الإسفرايني وأبو بكر محمد بن داود الأصبهاني وغيرهما، فإن كلام الله عز وجل وكلام رسوله حمله على الحقيقة أولى بذي الفضل والدين؛ لأنه الحق كما أخبر الله تعالى في كتابه،
ومما احتجوا به أن قالوا: لو خاطبنا الله تعالى بالمجاز لزم وصفه بأنه متجوز أيضا، فإن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة، وهو على الله تعالى محال؛ قال الله تعالى{يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون}النور: 24] وقال تعالى{وتقول هل من مزيد}ق: 30] وقال تعالى{إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا}الفرقان: 12] وقال تعالى{تدعو من أدبر وتولى}المعارج: 17] و(اشتكت النار إلى ربها) (واحتجت النار والجنة) وما كان مثلها حقيقة، وأن خالقها الذي أنطق كل شيء أنطقها. وفي صحيح مسلم من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم (فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه). هذا في الآخرة.
وأما في الدنيا؛ ففي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنسان وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده) قال أبو عيسى: وفي الباب عن أبي هريرة، وهذا حديث حسن غريب.
قوله تعالى{فأقامه{ قيل: هدمه ثم قعد يبنيه. {قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا{ فقال موسى للخضر{قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا{ لأنه فعل يستحق أجرا، وذكر أبو بكر الأنباري عن ابن عباس عن أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ {فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه{ قال أبو بكر: وهذا الحديث إن صح سنده فهو جار من الرسول عليه الصلاة والسلام مجرى التفسير للقرآن، وأن بعض الناقلين أدخل تفسير قرآن في موضع فسرى أن ذلك قرآن نقص من مصحف عثمان؛ على ما قاله بعض الطاعنين، وقال سعيد بن جبير: مسحه بيده وأقامه فقام، وهذا القول هو الصحيح، وهو الأشبه بأفعال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل والأولياء، وفي بعض الأخبار: إن سمك ذلك الحائط كان ثلاثين ذراعا بذراع ذلك القرن، وطوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعا، فأقامه الخضر عليه السلام أي سواه بيده فاستقام؛ قال الثعلبي في كتاب العرايس: فقال موسى للخضر {لو شئت لاتخذت عليه أجرا{ أي طعاما تأكله؛ ففي هذا دليل على كرامات الأولياء، وكذلك ما وصف من أحوال الخضر عليه السلام في هذا الباب كلها أمور خارقة للعادة؛ هذا إذا تنزلنا على أنه ولي لا نبي. وقوله تعالى{وما فعلته عن أمري}الكهف: 82] يدل علي نبوته وأنه يوحى إليه بالتكليف والأحكام، كما أوحى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير أنه ليس برسول؛ والله أعلم.
واجب على الإنسان ألا يتعرض للجلوس تحث جدار مائل يخاف سقوطه، بل يسرع في المشي إذا كان مارا عليه؛ لأن في حديث النبي عليه الصلاة والسلام (إذا مر أحدكم بطربال مائل فليسرع المشي). قال أبو عبيد القاسم بن سلام: كان أبو عبيدة يقول: الطربال شبيه بالمنظرة من مناظر العجم كهيئة الصومعة؛ والبناء المرتفع؛ قال جرير:
ألوى بها شذب العروق مشذب فكأنما وكنت على طربال
يقال منه: وكَنَ يكِنُ إذا جلس، وفي الصحاح: الطربال القطعة العالية من الجدار، والصخرة العظيمة المشرفة من الجبل، وطرابيل الشام صوامعها. ويقال: طربل بوله إذا مده إلى فوق.
كرامات الأولياء ثابتة، على ما دلت عليه الأخبار الثابتة، والآيات المتواترة، ولا ينكرها إلا المبتدع الجاحد، أو الفاسق الحائد؛ فالآيات ما أخبر الله تعالى في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف، والصيفية في الشتاء - على ما تقدم - وما ظهر على يدها حيث أمرت النخلة وكانت يابسة فأثمرت، وهي ليست بنبية؛ على الخلاف ويدل عليها ما ظهر على يد الخضر عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار. قال بعض العلماء: ولا يجوز أن يقال كان نبيا؛ لأن إثبات النبوة لا يجوز بأخبار الآحاد، لا سيما وقد روي من طريق التواتر - من غير أن يحتمل تأويلا - بإجماع الأمة قوله عليه الصلاة والسلام: (لا نبي بعدي) وقال تعالى{وخاتم النبيين}الأحزاب: 40] والخضر وإلياس جميعا باقيان مع هذه الكرامة، فوجب أن يكونا غير نبيين، لأنهما لو كانا نبيين لوجب أن يكون بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي، إلا ما قامت الدلالة في حديث عيسى أنه ينزل بعده.
قلت: الخضر كان نبيا على ما تقدم وليس بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي، أي يدعي النبوة بعده أبدا الله أعلم 0
اختلف الناس هل يجوز أن يعلم الولي أنه ولي أم لا؟ على قولين: [أحدهما] أنه لا يجوز؛ وأن ما يظهر على يديه يجب أ ن يلاحظه بعين خوف المكر، لأنه لا يأمن أن يكون مكرا واستدراجا له؛ وقد حكي عن السري أنه كان يقول: لو أن رجلا دخل بستانا فكلمه من رأس كل شجرة طير بلسان فصيح: السلام عليك يا ولي الله فلو لم يخف أن يكون ذلك مكرا لكان ممكورا به؛ ولأنه لو علم أنه ولي لزال عنه الخوف، وحصل له الأمن. ومن شرط الولي أن يستديم الخوف إلى أن تتنزل عليه الملائكة، كما قال عز وجل{تنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا}فصلت: 30] ولأن الولي من كان مختوما له بالسعادة، والعواقب مستورة ولا يدري أحد ما يختم له به؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (إنما الأعمال بالخواتيم). [القول الثاني] أنه يجوز للولي أن يعلم أنه ولي؛ ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام يجوز أن يعلم أنه ولي، ولا خلاف أنه يجوز لغيره أن يعلم أنه ولي الله تعالى، فجاز أن يعلم ذلك. وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام من حال العشرة من أصحابه أنهم من أهل الجنة، ثم لم يكن في ذلك زوال خوفهم، بل كانوا أكثر تعظيما لله سبحانه وتعالى، وأشد خوفا وهيبة؛ فإذا جاز للعشرة ذلك ولم يخرجهم عن الخوف فكذلك غيرهم. وكان الشبلي يقول: أنا أمان هذا الجانب؛ فلما مات ودفن عبر الديلم دجلة ذلك اليوم، واستولوا على بغداد، ويقول الناس: مصيبتان موت الشبلي وعبور الديلم. ولا يقال: إنه يحتمل أن يكون ذلك استدراجا لأنه لو جاز ذلك لجاز ألا يعرف النبي أنه نبي وولي الله، لجواز أن يكون ذلك استدراجا، فلما لم يجز ذلك لأن فيه إبطال المعجزات لم يجز هذا، لأن فيه إبطال الكرامات. وما روي من ظهور الكرامات على يدي بلعام وانسلاخه عن الدين بعدها لقوله{فانسلخ منها...}الأعراف: 175] فليس في الآية أنه كان وليا ثم انسلخت عنه الولاية. وما نقل أنه ظهر على يديه ما يجري مجرى الكرامات هو أخبار آحاد لا توجب العلم؛ والله أعلم.
والفرق بين المعجزة والكرامة أن الكرامة من شرطها الاستتار، والمعجزة من شرطها الإظهار. وقيل: الكرامة ما تظهر من غير دعوى والمعجزة ما تظهر عند دعوى الأنبياء فيطالبون بالبرهان فيظهر أثر ذلك. وقد تقدم في مقدمة الكتاب شرائط المعجزة، والحمد لله تعالى وحده لا شريك له. وأما الأحاديث الواردة في الدلالة على ثبوت الكرامات، فمن ذلك ما خرجه البخاري من حديث أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة وهي بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنفروا إليهم قريبا من مائتي راجل كلهم رام، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة، فقالوا هذا تمر يثرب؛ فاقتصوا آثارهم، فلما رآهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا فأعطونا أيديكم ولكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم أحدا؛ فقال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما فوالله لا أنزل اليوم في ذمة الكافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فرموا بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق، وهم خبيب الأنصاري وابن الدثنة ورجل آخرا، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر والله لا أصحبكم؛ إن لي في هؤلاء لأسوة - يريد القتلى - فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه؛ فانطلقوا بخيب وابن الدثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع خبيبا بنو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو الذي قتل الحرث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرا؛ فأخبر عبيدالله بن عياض أن بنت الحرث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته، فأخذ ابن لي وأنا غافلة حتى أتاه، قالت: فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي؛ فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك. قالت: والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خيب؛ والله لقد وجدته يوما يأكل قطف عنب في يده، وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمر؛ وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله تعالى خبيبا؛ فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيث: دعوني أركع ركعتين؛ فتركوه فركع ركعتين ثم قال: لولا أن تظنوا أن ما بي جزع من الموت لزدت؛ ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا؛ ثم قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
فقتله بنو الحرث، وكان خبيب هو الذي سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا؛ فاستجاب الله تعالى لعاصم يوم أصيب؛ فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه خبرهم وما أصيبوا. وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشيء منه يعرفونه، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر؛ فبعث الله على عاصم مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا. وقال ابن إسحاق في هذه القصة: وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد، وقد كانت نذرت حين أصاب ابنيها بأحد لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر فمنعهم الدبر، فلما حالت بينه وبينهم قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه، فبعث الله تعالى الوادي فاحتمل عاصما فذهب، وقد كان عاصم أعطى الله تعالى عهدا ألا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا في حياته، فمنعه الله تعالى بعد وفاته مما امتنع منه في حياته. وعن عمرو بن أمية الضمري: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه عينا وحده فقال: جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون فأطلقته، فوقع في الأرض، ثم اقتحمت فانتبذت قليلا، ثم ألتفت فكأنما ابتلعته الأرض. وفي رواية أخرى زيادة: فلم نذكر لخبيب رمة حتى الساعة؛ ذكره البيهقي.
ولا ينكر أن يكون للولي مال وضيعة يصون بها ماله وعياله، وحسبك بالصحابة وأموالهم مع ولايتهم وفضلهم، وهم الحجة على غيرهم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل بفلاة من أرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فافرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال يا عبدالله ما اسمك قال فلان الاسم الذي سمعه في السحابة فقال له يا عبدالله لم سألتني عن اسمي قال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما فيها قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي وأرد فيها ثلثه) وفي رواية (وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل).
قلت: وهذا الحديث لا يناقضه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا) خرجه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال فيه حديث حسن؛ فإنه محمول على من اتخذها مستكثرا أو متنعما ومتمتعا بزهرتها، وأما من اتخذها معاشا يصون بها دينه وعياله فاتخاذها بهذه النية من أفضل الأعمال، وهي من أفضل الأموال؛ قال عليه الصلاة والسلام: (نعم المال الصالح للرجل الصالح)، قد أكثر الناس في كرامات الأولياء وما ذكرناه فيه كفاية؛ والله الموفق للهداية.
قوله تعالى{لاتخذت عليه أجرا{ فيه دليل على صحة جواز الإجارة، وهى سنة الأنبياء والأولياء على ما يأتي بيانه في سورة {القصص{ إن شاء الله تعالى. وقرأ الجمهور {لاتخذت{ وأبو عمرو {لتخذت{ وهي قراءة ابن مسعود والحسن وقتادة، وهما لغتان بمعنى واحد من الأخذ، مثل قولك: تبع واتبع، وتقى واتقى وأدغم بعض القراء الذال في التاء، ولم يدغمها بعضهم وفي حديث أبي بن كعب:(لو شئت لأوتيت أجرا) وهذه صدرت من موسى سؤالا على جهة العرض لا الاعتراض.
الآية رقم ( 78 )
{قال هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا}
قوله تعالى{قال هذا فراق بيني وبينك{ فعند ذلك قال له الخضر {هذا فراق بيني وبينك{ بحكم ما شرطت على نفسك. وتكريره {بيني وبينك{ وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد. قال سيبويه: كما يقال أخزى الله الكاذب مني ومنك؛ أي منا. وقال ابن عباس: وكان قول موسى في السفينة والغلام لله، وكان قوله في الجدار لنقسه لطلب شيء من الدنيا، فكان سبب الفراق. وقال وهب بن منبه: كان ذلك الجدار جدارا طوله في السماء مائة ذراع.
قوله تعالى{سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا{ تأويل الشيء مآله أي قال له: إني أخبرك لم فعلت ما فعلت. وقيل في تفسير هذه الآيات التي وقعت لموسى مع الخضر: إنها حجة على موسى وعجبا له وذلك أنه لما أنكر أمر خرق السفينة نودي: يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم فلما أنكر أمر الغلام قيل له: أين إنكارك هذا من وكزك القبطي وقضائك عليه فلما أنكر إقامة الجدار نودي: أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر.
الآية رقم ( 79 )
{أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا}
قوله تعالى{أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر{ استدل بهذا من قال: إن المسكين أحسن حالا من الفقير، وقد مضى هذا المعنى مستوفى من سورة {براءة{. وقد وقيل: إنهم كانوا تجارا ولكن من حيث هم مسافرون عن قلة في لجة بحر، وبحال ضعف عن مدافعة خطب عبر عنهم بمساكين؛ إذ هم في حالة يشفق عليهم بسببها، وهذا كما تقول لرجل غني وقع في وهلة أو خطب: مسكين. وقال كعب وغيره: كانت لعشرة إخوة من المساكين ورثوها من أبيهم خمسة زمنى، وخمسة يعملون في البحر. وقيل: كانوا سبعة لكل واحد منهم زمانة ليست بالآخر. وقد ذكر النقاش أسماءهم؛ فأما العمال منهم فأحدهم كان مجذوما؛ والثاني أعور، والثالث أعرج، والرابع آدر، والخامس محموما لا تنقطع عنه الحمى الدهر كله وهو أصغرهم؛ والخمسة الذين لا يطيقون العمل: أعمى وأصم وأخرس ومقعد ومجنون، وكان البحر الذي يعملون فيه ما بين فارس والروم؛ ذكره الثعلبي. وقرأت فرقة{لمساكين{ بتشديد السين، واختلف في ذلك فقيل: هم ملاحو السفينة، وذلك أن المساك هو الذي يمسك رجل السفينة، وكل الخدمة تصلح لإمساكه فسمي الجميع مساكين. وقالت فرقة: أراد بالمساكين دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك والأظهر قراءة {مساكين{ بالتخفيف جمع مسكين، وأن معناها: إن السفينة لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم والله أعلم.
قوله تعالى{فأردت أن أعيبها{ أي أجعلها ذات عيب، يقال: عبت الشيء فعاب إذا صار ذا عيب، فهو معيب وعائب. {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا{ قرأ ابن عباس وابن جبير (صحيحه) وقرأ أيضا ابن عباس وعثمان بن عفان (صالحة) و(وراء) أصلها بمعنى خلف؛ فقال بعض المفسرين: إنه كان خلفه وكان رجوعهم عليه. الأكثر على أن معنى (وراء) هنا أمام؛ يعضده قراءة ابن عباس وابن جبير {وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا{. قال ابن عطية{وراءهم{ هو عندي على بابه؛ وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعى بها الزمان وذلك أن الحدث المقدم الموجود هو الأمام، والذي يأتي بعده هو الوراء وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد، فهذه الآية معناها: إن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمان غصب هذا الملك؛ ومن قرأ {أمامهم{ أراد في المكان، أي كأنهم يسيرون إلى بلد، وقوله عليه الصلاة والسلام: (الصلاة أمامك) يريد في المكان، وإلا فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمان؛ وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الألفاظ؛ ووقع لقتادة في كتاب الطبري {وكان وراءهم ملك{ قال قتادة: أمامهم ألا تراه يقول: من {ورائهم جهنم{ وهي بين أيديهم؛ وهذا القول غير مستقيم، وهذه هي العجمة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها؛ قاله الزجاج.
قلت: وما اختاره هذا الإمام قد سبقه إليه في ذلك ابن عرفة؛ قال الهروي قال ابن عرفة: يقول القائل كيف قال {من ورائه{ وهي أمامه؟ فزعم أبو عبيد وأبو علي قُطرُب أن هذا من الأضداد، وأن وراء في معنى قدام، وهذا غير محصل؛ لأن أمام ضد وراء، وإنما يصلح هذا في الأوقات، كقولك للرجل إذا وعد وعدا في رجب لرمضان ثم قال: ومن ورائك شعبان لجاز وإن كان أمامه، لأنه يخلفه إلى وقت وعده؛ وأشار إلى هذا القول أيضا القشيري وقال: إنما يقال هذا في الأوقات، ولا يقال للرجل أمامك إنه وراءك؛ قال الفراء: وجوزه غيره؛ والقوم ما كانوا عالمين بخبر الملك، فأخبر الله تعالى الخضر حتى عيب السفينة؛ وذكره الزجاج. وقال الماوردي: اختلف أهل العربية في استعمال وراء موضع أمام على ثلاثة أقوال: [أحدها] يجوز استعمالها بكل حال وفي كل مكان وهو من الأضداد قال الله تعالى{ومن ورائهم}الجاثية: 10] أي من أمامهم: وقال الشاعر:
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا
يعني أمامي، [والثاني] أن وراء في موضع أمام في المواقيت والأزمان لأن الإنسان يجوزها فتصير وراءه ولا يجوز في غيرها الثالث: أنه يجوز في الأجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ولا يجوز في غيرهما؛ وهذا قول علي بن عيسى.
واختلف في اسم هذا الملك فقيل: هدد بن بدد. وقيل: الجلندي؛ وقال السهيلي. وذكر البخاري اسم الملك الآخذ لكل سفينة غصبا فقال: هو (هدد بن بدد والغلام المقتول) اسمه جيسور، وهكذا قيدناه في الجامع من رواية يزيد المروزي، وفي غير هذه الرواية حيسور بالحاء وعندي في حاشية الكتاب رواية ثالثة: وهي حيسون وكان يأخذ كل سفينة جيدة غصبا فلذلك عابها الخضر وخرقها؛ ففي هذا من الفقه العمل بالمصالح إذا تحقق وجهها، وجواز إصلاح كل المال بإفساد بعضه، وقد تقدم. وفي صحيح مسلم وجه الحكمة بخرق السفينة وذلك قوله:(فإذا جاء الذي يسخرها وجدها منخرقة فتجاوزها، فأصلحوها بخشبة...) الحديث. وتحصل من هذا الحض على الصبر في الشدائد، فكم في ضمن ذلك المكروه من الفوائد، وهذا معنى قوله{وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}البقرة: 216].
الآية رقم ( 80 )
{وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا}
قوله تعالى{وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين{ جاء في صحيح الحديث: (أنه طبع يوم طبع كافر) وهذا يؤيد ظاهره أنه غير بالغ، ويحتمل أن يكون خبرا عنه مع كونه بالغا؛ وقد تقدم.
قوله تعالى{فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا{ قيل: هو من كلام الخضر عليه السلام، وهو الذي يشهد له سياق الكلام، وهو قول كثير من المفسرين؛ أي خفنا أن يرهقهما طغيانا وكفرا، وكان الله قد أباح له الاجتهاد في قتل النفوس على هذه الجهة. وقيل: هو من كلام الله تعالى وعنه عبر الخضر؛ قال الطبري: معناه فعلمنا؛ وكذا قال ابن عباس أي فعلمنا، وهذا كما كني عن العلم بالخوف في قوله {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله}البقرة: 229]. وحكي أن أبيا قرأ {فعلم ربك{ وقيل: الخشية بمعنى الكراهة؛ يقال: فرقت بينهما خشية أن يقتتلا؛ أي كراهة ذلك. قال ابن عطية: والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل وإن كان اللفظ يدافعه أنها استعارة، أي على ظن المخلوقين والمخاطبين لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للأبوين. وقرأ ابن مسعود {فخاف ربك{ وهذا بين في الاستعارة، وهذا نظير ما وقع القرآن في جهة الله تعالى من لعل وعسى وأن جميع ما في هذا كله من ترج وتوقع وخوف وخشية إنما هو بحسبكم أيها المخاطبون. و{يرهقهما{ يجشمهما ويكلفهما؛ والمعنى أن يلقيهما حبه في اتباعه فيضلا ويتدينا بدينه.
الآية رقم ( 81 )
{فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما}
قوله تعالى{فأردنا أن يبدلهما ربهما{ قرأ الجمهور بفتح الباء وشد الدال، وقرأ عاصم بسكون الباء وتخفيف الدال؛ أي أن يرزقهما الله ولدا. يقال: بدل وأبدل مثل مهل وأمهل ونرل وأنزل.
قوله تعالى{خيرا منه زكاة{ أي دينا وصلاحا. {وأقرب رحما{ قرأ ابن عباس {رحما{ بالضم، قال الشاعر:
وكيف بظلم جارية ومنها اللين والرحم
الباقون بسكونها؛ ومنه قول رؤبة بن العجاج:
يا منزل الرحم على إدريسا ومنزل اللعن على إبليسا
واختلف عن أبي عمرو، و{رحما{ معطوف على {زكاة{ أي رحمة؛ قال: رحمه رحمة ورحما؛ وألفه للتأنيث، ومذكره رحم. وقيل: الرُّحم هنا بمعنى الرَّحِم؛ قرأها ابن عباس {وأصل رحما{ أي رحما، وقرأ أيضا {أزكى منه{. وعن ابن جبير وابن جريج أنهما بُدلا جارية؛ قال الكلبي فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت له نبيا فهدى الله تعالى على يديه أمة من الأمم. قتادة: ولدت أثنى عشر نبيا، وعن ابن جريج أيضا أن أم الغلام يوم قتل كانت حاملا بغلام مسلم وكان المقتول كافرا. وعن ابن عباس: فولدت جارية ولدت نبيا؛ وفي رواية: أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيا؛ وقاله جعفر بن محمد عن أبيه؛ قال علماؤنا: وهذا بعيد ولا تعرف كثرة الأنبياء إلا في بني إسرائيل، وهذه المرأة لم تكن فيهم؛
ويستفاد من هذه الآية تهوين المصائب بفقد الأولاد وإن كانوا قطعا من الأكباد، ومن سلم للقضاء أسفرت عاقبته عن اليد البيضاء. قال قتادة: لقد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما. فالواجب على كل امرئ الرضا بقضاء الله تعالى، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه له فيما يحب.
الآية رقم ( 82 )
{وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا}
قوله تعالى{وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة{ هذان الغلامان صغيران بقرينة وصفهما باليتم، واسمهما أصرم وصريم. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يتم بعد بلوغ) هذا هو الظاهر. وقد يحتمل أن يبقى عليهما اسم اليتم بعد البلوغ إن كانا يتيمين، على معنى الشفقة عليهما. وقد تقدم أن اليتم في الناس من قبل فقد الأب، وفي غيرهم من الحيوان من قبل فقد الأم.
ودل قوله{في المدينة{ على أن القرية تسمى مدينة؛ ومنه الحديث (أمرت بقرية تأكل القرى...) وفي حديث الهجرة (لمن أنت) فقال الرجل: من أهل المدينة؛ يعني مكة.
قوله تعالى{وكان تحته كنز لهما{ اختلف الناس في الكنز؛ فقال عكرمة وقتادة: كان مالا جسيما وهو الظاهر من اسم الكنز إذ هو في اللغة المال المجموع؛ وقد مضى القول فيه. وقال ابن عباس:(كان علما في صحف مدفونة) عنه أيضا قال:(كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجبت لمن يؤمن بالدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن لها، لا إله إلا الله محمد رسول الله) وروي نحوه عن عكرمة وعمر مولى غفرة، ورواه عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى{وكان أبوهما صالحا{ ظاهر اللفظ والسابق منه أنه والدهما دِنْيَةً. وقيل: هو الأب السابع؛ قاله جعفر بن محمد. وقيل: العاشر فحفظا فيه وإن لم يذكر بصلاح؛ وكان يسمى كاشحا؛ قال مقاتل اسم أمهما دنيا؛ ذكره النقاش. ففيه ما يدل على أن الله تعالى يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بعدوا عنه وقد روي أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذريته؛ وعلى هذا يدل قوله تعالى{إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين}الأعراف: 196]
قوله تعالى{وما فعلته عن أمري{ يقتضي أن الخضر نبي؛ وقد تقدم الخلاف في ذلك. {ذلك تأويل{ أي تفسير. {ما لم تستطع عليه صبرا{ قرأت فرقة {تستطيع{ وقرأ الجمهور {تسطع{ قال أبو حاتم: كذا نقرأ كما في خط المصحف.
وهنا خمس مسائل
الأولى: إن قال قائل لم يسمع لفتى موسى ذكر في أول الآية ولا في آخرها، قيل له: اختلف في ذلك؛ فقال عكرمة لابن عباس: - لم يسمع لفتى موسى بذكر وقد كان معه؟ فقال(شرب الفتى من الماء فخلد، وأخذه العالم فطبق عليه سفينة ثم أرسله في البحر، وإنها لتموج به فيه إلى يوم القيامة وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب منه) قال القشيري: وهذا إن ثبت فليس الفتى يوشع بن نون؛ فإن يوشع بن نون قد عمر بعد موسى وكان خليفته؛ والأظهر أن موسى صرف فتاه لما لقي الخضر. وقال شيخنا الإمام أبو العباس: يحتمل أن يكون اكتفي بذكر المتبوع عن التابع والله أعلم.
الثانية: إن قال قائل: كيف أضاف الخضر قصة استخراج كنز الغلامين لله تعالى، وقال في خرق السفينة{فأرادت أن أعيبها{ فأضاف العيب إلى نفسه؟ قيل له: إنما أسند الإرادة في الجدار إلى الله تعالى لأنها في أمر مستأنف في زمن طويل غيب من الغيوب، فحسن إفراد هذا الموضع بذكر الله تعالى، وإن كان الخضر قد أراد ذلك فالذي أعلمه الله تعالى أن يريده وقيل: لما كان ذلك خيرا كله أضافه إلى الله تعالى وأضاف عيب السفينة إلى نفسه رعاية للأدب لأنها لفظة عيب فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله{وإذا مرضت فهو يشفين{ فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى، وأسند إلى نفسه المرض، إذ هو معنى نقصى ومصيبة، فلا يضاف إليه سبحانه وتعالى من الألفاظ إلا ما يستحسن منها دون ما يستقبح، وهذا كما قال تعالى{بيدك الخير}آل عمران: 26] واقتصر عليه فلم ينسب الشر إليه، وإن كان بيده الخير والشر والضر والنفع، إذ هو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء خبير ولا اعتراض بما حكاه عليه السلام عن ربه عز وجل أنه يقول يوم القيامة:(يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني) فإن ذلك تنزُّلُ في الخطاب وتلطف في العتاب مقتضاه التعريف بفضل ذي الجلال وبمقادير ثواب هذه الأعمال وقد تقدم هذا المعنى والله تعالى أعلم. ولله تعالى أن يطلق على نفسه ما يشاء، ولا نطلق نحن إلا ما أذن لنا فيه من الأوصاف الجميلة والأفعال الشريفة جل وتعالى عن النقائص والآفات علوا كبيرا. وقال في الغلام{فأردنا{ فكأنه أضاف القتل إلى نفسه، والتبديل إلى الله تعالى والأشد كمال الخلق والعقل. وقد مضى الكلام فيه في {الأنعام{ والحمد لله.
الثالثة: قال شيخنا الإمام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يزاد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر؛ فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون. قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب؛ لأنه إنكار ما علم من الشرائع؛ فإن الله تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين. خلقه، وهم المبلغون عنه رسالته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه؛ اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك؛ كما قال تعالى{الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصيرا}الحج: 75] وقال تعالى{الله أعلم حيث يجعل رسالته}الأنعام: 241] وقال تعالى{كان الناس أمه واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين}البقرة: 213] إلى غير ذلك من الآيات. وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري، واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يستغنى عن الرسل فهو كافر، يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام؛ الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول. وبيان ذلك أن من قال يأخذ عن قلبه وأن ما يقع فيه حكم الله تعالى وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة، فإن هذا نحو ما قاله عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي...) الحديث.
الرابعة: ذهب الجمهور من الناس إلى أن الخضر مات صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة: حي لأنه شرب من عين الحياة، وأنه باق في الأرض وأنه يحج البيت. قال ابن عطية: وقد أطنب النقاش في هذا المعنى، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب وغيره، وكلها لا تقوم على ساق. ولو كان الخضر عليه السلام حيا يحج لكان له في ملة الإسلام ظهور؛ والله العليم بتفاصيل الأشياء لا رب غيره ومما يقضي بموت الخضر عليه السلام الآن قوله عليه الصلاة السلام: (أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد).
قلت: إلى هذا ذهب البخاري واختاره القاضي أبو بكر بن العربي، والصحيح القول الثاني وهو أنه حي على ما نذكره. والحديث خرجه مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمر قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال: (أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن على ظهر الأرض أحد) قال ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول الله تلك فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة؛ وإنما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد) يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. ورواه أيضا من حديث جابر بن عبدالله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر: (تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة) وفي أخرى قال سالم: تذاكرنا أنها (هي مخلوقة يومئذ). وفي أخرى: (ما من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ). وفسرها عبدالرحمن صاحب السقاية قال: نقص العمر. وعن أبي سعيد الخدري نحو هذا الحديث قال علماؤنا: وحاصل ما تضمنه هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أخبر قبل موته بشهر أن من كان من بني آدم موجودا في ذلك لا يزيد عمره على مائة سنة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما من نفس منفوسة) وهذا اللفظ لا يتناول الملائكة ولا الجن إذ لم يصح عنهم أنهم كذلك، ولا الحيوان غير العاقل؛ لقوله: (ممن هو على ظهر الأرض أحد) وهذا إنما يقال بأصل وضعه على من يعقل، فتعين أن المراد بنو آدم. وقد بين ابن عمر هذا المعنى؛ فقال: يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. ولا حجة لمن استدل به على بطلان قول من يقول: إن الخضر حي لعموم قوله: (ما نفس منفوسة) لأن العموم وإن كان مؤكد الاستغراق فليس نصا فيه، بل هو قابل للتخصيص. فكما لم يتناول عيسى عليه السلام، فإنه لم يمت ولم يقتل فهو حي بنص القرآن ومعناه، ولا يتناول الدجال مع أنه حي بدليل حديث الجساسة، فكذلك لم يتناول الخضر عليه السلام وليس مشاهد للناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضا، فمثل هذا العموم لا يتناوله. وقد قيل: إن أصحاب الكهف أحياء ويحجون مع عيسى عليه الصلاة والسلام، كما تقدم. وكذلك فتى موسى في قول ابن عباس كما ذكرنا. وقد ذكر أبو إسحاق الثعلبي في كتاب العرائس له: والصحيح أن الخضر نبي معمر محجوب عن الأبصار؛ وروى محمد بن المتوكل عن ضمرة بن ربيعة عن عبدالله بن شوذب قال: الخضر عليه السلام من ولد فارس، وإلياس من بني إسرائيل يلتقيان كل عام في الموسم. وعن عمرو بن دينار قال: إن الخضر وإلياس لا يزالان حيين في الأرض ما دام القرآن على الأرض، فإذا رفع ماتا. وقد ذكر شيخنا الإمام أبو محمد عبدالمعطي بن محمود بن عبدالمعطي اللخمي في شرح الرسالة له للقشيري حكايات كثيرة عن جماعة من الصالحين والصالحات بأنهم رأوا الخضر عليه السلام ولقوه، يفيد مجموعها غاية الظن بحياته مع ما ذكره النقاش والثعلبي وغيرهما. وقد جاء في صحيح مسلم: (أن الدجال ينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس - أو - من خير الناس...) الحديث؛ وفي آخره قال أبو إسحاق: يعني أن هذا الرجل هو الخضر. وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الهواتف: بسند يوقفه إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه (أنه لقي الخضر وعلمه هذا الدعاء، وذكر أن فيه ثوابا عظيما ومغفرة ورحمة لمن قال في أثر كل صلاة، وهو: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا تغلطه المسائل، ويا من لا يتبرم من إلحاح الملحين، أذقني برد عفوك، وحلاوة مغفرتك) وذكر أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الدعاء بعينه نحوا مما ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في سماعه من الخضر. وذكر أيضا اجتماع إلياس مع النبي عليه الصلاة والسلام. وإذا جاز بقاء إلياس إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم جاز بقاء الخضر، وقد ذكر أنهما يجتمعان عند البيت في كل حول، وأنهما يقولان عند افتراقهما: (ما شاء الله ما شاء الله، لا يصرف السوء إلا الله، ما شاء الله ما شاء، ما يكون من نعمة فمن الله، ما شاء الله ما شاء الله، توكلت على الله، حسبنا الله ونعم الوكيل) وأما خبر إلياس فيأتي في {الصافات{ إن شاء الله تعالى.
وذكر أبو عمر بن عبدالبر في كتاب التمهيد: عن علي رضي الله تعالى عنه قال:(لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وسجي بثوب هتف هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته ولا يرون شخصه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم أهل البيت{ كل نفس ذائقة الموت...}آل عمران: 185] - الآية - إن في الله خلفا من كل هالك، وعوضا من كل تالف، وعزاء من كل مصيبة، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب) فكانوا يرون أنه الخضر عليه الصلاة السلام. يعني أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. والألف واللام في قوله: (على الأرض) للعهد لا للجنس وهي أرض العرب، بدليل تصرفهم فيها وإليها غالبا دون أرض يأجوج ومأجوج، وأقاصي جزر الهند والسند مما لا يقرع السمع اسمه، ولا يعلم علمه. ولا جواب عن الدجال.
قال السهيلي: واختلف في اسم الخضر اختلافا متباينا؛ فعن ابن منبه أنه قال: أبليا بن ملكان بن فالغ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وقيل: هو ابن عاميل بن سماقحين بن أريا بن علقما بن عيصو بن إسحاق، وأن أباه كان ملكا، وأن أمه كانت بنت فارس واسمها ألمى، وأنها ولدته في مغارة، وأنه وجد هنالك وشاة ترضعه في كل يوم من غنم رجل من القرية، فأخذه الرجل فرباه، فلما شب وطلب الملك - أبوه - كاتبا وجمع أهل المعرفة والنبالة ليكتب الصحف التي أنزلت على إبراهيم وشيث، كان ممن أقدم عليه الكتاب ابنه الخضر وهو لا يعرفه، فلما استحسن خطه ومعرفته وبحث جلية أمره عرف أنه ابنه فضمه لنفسه وولاه أمر الناس ثم إن الخضر فر من الملك لأسباب يطول ذكرها إلى أن وجد عين الحياة فشرب منها، فهو حي إلى أن يخرج الدجال، وأنه الرجل الذي يقتله الدجال ويقطعه ثم يحييه الله تعالى. وقيل: لم يدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا لا يصح وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث منهم شيخنا أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: إنه مات قبل انقضاء المائة، من قوله عليه الصلاة والسلام: (إلى رأس مائة عام لا يبقى على هذه الأرض ممن هو عليها أحد) يعني من كان حيا حين قال هذه المقالة
قلت: قد ذكرنا هذا الحديث والكلام عليه، وبينا حياة الخضر إلى الآن، والله أعلم.
الخامسة: قيل إن الخضر لما ذهب يفارق موسى قال له موسى: أوصني؛ قال: كن بساما ولا تكن ضحاكا، ودع اللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تعب على الخطائين خطاياهم وابك على خطيئتك يا ابن عمران.
{ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما، قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا، وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا}
قال ابن اسحاق: وكان من خبر ذي القرنين أنه أوتى ما لم يؤت غيره، فمدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها، لا يطأ أرضا إلا سلط على أهلها، حتى انتهى من المشرق والمغرب إلى ما ليس وراءه شيء من الخلق. قال ابن إسحاق: حدثني من يسوق الأحاديث عن الأعاجم فيما توارثوا من علم ذي القرنين أن ذا القرنين كان من أهل مصر اسمه مرزبان بن مردبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح. قال ابن هشام: واسمه الإسكندر وهو الذي بنى الإسكندرية فنسبت إليه. قال ابن إسحاق: وقد حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان الكلاعي - وكان خالد رجلا قد أدرك الناس - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال: (ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب) وقال خالد: وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا يقول يا ذا القرنين، فقال:(اللهم غفرا أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة) قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان؟ أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أم لا؟ والحق ما قال. قلت: وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه مثل قول عمر؛ سمع رجل يدعو آخر يا ذا القرنين، فقال علي:(أما كفاكم أن تسميتم بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة) وعنه أنه عبد ملك (بكسر اللام) صالح نصح الله فأيده. وقيل: هو نبي مبعوث فتح الله تعالى على يديه الأرض. وذكر الدار قطني في كتاب الأخبار أن ملكا يقال له رباقيل كان ينزل على ذي القرنين، وذلك الملك هو الذي يطوي الأرض يوم القيامة، وينقضها فتقع أقدام الخلائق كلهم بالساهرة؛ فيما ذكر بعض أهل العلم. وقال السهيلي: وهذا مشاكل بتوكيله بذي القرنين الذي قطع الأرض مشارقها ومغاربها؛ كما أن قصة خالد بن سنان في تسخير النار له مشاكلة بحال الملك الموكل بها، وهو مالك عليه السلام وعلى جميع الملائكة أجمعين. ذكر ابن أبي خيثمة في كتاب البدء له خالد بن سنان العبسي وذكر نبوته، وذكر أنه وكل به من الملائكة مالك خازن النار، وكان من أعلام نبوته أن نارا يقال لها نار الحدثان، كانت تخرج على الناس من مغارة فتأكل الناس ولا يستطيعون ردها، فردها خالد بن سنان فلم تخرج بعد. واختلف في اسم ذي القرنين وفي السبب الذي سمي به بذلك اختلافا كثيرا؛ فأما اسمه فقيل: هو الإسكندر الملك اليوناني المقدوني، وقد تشدد قافه فيقال: المقدوني. وقيل: اسمه هرمس. ويقال: اسمه هرديس. وقال ابن هشام: هو الصعب بن ذي يزين الحميري من ولد وائل بن حمير؛ وقد تقدم قول ابن إسحاق. وقال وهب بن منبه: هو رومي. وذكر الطبري حديثا عن النبي عليه الصلاة والسلام (أن ذا القرنين شاب من الروم) وهو حديث واهي السند؛ قال ابن عطية. قال السهيلي: والظاهر من علم الأخبار أنهما اثنان: أحدهما: كان على عهد إبراهيم عليه السلام، ويقال: إنه الذي قضى لإبراهيم عليه السلام حين تحاكموا إليه في بئر السبع بالشام. والآخر: أنه كان قريبا من عهد عيسى عليه السلام. وقيل: إنه أفريدون الذي قتل بيوراسب بن أرونداسب الملك الطاغي على عهد إبراهيم عليه السلام، أو قبله بزمان. وأما الاختلاف في السبب الذي سمي به، فقيل: إنه كان ذا ضفيرتين من شعر فسمي بهما؛ ذكره الثعلبي وغيره. والضفائر قرون الرأس؛ ومنه قول الشاعر:
فلثمت فاها آخذا بقرونها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
وقيل: إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس، فقص ذلك، ففسر أنه سيغلب ما ذرت عليه الشمس، فسمي بذلك ذا القرنين. وقيل: إنما سمي بذلك، لأنه بلغ المغرب والمشرق فكأنه حاز قرني الدنيا. وقالت طائفة: إنه لما بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرونها فسمي بذلك ذا القرنين؛ أو قرني الشيطان بها. وقال وهب بن منبه: كان له قرنان تحت عمامته. وسأل ابن الكواء عليا رضي الله تعالى عنه عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا؟ فقال(لاذا ولاذا، كان عبدا صالحا دعا قومه إلى الله تعالى فشجوه على قرنه، ثم دعاهم فشجوه على قرنه الآخر، فسمي ذا القرنين) واختلفوا أيضا في وقت زمانه، فقال قوم: كان بعد موسى. وقال قوم: كان في الفترة بعد عيسى وقيل: كان في وقت إبراهيم وإسماعيل. وكان الخضر عليه السلام صاحب لوائه الأعظم؛ وفد ذكرناه في {البقرة{. وبالجملة فإن الله تعالى مكنه وملكه ودانت له الملوك، فروي أن جميع ملوك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران؛ فالمؤمنان سليمان بن داود وإسكندر، والكافران نمرود وبختنصر؛ وسيملكها من هذه الأمة خامس لقوله تعالى{ليظهره على الدين كله}التوبة: 33] وهو المهدي وقد قيل: إنما سمي ذا القرنين لأنه كان كريم الطرفين من أهل بيت شريف من قبل أبيه وأمه وقيل: لأنه أنقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي وقيل: لأنه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركابيه جميعا. وقيل لأنه أعطي علم الظاهر والباطن. وقيل: لأنه دخل الظلمة والنور. وقيل: لأنه ملك فارس والروم.
قوله تعالى{إنا مكنا له في الأرض{ قال علي رضي الله عنه:(سخر له السحاب، ومدت له الأسباب، وبسط له في النور، فكان الليل والنهار عليه سواء) وفي حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجال من أهل الكتاب سألوه عن ذي القرنين فقال: (إن أول أمره كان غلاما من الروم فأعطي ملكا فسار حتى أتى أرض مصر فابتنى بها مدينة يقال لها الإسكندرية فلما فرغ أتاه ملك فعرج به فقال له انظر ما تحتك قال أرى مدينتي وحدها لا أرى غيرها فقال له الملك تلك الأرض كلها وهذا السواد الذي تراه بها هو البحر وإنما أراد الله تعالى أن يريك الأرض وقد جعل لك سلطانا فيها فسر في الأرض. فعلم الجاهل وثبت العالم) الحديث.
قوله تعالى{وآتيناه من كل شيء سببا{ قال ابن عباس:(من كل شيء علما يتسبب به إلى ما يريد) وقال الحسن: بلاغا إلى حيث أراد. وقيل: من كل شيء يحتاج إليه الخلق. وقيل: من كل شيء يستعين به الملوك من فتح المدائن وقهر الأعداء. وأصل السبب الحبل فاستعير لكل ما يتوصل به إلى شيء.
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي {فأتبع سببا{ مقطوعة الألف وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو {فاتبع سببا{ بوصلها؛ أي اتبع سببا من الأسباب التي أوتيها. قال الأخفش: تبعته وأتبعته بمعنى؛ مثل ردفته وأردفته، ومنه قوله تعالى{إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب}الصافات: 10] ومنه الإتباع في الكلام مثل حسن بسن وقبيح شقيح. قال النحاس: واختار أبو عبيد قراءة أهل الكوفة قال: لأنها من السير، وحكى هو والأصمعي أنه يقال: تبعه واتبعه إذا سار ولم يلحقه، وأتبعه إذا لحقه؛ قال أبو عبيد: ومثله {فأتبعوهم مشرقين{ قال النحاس: وهذا التفريق إن كان الأصمعي قد حكاه لا يقبل إلا بعلة أو دليل. وقوله عز وجل{فأتبعوهم مشرقين}الشعراء: 60] ليس في الحديث أنهم لحقوهم، وإنما الحديث: لما خرج موسى عليه السلام وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه انطبق عليهم البحر والحق في هذا أن تبع وأتبع وأتبع لغات بمعنى واحد، وهي بمعنى السير، فقد يجوز أن يكون معه لحاق وألا يكون.
قوله تعالى{حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة{ قرأ ابن عاصم وعام وحمزة والكسائي {حامية{ أي حارة. الباقون {حمئة{ أي كثيرة الحمأة وهي الطينة السوداء، تقول: حمأت البئر حمأ (بالتسكين) إذا نزعت حمأتها. وحمئت البئر حمأ (بالتحريك) كثرت حمأتها. ويجوز أن تكون {حامية{ من الحمأة فخففت الهمزة وقلبت ياء. وقد يجمع بين القراءتين فيقال: كانت حارة وذات حمأة. وقال عبدالله بن عمرو: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غربت؛ فقال: (نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض). وقال ابن عباس:(أقرأنيها أبي كما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم {في عين حمئة{؛ وقال معاوية: هي {حامية{ فقال عبدالله بن عمرو بن العاص: فأنا مع أمير المؤمنين؛ فجعلوا كعبا بينهم حكما وقالوا: يا كعب كيف تجد هذا في التوراة؟ فقال: أجدها تغرب في عين سوداء، فوافق ابن عباس) وقال الشاعر وهو تبع اليماني:
قد كان ذو القرنين قبلي مسلما ملكا تدين له الملوك وتسجد
بلغ المغارب والمشارق يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد
الخلب: الطين: والثأط: الحماة. والحرمد. والأسود. وقال القفال قال بعض العلماء: ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربا ومشرقا وصل إلى جرمها ومسها؛ لأنها تدور مع السماء حول الأرض من غير أن تلتصق بالأرض، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض، بل هي أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض؛ ولهذا قال{وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا{ ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم. وقال القتبي: ويجوز أن تكون هذه العين من البحر، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها أو معها أو عندها، فيقام حرف الصفة مقام صاحبه والله أعلم.
قوله تعالى{ووجد عندها قوما{ أي عند العين، أو عند نهاية العين، وهم أهل جابرس، ويقال لها بالسريانية: جرجيسا؛ يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح؛ ذكره السهيلي. وقال وهب بن منبه: (كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان اسمه الإسكندر، فلما بلغ وكان عبدا صالحا قال الله تعالى: يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض وهم أمم مختلفة ألسنتهم، وهم أمم جميع الأرض، وهم أصناف: أمتان بينهما طول الأرض كله، وأمتان بينهما عرض الأرض كله، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج؛ فأما اللتان بينهما طول الأرض فأمة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، وأما الأخرى فعند مطلعها ويقال لها منسك. وأما اللتان بينهما عرض الأرض فأمة في قطر الأرض الأيمن يقال لها هاويل؛ وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر يقال لها تاويل. فقال ذو القرنين: إلهي قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت؛ فأخبرني عن هذه الأمم بأي قوة أكاثرهم؟ وبأي صبر أقاسيهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ فكيف لي بأن أفقه لغتهم وليس عندي قوة؟ فقال الله تعالى: سأظفرك بما حملتك؛ أشرح لك صدرك فتسمع كل شيء، وأثبت لك فهمك فتفقه كل شيء، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء، وأسخر لك النور والظلمة فيكونان جندا من جنودك، يهديك النور من أمامك، وتحفظك الظلمة من ورائك؛ فلما قيل له ذلك سار بمن اتبعه، فانطلق إلى الأمة التي عند مغرب الشمس؛ لأنها كانت أقرب الأمم منه وهي ناسك، فوجد جموعا لا يحصيها إلا الله تعالى وقوة وبأسا لا يطيقه إلا الله. وألسنة مختلقة، وأهواء متشتتة فكاثرهم بالظلمة؛ فضرب حولهم ثلاث عساكر من جند الظلمة قدر ما أحاط بهم من كل مكان، حتى جمعتهم في مكان واحد، ثم دخل عليهم بالنور فدعاهم إلى الله تعالى وإلى عبادته، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر وصد عنه، فأدخل على الذين تولوا الظلمة فغشيتهم من كل مكان، فدخلت إلى أفواههم وأنوفهم وأعينهم وبيوتهم وغشيتهم من كل مكان، فتحيروا وماجوا وأشفقوا أن يهلكوا، فعجوا إلى الله تعالى بصوت واحد: إنا آمنا؛ فكشفها عنهم، وأخذهم عنوة، ودخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب أمما عظيمة فجعلهم جندا واحدا، ثم انطلق بهم يقودهم، والظلمة تسوقهم وتحرسه من خلفه، والنور أمامهم يقوده ويدله، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن وهى هاويل، وسخر الله تعالى يده وقلبه وعقله ونظره فلا يخطئ إذا عمل عملا، فإذا أتوا مخاضة أو بحرا بنى سفنا من ألواح صغار مثل النعال فنظمها في ساعة، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم، فإذا قطع البحار والأنهار فتقها ودفع إلى كل رجل لوحا فلا يكترث بحمله، فانتهى إلى هاويل وفعل بهم كفعله بناسك فآمنوا، ففرغ منهم، وأخذ جيوشهم وانطلق إلى ناحية الأرض الأخرى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس، فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الأولى، ثم كر مقبلا حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى يريد تاويل، وهي الأمة التي تقابل هاويل بينهما عرض الأرض، ففعل فيها كفعله فيما قبلها، ثم عطف إلى الأمم التي في وسط الأرض من الجن الإنس ويأجوج ومأجوج، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك من المشرق قالت أمة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله تعالى كثيرا لهم عدد، وليس فيهم مشابهة من الإنس، وهم أشباه البهائم؛ يأكلون العشب، ويفترسون الدواب والوحش كما تفترسها السباع، ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيات والعقارب والوزغ وكل ذي روح مما خلق الله تعالى في الأرض، وليس لله تعالى خلق ينمو نماءهم في العام الواحد، فإن طالت المدة فسيملؤون الأرض، ويجلون أهلها فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا؟...) وذكر الحديث؛ وسيأتي من صفة يأجوج ومأجوج والترك إذ هم نوع منهم ما فيه كفاية.
قوله تعالى{قلنا يا ذا القرنين{ قال القشيري أبو نصر: إن كان نبيا فهو وحي، وإن لم يكن نبيا فهو إلهام من الله تعالى. {إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا{ قال إبراهيم بن السري: خيره بين هذين كما خير محمدا صلى الله عليه وسلم فقال{فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم}المائدة: 42] ونحوه. وقال أبو إسحاق الزجاج: المعنى أن الله تعالى خيره بين هذين الحكمين؛ قال النحاس: وردّ علي بن سليمان عليه قوله؛ لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا، فكيف يقول لربه عز وجل{ثم يرد إلى ربه{؟ وكيف يقول{فسوف نعذبه{ فيخاطب بالنون؟ قال: التقدير؛ قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين. قال أبو جعفر النحاس: هذا الذي قاله أبو الحسن لا يلزم منه شيء. أما قوله{قلنا يا ذا القرنين{ فيجوز أن يكون الله عز وجل خاطبه على لسان نبي في وقته، ويجوز أن يكون قال له هذا كما قال لنبيه{فإما منا بعد وإما فداء}محمد: 4]، وأما إشكال {فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه{ فإن تقديره أن الله تعالى خيره بين القتل في قوله
قوله تعالى{قال أما من ظلم{ أي من أقام على الكفر منكم، {فسوف نعذبه{ أي بالقتل {ثم يرد إلى ربه{ أي يوم القيامة{فيعذبه عذابا نكرا{ أي شديدا في جهنم. {وأما من آمن وعمل صالحا{ أي تاب من الكفر {فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا{ قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم {فله جزاء الحسنى{ بالرفع على الابتداء أو بالاستقرار و{الحسنى{ موضع خفض بالإضافة ويحذف التنوين للإضافة؛ أي له جزاء الحسنى عند الله تعالى في الآخرة وهي الجنة، فأضاف الجزاء إلى الجنة، كقوله{حق اليقين}الواقعة: 95]، {ولدار الآخرة}الأنعام: 32]؛ قاله الفراء. ويحتمل أن يريد بـ {الحسنى{ الأعمال الصالحة ويمكن أن يكون الجزاء من ذي القرنين؛ أي أعطيه وأتفضل عليه ويجوز أن يحذف التنوين لالتقاء الساكنين ويكون {الحسنى{ في موضع رفع على البدل عند البصريين، وعلى الترجمة عند الكوفيين، وعلى هذا قراءة ابن أبي إسحاق {فله جزاء الحسنى{ إلا أنك لم تحذف التنوين، وهو أجود. وقرأ سائر الكوفيين {فله جزاء الحسنى{ منصوبا منونا؛ أي فله الحسنى جزاء قال الفراء{جزاء{ منصوب على التمييز وقيل: على المصدر؛ وقال الزجاج: هو مصدر في موضع الحال؛ أي مجزيا بها جزاء وقرأ ابن عباس ومسروق {فله جزاء الحسنى{ منصوبا غير منون وهي عند أبي حاتم على حذف التنوين لالتقاء الساكنين مثل {فله جزاء الحسنى{ في أحد الوجهين. النحاس: وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين ويكون تقديره: فله الثواب جزاء الحسنى.
تقدم معناه أن أتبع واتبع بمعنى أي سلك طريقا ومنازل.
قوله تعالى{حتى إذا بلغ مطلع الشمس{ وقرأ مجاهد وابن محيصن بفتح الميم واللام؛ يقال: طلعت الشمس والكواكب طلوعا ومطلعا. والمطلَع والمطلِع أيضا موضع طلوعها قاله الجوهري. {وجدها تطلع على قوم{ المعنى أنه انتهى إلى موضع قوم لم يكن بينهم وبين مطلع الشمس أحد من الناس. والشمس تطلع وراء ذلك بمسافة بعيدة وقد اختلف فيهم؛ فعن وهب بن منبه ما تقدم، وأنها أمة يقال لها منسك وهي مقابلة ناسك؛ وقال مقاتل وقال قتادة: يقال لهما الزنج وقال الكلبي: هم تارس وهاويل ومنسك؛ حفاة عراة عماة عن الحق، يتسافدون مثل الكلاب، ويتهارجون تهارج الحمر. وقيل: هم أهل جابلق وهم من نسل مؤمني عاد الذين آمنوا بهود، ويقال لهم بالسريانية مرقيسا والذين عند مغرب الشمس هم أهل جابرس؛ ولكل واحدة من المدينتين عشرة آلاف باب، وبين كل باب فرسخ ووراء جابلق أمم وهم تافيل وتارس وهم يجاورون يأجوج ومأجوج وأهل جابرس وجابلق آمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام (مر بهم ليلة الإسراء فدعاهم فأجابوه، ودعا الأمم الآخرين فلم يجيبوه)؛ ذكره السهيلي وقال: اختصرت هذا كله من حديث طويل رواه مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الطبري مسندا إلى مقاتل يرفعه؛ والله أعلم.
قوله تعالى{لم نجعل لهم من دونها سترا{ أي حجابا يستترون منها عند طلوعها. قال قتادة: لم يكن بينهم وبين الشمس سترا؛ كانوا في مكان لا يستقر عليه بناء، وهم يكونون في أسراب لهم، حتى إذا زالت الشمس عنهم رجعوا إلى معايشهم وحروثهم؛ يعني لا يستترون منها بكهف جبل ولا بيت يكنهم منها. وقال أمية: وجدت رجالا بسمرقند يحدثون الناس، فقال بعضهم: خرجت حتى جاوزت الصين، فقيل لي: إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فاستأجرت رجلا يرينيهم حتى صبحتهم، فوجدت أحدهم يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى، وكان صاحبي يحسن كلامهم، فبتنا بهم، فقالوا: فيم جئتم؟ قلنا: جئنا ننظر كيف تطلع الشمس؛ فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة، فغشي على ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلعت الشمس على الماء إذ هي على الماء كهيئة الزيت، وإذا طرف السماء كهيئة الفسطاط، فلما ارتفعت أدخلوني سربا لهم، فلما ارتفع النهار وزالت الشمس عن رؤوسهم خرجوا يصطادون السمك، فيطرحونه في الشمس فينضج. وقال ابن جريج: جاءهم جيش مرة، فقال لهم أهلها: لا تطلع الشمس وأنتم بها، فقالوا: ما نبرح حتى تطلع الشمس. ثم قالوا: ما هذه العظام؟ قالوا: هذه والله عظام جيش طلعت عليهم الشمس ههنا فماتوا قال: فولوا هاربين في الأرض. وقال الحسن: كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، وكانت لا تحمل البناء، فإذا طلعت عليهم الشمس نزلوا في الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا، فيتراعون كما تتراعى البهائم.
قلت: وهذه الأقوال تدل على أن مدينة هناك والله أعلم. وربما يكون منهم من يدخل في النهر ومنهم من يدخل في السرب فلا تناقض بين قول الحسن وقتادة.
الآية رقم ( 92 )
{ثم أتبع سببا}
تقدم معناه أن أتبع واتبع بمعنى أي سلك طريقا ومنازل.
الآية رقم ( 93 )
{حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا}
قوله تعالى{حتى إذا بلغ بين السدين{ وهما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان. روى عطاء الخراساني عن ابن عباس{بين السدين{ الجبلين أرمينية وأذربيجان {وجد من دونهما{ أي من ورائهما. {قوما لا يكادون يفقهون قولا{ وقرأ حمزة والكسائي {يفقهون{ بضم الياء وكسر القاف من أفقه إذا أبان أي لا يفقهون غيرهم كلاما. الباقون بفتح الياء والقاف، أي يعلمون. والقراءتان صحيحتان، فلا هم يفقهون من غيرهم ولا يفقهون غيرهم.
الآية رقم ( 94 )
{قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا}
قوله تعالى{قالوا ياذا القرنين{ أي قالت له أمة من الإنس صالحة. {إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض{ قال الأخفش: من همز {يأجوج{ فجعل الألفين من الأصل يقول: يأجوج يفعول ومأجوج مفعول كأنه من أجيج النار. قال: ومن لا يهمز ويجعل الألفين زائدتين يقول{ياجوج{ من يججت وماجوج من مججت وهما غير مصروفين؛ قال رؤبة:
لو أن يأجوج ومأجوج معا وعاد عاد واستجاشوا تبعا
ذكره الجوهري. وقيل: إنما لم ينصرفا لأنهما اسمان أعجميان، مثل طالوت وجالوت غير مشتقين؛ علتاهما في منع الصرف العجمة والتعريف والتأنيث. وقالت فرقة: هو معرب من أج وأجج علتاهما في منع الصرف التعريف والتأنيث. وقال أبو علي: يجوز أن يكونا عربيين؛ فمن همز {يأجوج{ فهو على وزن يفعول مثل يربوع، من قولك أجت النار أي ضويت، ومنه الأجيج، ومنه ملح أجاج، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفا مثل رأس، وأما {مأجوج{ فهو مفعول من أج، والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق ومن لم يهمز فيجوز أن يكون خفف الهمزة، ويجوز أن يكون فاعولا من مج، وترك الصرف فيهما للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة. واختلف في إفسادهم؛ سعيد بن عبدالعزيز: إفسادهم أكل بني آدم. وقالت فرقة: إفسادهم إنما كان متوقعا، أي سيفسدون، فطلبوا وجه التحرز منهم. وقالت فرقة: إفسادهم هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر، والله أعلم. وقد وردت أخبار بصفتهم وخروجهم وأنهم ولد يافث. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولد لنوح سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم وولد حام القبط والبربر والسودان). وقال كعب الأحبار: احتلم آدم عليه السلام فاختلط ماؤه بالتراب فأسف فخلقوا من ذلك الماء، فهم متصلون بنا من جهة الأب لا من جهة الأم. وهذا فيه نظر؛ لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يحتلمون، وإنما هم من ولد يافث، وكذلك قال مقاتل وغيره. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل). يعني يأجوج ومأجوج. وقال أبو سعيد:(هم خمس وعشرون قبيلة من وراء يأجوج ومأجوج لا يموت الرجل من هؤلاء ومن يأجوج ومأجوج حتى يخرج من صلبه ألف رجل) ذكره القشيري. وقال عبدالله بن مسعود: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال، عليه الصلاة والسلام: (يأجوج ومأجوج أمتان كل أمة أربعمائة ألف أمة كل أمة لا يعلم عددها إلا الله لا يموت الرجل منهم حتى يولد له ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح) قيل: يا رسول الله صفهم لنا. قال: (هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز - شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع - وصنف عرضه وطوله سواء نحوا من الذراع وصنف يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ويأكلون من مات منهم مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار الشرق وبحيرة طبرية فيمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس). وقال علي رضي الله تعالى عنه:(وصنف منهم في طول شبر، لهم مخالب وأنياب السباع، وتداعي الحمام، وتسافد البهائم، وعواء الذئاب، وشعور تقيهم الحر والبرد، وآذان عظام إحداها وبرة يشتون فيها، والأخرى جلدة يصيفون فيها، ويحفرون السد حتى كادوا ينقبونه فيعيده الله كما كان، فيقولون: ننقبه غدا إن شاء الله تعالى فينقبونه ويخرجون، ويتحصن الناس بالحصون، فيرمون إلى السماء فيرد السهم عليهم ملطخا بالدم، ثم يهلكم الله تعالى بالنغف في رقابهم). ذكره الغزنوي. وقال علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يأجوج أمة لها أربعمائة أمير وكذا مأجوج لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده).
قلت: وقد جاء مرفوعا من حديث أبي هريرة، خرجه ابن ماجه في السنن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن يأجوج ومأجوج يحفران كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعيده الله أشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله تعالى فاستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحقرونه ويخرجون على الناس فينشفون الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع عليها الدم - الذي أحفظ - فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله تعالى عليهم نغفا في أقفائهم فيقتلهم بها) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم) قال الجوهري شكرت الناقة تشكر شكرا فهي شكرة؛ وأشكر الضرع امتلأ لبنا.
وقال وهب بن منبه: رآهم ذو القرنين، وطول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا، لهم مخاليب في مواضع الأظفار وأضراس وأنياب كالسباع، وأحناك كأحناك الإبل، وهم هلب عليهم من الشعر ما يواريهم، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان، يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى، وكل واحد منهم قد عرف أجله لا يموت حتى يخرج له من صلبه ألف رجل إن كان ذكرا، ومن رحمها ألف أنثى إن كانت أنثى. وقال السدي والضحاك: الترك شرذمة من يأجوج ومأجوج خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت في هذا الجانب. قال السدي: بني السد على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك قاله قتادة.
قلت: وإذا كان هذا فقد نعت النبي صلى الله عليه وسلم الترك كما نعت يأجوج ومأجوج، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك قوما وجوههم كالمجان المطرقة يلبسون الشعر ويمشون في الشعر) في رواية (ينتعلون الشعر) خرجه مسلم وأبو داود وغيرهما. ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم عددهم وكثرتهم وحدة شوكتهم قال عليه الصلاة والسلام: (اتركوا الترك ما تركوكم). وقد خرج منهم في هذا الوقت أمم لا يحصيهم إلا الله تعالى، ولا يردهم عن المسلمين إلا الله تعالى، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم. وروى أبو داود عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له دجلة يكون عليه جسر يكثر أهلها وتكون من أمصار المهاجرين - قال ابن يحيى قال أبو معمر وتكون من أمصار المسلمين فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شاطئ النهر فيتفرق أهلها ثلاث فرق فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم الشهداء) الغائط المطمئن من الأرض والبصرة الحجارة الرخوة وبها سميت البصرة وبنو قنطوراء هم الترك يقال: إن قنطوراء اسم جارية كانت لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، ولدت له أولادا جاء من نسلهم الترك.
قوله تعالى{فهل نجعل لك خرجا{ استفهام على جهة حسن الأدب {خرجا{ أي جعلا وقرئ {خراجا{ والخرج أخص من الخراج يقال: أد خرج رأسك وخراج مدينتك وقال الأزهري: الخراج يقع على الضريبة، ويقع على مال الفيء، ويقع على الجزية وعلى الغلة والخراج اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال. والخرج: المصدر. {على أن تجعل بيننا وبينهم سدا{ أي ردما؛ والردم ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل وثوب مردم أي مرقع قال الهروي يقال: ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردما أي سددتها والردم أيضا الاسم وهو السد وقيل: الردم أبلغ من السد إذ السد كل ما يسد به والردم وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع ومنه ردم ثوبه إذا رقعه برقاع متكاثفة بعضها فوق بعض ومنه قول عنترة:
هل غادر الشعراء من متمرد
أي من قول يركب بعضه على بعض وقرئ {سدا{ بالفتح في السين، فقال الخليل وسيبويه: الضم هو الاسم والفتح المصدر. وقال الكسائي: الفتح والضم لغتان بمعنى واحد وقال عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة: ما كان من خلقة الله لم يشاركه فيه أحد بعمل فهو بالضم، وما كان من صنع البشر فهو بالفتح. ويلزم أهل هذه المقالة أن يقرؤوا {سدا{ بالفتح وقبله {بين السدين{ بالضم، وهي قراءة حمزة والكسائي. وقال أبو حاتم عن ابن عباس وعكرمة عكس ما قال أبو عبيدة. وقال ابن أبي إسحاق: ما رأته عيناك فهو سد بالضم وما لا ترى فهو سد بالفتح.
في هذه الآية دليل على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه، ولا يتركون وما هم عليه، بل يوجعون ضربا ويحبسون أو يكلفون ويطلقون كما فعل عمر رضي الله عنه.
الآية رقم ( 95 )
{قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما}
فيه مسألتان
[الأولى] قوله تعالى{قال ما مكني قيه ربي خير فأعينوني بقوة{ المعنى قال لهم ذو القرنين ما بسطه الله تعالى لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم ولكن أعينوني بقوة الأبدان، أي برجال وعمل منكم بالأبدان، والآلة التي أبني بها الردم وهو السد وهذا تأييد من الله تعالى لذي القرنين في هذه المحاورة فإن القوم لو جمعوا له خرجا لم يعنه أحد ولو كلوه إلى البنيان ومعونته بأنفسهم أجمل به وأسرع في انقضاء هذا العمل وربما أربى ما ذكروه له على الخرج. وقرأ ابن كثير وحده {ما مكنني{ بنونين. وقرأ الباقون {ما مكني فيه ربي{
[الثانية] في هذه الآية دليل أن الملك فرض عليه أن يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم، وسد فرجتهم، وإصلاح ثغورهم، من أموالهم التي تفيء عليهم، وحقوقهم التي تجمعها خزانتهم تحت يده ونظره، حتى لو أكلتها الحقوق، وأنفذتها المؤن، لكان عليهم جبر ذلك من أموالهم، وعليه حسن النظر لهم؛ وذلك بثلاثة شروط: الأول: ألا يستأثر عليهم بشيء. الثاني: أن يبدأ بأهل الحاجة فيعينهم الثالث أن يسوي في العطاء بينهم على قدر منازلهم، فإذا فنيت بعد هذا وبقيت صفرا فأطلعت الحوادث أمرا بذلوا أنفسهم قبل أموالهم، فإن لم يغن ذلك فأموالهم تؤخذ منهم على تقدير، وتصريف بتدبير؛ فهذا ذو القرنين لما عرضوا عليه المال في أن يكف عنهم ما يحذرونه من عادية يأجوج ومأجوج قال: لست احتاج إليه وإنما احتاج إليكم {فأعينوني بقوة{ أي اخدموا بأنفسكم معي، فان الأموال عندي والرجال عندكم، ورأى أن الأموال لا تغني عنهم، فإنه إن أخذها أجرة نقص ذلك مما يحتاج إليه، فيعود بالأجر عليهم، فكان التطوع بخدمة الأبدان أولى. وضابط الأمور لا يحل مال أحد إلا لضرورة تعرض، فيؤخذ ذلك، المال جهرا لا سرا، وينفق بالعدل لا بالاستئثار، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر. والله تعالى الموفق للصواب.
الآية رقم ( 96 )
{آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا}
قوله تعالى{آتوني زبر الحديد{ أي أعطوني زبر الحديد وناولونيها أمرهم بنقل الآلة، وهذا كله إنما هو استدعاء العطية التي بغير معنى الهبة، وإنما هو استدعاء للمناولة، لأنه قد ارتبط من قوله: إنه لا يأخذ منهم الخرج فلم يبق إلا استدعاء المناولة، وأعمال الأبدان و{زبر الحديد{ قطع الحديد. وأصل الكلمة الاجتماع، ومنه زُبرة الأسد لما اجتمع من الشعر على كاهله. وزبرت الكتاب أي كتبته وجمعت حروفه. وقرأ أبو بكر والمفضل {ردما ايتوني{ من الإتيان الذي هو المجيء؛ أي جيؤوني بزبر الحديد، فلما سقط الخافض انتصب الفعل على نحو قول الشاعر:
أمرتك الخير...
حذف الجار فنصب الفعل وقرأ الجمهور {زبر{ بفتح الباء وقرأ الحسن بضمها؛ وكل ذلك جمع زبرة وهي القطعة العظيمة منه.
قوله تعالى{حتى إذا ساوى{ يعني البناء فحذف لقوة الكلام عليه. {بين الصدفين{ قال أبو عبيدة: هما جانبا الجبل، وسميا بذلك لتصادفهما أي لتلاقيهما. وقاله الزهري وابن عباس؛ (كأنه يعرض عن الآخر) من الصدوف؛ قال الشاعر:
كلا الصدفين ينفذه سناها توقد مثل مصباح الظلام
ويقال للبناء المرتفع صدف تشبيه بجانب الجبل. وفي الحديث: كان إذا مر بصدف مائل أسرع المشي. قال أبو عبيد: الصدف والهدف كل بناء عظيم مرتفع. ابن عطية: الصدفان الجبلان المتناوحان ولا يقال للواحد صدف، وإنما يقال صدفان للاثنين؛ لأن أحدهما يصادف الآخر. وقرأ نافع وحمزة والكسائي {الصدفين{ بفتح الصاد وشدها وفتح الدال، وهي قراءة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعمر بن عبدالعزيز، وهي اختيار أبي عبيدة لأنها أشهر اللغات. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو {الصدفين{ بضم الصاد والدال وقرأ عاصم في رواية أبي بكر {الصدفين{ بضم الصاد وسكون الدال، نحو الجرف والجرف فهو تخفيف. وقرأ ابن الماجشون بفتح الصاد وضم الدال. وقرأ قتادة {بين الصدفين{ بفتح الصاد وسكون الدال، وكل ذلك بمعنى واحد وهما الجبلان المتناوحان.
قوله تعالى{قال انفخوا حتى إذا جعله نارا{ {قال انفخوا{ أي على زبر الحديد بالأكيار، وذلك أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة، ثم يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى تحمى، والحديد إذا أوقد عليه صار كالنار، فذلك قوله تعالى{حتى إذا جعله نارا{ ثم يؤتى بالنحاس المذاب أو بالرصاص أو بالحديد بحسب الخلاف في القطر، فيفرغه على ذلك الطاقة المنضدة، فإذا التأم واشتد ولصق البعض بالبعض استأنف وضع طاقة أخرى، إلى أن استوى العمل فصار جبلا صلدا قال قتادة: هو كالبرد المحبر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءه رجل فقال: يا رسول الله إني رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال: (كيف رأيته) قال: رأيته كالبرد المحبر، طريقة صفراء، وطريقة حمراء، وطريقة سوداء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قد رأيته). ومعنى {حتى إذا جعل نارا{ أي كالنار.
قوله تعالى{قال آتوني أفرغ عليه قطرا{ أي أعطوني قطرا أفرغ عليه، على التقديم والتأخير. ومن قرأ {ائتوني{ فالمعنى عنده تعالوا أفرغ عليه نحاسا. والقطر عند أكثر المفسرين النحاس المذاب، وأصله من القطر؛ لأنه إذا أذيب قطر كما يقطر الماء وقالت فرقة: القطر الحديد المذاب. وقالت فرقة منهم ابن الأنباري: الرصاص المذاب. وهو مشتق من قطر يقطر قطرا. ومنه {وأسلنا له عين القطر{.
الآية رقم ( 97 )
{فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا}
قوله تعالى{فما اسطاعوا أن يظهروه{ أي ما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوه ويصعدوا فيه؛ لأنه أملس مستو مع الجبل والجبل عال لا يرام. وارتفاع السد مائتا ذراع وخمسون ذراعا. وروي: في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ، وفي عرضه خمسون فرسخ؛ قاله وهب بن منبه.
قوله تعالى{وما استطاعوا له نقبا{ لبعد عرضه وقوته. وروي في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وعقد وهب بن منبه بيده تسعين وفي رواية - وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها...) وذكر الحديث. وذكر يحيى بن سلام عن سعد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن يأجوج ومأجوج يخرقون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غدا فيعيده الله كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم أرجعوا فستحفرونه إن شاء الله فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه ويخرجون على الناس...) الحديث وقد تقدم. قوله تعالى{فما استطاعوا{ بتخفيف الطاء على قراءة الجمهور. وقيل: هي لغة بمعنى استطاعوا. وقيل: بل استطاعوا بعينه كثر في كلام العرب حتى حذف بعضهم منه التاء فقالوا: اسطاعوا. وحذف بعضهم منه الطاء فقال استاع يستيع بمعنى استطاع يستطيع، وهي لغة مشهورة. وقرأ حمزة وحده {فما استطاعوا{ بتشديد الطاء كأنه أراد استطاعوا، ثم أدغم التاء في الطاء فشددها، وهي قراءة ضعيفة الوجه؛ قال أبو علي: هي غير جائزة. وقرأ الأعمش {فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا{ بالتاء في الموضعين.
الآية رقم ( 98 )
{قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا}
قوله تعالى{قال هذا رحمة من ربي{ القائل ذو القرنين، وأشار بهذا إلى الردم، والقوة عليه، والانتفاع به في دفع ضرر يأجوج ومأجوج. وقرأ ابن أبي عبلة {هذه رحمة من ربي{. {فإذا جاء وعد ربي{ أي يوم القيامة. وقيل: وقت خروجهم. {جعله دكاء وكان وعد ربي حقا{ أي مستويا بالأرض؛ ومنه قوله تعالى{إذا دكت الأرض}الفجر: 21] قال ابن عرفة: أي جعلت مستوية لا أكمة فيها، ومنه قوله تعالى{جعله دكاء{ قال اليزيدي: أي مستويا؛ يقال: ناقة دكاء إذا ذهب سنامها. وقال القتبي: أي مدكوكا ملصقا بالأرض. وقال الكلبي: قطعا متكسرا؛ قال:
هل غير غاد دك غارا فانهدم
وقال الأزهري: يقال دككته أي دققته. ومن قرأ {دكاء{ أراد جعل الجبل أرضا دكاء، وهي الرابية التي لا تبلغ أن تكون جبلا وجمعها دكاوات. قرأ حمزة وعاصم والكسائي {دكاء{ بالمد على التشبيه بالناقة الدكاء، وهي التي لا سنام لها، وفي الكلام حذف تقديره: جعله مثل دكاء؛ ولا بد من تقدير هذا الحذف. لأن السد مذكر فلا يوصف بدكاء. ومن قرأ {دكا{ فهو مصدر دك يدك إذا هدم ورض؛ ويحتمل أن يكون {جعل{ بمعنى خلق. وينصب {دكا{ على الحال. وكذلك النصب أيضا في قراءة من مد يحتمل الوجهين.
الآية رقم ( 99 )
{وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا}
قوله تعالى{وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض{ الضمير في {تركنا{ لله تعالى؛ أي تركنا الجن والإنس يوم القيامة يموج بعضهم في بعض. وقيل: تركنا يأجوج ومأجوج {يومئذ{ أي وقت كمال السد يموج بعضهم في بعض. واستعارة الموج لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم في بعض، كالمولهين من هو وخوف؛ فشبههم بموج البحر الذي يضطرب بعضه في بعض. وقيل: تركنا يأجوج ومأجوج يوم انفتاح السد يموجون في الدنيا مختلطين لكثرتهم. قلت: فهذه ثلاثة أقوال أظهرها أوسطها، وأبعدها آخرها، وحسن الأول؛ لأنه تقدم ذكر القيامة في تأويل قوله تعالى{فإذا جاء وعد ربي{. والله أعلم.
قوله تعالى{ونفخ في الصور{ والصور قرن من نور ينفخ فيه، النفخة الأولى للفناء والثانية للإنشاء. وليس جمع صورة كما زعم بعضهم؛ أي ينفخ في صور الموتى على ما نبينه. روى مسلم من حديث عبدالله بن عمرو (.... ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا - قال - وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله - قال فيصعق ويصعق الناس ثم يرسل الله - أو قال ينزل الله - مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) وذكر الحديث. وكذا في التنزيل {ثم نفخ فيه أخرى}الزمر: 68]ولم يقل فيها؛ فعلم أنه ليس جمع الصورة. والأمم مجمعة على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه السلام. قال أبو الهيثم: من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن ينكر العرش والميزان والصراط، وطلب لها تأويلات. قال ابن فارس: الصور الذي في الحديث كالقرن ينفخ فيه، والصور جمع صورة. وقال الجوهري: الصور القرن. قال الراجز:
لقد نطحناهم غداة الجمعين نطحا شديدا لا كنطح الصورين
ومنه قوله{ويوم ينفخ في الصور{. قال الكلبي: لا أدري ما هو الصور. ويقال: هو جمع صورة مثل بسرة وبسر؛ أي ينفخ في صور الموتى والأرواح. وقرأ الحسن {يوم ينفخ في الصور{. والصور (بكسر الصاد) لغة في الصور جمع صورة والجمع صوار، وصيار (بالياء لغة فيه. وقال عمرو بن عبيد: قرأ عياض {يوم ينفخ في الصور{ فهذا يغني به الخلق. والله أعلم. قات: وممن قال إن المراد بالصور في هذه الآية جمع صورة أبو عبيد. وهذا وإن كان محتملا فهو مردود بما ذكرناه من الكتاب والسنة. وأيضا لا ينفخ في الصور للبعث مرتين؛ بل ينفخ فيه مرة واحدة؛ فإسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور الذي هو القرن والله عز وجل يحيى الصور. وفي التنزيل {فنفخنا فيه من روحنا}التحريم: 12].
قوله تعالى{فجمعناهم جمعا{ يعني الجن والإنس في عرصات القيامة.
الآية رقم ( 100 )
{وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا}
أي أبرزناها لهم.
الآية رقم ( 101 )
{الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا}
قوله تعالى{الذين كانت أعينهم{ في موضع خفض نعت {للكافرين{. {في غطاء عن ذكري{ أي هم بمنزلة من عينه مغطاة فلا ينظر إلى دلائل الله تعالى. {وكانوا لا يستطيعون سمعا{ أي لا يطيقون أن يسمعوا كلام الله تعالى، فهم بمنزلة من صم.
الآية رقم ( 102 )
{أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا}
قوله تعالى{أفحسب الذين كفروا{ أي ظن. وقرأ علي وعكرمة ومجاهد وابن محيصن {أفحسب{ بإسكان السين وضم الباء؛ أي كفاهم. {أن يتخذوا عبادي{ يعني عيسى والملائكة وعزيرا. {من دوني أولياء{ ولا أعاقبهم؛ ففي الكلام حذف. وقال الزجاج: المعنى؛ أفحسبوا أن ينفعهم ذلك.
الآية رقم ( 103 : 105 )
{قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا}
فيه دلالة على أن من الناس من يعمل العمل وهو يظن أنه محسن وقد حبط سعيه، والذي يوجب إحباط السعي إما فساد الاعتقاد أو المراءاة، والمراد هنا الكفر. روى البخاري عن مصعب قال: سألت أبي {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا{ أهم الحرورية؟ قال: لا؛ هم اليهود والنصارى. وأما اليهود فكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة، فقالوا: لا طعام فيها ولا شراب؛ والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه؛ وكان سعد يسميهم الفاسقين. والآية معناها التوبيخ؛ أي قل لهؤلاء الكفرة الذين عبدوا غيري: يخيب سعيهم وآمالهم غدا؛ فهم الأخسرون أعمالا، وهم {الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا{ في عبادة من سواي. قال ابن عباس: (يريد كفار أهل مكة). وقال علي:(هم الخوارج أهل حروراء. وقال مرة: هم الرهبان أصحاب الصوامع). وروي أن ابن الكواء سأله عن الأخسرين أعمالا فقال له: أنت وأصحابك. قال ابن عطية: ويضعف هذا كله قوله تعالى بعد ذلك{أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم{ وليس من هذه الطوائف من يكفر بالله ولقائه والبعث والنشور، وإنما هذه صفة مشركي مكة عبدة الأوثان، وعلي وسعد رضي الله عنهما ذكرا أقواما أخذوا بحظهم من هذه الآية. و{أعمالا{ نصب على التمييز. و{حبطت{ قراءة الجمهور بكسر الباء. وقرأ ابن عباس {حبطت{ بفتحها.
قوله تعالى{فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا{ قراءة الجمهور {نقيم{ بنون والعظمة. وقرأ مجاهد بياء الغائب؛ يريد فلا يقيم الله عز وجل، وقرأ عبيد بن عمير {فلا يقوم{ ويلزمه أن يقرأ {وزن{ وكذلك قرأ مجاهد {فلا يقوم لهم يوم القيامة وزن{. قال عبيد بن عمير: يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن عند الله جناح بعوضة.
قلت: هذا لا يقال مثله من جهة الرأي، وقد ثبت معناه مرفوعا صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة اقرؤوا إن شئتم (فلا نقيم له يوم القيامة وزنا). والمعنى أنهم لا ثواب لهم، وأعمالهم مقابلة بالعذاب، فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ومن لا حسنة له فهو في النار. وقال أبو سعيد الخدري: يؤتى بأعمال كجبال تهامة فلا تزن شيئا. وقيل: يحتمل أن يريد المجاز والاستعارة؛ كأنه قال: فلا قدر لهم عندنا يومئذ؛ والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفقه ذم السمن لمن تكلفه، لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم، بل يدل على تحريم الأكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به الترفه والسمن. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الحبر السمين) ومن حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم قرني ثم الذين يلونهم - قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة - ثم إن من بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن) وهذا ذم. وسبب ذلك أن السمن المكتسب إنما هو من كثرة الأكل والشره، والدعة والراحة والأمن والاسترسال مع النفس على شهواتها، فهو عبد نفسه لا عبد ربه، ومن كان هذا حاله وقع لا محالة في الحرام، وكل لحم تولد عن سحت فالنار أولى به؛ وقد ذم الله تعالى الكفار بكثرة الأكل فقال{والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم}محمد: 12] فإذا كان المؤمن يتشبه بهم، ويتنعم بتنعمهم في كل أحواله وأزمانه، فأين حقيقة الإيمان، والقيام بوظائف الإسلام؟ ! ومن كثر أكله وشربه كثر نهمه وحرصه، وزاد بالليل كسله ونومه، فكان نهاره هائما، وليله نائما. وقد مضى في {الأعراف{ هذا المعنى؛ وتقدم فيها ذكر الميزان، وأن له كفتين توزن فيهما صحائف الأعمال فلا معنى للإعادة. وقال عليه الصلاة والسلام حين ضحكوا من حمش ساق ابن مسعود وهو يصعد النخلة: (تضحكون من ساق توزن بعمل أهل الأرض) فدل هذا على أن الأشخاص توزن؛ ذكره الغزنوي.
الآية رقم ( 106 )
{ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا}
قوله تعالى{ذلك جزاؤهم{ {ذلك{ إشارة إلى ترك الوزن، وهو في موضع رفع بالابتداء {جزاؤهم{ خبره. {جهنم{ بدل من المبتدأ الذي هو {ذلك{. {بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا{ و{ما{ في قوله{بما كفروا{ مصدرية، والهزء الاستخفاف والسخرية؛ وقد تقدم.
الآية رقم ( 107 )
{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا}
قال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأعلاها وأفضلها وأرفعها وقال أبو أمامة الباهلي: الفردوس سرة الجنة. وقال كعب: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس؛ فيها الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها) قالوا: يا رسول الله أفلا نبشر الناس؟ قال: (إنه في الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها) قالوا: يا رسول الله أفلا نبشر الناس؟ قال: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة - أراه قال - وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة) وقال مجاهد: والفردوس البستان بالرومية. الفراء: هو عربي. والفردوس حديقة في الجنة. وفردوس اسم روضة دون اليمامة. والجمع فراديس، قال أمية بن أبي الصلت الثقفي:
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس والفومان والبصل
والفراديس موضع بالشام. وكرم مفردس أي معرش.
الآية رقم ( 108 )
{خالدين فيها لا يبغون عنها حولا}
قوله تعالى{خالدين فيها{ أي دائمين. {لا يبغون عنها حولا{ أي لا يطلبون تحويلا عنها إلى غيرها. والحول بمعنى التحويل؛ قال أبو علي. وقال الزجاج: حال من مكانه حولا كما يقال: عظم عظما. قال: ويجوز أن يكون من الحيلة، أي لا يحتالون منزلا غيرها. قال الجوهري: التحول التنقل من موضع إلى موضع، والاسم الحول، ومنه قوله تعالى{خالدين فيها لا يبغون عنها حولا{.
الآية رقم ( 109 )
{قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا}
قوله تعالى{قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي{ نفد الشيء إذا تم وفرغ؛ وقد تقدم. {ولو جئنا بمثله مددا{ أي زيادة على البحر عددا أو وزنا. وفي مصحف أُبي {مدادا{ وكذلك قرأها مجاهد وابن محيصن وحميد. وانتصب {مددا{ على التمييز أو الحال. وقال ابن عباس: قالت اليهود لما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}الإسراء: 85] قالوا: وكيف وقد أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا؟ فنزلت {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر{ الآية. وقيل: قالت اليهود إنك أوتيت الحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، ثم زعمت أنك لا علم لك بالروح؟ ! فقال الله تعالى قل وإن أوتيت القرآن وأوتيتم التوراة فهي بالنسبة إلى كلمات الله تعالى قليلة، قال ابن عباس{كلمات ربي{ أي مواعظ ربي. وقيل: عنى بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى، وهو وإن كان واحدا فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من فوائد الكلمات، ولأنه ينوب منا بها، فجازت العبادة عنها بصيغة الجمع تفخيما؛ وقال الأعشى:
ووجه نقي اللون صاف يزينه مع الجيد لبات لها ومعاصم
فعبر باللبات عن اللبة. وفي التنزيل {نحن أولياؤكم}فصلت: 31] و{إنا نحن نزلنا الذكر}الحجر: 9] {وإنا لنحن نحيي ونميت}الحجر: 23] وكذلك {إن إبراهيم كان أمة}النحل:120] لأنه ناب مناب أمة. وقيل: أي ما نفدت العبارات والدلالات التي تدل على مفهومات معاني كلامه سبحانه وتعالى. وقال السدي: أي إن كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد صفات الجنة التي هي دار الثواب. وقال عكرمة: لنفد البحر قبل أن ينفه ثواب من قال لا إله إلا الله. ونظير هذه الآية{ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله}لقمان: 27]. وقرأ حمزة والكسائي {قبل أن ينفد{ بالياء لتقدم الفعل.
الآية رقم ( 110 )
{قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}
قوله تعالى{قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد{ أي لا أعلم إلا ما يعلمني الله تعالى، وعلم الله تعالى لا يحصى، وإنما أمرت بأن أبلغكم بأنه لا إله إلا الله. {فمن كان يرجو لقاء ربه{ أي يرجو رؤيته وثوابه ويخشى عقابه {فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا{ قال ابن عباس: نزلت في جندب بن زهير العامري قال: يا رسول الله إني أعمل العمل لله تعالى، وأريد وجه الله تعالى، إلا أنه إذا اطلع عليه سرني النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب ولا يقبل ما شورك فيه) فنزلت الآية. وقال طاووس قال رجل: يا رسول الله! إني أحب الجهاد في سبيل الله تعالى وأحب أن يرى مكاني فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد: جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني أتصدق وأصل الرحم أصنع ذلك إلا لله تعالى فيذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأعجب به، فسكت رسو الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئا، فأنزل الله تعالى {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا{.
قلت: والكل مراد، والآية تعم ذلك كله وغيره من الأعمال. وقد تقدم في سورة {هود{ حديث أبي هريرة الصحيح في الثلاثة الذين يقضى عليهم أول الناس وقد تقدم في سورة {النساء{ الكلام على الرياء، وذكرنا من الأخبار هناك ما فيه كفاية. وقال الماوردي وقال جميع أهل التأويل: معنى قوله تعالى{ولا يشرك بعبادة ربه أحدا{ إنه لا يرائي بعمله أحدا. وروى الترمذي الحكيم رحمه الله تعالى في (نوادر الأصول) قال: حدثنا أبي رحمه الله تعالى قال: حدثنا مكي بن إبراهيم قال: حدثنا عبدالواحد بن زيد عن عبادة بن نسي قال: أتيت شداد بن أوس في مصلاه وهو يبكي، فقلت: ما الذي أبكاك يا أبا عبدالرحمن؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، إذ رأيت بوجهه أمرا ساءني فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما الذي أرى بوجهك؟ قال: (أمرا أتخوفه على أمتي من بعدي) قلت: ما هو يا رسول الله؟ قال: (الشرك والشهوة الخفية) قلت: يا رسول الله! وتشرك أمتك من بعدك؟ قال: (يا شداد أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكنهم يراؤون بأعمالهم) قلت: والرياء شرك هو؟ قال: (نعم). قلت: فما الشهوة الخفية؟ قال: (يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوات الدنيا فيفطر) قال عبدالواحد: فلقيت الحسن، فقلت: يا أبا سعيد! أخبرني عن الرياء أشرك هو؟ قال: نعم؛ أما تقرأ {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا{. وروى إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا حمد بن أبي بكر قال حدثنا المعتمر بن سليمان عن ليث عن شهر بن حوشب قال: (كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس جالسين، فقالا: إنا نتخوف على هذه الأمة من الشرك والشهوة الخفية، فأما الشهوة الخفية فمن قبل النساء). وقالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى صلاة يرائي بها فقد أشرك ومن صام صياما يرائي به فقد أشرك) ثم تلا {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا{.
قلت: وقد جاء تفسير الشهوة الخفية بخلاف هذا، وقد ذكرناه في {النساء{. وقال سهل بن عبدالله: وسئل الحسن عن الإخلاص والرياء فقال: من الإخلاص أن تحب أن تكتم حسناتك ولا تحب أن تكتم سيئاتك، فإن أظهر الله عليك حسناتك تقول هذا من فضلك وإحسانك، وليس هذا من فعلي ولا من صنيعي، وتذكر قوله تعالى{فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا). (والذين يؤتون ما آتوا}المؤمنون: 10] الآية؛ يؤتون الإخلاص، وهم يخافون ألا يقبل منهم؛ وأما الرياء فطلب حظ النفس من عملها في الدنيا؛ قيل لها: كيف يكون هذا؟ قال: من طلب بعمل بينه وبين الله تعالى سوى وجه الله تعالى والدار الآخرة فهو رياء. وقال علماؤنا رضي الله تعالى عنهم: وقد يقضي الرياء بصاحبه إلى استهزاء الناس به؛ كما يحكى أن طاهر بن الحسين قال لأبي عبدالله المروزي: منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عبدالله؟ قال: دخلت العراق منذ عشرين سنة وأنا منذ ثلاثين سنة صائم؛ فقال يا أبا عبدالله سألناك عن مسألة فأجبتنا عن مسألتين. وحكى الأصمعي أن أعرابيا صلى فأطال وإلى جانبه قوم، فقالوا: ما أحسن صلاتك؟ ! فقال: وأنا مع ذلك صائم. أين هذا من قول الأشعث، بن قيس وقد صلى فخفف، فقيل له إنك خففت، فقال: إنه لم يخالطها رياء؛ فخلص من تنقصهم بنفي الرياء عن نفسه، والتصنع من صلاته؛ وقد تقدم في {النساء{ دواء الرياء من قول لقمان؛ وأنه كتمان العمل، وروى الترمذي الحكيم حدثنا أبي رحمه الله تعالى قال: أنبأنا الحماني قال: أنبأنا جرير عن ليث عن شيخ عن معقل بن يسار قال قال أبو بكر وشهد به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك، قال: (هو فيكم أخفى من دبيب النمل وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره تقول اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم تقولها ثلاث مرات). وقال عمر بن قيس الكندي سمعت معاوية تلا هذه الآية على المنبر {فمن كان يرجو لقاء ربه{ فقال: إنها لآخر آية نزلت من السماء. وقال عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوحى إلي أنه من قرأ {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا{ رفع له نور ما بين عدن إلى مكة حشوه الملائكة يصلون عليه ويستغفرون له). وقال معاذ بن جبل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء)وعن ابن عباس أنه قال له رجل: إني أضمر أن أقوم ساعة من الليل فيغلبني النوم، فقال: (إذا أردت أن تقوم أي ساعة شئت من الليل فاقرأ إذا أخذت مضجعك {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي{ إلى آخر السورة فإن الله تعالى يوقظك متى شئت من الليل)؛ ذكر هذه الفضائل الثعلبي رضي الله تعالى عنه. وفي مسند الدرامي أبي محمد أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن عبدة عن زر بن حبيش قال من قرأ آخر سورة الكهف لساعة أن يقوم من الليل قامها؛ قال عبدة فجربناه فوجدناه كذلك قال ابن العربي: كان شيخنا الطرطوشي الأكبر يقول: لا تذهب بكم الأزمان في مصاولة الأقران، ومواصلة الإخوان؛ وقد ختم سبحانه وتعالى البيان بقوله{فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعيادة ربه أحدا{.
سورة مريم مكية إلا آيتي (58) و(71) فمدنيتان وآياتها 98 نزلت بعد فاطر لما كانت وقعة بدر، وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة، فأهدوا إلى النجاشي، وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده من قريش، فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر؛ فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعثهما، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ سورة مريم {كهيعص{ وقاموا تفيض أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون}المائدة: 82]. وقرأ إلى قوله{الشاهدين{. ذكره أبو داود. وفي السيرة؛ فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قال جعفر: نعم؛ فقال له النجاشي: اقرأه علي. قال: فقرأ {كهيعص{ فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفتهم حتى أخضلوا لحاهم حين سمعوا ما يتلى عليهم؛ فقال النجاشي: هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما أبدا؛ وذكر تمام الخبر.
الآية رقم ( 1 )
{كهيعص}
تقدم الكلام في أوائل السور. وقال ابن عباس في {كهيعص{: أن الكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق، ذكره ابن عزيز القشيري عن ابن عباس؛ معناه كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم بهم، صادق في وعده؛ ذكره الثعلبي عن الكلبي السدي ومجاهد والضحاك. وقال الكلبي أيضا: الكاف من كريم وكبير وكاف، والهاء من هاد، والياء من رحيم، والعين من عليم وعظيم، والصاد من صادق؛ والمعنى واحد. وعن ابن عباس أيضا: هو اسم من أسماء الله تعالى؛ وعن علي رضي الله عنه هو اسم الله عز وجل وكان يقول: يا كهيعص اغفر لي؛ ذكره الغزنوي. السدي: هو اسم الله الأعظم الذي سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب. وقتادة: هو اسم من أسماء القرآن؛ ذكره عبدالرزاق. عن معمر عنه. وقيل: هو اسم للسورة؛ وهو اختيار القشيري في أوائل الحروف؛ وعلى هذا قيل: تمام الكلام عند قوله{كهيعص{ كأنه إعلام باسم السورة، كما تقول: كتاب كذا أو باب كذا ثم تشرع في المقصود. وقرأ ابن جعفر هذه الحروف متقطعة، ووصلها الباقون، وأمال أبو عمرو الهاء وفتح الياء، وابن عامر وحمزة بالعكس، وأمالهما جميعا الكسائي وأبو بكر وخلف. وقرأهما بين اللفظين أهل المدينة نافع وغيره. وفتحهما الباقون. وعن خارجة أن الحسن كان يضم كاف، وحكى غيره أنه كان يضم ها، وحكى إسماعيل بن إسحاق أنه كان يضم يا. قال أبو حاتم: ولا يجوز ضم الكاف والهاء والياء؛ قال النحاس: قراءة أهل المدينة من أحسن ما في هذا، والإمالة جائزة في هاويا. وأما قراءة الحسن فأشكلت على جماعة حتى قالوا: لا تجوز؛ منهم أبو حاتم. والقول فيها ما بينه هارون القارئ؛ قال: كان الحسن يشم الرفع؛ فمعنى هذا أنه كان يومئ؛ كما سيبويه أن من العرب من يقول: الصلاة والزكاة يومئ إلى الواو، ولهذا كتبها في المصحف بالواو. وأظهر الدال من هجاء {ص{ نافع وابن كثير وعاصم ويعقوب، وهو اختيار أبي عبيد؛ وأدغمها الباقون.
الآية رقم ( 2 )
{ذكر رحمة ربك عبده زكريا}
قوله تعالى{ذكر رحمة ربك{ في رفع {ذكر{ ثلاثة أقوال؛ قال الفراء: هو مرفوع بـ {كهيعص{؛ قال الزجاج: هذا محال؛ لأن {كهيعص{ ليس هو مما أنبأنا الله عز وجل به عن زكريا، وقد خبر الله تعالى عنه وعن ما بشر به، وليس {كهيعص{ من قصته. وقال الأخفش: التقدير؛ فيما يقص عليكم ذكر رحمة ربك. والقول الثالث: أن المعنى هذا الذي يتلوه عليكم ذكر رحمة ربك. وقيل{ذكر رحمة ربك{ رفع بإضمار مبتدأ؛ أي هذا ذكر رحمة ربك؛ وقرأ الحسن {ذكر رحمة ربك{ أي هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك. وقرئ {ذكر{ على الأمر. {ورحمة{ تكتب ويوقف عليها بالهاء، وكذلك كل ما كان مثلها، لا اختلاف فيها بين النحويين واعتلوا في ذلك أن هذه الهاء لتأنيث الأسماء فرقا بينها وبين الأفعال. {عبدة{ قال الأخفش: هو منصوب بـ {رحمة{. {زكريا{ بدل منه، كما تقول: هذا ذكر ضرب زيد عمرا؛ فعمرا منصوب بالضرب، كما أن {عبده{ منصوب بالرحمة. وقيل: هو على التقديم والتأخير؛ معناه: ذكر ربك عبده زكريا برحمة؛ فـ {عبده{ منصوب بالذكر؛ ذكره الزجاج والفراء. وقرأ بعضهم {عبده زكريا{ بالرفع؛ وهي قراءة أبي العالية. وقرأ يحيى بن يعمر {ذكر{ بالنصب على معنى هذا القرآن ذكر رحمة عبده زكريا. وتقدمت اللغات والقراءة في {زكريا{ في {آل عمران}
الآية رقم ( 3 )
{إذ نادى ربه نداء خفيا}
مثل قوله{ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين}الأعراف: 55] وقد تقدم. والنداء الدعاء والرغبة؛ أي ناجى ربه بذلك في محرابه. دليله قوله{فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب}آل عمران: 39] فبين أنه استجاب له في صلاته، كما نادى في الصلاة. واختلف في إخفائه هذا النداء؛ فقيل: أخفاه من قومه لئلا يلام على مسألة الولد عند كبر السن؛ ولأنه أمر دنيوي، فإن أجيب فيه نال بغيته، وإن لم يجب لم يعرف بذلك أحد. وقيل: مخلصا فيه لم يطلع عليه إلا الله تعالى. وقيل: لما كانت الأعمال الخفية أفضل وأبعد من الرياء أخفاه. وقيل{خفيا{ سرا من قومه في جوف الليل؛ والكل محتمل والأول أظهر؛ والله أعلم. وقد تقدم أن المستحب من الدعاء الإخفاء في سورة {الأعراف{ وهذه الآية نص في ذلك؛ لأنه سبحانه أثنى بذلك على زكريا. وروى إسماعيل قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن أسامة بن زيد عن محمد بن عبدالرحمن وهو ابن أبي كبشة عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي) وهذا عام. قال يونس بن عبيد: كان الحسن يرى أن يدعو الإمام في القنوت ويؤمن من خلفه من غير رفع صوت، وتلا يونس {إذ نادى ربه نداء خفيا{. قال ابن العربي: وقد أسر مالك القنوت وجهر به الشافعي، والجهر به أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو به جهرا.
الآية رقم ( 4 )
{قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا}
قوله تعالى{قال رب إني وهن العظم مني{ {قال رب إني وهن{ قرئ {وهن{ بالحركات الثلاث أي ضعف. يقال: وهن يهن وهنا إذا ضعف فهو واهن. وقال أبو زيد يقال: وهن يهن ووهن يوهن. وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقط سائر قوته؛ ولأنه أشد ما فيه وأصلبه؛ فإذا وهن كان ما وراءه أوهن منه. ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام، وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن، ولو جمع لكان قصد إلى معنى آخر، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها.
قوله تعالى{واشتعل الرأس شيبا{ أدغم السين في الشين أبو عمرو. وهذا من أحسن الاستعارة في كلام العرب. والاشتعال انتشار شعاع النار؛ شبه به انتشار الشيب في الرأس؛ يقول: شخت وضعفت؛ وأضاف الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا عليه السلام. {وشيبا{ في نصبه وجهان: أحدهما: أنه مصدر لأن معنى اشتعل شاب؛ وهذا قول الأخفش. وقال الزجاج: وهو منصوب على التمييز. النحاس: قول الأخفش أولى لأنه مشتق من فعل فالمصدر أولى به. والشيب مخالطة الشعر الأبيض الأسود. قال العلماء: يستحب للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه وما يليق بالخضوع؛ لأن قوله تعالى{وهن العظم مني{ إظهار للخضوع. وقوله{ولم أكن بدعائك رب شقيا{ إظهار لعادات تفضله في إجابته أدعيته؛ أي لم أكن بدعائي إياك شقيا؛ أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك؛ أي إنك عودتني الإجابة فيما مضى. يقال: شقي بكذا أي تعب فيه ولم يحصل مقصوده. وعن بعضهم أن محتاجا سأله وقال: أنا الذي أحسنت إليه في وقت كذا؛ فقال: مرحبا بمن توسل بنا إلينا؛ وقضى حاجته.
الآية رقم ( 5 )
{وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا}
قوله تعالى{وإني خفت الموالي{ قرأ عثمان بن عفان ومحمد بن علي وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما ويحيى بن يعمر {خفت{ بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء وسكون الياء من {الموالي{ لأنه في رفع {بخفت{ ومعناه انقطعت بالموت. وقرأ الباقون {خفت{ بكسر الخاء وسكون الفاء وضم التاء ونصب الياء من {الموالي{ لأنه في موضع نصب بـ {خفت{ و{الموالي{ هنا الأقارب بنو العم والعصبة الذين يلونه في النسب. والعرب تسمي بني العم الموالي. قال الشاعر:
مهلا بني عمنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة فأشفق أن يرثه غير الولد. وقالت طائفة: إنما كان مواليه مهملين للدين فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب وليا يقوم بالدين بعده؛ حكى هذا القول الزجاج، وعليه فلم يسل من يرث ماله؛ لأن الأنبياء لا تورث. وهذا هو الصحيح من القولين في تأويل الآية، وأنه عليه الصلاة والسلام أراد وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) وفي كتاب أبي داود: (إن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ورثوا العلم). وسيأتي في هذا مزيد بيان عند قوله{يرثني{.
هذا الحديث يدخل في التفسير المسند؛ لقوله تعالى{وورث سليمان داود{ وعبارة عن قول زكريا{فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب{ وتخصيص للعموم في ذلك، وأن سليمان لم يرث من داود مالا خلفه داود بعده؛ وإنما ورث منه الحكمة والعلم، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب؛ هكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ما عدا الروافض، وإلا ما روي عن الحسن أنه قال{يرثني{ مالا {ويرث من آل يعقوب{ النبوة والحكمة؛ وكل قول يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدفوع مهجور؛ قال أبو عمر. قال ابن عطية: والأكثر من المفسرين على أن زكريا إنما أراد وراثة المال؛ ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنا معشر الأنبياء لا نورث) ألا يريد به العموم، بل على أنه غالب أمرهم؛ فتأمله. والأظهر الأليق بزكريا عليه السلام أن يريد وراثة العلم والدين، فتكون الوراثة مستعارة. ألا ترى أنه لما طلب وليا ولم يخصص ولدا بلغه الله تعالى أمله على أكمل الوجوه. وقال أبو صالح وغيره: قوله {من آل يعقوب{ يريد العلم والنبوة.
قوله تعالى{من ورائي{ قرأ ابن كثير بالمد والهمز وفتح الياء. وعنه أنه قرأ أيضا مقصورا مفتوح الياء مثل عصاي. الباقون بالهمز والمد وسكون الياء. والقراء على قراءة {خفت{ مثل نمت إلا ما ذكرنا عن عثمان. وهي قراءة شاذة بعيدة جدا؛ حتى زعم بعض العلماء أنها لا تجوز. قال كيف يقول: خفت الموالي من بعدي أي من بعد موتي وهو حي؟ !. النحاس: والتأويل لها ألا يعني بقوله{من ورائي{ أي من بعد موتى، ولكن من ورائي في ذلك الوقت؛ وهذا أيضا بعيد يحتاج إلى دليل أنهم خفوا في ذلك الوقت وقلوا، وقد أخبر الله تعالى بما يدل على الكثرة حين قالوا {أيهم يكفل مريم{. ابن عطية{من ورائي{ من بعدي في الزمن، فهو الوراء على ما تقدم في {الكهف{.
قوله تعالى{وكانت امرأتي عاقرا{ امرأته هي إيشاع بنت فاقوذا بن قبيل، وهي أخت حنة بنت فاقوذا؛ قاله الطبري. وحنة هي أم مريم حسب ما تقدم في {آل عمران{ بيانه. وقال القتبي: امرأة زكريا هي إيشاع بنت عمران، فعلى هذا القول يكون يحيى ابن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة. وعلى القول الآخر يكون ابن خالة أمه. وفي حديث الإسراء قال عليه الصلاة والسلام: (فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى) شاهدا للقول الأول. والله أعلم. والعاقر التي لا تلد لكبر سنها؛ وقد مضى بيانه في {آل عمران{. والعاقر من النساء أيضا التي لا تلد من غير كبر. ومنه قوله تعالى{ويجعل من يشاء عقيما}الشورى: 50]. وكذلك العاقر من الرجال؛ ومنه قول عامر بن الطفيل:
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا جبانا فما عذري لدى كل محضر
قوله تعالى{فهب لي من لدنك وليا{ سؤال ودعاء. ولم يصرح بولد لما علم من حال وبعده عنه بسبب المرأة. قال قتادة: جرى له هذا الأمر وهو ابن بضع وسبعين سنة. مقاتل: خمس وتسعين سنة؛ وهو أشبه؛ فقد كان غلب على ظنه انه لا يولد له لكبره؛ ولذلك قال{وقد بلغت من الكبر عتيا{. وقالت طائفة: بل طلب الولد، ثم طلب أن تكون الإجابة في أن يعيش حتى يرثه، تحفظا من أن تقع الإجابة في الولد ولكن يحترم، ولا يتحصل منه الغرض.
قال العلماء: دعاء زكريا عليه السلام في الولد إنما كان لإظهار دينه، وإحياء نبوته، ومضاعفة لأجره لا للدنيا، وكان ربه قد عوده الإجابة، ولذلك قال{ولم أكن بدعائك رب شقيا{، أي بدعائي إياك. وهذه وسيلة حسنة؛ أن يتشفع إليه بنعمه، يستدر فضله بفضله؛ يروى أن حاتم الجود لقيه رجل فسأله؛ فقال له حاتم: من أنت؟ قال: أنا الذي أحسنت إليه عام أول؛ فقال: مرحبا بمن تشفع إلينا بنا. فإن قيل كيف أقدم زكريا على مسألة ما يخرق العادة دون إذن؟ فالجواب أن ذلك جائز في زمان الأنبياء وفي القرآن ما يكشف عن هذا المعنى؛ فإنه تعالى قال{كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}آل عمران: 37] فلما رأى خارق العادة استحكم طمعه في إجابة دعوته؛ فقال تعالى{هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة}آل عمران: 38] الآية.
إن قال قائل: هذه الآية تدل على جواز الدعاء بالولد، والله سبحانه وتعالى قد حذرنا من آفات الأموال والأولاد، ونبه على المفاسد الناشئة من ذلك؛ فقال{إنما أموالكم وأولادكم فتنة}التغابن: 15]. قال{إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم}التغابن: 14]. فالجواب أن الدعاء بالولد معلوم من الكتاب والسنة حسب ما تقدم في {آل عمران{ بيانه. ثم إن زكريا عليه السلام تحرز فقال: (ذرية طيبة) وقال{واجعله رب رضيا{. والولد إذا كان بهذه الصفة نفع أبويه في الدنيا والآخرة، وخرج من حد العداوة والفتنة إلى حد المسرة والنعمة. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأنس خادمه فقال: (اللهم أكثر مال وولده وبارك له فيما أعطيته) فدعا له بالبركة تحرزا مما يؤدي إليه الإكثار من الهلكة. وهكذا فليتضرع العبد إلى مولاه في هداية ولده، ونجاته في أولاه وأخراه اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والفضلاء؛ وقد تقدم في {آل عمران{ بيانه.
الآية رقم ( 6 )
{يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا}
قوله تعالى{يرثني{ قرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة {يرثني ويرث{ بالرفع فيهما. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحي بن وثاب والأعمش والكسائي بالجزم فيهما، وليس هما جواب {هب{ على مذهب سيبويه، إنما تقديره إن تهبه يرثني ويرث؛ والأول أصوب في المعنى لأنه طلب وارثا موصوفا؛ أي هب لي من لدنك الولي الذي هذه حال وصفته؛ لأن الأولياء منهم من لا يرث؛ فقال: هب لي الذي يكون وارثي؛ قاله أبو عبيد؛ ورد قراءة الجزم؛ قال: لأن معناه إن وهبت ورث، وكيف يخبرا الله عز وجل بهذا وهو أعلم به منه؟ ! النحاس: وهذه حجة متقصاة؛ لأن جواب الأم عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة؛ تقول: أطع الله يدخلك الجنة؛ أي إن تطعه يدخلك الجنة.
قال النحاس: فأما معنى {يرثني ويرث من آل يعقوب{ فللعلماء فيه ثلاثة أجوبة؛ قيل: هي وراثة نبوة. وقيل: وراثه حكمة. وقيل: هي وراثة مال. فأما قولهم وراثة نبوة فمحال؛ لأن النبوة لا تورث، ولو كانت تورث لقال قائل: الناس ينتسبون إلى نوح عليه السلام وهو نبي مرسل. ووراثة العلم والحكمة مذهب حسن؛ وفي الحديث (العلماء ورثة الأنبياء). وأما وراثة المال فلا يمتنع، وإن كان قوم قد أنكروه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نورث ما تركنا صدقة) فهذا لا حجة فيه؛ لأن الواحد يخبر عن نفسه بإخبار الجمع. وقد يؤول هذا بمعنى: لا نورث الذي تركناه صدقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلف شيئا يورث عنه؛ وإنما كان الذي أباحه الله عز وجل إياه في حياته بقوله تبارك اسمه{واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول}الأنفال: 41] لأن معنى {لله{ ومن سبيل الله، ومن سبيل الله ما يكون في مصلحة الرسول صلى الله عليه وسلم ما دام حيا؛ فإن قيل: ففي بعض الروايات (إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) ففيه التأويلان جميعا؛ أن يكون {ما{ بمعنى الذي. والآخر لا يورث من كانت هذه حاله. وقال أبو عمر: واختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام: (لا نورث ما تركنا صدقة) على قولين: أحدهما: وهو الأكثر وعليه الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث وما ترك صدقة. والآخر: أن نبينا عليه الصلاة والسلام لم يورث؛ لأن الله تعالى خصه بأن جعل ماله كله صدقة زيادة في فضيلته، كما خص في النكاح بأشياء أباحها له وحرمها على غيره؛ وهذا القول قال بعض أهل البصرة منهم ابن علية، وسائر علماء المسلمين على القول الأول.
قوله تعالى{من آل يعقوب{ قيل: هو يعقوب بن إسرائيل، وكان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران، ويرجع نسبها إلى يعقوب؛ لأنها من ولد سليمان بن داود وهو من ولد يهوذا بن يعقوب، وزكريا من ولد هارون أخي موسى، وهارون وموسى من ولد لاوى بن يعقوب، وكانت النبوة في سبط يعقوب بن إسحاق. وقيل: المعني بيعقوب ها هنا بن يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان أبي مريم أخوان من نسل سليمان بن داود عليهما السلام؛ لأن يعقوب وعمران ابنا ماثان، وبنو ماثان رؤساء بني إسرائيل؛ قاله مقاتل وغيره. وقال الكلبي: وكان آل يعقوب أخواله، وهو يعقوب بن ماثان، وكان فيهم الملك، وكان زكريا من ولد هارون بن عمران أخي موسى. وروى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يرحم الله - تعالى - زكريا ما كان عليه من ورثته). ولم ينصرف يعقوب لأنه أعجمي.
قوله تعالى{واجعله رب رضيا{ أي مرضيا في أخلاقه وأفعاله. وقيل: راضيا بقضائك وقدرك. وقيل: رجلا صالحا ترضى عنه. وقال أبو صالح: نبيا كما جعلت أباه نبيا.
الآية رقم ( 7 )
{يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا}
قوله تعالى{يا زكريا{ في الكلام حذف؛ أي فاستجاب الله دعاءه فقال{يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى{ فتضمنت هذه البشرى ثلاثة أشياء: أحدها: إجابة دعائه وهي كرامة. الثاني: إعطاؤه الولد وهو قوة. الثالث: أن يفرد بتسميته؛ وقد تقدم معنى تسميته في {آل عمران{. وقال مقاتل: سماه يحي لأنه حيي بين أب شيخ وأم عجوز؛ وهذا فيه نظر؛ لما تقدم من أن امرأته كانت عقيما لا تلد. والله أعلم.
قوله تعالى{لم نجعل له من قبل سميا{ أي لم نسم أحدا قبل يحيى بهذا الاسم؛ قاله ابن عباس وقتادة وابن أسلم والسدي. ومن عليه تعالى بأن لم يكل تسميته إلى الأبوين. وقال مجاهد وغيره{سميا{ معناه مثلا ونظيرا، وهو مثل قوله تعالى{هل تعلم له سميا}مريم: 65] معناه مثلا ونظيرا كأنه من المساماة والسمو؛ هذا فيه بعد؛ لأنه لا يفضل على إبراهيم؛ وموسى؛ اللهم إلا أن يفضل في خاص كالسؤدد والحصر حسب ما تقدم بيانه {في آل عمران{ وقال ابن عباس أيضا: معناه لم تلد العواقر مثله ولدا. قيل: إن الله تعالى اشترط القبل، لأنه أراد أن يخلق بعده أفضل منه وهو محمد صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الآية دليل وشاهد على أن الأسامي السنع جديرة بالأثرة، وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية لكونها أنبه وأنزه عن النبز حتى قال قائل:
سنع الأسامي مسبلي أزر حمر تمس الأرض بالهدب
وقال رؤبة للنسابة البكري وقد سأله عن نسبه: أنا ابن العجاج؛ فقال: قصرت وعرفت.
الآية رقم ( 8 )
{قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا}
قوله تعالى{قال رب أنى يكون لي غلام{ ليس على معنى الإنكار لما أخبر الله تعالى به، بل على سبيل التعجب من قدرة الله تعالى أن يخرج ولدا من امرأة عاقر وشيخ كبير. وقيل: غير هذا مما تقدم في {آل عمران{ بيانه. {وقد بلغت من الكبر عتيا{ يعني النهاية في الكبر واليبس والجفاف؛ ومثله العسي؛ قال الأصمعي: عسا الشيء يعسو عسوا وعساء ممدود أي يبس وصلب، وقد عسا الشيخ يعسو عسيا ولى وكبر مثل عتا؛ يقال: عتا الشيخ يعتو عتيا وعتيا كبر وولى، وعتوت يا فلان تعتو عتوا وعتيا. والأصل عتو لأنه من ذوات الواو، فأبدلوا من الواو ياء؛ لأنها أختها وهي أخف منها، والآيات على الياءات. ومن قال{عتيا{ كره الضمة مع الكسرة والياء؛ وقال الشاعر:
إنما يعذر الوليد ولا يعـ ـذر من كان في الزمان عتيا
وقرأ ابن عباس {عسيا{ وهو كذلك مصحف أبي. وقرأ يحيي بن وثاب وحمزة والكسائي وحفص {عتيا{ بكسر العين وكذلك {جثيا{ و{صليا{ حيث كن. وضم حفص {بكيا{ خاصة، وكذلك الباقون في الجميع، وهما لغتان. وقيل{عتيا{ قسيا؛ يقال: ملك عات إذا كان قاسي القلب.
الآية رقم ( 9 )
{قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا}
قوله تعالى{قال كذلك قال ربك هو علي هين{ أي قال له الملك {كذلك قال ربك{ والكاف في موضع رفع؛ أي الأمر كذلك؛ أي كما قيل لك{هو علي هين{. قال الفراء: خلقه علي هين. {وقد خلقتك من قبل{ أي من قبل يحيى. وهذه قراءة أهل المدينة والبصرة وعاصم. وقرأ سائر الكوفيين {وقد خلقناك{ بنون وألف بالجمع على التعظيم. والقراءة الأولى أشبه بالسواد. {ولم تك شيئا{ أي كما خلقك الله تعالى بعد العدم ولم تك شيئا موجودا، فهو القادر على خلق يحيى وإيجاده.
الآية رقم ( 10 )
{قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا}
قوله تعالى{قال رب اجعل لي آية{ طلب آية على حملها بعد بشارة الملائكة إياه، وبعد {وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا{ زيادة طمأنينة؛ أي تمم النعمة بأن تجعل لي آية، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة. وقيل: طلب آية تدله على أن البشرى منه بيحيى لا من الشيطان؛ لأن إبليس أوهمه ذلك. قاله الضحاك وهو معنى قول السدي؛ وهذا فيه نظر لإخبار الله تعالى بأن الملائكة نادته حسب ما تقدم في {آل عمران{. {قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا{ تقدم.
الآية رقم ( 11 )
{فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا}
قوله تعالى{فخرج على قومه من المحراب{ أي أشرف عليهم من المصلى. والمحراب أرفع المواضع، أشرف المجالس، وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض؛ دليله محراب داود عليه السلام على ما يأتي. واختلف الناس في اشتقاقه؛ فقالت فرقة: هو مأخوذ من الحرب كأن ملازمه يحارب الشيطان والشهوات. وقالت فرقة: هو مأخوذ من الحرب (بفتح الراء) كأن ملازمه يلقى منه حربا وتعبا ونصبا.
هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعا عندهم في صلاتهم. وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار، فأجاز ذلك الإمام أحمد وغيره متمسكا بقصة المنبر. ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير، وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الإمام.
قلت: وهذا فيه نظر؛ وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا - أو ينهى عن ذلك! قال: بلى قد ذكرت حين مددتني وروي أيضا عن عدي بن ثابت الأنصاري قال: حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن، فأقيمت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزل حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم) أو نحو ذلك؛ فقال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.
قلت: فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر فدل على أنه منسوخ، ومما يدل على نسخه أن فيه عملا زائدا في الصلاة، وهو النزول والصعود، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام. وهذا أولى مما اعتذر به أصحابنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما من الكبر؛ لأن كثيرا من الأئمة يوجد لا كبر عندهم، ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرا؛ والله أعلم.
قوله تعالى{فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا{ قال الكلبي وقتادة وابن منبه: أوحى إليهم أشار. القتبي: أومأ. مجاهد: كتب على الأرض. عكرمة: كتب في كتاب. والوحي في كلام العرب الكتابة؛ ومنه قول ذي الرمة:
سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها بقية وحي في بطون الصحائف
وقال عنترة:
كوحي صحائف من عهد كسرى فأهداها لأعجم طمطمي
و {بكرة وعشيا{ ظرفان. وزعم الفراء أن العشي يؤنث ويجوز تذكيره إذا أبهمت؛ قال: وقد يكون العشي جمع عشية.
قد تقدم الحكم في الإشارة في {آل عمران{ واختلف علماؤنا فيمن حلف ألا يكلم إنسانا فكتب إليه كتابا، أو أرسل إليه رسولا؛ فقال مالك: إنه يحنث إلا أن ينوي مشافهته، ثم رجع فقال: لا ينوي في الكتاب ويحنث إلا أن يرتجع الكتاب قبل وصوله. قال ابن القاسم: إذا قرأ كتابه حنث، وكذلك لو قرأ الحالف كتاب المحلوف عليه. وقال أشهب: لا يحنث إذا قرأه الحالف؛ وهذا بين؛ لأنه لم يكلمه ولا ابتدأه بكلام إلا أن يريد ألا يعلم معنى كلامه فإنه يحنث وعليه يخرج قول ابن القاسم. فإن حلف ليكلمنه لم يبر إلا بمشافهته؛ وقال ابن الماجشون: وإن حلف لئن علم كذا ليعلمنه أو ليخبرنه إليه أو أرسل إليه رسولا بر، ولو علماه جميعا لم يبر، حتى يعلمه لأن علمهما مختلف.
واتفق مالك والشافعي والكوفيون أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه؛ قال الكوفيون: إلا أن يكون رجل أصمت أياما فكتب لم يجز من ذلك شيء. قال الطحاوي: الخرس مخالف للصمت العارض، كما أن العجز عن الجماع العارض لمرض ونحوه يوما أو نحوه مخالف للعجز الميؤوس منه الجماع، نحو الجنون في باب خيار المرأة في الفرقة.
الآية رقم ( 12 )
{يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا}
قوله تعالى{يا يحيى خذ الكتاب بقوة{ في الكلام حذف؛ المعنى فولد له ولد وقال الله تعالى للمولود{يا يحيى خذ الكتاب بقوة{ وهذا اختصار يدل الكلام عليه و{الكتاب{ التوراة بلا خلاف. {بقوة{ أي بجد واجتهاد؛ قاله مجاهد. وقيل العلم به، والحفظ له والعمل به، وهو الالتزام لأوامره، والكف عن نواهيه؛ قاله زيد بن أسلم؛ وقد تقدم في {البقرة{. {وآتيناه الحكم صبيا{ قيل: الأحكام والمعرفة بها. وروى معمر أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب؛ فقال: ما للعب خلقت. فأنزل الله تعالى {وآتيناه الحكم صبيا{ وقال قتادة: كان ابن سنتين أو ثلاث سنين. وقال مقاتل: كان ابن ثلاث سنين. و{صبيا{ نصب على الحال. وقال ابن عباس: من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا. وروي في تفسير هذه الآية من طريق عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا). وقال قتادة: إن يحيى عليه السلام لم يعص الله قط بصغيرة ولا كبيرة ولاهم بامرأة. وقال مجاهد: وكان طعام يحيى عليه السلام العشب، كان للدمع في خديه مجار ثابتة. وقد مضى الكلام في معنى قوله{وسيدًا وحصورا}آل عمران: 39] في {آل عمران{
الآية رقم ( 13 )
{وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا}
قوله تعالى{وحنانا من لدنا{ {حنانا{ عطف على {الحكم{. وروي عن ابن عباس أنه قال: والله ما أدري ما {الحنان{. وقال جمهور المفسرين: الحنان الشفقة والرحمة والمحبة؛ وهو فعل من أفعال النفس. النحاس: وفي معنى الحنان عن ابن عباس قولان: أحدهما: قال: تعطف الله عز وجل عليه بالرحمة والقول الآخر ما أعطيه من رحمة الناس حتى يخلصهم من الكفر والشرك. وأصله من حنين الناقة على ولدها. ويقال: حنانك وحنانيك؛ قيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: حنانيك تثنية الحنان. وقال أبو عبيدة: والعرب تقول: حنانك يا رب وحنانيك يا رب بمعنى واحد؛ تريد رحمتك. وقال امرؤ القيس:
ويمنحها بنو شمجى بن جرم معيزهم حنانك ذا الحنان
وقال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقال الزمخشري{حنانا{ رحمة لأبويه وغيرهما وتعطفا وشفقة؛ وأنشد سيبويه:
فقالت حنان ما أتى بك ههنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف
قال بن الأعرابي: الحنان من صفة الله تعالى مشددا الرحيم والحنان مخفف: العطف والرحمة. والحنان: الرزق والبكرة. ابن عطية: والحنان في كلام العرب أيضا ما عظم من الأمور في ذات الله تعالى؛ ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل في حديث بلال: والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حنانا؛ وذكر هذا الخبر الهروي؛ فقال: وفي حديث بلال ومر عليه ورقة بن نوفل وهو يعذب فقال الله لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا؛ أي لأتمسحن به. وقال الأزهري: معناه لأتعطفن عليه ولأترحمن عليه لأنه من أهل الجنة.
قلت: فالحنان العطف، وكذا قال مجاهد. و{حنانا{ أي تعطفا منا عليه أو منه على الخلق؛ قال الحطيئة:
تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا
عكرمة: محبة. وحنة الرجل امرأته لتوادهما؛ قال الشاعر:
فقالت حنان ما أتى بك ههنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف
قوله تعالى{وزكاة{ {الزكاة{ التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير والبر؛ أي جعلناه مباركا للناس يهديهم. وقيل: المعنى زكيناه بحسن الثناء عليه كما تزكي الشهود إنسانا. وقيل{زكاة{ صدقة به على أبويه؛ قاله ابن قتيبة. {وكان تقيا{ أي مطيعا لله تعالى، ولهذا لم يعمل خطيئة ولم يلم بها.
الآية رقم ( 14 )
{وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا}
قوله تعالى{وبرا بوالديه{ البر بمعنى البار وهو الكثير البر. {جبارا{ متكبرا. وهذا وصف ليحيى عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح.
الآية رقم ( 15 )
{وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا}
قوله تعالى{وسلام عليه يوم ولد{ قال الطبري وغيره: معناه أمان. ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة فهي أشرف وأنبه من الأمان؛ لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهي أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه، وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول.
قلت: وهذا قول حسن، وقد ذكرناه معناه عن سفيان بن عيينة في سورة {سبحان}الإسراء: 1] عند قتل يحي. وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيي التقيا - وهما ابنا الخالة - فقال يحيى لعيسى: ادع الله لي فأنت خير مني؛ فقال له عيسى: بل أنت ادع الله لي فأنت خير مني؛ سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي؛ فانتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى؛ بأن قال: إدلاله التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكى في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه. قال ابن عطية: ولكل وجه.
الآية رقم ( 16 )
{واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا}
قوله تعالى{واذكر في الكتاب مريم{ القصة إلى آخرها هذا ابتداء قصة ليست من الأولى. والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ أي عرفهم قصتها ليعرفوا كمال قدرتنا. {إذ انتبذت{ أي تنحت وتباعدت. والنبذ الطرح والرمي؛ قال الله تعالى{فنبذوه وراء ظهورهم{. [آل عمران: 187]. {من أهلها{ أي ممن كان معها. و{إذ{ بدل من {مريم{ بدل اشتمال؛ لأن الأحيان مشتملة على ما فيها. والانتباذ الاعتزال والانفراد. واختلف الناس لم انتبذت؛ فقال السدي: انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس. وقال غيره: لتعبد الله؛ وهذا حسن. وذلك أن مريم عليها السلام كانت وقفا على سدانة المعبد وخدمته والعبادة فيه، من الناس لذلك، ودخلت المسجد إلى جانب المحراب في شرقيه لتخلو للعبادة، فدخل عيها جبريل عليه السلام. فقوله{مكانا شرقيا{ أي مكانا من جانب الشرق. والشرق بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس. والشرق بفتح الراء الشمس. وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلع الأنوار، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها؛ حكاه الطبري. وحكى عن ابن عباس أنه قال: إني لأعلم الناس لم اتخذ النصارى المشرق قبلة لقول الله عز وجل{إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا{ فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة؛ وقالوا: لو كان شيء من الأرض خيرا من المشرق لوضعت مريم عيسى عليه السلام فيه. واختلف الناس في نبوة مريم؛ فقيل: كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملك. وقيل: لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر، ورؤيتها للملك كما رئي جبريل في صفة دحية حين سؤاله عن الإيمان والإسلام. والأول أظهر. وقد مضى الكلام في هذا المعنى مستوفى في {آل عمران{ والحمد لله.
الآية رقم ( 17 : 21 )
{فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا، قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا، قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا، قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا، قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا}
قوله تعالى{فأرسلنا إليها روحنا{ قيل: هو روح عيسى عليه السلام؛ لأن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد، فركب الروح في جسد عيسى عليه السلام الذي خلقه في بطنها. وقيل: هو جبريل وأضيف الروح إلى الله تعالى تخصيصا وكرامة. والظاهر أنه جبريل عليه السلام؛ لقوله{فتمثل لها{ أي تمثل الملك لها. {بشرا{ تفسير أو حال. {سويا{ أي مستوي الخلقة؛ لأنها لم تكن لتطيق أو تنظر جبريل في صورته. ولما رأت رجلا حسن الصورة في صورة البشر قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء. فـ {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا{ أي ممن يتقي الله. البكالي: فنكص جبريل عليه السلام فزعا من ذكر الرحمن تبارك وتعالى. الثعلبي كان رجلا صالحا فتعوذت به تعجبا. وقيل: تقي فعيل بمعنى مفعول أي كنت ممن يتقى منه. في البخاري قال أبو وائل: علمت مريم أن التقي ذو نهية حين قالت{إن كنت تقيا{. وقيل: تقي اسم فاجر معروف في ذلك الوقت قاله وهب بن منبه؛ حكاه مكي وغيره ابن عطية وهو ضعيف ذاهب مع التخرص. فقال لها جبريل عليه السلام{إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا{ جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله. وقرأ ورش عن نافع {ليهب لك{ على معنى أرسلني الله ليهب لك. وقيل: معنى {لأهب{ بالهمز محمول على المعنى؛ أي قال: أرسلته لأهب لك. ويحتمل {ليهب{ بلا همز أن يكون بمعنى المهموز ثم خففت الهمزة. فلما سمعت مريم ذلك من قوله استفهمت عن طريقه فـ {قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر{ أي بنكاح. {ولم أكن بغيا{ أي زانية. وذكرت هذا تأكيدا؛ لأن قولها لم يمسسني بشر يشمل الحلال والحرام. وقيل: ما استبعدت من قدرة الله تعالى شيئا ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد؟ من قبل الزوج في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء؟ وروي أن جبريل عليه السلام حين قال لها هذه المقالة نفخ في جيب درعها وكمها؛ قال ابن جريج. ابن عباس: أخذ جبريل عليه السلام ردن قميصها بإصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى. قال الطبري: وزعمت النصارى أن مريم حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياما، وأن مريم بقيت بعد رفعه ست سنين، فكان جميع عمرها نيفا وخمسين سنة. وقوله{ولنجعله{ متعلق بمحذوف؛ أي ونخلقه لنجعله{آية{ دلالة على قدرتنا عجيبة {ورحمة منا{ لمن أمن به. {وكان أمرا مقضيا{ مقدرا في اللوح مسطورا.
الآية رقم ( 22 : 23 )
{فحملته فانتبذت به مكانا قصيا، فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا}
قوله تعالى{فانتبذت به مكانا قصيا{ أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد؛ قال ابن عباس: إلى أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال؛ وإنما بعدت فرارا من تعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج. قال ابن عباس: ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال وهذا هو الظاهر؛ لأن الله تعالى ذكر الانتباذ الحمل. وقيل: غير ذلك على ما يأتي:
قوله تعالى{فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة{ {أجاءها{ اضطرها؛ وهو تعدية جاء بالهمز. يقال: جاء به وأجاءه إلى موضع كذا، كما يقال: ذهب به وأذهبه. وقرأ شبيل ورويت عن عاصم {فاجأها{ من المفاجأة. وفي مصحف أبي {فلما أجاءها المخاض{. وقال زهير:
وجار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة والرجاء
وقرأ الجمهور {المخاض{ بفتح الميم. ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو الطلق وشدة الولادة وأوجاعها. مخضت المرأة تمخض مخاضا ومخاضا. وناقة ماخض أي دنا ولادها. {إلى جذع النخلة{ كأنها طلبت شيئا تستند إليه وتتعلق به، كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق. والجذع ساق النخلة اليابسة في الصحراء الذي لا سعف عليه ولا غصن؛ ولهذا لم يقل إلى النخلة. {قالت يا ليتني مت قبل هذا{ تمنت مريم عليها السلام الموت من جهة الدين لوجهين: أحدهما: أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك. الثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنى وذلك مهلك. وعلى هذا الحد يكون تمني الموت جائزا، وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة {يوسف{ عليه السلام والحمد لله.
قلت: وقد سمعت أن مريم عليها السلام سمعت نداء من يقول: اخرج يا من يعبد من دون الله فحزنت لذلك، و{قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا{ النسي في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه. وحكي عن العرب أنهم إذا أرادوا الرحيل عن منزل قالوا: احفظوا أنساءكم؛ الأنساء جمع نسي وهو الشيء الحقير يغفل فينسى. ومنه قول الكميت رضي الله تعالى عنه:
أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ولست بنسي في مَعَد ولا دخل
وقال الفراء: النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها؛ فقول مريم{نسيا منسيا{ أي حيضة ملقاة. وقرئ {نسيا{ بفتح النون وهما لغتان مثل الحجر والحجر والوتر والوتر. وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز {نسئا{ بكسر النون. وقرأ نوف البكالي {نسئا{ بفتح النون من نسأ الله تعالى في أجله أي أخره. وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب. وقرأ بكر بن حبيب {نسا{ بتشديد السين وفتح النون دون همز. وقد حكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى عليه السلام حملت أيضا أختها بيحيى، فجاءتها أختها زائرة فقالت: يا مريم أشعرت أنت أني حملت؟ فقالت لها: وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك؛ فذلك أنه روي أنها أحست بجنينها يحر برأسه إلى ناحية بطن مريم؛ قال السدي فذلك قوله{مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين}آل عمران: 39] وذكر أيضا من قصصها أنها خرجت فارة رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار، كان يخدم معها في المسجد وطول في ذلك. قال الكلبي: قيل ليوسف - وكانت سميت له أنها حملت من الزنى - فالآن يقتلها الملك، فهرب بها، فهم في الطريق بقتلها، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: إنه من روح القدس؛ قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف. وهذه القصة تقتضي أنها حملت، واستمرت حاملا على عرف النساء، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر قال عكرمة؛ ولذلك قيل: لا يعيش ابن ثمانية أشهر لخاصة عيسى. وقيل: ولدته لتسعة. وقيل: لستة. وما ذكرناه عن ابن عباس أصح وأظهر. والله أعلم.
الآية رقم ( 24 )
{فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا}
قوله تعالى{فناداها من تحتها{ قرئ بفتح الميم وكسرها. قال ابن عباس: المراد بـ {من{ جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها؛ وقال علقمة والضحاك وقتادة؛ ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله فيها مراد عظيم. وقوله{ألا تحزني{ تفسير النداء، {وأن{ مفسرة بمعنى أي، المعنى: فلا تحزني بولادتك. {قد جعل ربك تحتك سريا{ يعني عيسى. والسري من الرجال العظيم الخصال السيد. قال الحسن: كان والله سريا من الرجال. ويقال: سري فلان على فلان أي تكرم. وفلان سري من قوم سراه. وقال الجمهور: أشار لها إلى الجدول الذي كان قريب جذع النخلة. قال ابن عباس: كان ذلك نهرا قد انقطع ماؤه فأجراه الله تعالى لمريم. والنهر يسمى سريا لأن الماء يسري فيه؛ قال الشاعر:
سلم ترى الدالي منه أزورا إذا يعب في السري هرهرا
وقال لبيد:
فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورة متجاورا قلامها
وقيل: ناداها عيسى، وكان ذلك معجزة وآية وتسكينا لقلبها؛ والأول أظهر. وقرأ ابن عباس (فناداها ملك من تحتها) قالوا: وكان جبريل عليه السلام في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها.
الآية رقم ( 25 : 26 )
{وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا، فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا}
قوله تعالى{وهزي{ أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع. والباء في قوله{بجذع{ زائدة مؤكدة كما يقال: خذ بالزمام، وأعط بيدك قال الله تعالى{فليمدد بسبب إلى السماء{ أي فليمدد سببا. وقيل: المعنى وهزي إليك رطبا على جذع النخلة. {وتساقط{ أي تتساقط فأدغم التاء في السين. وقرأ حمزة {تساقط{ مخففا فحذف التي أدغمها غيره. وقرأ عاصم في رواية حفص {تساقط{ بضم التاء مخففا وكسر القاف. وقرئ {تتساقط{ بإظهار التاءين و{يساقط{ بالياء وإدغام التاء {وتسقط{ و{يسقط{ و{تسقط{ و{يسقط{ بالتاء للنخلة وبالياء للجذع؛ فهذه تسع قراءات ذكرها الزمخشري رحمة الله تعالى عليه. {رطبا{ نصب بالهز؛ أي إذا هزت الجذع هززت بهزه {رطبا جنيا{ وعلى الجملة فـ {رطبا{ يختلف نصبه بحسب معاني القراءات؛ فمرة يستند الفعل إلى الجذع، ومرة إلى الهز، ومرة إلى النخلة. {وجنيا{ معناه قد طابت وصلحت للاجتناء، وهي من جنيت الثمرة. ويروى عن ابن مسعود - ولا يصح - أنه قرأ {تساقط عليك رطبا جنيا برنيا{. وقال مجاهد{رطبا جنيا{ قال: كانت عجوة. وقال عباس بن الفضل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله{رطبا جنيا{ فقال: لم يذو. قال وتفسيره: لم يجف ولم ييبس ولم يبعد عن يدي مجتنيه؛ وهذا هو الصحيح. قال الفراء: الجني والمجني واحد يذهب إلى أنهما بمنزلة القتيل والمقتول والجريح والمجروح. وقال غير الفراء: الجني المقطوع من نخلة واحدة، والمأخوذ من مكان نشأته؛ وأنشدوا:
وطيب ثمار في رياض أريضة وأغصان أشجار جناها على قرب
يريد بالجنى ما يجنى منها أي يقطع ويؤخذ. قال ابن عباس: كان جذعا نخرا فلما هزت نظرت إلى أعلى الجذع فإذا السعف قد طلع، ثم نظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف، ثم أخضر فصار بلحا ثم احمر فصار زهوا، ثم رطبا؛ كل ذلك في طرفة عين، فجعل الرطب يقع بين يديها لا ينشدخ منه شيء.
استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوما؛ فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه؛ لأنه أمر مريم بهز النخلة لترى آية، وكانت الآية تكون بألا تهز.
الأمر بتكليف الكسب الرزق سنة الله تعالى في عباده، وأن ذلك لا يقدح في التوكل، خلافا لما تقوله جهال المتزهدة؛ وقد تقدم هذا المعنى والخلاف فيه. وقد كانت قبل ذلك يأيتها، رزقها من غير تكسب كما قال{كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا{ الآية [آل عمران: 37]. فلما ولدت أمرت بهز الجذع. قال علماؤنا: لما كان قلبها فارغا فرغ الله جارحتها عن النصب، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه، واشتغل سرها بحديثه وأمره، وكلها إلى كسبها، وردها إلى العادة بالتعلق بالأسباب في عباده. وحكى الطبري عن ابن زيد أن عيسى عليه السلام قال لها: لا تحزني؛ فقالت له وكيف حزن وأنت معي؟ ! لا ذات زوج ولا مملوكة! أي شيء عذري عند الناس؟ ! ! {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا{ فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام.
قال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب لهذه الآية، ولو علم الله شيئا هو أفضل من الرطب للنفساء لأطعمه مريم ولذلك قالوا: التمر عادة للنفساء من ذلك الوقت وكذلك التحنيك. وقيل: إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل؛ ذكره الزمخشري. قال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى{رطبا جنيا{ الجني من التمر ما طاب من غير نقش ولا إفساد. والنقش أن ينقش من أسفل البسرة حتى ترطب؛ فهذا مكروه؛ يعني مالك أن هذا تعجيل للشيء قبل وقته، فلا ينبغي لأحد أن يفعله، وإن فعله فاعل ما كان ذلك مجوزا لبيعه؛ ولا حكما بطيبه. وقد مضى هذا القول في الأنعام. والحمد لله. عن طلحة بن سليمان {جنيا{ بكسر الجيم للإتباع؛ أي جعلنا لك في السري والرطب فائدتين: إحداهما الأكل والشرب، الثانية سلوة الصدر لكونهما معجزتين. وهو معنى قوله تعالى{فكلي واشربي وقري عينا{ أي فكلي من الجني، وأشربي من السري، وقري عينا برؤية الولد النبي. وقرئ بفتح القاف وهي قراءة الجمهور. وحكى الطبري قراءة {وقري{ بكسر القاف وهي لغة نجد. يقال: قر عينا يقر ويقر بضم القاف وكسرها وأقر الله عينه فقرت. وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد. ودمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. وضعف فرقة هذا وقالت: الدمع كله حار، فمعنى أقر الله عينه أي سكن الله عينه بالنظر إلى من يحبه حتى تقر وتسكن؛ وفلان قرة عيني؛ أي نفسي تسكن بقربه. وقال الشيباني{وقري عينا{ معناه نامي حضها على الأكل والشرب والنوم. قال أبو عمرو: أقر الله عينه أي أنام عينه، وأذهب سهره. و{عينا{ نصب على التمييز؛ كقولك: طب نفسا. والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فنقل ذلك إلى ذي العين؛ وينصب الذي كان فاعلا في الحقيقة على التفسير. ومثله طبت نفسا، وتفقأت شحما، وتصببت عرقا، ومثله كثير.
قوله تعالى{فإما ترين{ الأصل في ترين ترأيين فحذفت الهمزة كما حذفت من ترى ونقلت فتحتها إلى الراء فصار {تريين{ ثم قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان الألف المنقلبة عن الياء وياء التأنيث، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار ترين، ثم حذفت النون علامة للجزم لأن إن حرف شرط وما صلة فبقي تري، ثم دخله نون التوكيد وهي مثقلة، فكسر ياء التأنيث لالتقاء الساكنين؛ لأن النون المثقلة بمنزلة نونين الأولى ساكنة فصار ترين وعلى هذا النحو قول ابن دريد:
إما تري رأسي حاكى لونه
وقول الأفوه:
إما تري رأسي أزرى به
وإنما دخلت النون هنا بتوطئة {ما{ كما يوطئ لدخولها أيضا لام القسم. وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة {ترين{ بسكون الياء وفتح النون خفيفة؛ قال أبو الفتح: وهى شاذة.
قوله تعالى{فقولي إني نذرت{ هذا جواب الشرط وفيه إضمار؛ أي فسألك عن ولدك {فقولي إني نذرت للرحمن صوما{ أي صمتا؛ قاله ابن عباس وأنس بن مالك. وفي قراءة أبي بن كعب {إني نذرت للرحمن صوما صمتا{ وروي عن أنس. وعنه أيضا {وصمتا{ بواو، واختلاف اللفظين يدل على أن الحرف ذكر تفسيرا لا قرآنا؛ فإذا أتت معه واو فممكن أن يكون غير الصوم. والذي تتابعت به الأخبار عن أهل الحديث ورواة اللغة أن الصوم هو الصمت؛ لأن الصوم إمساك والصمت إمساك عن الكلام. وقيل: هو الصوم والمعروف، وكان يلزمهم الصمت يوم الصوم إلا بالإشارة. وعلى هذا تخرج قراءة أنس {وصمتا{ بواو، وأن الصمت كان عندهم في الصوم ملتزما بالنذر، كما أن من نذر منا المشي إلى البيت اقتضى ذلك الإحرام بالحج أو العمرة. ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل عليه السلام - أو ابنها على الخلاف المتقدم - بأن تمسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتتبين الآية فيقوم عذرها. وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية، وهو قول الجمهور. وقالت فرقة: معنى {قولي{ بالإشارة لا بالكلام. الزمخشري: وفيه أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها.
من التزم بالنذر ألا يكلم أحدا من الآدميين فيحتمل أن يقال إنه قربة فيلزم بالنذر، ويحتمل أن يقال: ذلك لا يجوز في شرعنا لما فيه من التضييق وتعذيب النفس؛ كنذر القيام في الشمس ونحوه. وعلى هذا كان نذر الصمت في تلك الشريعة لا في شريعتنا؛ وقد تقدم. وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق بالكلام. وهذا هو الصحيح لحديث أبي إسرائيل، خرجه البخاري عن ابن عباس. وقال ابن زيد والسدي: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام.
قلت: ومن سنتنا نحن في الصيام الإمساك عن الكلام القبيح؛ قال عليه الصلاة والسلام: (إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم). وقال عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).
الآية رقم ( 27 : 28 )
{فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا}
قوله تعالى{فأتت به قومها تحمله{ روى أن مريم لما اطمأنت بما رأت من الآيات، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها، أتت به تحمله من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه. قال ابن عباس: خرجت من عندهم حين أشرقت الشمس، فجاءتهم عند الظهر ومعها صبي تحمله، فكان الحمل والولادة في ثلاث ساعات من النهار. وقال الكلبي: ولدت حيث لم يشعر بها قومها، ومكثت أربعين يوما للنفاس، ثم أتت قومها تحمله، فلما رأوها ومعها الصبي حزنوا وكانوا أهل بيت صالحين؛ فقالوا منكرين{قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا{ أي جئت بأمر عظيم كالآتي بالشيء يفتريه. قال مجاهد{فريا{ عظيما. وقال سعيد بن مسعدة: أي مختلقا مفتعلا؛ يقال: فريت وأفريت بمعنى واحد. والولد من الزنى كالشيء المفترى. قال الله تعالى{ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن}الممتحنة: 12] أي بولد بقصد إلحاقه بالزوج وليس منه. يقال: فلان يفري الفري أي يعمل العمل البالغ، وقال أبو عبيدة: الفري العجيب النادر، وقاله الأخفش قال: فريا عجيبا. والفري القطع كأنه مما يخرق العادة، أو يقطع القول بكونه عجيبا نادرا. وقال قطرب: الفري الجديد من الأسقية؛ أي جئت بأمر جديد بديع لم تسبقي إليه. وقرأ أبو حيوة{شيئا فريا{ بسكون الراء. وقال السدي ووهب بن منبه: لما أتت به قومها تحمله تسامع بذلك بنو إسرائيل، فاجتمع رجالهم ونساؤهم، فمدت امرأة يدها إليها لتضربها فأجف الله شطرها فحملت كذلك. وقال آخر: ما أراها إلا زنت فأخرسه الله تعالى؛ فتحامى الناس من أن يضربوها، أو يقولوا لها كلمة تؤذيها، وجعلوا يخفضون إليها القول ويلينون؛ فقالوا{يا مريم لقد جئت شيئا فريا{ أي عظيما قال الراجز:
أطعمتني دقلا حوليا مسوسا مدودا حجريا
قد كنت تفرين به الفريا
أي [تعظمينه].
قوله تعالى{يا أخت هارون{ اختلف الناس في معنى هذه الأخوة ومن هارون؟ فقيل: هو هارون أخو موسى؛ والمراد من كنا نظنها مثل هارون في العبادة تأتي بمثل هذا. وقيل: على هذا كانت مريم من ولد هارون أخي موسى فنسبت إليه بالأخوة لأنها من ولده؛ كما يقال للتميمي: يا أخا تميم وللعربي يا أخا العرب وقيل كان لها أخ من أبيها اسمه هارون؛ لأن هذا الاسم كان كثيرا في بني إسرائيل تبركا باسم هارون أخي موسى، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل؛ قاله الكلبي. وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الزمان تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم اسمه هارون. وقال قتادة: كان في ذلك الزمان في بني إسرائيل عابد منقطع إلى الله عز وجل يسمى هارون فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته قبل؛ إذ كانت موقوفة على خدمة البيع؛ أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلا لذلك. وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: إن مريم ليست بأخت هارون أخي موسى؛ فقالت له عائشة: كذبت. فقال لها: يا أم المؤمنين إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فهو أصدق وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما من المدة ستمائة سنة. قال: فسكتت. وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقال إنكم تقرؤون {يا أخت هارون{ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك، فقال: (إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم). وقد جاء في بعض طرقه في غير الصحيح أن النصارى قالوا له: إن صاحبك يزعم أن مريم هي أخت هارون وبينهما في المدة ستمائة سنة؟ ! قال المغيرة: فلم أدر ما أقول؛ وذكر الحديث. والمعنى أنه اسم وافق اسما. ويستفاد من هذا جواز التسمية بأسماء الأنبياء؛ والله أعلم.
قلت: فقد دل الحديث الصحيح أنه كان بين موسى وعيسى وهارون زمان مديد. الزمخشري: كان بينهما وبينه ألف سنة أو أكثر فلا يتخيل أن مريم كانت أخت موسى وهارون؛ وإن صح فكما قال السدي لأنها كانت من نسله؛ وهذا كما تقول للرجل من قبيلة: يا أخا فلان. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أخا صداء قد أذن فمن أذن فهو يقيم) وهذا هو القول الأول. ابن عطية: وقالت فرقة بل كان في ذلك الزمان رجل فاجر اسمه هارون فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ؛ ذكره الطبري ولم يسم قائله.
قلت: ذكره الغزنوي عن سعيد بن جبير أنه كان فاسقا مثلا في الفجور فنسبت إليه. والمعنى: ما كان أبوك ولا أمك أهلا لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها؟ ! وهذا من التعريض الذي يقوم مقام التصريح. وذلك يوجب عندنا الحد وسيأتي في سورة {النور{ القول فيه إن شاء الله تعالى. وهذا القول الأخير يرده الحديث الصحيح، وهو نص صريح فلا كلام لأحد معه، ولا غبار عليه. والحمد لله. وقرأ عمر بن لجأ التيمي (ما كان أباك امرؤ سوء).
الآية رقم ( 29 : 33 )
{فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا، قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا، وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا، وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا}
قوله تعالى{فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا{ التزمت مريم عليها السلام ما أمرت به من ترك الكلام، ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت بـ {إني نذرت للرحمن صوما{ وإنما ورد بأنها أشارت، فيقوى بهذا قول من قال: إن أمرها بـ {قولي{ إنما أريد به الإشارة. ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا: استخفافها بنا أشد علينا من زناها، ثم قالوا لها على جهة التقرير {كيف نكلم من كان في المهد صبيا{ و{كان{ هنا ليس يراد بها الماضي؛ لأن كل واحد قد كان في المهد صبيا، وإنما هي في معنى هو (الآن). وقال أبو عبيدة: (كان) هنا لغو؛ كما قال:
وجيران لنا كانوا كرام
وقيل: هي بمعنى الوجود والحدوث كقوله{وإن كان ذو عسرة{ وقد تقدم. وقال ابن الأنباري: لا يجوز أن يقال زائدة وقد نصبت {صبيا{ ولا أن يقال {كان{ بمعنى حدث، لأنه لو كانت بمعنى الحدوث والوقوع لاستغنى فيه عن الخبر، تقول: كان الحر وتكتفي به. والصحيح أن {من{ في معنى الجزاء و{كان{ بمعنى يكن؛ التقدير: من يكن في المهد صبيا فكيف نكلمه؟ ! كما تقول: كيف أعطي من كان لا يقبل عطية؛ أي من يكن لا يقبل. والماضي قد يذكر بمعنى المستقبل في الجزاء؛ كقوله تعالى {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار{ أي إن يشأ يجعل. وتقول: من كان إلي منه إحسان كان إليه مني مثله، أي من يكن منه إلي إحسان يكن إليه مني مثله. {والمهد{ قيل: كان سريرا كالمهد وقيل {المهد{ ههنا حجر الأم. وقيل: المعنى كيف نكلم من كان سبيله أن ينوم في المهد لصغره، فلما سمع عيسى عليه السلام كلامهم قال لهم من مرقده {إني عبد الله{ فقيل: كان عيسى عليه السلام يرضع فلما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار إليهم بسبابته اليمنى، و{قال إني عبدالله{ فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى وربوبيته، ردا على من غلا من بعده في شأنه. والكتاب الإنجيل؛ قيل: آتاه في تلك الحالة الكتاب، وفهمه وعلمه، وآتاه النبوة كما علم آدم الأسماء كلها، وكان يصوم ويصلي. وهذا في غاية الضعف على ما نبينه في المسألة بعد هذا. وقيل: أي حكم لي بإيتاء الكتاب والنبوة في الأزل، وإن لم يكن الكتاب منزلا في الحال؛ وهذا أصح. {وجعلني مباركا أين ما كنت{ أي ذا بركات ومنافع في الدين والدعاء إليه ومعلما له. التستري: وجعلني آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأرشد الضال، وأنصر المظلوم، وأغيث الملهوف. {وأوصاني بالصلاة والزكاة{ أي لأؤديهما إذا أدركني التكليف، وأمكنني أداؤهما، على القول الأخير الصحيح. {ما دمت حيا{ في موضع نصب على الظرف أي دوام حياتي. {وبرا بوالدتي{ قال ابن عباس: لما قال {وبرا بوالدتي{ ولم يقل بوالدي علم أنه شيء من جهة الله تعالى. {ولم يجعلني جبارا{ أي متعظما متكبرا يقتل ويضرب على الغضب. وقيل: الجبار الذي لا يرى لأحد عليه حقا قط {شقيا{ أي خائبا من الخير. ابن عباس: عاقا. وقيل: عاصيا لربه. وقيل: لم يجعلني تاركا لأمره فأشقى كما شقي إبليس لما ترك أمره.
قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر! أخبر عيسى عليه السلام بما قضي من أمره، وبما هو كائن إلى أن يموت. وقد روي في قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا: إن هذا لأمر عظيم. وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية، ثم عاد إلى حالة الأطفال، حتى مشى على عادة البشر إلى أن بلغ مبلغ الصبيان فكان نطقه إظهار براءة أمه لا أنه كان ممن يعقل في تلك الحالة، وهو كما ينطق الله تعالى الجوارح يوم القيامة. ولم ينقل أنه دام نطقه، ولا أنه كان يصلي وهو ابن يوم أو شهر، ولو كان يدوم نطقه وتسبيحه ووعظه وصلاته في صغره بن وقت الولادة لكان مثله مما لا ينكتم، وهذا كله مما يدل على فساد القول الأول، ويصرح بجهالة قائله. ويدل أيضا على أنه تكلم في المهد خلافا لليهود والنصارى. والدليل على ذلك إجماع الفرق على أنها لم تحد. وإنما صح براءتها من الزنى بكلامه في المهد. ودلت هذه الآية على أن الصلاة والزكاة وبر الوالدين كان واجبا على الأمم السالفة، والقرون الخالية الماضية، فهو مما يثبت حكمه ولم ينسخ في شريعة أمره. وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع؛ يأكل الشجر، ويلبس الشعر، ويجلس على التراب، ويأوي حيث جنه الليل، لا مسكن له، صلى الله عليه وسلم.
الإشارة بمنزلة الكلام، وتفهم ما يفهم القول. كيف لا وقد أخبر الله تعالى عن مريم فقال{فأشارت إليه{ وفهم منها القوم مقصودها وغرضها فقالوا: (كيف نكلم) وقد مضى هذا في {آل عمران{ مستوفى.
قال الكوفيون: لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه. وروي مثله عن الشعبي، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق، وإنما يصح القذف عندهم بصريح الزنى دون معناه، وهذا لا يصح من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفا؛ بالإشارة بالزنى من الوطء الحلال والشبهة. قالوا: واللعان عندنا شهادات، وشهادة الأخرس لا تقبل بالإجماع. قال ابن القصار: قولهم إن القذف لا يصح إلا بالتصريح فهو باطل بسائر الألسنة ما عدا العربية، فكذلك إشارة الأخرس. وما ذكروه من الإجماع في شهادة الأخرس فغلط. وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته، وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة، وأما مع القدرة باللفظ فلا تقع منه إلا باللفظ. قال ابن المنذر: والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام، فينبغي أن يكون القذف مثل ذلك. قال المهلب: وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت أنا والساعة كهاتين) نعرف قرب ما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة. وفي إجماع العقول على أن العيان أقوى من الخبر دليل على أن الإشارة قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام. {والسلام علي{ أي السلامة علي من الله تعالى. قال الزجاج: ذكر السلام قبل هذا بغير ألف ولام فحسن في الثانية ذكر الألف واللام. وقوله{يوم ولدت{ يعني في الدنيا. وقيل: من همز الشيطان كما تقدم في {آل عمران{. {ويوم أموت{ يعني في القبر {ويوم أبعث حيا{ يعني في الآخرة. لأن له أحواله ثلاثة في الدنيا حيا، وفي القبر ميتا، وفي الآخرة مبعوثا؛ فسلم في أحواله كلها وهو قول الكلبي. ثم انقطع كلامه في المهد حتى بلغ مبلغ الغلمان. وقال قتادة: ذكر لنا أن عيسى عليه السلام رأته امرأة يحيى الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص في سائر آياته فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، والثدي الذي أرضعك؛ فقال لها عيسى عليه السلام: طوبى لمن تلا كتاب الله تعالى واتبع ما فيه وعمل به.
الآية رقم ( 34 : 40 )
{ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون، ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم، فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم، أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين، وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون، إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون}
قوله تعالى{ذلك عيسى ابن مريم{ أي ذلك الذي ذكرناه عيسى بن مريم فكذلك اعتقدوه، لا كما تقول اليهود إنه لغير رشدة وأنه ابن يوسف النجار، ولا كما قالت النصارى: إنه الإله أو ابن الإله. {قول الحق{ قال الكسائي{قول الحق{ نعت لعيسى أي ذلك عيسى ابن مريم {قول الحق{ وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله؛ والحق هو الله عز وجل. وقال أبو حاتم: المعنى هو قول الحق. وقيل: التقدير هذا الكلام قول الحق. قال ابن عباس: (يريد هذا كلام عيسى صلى الله عليه وسلم قول الحق ليس بباطل؛ وأضيف القول إلى الحق كما قال: (وعد الصدق الذي كانوا يوعدون) [الأحقاف: 16] أي الوعد والصدق. وقال{وللدار الآخرة خير}الأنعام:32] أي ولا الدار الآخرة. وقرأ عاصم وعبدالله بن عامر {قول الحق{ بالنصب على الحال؛ أي أقول قولا حقا. والعامل معنى الإشارة في (ذلك). الزجاج: هو مصدر أي أقول قول الحق لأن ما قبله يدل عليه. وقيل: مدح. وقيل: إغراء. وقرأ عبدالله {قال الحق{ وقرأ الحسن {قول الحق{ بضم القاف، وكذلك في {الأنعام{ {قول الحق{ والقول والقال والقول بمعنى واحد، كالرهب والرهب والرهب. {الذي{ من نعت عيسى. {فيه يمترون{ أي يشكون؛ أي ذلك عيسى بن مريم الذي فيه يمترون القول الحق. وقيل{يمترون{ يختلفون. ذكر عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى (ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون) قال: اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع؛ فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية. فقالت الثلاثة: كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث: قل فيه، قال: هو ابن الله وهم النسطورية، فقال الاثنان كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه، فقال: هو ثالث ثلاثة، الله إله وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى. قال الرابع: كذبت بل هو عبدالله ورسول وروحه وكلمته وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع - على ما قال - فاقتتلوا فظهر على المسلمين، فذلك قول الله تعالى: (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس) [آل عمران:21]. وقال قتادة: وهم الذين قال الله تعالى فيهم: (فاختلف الأحزاب من بينهم) اختلفوا فيه فصاروا أحزابا فهذا معنى قول (الذي فيه تمترون) بالتاء المعجمة من فوق وهي قراءة أبي عبدالرحمن السلمي وغيره قال ابن عباس فمر بمريم ابن عمها ومعها ابنها إلى مصر فكانوا فيها اثنتي عشرة سنة حتى مات الملك الذي كانوا يخافونه؛ ذكره الماوردي.
قلت ووقع في تاريخ مصر فيما رأيت وجاء في الإنجيل الظاهر أن السيد المسيح لما ولد في بيت لحم كان هيرودس في ذلك الوقت ملكا وأن الله تعالى أوعى إلى يوسف النجار في الحلم وقال له قم فخذ الصبي وأمه واذهب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك، فإن هيرودس مزمع أن يطلب عيسى ليهلكه فقام من نومه وامتثل أمر ربه وأخذ السيد المسيح ومريم أمه وجاء إلى مصر، وفي حال مجيئه إلى مصر نزل ببئر البلسان التي بظاهر القاهرة وغسلت ثيابه على ذلك البئر فالبلسان لا يطلع ولا ينبت إلا في تلك الأرض ومنه يخرج الدهن الذي يخالط الزيت الذي تعمد به النصارى ولذلك كانت قارورة واحدة في أيام المصريين لها مقدار عظيم، وتقع في نفوس ملوك النصارى مثل ملك القسطنطينية وملك صقلية وملك الحبشة وملك النوبة وملك الفرنجة وغيرهم من الملوك عندما يهاديهم به ملوك مصر موقعا جليلا جدا وتكون أحب إليهم من كل هدية لها قدر وفي تلك السفرة وصل السيد المسيح إلى مدينة الأشمونين وقسقام المعروفة الآن بالمحرقة فلذلك يعظمها النصارى إلى الآن، ويحضروا إليها في عيد الفصح من كل مكان؛ لأنها نهاية ما وصل إليها من أرض مصر، ومنها عاد إلى الشام. والله أعلم.
قوله تعالى{ما كان لله{ أي ما ينبغي له ولا يجوز {أن يتخذ من ولد{ {من{ صلة للكلام؛ أي أن يتخذ ولدا. و{أن{ في موضع رفع اسم {كان{ أي ما كان لله أن يتخذ ولدا؛ أي ما كان من صفته اتخاذ الولد، ثم نزه نفسه تعالى عن مقالتهم فقال{سبحانه{ أن يكون له {إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون{ تقدم. {وإن الله ربي وربكم{ قرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو بفتح {أن{ وأهل الكوفة {وإن{ بكسر الهمزة على أنه مستأنف. تدل عليه قراءة أبي {كن فيكون. إن الله{ بغير واو على العطف على {قال إني عبدالله{ وفي الفتح أقوال: فمذهب الخليل وسيبويه أن المعنى؛ ولأن الله ربي وربكم، وكذا {وأن المساجد لله{ فـ {أن{ في موضع نصب عندهما. وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض على حذف اللام، وأجاز أن يكون أيضا في موضع خفض بمعنى وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبأن الله ربي وربكم؛ وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى؛ والأمر أن الله ربي وربكم. وفيها قول خامس حكى أبو عبيد أن أبا عمرو بن العلاء قاله، وهو أن يكون المعنى: وقضى أن الله ربي وربكم؛ فهي معطوفة على قوله{أمرا{ من قوله{إذا قضى أمرا{ والمعنى إذا قضى أمرا وقضى أن الله. ولا يبتدأ بـ {أن{ على هذا التقدير، ولا على التقدير الثالث. ويجوز الابتداء بها على الأوجه الباقية. {هذا صراط مستقيم{ أي دين قويم لا اعوجاج فيه.
قوله تعالى{فاختلف الأحزاب من بينهم{ {من{ زائدة أي اختلف الأحزاب بينهم. وقال قتادة: أي ما بينهم فاختلفت الفرق أهل الكتاب في أمر عيسى عليه السلام فاليهود بالقدح والسحر. والنصارى قالت النسطورية منهم: هو ابن الله. والملكانية ثالث ثلاثة. وقالت اليعقوبية: هو الله؛ فأفرطت النصار وغلت، وفرطت اليهود وقصرت. وقد تقدم هذا في {النساء{ وقال ابن عباس: المراد من الأحزاب الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه من المشركين. {فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم{ أي من شهود يوم القيامة، والمشهد بمعنى المصدر، والشهود الحضور ويجوز أن يكون الحضور لهم، ويضاف إلى الظرف لوقوعه فيه، كما يقال: ويل لفلان من قتال يوم كذا؛ أي من حضوره ذلك اليوم. وقيل: المشهد بمعنى الموضع الذي يشهده الخلائق، كالمحشر للموضع الذي يحشر إليه الخلق. وقيل: فويل للذين كفروا من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور، فأجمعوا على الكفر بالله، وقولهم: إن الله ثالث ثلاثة.
قوله تعالى{أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا{ قال أبو العباس: العرب تقول هذا في موضع التعجب؛ فتقول أسمع بزيد وأبصر بزيد أي ما أسمعه وأبصره. قال: فمعناه أنه عجب نبيه منهم. قال الكلبي: لا أحد أسمع يوم القيامة ولا أبصر، حين يقول الله تبارك وتعالى لعيسى: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) [المائدة: 116]. وقيل{أسمع{ بمعنى الطاعة؛ أي ما أطوعهم لله في ذلك اليوم {لكن الظالمون اليوم{ يعني في الدنيا {في ضلال مبين{ وأي ضلال أبين من أن يعتقد المرء في شخص مثله حملته الأرحام، وأكل وشرب، وأحدث واحتاج أنه إله؟ ! ومن هذا وصفه أصم أعمى ولكنه سيبصر ويسمع في الآخرة إذا رأى العذب، ولكنه لا ينفعه ذلك؛ قال معناه قتادة وغيره.
قوله تعالى{وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر{ روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال: ما من أحد يدخل النار إلا وله بيت في الجنة فيتحسر عليه. وقيل: تقع الحسرة إذا أعطي كتابه بشماله. {إذ قضي الأمر{ أي فرغ من الحساب، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال يأهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - ثم يقال يأهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - فيؤمر به فيذبح ثم يقال يأهل الجنة خلود فلا موت ويأهل النار خلود فلا موت - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون{ خرجه البخاري بمعناه عن ابن عمر، وابن ماجة من حديث أبي هريرة والترمذي عن أبي سعيد يرفعه وقال فيه حديث حسن صحيح. وقد ذكرنا ذلك في كتاب {التذكرة{ وبينا هناك أن الكفار مخلدون بهذه الأحاديث والآي ردا على من قال: إن صفة الغضب تنقطع، وإن إبليس ومن تبعه من الكفرة كفرعون وهامان وقارون وأشباههم يدخلون الجنة.
قوله تعالى{إنا نحن نرث الأرض ومن عليها{ أي نميت سكانها فنرثها. {وإلينا يرجعون
يوم القيامة فنجازي كلا بعمله، وقد تقدم هذا في {الحجر{ وغيرها.
الآية رقم ( 41 : 46 )
{واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا}
قوله تعالى{واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا{ المعنى: واذكر في الكتاب الذي أنزل عليك وهو القرآن قصة إبراهيم وخبره. وقد تقدم معنى الصديق في {النساء{ واشتقاق الصدق في {البقرة{ فلا معنى للإعادة ومعنى الآية: اقرأ عليهم يا محمد في القرآن أمر إبراهيم فقد عرفوا أنهم من ولده، فإنه كان حنيفا مسلما وما كان يتخذ الأنداد، فهؤلاء لم يتخذون الأنداد؟ ! وهو كما قال {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه}البقرة: 130]
قوله تعالى{إذ قال لأبيه{ وهو آزر. {يا أبت{ تقدم في (يوسف). {لم تعبد{ أي لأي شي تعبد{ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا. يريد الأصنام{يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك{ أي من اليقين والمعرفة بالله وما يكون بعد الموت، وأن من عبد غير الله عذب {فاتبعني{ إلى ما أدعوك إليه. {أهدك صراطا سويا{ أي أرشدك إلى دين مستقيم فيه النجاة. {يا أبت لا تعبد الشيطان{ أي لا تطعه فيما يأمرك به من الكفر، ومن أطاع شيئا في معصية فقد عبده. {إن الشيطان كان للرحمن عصيا {كان{ صلة زائدة وقيل بمعنى صار. وقيل بمعنى الحال أي هو للرحمن. وعصيا وعاص بمعنى واحد قال الكسائي{يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن{ أي إن مت على ما أنت عليه. ويكون {أخاف{ بمعنى أعلم. ويجوز أن يكون {أخاف{ على بابها فيكون المعنى: إني أخاف أن تموت على كفرك فيمسك العذاب. {فتكون للشيطان وليا{ أي قرينا في النار. {قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم{ أي أترغب عنها إلى غيرها. {لئن لم تنته لأرجمنك{ قال الحسن: يعني بالحجارة. الضحاك: بالقول؛ أي لأشتمنك. ابن عباس: لأضربنك. وقيل: لأظهرن أمرك. {واهجرني مليا{ قال ابن عباس: أي اعتزلني سالم العرض لا يصيبك منى معرة؛ واختاره الطبري، فقوله{مليا{ على هذا حال من إبراهيم. وقال الحسن ومجاهد{مليا{ دهرا طويلا؛ ومنه قول المهلهل:
فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا
قال الكسائي: يقال هجرته مليا وملوة وملوة وملاوة وملاوة، فهو على هذا القول ظرف، وهو بمعنى الملاوة من الزمان، وهو الطويل منه.
الآية رقم ( 47 : 50 )
{قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا، فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا، ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا}
قوله تعالى{قال سلام عليك{ لم يعارضه إبراهيم عليه السلام بسوء الرد؛ لأنه لم يؤمر بقتاله على كفره. والجمهور على أن المراد بسلامه المسالمة التي هي المتاركة لا التحية؛ قال الطبري: معناه أمنة مني لك. وعلى هذا لا يبدأ الكافر بالسلام. وقال النقاش: حليم خاطب سفيها؛ كما قال{وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}الفرقان: 63]. وقال بعضهم في معنى تسليمه: هو تحية مفارق؛ وجوز تحية الكافر وأن يبدأ بها. قيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال: نعم؛ قال الله تعالى{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين}الممتحنة: 8]. وقال {قد كانت{ لكم أسوة حسنة في إبراهيم}الممتحنة:4] الآية؛ وقال إبراهيم لأبيه {سلام عليك{.
قلت: الأظهر من الآية ما قاله سفيان بن عيينة؛ وفي الباب حديثنا صحيحان: روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه) خرجه البخار ومسلم. وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكيه، وأردف وراءه أسامة بن زيد؛ وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبدالله بن أبي بن سلول، وفي المجلس عبدالله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبدالله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ الحديث. فالأول يفيد ترك السلام عليهم ابتداء لأن ذلك إكرام، والكافر ليس أهله. والحديث الثاني يجوز ذلك. قال الطبري: ولا يعارض ما رواه أسامة بحديث أبي هريرة فإنه ليس في أحدهما خلاف للأخر وذلك أن حديث أبي هريرة مخرجه العموم، وخبر أسامة يبين أن معناه الخصوص. وقال النخعي: إذا كانت لك حاجة عند يهودي أو نصراني فابدأه بالسلام فبان بهذا أن حديث أبى هريرة (لا تبدؤوهم بالسلام) إذا كان لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدؤوهم بالسلام، من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق صحبة أو جوار أو سفر. قال الطبري: وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب. وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه؛ قال علقمة: فقلت له يا أبا عبدالرحمن أليس يكره أن يبدؤوا بالسلام؟ ! قال نعم، ولكن حق الصحبة. وكان أبو أسامة إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه؛ قيل له في ذلك فقال: أمرنا أن نفشي السلام. وسئل الأوزاعي عن مسلم مر بكافر فسلم عليه، فقال: إن سلمت فقد سلم الصالحون قبلك، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك. وروي عن الحسن البصري أنه قال: إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم.
قلت: وقد احتج أهل المقالة الأولى بأن السلام الذي معناه التحية إنما خص به هذه الأمة؛ لحديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهي تحية أهل الجنة) الحديث؛ ذكره الترمذي الحكيم؛ وقد مضى في الفاتحة بسنده. وقد مضى الكلام في معنى قوله{سأستغفر لك ربي{ وارتفع السلام بالابتداء؛ وجاز ذلك مع نكرته لأنه نكرة مخصصة فقرنت المعرفة. {إنه كان بي حفيا{ الحفي المبالغ في البر والإلطاف؛ يقال: حفي به وتحفى إذا بره. وقال الكسائي يقال: حفي بي حفاوة وحفوة. وقال الفراء{إنه كان بي حفيا{ أي عالما لطيفا يجيبني إذا دعوته.
قوله تعالى{وأعتزلكم{ العزلة المفارقة وقد تقدم في {الكهف{ بيانها. وقوله{عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا{ قيل: أراد بهذا الدعاء أن يهب الله تعالى له أهلا وولدا يتقوى بهم حتى لا يستوحش بالاعتزال عن قومه. ولهذا قال{فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب{ أي آنسنا وحشته بولد؛ عن ابن عباس وغيره. وقيل{عيسى{ يدل على أن العبد لا يقطع بأنه يبقى على المعرفة أم لا في المستقبل وقيل دعا لأبيه بالهداية. فـ {عسى{ شك لأنه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا؟ والأول أظهر. وقوله{وجعلنا لهم لسان صدق عليا{ أي أثنينا عليهم ثناء حسنا؛ لأن جميع الملل تحسن الثناء عليهم. واللسان يذكر ويؤنث؛ وقد تقدم.
{واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا، وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا، ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا}
قوله تعالى{واذكر في الكتاب موسى{ أي واقرأ عليهم من القرآن قصة موسى. {إنه كان مخلصا{ في عبادته غير مرائي. وقرأ أهل الكوفة بفتح اللام؛ أي أخلصناه فجعلناه مختارا. {وناديناه{ أي كلمناه ليلة الجمعة. {من جانب الطور الأيمن{ أي يمين موسى، وكانت الشجرة في جانب الجبل عن يمين موسى حين أقبل من مدين إلى مصر؛ قاله الطبري وغيره فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال. {وقربناه نجيا{ نصب على الحال؛ أي كلمناه من غير وحي. وقيل: أدنيناه لتقريب المنزلة حتى كلمناه. وذكر وكيع وقبيصة عن سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله عز وجل{وقربناه نجيا{ أي أدني حتى سمع صرير الأقلام. {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا{ وذلك حين سأل فقال{واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي}طه: 29].
الآية رقم ( 54 : 55 )
{واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا}
قوله تعالى{واذكر في الكتاب إسماعيل{ اختلف فيه؛ فقيل: هو إسماعيل بن حزقيل، بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه، فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه ورضي بثوابه، وفوض أمرهم إليه في عفوه وعقوبته. والجمهور أنه إسماعيل الذبيح أبو العرب بن إبراهيم. وقد قيل: إن الذبيح إسحاق؛ والأول أظهر على ما تقدم ويأتي في {الصافات{ إن شاء الله تعالى. وخصه الله تعالى بصدق الوعد وإن كان موجودا في غيره من الأنبياء تشريفا له إكراما، كالتقليب بنحو الحليم والأواه والصديق؛ ولأنه المشهور المتواصف من خصاله.
صدق الوعد محمود وهو من خلق النبيين والمرسلين، وضده وهو الخلف مذموم، وذلك من أخلاق الفاسقين والمنافقين ما تقدم بيانه في {براءة{. وقد أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل فوصفه بصدق الوعد. واختلف في ذلك؛ فقيل: إنه وعد من نفسه بالصبر على الذبح فصبر حتى فدى. هذا في قول من يرى أنه الذبيح. وقيل: وعد رجلا أن يلقاه في موضع فجاء إسماعيل وانتظر الرجل يومه وليلته، فلما كان في اليوم الآخر جاء؛ فقال له: ما زلت ها هنا في انتظارك منذ أمس. وقيل: انتظره ثلاثة أيام. وقيل فعل مثله نبينا صلى الله عليه وسلم قبل بعثه؛ ذكره النقاش وخرجه الترمذي وغيره عن عبدالله بن أبى الحسماء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة أيام، فجئت فإذا هو في مكانه؛ فقال: (يا فتى لقد شققت علي أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك) لفظ أبي داود. وقال يزيد الرقاشي: انتظره إسماعيل اثنين وعشرين يوما؛ ذكره الماوردي. وفي كتاب ابن سلام أنه انتظره سنة. وذكره الزمخشري عن ابن عباس أنه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة. وذكره القشيري قال: فلم يبرح من مكانه سنة حتى أتاه جبريل عليه السلام فقال إن التاجر الذي سألك أن تقعد له حتى يعود هو إبليس فلا تقعد ولا كرامة له. وهذا بعيد ولا يصح. وقد قيل: إن إسماعيل لم يعد شيئا إلا وفى به، وهذا قول صحيح، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية؛ والله أعلم.
من هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم (العدة دين). وفي الأثر (وأي المؤمن واجب) أي في أخلاق المؤمنين. وإنما قلنا أن ذلك ليس بواجب فرضا لإجماع العلماء على ما حكاه أبو عمر أن من وعد بمال ما كان ليضرب به مع الغرماء؛ فلذلك قلنا إيجاب الوفاء به حسن مع المروءة، ولا يقضى به والعرب تمتدح بالوفاء، وتذم بالخلف والغدر، وكذلك سائر الأمم، ولقد أحسن القائل:
متى ما يقل حر لصاحب حاجة نعم يقضها والحر للوأي ضامن
ولا خلاف أن الوفاء يستحق صاحبه الحمد والشكر، وعلى الخلف الذم. وقد أثنى الله تبارك وتعالى على من صدق وعده، ووفى بنذره؛ وكفى بهذا مدحا وثناء، وبما خالفه ذما. قال مالك: إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم، ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى يلزمه.
قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان. وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وسائر الفقهاء: إن العدة لا يلزم منها شيء لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها. وفي البخاري {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد{؛ وقضى ابن أشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب. قال البخاري: ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع. {وكان رسولا نبيا
قيل: أرسل إسماعيل إلى جرهم. وكل الأنبياء كانوا إذا وعدوا صدقوا، وخص إسماعيل بالذكر تشريفا له. والله أعلم.
قوله تعالى{وكان يأمر أهله{ قال الحسن: يعني أمته. وفي حرف ابن مسعود {وكان يأمر أهله جرهم وولده بالصلاة والزكاة{. {وكان عند ربه مرضيا{ أي رضيا زاكيا صالحا. قال الكسائي والفراء: من قال مرضي بناه على رضيت قالا: وأهل الحجاز يقولون: مرضو. وقال الكسائي والفراء: من العرب من يقول رضوان ورضيان فرضوان على مرضو، ورضيان على مرضي ولا يجيز البصريون أن يقولوا إلا رضوان وربوان. قال أبو جعفر النحاس: سمعت أبا إسحاق الزجاج يقول: يخطئون في الخط فيكتبون ربا بالياء ثم يخطئون فيما هو أشد من هذا فيقولون ربيان ولا يجوز إلا ربوان ورضوان قال الله تعالى{وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس{.
الآية رقم ( 56 : 57 )
{واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا، ورفعناه مكانا عليا}
قوله تعالى{واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا{ إدريس عليه السلام أول من خط بالقلم وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وأول من نظر في علم النجوم والحساب وسيرها. وسمي إدريس لكثرة درسه لكتاب الله تعالى. وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذر. الزمخشري: وقيل سمي إدريس إدريس لكثرة درسه كتاب الله تعالى؛ وكان اسمه أخنوخ وهو غير صحيح؛ لأنه لو كان إفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفا، فامتناعه من الصرف دليل لعجمة؛ وكذلك إبليس أعجمي وليس من الإبلاس كما يزعمون؛ ولا يعقوب من العقب، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت؛ ومن لم يحقق ولم يتدرب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات؛ يجوز أن يكون معنى إدريس عليه السلام في تلك اللغة قريبا من ذلك فحسبه الراوي من الدرس. قال الثعلبي والغزنوي وغيرهما: وهو جد نوح وهو خطأ؛ وقد تقدم في {الأعراف: بيانه وكذا وقع في السيرة أن نوحا عليه السلام بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس النبي فيما يزعمون؛ والله تعالى أعلم. وكان أول من أعطى النبوة من بن آدم، وخط بالقلم. ابن يرد بن مهلائيل بن قينان بن يانش بن شيث بن آدم صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى{ورفعناه مكانا عليا{ قال أنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وغيرهما: يعني السماء الرابعة. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقال كعب الأحبار. وقال ابن عباس والضحاك: يعني السماء السادسة؛ ذكره المهدوي.
قلت: ووقع في البخاري عن شريك بن عبدالله بن أبي نمر قال سمعت أنس بن مالك يقول: ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة، الحديث وفيه: كل سماء فيها أنبياء - قد سماهم - منهم إدريس في الثانية. وهو وهم، والصحيح أنه في السماء الرابعة؛ كذلك رواه ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره مسلم في الصحيح. وروى مالك بن صعصعة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لما عرج بي إلى السماء أتيت على إدريس في السماء الرابعة). خرجه مسلم أيضا. وكان سبب رفعه على ما قال ابن عباس وكعب وغيرهما: أنه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس، فقال:(يا رب أنا مشيت يوما فكيف بمن يحملها خمسمائة عام في يوم واحد! اللهم خفف عنه من ثقلها. يعني الملك الموكل بفلك الشمس)؛ يقول إدريس: اللهم خفف عنه من ثقلها واحمل عنه من حرها. فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس والظل مالا يعرف فقال: يا رب خلقتني لحمل الشمس فما الذي فيه؟ فقال الله تعالى{أما إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته{ فقال: يا رب اجمع بيني وبينه، واجعل بيني وبينه خلة. فأذن الله له حتى أتى إدريس، وكان إدريس عليه السلام يسأله. فقال أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت، فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي، فأزداد شكرا وعبادة. فقال الملك: لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها فقال للملك: قد علمت ذلك ولكنه أطيب لنفسي. قال نعم. ثم حمله على جناحه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثم قال لملك الموت: لي صديق من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله. فقال: ليس ذلك إلي ولكن إن أحببت علمه أعلمته متى يموت. قال{{نعم{ ثم نظر في ديوانه، فقال: إنك تسألني عن إنسان ما أراه يموت أبدا. قال {وكيف{ ؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس. قال: فإني أتيتك وتركته هناك؛ قال: انطلق فما أراك تجده إلا وقد مات فوالله ما بقي من أجل إدريس شيء. فرجع الملك فوجده ميتا. وقال السدي: إنه نام ذات يوم، واشتد عليه حر الشمس، فقام وهو منها في كرب؛ فقال: اللهم خفف عن ملك الشمس حرها، وأعنه على ثقلها، فإنه يمارس نارا حامية. فأصبح ملك الشمس وقد نصب له كرسي من نور عنده سبعون ألف ملك عن يمينه، ومثلها عن يساره يخدمونه، ويتولون أمره وعمله من تحت حكمه؛ فقال ملك الشمس: يا رب من أين لي هذا؟. قال {دعا لك رجل من بني آدم يقال له إدريس{ ثم ذكر نحو حديث كعب قال فقال له ملك الشمس: أتريد حاجة؟ قال: نعم وددت أني لو رأيت الجنة. قال: فرفعه على جناحه، ثم طار به، فبينما هو في السماء الرابعة التقى بملك الموت ينظر في السماء، ينظر يمينا وشمالا، فسلم عليه ملك الشمس، وقال: يا إدريس هذا ملك الموت فسلم عليه فقال ملك الموت: سبحان الله ! ولأي معنى رفعته هنا؟ قال: رفعته لأريه الجنة. قال: فإن الله تعالى أمرني أن أقبض روح إدريس في السماء الرابعة. قلت: يا رب وأين إدريس من السماء الرابعة، فنزلت فإذا هو معك؛ فقبض روحه فرفعها إلى الجنة، ودفنت الملائكة جثته في السماء الرابعة، فذلك قوله تعالى{ورفعناه مكانا عليا{.
قال وهب بن منبه: كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لأهل الأرض في زمانه، فعجب منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت، فاستأذن ربه في زيارته فأذن له، فأتاه في صورة آدمي، وكان إدريس عليه السلام يصوم النهار؛ فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل. ففعل به ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس؛ وقال له: من أنت! قال أنا ملك الموت؛ استأذنت ربي أن أصحبك فأذن لي؛ فقال: إن لي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قال: أن تقبض روحي. فأوحى الله تعالى إليه أن اقبض روحه؛ فقبضه ورده إليه بعد ساعة، وقال له ملك الموت: ما الفائدة في قبض روحك؟ قال: لأذوق كرب الموت فأكون له أشد استعدادا. ثم قال له إدريس بعد ساعة: إن لي إليك حاجة أخرى. قال: وما هي؟ قال أن ترفعني إلى السماء فأنظر إلى الجنة والنار؛ فأذن الله تعالى له في رفعه إلى السموات، فرأى النار فصعق، فلما أفاق قال أرني الجنة؛ فأدخله الجنة، ثم قال له ملك الموت: أخرج لتعود إلى مقرك. فتعلق بشجرة وقال: لا أخرج منها. فبعث الله تعالى بينهما ملكا حكما، فقال مالك لا تخرج؟ قال: لأن الله تعالى قال {كل نفس ذائقة الموت}آل عمران:185] وأنا ذقته، وقال{وإن منكم إلا واردها}مريم:71] وقد وردتها؛ وقال{وما هم منها بمخرجين}الحجر: 48] فكيف أخرج؟ قال الله تبارك وتعالى لملك الموت{بإذني دخل الجنة وبأمري يخرج{ فهو حي هنالك فذلك قوله {ورفعناه مكانا عليا{ قال النحاس: قول إدريس {وما هم منها بمخرجين{ يجوز أن يكون الله أعلم هذا إدريس، ثم نزل القرآن به. قال وهب بن منبه: فإدريس تارة يرتع في الجنة، وتارة بعبد الله تعالى مع الملائكة في السماء.
الآية رقم ( 58 )
{أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا}
قوله تعالى{أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم{ يريد إدريس وحده. {وممن حملنا مع نوح{ يريد إبراهيم وحده {ومن ذرية إبراهيم{ يريد إسماعيل وإسحاق ويعقوب. {و{ من ذرية {إسرائيل{ موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى. فكان لإدريس ونوح شرف القرب من آدم، ولإبراهيم شرف القرب من نوج ولإسماعيل وإسحاق ويعقوب شرف القرب من إبراهيم. {وممن هدينا{ أي إلى الإسلام{واجتبينا{ بالإيمان. {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن{ وقرأ شبل بن عباد المكي {يتلى{ بالتذكير لأن التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل. {خروا سجدا وبكيا
وصفهم بالخشوع لله والبكاء. وقد مضى في {سبحان}الإسراء: 1]. يقال بكى يبكي بكاء وبكى بكيا، إلا أن الخليل قال: إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن؛ أي ليس معه صوت كما قال الشاعر:
بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل
{وسجدا{ نصب على الحال {وبكيا{ عطف عليه.
في هذه الآية دلالة على أن لآيات الرحمن تأثيرا في القلوب. قال الحسن (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) الصلاة. وقال الأصم: المراد بآيات الرحمن الكتب المتضمنة لتوحيده وحججه، وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوتها، ويبكون عند ذكرها. والمروى عن ابن عباس أن المراد به القرآن خاصة، وأنهم كانوا يسجدون ويبكون عند تلاوته؛ قال الكيا: وفي هذا دلالة من قوله على أن القرآن هو الذي كان يتلى على جميع الأنبياء، ولو كان كذلك لما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مختصا بإنزاله إليه.
احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على وجوب سجود القرآن على المستمع والقارئ. قال الكيا: وهذا بعيد فإن هذا الوصف شامل لكل آيات الله تعالى. وضم السجود إلى البكاء، وأبان به عن طريقة الأنبياء الصلاة والسلام في تعظيمهم لله تعالى وآياته، وليس فيه دلالة على وجوب ذلك عند آية مخصوصة. قال العلماء: ينبغي لمن قرأ سجدة أن يدعو فيها بما يليق بآياتها، فإن قرأ سورة السجدة {الم تنزيل{ قال: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة {سبحان{ قال: اللهم اجعلني من الباكين إليك، الخاشعين لك. وإن قرأ هذه قال: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم، المهديين الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك.
الآية رقم ( 59 : 63 )
{فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا، جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا، لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا، تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا}
قوله تعالى{فخلف من بعدهم خلف{ أي أولاد سوء. قال أبو عبيدة: حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال: ذلك عند قيام الساعة، وذهاب صالحي هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض في الأزقة زنى. وقد تقدم القول في {خلف{ في {الأعراف{ فلا معنى للإعادة. {أضاعوا الصلاة{ وقرأ عبدالله والحسن {أضاعوا الصلوات{ على الجمع. وهو ذم ونص في أن إضاعة الصلاة من الكبائر التي يوبق بها صاحبها ولا خلاف في ذلك، وقد قال عمر: ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. واختلفوا فيمن المراد بهذه الآية؛ فقال مجاهد: النصارى خلفوا بعد اليهود. وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد أيضا وعطاء: هم قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان؛ أي يكون في هذه الأمة من هذه صفته لا أنهم المراد بهذه الآية. واختلفوا أيضا في معنى إضاعتها؛ فقال القرظي: هي إضاعة كفر وجحد بها. وقال القاسم بن مخيمرة، وعبدالله بن مسعود: هي إضاعة أوقاتها، وعدم القيام بحقوقها وهو الصحيح، وأنها إذا صليت مخلى بها لا تصح ولا تجزئ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي صلى وجاء فسلم عليه (ارجع فصل فإنك لم تصل) ثلاث مرات خرجه مسلم، وقال حذيفة لرجل يصلي فطفف: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال منذ أربعين عاما. قال: ما صليت، ولومت وأنت تصلي هذه الصلاة لمت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال: إن الرجل ليخفف الصلاة ويتم ويحسن. خرجه البخاري واللفظ للنسائي، وفي الترمذي عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل) يعني صلبه في الركوع والسجود؛ قال: حديث حسن صحيح؛ والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم؛ يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود؛ قال الشافعي وأحمد وإسحاق: من لم يقم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة؛ قال صلى الله عليه وسلم (تلك الصلاة صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا). وهذا ذم لمن يفعل ذلك. وقال فروة بن خالد بن سنان: استبطأ أصحاب الضحاك مرة أميرا في صلاة العصر حتى كادت الشمس تغرب؛ فقرأ الضحاك هذه الآية، ثم قال: والله لأن أدعها أحب إلي من أن أضيعها. وجملة القول هذا الباب أن من لم يحافظ على كمال وضوئها وركوعها وسجودها فليس بمحافظ عليها، ومن لم يحافظ عليها فقد ضيعها، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، كما أن من حافظ عليها حفظ الله عليه دينه، ولا دين لمن لا صلاة له. وقال الحسن: عطلوا المساجد، واشتغلوا بالصنائع والأسباب. {واتبعوا الشهوات{ أي اللذات والمعاصي.
روى الترمذي وأبو داود عن أنس بن حكيم الضبي أنه أتى المدينة فلقي أبا هريرة فقال له: يا فتى ألا أحدثك حديثا لعل الله تعالى أن ينفعك به؛ قلت: بلى. قال: (إن أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته وهو أعلم انظروا في صلاة عبدي أتمها أو نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان تطوع قال أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه ومن تؤخذ الأعمال على ذلك). قال يونس: وأحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لفظ أبي داود. وقال: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا داود بن أبي هند عن زوارة بن أوفى عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى. قال: (ثم الزكاة مثل ذلك) (ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك). وأخرجه النسائي عن همام عن الحسن عن حريث بن قبيصة عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة بصلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر قال همام: لا أدري هذا من كلام قتادة أومن الرواية فإن انتقص من فريضته شيء قال انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به نقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على نحو ذلك) خالفه أبو العوام فرواه عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن وجدت تامة كتبت تامة وإن كان انتقص منها شيء قال انظروا هل تجدون له من تطوع يكمل ما ضيع من فريضته من تطوعه ثم سائر الأعمال تجري على حسب ذلك) قال النسائي أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا النضر بن شميل قال أنبأنا حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس يحي بن يعمر عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أكملها وإلا قال الله عز وجل انظروا لعبدي من تطوع فإن وجدل تطوع قال أ كملوا به الفريضة) قال أبو عمر بن عبدالبر في كتاب {التمهيد{ أما إكمال الفريضة من التطوع فإنما يكون والله أعلم فيمن سها عن فريضة فلم يأت بها، أولم يحسن ركوعها وسجودها ولم يدر قدر ذلك وأما من تركها، أونسي ثم ذكرها فلم يأت بها عامدا واشتغل بالتطوع عن أداء فرضها وهو ذاكر له فلا تكمل له فريضة من تطوعه والله أعلم وقد روى من حديث الشاميين في هذا الباب حديث منكر يرويه محمد بن حمير عن عمرو بن قيس السكوني عن عبدالله بن قرط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من صلى صلاة لم يكمل فيها ركوعه وسجوده زيد فيها من تسبيحاته حتى تتم) قال أبو عمر وهذا لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه وليس بالقوي وإن كان صح كان معناه أنه خرج من صلاة كان قد أتمها عند نفسه وليست في الحكم بتامة
قلت: فينبغي للإنسان أن يحسن فرضه ونفله حتى يكون له نفل يجده زائدا على فرضه يقربه من ربه كما قال سبحانه وتعالى (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه{ الحديث فأما إذا كان نفل يكمل به الفرض فحكمه في المعنى حكم الفرض ومن لا يحسن أن يصلي الفرض فأحرى وأولى ألا يحسن التنفل لا جرم تنفل الناس في أشد ما يكون من النقصان والخلل لخفته عندهم وتهاونهم به حتى كأنه غير معتد به ولعمر الله لقد يشاهد في الوجود من يشار إليه ويظن به العلم تنفله كذلك بل فرضه إذ ينقره نقر الديك لعدم معرفته بالحديث فكيف بالجهال الذين لا يعلمون وقد قال العلماء ولا يجزئ ركوع ولا سجود ولا وقوف بعه الركوع ولا جلوس بين السجدتين حتى يعتدل راكعا وواقفا وساجدا وجالسا وهذا هو الصحيح في الأثر وعليه جمهور العلماء وأهل النظر وهذه رواية ابن وهب وأبي مصعب عن مالك وقد مضى هذا المعنى في {البقرة{ وإذا كان هذا فكيف يكمل بذلك التنفل ما نقص من هذا الفرض على سبيل الجهل والسهو؟! بل كل ذلك غير صحيح ولا مقبول لأنه وقع على غير المطلوب والله أعلم.
قوله تعالى{واتبعوا الشهوات{ وعن علي رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: (واتبعوا الشهوات) هو من بنى (1) وركب المنظور ولبس المشهور.
قلت الشهوات عبارة عما يوافق الإنسان ويشتهيه ويلائمه ولا يتقيه وفي الصحيح (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) وما ذكر عن علي رضي الله عنه جزء من هذا
{فسوف يلقون غيا{ قال ابن زيد: شرا أو ضلالا أو خيبة، قال:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وقال عبدالله بن مسعود: هو واد في جهنم. والتقدير عند أهل الله فسوف يلقون هذا الغي كما قال جل ذكره{ومن يفعل ذلك يلق أثاما}الفرقان: 68] والأظهر أن الغي اسم للوادي سمي به لأن الغاوين يصيرون إليه قال كعب (يظهر في آخر الزمان قوم بأيديهم سياط كأذناب البقر ثم قرأ {فسوف يلقون غيا{ أي هلاكا وضلالا في جهنم وعنه غي واد في جهنم أبعدها قعرا وأشدها حرا فيه بئر يسمى البهيم كلما خبت جهنم فتح الله تعالى تلك البر فتسعر بها جهنم وقال ابن عباس غي واد في جهنم وأن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعد الله تعالى ذلك الوادي للزاني المصر على الزنى، ولشارب الخمر المدمن عليه ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ولأهل العقوق ولشاهد الزور ولامرأة أدخلت على زوجها ولدا ليس منه.
قوله تعالى{إلا من تاب{ أي من تضييع الصلاة واتباع الشهوات فرجع إلى طاعة ربه {وآمن
به {وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة{ قرأ أبو جعفر وشيبة وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر (يدخلون) بفتح الخاء وفتح الياء الباقون {ولا يظلمون شيئا{ أي لا ينقص من أعمالهم الصالحة شيء إلا أنهم يكتب لهم بكل حسنة عشر إلى سبعمائة. {جنات عدن{ بدلا من الجنة فانتصبت قال أبو إسحاق الزجاج ويجوز {جنات عدن{ على الابتداء قال أبو حاتم ولولا الخط لكان {جنة عدن{ لأن قبله {يدخلون الجنة{ {التي وعد الرحمن عباده بالغيب{ أي من عبده وحفظ عهده بالغيب وقيل آمنوا بالجنة ولم يروها {إنه كان وعده مأتيا{ {مأتيا{ مفعول من الإتيان. وكل ما وصل إليك فقد وصلت إليه تقول أتت علي ستون سنة وأتيت على ستين سنة. ووصل إلي من فلان خير ووصلت منه إلى خير وقال القتبي {مأتيا{ بمعنى آت فهو مفعول بمعنى فاعل و{مأتيا{ مهموز لأنه من يأتي ومن خفف الهمزة جعلها ألفا وقال الطبري الوعد ههنا الموعود وهو الجنة أي يأتيها أولياؤه. {لا يسمعون فيها لغوا{ أي في الجنة واللغو معناه الباطل من الكلام والفحش منه والفضول ومالا ينتفع به ومنه الحديث (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقه لغوت) ويروى {لغيت{ وهي لغة أبي هريرة كما قال الشاعر
ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم
قال ابن عباس: اللغو كل ما لم فيه ذكر الله تعالى أي كلامهم في الجنة حمد الله وتسبيحه {إلا سلاما{ أي لكن يسمعون سلاما فهو من الاستثناء المنقطع يعني سلام بعضهم على بعض وسلام الملك عليهم قاله مقاتل وغيره والسلام اسم جامع للخير والمعنى أنهم لا يسمعون فيها إلا ما يحبون قوله تعالى{ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا{ أي لهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب بكرة وعشيا أي قدر هذين الوقتين إذ لا بكرة ثم ولا عشيا كقوله تعالى {غدوها شهر ورواحها شهر{ أي قدر شهر؛ قال معناه ابن عباس وابن جريج وغيرهما وقيل عرفهم اعتدال أحوال أهل الجنة وكان أهنأ النعمة عند العرب التمكين من المطعم والمشرب بكرة وعشيا قال بن أبي كثير وقتادة كانت العرب في زمانها من وجد غداء وعشاء معا فذلك هو الناعم فنزلت وقيل أي رزقهم فيها غير منقطع كما قال (لا مقطوعة ولا ممنوعة) كما تقول أنا أصبح وأمسي في ذكرك أي ذكري لك دائم. ويحتمل أن تكون البكرة قبل تشاغلهم بلذاتهم والعشي بعد فراغهم من لذاتهم لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال وهذا يرجع إلى القول الأول وروى الزبير بن بكار عن إسماعيل بن أبي أويس قال قال مالك بن أنس طعام المؤمنين في اليوم مرتان وتلا قول الله عز وجل {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا{ ثم قال: وعوض الله عز وجل المؤمنين في الصيام السحور بدلا من الغداء ليقووا به على عبادة ربهم وقيل: إنما ذكر ذلك لأن صفة الغداء وهيئته (2) عن صفة العشاء وهيئته؛ وهذا لا يعرفه إلا الملوك وكذلك يكون في الجنة رزق الغداء غير رزق العشاء تتلون عليهم النعم ليزدادوا تنعما وغبطة. وخرج الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول) من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا قال رجل يا رسول الله هل في الجنة من ليل؟ قال (وما هيجك على هذا) قال سمعت الله تعالى يذكر في الكتاب{ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا{ فقلت: الليل بين البكرة والعشي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس هناك ليل إنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح الغدو وتأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة) وهذا في غاية البيان لمعنى الآية وقد ذكرناه في كتاب (التذكرة) وقال العلماء ليس في الجنة ليل ولا نهار وإنما هم في نور أبدا إنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب ذكره أبو الفرج الجوزي والمهدوي وغيرهما.
قوله تعالى{تلك الجنة التي{ أي هذه الجنة التي وصفنا أحوال أهلها {نورث{ بالتخفيف. وقرأ يعقوب {نورث{ بفتح الواو وتشديد الراء. والاختيار التخفيف؛ لقوله تعالى{ثم أورثنا الكتاب{.[فاطر: 32]. {من عبادنا من كان تقيا{ قال ابن عباس: (أي من اتقاني وعمل بطاعتي) وقيل هو على التقديم والتأخير تقديره نورث من كان تقيا من عبادنا.
">الآية رقم ( 64 : 65 )">
الآية رقم ( 64 : 65 )
{وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا، رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا}
روى الترمذي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل (ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا) قال: فنزلت هذه الآية{وما نتنزل إلا بأمر ربك{ إلى آخر الآية. قال هذا حديث حسن غريب ورواه البخاري حدثنا خلال بن يحيى حدثنا عمر بن ذر قال سمعت أبي يحدث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزرونا فنزلت {وما نتنزل إلا بأمر ربك{ الآية؛ قال كان هذا الجواب لمحمد وقال مجاهد أبطأ الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه فقال: (ما الذي أبطأك) قال: كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم، ولا تنقون رواجبكم، ولا تستاكون؛ قال مجاهد: فنزلت الآية في هذا وقال مجاهد أيضا وقتادة وعكرمة والضحاك ومقاتل والكلبي احتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيبهم ورجا أن يأتيه جبريل بجواب ما سألوه عنه قال عكرمة فأبطأ عليه أربعين يوم وقال مجاهد اثنتي عشرة ليلة وقيل خمسة عشر يوما وقيل ثلاثة عشر وقيل ثلاثة أيام فقال النبي صلي (أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك) فقال جبريل عليه السلام إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فنزلت الآية (وما نتنزل إلا بأمر ربك) وأنزل (والضحى والليل إذا سجى وما ودعك ربك وما قلى) ذكره الثعلبي والواحدي والقشيري وغيرهم وقيل هو إخبار من أهل الجنة أنهم يقولون عند دخولها وما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر ربك وعلى هذا تكون الآية متصلة به قبل وعلى ما ذكرنا من الأقوال قبل: تكون غير متصلة بما قبلها والقرآن سور ثم السور تشتمل على جمل، وقد تنفصل جملة عن جملة {وما نتنزل{ أي قال الله تعالى قل يا جبريل {وما نتنزل إلا بأمر ربك{ وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: إنا إذا أمرنا نزلنا عليك الثاني إذا أمرك ربك نزلنا عليك فيكون الأمر على الأول متوجها إلى النزول وعلى الوجه الثاني متوجها إلى التنزيل.
قوله تعالى{له{ أي لله {ما بين أيدينا{ أي علم ما بين أيدينا {وما خلفنا وما بين ذلك{ قال ابن عباس وابن جريج: ما مضى أمامنا من أمر الدنيا، وما يكون بعدنا من أمرها وأمر الآخرة {وما بين ذلك{ من البرزخ. وقال قتادة ومقاتل{له ما بين أيدينا{ من أمر الآخرة {وما خلفنا{ ما مضى من الدنيا {وما بين ذلك{ ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة. الأخفش{ما بين أيدينا{ ما كان قبل أن نخلق {وما خلفنا{ ما يكون بعد أن نموت {وما بين ذلك{ ما يكون منذ خلقنا إلى أن نموت. وقيل{ما بين أيدينا{ من الثواب والعقاب وأمور الآخرة {وما خلفنا{ ما مضى من أعمالنا في الدنيا (وما بين ذلك) أي ما يكون من هذا الوقت إلى يوم القيامة ويحتمل خامسا {ما بين أيدينا{ السماء {وما خلفنا{ الأرض {و بين ذلك{ أي ما بين السماء والأرض وقال ابن عباس في رواية {و ما بين أيدينا{ يريد الدنيا إلى الأرض {وما خلفنا{ يريد السموات وهذا على عكس ما قبله {ما بين ذلك{ يريد الهواء ذكر الأول الماوردي والثاني القشيري الزمخشري: وقيل ما مضى من أعمارنا وما عبر منها والحال التي نحن فيها ولم يقل ما بين ذينك لأن المراد ما بين ما ذكرنا كما قال {لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك{ أي بين ما ذكرنا {وما كان ربك نسيا{ أي ناسيا إذا شاء أن يرسل إليك أرسل وقيل المعنى لم ينسك وإن تأخر عنك الوحي وقيل المعنى أنه عالم بجميع الأشياء متقدمها ومتأخرها ولا ينسى شيئا منها.
قوله تعالى{رب السماوات والأرض وما بينهما{ أي ربهما وخالقهما وخالق ما بينهما ومالكهما ومالك ما بينهما؛ فكما إليه تدبير الأزمان كذلك إليه تدبير الأعيان. {فاعبده
أي وحده لذلك وفي هذا دلالة على أن اكتسابات الخلق مفعولة لله تعالى كما يقول أهل الحق وهو القول الحق لأن الرب في هذا الموضوع لا يمكن حمله على معنى من معانيه إلا على المالك وإذا ثبت أنه مالك ما بين السماء والأرض دخل في ذلك اكتساب الخلق ووجبت عبادته لما ثبت أنه المالك على الإطلاق وحقيقة العبادة الطاعة بغاية الخضوع ولا يستحقها أحد سوى المالك المعبود {واصطبر لعبادته{ أي لطاعته ولا تحزن لتأخير الوحي عنك بل اشتغل بما أمرت به وأصل اصطبر اصتبر فثقل الجمع بين التاء والصاد لاختلافهما فأبدل من التاء طاء كما تقول من الصوم صطام {هل تعلم له سميا{ قال ابن عباس يريد هل تعلم له ولدا أي نظيرا أو مثلا أو شبيها يستحق مثل اسمه الذي هو الرحمن وقال مجاهد مأخوذ من المساماة وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال (هل تعلم له ولدا أي نظيرا أو مثلا أو شبيها يستحق مثل اسمه الذي هو الرحمن) وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: (هل تعلم له أحدا سمي الرحمن). قال النحاس وهذا أجل إسناد علمته روي في هذا الحرف وهو قول صحيح ولا يقال الرحمن إلا لله
قلت وقد مضى هذا مبينا في البسملة والحمد لله روى ابن أبي نجيح عن مجاهد(هل تعلم له سميا) قال مثلا ابن المسيب عدلا قتادة والكلبي هل تعلم أحدا يسمى الله تعالى غير الله أو يقال له الله إلا الله وهل لا أي لا تعلم والله تعالى أعلم.
">الآية رقم ( 66 : 67 )">
الآية رقم ( 66 : 67 )
{ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا، أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا}
قوله تعالى{ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا{ الإنسان هنا أبي بن خلف وجد عظاما بالية ففتتها بيده وقال: زعم محمد أنا نبعث بعد الموت قال الكلبي ذكره الواحدي والثعلبي والقشيري وقال المهدوي نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه وهو قول ابن عباس واللام في {لسوف أخرج حيا{ للتأكيد كأنه قيل له إذا ما مت لسوف تبعث حيا فقال {أئذا ما مت لسوف أخرج حيا{ ! قال ذلك منكرا فجاءت اللام في الجواب هما كانت في القول الأول ولو كان مبتدئا لم تدخل اللام لأنها للتأكيد والإيجاب وهو منكر للبعث وقرا ابن ذكوان {إذا ما مت{ على الخبر والباقون بالاستفهام على أصولهم بالهمز وقرأ الحسن وأبو حيوة {لسوف اخرج حيا{ قال استهزاء لأنهم لا يصدقون بالبعث والإنسان ههنا الكافر
قوله تعالى{أولا يذكر الإنسان{ أي أو لا يذكر هذا القائل {أنا خلقناه من قبل{ أي من قبل سؤاله وقوله هذا القول {ولم يك شيئا{ فالإعادة مثل الابتداء فلم يناقض وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما وأهل مكة وأبو عمر وأبو جعفر {أولا يذكر{ وقرأ شيبه ونافع وعاصم {أو لا يذكر{ بالتخفيف. والاختيار التشديد وأصله يتذكر لقوله تعالى {إنما يتذكر أولو الألباب{ وأخواتها وفي حرف أبي {أولا يتذكر{ وهذه القراءة على التفسير لأنها مخالفة لخط المصحف: ومعنى {يتذكر{ يتفكر ومعنى {يذكر{ يتنبه ويعلم قال النحاس
">الآية رقم ( 68 : 70 )">
الآية رقم ( 68 : 70 )
{فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا، ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا، ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا}
قوله تعالى{فوربك لنحشرنهم{ أقسم بنفسه بعد إقامة الحجة بأنه يحشرهم من قبورهم إلى المعاد كما يحشر المؤمنين. {والشياطين{ أي ولنحشرن الشياطين قرناء لهم قيل يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة كما قال {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم}الصافات: 22] الزمخشري والواو في {والشياطين{ يجوز أن تكون للعطف وبمعنى مع وهي بمعنى مع أوقع والمعنى أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذي أغووهم؛ يقرنون كل كافر مع شيطان في سلسلة. فإن قلت هذا إذا أريد بالإنسان الكفرة خاصة فإن أريد الأناسي على العموم فكيف يستقيم حشرهم مع الشياطين؟ قلت إذا حشر جميع الناس حشرا واحدا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا مع الشياطين كما حشروا مع الكفرة فإن قلت هلا عزل السعداء عن الأشقياء في الحشر كما عزلوا عنهم في الجزاء؟ قلت لم يفرق بينهم في المحشر وأحضروا حيث تجاثوا حول جهنم وأوردوا معهم النار ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله منها وخلصهم، فيزدادوا لذلك غبطة وسرورا إلى سرور ويشمتوا بأعداء الله تعالى وأعدائهم فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغيظهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم فإن قلت ما معنى إحضارهم جثيا؟ قلت أما إذا فسر الإنسان بالخصوص فالمعنى أنهم يعتلون من المحشر إلى شاطئ جهنم علا على حالهم التي كانوا عليها في الموقف جثاة على ركبهم غير مشاة على أقدامهم وذلك أن أهل الموقف وصفوا بالجثو قال الله تعالى {وترى كل أمة جاثية{ على الحالة المعهودة في مواقف المقاولات والمناقلات من تجاثي أهلها على الركب لما في ذلك من الاستيفاز والقلق وإطلاق الحبا خلاف الطمأنينة أولما يدهمهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم فيجسون على ركبهم جثوا وإن فسر بالعموم فالمعنى أنهم يتجاثون عند موافاة شاطئ جهنم أن {جثيا{ حال مقدرة كما كانوا في الموقف متجاثين لأنه من توابع التواقف للحساب، قبل التواصل إلى الثواب والعقاب ويقال: إن معنى {ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا{ أي جثيا على ركبهم عن مجاهد وقتادة أي أنهم لشدة ما هم فيه لا يقدرون على القيام {وحول جهنم{ يجوز أن يكون داخلها كما تقول: جلس القوم حول البيت أي داخله مطيفين به فقوله (حول جهنم) على هذا يجوز أن يكون بعد الدخول ويجوز أن يكون قبل الدخول و{جثيا{ جمع جاث. يقال جثا على ركبتيه يجثو ويجثي جثوا وجثيا على فعول فيهما وأجثاه غيره وقوم جثي أيضا مثل جلس جلوسا وقوم جلوس وجثي أيضا بكسر الجيم لما بعدها من الكسر وقال ابن عباس{جثيا{ جماعات وقال مقاتل: جمعا جمعا وهو على هذا التأويل جمع وجثوة ثلاث لغات وهي الحجارة المجموعة والتراب المجموع فأهل الخمر على حدة وأهل الزنى على حدة وهكذا قال طرفة:
ترى جثوتين من تراب عليها صفائح صم من صفيح منضد
وقال الحسن والضحاك جاثية الركب وهو على هذا التأويل جمع جاث على ما تقدم وذلك لضيق المكان أي لا يمكنهم أن يجلسوا جلوسا تاما وقيل جثيا على ركبهم للتخاصم كقوله تعالى {ثم إنكم يوم لقيامة عند ربكم تختصمون{ وقال الكميت:
هم تركوا سراتهم جثيا وهم دون السراة مقرنينا
قوله تعالى{ثم لننزعن من كل شيعة{ أي لنستخرجن من كل أمة وأهل دين. {أيهم أشد على الرحمن عتيا{ النحاس: وهذه آية مشكلة في الإعراب لأن القراء كلهم يقرؤون {أيهم{ بالرفع إلا هارون القارئ الأعور فإن سيبويه حكى عنه {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم{ بالنصب أوقع على أيهم لننزعن. قال أبو إسحاق في رفع {أيهم{ ثلاثة أقوال؛ قال الخليل بن أحمد حكاه عنه سيبويه: إنه مرفوع على الحكاية والمعنى ثم لننزعن من كل شيعة الذي يقال من أجل عتوه أيهم أشد على الرحمن عتيا وأنشد الخليل فقال:
ولقد أبيت من الفتاة بمنزل فأبيت لا حرج ولا محروم
أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له لا هو حرج ولا محروم. وقال أبو جعفر النحاس: ورأيت أبا إسحاق يختار هذا القول ويستحسنه قال لأنه معنى قول أهل التفسير وزعم أن معنى {ثم لننزعن من كل شيعة{ ثم لننزعن من كل فرقة الأعتى فالأعتى. كأنه يبتدأ بالتعذيب بأشدهم عتيا ثم الذي يليه وهذا نص كلام أبي إسحاق في معنى الآية. وقال يونس{لننزعن{ بمنزلة الأفعال التي تلغى ورفع {أيهم{ على الابتداء المهدوي والفعل هو {لننزعن{ عند يونس معلق قال أبو علي: معنى ذلك أنه يعمل في موضع {أيهم أشد{ لا أنه ملغى. ولا يلعق عند الخليل وسيبويه مثل {لننزعن{ إنما يعلق بأفعال الشك وشبهها ما لم يتحقق وقوعه وقال سيبويه{أيهم{ مبني على الضم لأنها خالفت أخواتها في الحذف؛ لأنك لو قلت: رأيت الذي أفضل ومن أفضل كان قبيحا، حتى تقول من هو أفضل، والحذف في {أيهم{ جائز. قال أبو جعفر: وما علمت أحدا من النحويين إلا وقد خطأ سيبويه في هذا وسمعت أبا إسحاق يقول: ما يبين لي أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما؛ قال وقد علمنا أن سيبويه أعرب أيا وهى مفردة لأنها تضاف، فكيف يبنيها وهي مضافة؟ ! ولم يذكر أبو إسحاق فيما علمت إلا هذه الثلاثة الأقوال أبو علي إنما وجب البناء على مذهب سيبويه لأنه حذف منه ما يتعرف به وهو الضمير مع افتقار إليه كما حذف في {من قبل ومن بعد{ ما يتعرفان به مع افتقار المضاف إلى المضاف إليه لأن الصلة تبين الموصول وتوضحه كما أن المضاف إليه يبين المضاف ويخصصه قال أبو جعفر وفيه أربعة أقوال سوى هذه الثلاثة التي ذكرها أبو إسحاق قال الكسائي {لننزعن{ واقعة على المعنى كما تقول لبست من الثياب وأكلت من الطعام، ولم يقع {لننزعن{ على {أيهم{ فينصبها. زاد المهدوي: وإنما الفعل عنده واقع على موضع {من كل شيعة{ وقوله{أيهم أشد{ جملة مستأنفة مرتفعة بالابتداء ولا يرى سيبويه زيادة {من{ في الواجب وقال الفراء المعنى ثم لننزعن بالنداء ومعنى {لننزعن{ لننادين المهدى ونادى فمل يعلق إذا كان بعده جملة كظننت فتعمل في المعنى ولا تعمل في اللفظ قال أبو جعفر وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول في {أيهم{ معنى الشرط والمجازاة فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها والمعنى ثم لننزعن من كل فرقة إن تشايعوا أو لم يتشايعوا كما تقول ضربت القوم أيهم غضب والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا قال أبو جعفر فهذه ستة أقوال وسمعت علي بن سليمان يحكي عن محمد بن يزيد قال {أيهم{ متعلق {بشيعة{ فهو مرفوع بالابتداء والمعنى ثم لننزعن من الذين تشايعوا أيهم أي من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد على الرحمن عتيا وهذا قول حسن وقد حكى الكسائي أن التشايع التعاون و{عتيا{ نصب على البيان
قوله تعالى{ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا{ أي أحق بدخول النار يقال صلى يصلى صليا ونحو مضى الشيء يمضي مضيا إذا ذهب وهوى يهوي هويا وقال الجوهري ويقال صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار وجح لحته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت: أصليته بالألف وصليته تصلية وقرئ {ويصلى سعيرا{ ومن خفف فهو من قولهم: صلي فلان بالنار (بالكسر) يصلى صليا أحترق قال الله تعالى {هم أولى بها صليا{ قال العجاج
والله لولا النار أن نصلاها
ويقال أيضا صلي بالأمر إذا قاسى حره وشدته قال الطهوي
ولا تبلى بسالتهم وإن هم صلوا بالحرب حينا بعد حين
واصطليت بالنار وتصليت بها قال أبو ربيد:
وقد تصليت حر حربهم كما تصلى المقرور من قرس
وفلان لا يصطلى بناره إذا كان شجاعا لا يطاق.
">الآية رقم ( 71 : 72 )">
الآية رقم ( 71 : 72 )
{وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا، ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا}
قوله تعالى {وإن منكم{ هذا قسم والواو ينضمنه ويفسره حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم) قال الزهري: كأنه يريد هذه الآية (وإن منكم إلا واردها) ذكره داود الطيالسي فقوله {إلا تحلة القسم{ يخرج في التفسير المسند لأن القسم المذكور هذا الحديث معناه عند أهل العلم قوله تعالى {وإن منكم إلا واردها{ وقد قيل إن المراد بالقسم قوله تعالى {والذاريات ذروا{ إلى قوله {إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع والأول أشهر؛ والمعنى متقارب
واختلف الناس في الورود فقيل الورد الدخول روي عن جابر بن عبدالله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا{ أسنده أبو عمر في كتاب {التمهيد{ وهو قول ابن عباس وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم وروي عن يونس أنه كان يقرأ {وإن منكم إلا واردها{ الورود الدخول على التفسير للورود فغلط فيه بعض الرواة فألحقه بالقرآن وفي الدارمي عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يرد الناس النار ثم يصدرون منها بأعمالهم فمنهم كلمح البصر ثم كالريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب المجد في رحله ثم كشد الرجل في مشيته) وروي عن ابن عباس أنه قال في هذه المسألة لنافع بن الأزرق الخارجي (أما أنا وأنت فلا بد أن نردها أما أنا فينجيني الله منها وأما أنت فما أظنه ينجيك لتكذيبك) وقد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود والجهل بالصدر وقد بيناه في {التذكرة{ وقالت فرقة الورود الممر على الصراط وروي عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار والسدي ورواه السدي ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقاله الحسن أيضا قال (ليس الورود الدخول إنما تقول وردت البصرة ولم أدخلها قال فالورود أن يمروا على الصراط) قال أبو بكر الأنباري وقد بنى على مذهب الحسن قوم من أهل اللغة واحتجوا بقول الله تعالى{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون{ قالوا: فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده منها وكان هؤلاء يقرؤون {ثم{ بفتح الثاء {ننجي الذين اتقوا{ واحتج عليهم الآخرون أهل المقالة الأولى بأن معنى قوله{أولئك عنها مبعدون{ عن العذاب فيها والإحراق بها قالوا فمن دخلها وهو لا يشعر بها ولا يحس منها وجعا ولا ألما فهو مبعد عنها في الحقيقة ويستدلون بقوله تعالى {ثم ننجي الذين اتقوا{ بضم الثاء فـ {ثم{ تدل على نجاء بعد الدخول.
قلت وفي صحيح مسلم (ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة فيقولون اللهم سلم سلم) قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: (دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم) الحديث وبه احتج من قال إن الجواز على الصراط هو الورود الذي تضمنه هذه الآية لا الدخول فيها وقالت فرقة بل هو ورود إشراف واطلاع وقرب وذلك أنه يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه ويصار بهم إلى الجنة {ونذر الظالمين{ أي يؤمر بهم إلى النار قال الله تعالى {ولما ورد ماء مدين) أي أشرف عليه لا أنه دخله وقال زهير:
فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم
وروت حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يدخل النار أحد من أهل بدر والحديبية) قالت فقلت يا رسول الله وأين قول الله تعالى {وإن منكم إلا واردها{ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَمَهْ {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا{) أخرجه مسلم من حديث أم مبشر قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم عند حفصة الحديث ورجح الزجاج هذا القول بقوله تعالى {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون{ وقال مجاهد: ورود المؤمنين النار هو الحمى التي تصيب المؤمن في دار الدنيا، وهي حظ المؤمن من النار فلا يردها. روى أبو هريرة أن رسول الله صلى عليه وسلم عاد مريضا من وعك به فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (أبشر فإن الله تبارك وتعالى يقول {هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار{) أسنده أبو عمر قال: حدثنا عبدالوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيدالله (عن أبي صالح) الأشعري عن أبي هريرة عن النبي عاد مريضا وفي كره وفي الحديث (الحمى حظ المؤمن من النار) وقالت فرقة الورود النظر إليها في القبر فينجي منها الفائز ويصلاها من قدر عليه دخولها، ثم يخرج منها بالشفاعة أو بغيرها من رحمة الله تعالى واحتجوا بحديث ابن عمر: (إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي) الحديث وروى وكيع عن شعبة عن عبدالله بن السائب عن رجل عن ابن عباس أنه قال في قول الله تعالى: (وإن منكم إلا واردها) قال: هذا خطاب للكفار. وروي عنه أنه كان يقرأ {وإن منكم}ردا على الآيات التي قبلها في الكفار: قوله {فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا وإن منهم) (مريم: 68] وكذلك قرأ عكرمة وجماعة وعليها فلا شعب في هذه القراءة وقالت فرقة المراد بـ (منكم) الكفرة والمعنى قل لهم يا محمد وهذا التأويل أيضا سهل التناول والكاف في (منكم) راجحة إلى الهاء في (لنحشرنهم والشياطين. ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) فلا ينكر رجوع الكاف إلى الهاء؛ فقد عرف ذلك في قوله عز وجل {وسقاهم ربهم شرابا طهورا. إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا}الإنسان:21 - 22] معناه كان لهم فرجعت الكاف إلى الهاء. وقال الأكثر: المخاطب العالم كله بد من ورود الجميع وعليه نشأ الخلاف في الورود وقد بينا أقوال العلماء فيه وظاهر الورود الدخول لقول عليه الصلاة والسلام (فتمسه النار) لأن المسيس حقيقته في اللغة المماسة إلا أنها تكون بردا وسلاما على المؤمنين وينجون منها سالمين قال خالد بن معدان: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا ألم يقل ربنا إنا نرد النار؟ فيقال لقد وردتموها فألقيتموها رمادا.
قلت: وهذا القول يجمع شتات لأقوال فإن من وودها ولم تؤذه بلهبها وحرها فقد أبعد عنها ونجي منها نجانا الله تعالى منها وكرمه وجعلنا ممن وردها فدخلها سالما وخرج منها غانما. فان قيل: فهل يدخل الأنبياء النار؟ قلنا لانطلق هذا ولكن نقول: إن الخلق جميعا يردونها كما دل عليه حديث جابر أول الباب فالعصاة يدخلونها بجرائمهم، والأولياء والسعداء لشفاعتهم فبين الدخولين بون وقال ابن الأنباري محتجا لمصحف عثمان وقراءة العامة جائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب كما قال (وسقاهم ربهم شرابا طهورا. إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا) فأبدل الكاف من الهاء. وقد تقدم هذا المعنى في (يونس).
الاستثناء في قوله عليه السلام (إلا تحلة القسم) يحتمل أن يكون استثناء منقطعا لكن تحلة القسم وهذا معروف في كلام العرب والمعنى ألا تمسه النار أصلا وتم الكلام هنا ثم ابتدأ (إلا تحلة القسم) أي لكن تحله القسم لابد منها في قوله تعالى {وإن منكم إلا واردها{ وهو الجواز على الصراط أو الرؤية أو الدخول دخول سلامة، فلا يكون في ذلك شيء من مسيس لقوله عليه الصلاة والسلام (لا يموت لأحدكم ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار) والجنة الوقاية والستر ومن وقي النار سترعنها فلن تمسه أصلا ولو مسته لما كان موقى
هذا الحديث يفسر الأول لأن فيه ذكر الحسبة؛ ولذلك جعله مالك بأثره مفسرا له ويقيد هذا الحديث الثاني أيضا مارواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كان له حجابا من النار أو دخل الجنة) فقوله عليه السلام (لم يبلغوا الحنث) ومعناه عند أهل العلم لم يبلغوا الحلم ولم يبلغوا أن يلزمهم حنث دليل على أن أطفال المسلمين في الجنة والله أعلم لأن الرحمة إذا نزلت بآبائهم استحال أن يرحموا من أجل (من) ليس بمرحوم. وهذا إجماع من العلماء في أن أطفال المسلمين في الجنة ولم يخالف في ذلك إلا فرقة شذت من الجبرية فجعلتهم المشيئة وهو قول مهجور مردود بإجماع الحجة الذين لا تجوز مخالفتهم، ولا يجوز على مثلهم إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد الثقات العدول؛ وأن قوله عليه الصلاة والسلام (الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه وأن الملك ينزل فيكتب أجله وعمله ورزقه) الحديث مخصوص، وأن من مات من أطفال المسلمين قبل الاكتساب فهو ممن سعد في بطن أمه ولم يثق بدليل الأحاديث والإجماع وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها: (يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم) ساقط ضعيف مردود بالإجماع والآثار وطلحة بن يحيى الذي يرويه ضعيف لا يحتج به وهذا الحديث مما انفرد به فلا يعرج عليه. وقد روى شعبة عن معاوية بن قرة بن إياس المزني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا من الأنصار مات له ابن صغير فوجد عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما يسرك ألا تأتى بابا من أبواب الجنة إلا وجدته يستفتح لك) فقالوا يا رسول الله أله خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال (بل للمسلمين عامة) قال أبو عمر هذا حديث ثابت صحيح يعني ما ذكرناه مع إجماع الجمهور؛ وهو يعارض حديث يحيى ويدفعه قال أبو عمر: الوجه عندي في هذا الحديث وما أشبهه من الآثار أنها لمن حافظ على أداء فرائضه واجتنب الكبائر، وصبر واحتسب في مصيبته؛ فإن الخطاب لم يتوجه في ذلك العصر إلا إلى قوم الأغلب من أمرهم ما وصفنا وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين وذكر النقاش عن بعضهم أنه قال: نسخ قوله تعالى {وإن منكم إلا واردها{ قوله {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون}الأنبياء:101] وهذا ضعيف، وهذا ليس موضع نسخ. وقد بينا أنه إذا لم تمسه النار فقد أبعد عنها وفي الخبر: (تقول النار للمؤمن يوم القيامة جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي).
قوله تعالى{كان على ربك حتما مقضيا{ الحتم إيجاب القضاء أي كان ذلك حتما. {مقضيا{ أي قضاه الله تعالى عليكم وقال ابن مسعود أي قسما واجبا{ ثم ننجي الذين اتقوا{ أي نخلصهم {ونذر الظالمين فيها جثيا{ وهذا مما يدل على أن الورود الدخول لأنه لم يقل وندخل الظالمين وقد مضى هذا المعنى مستوفى. والمذهب أن صاحب الكبيرة وإن دخلها فإنه يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو وقالت المرجئة لا يدخل. وقالت الوعيدية: يخلد وقد مضى بيان هذا في غير موضع وقرأ عاصم الجحدري ومعاوية بن قرة {ثم ننجي{ مخففة من أنجى وهي قراءة حميد ويعقوب والكسائي وثقل الباقون وقرأ ابن أبي ليلى {ثمه{ بفتح الثاء أي هناك و{ثم{ ظرف إلا أنه مبني لأنه غير محصل فبني كما بني ذا؛ والهاء يجوز أن تكون لبيان الحركة فتحذف في الوصل ويجوز أن تكون لتأنيث البقعة فشبت في الوصل تاء.
">الآية رقم ( 73 : 74 )">
الآية رقم ( 73 : 74 )
{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا، وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا}
قوله تعالى{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات{ أي على الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله تعالى {أئذا ما مت لسوف أخرج حيا}مريم: 66] وقال فيهم {ونذر الظالمين فيها جثيا{ أي هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعززوا بالدنيا، وقالوا: فما بالنا إن كنا على باطل أكثر أموالا وأعز نقرا وغرضهم إدخال الشبهة المستضعفين وإيهامهم أن من كثر ماله دل ذلك على أنه المحق في دينه وكأنهم لم يروا فيهم فقيرا ولا في المسلمين غنيا ولم يعلموا أن الله تعالى نحى أولياءه عن الاغترار بالدنيا وفرط الميل إليها. و{بينات{ معناه مرتلات الألفاظ ملخصة المعاني، مبينات المقاصد؛ إما محاكمات، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو تبيين الرسول صلى قولا أو فعلا أو ظاهرات الإعجاز تحدى بها فلم يقدر على معارضتها. أو حججا وبراهين. والوجه أن تكون حالا مؤكدة كقوله تعالى {وهو الحق مصدقا{ لأن آيات الله تعالى لا تكون إلا واضحة. {قال الذين كفروا{ يريد مشركي قريش النضر بن الحرث وأصحابه. {للذين آمنوا{ يعني فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانت فيهم قشافة، وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وكان المشركون يرجلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون خير ثيابهم، فقالوا للمؤمنين {أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا{ قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد {مقاما{ بضم الميم وهو موضع الإقامة. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإقامة الباقون {مقاما{ بالفتح؛ أي منزلا ومسكنا. وقيل: المقام الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة؛ أي أي الفريقين أكثر جاها وأنصارا. {وأحسن نديا{ أي مجلسا؛ عن ابن عباس وعنه أيضا المنظر وهو المجلس في اللغة وهو النادي ومنه دار الندوة لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم وناداه جالسه في النادي قال
أنادي به آل الوليد وجعفرا
والندي على فعيل مجلس القوم ومتحدثهم، وكذلك الندوة والنادي (3) والمتندى، فإن تفرق القوم فليس بندي قاله الجوهري.
قوله تعالى{وكم أهلكنا قبلهم من قرن{ أي من أمة وجماعة. {هم أحسن أثاثا ورئيا
والأثاث متاع البيت. وقيل: هو ماجد الجراثي والخرثي ما لبس منها وأنشد الحسن بن علي الطوسي فقال:
تقادم العهد من أم الوليد بنا دهرا وصار أثاث البيت خرثيا
وقال ابن عباس: هيئة مقاتل ثيابا {ورئيا{ أي منظرا حسنا. وفيه خمس قراءات قرأ أهل المدينة {وريا{ بغير همز. وقرأ أهل الكوفة {ورئيا{ بالهمز. وحكى يعقوب أن طلحة قرأ {وريا{ بياء واحدة مخففة. وروى سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس {هم أحسن أثاثا وزيا{ بالزاي؛ فهذه أربع قراءات قال أبو إسحاق ويجوز {هم أحسن أثاثا وريئا{ بياء بعدها همزة. النحاس: وقراءة أهل المدينة في هذا حسنة وفيها تقريران: أحدهما: أن تكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء. وكان هذا حسنا لتتفق رؤوس الآيات لأنها غير مهموزات. وعلى هذا قال ابن عباس: (الرئي المنظر) فالمعنى: هم أحسن أثاثا ولباسا. والوجه الثاني: أن جلودهم مرتوية من النعمة؛ فلا يجوز الهمز على هذا. وفي رواية ورش عن نافع وابن ذكوان عن ابن عامر {ورئيا{ بالهمز تكون على الوجه الأول. وهي قراءة أهل الكوفة وأبي عمرو من رأيت على الأصل. وقراءة طلحة بن مصرف (وريا) بياء واحدة مخففة أحسبها غلطا. وقد زعم بعض النحويين أنه كان أصلها الهمز فقلبت الهمزة ياء، ثم حذفت إحدى اليائين. المهدوي: ويجوز أن يكون {ريئا{ فقلبت ياء فصارت رييا ثم نقلت حركة الهمزة على الياء وحذفت. وقد قرأ بعضهم {وريا{ على القلب وهي القراءة الخامسة. وحكى سيبويه راء بمعنى رأى. الجوهري: من همزه جعله من المنظر من رأيت، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي فقال:
أشاقتك الظعائن يوم بانوا بذي الرئي الجميل من الأثاث
ومن لم يهمز إما أن يكون على تخفيف الهمزة أو يكون من رويت ألوانهم وجلودهم ريا؛ أي امتلأت وحسنت. وأما قراءة ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والأعسم المكي ويزيد البربري {وزيا{ بالزاي فهو الهيئة والحسن. ويجوز أن يكون من زويت أي جمعت؛ فيكون أصلها زيا فقلبت الواو ياء. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (زويت لي الأرض) أي جمعت؛ أي فلم يغن ذلك عنهم شيئا من عذاب الله تعالى؛ فليعش هؤلاء ما شاؤوا فمصيرهم إلى الموت والعذاب وإن عمروا؛ أو العذاب العاجل يأخذهم الله تعالى به.
">الآية رقم ( 75 )">
الآية رقم ( 75 )
{قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا}
قوله تعالى{قل من كان في الضلالة{ أي في الكفر {فليمدد له الرحمن مدا{ أي فليدعه في طغيان جهله وكفره فلفظه لفظ الأم ومعناه الخبر أي من كان الضلالة مده الرحمن مدا حتى يطول اغتراره فيكون ذلك اشد لعقابه نظيره {إنما نملي لهم ليزدادوا إثما}آل عمران:178] وقوله{ونذرهم في طغيانهم يعمهون}الأنعام: 110] ومثله كثير؛ أي فليعش ما شاء، وليوسع لنفسه في العمر؛ فمصيره إلى الموت والعقاب. وهذا غاية في التهديد والوعيد. وقيل: هذا دعاء أم به النبي صلى الله عليه وسلم؛ تقول: من سرق مالي فليقطع الله تعالى يده؛ فهو دعاء على السارق. وهو جواب الشرط وعلى هذا فليي ؟؟ قوله {فليمدد{ خبرا. {حتى إذا رأوا ما يوعدون{ قال {رأوا{ لأن لفظ {من{ يصلح للواحد والجمع. و{إذا{ مع الماضي بمعنى المستقبل؛ أي حتى يروا ما يوعدون والعذاب هنا إما أن يكون بنصر المؤمنين عليهم فيعذبونهم بالسيف والأسر؛ وإما أن تقوم الساعة فيصيرون إلى النار. {فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا
أي تنكشف حينئذ الحقائق وهذا رد لقولهم: (أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا).
">الآية رقم ( 76 )">
الآية رقم ( 76 )
{ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا}
قوله تعالى{ويزيد الله الذين اهتدوا هدى{ أي ويثبت الله المؤمنين على الهدى ويزيدهم في النصرة وينزل من الآيات ما يكون سبب زيادة اليقين مجازاة لهم وقيل يزيدهم هدى بتصديقهم بالناسخ والمنسوخ الذي كفر به غيرهم قال معناه الكلبي ومقاتل ويحتمل ثالثا أي {ويزيد الله الذين اهتدوا{ إلى الطاعة {هدى{ إلى الجنة والمعنى متقارب وقد تقدم القول في معنى زيادة الأعمال وزيادة الإيمان الهدي في {آل عمران{ وغيرها {والباقيات الصالحات{ تقدم. {خير عند ربك ثوابا{ أي جزاء {وخير مردا{ أي في الآخرة مما افتخر به الكفار في الدنيا. و(المرد) مصدر كالرد؛ أي وخير ردا على عاملها بالثواب؛ يقال هذا أرد عليك أي أنقع لك. وقيل {خير مردا{ أي مرجعا فكل أحد يرد إلى عمله الذي عمله.
">الآية رقم ( 77 : 80 )">
الآية رقم ( 77 : 80 )
{أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا، أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا، كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا، ونرثه ما يقول ويأتينا فردا}
قوله تعالى{أفرأيت الذي كفر بآياتنا{ روى الأئمة واللفظ لمسلم عن خباب قال كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي لن أقضيك حتى تكفر بمحمد قال: قلت له لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث قال وإني لمبعوث من بعد الموت؟ ! فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد. قال وكيع: كذا قال الأعمش؛ فنزلت هذه الآية{أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا إلى قوله {ويأتينا فردا{ في رواية قال كنت قينا في الجاهلية فعملت للعاص بن وائل عملا، فأتيته أتقاضاه خرجه البخاري أيضا وقال الكلبي ومقاتل: كان خباب قينا فصاغ للعاص حليا ثم تقاضاه أجرته فقال العاص ما عندي اليوم ما أقضيك فقال خباب لست بمفارقك حتى تقضيني فقال العاص يا خباب ما لك؟ ! ما كنت هكذا، وأن كنت لحسن الطلب. فقال خباب: إني كنت على دينك فأنا اليوم على دين الإسلام مفارق لدينك، قال أو لستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا؟ قال خباب: بلى قال فأخرني حتى أقضيك في الجنة - استهزاء فوالله لئن كان ما تقول حقا إني لأقضيك فيها، فو الله لا تكون أنت يا خباب وأصحابك أولى بها مني، فأنزل الله تعالى {أفرأيت الذي كفر بآياتنا{ يعني العاص بن وائل الآيات {أطلع الغيب{ قال ابن عباس:(أنظر في اللوح المحفوظ) ؟ ! وقال مجاهد: أعلم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا؟ ! {أم اتخذ عند الرحمن عهدا{ قال قتادة والثوري أي عملا صالحا وقيل هو التوحيد وقيل هو من الوعد وقال الكلبي عاهد الله تعالى أن يدخله الجنة {كلا{ رد عليه أي لم يكن ذلك لم يطلع الغيب ولم يتخذ عند الرحمن عهدا وتم الكلام عند قول {كلا{ وقال الحسن إن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة والأول أصح لأنه مدون في الصحاح وقرأ حمزة والكسائي {وولدا{ بضم الواو، والباقون بفتحها. واختلف في الضم والفتح على وجهين: أحدهما: أنهما لغتان معناهما واحد يقال ولد وولد كما يقال عدم وعدم وقال الحرث بن حلزة:
ولقد رأيت معاشرا قد ثمروا مالا وولدا
وقال آخر:
فليت فلانا كان في بطن أمه وليت فلانا كان ولد حمار
والثاني: أن قيسا تجعل الولد بالضم جمعا والولد بالفتح واحدا قال الماوردي وفي قوله تعالى {لأوتين مالا وولدا{ وجهان أحدهما أنه أراد في الجنة استهزاء بما وعد الله تعالى على طاعته وعبادته؛ قاله الكلبي. الثاني: أنه أراد في الدنيا وهو قول الجمهور وفيه وجهان محتملان أحدهما إن أقمت على دين آبائي وعبادة آلهتي لأوتين مالا وولدا الثاني: ولو كنت على باطل لما أوتيت مالا وولدا.
قلت: قول الكلبي أشبه بظاهر الأحاديث بل نصها يدل على ذلك قال مسروق سمعت خباب بن الأرت يقول جئت العاصي بن وائل السهمي أتقاضاه حقا عنده فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقلت لا حتى تموت ثم تبعث قال وإني لميت ثم مبعوث ؟! فقلت نعم فقال إن لي هناك مالا وولدا فأقضيك فنزلت هذه الآية قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
قوله تعالى{أطلع الغيب{ ألفه ألف استفهام لمجيء {أم{ بعدها ومعناه التوبيخ وأصله أأطلع فحذفت الألف الثانية لأنها ألف وصل فإن قيل فهلا أتوا بمدة بعد الألف فقالوا آطلع كما قالوا {الله خير{ {آلذكرين حرم{ قيل له كان الأصل في هذا{أألله{ {أألذكرين{ فأبدلوا من الألف الثانية مدة ليفرقوا بين الاستفهام والخبر وذلك أنهم لو قالوا الله خير بلا مد لالتبس الاستفهام بالخبر ولم يحتاجوا إلى هذه المدة في قوله {أطلع{ لأن ألف الاستفهام مفتوحة وألف الخبر مكسورة وذلك أنك تقول في الاستفهام أطلع؟ أفترى؟ أصطفى؟ أستغفرت؟ بفتح الألف، وتقول في الخبر: إطلع، إفترى، إصطفى، إستغفرت لهم بالكسر، فجعلوا الفرق بالفتح والكسر ولم يحتاجوا إلى فرق آخر
قوله تعالى{كلا{ ليس في النصف الأول ذكر {كلا{ وإنما جاء ذكره في النصف الثاني وهو يكون بمعنيين أحدهما بمعنى حقل والثاني بمعنى لا فإذا كانت بمعنى حقا جاز الوقف على ما قبله ثم تبتدئ {كلا{ أي حقا وإذا كانت بمعنى لا كان الوقف على {كلا{ جائز كما في هذه الآية لأن المعنى لا ليس الأم كذا ويجوز أن تقف عليه على قوله {عهدا{ وتبتدئ {كلا{ أي حقا {سنكتب ما يقول{ وكذا قوله تعالى {لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا}المؤمنون: 100] يجوز الوقف على {كلا{ وعلى {تركت{. وقوله {ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا{ الوقف على {كلا{ لأن المعنى لا وليس الأمر كما تظن {فاذهبا{ فليس للحق في هذا المعنى موضع وقال الفراء {كلا{ بمنزلة سوف لأنها صلة وهي حرف رد فكأنها {نعم{ و{لا{ في الاكتفاء قال وإن جعلتها صلة لما بعدها لم تقف عليها كقولك: كلا ورب الكعبة؛ لا تقف على كلا لأنه بمنزلة إي ورب الكعبة قال الله تعالى {كلا والقمر}المدثر: 32] فالوقف على {كلا{ قبيح لأنه صلة لليمين وكان أبو جعفر محمد بن سعدان يقول في {كلا{ مثل قول الفراء وقال الأخفش معنى كلا الردع والزجر وقال أبو بكر بن الأنباري وسمعت أبا العباس يقول لا يوقف على {كلا{ جميع القرآن لأنها جواب والفائدة تقع فيما بعدها والقول الأول هو قول أهل التفسير. {سنكتب ما يقول{ أي سنحفظ عليه قوله فنجازيه به في الآخرة {ونمد له من العذاب مدا{ أي سنزيده عذابا فوق عذاب{ ونرثه ما يقول{ أي نسلبه ما أعطيناه في الدنيا من مال وولد وقال ابن عباس وغيره (نرثه المال والولد بعد إهلاكنا إياه) وقيل نحرمه ما تمناه في الآخرة من مال وولد ونجعله لغيره من المسلمين {ويأتينا فردا{ أي منفردا لا مال له ولا ولد ولا عشيرة تنصره
">الآية رقم ( 81 : 82 )">
الآية رقم ( 81 : 82 )
{واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا، كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا}
قوله تعالى{واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا{ يعني مشركي قريش و{عزا{ معناه أعوانا ومنعة يعني أولادا والعز المطر الجود أيضا قاله الهروي وظاهر الكلام أن {عزا{ راجع إلى الآلهة التي عبدوها من دون الله ووحد لأنه بمعنى المصدر أي لينالوا بها العز ويمتنعون بها من عذاب الله فقال الله تعالى (كلا) أي ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا بل يكفرون بعبادتهم أي ينكرون أنهم عبدوا الأصنام أو تجحد الآلهة عبادة المشركين لها كما قال{تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون}القصص:63] وذلك أن الأصنام جمادات لا تعلم العبادة {ويكونون عليهم ضدا{ أي أعوانا في خصومتهم وتكذيبهم عن مجاهد والضحاك يكونون لهم أعداء ابن زيد يكون عليهم بلاء فتحشر آلهتهم وتركب لهم عقول فتنطق وتقول: يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك و{كلا{ هنا يحتمل أن تكون بمعنى لا ويحتمل أن تكون بمعنى حقا أي حقا {سيكفرون بعبادتهم{ وقرأ أبو نهيك {كلا سيكفرون{ بالتنوين. وروي عنه مع ذلك ضم الكاف وفتحها. قال المهدوي {كلا{ ردع وزجر وتنبيه ورد لكلام متقدم، وقد تقع لتحقيق ما بعدها التنبيه عليه {كلا إن الإنسان ليطغى}العلق: 6] فلا يوقف عليها على هذا ويوقف في المعنى الأول فان صلح فيها المعنيان جميعا جاز الوقف عليها والابتداء بها. فمن نون (كلا) من قوله{كلا سيكفرون بعبادتهم{ مع فتح الكاف فهو مصدر كل ونصبه بفعل مضمر والمعنى كل هذا الرأي والاعتقاد كلا يعني اتخاذهم الآلهة {ليكونوا لهم عزا{ فيوقف على هذا على {عزا{ وعلى {كلا{ وكذلك في قراءة الجماعة لأنها تصلح للرد لما قبلها والتحقيق لما بعدها ومن روى ضم الكاف مع التنوين فهو منصوب أيضا بفعل مضمر كأنه قال: سيكفرون {كلا سيكفرون بعبادتهم{ يعني الآلهة.
قلت: فتحصل في {كلا{ أربعة معان: التحقيق وهو أن تكون بمعنى حقا والنفي والتنبيه وصلة للقسم ولا يوقف منها إلا على الأول وقال الكسائي {لا{ تنفي فحسب و{كلا{ تنفي شيئا وتثبت شيئا فإذا قيل أكلت تمرا قلت كلا إني أكلت عسلا لا تمرا ففي هذه الكلمة نفي ما قبلها، وتحقق ما بعدها والضد يكون واحدا ويكون جمعا كالعدو والرسول وقيل وقع الضد موقع المصدر أي ويكونون عليهم عونا فلهذا لم يجمع وهذا في مقابلة قوله. {ليكونوا لهم عزا{ والعز مصدر فكذلك ما وقع في مقابلته ثم قيل الآية في عبدة الأصنام فأجري الأصنام مجرى من يعقل جريا على توهم الكفرة وقيل فيمن عبد المسيح أو الملائكة أو الجن أو الشياطين فالله تعالى أعلم.
{ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا، فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا، يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا، ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا، لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا}
قوله تعالى{ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين{ أي سلطانهم عليهم بالإغواء وذلك حين قال لإبليس {واستفزز من استطعت منهم بصوتك}الإسراء: 64]. وقيل {أرسلنا{ أي خلينا يقال أرسلت البعير أي خليته، أي خلينا الشياطين وإياهم ولم نعصمهم من القبول منهم. الزجاج: قيضنا {تؤزهم أزا{ قال ابن عباس: تزعجهم إزعاجا من الطاعة إلى المعصية وعنه تغريهم إغراء بالشر أمض أمض في هذا الأمر حتى توقعهم في النار حكى الأول الثعلبي والثاني الماوردي والمعنى واحد الضحاك تغويهم إغواء مجاهد تشليهم إشلاء وأصله الحركة والغليان، ومنه الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم (قام إلى الصلاة ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء) وائتزت القدر ائتزازا اشتد غليانها والأز التهييج والأغراء قال الله تعالى {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا{ أي تغريهم على المعاصي والأز الاختلاط. وقد أززت الشيء أؤزه أزا أي ضممت بعضه إلى بعض قاله الجوهري. {فلا تعجل عليهم{ أي تطلب العذاب لهم. {إنما نعد لهم عدا{ قال الكلبي: آجالهم يعني الأيام والليالي والشهور والسنين إلى انتهاء أجل العذاب وقال الضحاك الأنفاس ابن عباس: (أين نعد أنفاسهم في الدنيا كما نعد سنيهم) وقيل الخطوات وقيل اللذات وقيل اللحظات وقيل الساعات وقال قطرب: نعد أعمالهم عدا وقيل لا تعجل عليهم فإنما نؤخرهم ليزدادوا إثما روي أن المأمون قرأ هذه السورة فمر بهذه الآية وعنده جماعة من الفقهاء فأشار برأسه إلى ابن السماك أن يعظه فقال إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد وقيل في هذا المعنى:
حياتك أنفاس تعد فكلما مضى نفس منك انتقصت به جزءا
يميتك ما يحيك في ليلة ويحدوك حاد ما يريد به الهزءا
ويقال: إن أنفاس ابن آدم بين اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس اثنا عشر ألف نفس في اليوم واثنا عشر ألفا في الليلة والله أعلم فهي تعد وتحصى إحصاء ولها عدد معلوم وليس لها مدد فما أسرع ما تنفد.
قوله تعالى{يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا{ في الكلام حذف أي إلى جنة الرحمن، ودار كرامته. كقوله {إني ذاهب إلى ربي سيهدين}الصافات: 99] وكما في الخبر (من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) والوفد اسم للوافدين كما يقال صوم وفطر وزور فهو جمع الوافد مثل ركب وراكب وصحب وصاحب وهو من وفد يفد وفدا ووفودا ووفادة إذا خرج إلى ملك أو أمر خطير. الجوهري: يقال وفد فلان على الأمير أي ورد رسولا فهو وافد، والجمع وفد مثل صاحب وصحب وجمع الوفد وفاد ووفود والاسم الوفادة وأوفدته أنا إلى الأمير أي أرسلته وفي التفسير {وفدا{ أي ركبانا على نجائب طاعتهم وهذا لأن الوافد في الغالب يكون راكبا والوفد الركبان ووحد لأنه مصدر ابن جريج وفدا على النجائب وقال عمرو بن قيس الملائي إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة وأطيب ريح فيقول هل تعرفني؟ فيقول لا إلا إن الله قد طيب ريحك وحسن صورتك فيقول كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا اركبني اليوم وتلا {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا{ وإن الكافر يستقبله عمله في أقبح صورة وأنتن ريح فيقول هل تعرفني فيقول لا إلا إن الله قد قبح صورتك وأنتن ريحك فيقول: كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيء طالما ركبتني في الدنيا وأنا اليوم أركبك وتلا {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم}الأنعام: 31] ولا يصح من قبل إسناده قاله ابن العربي في {سراج المريدين{ وذكر هذا الخبر في تفسيره أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم القشيري عن ابن عباس بلفظه ومعنا وقال أيضا عن ابن عباس من كان يحب الخيل وفد إلى الله تعالى على خيل لا تروث ولا تبول لجمها من الياقوت الأحمر ومن الزبرجد الأخضر ومن الدر الأبيض وسروجها من السندس والإستبرق ومن كان يحب ركوب الإبل فعلى نجائب لا تبعر ولا تبول أزمتها من الياقوت والزبرجد ومن كان يحب ركوب السفن فعلى سفن من ياقوت قد أمنوا الغرق وأمنوا الأهوال وقال أيضا عن علي رضي الله عنه ولما نزلت الآية قال علي رضي الله عنه يا رسول الله! إني قد رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفدا إلا ركبانا فما وفد الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما إنهم يحشرون على أقدامهم ولا يساقون سوقا ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم ينظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب وزمامها الزبرجد فيركبون حتى يقرعوا باب الجنة) ولفظ الثعلبي في هذا الخبر عن علي أبين وقال علي لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله! إني رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفدا إلا ركبانا قال (يا علي إذا كان المنصرف من بين يدي الله تعالى تلقت الملائكة المؤمنين بنوق بيض رحالها وأزمتها الذهب على كل مركب حلة لا تساويها الدنيا فيلبس كل مؤمن حلة ثم تسير بهم مراكبهم فتهوي بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة {سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين}الزمر: 73]
قلت: وهذا الخبر ينص على أنهم لا يركبون ولا يلبسون إلا من الموقف وأما إذا خرجوا من القبور فمشاة حفاة عراة غرلا إلى الموقف بدليل حديث ابن عباس قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال (يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلا) الحديث خرجه البخاري ومسلم وسيأتي بكماله في سورة {المؤمنين{ إن شاء الله تعالى وتقدم في {آل عمران{ من حديث عبدالله بن أنيس بمعناه والحمد لله تعالى ولا يبعد أن تحصل الحالتان للسعداء فيكون حديث ابن عباس مخصوصا والله أعلم وقال أبو هريرة {وفدا{ على الإبل ابن عباس (ركبانا يؤتون بنوق من الجنة عليها رحائل من الذهب وسروجها وأزمتها من الزبرجد فيحشرون عليها) وقال علي (ما يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نوق رحالها من ذهب ونجب سروجها يواقيت إن هموا بها سارت وإن حركوها طارت) وقيل يفدون على ما يحبون من إبل أو خيل أو سفن على ما تقدم عن ابن عباس والله أعلم وقيل إنما قال {وفدا{ لأن من شأن الوفود عند العرب أن يقدموا بالبشارات وينتظرون الجوائز فالمتقون ينتظرون العطاء والثواب. {ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا{ السوق الحث على السير، و{وردا{ عطاشا قال ابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهما والحسن والأخفش والفراء وابن الأعرابي: حفاة مشاة وقيل: أفواجا وقال الأزهري أي مشاة عطاشا كالإبل ترد الماء فيقال جاء ورد بني فلان القشيري وقوله (وردا) يدل على العطش لأن الماء إنما يورد في الغالب للعطش وفي {التفسير{ مشاة عطاشا تتقطع أعناقهم من العطش وإذا كان سوق المجرمين إلى النار فحشر المتقين إلى الجنة. وقيل {وردا{ أي الورود كقولك جئتك إكراما لك أي لإكرامك أي نسوقهم لورود النار.
قلت ولا تناقض بين هذه الأقوال فيساقون عطاشا حفاة مشاة أفواجا قال ابن عرفة الورد القوم يردون الماء، فسمي العطاش وردا لطلبهم ورود الماء كما تقول قوم صوم أي صيام وقوم زور أي زوار فهو اسم على لفظ المصدر واحدهم وارد والورد أيضا الجماعة التي ترد الماء من طير وإبل والورد الماء الذي يورد وهذا من باب الإيماء بالشيء إلى الشيء الورد الجزء (1) يقال قرأت وردي والورد يوم الحمى إذا أخذت صاحبها لوقت فظاهرة لفظ مشترك وقال الشاعر يصف قليبا
يطمو إذا الورد عليه التكا
أي الوراد الذين يريدون الماء
قوله تعالى{لا يملكون الشفاعة{ أي هؤلاء الكفار لا يملكون الشفاعة لأحد {إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا{ وهم المسلمون فيملكون الشفاعة فهو استثناء الشيء من غير جنسه أي لكن {من اتخذ عند الرحمن عهدا{ يشفع فـ {من{ في موضع نصب على هذا وقيل هو في موضع رفع على البدل من الواو في {يملكون{ أي لا يملك أحد عند الله الشفاعة {إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا{ فإنه يملك وعلى هذا يكون الاستثناء متصلا. و{المجرمين{ في قول {ونسوق الجرمين إلى جهنم وردا{ الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم لا يملكون الشفاعة إلا العصاة المؤمنون فانهم يملكونها بأن يشفع فيهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فيقول يا محمد إنها ليست لك ولكنها لي) خرجه مسلم بمعناه. وقد تقدم وتظاهرت الأخبار بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون فيشفعون؛ وعلى القول الأول يكون الكلام متصلا بقوله. {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا{ فلا تقبل غدا شفاعة عبدة الأصنام لأحد، ولا شفاعة الأصنام لأحد، ولا يملكون شفاعة أحد لهم أي لا تنفعهم شفاعة كما قال فما تنفعهم شفاعة الشافعين{ وقيل: أي نحشر المتقين والمجرمين لا يملك أحدا شفاعة {إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا{ أي إذا أذن له الله في الشفاعة. كما قال{من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}البقرة:255] وهذا العهد هو الذي قال {أم اتخذ عند الرحمن عهدا{ وهو لفظ جامع للإيمان وجميع الصالحات التي يصل بها صاحبها إلى حيز من يشفع وقال ابن عباس العهد لا إله إلا الله وقال مقاتل وابن عباس أيضا لا يشفع إلا من شهد أن لا إله إلا الله وتبرأ من الحول والقوة [إلا] لله ولا يرجو إلا الله تعالى. وقال ابن مسعود سمعت رسول الله يقول لأصحابه (أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا) قيل يا رسول الله وما ذاك؟ قال (يقول عند كل صباح ومساء اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك (فلا تكلني إلى نفسي) فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير وتقربني من الشر وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعا ووضعها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين عند الله عهد فيقوم فيدخل الجنة).
الآية رقم ( 88 : 95 )
{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا، إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا}
قوله تعالى{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا{ يعني اليهود والنصارى، ومن زعم أن الملائكة بنات الله. وقرأ يحيى وحمزة والكسائي وعاصم وخلف{ولدا{ بضم الواو وإسكان اللام، في أربعة مواضع: من هذه السورة قوله تعالى: لأوتين مالا وولدا}مريم: 77]وقد تقدم قوله وقوله{أن دعوا للرحمن ولدا. وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا{. وفي سورة نوح {ماله وولده}نوح: 21] ووافقهم في {نوح{ خاصة ابن كثير ومجاهد وحميد وأبو عمرو ويعقوب. والباقون في الكل بالفتح في الواو واللام وهما لغتان مثل والعرب والعرب والعجم والعجم قال:
ولقد رأيت معاشرا قد ثمروا مالا وولدا
وقال آخر
وليت فلانا كان في بطن أمه وليت فلانا كان ولد حمار
وقال في معنى ذلك النابغة:
مهلا فداء لك الأقوام كلهم وما أثمر من مال ومن ولد
ففتح. وقيس يجعلون الولد بالضم جمعا والولد بالفتح واحد قال الجوهري الولد قد يكون واحدا وجمعا وكذلك الولد بالضم ومن أمثال بني أسد ولدك من دمى عقبيك وقد يكون الولد جمع الولد مثل أسد وأسد والولد بالكسر لغة في الولد النحاس وفرق أبو عبيدة بينهما فزعم أن الولد يكون للأهل والولد جميعا قال أبو جعفر وهذا قول مردود لا يعرفه أحد من أهل اللغة ولا يكون الولد والولد إلا ولد الرجل، وولد ولده، إلا أن ولدا أكثر في كلام العرب؛ كما قال:
مهلا فداء لك الأقوام كلهم وما أثمر ما من مال ومن ولد
قال أبو جعفر وسمعت محمد بن الوليد يقول: يجوز أن يكون ولد جمع ولد كما يقال وثن ووثن وأسد وأسد، ويجوز أن يكون ولد وولد بمعنى واحد كما يقال عجم وعجم وعرب وعرب كما تقدم.
قوله تعالى{لقد جئتم شيئا إدا{ أي منكرا عظيما؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. قال الجوهري: الإد والإدة الداهية والأمر الفظيع ومنه قوله تعالى {لقد جئتم شيئا إدا{ وكذلك الآد مثل فاعل. وجمع الإدة إدد. وأدت فلانا داهية تؤده أدا (بالفتح). والإد أيضا الشدة.(2) قال الراجز:
نضون عني شدة وأدا من بعد ما كنت صملا جلدا
انتهى كلامه. وقرأ أبو عبدالله وأبو عبدالرحمن السلمي {أدا{ بفتح الهمزة النحاس يقال أد يؤد أدا فهو آد والاسم الإد؛ إذا جاء بشيء عظيم منكر وقال الراجز
قد لقي الأقران مني نكرا داهية دهياء إدا إمرا
عن غير النحاس الثعلبي وفيه ثلاث لغات {إدا{ بالكسر وهي قراءة العامة {وأدا{ بالفتح وهى قراءة السلمي و{آد{ مثل ماد وهي لغة لبعض العرب رويت عن ابن عباس وأبي العالية؛ وكأنها مأخوذة من الثقل (3): آده الحمل يؤوده أودا أثقله.
قوله تعالى{تكاد السماوات{ قراءة العامة هنا وفي {الشورى{ بالتاء. وقراءة نافع ويحي والكسائي {يكاد{ بالياء لتقدم الفعل. {يتفطرن منه{ أي يتشققن وقرأ نافع وابن كثير وحفص وغيرهم بتاء بعد الياء وشد الطاء من هنا وفي {الشورى{ ووافقهم حمزة وابن عامر في {الشورى{ وقرأ هنا {ينفطرن{ من الانفطار وكذلك قرأها أبو عمرو وأبو بكر والمفضل في السورتين. وهي اختيار أبي عبيد تعالى {إذا السماء انفطرت}الإنفطار:1] وقوله{السماء منفطر به}المزمل:18] وقوله{وتنشق الأرض{ أي تتصدع {وتخر الجبال هدا{ قال ابن عباس: (هدما أي تسقط بصوت شديد) وفي الحديث (اللهم إني أعوذ بك من الهد والهدة) قال شمر قال أحسد بن غياث المروزي الهد الهدم والهدة الخسوف. وقال الليث هو الهدم الشديد كحائط يهد بمرة يقال هدني الأمر وهد ركني أي كسرني وبلغ مني قاله الهوري الجوهري وهد البناء يهده هدا كسره وضعفه وهدته المصيبة أي أو هنت ركنه وانهد الجبل انكسر. الأصمعي: والهد الرجل الضعيف يقول الرجل للرجل إذا أوعده إني لغير هد أي غير ضعيف وقال ابن الأعرابي: الهد من الرجال الجواد الكريم وأما الجبان الضعيف فهو الهد بالكسر وأنشد:
ليسوا بهدين في الحروب إذا تعقد فوق الحراقف النطق
والهدة صوت وقع الحائط ونحوه تقول هديه (بالكسر) هديدا والهاد صوت يسمعه أهل الساحل يأتيهم من قبل البحر له دوي الأرض وربما كانت منه الزلزلة ودويه هديه النحاس {هدا{ مصدر لأن معنى {تخر{ تهد وقال غيره حال أي مهدودة{أن دعوا للرحمن ولدا{ {أن{ في موضع نصب عند الفراء لأن دعوا ومن أن دعوا فموضع {أن{ نصب بسقوط الخافض وزعم الفراء أن الكسائي قال هي في موضع خفض بتقدير الخافض وذكر ابن المبارك: حدثنا عن واصل عن عون بن عبدالله قال قال عبدالله بن مسعود: إن الجبل ليقول للجبل يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر لله؟ فإن قال نعم سربه ثم قرأ عبدالله {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا{ الآية قال أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير؟! قال وحدثني عوف عن غالب بن عجرد قال حدثني رجل من أهل الشام في مسجد منى قال إن الله تعالى لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم تك في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة وكان لهم منها منفعة، فلم تزل الأرض والشجر كذلك حتى تكلم فجرة بني آدم تلك الكلمة العظيمة قولهم {اتخذ الرحمن ولدا{ فلما قالوها اقشعر الأرض وشاك الشجر وقال ابن عباس اقشعرت الجبال وما فيها من الأشجار والبحار وما فيها من الحيتان فصار من ذلك الشوك في الحيتان وفي الأشجار الشوك وقال ابن عباس أيضا وكعب فزعت السموات والأرض والجبال وجميع المخلوقات إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة فاستعرت جهنم وشاك الشجر واكفهرت الأرض وجدبت حين قالوا {اتخذ الله ولدا{ وقال محمد بن كعب لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة لقوله تعالى {تكاد لسموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا{ قال ابن العربي وصدق فإنه قول عظيم سبق به القضاء والقدر ولولا الباري تبارك وتعالى لا يضعه كفر الكافر ولا يرفعه إيمان المؤمن ولا يزيد هذا في ملكه كما لا ينقص ذلك من ملكه لما جرى شيء من هذا على الألسنة ولكنه القدوس الحكيم الحليم فلم يبال بعد ذلك بما يقول المبطلون
قوله تعالى{وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا{ نفى عن نفسه سبحانه وتعالى الولد لأن الولد يقتضي الجنسية والحدوث على ما بيناه في {البقرة{ أي لا يليق به ذلك ولا يوصف به ولا يجوز في حقه لأنه لا يكون ولد إلا من والد يكون له والد وأصل والله سبحانه يتعالى عن ذلك ويتقدس قال
في رأس خلقاء من عنقاء مشرفة ما ينبغي دونها سهل ولا جبل
{إن كل من في السماوات والأرض{ {إن{ نافية بمعنى ما أي ما كل من في السموات والأرض إلا وهو يأتي يوم القيامة مقرا له بالعبودية خاضعا ذليلا كما قال {و كل أتوه داخرين}النمل: 87] أي صاغرين أذلاء أي الخلق كلهم عبيده فكيف يكون واحد منهم ولدا له عز وجل تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا و{آتي{ بالياء في الخط والأصل التنوين فحذف استخفافا وأضيف.
وفي هذه الآية دليل على أنه لا يجوز أن يكون الولد مملوكا للوالد خلافا لمن قال إنه يشتريه فيملكه ولا يعتق عليه إلا إذا أعتقه وقد أبان الله تعالى المنافاة بين الأولاد والملك فإذا ملك الوالد ولده بنوع من التصرفات عتق عليه ووجه الدليل عليه من هذه الآية أن الله تعالى جعل الولدية والعبدية في طرفي تقابل فنفى أحدهما وأثبت الآخر ولو اجتمعا لما كان لهذا القول فائدة يقع الاحتجاج بها وفي الحديث الصحيح (لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه) أخرجه مسلم فإذا لم يملك الأب ابنه مع مرتبته عليه فالابن بعدم ملك الأب أولى لقصوره عنه.
ذهب إسحاق بن راهويه في تأويل قول عليه الصلاة والسلام (من أعتق شركا له في عبد) أن المراد به ذكور العبيد دون إناثهم فلا يكمل على من أعتق شركا في أنثى وهو على خلاف ما ذهب إليه الجمهور من السلف ومن بعدهم فإنهم لم يفرقوا بين الذكر والأنثى لأن لفظ العبد يراد به الجنس كما قال تعالى {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا{ فإنه قد يتناول الذكر والأنثى من العبد قطعا، وتمسك إسحاق بأنه حكى عبدة في المؤنث
روى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقول الله تبارك وتعالى كذبني بن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقول ليس يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقول اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن لي كفوا أحد) وقد تقدم في {البقرة{ وغيرها وإعادته في مثل هذا الموضع حسن جدا.
قوله تعالى{لقد أحصاهم{ أي علم عددهم {وعدهم عدا{ تأكيد أي فلا يخفى عليه أحد منهم.
قلت ووقع لنا في أسمائه سبحانه المحصي أعني في السنة من حديث أبي هريرة خرجه الترمذي. واشتقاق هذا الفعل يدل عليه وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني ومنها المحصي ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الأوراق فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في رقة وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير{ ووقع في تفسير ابن عباس أن معنى {لقد أحصاهم وعدهم عدا{ يريد أقروا له بالعبودية وشهدوا له بالربوبية.
قوله تعالى{وكلهم آتيه يوم القيامة فردا{ أي واحدا لانا صر له ولا مال معه ينفعه كما قال تعالى {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم{ فلا ينفعه إلا ما قدم من عمل وقال {وكلهم آتيه{ على لفظ وعلى المعنى آتوه وقال القشيري وفيه إشارة إلى أنكم لا ترضون لأنفسكم باستعباد أولادكم والكل عبيده فكيف رضيتم له مالا ترضون لأنفسكم وقد رد عليهم في مثل هذا في أنهم لا يرضون لأنفسهم بالبنات ويقولون الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك وقولهم الأصنام الله وقال {فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم}الأنعام: 136].
الآية رقم ( 96 : 98 )
{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا، فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا، وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا}
قوله تعالى {إن الذين آمنوا{ أي صدقوا {وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا{ أي حبا في قلوب عباده كما رواه الترمذي من حديث سعد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه قال فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قوله تعالى {سيجعل لهم الرحمن ودا{ وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل إني أبغضت فلانا فينادي في السماء ثم تنزل له البغضاء في الأرض) قال هذا حديث حسن صحيح وخرجه البخاري ومسلم بمعناه ومالك في الموطأ وفي نوادر الأصول وحدثنا أبو بكر بن سابق الأموي قال حدثنا أبو مالك الجنبي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله أعطى المؤمن الألفة والملاحة والمحبة في صدور الصالحين والملائكة المقربين ثم تلا {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا{
واختلف فيمن نزلت فقيل في علي رضي الله تعالى عنه روى البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: (قل يا علي اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في قلوب المؤمنين مودة) فنزلت الآية ذكره الثعلبي وقال ابن عباس نزلت في عبدالرحمن بن عوف جعل الله تعالى له في قلوب العباد مودة لا يلقاه مؤمن إلا وقره لا مشرك ولا منافق إلا عظمه وكان هرم بن حيان يقول ما أقبل أحد بقلبه على الله تعالى إلا أقبل الله تعالى بقلوب أهل الإيمان إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. وقيل يجعل الله تعالى لهم مودة في قلوب المؤمنين والملائكة يوم القيامة
قلت: إذا كان محبوبا في الدنيا فهو كذلك في الآخرة فإن الله تعالى لا يحب إلا مؤمنا تقيا ولا يرضى إلا خالصا نقيا جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى إذا أحب عبدا دعا جبريل عليه السلام فقال إني أحب فلانا فأحبه فيحب جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء قال ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبدا دعا جبريل عليه السلام وقال إني أبغض فلانا فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه قال فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض)
قوله تعالى{فإنما يسرناه بلسانك{ أي القرآن يعني بيناه بلسانك العربي وجعلناه سهلا على من تدبره وتأمله وقيل أنزلناه عليك بلسان العرب ليسهل عليهم فهمه. {لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا{ اللد جمع الألد وهو الشديد الخصومة ومنه قوله تعالى {ألد الخصام{ وقال الشاعر
أبيت نجيا للهموم كأنني أخاصم أقواما ذوي جدل لدا
وقال أبو عبيدة الألد الذي لا يقبل الحق ويدعي الباطل الحسن اللد الصم عن الحق قال الربيع: صم أذان القلوب. مجاهد: فجارا. الضحاك: مجادلين في الباطل. ابن عباس: شديدا في الخصومة. وقيل: الظالم الذي لا يستقيم والمعنى واحد وخصوا بإنذار لأن الذي لا عناد عنده يسهل انقياده
قوله تعالى{وكم أهلكنا قبلهم من قرن{ أي من أمة وجماعة من الناس يخوف أهل مكة. {هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا{ في موضع نصب أي هل ترى منهم أحد وتجد {أو تسمع لهم ركزا{ أي صوتا عن ابن عباس وغيره أي قد ماتوا وحصلوا أعمالهم وقيل حسا قال ابن زيد وقيل الركز ما لا يفهم من صوت أو حركة قال اليزيدي وأبو عبيدة كركز الكتيبة وأنشد أبو عبيدة بيت لبيد:
وتوجست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها
وقيل الصوت الخفي ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض وقال طرفة
وصادقتا سمع التوجس للسري خفي أو لصوت مندد
وقال ذو الرمة يصف ثورا تسمع إلى صوت صائد وكلاب:
إذا توجس ركزا مقفر ندس بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
أي ما في استماعه كذب أي هو صادق الاستماع والندس الحاذق يقال ندس وندس كما يقال حذر وحذر ويقظ ويقظ، والنبأة الصوت الخفي وكذلك الركز والركاز المال المدفون. والله تعالى أعلم بالصواب.
سورة طه مكية في قول الجميع نزلت قبل إسلام عمر رضي الله عنه روى الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال خرج عمر متقلدا بسيف فقيل له إن ختنك قد صبوا فأتاهما عمر وعندهما رجل من المهاجرين يقال له خباب وكانوا يقرؤون {طه{ فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرأه وكان عمر رضي الله عنه يقرأ الكتب فقالت له أخته إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ فقام عمر رضي الله عنه وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ {طه{ وذكره ابن إسحاق مطولا فإن عمر خرج متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتله فلقيه نعيم بن عبدالله فقال أين تريد يا عمر؟ فقال أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فاقتله فقال له نعيم والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟ !أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟ فقال وأي أهل ببتي؟ قال ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما قال فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها {طه{ يقرئهما إياها فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم أوفي بعض لبيت وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما فلما دخل قال ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له ما سمعت شيئا قال بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا إلى دينه وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه نعم قد أسلمنا وأمنا بالله ورسول فاصنع ما بدا لك ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤونها آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد وكان كاتبا فلما قال ذلك قالت له أخته إنا نخشاك عليها قال لها لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له يا أخي إنك نجس على شركك وأنه لا يمسها إلا الطاهر فقام عمر وأغتسل فأعطته الصحيفة وفيها {طه{ فلما قرأ منها صدرا قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول (اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو الخطاب) فالله الله يا عمر فقال له عند ذلك فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم وذكر الحديث.
مسألة أسند الدارمي أبو محمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم (إن الله تبارك وتعالى قرأ {طه{ و{يس{ قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت طوبى لأمة ينزل هذا عليها وطوبى لأجواف تحمل هذا وطوبى لألسنة تتكلم بهذا) قال ابن فورك قوله (إن الله تبارك وتعالى قرأ {طه{ و{يس{) أي أظهر وأسمع وأفهم كلامه من أراد من خلقه الملائكة في ذلك الوقت والعرب تقول قرأت الشيء إذا تتبعته وتقول ما قرأت هذه الناقة في رحمها سلا قط أي ما ظهر فيها ولد فعلى هذا يكون الكلام سائغا وقرأته أسماعه وأفهامه قرأته يخلقها وكتابة يحدثها وهي معنى قولنا قرأنا كلام الله ومعنى قوله {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن{ {فاقرؤوا ما تيسر منه{ ومن أصحابنا من قال معنى قوله قرأ) أي تكلم به وذلك مجاز كقولهم ذقت هذا القول ذواقا بمعنى اختبرته ومنه قوله{فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما يصنعون{ أي ابتلاهم الله تعالى به فسمي ذلك ذوقا والخوف لا يذاق على الحقيقة لأن الذوق في الحقيقة بالفم دون غيره من الجوارح قال ابن فورك وما قلناه أولا أصح في تأويل هذا الخير لأن كلام الله تعالى أزلي قديم سابق لجملة الحوادث وإنما أسمع وأفهم من أراد من خلقه على ما أراد في الأوقات والأزمنة لا أن عين كلامه يتعلق وجوده بمدة وزمان.
الآية رقم ( 1 : 4 )
{طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، إلا تذكرة لمن يخشى، تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى}
قوله تعالى{طه{ اختلف العلماء في معناه فقال الصديق رضي الله تعالى عنه هو من الأسرار ذكره الغزنوي ابن عباس معناه يا رجل ذكره البيهقي وقيل إنها لغة معروفة في عكل. وقيل في عك قال الكلبي: لو قلت في عك لرجل يا رجل لم يجب حتى تقول طه وأنشد الطبري في ذلك فقال:
دعوت بطه في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون موائلا
ويروى مزايلا وقال عبدالله بن عمر يا حبيبي بلغة عك ذكره الغزنوي وقال قطرب هو بلغة طيء وأنشد ليزيد بن المهلهل:
إن السفاهة طه من شمائلكم لا بارك الله في القوم الملاعين
وكذلك قال الحسن معنى {طه{ يا رجل وقال عكرمة وقال هو بالسريانية كذلك ذكره المهدوي وحكاه الماوردي عن ابن عباس أيضا ومجاهد وحكى الطبري أنه بالنبطية يا رجل وهذا قول السدي وسعيد بن جبير وابن عباس أيضا قال:
إن السفاهة طه من خلائقكم لا قدس الله أرواح الملاعين
وقال عكرمة أيضا هو كقولك يا رجل بلسان الحبشة ذكره الثعلبي والصحيح أنها وإن وجدت في لغة أخرى فإنها من لغة العرب كما ذكرنا وأنها لغة يمينية في عك وطيء وعكل أيضا وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى وقسم أقسم به وهذا أيضا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: هو اسم للنبي صلى الله عليه وسلم سماه الله تعالى به كما سماه محمدا وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لي عند ربي عشرة أسماء) فذكر أن فيها {طه{ و{يس{ وقيل هو اسم للسورة ومفتاح لها وقيل إنه اختصار من كلام الله خص الله تعالى رسول بعلمه وقيل إنها حروف مقطعة يدل كل حرف منها على معي واختلف في ذلك فقيل الطاء شجرة طوبى والهاء النار الهاوية والعرب تعبر عن الشيء كله ببعضه كأنه أقسم بالجنة والنار وقال سعيد بن جبير الطاء افتتاح اسمه طاهر وطيب والهاء افتتاح اسمه هادي وقيل {طاء{ يا طامع الشفاعة للأمة {هاء{ يا هادي الخلق إلى الله وقيل الطاء من الطهارة والهاء من الهداية كأنه يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام يا طاهرا من الذنوب يا هادي الخلق إلى علام الغيوب وقيل الطاء طبول الغزاة والهاء هيبتهم في قلوب الكافرين بيانه قوله تعالى {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب{ وقوله {وقذف في قلوبهم الرعب{ وقيل الطاء طرب أهل الجنة في الجنة والهاء هوان أهل النار في النار وقول سادس إن معنى {طه{ طوبى لمن اهتدى قال مجاهد ومحمد بن الحنفية وقول سابع إن معنى {طه{ طأ الأرض وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى الترويح بين قدميه فقيل له طأ الأرض أي لا تتعب حتى تحتاج إلى الترويح حكاه ابن الأنباري وذكر القاضي عياض في {الشفاء{ أن الربيع بن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى فأنزل الله تعالى {طه{ يعني طأ الأرض يا محمد الزمخشري وعن الحسن {طه{ وفسر بأنه أمر بالوطء وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معا وأن الأصل طأ فقلبت همزته هاء كما قلبت [ألفا] في (يطأ) فيمن قال:
... لا هناك المرتع
ثم بنى عليه هذا الأمر والهاء للسكت وقال مجاهد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يربطون الحبال في صدورهم في الصلاة بالليل من طول القيام ثم نسخ ذلك بالفرض فنزلت هذه الآية وقال الكلبي: لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بمكة اجتهد في العبادة واشتدت عبادته، فجعل يصلي الليل كله زمانا حتى نزلت هذه الآية فأمره الله تعالى أن يخفف عن نفسه فيصلي وينام، فنسخت هذه الآية قيام الليل فكان بعد هذه الآية يصلي وينام وقال مقاتل والضحاك فلما نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم قام وأصحابه فصلوا فقال كفار قريش ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى فأنزل الله تعالى {طه{ يقول: رجل {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى{ أي لتتعب؛ على ما يأتي وعلى هذا القول إن {طه{ (طاها) أي طأ الأرض فتكون الهاء والألف ضمير الأرض أي طأ الأرض برجليك في صلواتك وخففت الهمزة فصارت ألفا ساكنة وقرأت طائفة {طه{ وأصله طأ بمعنى طأ الأرض فحذفت الهمزة أدخلت هاء السكت وقال زر بن حبيش قرأ رجل على عبدالله بن مسعود {طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى{ فقال له عبدالله {طه{ فقال: يا أبا عبدالرحمن أليس قد أمر أن يطأ الأرض برجله أو بقدميه فقال {طه{ كذلك أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمال أبو عمرو وأبو إسحاق الهاء وفتحا الطاء وأمالهما جميعا أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين واختاره أبو عبيد الباقون بالتفخيم قال الثعلبي وهي كلها لغات صحيحة النحاس لا وجه للإمالة عند أكثر أهل العربية لعلتين إحداهما أنه ليس ههنا ياء ولا كسرة فتكون الإمالة والعلة الأخرى أن الطاء من الحروف الموانع للإمالة فهاتان علتان بينتان.
قوله تعالى {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى{ وقرئ {ما نُزِّل عليك القرآن لتشقى{ قال النحاس بعض النحويين يقول هذه لام النفي وبعضهم يقول لام الجحود وقال أبو جعفر وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول إنها لام الخفض والمعنى ما أنزلنا عليك القرآن للشقاء والشقاء يمد ويقصر وهو من ذوات الواو وأصل الشقاء في اللغة العناء والتعب أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب قال الشاعر:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
فمعنى لتشقى {لتتعب{ بفرط تأسفك وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله تعالى {فلعلك باخع نفسك على آثارهم}الكهف: 6] أي ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة وروى أن أبا جهل لعنه الله تعالى والنضر بن الحرث قالا للنبي صلى الله عليه وسلم إنك شقي لأنك تركت دين آبائك فأريد رد ذلك بان دين الإسلام وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز والسبب في درك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها وعلى الأقوال المتقدمة أنه عليه الصلاة والسلام صلى الله عليه وسلم بالليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل أبق على نفسك فإن لها عليك حقا أي ما أنزلنا عليك القرآن لتنهك نفسك في العبادة وتذيقها المشقة الفادحة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة
قوله تعالى{إلا تذكرة لمن يخشى{ قال أبو إسحاق الزجاج هو بدل من {تشقى{ أي ما أنزلناه إلا تذكرة النحاس وهذا وجه بعيد وأنكره أبو علي من أجل أن التذكرة ليست بشقاء وإنما هو منصوب على المصدر أي أنزلنا لتذكر به تذكرة أو على المفعول من أجله أي ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به ما أنزلناه إلا للتذكرة وقال الحسن بن الفضل فيه تقديم وتأخير مجازه ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى ولئلا تشقى. {تنزيلا{ مصدر أي نزلناه تنزيلا وقيل بدل من قوله {تذكرة{ وقرأ أبو حيوة الشامي {تنزيل{ بالرفع على معنى هذا تنزيل. {ممن خلق الأرض والسماوات العلا{ أي العالية الرفيعة وهى جمع العليا كقول كبرى وصغرى وكبر وصغر أخبر عن عظمته وجبروته وجلاله.
الآية رقم ( 5 : 8 )
{الرحمن على العرش استوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى}
قوله تعالى{الرحمن على العرش استوى{ ويجوز النصب على المدح قال أبو إسحاق الخفض على البدل وقال سعيد بن مسعدة: الرفع بمعنى هو الرحمن النحاس: يجوز الرفع بالابتداء والخبر {له ما في السماوات وما في الأرض{ فلا يوقف على {استوى{ وعلى البدل من المضمر في {خلق{ فجوز الوقف على {استوى{ وكذلك إذا خبر ابتداء محذوف ولا يوقف على {العلا{ وقد تقدم القول في معنى الاستواء في {الأعراف{ والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن وغيره أنه مستو على عرشه بغير حد ولا كيف كما كون استواء المخلوقين وقال ابن عباس: يريد خلق ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة وبعد القيامة.
قوله تعالى{له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى{ يريد ما تحت الصخرة التي لا يعلم ما تحتها إلا الله تعالى وقال محمد بن كعب يعني الأرض السابعة ابن عباس الأرض على نون والنون على البحر وأن طرفي النون رأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها وهي التي قال الله تعالى فيها {فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض}لقمان: 16]؛ والصخرة على قرن ثور والثور على الثرى وما تحت الثرى إلا الله تعالى وقال وهب بن منبه على وجه الأرض سبعة أبحر والأرضون سبع بين كل أرضين بحر فالبحر الأسفل مطبق على شفير جهنم ولولا عظمه وكثرة مائه وبرد لأحرقت جهنم كل من عليها قال وجهنم على متن الريح ومتن الريح على حجاب من الظلمة لا يعلم عظمه إلا الله تعالى وذلك الحجاب على الثرى وإلى الثرى انتهى علم الخلائق.
قوله تعالى{وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى{ قال ابن عباس السر ما حدث به الإنسان غيره في خفاء وأخفى منه ما أضمر في نفسه مما لم يحدث به غيره وعنه أيضا السر حديث نفسك وأخفى من السر ما ستحدث به نفسك مما لم يكن وهو كائن أنت تعلم ما تسر به نفسك اليوم ولا تعلم ما تسربه غدا والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسره غدا والمعنى الله يعلم السر وأخفى من السر وقال ابن عباس أيضا {السر{ ما أسر ابن آدم في نفسه {وأخفى{ ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه فالله تعالى يعلم ذلك كله وعلمه فيما مضى من ذلك وما علم واحد وجميع الخلائق في علمه كنفس واحدة وقال قتادة وغيره {السر{ ما أضمره في نفسه {وأخفى{ منه ما لم يكن ولا أضمره أحد وقال ابن زيد {السر{ من الخلائق {وأخفى{ منه سره عز وجل وأنكر ذلك الطبري وقال إن الذي {أخفى{ ما ليس في سرا لإنسان في نفسه كما قال ابن عباس. {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى{ {الله{ رفع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ أو على البدل من الضمير في {يعلم{ وحد نفسه سبحانه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا المشركين إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له فكبر ذلك عليهم فلما سمعه أبو جهل يذكر الرحمن قال للوليد بن المغيرة محمد ينهانا أن ندعو مع الله إلها آخر وهو يدعو الله والرحمن فأنزل الله تعالى {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى{ وهو واحد وأسماؤه كثيرة ثم قال {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى{ وقد تقدم.
الآية رقم ( 9 : 10 )
{وهل أتاك حديث موسى، إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى}
قوله تعالى{وهل أتاك حديث موسى{ قال أهل المعاني هو استفهام وإثبات وإيجاب معناه؛ أليس قد أتاك؟ وقيل: معناه وقد أتاك؛ قاله ابن عباس. وقال الكلبي: لم يكن أتاه حديثه بعد ثم أخبره. {إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى{ قال ابن عباس وغيره: هذا حين قضي الأجل وسار بأهله وهو مقبل من مدين يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق، وكان موسى عليه السلام رجلا غيورا، يصحب الناس بالليل ويفارقهم بالنهار غيرة منه، لئلا يروا امرأته فأخطأ الرفقة - لما سبق في علم الله تعالى - وكانت ليلة مظلمة. وقال مقاتل: وكان ليلة الجمعة في الشتاء. وهب بن منبه: استأذن موسى شعيبا في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج بأهله بغنمه، وولد له في الطريق في ليلة شاتية باردة مثلجة، وقد حاد عن الطريق وتفرقت ماشيته، فقدح موسى النار فلم تور المقدحة شيئا، إذ بصر بنار من بعيد على يسار الطريق {فقال لأهله امكثوا{ أي أقيموا بمكانكم {إني آنست نارا{ أي أبصرت. قال ابن عباس فلما توجه نحو النار فإذا النار في شجرة عناب، فوقف متعجبا من حسن ذلك الضوء؛ وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا شدة حر النار تغير حسن خضرة الشجرة، ولا كثرة ماء الشجرة ولا نعمة الخضرة تغيران حسن ضوء النار. وذكر المهدوي: فرأى النار - فيما روي - وهي في شجرة من العليق، فقصدها فتأخرت عنه، فرجع وأوجس في نفسه خيفة، ثم دنت منه وكلمه الله عز وجل من الشجرة. الماوردي: كانت عند موسى نارا، وكانت عند الله تعالى نورا. وقرأ حمزة {لأهله امكثوا{ بضم الهاء، وكذا في {القصص{. قال النحاس هذا على لغة من قال: مررت به يا رجل؛ فجاء به على الأصل، وهو جائز إلا أن حمزة خالف أصله في هذين الموضعين خاصة. وقال{امكثوا{ ولم يقل أقيموا، لأن الإقامة تقتضي الدوام، والمكث ليس كذلك {وآنست{ أبصرت، قاله ابن العربي. ومنه قوله {فإن آنستم منهم رشدا}النساء: 6] أي علمتم. وآنست الصوت سمعته، والقبس شعلة من نار، وكذلك المقياس. يقال قبست منه نارا أقبس قبسا فأقبسني أي أعطاني منه قبسا، وكذلك اقتبست منه نارا واقتبست منه علما أيضا أي استفدته، قال اليزيدي: أقبست الرجل علما وقبسته نارا؛ فإن كنت طلبتها له قلت أقبسته. وقال الكسائي: أقبسته نارا أو علما سواء. وقال: وقبسته أيضا فيهما. {هدى{ أي هاديا.
الآية رقم ( 11 : 12 )
{فلما أتاها نودي يا موسى، إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى}
قوله تعالى{فلما أتاها{ يعني النار {نودي يا موسى{ أي من الشجرة كما في سورة {القصص{ أي من جهتها وناحيتها على ما يأتي {يا موسى إني أنا ربك{.
قوله تعالى {فاخلع نعليك{ روى الترمذي عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار ميت) قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد الأعرج (1) منكر الحديث، وحميد بن قيس الأعرج المكي صاحب مجاهد ثقة؛ والكمة القلنسوة الصغيرة. وقرأ العامة {إني{ بالكسر؛ أي نودي فقيل له يا موسى إني، واختاره أبو عبيد. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن محيصن وحميد {أني{ بفتح الألف بإعمال النداء. واختلف العلماء في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين. والخلع النزع. والنعل ما جعلته وقاية لقدميك من الأرض. فقيل: أمر بطرح النعلين؛ لأنها نجسة إذ هي من جلد غير مذكى؛ قاله كعب وعكرمة وقتادة. وقيل: أم بذلك لينال بركة الوادي المقدس، وتمس قدماه تربة الوادي؛ قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وابن جريج. وقيل أمر بخلع النعلين للخشوع والتواضع عند مناجاة الله تعالى. وكذلك فعل السلف حين طافوا بالبيت. وقيل: إعظاما لذلك الموضع كما أن الحرم لا يدخل بنعلين إعظاما له. قال سعيد بن جبير: قيل له طأ الأرض حافيا كما تدخل الكعبة حافيا. والعرف عند الملوك أن تخلع النعال ويبلغ الإنسان إلى غاية التواضع، فكأن موسى عليه السلام أمر بذلك على هذا الوجه، ولا تبالي كانت نعلاه من ميتة أو غيرها. وقد كان مالك لا يرى لنفسه ركوب دابة بالمدينة برا بتربتها المحتوية على الأعظم الشريفة، والجثة الكريمة. ومن هذا المعنى قول عليه الصلاة والسلام لبشير بن الخصاصية وهو يمشي بين القبور بنعليه: (إذا كنت في مثل هذا المكان فاخلع نعليك) قال: فخلعتهما. وقول خامسك إن ذلك عبارة عن تفريغ قلبه من أمر الأهل والولد. وقد يعبر عن الأهل بالنعل. وكذلك هو في التعبير: من رأى أنه لابس نعلين فإنه يتزوج. وقيل: لأن الله تعالى بسط له بساط النور والهدى، ولا ينبغي أن يطأ بساط رب العالمين بنعله. وقد يحتمل أن يكون موسى أمر بخلع نعليه، وكان ذلك أول فرض عليه؛ كما كان أول ما قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم (قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر) [المدثر: 2 - 3 - 4 - 5] والله أعلم بالمراد من ذلك.
في الخبر أن موسى عليه السلام خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي. وقال أبو الأحوص: زار عبدالله أبا موسى في داره، فأقيمت الصلاة فأقام أبو موسى؛ فقال أبو موسى لعبدالله: تقدم. فقال عبدالله: تقدم أنت دارك. فتقدم وخلع نعليه؛ فقال عبدالله: أبا الوادي المقدس أنت؟ ! وفي صحيح مسلم عن سعيد بن يزيد قال: قلت لأنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعلين؟ قال نعم. ورواه النسائي عن عبدالله بن السائب: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فوضع نعليه عن يساره. وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حملكم على إلقائكم نعالكم) قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلمك(إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا) وقال: (إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما). صححه أبو محمد عبدالحق. وهو بجمع بين الحديثين قبله، ويرفع بينهما التعارض. ولم يختلف العلماء في جواز الصلاة في النعل إذا كانت طاهرة من ذكي، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الصلاة فيهما أفضل، وهو معنى قوله تعالى{خذوا زينتكم عند كل مسجد}الأعراف: 31] على ما تقدم. وقال إبراهيم النخعي في الذين يخلعون نعالهم: لوددت أن محتاجا جاء فأخذها.
فإن خلعتهما فاخلعهما بين رجليك؛ فإن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا صلى أحدكم فليخلع نعليه بين رجليه) قال أبو هريرة للمقبري: أخلعهما بين رجليك ولا تؤذيهما مسلما. وما رواه عبدالله بن السائب رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام خلعهما عن يساره فإنه كان إماما، فإن كنت إماما أو وحدك فافعل ذلك إن أحببت، وإن كنت مأموما في الصف فلا تؤذ بهما من على يسارك، ولا تضعهما بين قدميك فتشغلاك، ولكن قدام قدميك. وروي عن جبير بن مطعم أنه قال: وضع الرجل نعليه بين قدميه بدعة.
فإن تحقق فيهما نجاسة مجمع على تنجيسها كالدم والعذرة من بول بني آدم لم يطهرها إلا الغسل بالماء، عند مالك والشافعي وأكثر العلماء، وإن كانت النجاسة مختلفا فيها كبول الدواب وأرواثها الرطبة فهل يطهرها المسح بالتراب من النعل والخف أو لا؟ قولان عندنا. وأطلق الإجزاء بمسح ذلك بالتراب من غير تفصيل الأوزاعي وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: يزيله إذا يبس الحك والفرك، ولا يزيل رطبه إلا الغسل ما عدا البول، فلا يجزئ فيه عنده إلا الغسل. وقال الشافعي: لا يطهر شيئا من ذلك إلا الماء. والصحيح قول من قال: إن المسح يطهره من الخف والنعل؛ لحديث أبي سعيد. فأما لو كانت النعل والخف من جلد ميتة فان كان غير مدبوغ فهو نجس باتفاق، ما عدا ما ذهب إليه الزهري والليث، على ما تقدم بيانه في سورة {النحل{ ومضى في سورة {براءة{ القول في إزالة النجاسة والحمد لله.
قوله تعالى{إنك بالوادي المقدس طوى{ المقدس: المطهر. والقدس: الطهارة، والأرض المقدسة أي المطهرة؛ سميت بذلك لأن الله تعالى أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين. وقد جعل الله تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض؛ كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض، ولبعض الحيوان كذلك. ولله أن يفضل ما شاء. وعلى هذا فلا اعتبار بكونه مقدسا بإخراج الكافرين وإسكان المؤمنين؛ فقد شاركه في ذلك غيره. و(طوي) اسم الوادي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال الضحاك هو واد عميق مستدير مثل الطوي. وقرأ عكرمة {طوى{. الباقون {طوى{. قال الجوهري{طوى{ اسم موضع بالشام، تكسر طاؤه وتضم، ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة. وقال بعضهم{طوى{ مثل {طوى{ وهو الشيء المثني، وقالوا في قوله {المقدس طوى{: طوي مرتين أي قدس. وقال الحسن: ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين. وذكر المهدوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قيل له {طوى{ لأن موسى طواه بالليل إذ مر به فارتفع إلى أعلى الوادي؛ فهو مصدر عمل فيه ما ليس من لفظه، فكأنه قال: (إنك بالواد المقدس) الذي طويته طوى؛ أي تجاوزته فطويته بسيرك. الحسن: معناه أنه قدس مرتين؛ فهو مصدر من طويته طوى أيضا.
الآية رقم ( 13 : 14 )
{وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى، إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري}
قوله تعالى{وأنا اخترتك{ أي اصطفيتك للرسالة. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم والكسائي {وأنا اخترتك{. وقرأ حمزة {وأنَّا اخترناك{. والمعنى واحد إلا أن {وأنا اخترتك{ ها هنا أولى من جهتين: إحداهما أنها أشبه بالخط، والثانية أنها أولى بنسق الكلام؛ لقوله عز وجل{يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك{ وعلى هذا النسق جرت المخاطبة؛ قاله النحاس.
قوله تعالى{فاستمع لما يوحى{ فيه مسألة واحدة: قال ابن عطية: وحدثني أبي - رحمه الله - قال سمعت أبا الفضل الجوهري رحمه الله تعالى يقول: لما قيل لموسى صلوات الله وسلامه عليه{استمع لما يوحى{ وقف على حجر، واستند إلى حجر، ووضع يمينه على شمال، وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع، وكان كل لباسه صوفا.
قلت: حسن الاستماع كما يجب قد مدح الله عليه فقال{الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله}الزمر: 18] وذم على خلاف هذا الوصف فقال{نحن أعلم بما يستمعون به{ الآية. فمدح المنصت لاستماع كلامه مع حضور العقل، وأمر عباده بذلك أدبا لهم، فقال{وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}الأعراف: 204] وقال ها هنا{فاستمع لما يوحى{ لأن بذلك ينال الفهم عن الله تعالى. روي عن وهب بن منبه أنه قال: من أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى؛ وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها. فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحصر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم. وقال سفيان بن عيينة أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر؛ فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بنية صادقة على ما يجب الله أفهمه كما يجب، وجعل له في قلبه نورا.
اختلف في تأويل قوله{لذكري{ فقيل: يحتمل أن يريد لتذكرني فيها، أو يريد لأذكرك بالمدح في عليين بها، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل وإلى المفعول. وقيل: المعنى؛ أي حافظ بعد التوحيد على الصلاة. وهذا تنبيه على عظم قدر الصلاة إذ هي تضرع إلى الله تعالى، وقيام بين يديه؛ وعلى هذا فالصلاة هي الذكر. وقد سمي الله تعالى الصلاة ذكرا في قوله{فاسعوا إلى ذكر الله}الجمعة: 9]. وقيل: المراد إذا نسيت فتذكرت فصل كما في الخبر (فليصلها إذا ذكرها). أي لا تسقط الصلاة بالنسيان.
روى مالك وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول (أقم الصلاة لذكري) ). وروى أبو محمد عبدالغني بن سعيد من حديث حجاج بن حجاج - وهو حجاج الأول الذي روى عنه يزيد بن زريع - قال حدثنا قتادة عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يرقد عن الصلاة ويغفل عنها قال: (كفارتها أن يصليها إذا ذكرها) تابعه إبراهيم بن طهمان عن حجاج، وكذا يروي همام بن يحيى عن قتادة وروى الدارقطني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها) فقوله: (فليصلها إذا ذكرها) دليل على وجوب القضاء على النائم والغافل، كثرت الصلاة أو قلت، وهو مذهب عامة العلماء وقد حكى خلاف شاذ لا يعتد به، لأنه مخالف لنص الحديث عن بعض الناس فيما زاد على خمس صلوات أنه لا يلزمه قضاء.
قلت: أمر الله تعالى بإقامة الصلاة، ونص على أوقات معينة، فقال {أقم الصلاة لدلوك الشمس{ الآية وغيرها من الآي. أقام بالليل ما أمر بإقامته بالنهار، أو بالعكس لم يكن فعله مطابقا لما أمر به، ولا ثواب له على فعله وهو عاص؛ وعلى هذا الحد كان لا يجب عليه قضاء ما فات وقته. ولولا قول عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) لم ينتفع أحد بصلاة وقعت في غير وقتها، وبهذا الاعتبار كان قضاء لا أداء؛ لأن القضاء بأمر متجدد وليس بالأمر الأول.
فأما من ترك الصلاة متعمدا، فالجمهور أيضا على وجوب القضاء عليه، وإن كان عاصيا إلا داود. ووافقه أبو عبدالرحمن الأشعري الشافعي، حكاه عنه ابن القصار. والفرق بين المتعمد والناسي والنائم، حط المأثم؛ فالمتعمد مأثوم وجميعهم قاضون. والحجة للجمهور قوله تعالى{أقيموا الصلاة}الأنعام: 72] ولم يفرق بين أن يكون في وقتها أو بعدها. وهو أمر يقتضي الوجوب. وأيضا قوله فقد ثبت الأمر بقضاء النائم والناسي، مع أنهما غير مأثومين، فالعامد أولى. وأيضا قوله: (من نام عن صلاة أو نسيها) والنسيان الترك؛ قال الله تعالى{نسوا الله فنسيهم}التوبة: 67] و{نسوا الله فأنساهم أنفسهم}الحشر: 19] سواء كان مع ذهول أو لم يكن؛ لأن الله تعالى لا ينسى وإنما معناه تركهم و{ما ننسخ من آية أو ننسها}البقرة: 106] أي نتركها وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره. قال الله تعالى{من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي{ وهو تعالى لا ينسى وإنما معناه علمت. فكذلك يكون معنى قوله: (إذا ذكرها) أي علمها وأيضا فإن الديون التي للآدمين إذا كانت متعلقة بوقت، ثم جاء الوقت لم يسقط قضاؤها بعد وجوبها، وهي مما يسقطها الإبراء كان في ديون الله تعالى ألا يصح فيها الإبراء أولى ألا يسقط قضاؤها إلا بإذن منه. وأيضا فقد اتفقنا أنه لو ترك يوما من رمضان متعمدا بغير عذر لوجب قضاؤه فكذلك الصلاة. فان قيل فقد روي عن مالك: من ترك الصلاة متعمدا لا يقضي أبدا. فالإشارة إلى أن ما مضى لا يعود، أو يكون كلاما خرج على التغليظ؛ كما روي عن ابن مسعود وعلي: أن من أفطر في رمضان عامدا لم يكفره صيام الدهر وإن صامه. ومع هذا فلا بد من توفية التكليف حقه بإقامة القضاء مقام الأداء، أو إتباعه بالتوبة، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء. وقد روى أبو المطوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يجزه صيام الدهر وإن صامه) وهذا يحتمل أن لو صح كان معناه التغليظ؛ وهو حديث ضعيف خرجه أبو داود. وقد جاءت الكفارة بأحاديث صحاح، وفي بعضها قضاء اليوم؛ والحمد لله تعالى.
قوله عليه الصلاة والسلام (من نام عن صلاة أو نسيها) الحديث يخصص عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ) والمراد بالرفع هنا رفع المأثم لا رفع الفرض عنه، وليس هذا من باب قوله: (وعن الصبي حتى يحتلم) وإن كان ذلك جاء في أثر واحد؛ فقف على هذا الأصل.
اختلف العلماء في هذا المعنى فيمن ذكر صلاة فائتة وهو في آخر وقت صلاة، أو ذكر صلاة وهو في صلاة، فجملة مذهب مالك: أن من ذكر صلاة وقد حضر وقت صلاة أخرى، بدأ بالتي نسي إذا كان خمس صلوات فأدنى، وإن فات وقت هذه. وإن كان أكثر من ذلك بدأ بالتي حضر وقتها، وعلى نحو هذا مذهب أبي حنيفة والثوري والليث؛ إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: الترتيب عندنا واجب في اليوم والليلة إذا كان الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت. فإن خشي فوات الوقت بدأ بها، فإن زاد على صلاة يوم وليلة لم يجب الترتيب عندهم. وقد روي عن الثوري وجوب الترتيب، ولم يفرق بين القليل والكثير. وهو تحصيل مذهب الشافعي. قال الشافعي: الاختيار أن يبدأ بالفائتة ما لم يخف فوات هذه، فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه. وذكر الأثرم أن الترتيب عند أحمد واجب في صلاة ستين سنة فأكثر. وقال: لا ينبغي لأحد أن يصلي صلاة وهو ذاكر لما قبلها لأنها تفسد عليه. وروى الدارقطني عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال قال عليه الصلاة والسلام: (إذا ذكر أحدكم صلاة في صلاة مكتوبة فليبدأ بالتي هو فيها فإذا فرغ منها صلى التي نسي) وعمر بن أبي عمر مجهول.
قلت وهذا لو صح كانت حجة للشافعي في البداءة بصلاة الوقت. والصحيح ما رواه أهل الصحيح عن جابر بن عبدالله أن عمر يوم الخندق جعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله والله ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فوالله إن صليتها) فنزلنا البطحان فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتوضأنا فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب. وهذا نص في البداءة بالفائتة قبل الحاضرة، ولا سيما والمغرب وقتها واحد مضيق غير ممتد في الأشهر عندنا، وعند الشافعي كما تقدم. وروى الترمذي عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود أبيه: أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله تعالى، فأمر بالأذان بلالا فقام فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء، وبهذا استدل العلماء على أن من فاتته صلاة، قضاها مرتبة كما فاتته إذا ذكرها في وقت واحد. واختلفوا إذا ذكر فائتة في مضيق وقت حاضرة على ثلاثة أقوال يبدأ بالفائتة وإن خرج وقت الحاضرة، وبه قال مالك والليث والزهري وغيرهم كما قدمناه. الثاني: يبدأ بالحاضرة وبه قال الحسن والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث والمحاسبي وابن وهب من أصحابنا. الثالث: يتخير فيقدم أيتهما شاء، وبه قال أشهب.
وجه الأول: كثرة الصلوات ولا خلاف أنه يبدأ بالحاضرة مع الكثرة؛ قاله القاضي عياض. واختلفوا في مقدار اليسير؛ فعن مالك: الخمس فدون، وقد قيل: الأربع فدون لحديث جابر؛ ولم يختلف المذهب أن الست كثير.
وأما من ذكر صلاة وهو في صلاة؛ فإن كان وراء الإمام فكل من قال بوجوب الترتيب ومن لم يقل به، يتمادى مع الإمام حتى يكمل صلاته. والأصل في هذا ما رواه مالك والدارقطني عن ابن عمر قال: (إذا نسي أحدكم صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل مع الإمام فإذا فرغ من صلاته فليصل الصلاة التي نسي ثم ليعد صلاته التي صلى مع الإمام) لفظ الدارقطني؛ وقال موسى بن هارون: وحدثناه أبو إبراهيم الترجماني، قال: حدثنا سعيد [به] ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووهم في رفعه، فإن كان قد رجع عن رفعه فقد وفق للصواب. ثم اختلفوا؛ فقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل: يصلي التي ذكر، ثم يصلي التي صلى مع الإمام إلا أن يكون بينهما أكثر من خمس صلوات؛ على ما قدمنا ذكره عن الكوفيين. وهو مذهب جماعة من أصحاب مالك المدنيين. وذكر الخرقي عن أحمد بن حنبل أنه قال: من ذكر صلاة وهو في أخرى فإنه يتمها ويقضي المذكورة، وأعاد التي كان فيها إذا كان الوقت واسعا فإن خشي خروج الوقت وهو فيها أعتقد ألا يعيدها، وقد أجزأته ويقضي التي عليه. وقال مالك: من ذكر صلاة وهو في صلاة قد صلى منها ركعتين سلم من ركعتيه، فإن كان إماما انهدمت عليه وعلى من خلفه وبطلت. هذا هو الظاهر من مذهب مالك، وليس عند أهل النظر من أصحابه كذلك؛ لأن قوله فيمن ذكر صلاة في صلاة قد صلى منها ركعة أنه يضيف إليها أخرى ويسلم. ولو ذكرها في صلاة قد صلى منها ثلاث ركعات أضاف إليها رابعة وسلم، وصارت نافلة غير فاسدة ولو انهدمت عليه كما ذكر وبطلت لم يؤمر أن يضيف إليها أخرى، كما لو أحدث بعد ركعة لم يضف إليها أخرى.
روى مسلم عن أبي قتادة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديث الميضأة بطوله، وقال فيه ثم قال: (أمالكم في أسوة) ثم قال: (أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها) وأخرجه الدارقطني هكذا بلفظ مسلم سواء، فظاهره يقتضي إعادة المقضية مرتين عند ذكرها وحضور مثلها من الوقت الآتي؛ ويعضد هذا الظاهر ما خرجه أبو داود من حديث عمران بن حصين، وذكر القصة وقال في آخرها: (فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحا فليقض معها مثلها).
قلت وهذا ليس على ظاهره، ولا تعاد غير مرة واحدة؛ لما رواه الدارقطني عن عمران بن حصين فال: سرينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة - أو قال في سرية فلما كان وقت السحر عرسنا، فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس، فجعل الرجل منا يثب فزعا دهشا، فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا فارتحلنا، ثم سرنا حتى ارتفعت الشمس، فقضى القوم حوائجهم، ثم أمر بلالا فأذن فصلينا ركعتين، ثم أمره فأقام فصلينا الغداة؛ فقلنا: يا نبي الله ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم). وقال الخطابي: لا أعلم أحدا قال بهذا وجوبا، ويشبه أن يكون الأمر به استحبابا ليحرز فضيلة الوقت في القضاء. والصحيح ترك العمل لقول عليه السلام: (أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم) ولأن الطرق الصحاح من حديث عمران بن حصين ليس فيها من تلك الزيادة شيء، إلا ما ذكر من حديث أبي قتادة وهو محتمل كما بيناه.
قلت: ذكر الكيا الطبري في {أحكام القرآن{ له أن من السلف من خالف قوله عليه الصلاة والسلام: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) فقال: يصبر إلى مثل وقته فليصل؛ فإذا فات الصبح فليصل من الغد. وهذا قول بعيد شاذ.
الآية رقم ( 15 : 16 )
{إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى، فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى}
قوله تعالى{إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى{ آية مشكلة؛ فروي عن سعيد بن جبير أنه قرأ {أكاد أخفيها{ بفتح الهمزة؛ قال: أظهرها. {لتجزى{ أي الإظهار للجزاء؛ رواه أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وقاء بن إياس عن سعيد بن جبير وقال النحاس: وليس لهذه الرواية طريق غير هذا. قلت: وكذا رواه أبو بكر الأنباري في كتاب الرد؛ حدثني أبي حدثنا محمد بن الجهم حدثنا الفراء حدثنا الكسائي؛ ح - وحدثنا عبدالله بن ناجية، حدثنا يوسف حدثنا يحيى الحماني حدثنا محمد بن سهل. قال النحاس؛ وأجود من هذا الإسناد ما رواه يحيى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير: أنه قرأ {أكاد أخفيها{ بضم الهمزة.
قلت: وأما قراءة ابن جبير {أخفيها{ بفتح الهمزة بالإسناد المذكور فقال أبو بكر الأنباري قال الفراء معناه أظهرها من خفيت الشيء أخفيه إذا أظهرته. وأنشد الفراء لامرئ القيس:
فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
أراد لا نظهره؟ وقد قال بعض اللغويين: يجوز أن يكون {أخفيها{ بضم الهمزة معناه أظهرها لأنه يقال: خفيت الشيء وأخفيته إذا أظهرته؛ فأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار. وقال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد النحاس: وهذا حسن؛ وقد حكاه عن أبي الخطاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا يشك في صدقه؛ وقد روى عنه سيبويه وأنشد:
وإن تكتموا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
كذا رواه أبو عبيدة عن أبي الخطاب بضم النون. وقال امرؤ القيس أيضا:
خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب
أي أظهرهن. وروى{من سحاب مركب{ بدل {من عشي مجلب{. وقال أبو بكر الأنباري وتفسير للآية آخر{إن الساعة آتية أكاد{ انقطع الكلام على {أكاد{ وبعده مضمر أكاد آتي بها، والابتداء {أخفيها لتجزى كل نفس{ قال ضابئ البرجمي:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
أراد وكدت أفعل، فأضمر مع كدت فعلا كالفعل المضمر معه في القرآن.
قلت: هذا الذي أختاره النحاس؛ وزيف القول الذي قبله فقال يقال: خفي الشيء يخفيه إذا أظهره، وقد حكى أنه يقال: أخفاه أيضا إذا أظهره، وليس بالمعروف؛ قال: وقد رأيت علي ابن سليمان لما أشكل عليه معنى {أخفيها{ عدل إلى هذا القول، وقال معناه كمعنى {أخفيها{. قال النحاس: ليس المعنى على أظهر ولا سيما و{أخفيها{ قراءة شاذة، فكيف ترد القراءة الصحيحة الشائعة إلى الشاذة، والمضمر أولى؛ ويكون التقدير: إن الساعة آتية أكاد آتي بها؛ ودل {آتية{ على أتي بها؛ ثم قال{أخفيها{ على الابتداء. وهذا معنى صحيح؛ لأن الله عز وجل قد أخفى الساعة التي هي القيامة، والساعة التي يموت فيها الإنسان ليكون الإنسان يعمل، والأمر عنده مبهم فلا يؤخر التوبة.
قلت: وعلى هذا القول تكون اللام في {لتجزى{ متعلقة بـ {أخفيها{. وقال أبو عليك هذا من باب السلب وليس من باب الأضداد، ومعنى {أخفيها{ أزيل عنها خفاءها، وهو سترها كخفاء الأخفية (2) والواحد خفاء بكسر الخاء [ما تلف به] القربة، وإذا زال عنها سترها ظهرت. ومن هذا قولهم: أشكيته، أي أزلت شكواه، وأعديته أي قبلت استعداء ولم أحوجه إلى إعادته. وحكى أبو حاتم عن الأخفش: أن {كاد{ زائدة موكدة. قال: ومثله {إذا أخرج يده لم يكد يراها}النور: 40] لأن الظلمات التي ذكرها الله تعالى بعضها يحول بين الناظر والمنظور إليه. وروى معناه عن ابن جبير، والتقدير: إن الساعة آتية أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى. وقال الشاعر:
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما إن يكاد قرنه يتنفس
أراد فما يتنفس. وقال آخر:
وألا ألوم النفس فيما أصابني وألا أكاد بالذي نلت أنجح
معناه: وألا أنجح بالذي نلت؛ فأكاد توكيد للكلام. وقيل: المعنى {أكاد أخفيها{ أي أقارب ذلك؛ لأنك إذا قلت كاد زيد يقوم، جاز أن يكون قام، وأن يكون لم يقم. ودل على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه على هذا الجواب. قال اللغويون: كدت أفعل معناه عند العرب: قاربت الفعل ولم أفعل، وما كدت أفعل معناه: فعلت بعد إبطاء. وشاهده قول الله عزت عظمته {فذبحوها وما كادوا يفعلون}البقرة: 71] معناه: وفعلوا بعد إبطاء لتعذر وجدان البقرة عليهم. وقد يكون ما كدت أفعل بمعنى ما فعلت ولا قاربت إذا أكد الكلام بـ {أكاد{. وقيل: معنى {أكاد أخفيها{ أريد أخفيها. قال الأنباري: وشاهد هذا قول الفصيح من الشعر:
كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
معناه: أرادت وأردت. وقال ابن عباس وأكثر المفسرين فيما ذكر الثعلبي إن المعنى أكاد أخفيها من نفسي؛ وكذلك هو في مصحف أبي. وفي مصحف ابن مسعود: أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق. وفي بعض القراءات: فكيف أظهرها لكم. وهو محمول على أنه جاء على ما جرت به عادة العرب في كلامها، من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال: كدت أخفيه من نفسي. والله تعالى لا يخفي عليه شيء؛ قال معناه قطرب وغيره. وقال الشاعر:
أيام تصحبني هند وأخبرها ما أكتم النفس من حاجي وأسراري
فكيف يخبرها بما تكتم نفسه. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) الزمخشري وقيل معناه: أكاد أخفيها من نفسي، ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف؛ ومحذوف لا دليل عليه مطرح، والذي غرهم منه أن في مصحف أبي: أكاد أخفيها من نفسي؛ وفي بعض المصاحف أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها.
قلت: وقيل إن معنى قول من قال أكاد أخفيها من نفسي؛ أي إن إخفاءها كان من قبلي ومن عندي لا من قبل غيري. وروي عن ابن عباس أيضا: أكاد أخفيها من نفسي؛ ورواه طلحة بن عمر وعن عطاء. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا أظهر عليها أحدا. وروى عن سعيد بن جبير قال: قد أخفاها. وهذا على أن كاد زائدة. أي إن الساعة آتية أخفيها، والفائدة في إخفائها التخويف والتهويل. وقيل: تعلق {لتجزى{ بقوله تعالى: (وأقم الصلاة) فيكون في الكلام تقديم وتأخير؛ أي أقم الصلاة لتذكرني (لتجزي كل نقس بما تسعى) أي بسعيها (إن الساعة آتية أكاد أخفيها). والله أعلم. وقيل: هي متعلقة بقوله: (آتية) أي إن الساعة آتية لتجزي. {فلا يصدنك عنها{ أي لا يصرفنك عن الإيمان بها والتصديق لها {من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى{ أي فتهلك. وهو في موضع نصب بجواب النهي.
الآية رقم ( 17 : 18 )
{وما تلك بيمينك يا موسى، قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى}
قوله تعالى{وما تلك بيمينك{ قيل: كان هذا الخطاب من الله تعالى لموسى وحيا؛ لأنه قال: (فاستمع لما يوحى) ولابد للنبي في نفسه من معجزة يعلم بها صحة نبوة نفسه، فأراه في العصا وفي نفسه ما أراه لذلك. ويجوز أن يكون ما أراه في الشجرة آية كافية له في نفسه، ثم تكون اليد والعصا زيادة توكيد، وبرهانا يلقى به قومه. واختلف في {ما{ في قوله (وما تلك) فقال الزجاج والفراء: هي اسم ناقص وصلت بـ {ـيمينك{ أي ما التي بيمينك؟ وقال أيضا{تلك{ بمعنى هذه؛ ولو قال: ما ذلك لجاز؛ أي ما ذلك الشيء: ومقصود السؤال تقرير الأمر حتى يقول موسى: هي عصاي؛ ليثبت الحجة عليه بعد ما اعترف، وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل. وقال ابن الجوهري وفي بعض الآثار أن الله تعالى عتب على موسى إضافة العصا إلى نفسه في ذلك الموطن، فقيل له: ألقها لترى منها العجب فتعلم أنه لا ملك عليها ولا تنضاف إليك. وقرأ ابن أبي إسحاق {عصي{ على لغة هذيل؛ ومثله {يا بشرى{ و{محيي{ وقد تقدم. وقرأ الحسن {عصاي{ بكسر الياء لالتقاء الساكنين. ومثل هذا قراءة حمزة {وما أنتم بمصرخي}إبراهيم: 22]. وعن ابن أبي إسحاق سكون الياء.
في هذه الآية دليل على جواب السؤال بأكثر مما سئل؛ لأنه لما قال {وما تلك بيمينك يا موسى{ ذكر معاني أربعة وهي إضافة العصا إليه، وكان حقه أن يقول عصا؛ والتوكؤ؛ والهش، والمآرب المطلقة. فذكر موسى من منافع عصاه عظمها وجمهورها وأجمل سائر ذلك. وفي الحديث سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال (هو الطهور ماؤه الحل ميتته). وسألته امرأة عن الصغير حين رفعته إليه فقالت: ألهذا حج؟ قال (نعم ولك أجر). ومثله في الحديث كثير.
قوله تعالى{أتوكأ عليها{ أي أتحامل عليها في المشي والوقوف؛ ومنه الاتكاء {وأهش بها{ {وأهش{ أيضا؛ ذكره النحاس. وهي قراءة النخعي، أي أخبط بها الورق، أي أضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها، فيسهل على غنمي تناوله فتأكله. قال الراجز:
أهش بالعصا على أغنامي من ناعم الأراك والبشام
يقال: هش على غنمه يهش الهاء في المستقبل. وهش إلى الرجل يهش بالفتح وكذلك هش للمعروف يهش وهششت أنا: وفي حديث عمر: هششت يوما فقبلت وأنا صائم. قال شمر: أي فرحت واشتهيت. قال: ويجوز هاش بمعنى هش. قال الراعي
فكبر للرؤيا وهاش فؤاده وبشر نفسا كان قبل يلومها
أي طرب. والأصل في الكلمة الرخاوة. يقال رجل هش وزوج هش. وقرأ عكرمة {وأهس{ بالسين غير معجمة؛ قيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: معناهما مختلف؛ فالهش بالإعجام خبط الشجر؛ والهس بغير إعجام زجر الغنم؛ ذكره الماوردي؛ وكذلك ذكر الزمخشري. وعن عكرمة{وأهس{ بالسين أي أنحي عليها زاجرا لها والهس زجر الغنم.
قوله تعالى{ولي فيها مآرب أخرى{ أي حوائج. واحدها مأربة ومأربة ومأربة. وقال{أخرى{ على صيغة الواحد؛ لأن مآرب في معنى الجماعة، لكن المهيع في توابع جمع ما لا يعقل الإفراد والكناية عنه بذلك؛ فإن ذلك يجري مجرى الواحدة المؤنثة؛ كقوله تعالى {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}الأعراف: 180] وكقولك {يا جبال أوبي معه}سبأ: 10] وقد تقدم هذا في {الأعراف{.
تعرض قوم لتعديد منافع العصا منهم ابن عباس، قال: إذا انتهيت إلى رأس بئر فقصر الرشا وصلته بالعصا، وإذا أصابني حر الشمس غرزتها في الأرض وألقيت عليها ما يظلني، وإذا خفت شيئا من هوام الأرض قتلته بها، وإذا مشيت ألقيتها على عاتقي وعلقت عليها القوس والكنانة والمخلاة، وأقاتل بها السباع عن الغنم.
وروى عنه ميمون بن مهران قال: إمساك العصا سنة للأنبياء، وعلامة للمؤمن. وقال الحسن البصري: فيها ست خصال؛ سنة للأنبياء، وزينة الصلحاء، وسلاح على الأعداء، وعون للضعفاء، وغم المنافقين، وزيادة في الطاعات. ويقال: إذا كان مع المؤمن العصا يهرب منه الشيطان، ويخشع منه المنافق والفاجر، وتكون قبلته إذا صلى، وقوة إذا أعيا. ولقي الحجاج أعرابيا فقال: من أين أقبلت يا أعرابي؟ قال: من البادية. قال: وما في يدك؟ قال: عصاي أركزها لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي لتتسع خطوتي، وأثب بها النهر، وتؤمنني من العثر، وألقي عليها كسائي فيقيني الحر، ويدفئني من القر، وتدني إلي ما بعد مني، وهي محمل سفرتي، وعلاقة إداوتي، أعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأتقي بها عقور الكلاب؛ وتنوب عن الرمح في الطعان؛ وعن السيف عند منازلة الأقران؛ ورثتها عن أبي، وأورثها بعدي ابني، وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى، كثيرة لا تحصى.
قلت: منافع العصا كثيرة، ولها مدخل في مواضع من الشريعة: منها أنها تتخذ قبلة في الصحراء؛ وقد كان للنبي عليه الصلاة والسلام عنزة تركز له فيصلي إليها، وكان إذا خرج يوم العيد أم بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها؛ وذلك ثابت في الصحيح. والحربة والعنزة والنيزك والآلة اسم لمسمى واحد. وكان له محجن وهو عصا معوجة الطرف يشير به إلى الحجر إذا لم يستطع أن يقبله؛ ثابت في الصحيح أيضا. وفي الموطأ عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في بزوغ الفجر. وفي الصحيحين: أنه عليه الصلاة والسلام كان له مخصرة. والإجماع منعقد على أن الخطيب يخطب متوكئا على سيف أو عصا، فالعصا مأخوذة من أصل كريم، ومعدن شريف، ولا ينكرها إلا جاهل. وقد جمع الله لموسى في عصاه من البراهين العظام، والآيات الجسام، ما آمن به السحرة المعاندون. واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته. وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي صلى الله عليه وسلم وعنزته؛ وكان يخطب بالقضيب - وكفى بذلك فضلا على شرف حال العصا - وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطاء، وعادة العرب العرباء، الفصحاء اللسن البلغاء أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب. وأنكرت الشعوبية على خطباء العرب أخذ المخصرة والإشارة بها إلى المعاني. والشعوبية تبغض العرب وتفضل العجم. قال مالك: كان عطاء بن السائب يمسك المخصرة يستعين بها. قال مالك: والرجل إذا كبر لم يكن مثل الشباب يقوى بها عند قيامه.
قلت: وفي مشيته كما قال بعضهم:
قد كنت أمشي على رجلين معتمدا فصرت أمشي على أخرى من الخشب
قال مالك رحمه الله ورضي عنه: وقد كان الناس إذا جاءهم المطر خرجوا بالعصي يتوكؤون عليها، حتى لقد كان الشباب يحبسون عصيهم، وربما أخذ ربيعة العصا من بعض من يجلس إليه حتى يقوم. ومن منافع العصا ضرب الرجل نساءه بها فيما يصلحهم، ويصلح حاله وحالهم معه. ومنه قوله عليه السلام (وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه) في إحدى الروايات. وقد روي عنه عليه السلام أنه قال لرجل أوصاه: (لا ترفع عصاك عن أهلك أخفهم في الله) رواه عبادة بن الصامت؛ خرجه النسائي. ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (علق سوطك حيث يراه أهلك ) وقد تقدم هذا في {النساء{. ومن فوائدها التنبيه على الانتقال من هذه الدار؛ كما قيل لبعض الزهاد: مالك تمشي على عصا ولست بكبير ولا مريض؟ قال إني أعلم أني مسافر، وأنها دار قلعة، وأن العصا من آلة السفر؛ فأخذه بعض الشعراء فقال:
حملت العصا لا الضعف أوجب حملها علي ولا أني تحنيت من كبر
ولكنني ألزمت نفسي حملها لأعلمها أن المقيم على سفر
الآية رقم ( 19 : 23 )
{قال ألقها يا موسى، فألقاها فإذا هي حية تسعى، قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى، واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى، لنريك من آياتنا الكبرى}
قوله تعالى{قال ألقها يا موسى{ لما أراد الله تعالى أن يدربه في تلقي النبوة وتكاليفها أمره بإلقاء العصا {فألقاها{ موسى فقلب الله أوصافها وأعراضها. وكانت عصا ذات شعبتين فصارت الشعبتان لها فما وصارت حية تسعى أي تنتقل، وتمشي وتلتقم الحجارة فلما رآها موسى عليه السلام رأى عبرة فـ {ولى مدبرا ولم يعقب}النمل: 10]. فقال الله له{خذها ولا تخف{ سنعيدها سيرتها الأولى{ وذلك أنه {أوجس في نفسه خيفة}طه: 67] أي لحقه ما يلحق البشر. وروي أن موسى تناولها بكمي جبته فنهي عن ذلك، فأخذها بيده فصارت عصا كما كانت أول مرة وهى سيرتها الأولى، وإنما أظهر له هذه الآية لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون. ويقال: إن العصا بعد ذلك كانت تماشيه وتحادثه ويعلق عليها أحماله، وتضيء له الشعبتان بالليل كالشمع؛ وإذا أراد الاستقاء انقلبت الشعبتان كالدلو وإذا اشتهى ثمرة ركزها في الأرض فأثمرت تلك الثمرة. وقيل: إنها كانت من آس الجنة. وقيل: أتاه جبريل بها. وقيل: ملك. وقيل قال له شعيب: خذ عصا من ذلك البيت فوقعت بيده تلك العصا، وكانت عصا آدم عليه السلام هبط بها من الجنة. والله أعلم.
قوله تعالى{فإذا هي حية تسعى{ النحاس: ويجوز {حية{ يقال: خرجت فإذا زيد جالس وجالسا. والوقف {حيه{ بالهاء. والسعي المشي بسرعة وخفة. وعن ابن عباس: انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه يبتلع كل شيء خافه ونفر منه. وعن بعضهم: إنما خاف منه لأنه عرف ما لقي آدم منها. وقيل لما قال له ربه {لا تخف{ بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها. {سنعيدها سيرتها الأولى{ سمعت علي بن سليمان يقول: التقدير إلى سيرتها، مثل {واختار موسى قومه}الأعراف: 155] قال: ويجوز أن يكون مصدرا لأن معنى سنعيدها سنسيرها.
قوله تعالى{واضمم يدك إلى جناحك{ يجوز في غير القرآن ضم بفتح الميم وكسرها لالتقاء الساكنين، والفتح أجود لخفته، والكسر على الأصل ويجوز الضم على الإتباع ويد أصلها يدي على فعل؛ يدل على ذلك أيد وتصغيرها يدية. والجناح العضد؛ قاله مجاهد. وقال{إلى{ بمعنى تحت. قطرب{إلى جناحك{ إلى جيبك؛ ومنه قول الراجز:
أضمه للصدر والجناح
وقيل: إلى جنبك فعبر عن الجنب بالجناح لأنه مائل في محل الجناح. وقيل إلى عندك. وقال مقاتل {إلى{ بمعنى مع أي مع جناحك. {تخرج بيضاء من غير سوء{ من غير برص نورا ساطعا، يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر وأشد ضوءا. عن ابن عباس وغيره: فخرجت نورا مخالفة للونه. و{بيضاء{ نصب على الحال، ولا ينصرف لأن فيها ألفي التأنيث لا يزايلانها فكأن لزومهما علة ثانية، فلم ينصرف في النكرة، وخالفتا الهاء لأن الهاء تفارق الاسم. و{من غير سوء{ {من{ صلة {بيضاء{ كما تقول: ابيضت من غير سوء. {آية أخرى{ سوى العصا. فأخرج يده من مدرعة له مصرية لها شعاع مثل شعاع الشمس يعشي البصر. و{آية{ منصوبة على البدل من بيضاء؛ قاله الأخفش. النحاس: وهو قول حسن. وقال الزجاج: المعنى آتيناك آية أخرى أو نؤتيك؛ لأنه لما قال{تخرج بيضاء من غير سوء{ دل على أنه قد آتاه آية أخرى. {لنريك من آياتنا الكبرى{ يريد العظمى. وكان حقه أن يقول الكبيرة وإنما قال {الكبرى{ لوفاق رؤوس الآي. وقيل: فيه إضمار؛ معناه لنريك من آياتنا الآية الكبرى دليله قول ابن عباس يد موسى أكبر آياته.
الآية رقم ( 24 : 35 )
{اذهب إلى فرعون إنه طغى، قال رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيرا، ونذكرك كثيرا، إنك كنت بنا بصيرا}
قوله تعالى{اذهب إلى فرعون إنه طغى{ لما آنسه بالعصا واليد، وأراه ما يدل على أنه رسول، أمره بالذهاب إلى فرعون، وأن يدعوه. و{طغى{ معناه عصى وتكبر وكفر وتجبر وجاوز الحد. {قال رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي{ طلب الإعانة لتبليغ الرسالة. ويقال إن الله أعلمه بأنه ربط على قلب فرعون وأنه لا يؤمن؛ فقال موسى: يا رب فكيف تأمرني أن آتيه وقد ربطت على قلبه؛ فأتاه ملك من خزان الريح فقال يا موسى انطلق إلى ما أمرك الله به. فقال موسى عند ذلك{رب اشرح لي صدري{ أي وسعه ونوره بالإيمان والنبوة. {ويسر لي أمري{ أي سهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون. {واحلل عقدة من لساني{ يعني العجمة التي كانت فيه من جمرة النار التي أطفأها في فيه وهو طفل. قال ابن عباس: كانت في لسانه رتة. وذلك أنه كان في حجر فرعون ذات يوم وهو طفل فلطمه لطمة، وأخذ بلحيته فنتفها فقال فرعون لآسية: هذا عدوي فهات الذباحين. فقالت آسية: على رسلك فإنه صبي لا يفرق بين الأشياء. ثم أتت بطستين فجعلت في أحدهما جمرا وفي الآخر جوهرا فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار حتى رفع جمرة ووضعها في فيه على لسانه، فكانت الرتة وروي أن يده احترقت وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ. ولما دعاه قال إي رب تدعوني؟ قال: إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها. وعن بعضهم: إنما لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المؤاكلة. ثم اختلف هل زالت تلك الرتة؛ فقيل: زالت بدليل قوله{ قد أوتيت سؤلك يا موسى}طه: 36] وقيل: لم تزل كلها؛ بدليل قوله حكاية عن فرعون{ولا يكاد يبين}الزخرف: 52]. ولأنه لم يقل: احلل كل لساني، فدل على أنه بقي في لسانه شيء من الاستمساك. وقيل: زالت بالكلية بدليل قوله {أوتيت سؤلك}طه: 36] وإنما قال فرعون{ولا يكاد يبين}الزخرف: 52] لأنه عرف منه تلك العقدة في التربية، وما ثبت عنده أن الآفة زالت.
قلت: وهذا فيه نظر؛ لأنه لو كان ذلك لما قال فرعون{ولا يكاد يبين{ حين كلمه موسى بلسان ذلق فصيح. والله أعلم. وقيل: إن تلك العقدة حدثت بلسانه عند مناجاة ربه، حتى لا يكلم غيره إلا بإذنه. {يفقهوا قولي{ أي يعملون ما أقوله لهم ويفهموه. والفقه في كلام العرب الفهم. قال أعرابي لعيسى بن عمر: شهدت عليك بالفقه. تقول منه: فقه الرجل بالكسر. وفلان لا يفقه ولا ينقه. وأفقهتك الشيء ثم خص به الشريعة، والعالم به فقيه. وقد فقه بالضم فقاهة وفقهه الله وتفقه إذا تعاطى ذلك. وفاقهته إذا باحثته في العلم؛ قاله الجوهري. والوزير المؤازر كالأكيل للمؤاكل؛ لأنه يحمل عن السلطان وزره أي ثقله. في كتاب النسائي عن القاسم بن محمد: سمعت عمتي تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ولي منكم عملا فأراد الله به خيرا جعل له وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه). ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصمه الله) رواه البخاري. فسأل موسى الله تعالى أن يجعل له وزيرا، إلا أنه لم يرد أن يكون مقصورا على الوزارة حتى لا يكون شريكا له في النبوة، ولولا ذلك لجاز أن يستوزره من غير مسألة. وعين فقال {هارون{ وانتصب على البدل من قوله {وزيرا{. ويكون منصوبا بـ {اجعل{ على التقديم والتأخير، والتقدير: واجعل لي هارون أخي وزيرا. وكان هارون أكبر من موسى بسنة، وقيل: بثلاث. {اشدد به أزري{ أي ظهري والأزر الظهر من موضع الحقوين، ومعناه تقوى به نفسي؛ والأزر القوة وأزره قواه. ومنه قوله تعالى {فآزره فاستغلظ}الفتح: 29] وقال أبو طالب:
أليس أبونا هاشم شد أزره وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
وقيل: الأزر العون، أي يكون عونا يستقيم به أمري. قال الشاعر:
شددت به أزري وأيقنت أنه أخو الفقر من ضاقت عليه مذاهبه
وكان هارون أكثر لحما من موسى، وأتم طولا، وأبيض جسما، وأفصح لسانا. ومات قبل موسى بثلاث سنين وكان في جبهة هارون شامة، وعلى أرنبة أنف موسى شامة، وعلى طرف لسانه شامة، ولم تكن على أحد قبله ولا تكون على أحد بعده، وقيل: إنها كانت سبب العقدة التي في لسانه. والله أعلم. {وأشركه في أمري{ أي في النبوة وتبليغ الرسالة. قال المفسرون كان هارون يومئذ بمصر، فأمر الله موسى أن يأتي هو هارون، وأوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى، فتلقاه إلى مرحلة وأخبره بما أوحى إليه؛ فقال له موسى: إن الله أمرني أن آتي فرعون فسألت ربي أن يجعلك معي رسولا. وقرأ العامة {أخي اشدد{ بوصل الألف {وأشركه{ بفتح الهمزة على الدعاء، أي أشدد يا رب أزري وأشركه معي في أمري. وقرأ ابن عامر ويحيى بن الحرث وأبو حيوة والحسن وعبدالله بن أبي إسحاق {أشد{ بقطع الألف {وأشركه{ أي أنا يا رب {في أمري{. قال النحاس: جعلوا الفعلين في موضع جزم جوابا لقوله{أجعل لي وزيرا{ وهذه القراءة شاذة بعيدة؛ لأن جواب مثل هذا إنما يتخرج بمعنى الشرط والمجازاة؛ فيكون المعنى: إن تجعل لي وزيرا من أهلي أشدد به أزري، وأشركه في أمري. وأمره النبوة والرسالة، وليس هذا إليه صلى الله عليه وسلم فيخبر به، إنما سأل الله عز وجل أن يشركه معه في النبوة. وفتح الياء من {أخي{ ابن كثير وأبو عمر. {كي نسبحك كثيرا{ قيل: معنى {نسبحك{ نصلي لك. ويحتمل أن يكون التسبيح باللسان. أي ننزهك عما لا يليق بجلالك. {وكثيرا{ نعت لمصدر محذوف. ويجوز أن يكون نعتا لوقت. والإدغام حسن. وكذا {ونذكرك كثيرا{. {إنك كنت بنا بصيرا{ قال الخطابي: البصير المبصر، والبصير العالم بخفيات الأمور، فالمعنى؛ أي عالما بنا، ومدركا لنا في صغرنا فأحسنت إلينا، فأحسن إلينا كذلك يا رب.
الآية رقم ( 36 : 39 )
{قال قد أوتيت سؤلك يا موسى، ولقد مننا عليك مرة أخرى، إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى، أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني}
قوله تعالى{قال قد أوتيت سؤلك يا موسى{ لما سأله شرح الصدر، وتيسير الأمر إلى ما ذكر، أجاب سؤله، وأتاه طلبته ومرغوبه. والسؤل الطلبة؛ فعل بمعنى مفعول، كقولك خبز بمعنى مخبوز وأكل بمعنى مأكول. وقوله تعالى{ولقد مننا عليك مرة أخرى{ أي قبل هذه، وهي حفظه سبحانه له من شر الأعداء في الابتداء؛ وذلك حين الذبح. والله أعلم. والمن الإحسان والإفضال. وقوله{ذ أوحينا إلى أمك ما يوحى{ قيل{أوحينا{ ألهمنا وقيل: أوحى إليها في النوم. وقال ابن عباس: أوحى إليها كما أوحى إلى النبيين. {أن اقذفيه في التابوت{ قال مقاتل: مؤمن آل فرعون هو الذي صنع التابوت ونجره وكان اسمه حزقيل. وكان التابوت من جميز. {فاقذفيه في اليم{ أي اطرحيه في البحر: نهر النيل. {فاقذفيه{ قال الفراء{فاقذفيه في اليم{ أمر وفيه معنى المجازاة. أي اقذفيه يلقه اليم. وكذا قوله{اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم}العنكبوت: 12]. {يأخذه عدو لي وعدو له{ يعني فرعون؛ فاتخذت تابوتا، وجعلت فيه نطعا ووضعت فيه موسى، وقيرت رأسه وخصاصه يعني شقوقه ثم ألقته في النيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فساقه الله في ذلك النهر إلى دار فرعون. وروي أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا، فوضعته فيه وقيرته وجصصته، ثم ألقته في اليم. وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير، فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية، إذا بالتابوت، فأمر به فأخرج، ففتح فإذا صبي أصبح الناس، فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر القرآن يدل على أن البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه، فرأى فرعون التابوت بالساحل فأمر بأخذه. ويحتمل أن يكون إلقاء اليم بموضع من الساحل، فيه فوهة نهر فرعون، ثم أداه النهر إلى حيث البركة. والله أعلم. وقيل: وجدته ابنة فرعون وكان بها برص، فلما فتحت التابوت شفيت. وروي أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فأعياهم، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا فعالجته ففتحته، فإذا صبي نوره بين عينيه، وهو يمص إبهامه لبنا فأحبوه. وكانت لفرعون بنت برصاء، وقال له الأطباء: لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه؛ فلطخت البرصاء برصها بريقه فبرئت. وقيل: لما نظرت إلى وجهه برئت. والله أعلم. وقيل: وجدته جوار لامرأة فرعون، فلما نظر إليه فرعون فرأى صبيا من أصبح الناس وجها، فأحبه فرعون. فذلك قوله تعالى{وألقيت عليك محبة مني{ قال ابن عباس: أحبه الله وحببه إلى خلقه. وقال ابن عطية: جعل عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه. وقال قتادة: كانت في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه. وقال عكرمة: المعنى جعلت في حسنا وملاحة فلا يراك أحد إلا أحبك. وقال الطبري: المعنى ألقيت عليك رحمتي. وقال ابن زيد: جعلت من رآك أحبك حتى أحبك فرعون فسلمت من شره، وأحبتك آسية بنت مزاحم فتبنتك. {ولتصنع على عيني{ قال ابن عباس: يريد أن ذلك بعيني حيث جعلت في التابوت، وحيث ألقي التابوت في البحر، وحيث التقطك جواري امرأة فرعون؛ فأردن أن يفتحن التابوت لينظرن ما فيه، فقالت منهن واحدة: لا تفتحنه حتى تأتين به سيدتكن فهو أحظى لكن عندها، وأجدر بألا تتهمكن بأنكن وجدتن فيه شيئا فأخذتموه لأنفسكن. وكانت امرأة فرعون لا تشرب من الماء إلا ما استقينه أولئك الجواري فذهبن بالتابوت إليها مغلقا، فلما فتحته رأت صبيا لم ير مثله قط؛ وألقي عليها محبته فأخذته فدخلت به على فرعون، فقالت له: [القصص: 9] {قرة عين لي ولك{ قال لها فرعون: أما لك فنعم، وأما لي فلا. فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن فرعون قال نعم هو قرة عين لي ولك لآمن وصدق) فقالت: هبه لي ولا تقتله؛ فوهبه لها. وقيل{ولتصنع على عيني{ أي تربى وتغذى على مرأى مني؛ قاله قتادة. قال النحاس: وذلك معروف في اللغة؛ يقال: صنعت الفرس وأصنعت إذا أحسنت القيام عليه. والمعنى {ولتصنع على عيني{ فعلت ذلك. وقيل: اللام متعلقة بما بعدها من قوله{إذ تمشي أختك{ على التقديم والتأخير فـ {إذ{ ظرف {لتصنع{. وقيل: الواو في {ولتصنع{ زائدة. وقرأ ابن القعقاع {ولتصنع{ بإسكان اللام على الأمر، وظاهره للمخاطب والمأمور غائب. وقرأ أبو نهيك {ولتصنع{ بفتح التاء. والمعنى ولتكون حركتك وتصرفك بمشيئي وعلى عين مني. ذكره المهدوي.
الآية رقم ( 40 : 41 )
{إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى، واصطنعتك لنفسي}
قوله تعالى{إذ تمشي أختك{ العامل في {إذ تمشي{ {ألقيت{ أو {تصنع{. ويجوز أن يكون بدلا من {إذ أوحينا{ وأخته اسمها مريم {فتقول هل أدلكم على من يكفله{ وذلك أنها خرجت متعرفة خبره، وكان موسى لما وهبه فرعون من امرأته طلبت له المراضع، كان لا يأخذ من أحد حتى أقبلت أخته، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها فمصه وفرح به. فقالوا لها: تقيمين عندنا؛ فقالت: إنه لا لبن لي ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون. قالوا: ومن هي؟. قالت: أمي. فقالوا: لها لبن؟ قالت: لبن أخي هارون. وكان هارون أكبر من موسى بسنة. وقيل بثلاث. وقيل بأربع. وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل فرفع عنهم القتل أربع سنين، فولد هارون فيها؛ قال ابن عباس: فجاءت الأم فقبل ثديها. فذلك قوله تعالى{فرجعناك إلى أمك{ وفي مصحف أبي {فرددناك{ {كي تقر عينها ولا تحزن{ وروى عبدالحميد عن ابن عامر {كي تَقِر عينها{ بكسر القاف. قال الجوهري: وقررت به عينا وقررت به قرة وقرورا فيهما. رجل قرير العين؛ وقد قرت عينه تقر وتقر نقيض سخنت. وأقر الله عينه أي أعطاه حتى تقر فلا تطمح إلى من هو فوقه، ويقال: حتى تبرد ولا تسخن. وللسرور دمعة باردة، وللحزن دمعة حارة. وقد تقدم هذا المعنى في {مريم{. {ولا تحزن{ أي على فقدك. {وقتلت نفسا{ قال ابن عباس: قتل قبطيا كافرا. قال كعب: وكان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة. في صحيح مسلم: وكان قتله خطأ؛ على ما يأتي. {فنجيناك من الغم{ أي آمناك من الخوف والقتل والحبس. {وفتناك فتونا{ أي اختبرناك اختبارا حتى صلحت للرسالة، وقال قتادة: بلوناك بلاء. مجاهد: أخلصنا إخلاصا. وقال ابن عباس: اختبرناك بأشياء قبل الرسالة، أولها حملته أمه في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم إلقاؤه في اليم، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره بلحية فرعون، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، فدرأ ذلك عنه قتل فرعون، ثم قتله القبطي وخروجه خائفا يترقب، ثم رعايته الغنم ليتدرب بها على رعاية الخلق. فيقال: إنه ند له من الغنم جدي فاتبعه أكثر النهار، وأتعبه، ثم أخذه فقبله وضمه إلى صدره، وقال له أتعبتني وأتعبت نفسك؛ ولم يغضب عليه. قال وهب بن منبه: ولهذا اتخذه الله كليما. وقد مضى في {النساء{.
قوله تعالى{فلبثت سنين في أهل مدين{ يريد عشر سنين أتم الأجلين. وقال وهب: لبث عند شعيب ثماني وعشرين سنة، منها عشرة مهر امرأته صفورا ابنة شعيب، وثماني عشرة أقامها عنده حتى ولد له عنده. وقوله{ثم جئت على قدر يا موسى{ قال ابن عباس وقتادة وعبدالرحمن بن كيسان: يريد موافقا للنبوة والرسالة؛ لأن الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة. وقال مجاهد ومقاتل{على قدر{ على وعد. وقال محمد بن كعب: ثم جئت على القدر الذي قدرت لك أنك تجيء فيه. والمعنى واحد. أي جئت الوقت الذي أردنا إرسالك فيه. وقال الشاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر
قوله تعالى{واصطنعتك لنفسي{ قال ابن عباس: أي اصطفيتك لوحي ورسالتي. وقيل{اصطنعتك{ خلقتك؛ مأخوذ من الصنعة. وقيل قويتك وعلمتك لتبلغ عبادي أمري ونهي.
الآية رقم ( 42 : 44 )
{اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري، اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}
قوله تعالى{اذهب أنت وأخوك بآياتي{ قال ابن عباس يريد التسع الآيات التي أنزلت عليه. {ولا تنيا في ذكري{ قال ابن عباس: تضعفا أي في أمر الرسالة؛ وقاله قتادة. وقيل: تفترا. قال الشاعر:
فما ونى محمد مذ أن غفر له الإله ما مضى وما غبر
والونى الضعف والفتور، والكلال والإعياء. وقال امرؤ القيس:
مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن غبارا بالكديد المركل
ويقال: ونيت في الأمر أني ونى ونيا أي ضعفت فأنا وان وناقة وانية وأونيتها أنا أضعفتها وأتعبتها: وفلان لا يني كذا، أي لا يزال، وبه فسر أبان معنى الآية واستشهد بقول طرفة:
كأن القدور الراسيات أمامهم قباب بنوها لا تني أبدا تغلي
وعن ابن عباس أيضا: لا تبطئا. وفي قراءة ابن مسعود {ولا تهنا في ذكري{ وتحميدي وتمجيدي وتبليغ رسالتي.
قوله تعالى{اذهبا{ قال في أول الآية{اذهب أنت وأخوك بآياتي{ وقال هناك {اذهبا{ فقيل أمر الله تعالى موسى وهارون في هذه الآية بالنفوذ إلى دعوة فرعون، وخاطب أولا موسى وحده تشريفا له؛ ثم كرر للتأكيد. وقيل بين بهذا أنه لا يكفي ذهاب أحدهما. وقيل: الأول أمر بالذهاب إلى كل الناس، والثاني بالذهاب إلى فرعون.
قوله تعالى{فقولا له قولا لينا{ دليل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة، وضمنت له العصمة، ألا تراه قال{فقولا له قولا لينا{ وقال{لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى}طه: 46] فكيف بنا فنحن أولى بذلك. وحينئذ يحصل الآمر والناهي على مرغوبه، ويظفر بمطلوبه؛ وهذا واضح.
واختلف الناس في معنى قوله (لينا) فقالت فرقة منهم الكلبي وعكرمة: معناه كنياه؛ وقاله ابن عباس ومجاهد والسدي. ثم قيل: وكنيته أبو العباس. وقيل: أبو الوليد. وقيل: أبو مرة؛ فعلى هذا القول تكنية الكافر جائزة إذا كان وجيها ذا شرف وطمع بإسلامه. وقد يجوز ذلك وإن لم يطمع بإسلامه، لأن الطمع ليس بحقيقة توجب عملا. وقد قال صلى الله عليه وسلم (إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه) ولم يقل وإن طمعتم في إسلامه، ومن الإكرام دعاؤه بالكنية. وقد قال صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية: (أنزل أبا وهب) فكناه. وقال لسعد: (ألم تسمع ما يقول أبو حباب) يعني عبدالله بن أبي. وروي في الإسرائيليات أن موسى عليه السلام قام على باب فرعون سنة، لا يجد رسولا يبلغ كلاما حتى خرج. فجرى له ما قضى الله من ذلك، وكان ذلك تسلية لمن جاء بعده من المؤمنين في سيرتهم مع الظالمين، وربك أعلم بالمهتدين. وقيل قال له موسى تؤمن بما جئت به، وتعبد رب العالمين؛ على أن لك شبابا لا يهرم إلى الموت، وملكا لا ينزع منك إلى الموت، وينسأ في أجلك أربعمائة سنة، فإذا مت دخلت الجنة. فهذا القول اللين. وقال ابن مسعود: القول اللين قوله تعالى {فقل هل لك إلى أن تزكى. وأهديك إلى ربك فتخشى}النازعات: 18 - 19]. وقد قيل أن القول اللين قول موسى: يا فرعون إنا رسولا ربك رب العالمين. فسماه بهذا الاسم لأنه أحب إليه مما سواه مما قيل له، كما يسمى عندنا الملك ونحوه.
قلت: القول اللين هو القول الذي لا خشونة فيه؛ يقال: لان الشيء يلين لينا؛ وشيء لين ولين مخفف منه؛ والجمع أليناء. فإذا كان موسى أمر بأن يقول لفرعون قولا لينا، فمن دونه أحرى بأن يقتدى بذلك في خطابه، وأمره بالمعروف في كلامه. وقد قال تعالى {وقولوا للناس حسنا}البقرة: 83]. على ما تقدم في {البقرة{ بيانه والحمد لله.
قوله تعالى{لعله يتذكر أو يخشى{ معناه: على رجائكما وطمعكما؛ فالتوقع فيها إنما هو راجع إلى جهة البشر؛ قال كبراء النحويين: سيبويه وغيره. وقد تقدم. قال الزجاج{لعل{ لفظة طمع وترج فخاطبهم بما يعقلون. وقيل {لعل{ ها هنا بمعنى الاستفهام، والمعنى فانظر هل يتذكر. وقيل: هل يتذكر. وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن قول هارون لموسى لعله يتذكر أو يخشى؛ قاله الحسن. وقيل: إن لعل وعسى في جميع القرآن لما قد وقع. وقد تذكر فرعون حين أدركه الغرق وخشي فقال{آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين}يونس: 90] ولكن لم ينفعه ذلك؛ قاله أبو بكر الوراق وغيره وقال يحيي بن معاذ في هذه الآية: هذا رفقك بمن يقول أنا الإله فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله؟ !. وقد قيل: إن فرعون ركن إلى قول موسى لما دعاه، وشاور امرأته فآمنت وأشارت عليه بالإيمان، فشاور هامان فقال: لا تفعل؛ بعد أن كنت مالكا تصير مملوكا، وبعد أن كنت ربا تصير مربوبا. وقال له: أنا أردك شابا فخضب لحيته بالسواد فهو أول من خضب.
الآية رقم ( 45 )
{قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى}
قوله تعالى{قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى{ قال الضحاك{يفرط{ يعجل. قال: و{يطغى{ يعتدي. النحاس: التقدير نخاف أن يفرط علينا منه أمر، قال الفراء: فرط منه أمر أي بدر؛ قال: وأفرط أسرف. قال: وفرط وقراءة الجمهور {يفرط{ بفتح الياء وضم الراء، ومعناه يعجل ويبادر بعقوبتنا. يقال: فرط أمر أي بدر؛ ومنه الفارط في الماء الذي يتقدم القوم إلى الماء. أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب وهو المتقدم فيه؛ قاله المبرد. وقرأت فرقة منهم ابن محيصن {يفرط{ بفتح الياء والراء؛ قال المهدوي: ولعلها لغة. وعنه أيضا بضم الياء وفتح الراء ومعناها أن يحمله حامل التسرع إلينا. وقرأت طائفة {يفرط{ بضم الياء وكسر الراء؛ وبها قرأ ابن عباس ومجاهد عكرمة وابن محيصن أيضا. ومعناه يشطط في أذيننا؛ قال الراجز:
قد أفرط العلج علينا وعجل
الآية رقم ( 46 )
{قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى}
قال العلماء: لما لحقهما ما يلحق البشر من الخوف على أنفسهما عرفهما الله سبحانه أن فرعون لا يصل إليهما ولا قومه. وهذه الآية ترد على من قال: إنه لا يخاف؛ والخوف من الأعداء سنة الله في أنبيائه وأوليائه مع معرفتهم به وثقتهم. ولقد أحسن البصري رحمه الله حين قال للمخبر عن عامر بن عبدالله - أنه نزل مع أصحابه في طريق الشام على ماء، فحال الأسد بينهم وبين الماء، فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته، فقيل له: فقد خاطرت بنفسك. فقال: لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلي من أن يعلم الله أني أخاف شيئا سواه - قد خاف من كان خيرا من عامر؛ موسى صلى الله عليه وسلم حين قال له{إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين}القصص: 20 - 21] وقال{فأصبح في المدينة خائفا يترقب}القصص: 18] وقال حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم{فأوجس في نفسه خيفة موسى. قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى}طه: 67 - 68].
قلت ومنه حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق حول المدينة تحصينا للمسلمين وأموالهم، مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحدا؛ ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم، مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة؛ تخوفا على أنفسهم من مشركي مكة؛ وهربا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم. وقد قالت أسماء بنت عميس لعمر لما قال لها سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم كذبت يا عمر، كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار - أو أرض - البعداء البغضاء في الحبشة؛ وذلك في الله ورسوله؛ وايم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نؤذي ونخاف. الحديث بطوله خرجه مسلم. قال العلماء: فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله نفوس بني آدم [عليه] كاذب؛ وقد طبعهم على الهرب مما يضرها ويؤلمها أو يتلفها. قالوا: ولا ضار أضر من سبع عاد في فلاة من الأرض على من لا آلة معه يدفعه بها عن نفسه، من سيف أو رمح أو نبل أو قوس وما أشبه ذلك.
قوله تعالى{إنني معكما{ يريد بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون. وهذا كما تقول: الأمير مع فلان إذا أردت أنه يحميه. وقول{أسمع وأرى{ عبارة عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية، تبارك الله رب العالمين.
الآية رقم ( 47 : 48 )
{فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى، إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى}
قوله تعالى{فأتياه فقولا إنا رسولا ربك{ في الكلام حذف، والمعنى: فأتياه فقالا له ذلك. {فأرسل معنا بني إسرائيل{ أي خل عنهم. {ولا تعذبهم{ أي بالسخرة والتعب في العمل، وكانت بنو إسرائيل عند فرعون في عذاب شديد؛ يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ويكلفهم من العمل في الطين واللبن وبناء المدائن مالا يطيقونه. {قد جئناك بآية من ربك{ قال ابن عباس: يريد العصا واليد. وقيل: إن فرعون قال له: وما هي؟ فأدخل يده في جيب قميصه، ثم أخرجها بيضاء لها شعاع مثل شعاع الشمس، غلب نورها على نور الشمس فعجب منها ولم يره العصا إلا يوم الزينة. {والسلام على من اتبع الهدى{ قال الزجاج: أي من اتبع الهدى سلم من سخط الله عز وجل وعذابه. قال: وليس بتحية، والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب. الفراء: السلام على من اتبع الهدى ولمن اتبع الهدى سواء. {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب{ يعني الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في جهنم في الآخرة. {على من كذب{ أنبياء الله {وتولى{ أعرض عن الإيمان. وقال ابن عباس: هذه أرجى آية للموحدين لأنهم لم يكذبوا ولم يتولوا.
الآية رقم ( 49 : 50 )
{قال فمن ربكما يا موسى، قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}
قوله تعالى{قال فمن ربكما يا موسى{ ذكر فرعون موسى دون هارون لرؤوس الآي. وقيل: خصصه بالذكر لأنه صاحب الرسالة والكلام والآية. وقيل إنهما جميعا بلغا الرسالة وإن كان ساكتا؛ لأنه في وقت الكلام إنما يتكلم واحد، فإذا انقطع وازره الآخر وأيده. فصار لنا في هذا البناء فائدة علم؛ أن الاثنين إذا قلدا أمرا فقام به أحدهما، والآخر شخصه هناك موجود مستغنى عنه في وقت دون وقت أنهما أديا الأمر الذي قلدا وقاما به واستوجبا الثواب؛ لأن الله تعالى قال{أذهبا إلى فرعون{ وقال{اذهب أنت وأخوك{ وقال{فقولا له{ فأمرهما جميعا بالذهاب وبالقول، ثم أعلمنا في وقت الخطاب بقوله{فمن ربكما{ أنه كان حاضرا مع موسى. {قال{ موسى{ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه{ أي أنه يعرف بصفاته، وليس له اسم علم حتى يقال فلان بل هو خالق العالم، والذي خص كل مخلوق بهيئة وصورة، ولو كان الخطاب معهما لقالا: قالا ربنا {وخلقه{ أول مفعولي أعطى، أي أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، أو ثانيهما أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به؛ على قول الضحاك على ما يأتي. {ثم هدى{ قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي: أعطى كل شيء زوجه من جنسه، ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه، وعن ابن عباس ثم هداه إلى الألفة والاجتماع والمناكحة. وقال الحسن وقتادة: أعطى كل شيء صلاحه، وهداه لما يصلحه. وقال مجاهد: أعطى كل شيء صورة؛ ويجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا. وقال الشاعر:
وله في كل شيء خلقه وكذاك الله ما شاء فعل
يعني بالخلقة الصورة؛ وهو قول عطية ومقتل. وقال الضحاك أعطى كل شيء خلقه من المنفعة النوطة به المطابقة له. يعني اليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع. وقيل: أعطى كل شيء ما ألهمه من علم أو صناعة. وقال الفراء: خلق الرجل للمرأة ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث ثم هدى الذكر للأنثى. فالتقدير على هذا أعطى كل شيء مثل خلقه.
قلت وهذا معنى قول ابن عباس. الآية بعمومها تتناول جميع الأقوال. وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ {الذي أعطى كل شيء خلقه{ بفتح اللام؛ وهي قراءة ابن إسحاق. ورواها نصير عن الكسائي وغيره؛ أي أعطى بني آدم كل شيء خلقه مما يحتاجون إليه. فالقراءتان متفقتان في المعنى.
الآية رقم ( 51 : 52 )
{قال فما بال القرون الأولى، قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى}
قوله تعالى{قال فما بال{ البال الحال؛ أي وما حالها وما شأنها، فأعلمه أن علمها عند الله تعالى، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوبة عند الله في اللوح المحفوظ. وقيل: المعنى فما بال القرون الأولى لم يقروا بذلك. أي فما بالهم ذهبوا وقد عبدوا غير ربك. وقيل: إنما سأل عن أعمال القرون الأولى فأعلمه أنها محصاة عند الله تعالى، ومحفوظة عنده في كتاب. أي هي مكتوبة فسيجازيهم غدا بها وعليها. وعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. وقيل: هو كتاب مع بعض الملائكة.
هذه الآية ونظائرها مما تقدم ويأتي تدل على تدوين العلوم وكتبها لئلا تنسى. فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان. وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع فيقيده لئلا يذهب عنه. وروينا بالإسناد المتصل عن قتادة أنه قيل له: أنكتب ما نسمع منك؟ قال: وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب؛ فقال{علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى{. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي). وأسند الخطيب أبو بكر عن أبي هريرة قال: (كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمع منه الحديث ويعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أسمع منك الحديث يعجبني ولا أحفظه؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (استعن بيمينك) وأومأ إلى الخط وهذا نص. وعلى جواز كتب العلم وتدوينه جمهور الصحابة والتابعين؛ وقد أمر صلى الله عليه وسلم بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج لأبي شاه - رجل من اليمن - لما سأله كتبها. أخرجه مسلم. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قيدوا العلم بالكتابة). وقال معاوية بن قرة: من لم يكتب العلم لم يعد علمه علما. وقد ذهب قوم إلى المنع من الكتب؛ فروى أبو نصرة قال قيل لأبي سعيد: أنكتب حديثكم هذا؟ قال: لم تجعلونه قرآنا؟ ولكن احفظوا كما حفظنا. وممن كان لا يكتب الشعبي ويونس بن عبيد وخالد الحذاء - قال خالد ما كتبت شيئا قط إلا حديثا واحدا، فلما حفظته محوته - وابن عون والزهري. وقد كان بعضهم يكتب فإذا حفظ محاه؛ منهم محمد بن سيرين وعاصم بن ضمرة. وقال هشام بن حسان: ما كتبت حديثا قط إلا حديث الأعماق فلما حفظته محوته.
قلت: وقد ذكرنا عن خالد الحذاء مثل هذا. وحديث الأعماق خرجه مسلم في آخر الكتاب: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق - أو - بدابق) الحديث ذكره في كتاب الفتن. وكان بعضهم يحفظ ثم يكتب ما يحفظ منهم الأعمش وعبدالله بن أدريس وهشيم وغيرهم. وهذا احتياط على الحفظ. والكتب أولى على الجملة، وبه وردت الآي والأحاديث؛ وهو مروي عن عمر وعلي وجابر وأنس رضي الله عنهم، ومن يليهم من كبراء التابعين كالحسن وعطاء وطاوس وعروة بن الزبير، ومن بعدهم من أهل العلم؛ قال الله تعالى {وكتبنا له في الألواح من كل شيء}الأعراف: 145]. وقال تعالى{ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}الأنبياء: 105]. وقال تعالى{واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة}الأعراف: 156] الآية. وقال تعالى{وكل شيء فعلوه في الزبر. وكل صغير وكبير مستطر}القمر: 52 - 53]. {قال علمها عند ربي في كتاب{ إلى غير هذا من الآي. وأيضا فإن العلم لا يضبط إلا بالكتاب، ثم بالمقابلة والمدارسة والتعهد والتحفظ والمذاكرة والسؤال والفحص عن الناقلين والثقة بما نقلوا، وإنما كره الكتب من كره من الصدر الأول لقرب العهد، وتقارب الإسناد لئلا يعتمده الكاتب فيهمله، أو يرغب عن حفظه والعمل به؛ فأما والوقت متباعد، والإسناد غير متقارب، والطرق مختلفة، والنقلة متشابهون، وآفة النسيان معترضة، والوهم غير مأمون؛ فإن تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى، والدليل على وجوبه أقوى؛ فإن احتج محتج بحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تكتبوا عني ومن كتب غير القرآن فليمحه) خرجه مسلم؛ فالجواب أن ذلك كان متقدما؛ فهو منسوخ بأمره بالكتاب، وإباحتها لأبي شاه وغيره. وأيضا كان ذلك لئلا يخلط بالقرآن ما ليس منه. وكذا ما روي عن أبي سعيد أيضا - حرصنا أن يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فأبى - إن كان محفوظا فهو قبل الهجرة، وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن.
قال أبو بكر الخطيب: ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد؛ ثم الحبر خاصة دون المداد لأن السواد أصبغ الألوان، والحبر أبقاها على مر الدهور. وهو آلة ذوي العلم، وعدة أهل المعرفة. ذكر عبدالله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال: رآني الشافعي وأنا في مجلسه وعلى قميصي حبر وأنا أخفيه؛ فقال لم تخفيه وتستره؟ إن الحبر على الثوب من المروءة لأن صورته في الأبصار سواد، وفي البصائر بياض. وقال خالد بن زيد: الحبر في ثوب صاحب الحديث مثل الخلوق في ثوب العروس. وأخذ هذا أبو عبدالله البلوى فقال:
مداد المحابر طيب الرجال وطيب النساء من الزعفران
فهذا يليق بأثواب ذا وهذا يليق بثوب الحصان
وذكر الماوردي أن عبدالله بن سليمان حكى؛ رأى على بعض ثيابه أثر صفرة؛ فأخذ من مداد الدواة وطلاه به، ثم قال: المداد بنا أحسن من الزعفران؛ وأنشد:
إنما الزعفران عطر العذارى ومداد الدوي عطر الرجال
قوله تعالى{لا يضل ربي ولا ينسى{ اختلف في معناه على أقوال خمسة: الأول: إنه ابتداء كلام، تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين وقد كان الكلام تم في قوله{في كتاب{. وكذا قال الزجاج، وأن معنى {لا يضل{ لا يهلك من قوله{أئذا ضللنا في الأرض}السجدة: 10]. {ولا ينسى{ شيئا؛ نزهه عن الهلاك والنسيان. القول الثاني {لا يضل{ لا يخطئ؛ قاله ابن عباس؛ أي لا يخطئ في التدبير، فمن أنظره فلحكمة أنظره، ومن عاجله فلحكمة عاجله. القول الثالث {لا يضل{ لا يغيب. قال ابن الأعرابي: أصل الضلال الغيبوبة؛ يقال: ضل الناسي إذا غاب عنه حفظ الشيء. قال: ومعنى {لا يضل ربي ولا ينسى{ أي لا يغيب عنه شيء ولا يغيب عن شيء. القول الرابع: قاله الزجاج أيضا وقال النحاس أشبهها بالمعنى - أخبر الله عز وجل أنه لا يحتاج إلى كتاب؛ والمعنى لا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا معرفتها، ولا ينسى ما علمه منها.
قلت: وهذا القول راجع إلى معنى قول ابن الأعرابي. وقول خامس: إن {لا يضل ربي ولا ينس{ في موضع الصفة لـ {كتاب{ أي الكتاب غير ضال عن الله عز وجل؛ أي غير ذاهب عنه.
{ولا ينسى{ أي غير ناس له فهما نعتان لـ {كتاب{. وعلى هذا يكون الكلام متصلا، ولا يوقف على {كتاب{. تقول العرب. ضلني الشيء إذا لم أجده، وأضللته أنا إذا تركته في موضع فلم تجده فيه. وقرأ الحسن وقتادة وعيسى بن عمر وابن محيصن وعاصم الجحدري وابن كثير فيما روى شبل عنه {لا يضل{ بضم الياء على معنى لا يضيعه ربي ولا ينساه. قال ابن عرفة: الضلالة عند العرب سلوك سبيل غير القصد؛ يقال: ضل عن الطريق، وأضل الشيء إذا أضاعه. ومنه قرأ من قرأ {لا يضل ربي{ أي لا يضيع؛ هذا مذهب العرب.
الآية رقم ( 53 : 55 )
{الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى، كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى، منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى}
قوله تعالى{الذي جعل لكم الأرض مهادا{ {الذي{ في موضع نعت {لربي{ أي لا يضل ربي الذي جعل ويجوز أن يكون خبر ابتداء مضمر أي هو {الذي{. ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعني. وقرأ الكوفيون {مهدا{ هنا وفي {الزخرف{ بفتح الميم وإسكان الهاء. الباقون {مهادا{ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لاتفاقهم على قراءة {ألم نجعل الأرض مهادا}النبأ: 6]. النحاس: والجمع أولى لأن {مهدا{ مصدر وليس هذا موضع مصدر إلا على حذف؛ أي ذات مهد. المهدوي: ومن قرأ {مهدا{ جاز أن يكون مصدرا كالفرش أي مهد لكم الأرض مهدا، وجاز أن يكون على تقدير حذف المضاف؛ أي ذات مهد. ومن قرأ {مهادا{ جاز أن يكون مفردا كالفراش. وجاز أن يكون جمع {مهد{ استعمل استعمال الأسماء فكسر. ومعنى {مهادا{ أي فراشا وقرارا تستقرون عليها. {وسلك لكم فيها سبلا{ أي طرقا. نظيره{ والله جعل لكم الأرض بساطا. لتسلكوا منها سبلا فجاجا}نوح: 19 - 20]. وقال تعالى{الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون}الزخرف: 10] {وأنزل من السماء ماء{ وهذا آخر كلام موسى، ثم قال الله تعالى{فأخرجنا به{ وقيل: كله من كلام موسى. والمعنى {فأخرجنا به{ أي بالحرث والمعالجة؛ لأن الماء المنزل سبب خروج النبات. ومعنى {أزواجا{ ضروبا وأشباها، أي أصنافا من النبات المختلفة الأزواج والألوان. وقال الأخفش التقدير أزواجا شتى من نبات. قال: وقد يكون النبات شتى؛ فـ {شتى{ يجوز أن يكون نعتا لأزواج، ويجوز أن يكون نعتا للنبات. و{شتى{ مأخوذ من شت الشيء أي تفرق. يقال: أم شت أي متفرق. وشت الأمر شتا وشتاتا تفرق؛ واستشت مثله. وكذلك التشتت. وشتته تشتيتا فرقه. وأشت بي قومي أي فرقوا أمري. والشتيت المتفرق. قال رؤبة يصف إبلا:
جاءت معا واطرقت شتيتا وهي تثير الساطع السختيتا
وثغر شتيت أي مفلج. وقوم شتى، وأشياء شتى، وتقول: جاؤوا أشتاتا؛ أي متفرقين؛ واحدهم شت؛ قاله الجوهري.
قوله تعالى{كلوا وارعوا أنعامكم{ أمر إباحة. {وارعوا{ من رعت الماشية الكلأ، ورعاها صاحبها رعاية؛ أي أسامها وسحرها؛ لازم ومتعد. {إن في ذلك لآيات لأولي النهى{ أي العقول. الواحدة نهية. قال لهم ذلك؛ لأنهم الذين ينتهى إلى رأيهم. وقيل: لأنهم ينهون النفس عن القبائح. وهذا كله من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جوابا لقوله {فمن ربكما يا موسى{. وبين أنه إنما يستدل على الصانع اليوم بأفعاله.
قوله تعالى{منها خلقناكم{ يعني آدم عليه السلام لأنه خلق من الأرض؛ قاله أبو إسحاق الزجاج وغيره. وقيل: كل نطفة مخلوقة من التراب؛ على هذا يدل ظاهر القرآن. وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود وقد ذر عليه من تراب حفرته) أخرجه أبو نعيم الحافظ في باب ابن سيرين، وقال: هذا حديث غريب من حديث عون لم نكتبه إلا من حديث أبي عاصم النبيل، وهو أحد الثقات الأعلام من البصرة. وقد مضى. عن ابن مسعود. وقال عطاء الخراساني: إذا وقعت النطفة الرحم انطلق الملك الموكل بالرحم فأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه على النطفة فيخلق الله النسمة من النطفة ومن التراب؛ فذلك قوله تعالى {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى{. وفي حديث البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن العبد المؤمن إذا خرجت روحه صعدت به الملائكة فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا فيستفتحون لها فيستفتحون فيفتح فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل {اكتبوا لعبدي كتابا في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى{ فتعاد روحه في جسده) وذكر الحديث. وقد ذكرناه بتمامه في كتاب {التذكرة{ وري من حديث علي رضي الله عنه؛ ذكره الثعلبي. ومعنى {وفيها نعيدكم{ أي بعد الموت {ومنها نخرجكم{ أي للبعث والحساب. {تارة أخرى{ يرجع هذا إلى قوله{منها خلقناكم{ لا إلى {نعيدكم{. وهو كقولك اشتريت ناقة ودارا وناقة أخرى ؛ فالمعنى: من الأرض أخرجناكم ونخرجكم بعد الموت من الأرض تارة أخرى.
الآية رقم ( 56 : 58 )
{ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى، قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى، فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى}
قوله تعالى{ولقد أريناه آياتنا كلها{ أي المعجزات الدالة على نبوة موسى وقيل حجج الله الدالة على توحيده {فكذب وأبى{ أي لم يؤمن وهذا يدل على أنه كفر عنادا لأنه رأى الآيات عيانا لا خبرا نظيره {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا}النمل: 14].
{قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى{ لما رأى الآيات التي أتاه بها موسى قال: إنها سحر؛ والمعنى: جئت لتوهم الناس أنك جئت بآية توجب اتباعك والإيمان بك، حتى تغلب على أرضنا وعلينا. {فلنأتينك بسحر مثله{ أي لنعارضنك بمثل ما جئت به ليتبين للناس أن ما أتيت به ليس من عند الله. {فاجعل بيننا وبينك موعدا{ هو مصدر؛ أي وعدا. وقيل: الموعد اسم لمكان الوعد؛ كما قال تعالى{وإن جهنم لموعدهم أجمعين}الحجر: 43] فالموعد ها هنا مكان. وقيل: الموعد اسم لزمان الوعد؛ كقوله تعالى{إن موعدهم الصبح}هود: 81] فالمعنى: اجعل لنا يوما معلوما، أو مكانا معروفا. قال القشيري: والأظهر أنه مصدر ولهذا قال{لا نخلفه نحن ولا أنت{ أي لا نخلف ذلك الوعد، والإخلاف أن يعد شيئا ولا ينجزه. وقال الجوهري والميعاد المواعدة والوقت والموضع وكذلك الموعد. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج {لا نخلفه{ بالجزم جوابا لقوله {اجعل{ ومن رفع فهو نعت لـ {موعد{ والتقدير. موعدا غير مخلف. {مكانا سوى{ قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة {سوى{ بضم السين. الباقون بكسرها؛ وهما لغتان مثل عدا وعدا وطوى وطوى. واختار أبو عبيد وأبو حاتم كسر السين لأنها اللغة العالية الفصيحة. وقال النحاس والكسر أعرف وأشهر. وكلهم نونوا الواو، وقد روي عن الحسن، واختلف عنه ضم السين بغير تنوين. واختلف في معناه فقيل: سوى هذا المكان؛ قال الكلبي. وقيل مكانا مستويا يتبين للناس ما بينا فيه؛ قال ابن زيد. ابن عباس: نصفا. مجاهد: منصفا؛ وعنه أيضا وقتادة عدلا بيننا بينك. قال النحاس: وأهل التفسير على أن معنى {سوى{ نصف وعدل وهو قول حسن؛ قال سيبويه يقال: سوى وسوى أي عدل؛ يعني مكانا عدل؛ بين المكانين فيه النصفة؛ وأصله من قولك: جلس في سواء الدار بالمد أي في وسطها؛ ووسط كل شيء أعدله؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم{وكذلك جعلناكم أمة وسطا}البقرة: 143] أي عدلا، وقال زهير:
أرونا خطة لا ضيم فيها يسوي بيننا فيها السواء
وقال أبو عبيدة والقتبي: وسطا بين الفريقين؛ وأنشد أبو عبيدة لموسى بن جابر الحنفي
وإن أبانا كان حل ببلدة سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
والفزر: سعد بن زيد مناة بن تميم. وقال الأخفش{سوى{ إذا كان بمعنى غير أو بمعنى العدل يكون فيه ثلاث لغات: إن ضممت السين أو كسرت قصرت فيهما جميعا. وإن فتحت مددت، تقول: مكان سوى وسوى وسواء؛ أي عدل ووسط فيما بين الفريقين. قال موسى بن جابر:
وجدنا أبانا كان حل ببلدة
البيت. وقيل{مكانا سوى{ أي قصدا؛ وأنشد صاحب هذا القول:
لو تمنت حبيبتي ما عدتني أو تمنيت ما عدوت سواها
وتقول: مررت برجل سواك وسواك وسوائك أي غيرك. وهما في هذا الأمر سواء وإن شئت سواءان. وهم سواء للجمع وهم أسواء؛ وهم سواسية مثل ثمانية على غير قياس. وانتصب {مكانا{ على المفعول الثاني لـ {جعل{. ولا يحسن انتصابه بالموعد على أنه مفعول أو ظرف له؛ لأن الموعد قد وصف، والأسماء التي تعمل عمل الأفعال إذا وصفت أو صغرت لم يسغ أن تعمل لخروجها عن شبه الفعل، ولم يحسن حمله على أنه ظرف وقع موقع المفعول الثاني؛ لأن الموعد إذا وقع بعده ظرف لم تجره العرب مجرى المصادر مع الظروف، لكنهم يتسعون فيه كقوله تعالى{إن موعدهم الصبح}هود: 81]
الآية رقم ( 59 : 61 )
{قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى، فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى، قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى}
قوله تعالى{قال موعدكم يوم الزينة{ واختلف في يوم الزينة، فقيل هو يوم عيد كان لهم يتزينون ويجتمعون فيه؛ قاله قتادة والسدي وغيرهما. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: كان يوم عاشوراء. وقال سعيد بن المسيب: يوم سوق كان لهم يتزينون فيها؛ وقاله قتادة أيضا. وقال الضحاك: يوم السبت. وقيل: يوم النيروز؛ ذكره الثعلبي. وقيل: يوم يكسر فيه الخليج؛ وذلك أنهم كانوا يخرجون فيه يتفرجون ويتنزهون؛ وعند ذلك تأمن الديار المصرية من قبل النيل. وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفي والسلمي وهبيرة عن حفص {يوم الزينة{ بالنصب. ورويت عن أبي عمرو؛ أي في يوم الزينة إنجاز موعدنا. الباقون بالرفع على أنه خبر الابتداء. {وأن يحشر الناس ضحى{ أي وجمع الناس؛ فـ {أن{ في موضع رفع على قراءة {يوم{ بالرفع. وعطف {وأن يحشر{ يقوي قراءة الرفع؛ لأن {أن{ لا تكون ظرفا، وإن كان المصدر الصريح يكون ظرفا كمقدم الحاج؛ لأن من قال أتيك مقدم الحاج لم يقل آتيك أن يقدم الحاج. النحاس: وأولى هذا أن يكون في موضع خفض عطفا على الزينة. والضحا مؤنثة تصغرها العرب بغير هاء لئلا يشبه تصغيرها ضحوة؛ قاله النحاس. وقال الجوهري: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس، ثم بعده الضحا وهي حين تشرق الشمس؛ مقصورة تؤنث وتذكر؛ فمن أنث ذهب إلى أنها جمع ضحوة؛ ومن ذكر ذهب إلى أنه اسم على فعل مثل صرد ونغر؛ وهو ظرف غير متمكن مثل سحر؛ تقول: لقيته ضحا؛ وضحا إذ أردت به ضحا يومك لم تنونه، ثم بعده الضحاء ممدود مذكر، وهو عند ارتفاع النهار الأعلى. وخص الضحا لأنه أول النهار، فلو امتد الأمر فيما بينهم كان في النهار متسع. وروي عن ابن مسعود والجحدري وغيرهما {وأن يحشر الناس ضحا{ على معنى وأن يحشر الله الناس ونحوه. وعن بعض القراء {وأن تحشر الناس{ والمعنى وأن تحشر أنت يا فرعون الناس وعن الجحدري أيضا {وأن نحشر{ بالنون وإنما واعدهم ذلك اليوم؛ ليكون علو كلمة الله، وظهور دينه، وكبت الكافر، وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد، وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في الحق، ويكل حد المبطلين وأشياعهم، يكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جمع أهل الوبر والمدر.
قوله تعالى{فتولى فرعون فجمع كيده{ أي حيله وسحره؛ والمراد جمع السحرة. قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرا، مع كل ساحر منهم حبال وعصي. وقيل: كانوا أربعمائة. وقيل: كانوا اثني عشر ألفا. وقيل: أربعة عشرا ألفا. وقال ابن المنكدر: كانوا ثمانين ألفا. وقيل: كانوا مجمعين على رئيس يقال له شمعون. وقيل: كان اسمه يوحنا معه اثنا عشر نقيبا، مع كل نقيب عشرون عريفا، مع كل عريف ألف ساحر. وقيل كانوا ثلثمائة ألف ساحر من الفيوم، وثلثمائة ألف ساحر من الصعيد، وثلثمائة ألف ساحر من الريف، فصاروا تسعمائة ألف وكان رئيسهم أعمى. {ثم أتى{ أي أتى الميعاد. {قال لهم موسى{ أي قال لفرعون والسحرة {ويلكم{ دعاء عليهم بالويل. وهو بمعنى المصدر. وقال أبو إسحاق الزجاج: هو منصوب بمعنى الزمهم الله ويلا. قال: ويجوز أن يكون نداء كقوله تعالى {يا ويلنا من بعثنا}يس: 52] {لا تفتروا على الله كذبا{ أي لا تختلقوا عليه الكذب، ولا تشركوا به، ولا تقولوا للمعجزات إنها سحر. {فيسحتكم بعذاب{ من عنده أي يستأصلكم بالإهلاك يقال فيه: سحت وأسحت بمعنى. وأصله من استقصاء الشعر. وقرأ الكوفيون {فيسحتكم{ من أسحت، الباقون {فيسحتكم{ من سحت وهذه لغة أهل الحجاز و[الأولى لغة] بن تميم. وانتصب على جواب النهي. وقال الفرزدق.
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف
الزمخشري: وهذا بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه. {وقد خاب من افترى{ أي خسر وهلك، وخاب من الرحمة والثواب من ادعى على الله ما لم يأذن به.
الآية رقم ( 62 : 64 )
{فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى، قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى، فأجمعوا كيدكم ثم أتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى}
قوله تعالى{فتنازعوا أمرهم بينهم{ أي تشاوروا؛ يريد السحرة. {وأسروا النجوى{ قال قتادة {قالوا{ إن كان ما جاء به سحرا فسنغلبه، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر؛ وهذا الذي أسروه. وقيل الذي أسروا قولهم {إن هذان لساحران{ الآية قاله السدي ومقاتل. وقيل الذي أسروا قولهم: إن غلبنا اتبعناه؛ قال الكلبي؛ دليله من ظهر من عاقبة أمرهم. وقيل: كان سرهم أن قالوا حين قال لهم موسى {ويلكم لا تفتروا على الله كذبا}طه: 61]: ما هذا بقول ساحر. و{النجوى{ المنجاة يكون اسما ومصدرا؛ وقد تقدم.
قوله تعالى{إن هذان لساحران{ قرأ أبو عمرو {إن هذين لساحران{. ورويت عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة؛ وكذلك قرأ الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغيرهم من التابعين؛ ومن القراء عيسى بن عمر وعاصم الجحدري؛ فيما ذكر النحاس. وهذه القراءة موافقة للإعراب مخالفة للمصحف. وقرأ الزهري والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه {إن هذان{ بتخفيف {إن{ { لساحران{ وابن كثير يشدد نون {هذان{. وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراب، ويكون معناها ما هذان إلا ساحران. وقرأ المدنيون والكوفيون {إن هذان{ بتشديد {إن{ { لساحران{ فوافقوا المصحف وخالفوا الإعراب. قال النحاس فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة عن الأئمة، وروي عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ {إن هذان إلا ساحران{ وقال الكسائي في قراءة عبدالله{إن هذان ساحران{ بغير لام؛ وقال الفراء في حرف أبي {إن هذان إلا ساحران{ فهذه ثلاث قراءات أخرى تحمل على التفسير لا أنها جائز أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف.
قلت: وللعلماء في قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال ذكرها ابن الأنباري في آخر كتاب الرد له، والنحاس في إعرابه، والمهدوي في تفسيره، وغيرهم أدخل كلام بعضهم في بعض. وقد خطأها قوم حتى قال أبو عمرو: إني لأستحي من الله أن اقرأ {إنَّ هذان { وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن قوله تعالى {لكن الراسخون في العلم{ ثم قال{والمقيمين{ وفي {المائدة{ {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون}المائدة: 69] و{إن هذان لساحران{ فقالت: يا ابن أختي! هذا خطأ من الكاتب. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: في المصحف لحن وستقيمه العرب بألسنتهم. وقال أبان بن عثمان: قرأت هذه الآية عند أبي عثمان بن عفان، فقال لحن وخطأ؛ فقال له قائل: ألا تغيروه؟ فقال: دعوه فإنه لا يحرم حلالا ولا يحلل حرما. القول الأول من الأقوال الستة أنها لغة بني الحرث بن كعب وزبيد وخثعم وكنانة بن زيد يجعلون رفع الاثنين ونصبه وخفضه بالألف؛ يقولون: جاء الزيدان ورأيت الزيدان ومررت بالزيدان، ومنه قوله تعالى{ولا أدراكم به}يونس: 16] على ما تقدم. وأنشد الفراء لرجل من بني أسد - قال: وما رأيت أفصح منه:
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى مساغا لناباه الشجاع لصما
ويقولونك كسرت يداه وركبت علاه؛ يديه وعليه؛ قال شاعرهم:
تزود منا بين أذناه ضربة دعته إلى هابي التراب عقيم
وقال آخر:
طاروا علاهن فطر علاها
أي عليهن وعليها.
وقال آخر:
إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها
أي إن أبا أبيها وغايتها. قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول من أحسن ما خملت عليه الآية؛ إذ كانت هذه اللغة معروفة، وقد حكاها من يرتضي علمه وأمانته؛ منهم أبو زيد الأنصاري وهو الذي يقول: إذا قال سيبويه حدثني من أثق به فإنما يعنيني؛ وأبو الخطاب الأخفش وهو رئيس من رؤساء اللغة، والكسائي والفراء كلهم قالوا هذا على لغة بني الحرث بن كعب. وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أن هذه لغة بني كنانة. المهدوي: وحكى غيره أنها لغة لخثعم. قال النحاس ومن أبين ما في هذا قول سيبويه: وأعلم أنك إذا ثنيت الواحد زدت عليه زائدتين، الأولى منهما حرف مد ولين وهو حرف الإعراب؛ قال أبو جعفر فقول سيبويه: وهو حرف الإعراب، يوجب أن الأصل ألا يتغير، فيكون {إن هذان{ جاء على أصله ليعلم ذلك، وقد قال تعالى {استحوذ عليهم الشيطان}المجادلة: 19] ولم يقل استحاذ؛ فجاء هذا ليدل على الأصل، وكذلك {إن هذان{ ولا يفكر في إنكار من أنكر هذه اللغة إذا كان الأئمة قد رووها. القول الثاني أن يكون {إن{ بمعنى نعم؛ كما حكى الكسائي عن عاصم قال: العرب تأتي بـ {إن{ بمعنى نعم، وحكى سيبويه أن {إن{ تأتي بمعنى أجل، وإلى هذا القول كان محمد بن يزيد وإسماعيل بن إسحاق القاضي يذهبان؛ قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق الزجاج وعلي بن سليمان يذهبان إليه. الزمخشري: وقد أعجب به أبو إسحاق. النحاس: وحدثنا علي بن سليمان، قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن عبدالسلام النيسابوري، ثم لقيت عبدالله بن أحمد (3) فحدثني، قال حدثني عمير بن المتوكل، قال حدثنا محمد بن موسى النوفلي من ولد حرث بن عبدالمطلب، قال حدثنا عمر بن جميع الكوفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي - وهو ابن الحسين - عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين، قال: لا أحصي كم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على منبره{إن الحمد لله نحمده ونستعينه{ ثم يقول{أنا أفصح قريش كلها وأفصحها بعدي أبان بن سعيد بن العاص{ قال أبو محمد الخفاف قال عمير: إعرابه عند أهل العربية والنحو {إن الحمد لله{ بالنصب إلا أن العرب تجعل {إن{ في معنى نعم كأنه أراد صلى الله عليه وسلم؛ نعم الحمد لله؛ وذلك أن خطباء الجاهلية كانت تفتتح خطبها بنعم. وقال الشاعر في معنى نعم:
قالوا غدرت فقلت إن وربما نال العلا وشفى الغليل الغادر
وقال عبدالله بن قيس الرقيات
بكر العواذل في الصبا ح يلمنني وألومنه
ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه
فعلى هذا جائز أن يكون قول الله عز وجل{إن هذان ساحران{ بمعنى نعم ولا تنصب. قال النحاس: أنشدني داود بن الهيثم، قال أنشدني ثعلبك
ليت شعري هل للمحب شفاء من جوى حبهن إن اللقاء
قال النحاس: وهذا قول حسن إلا أن فيه شيئا لأنه إنما يقال: نعم زيد خارج، ولا تكاد تقع اللام ها هنا، وإن كان النحويون قد تكلموا في ذلك فقالوا اللام ينوي بها التقديم؛ كما قال:
خالي لأنت ومن جرير خاله ينل العلاء ويكرم الأخوالا
آخر:
أم الحليس لعجوز شهربه ترضى من الشاة بعظم الرقبه
أي لخالي ولأم الحليس؛ وقال الزجاج: والمعنى في الآية إن هذان لهما ساحران ثم حذف المبتدأ. المهدوي: وأنكره أبو علي وأبو الفتح بن جني. قال أبو الفتح{هما{ المحذوف لم يحذف إلا بعد أن عرف، وإذا كان معروفا فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام، ويقبح أن تحذف المؤكد وتترك المؤكد. القول الثالث قال الفراء أيضا: وجدت الألف دعامة ليست بلام الفعل فزدت عليها نونا ولم أغيرها كما قلت{الذي{ ثم زدت عليه نونا فقلت: جاءني الذين عندك، ورأيت الذين عندك، ومررت بالذين عندك القول الرابع قاله بعض الكوفيين قال الألف في {هذان{ مشبهة بالألف في يفعلان فلم تغير. القول الخامس: قال أبو إسحاق النحويون القدماء يقولون الهاء ها هنا مضمرة، والمعنى إنه هذان لساحران؛ قال ابن الأنباري: فأضمرت الهاء التي هي منصوب {إن{ و{هذان{ خبر {إن{ و{ساحران{ يرفعها {هما{ المضمر (4) إنه هذان لهما ساحران. والأشبه عند أصحاب أهل هذا الجواب أن الهاء اسم {إن{ و{هذان{ رفع بالابتداء وما بعده خبر الابتداء. القول السادس قال أبو جعفر النحاس وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية، فقال: إن شئت أجبتك بجواب النحويين، وإن شئت أجبتك بقولي؛ فقلت بقولك؛ فقال: سألني إسماعيل بن إسحاق عنها فقلت: القول عندي أنه لما كان يقال {هذا{ في موضع الرفع والنصب والخفض على حال واحدة، وكانت التثنية يجب ألا يغير لها الواحد أجريت التثنية مجرى الواحدة؛ فقال ما أحسن هذا لو تقدمك أحد بالقول به حتى يؤنس به؛ قال ابن كيسان: فقلت له: فيقول القاضي به حتى يؤنس به؛ فتبسم.
قوله تعالى{يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى{ هذا من قول فرعون للسحرة؛ أي غرضهما إفساد دينكم الذي أنتم عليه؛ كما قال فرعون {إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد}غافر: 26]. ويقال فلان حسن الطريقة أي حسن المذهب. وقيل: طريقة القوم أفضل القول؛ وهذا الذي ينبغي أن يسلكوا طريقته ويقتدوا به؛ فالمعنى: ويذهبا بسادتكم ورؤسائكم؛ استمالة لهم. أو يذهبا ببني إسرائيل وهم الأماثل وإن كانوا خولا لكم لما يرجعون إليه من الانتساب إلى الأنبياء. أيذهبا بأهل طريقتكم فحذف المضاف. و{المثلى{ تأنيث الأمثل؛ كما يقال الأفضل والفضلى. وأنث الطريقة على اللفظ، وإن كان يراد بها الرجال. ويجوز أن يكون التأنيث على الجماعة. وقال الكسائي{بطريقتكم{ بسنتكم وسمتكم. و{المثلى{ نعت كقولك امرأة كبرى. تقول العرب: فلان على الطريقة المثلى يعنون على الهدى المستقيم.
قوله تعالى{فأجمعوا كيدكم{ الإجماع الإحكام والعزم على الشيء. تقول: أجمعت الخروج وعلى الخروج أي عزمت. وقراءة كل الأمصار {فأجمعوا{ إلا أبا عمرو فإنه قرأ {فاجمعوا{ بالوصل وفتح الميم. واحتج بقوله{فجمع كيده ثم أتى{. قال النحاس وفيما حكي لي عن محمد بن يزيد أنه قال: يجب على أبي عمرو أن يقرأ بخلاف قراءته هذه، وهي القراءة التي عليها أكثر الناس. قال: لأنه احتج بـ {جمع{ وقوله عز وجل{فجمع كيده{ قد ثبت هذا فيبعد أن يكون بعده {فاجمعوا{ ويقرب أن يكون بعده {فأجمعوا{ أي اعزموا وجدوا؛ ولما تقدم ذلك وجب أن يكون هذا بخلاف معناه يقال: أمر مجمع ومجمع عليه. قال النحاس: ويصحح قراءة أبي عمرو {فاجمعوا{ أي اجمعوا كل كيد لكم وكل حيلة فضموه مع أخيه. وقاله أبو إسحاق. الثعلبي: القراءة بقطع الألف وكسر الميم لها وجهان: أحدهما: بمعنى الجمع، تقول: أجمعت الشيء جمعته بمعنى واحد، وفي الصحاح: وأجمعت الشيء جعلته جميعا؛ قال أبو ذؤيب يصف حمرا:
فكأنها بالجزع بين نبايع وأولات ذي العرجاء نهب مجمع
أي مجموع. والثاني: أنه بمعنى العزم والإحكام؛ قال الشاعر:
يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع
أي محكم. {ثم ائتوا صفا{ قال مقاتل والكلبي: جميعا. وقيل: صفوفا ليكون أشد لهيبتكم وهو منصوب بوقوع الفعل عليه على قول أبي عبيدة؛ قال يقال: أتيت الصف يعني المصلى؛ فالمعنى عنده ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه يوم العيد. وحكي عن بعض فصحاء العرب: ما قدرت أن آتي الصف؛ يعني المصلى. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى ثم ائتوا والناس مصطفون؛ فيكون على هذا مصدرا في موضع الحال. ولذلك لم يجمع. وقرئ {ثم ايتوا{ بكسر الميم وياء. ومن ترك الهمزة أبدل من الهمزة ألفا. {وقد أفلح اليوم من استعلى{ أي من غلب. وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض. وقيل: من قول فرعون لهم.
{قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى، قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى}
قوله تعالى{قالوا يا موسى{ يريد السحرة. {إما أن تلقي{ عصاك من يدك {وإما أن نكون أول من ألقى{ تأدبوا مع موسى فكان ذلك سبب إيمانهم. {قال بل ألقوا فإذا حبالهم{ في الكلام حذف، أي فألقوا؛ دل عليه المعنى. وقرأ الحسن {وعصيهم{ بضم العين. قال هارون القارئ: لغة بني تميم {وعصيتم{ وبها يأخذ الحسن. الباقون بالكسر اتباعا لكسرة الصاد. ونحوه دلي وقسي وقسي. {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى{ وقرأ ابن عباس وأبو حيوة وابن ذكوان وروح عن يعقوب {تخيل{ بالتاء؛ وردوه إلى العصي والحبال إذ هي مؤنثة. وذلك أنهم لطخوا العصي بالزئبق، فلما أصابها حر الشمس ارتهشت واهتزت. قال الكلبي: خيل إلى موسى أن الأرض حيات وأنها تسعى على بطنها. وقرئ {تخيل{ بمعنى تتخيل وطريقه طريق {تخيل{ ومن قرأ {يخيل{ بالياء رده إلى الكيد. وقرئ {نخيل{ بالنون على أن الله هو المخيل للمحنة والابتلاء. وقيل: الفاعل {أنها تسعى{ فـ {أن{ في موضع رفع؛ أي يخيل إليه سعيها؛ قال الزجاج. وزعم الفراء أن موضعها موضع نصب؛ أي بأنها ثم حذف الباء. والمعنى في الوجه الأول: تشبه إليه من سحرهم وكيدهم حتى ظن أنها تسعى. وقال الزجاج ومن قرأ بالتاء جعل {أن{ في موضع نصب أي تخيل إليه ذات سعي، قال: ويجوز أن تكون في موضع رفع بدلا من الضمير في {تخيل{ وهو عائد على الحبال والعصي، والبدل فيه بدل اشتمال. و{تسعى{ معناه تمشي.
الآية رقم ( 67 : 68 )
{فأوجس في نفسه خيفة موسى، قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى}
قوله تعالى{فأوجس في نفسه خيفة موسى{ أي أضمر. وقيل: وجد. وقيل: أحس. أي من الحيات وذلك على ما يعرض من طباع البشر على ما تقدم. وقيل: خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه. وقيل: خاف حين أبطأ عليه الوحي بإلقاء العصا أن يفترق الناس قبل ذلك فيفتتنوا. وقال بعض أهل الحقائق: إن كان السبب أن موسى عليه السلام لما التقى بالسحرة وقال لهم{ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب{ التفت فإذا جبريل على يمينه فقال له يا موسى ترفق بأولياء الله. فقال موسى: يا جبريل هؤلاء سحرة جاؤوا بسحر عظيم ليبطلوا المعجزة، وينصروا دين فرعون، ويردوا دين الله، تقول: ترفق بأولياء الله! فقال جبريل: هم من الساعة إلى صلاة العصر عندك، وبعد صلاة العصر في الجنة. فلما قال له ذلك، أوجس موسى وخطر أن ما يدريني ما علم الله في، فلعلي أكون الآن في حالة، وعلم الله في على خلافها كما كان هؤلاء. فلما علم الله ما في قلبه أوحى الله إليه {لا تخف إنك أنت الأعلى{ أي الغالب في الدنيا، وفي الدرجات العلا في الجنة؛ للنبوة والاصطفاء الذي آتاك الله به. وأصل {خيفة{ خوفة الواو ياء لانكسار الخاء.
الآية رقم ( 69 )
{وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى}
قوله تعالى{وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا{ ولم يقل وألق عصاك، فجائز أن يكون تصغيرا لها؛ أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك، فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وجائز أن يكون تعظيما لها أي لا تحفل بهذه الأجرام الكثيرة الكبيرة فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عندها؛ فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها. و{تلقف{ بالجزم جواب الأمر؛ كأنه قال: إن تلقه تتلقف؛ أي تأخذ وتبتلع. وقرأ السلمي وحفص {تلقف{ ساكنة اللام من لقف يلقف لقفا. وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة الشامي ويحيى بن الحرث {تلقف{ بحذف التاء ورفع الفاء، على معنى فإنها تتلقف. والخطاب لموسى. وقيل: للعصا. واللقف الأخذ بسرعة، يقال: لقفت الشيء {بالكسر{ ألقفه لقفا، وتلقفته أيضا أي تناولته بسرعة. عن يعقوب: يقال رجل لقف ثقف أي خفيف حاذف. واللقف {بالتحريك{ سقوط الحائط. ولقد لقف الحوض لقفا أي تهور من أسفله وأتسع. وتلقف وتلقم وتلهم بمعنى. لقمت اللقمة {بالكسر{ لقما، وتلقمتها إذا ابتلعتها في مهلة وكذلك لهمه {بالكسر{ إذا ابتلعه. {ما صنعوا{ أي الذي صنعوه. وكذا {إنما صنعوا{ أي إن الذي صنعوه {كيد سحر{ بالرفع {سِحْر{ بكسر السين وإسكان الحاء؛ وهى قراءة الكوفيين إلا عاصما. وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون الكيد مضافا إلى السحر على الأتباع من غير تقدير حذف. والثاني: أن يكون في الكلام حذف أي كيد ذي سحر. وقرأ الباقون {كيد{ بالنصب بوقوع الصنع عليه و{ما{ كافة ولا تضمر هاء {ساحر{ بالإضافة. والكيد في الحقيقة على هذه القراءة مضاف للساحر لا للسحر. ويجوز فتح {أن{ على معنى لأن ما صنعوا كيد ساحر. {ولا يفلح الساحر حيث أتى{ أي لا يفوز ولا ينجو حيث أتى من الأرض. وقيل: حيث احتال. وقد تقدم.
الآية رقم ( 70 : 71 )
{فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى، قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى}
قوله تعالى{فألقي السحرة سجدا{ لما رأوا من عظيم الأمر وخرق العادة في العصا؛ فإنها ابتلعت جميع ما احتالوا به من الحبال والعصي؛ وكانت حمل ثلثمائة بعير ثم عادت عصا لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصي إلا الله تعالى. {قالوا آمنا برب هارون وموسى{ أي به؛ يقال: آمن له وآمن به؛ ومنه {فآمن له لوط}العنكبوت: 26] وفي الأعراف. {قال آمنتم له قبل أن آذن لكم{ إنكار منه عليهم؛ أي تعديتم وفعلتم ما لم آمركم به. {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر{ أي رئيسكم في التعليم، وإنما غلبكم لأنه أحذق به منكم. وإنما أراد فرعون بقول هذا ليشبه على الناس حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم، وإلا فقد علم فرعون أنهم لم يتعلموا من موسى، بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولادته. {فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل{ أي على جذوع النخل. قال سويد بن أبي كاهل:
هم صلبوا العبدي في جذع نخلة فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
فقطع وصلب حتى ماتوا رحمهم الله تعالى. وقرأ ابن محيصن هنا وفي الأعراف {فلأقطعن{ {ولأصلبنكم{ بفتح الألف والتخفيف من قطع وصلب. {ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى{ يعني أنا أم رب موسى.
الآية رقم ( 72 : 73 )
{قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى}
قوله تعالى{قالوا{ يعني السحرة {لن نؤثرك{ أي لن نختارك {على ما جاءنا من البينات{ قال ابن عباس: يريد من اليقين والعلم. وقال عكرمة وغيره: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة؛ فلهذا قالوا {لن نؤثرك{. وكانت امرأة فرعون تسأل من غلب، فقيل لها: غلب موسى وهارون؛ فقالت: آمنت برب موسى وهارون. فأرسل إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة فإن مضت على فولها فألقوها عليها؛ فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت منزلها في الجنة، فمضت على قولها فانتزع روحها، وألقيت الصخرة على جسدها وليس في جسدها روح. وقيل: قال مقدم السحرة لمن يثق به لما رأى من عصا موسى ما رأى: انظر إلى هذه الحية هل تخوفت فتكون جنيا أو لم تتخوف فهي من صنعة الصانع الذي لا يعزب عليه مصنوع؛ فقال: ما تخوفت؛ فقال: آمنت برب هارون وموسى. {والذي فطرنا{ قيل: هو معطوف على {ما جاءنا من البينات{ أي لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات ولا على الذي فطرنا أي خلقنا. وقيل: هو قسم أي والله لن نؤثرك. {فاقض ما أنت قاض{ التقدير ما أنت قاضيه. وليست {ما{ ها هنا التي تكون مع الفعل بمنزلة المصدر؛ لأن تلك توصل بالأفعال، وهذه موصولة بابتداء وخبر. قال ابن عباس: فاصنع ما أنت صانع. وقيل: فاحكم ما أنت حاكم؛ أي من القطع والصلب. وحذفت الياء من قاض الوصل لسكونها وسكون التنوين. واختار سيبويه إثباتها في الوقف لأنه قد زالت علة الساكنين. {إنما تقضي هذه الحياة الدنيا{ أي إنما ينفذ أمرك فيها. وهي منصوبة على الظرف، والمعنى: إنما تقضي في متاع هذه الحياة الدنيا. أو وقت هذه الحياة الدنيا، فتقدر حذف المفعول. ويجوز أن يكون التقدير: إنما تقضي أمور هذه الحياة الدنيا، فتنتصب انتصاب المفعول و{ما{ كافة لإن. وأجاز الفراء الرفع على أن تجعل {ما{ بمعنى الذي وتحذف الهاء من تقضي ورفعت {هذه الحياة الدنيا{. {إنا آمنا بربنا{ أي صدقنا بالله وحده لا شريك له وما جاءنا به موسى. {ليغفر لنا خطايانا{ يريدون الشرك الذي كانوا عليه. {وما أكرهتنا عليه من السحر{ {ما{ في موضع نصب معطوفة على الخطايا. وقيل: لا موضع لها وهى نافية؛ أي ليغفر لنا خطايانا من السحر وما أكرهتنا عليه. النحاس: والأول أولى. المهدوي: وفيه بعد؛ لقولهم{إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين{ وليس هذا بقول مكرهين؛ ولأن الإكراه ليس بذنب، وإن كان يجوز أن يكونوا أكرهوا على تعليمه صغارا. قال الحسن: كانوا يعلمون السحر أطفالا ثم عملوه مختارين بعد. ويجوز أن يكون {ما{ في موضع رفع بالابتداء ويضمر الخبر، والتقدير: وما أكرهتنا عليه من السحر موضوع عنا. و{من السحر{ على هذا القول والقول الأول يتعلق بـ {أكرهتنا{. وعلى أن {ما{ نافية يتعلق بـ {خطايانا{. {والله خير وأبقى{ أي ثوابه خير وأبقى فحذف المضاف؛ قاله ابن عباس. وقيل: الله خير لنا منك وأبقى عذابا لنا من عذابك لنا. وهو جواب قوله {ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى{ وقيل: الله خير لنا إن أطعناه، وأبقى عذابا منك إن عصيناه.
الآية رقم ( 74 : 76 )
{إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى، ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى، جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى}
قوله تعالى{إنه من يأت ربه مجرما{ قيل هو من قول السحرة لما آمنوا. وقيل ابتداء كلام من الله عز وجل. والكناية في {إنه{ ترجع إلى الأمر والشأن. ويجوز إن من يأت، ومنه قول الشاعر:
إن من يدخل الكنيسة يوما يلق فيها جآذرا وظباء
أراد إنه من يدخل؛ أي أن الأمر هذا؛ أن المجرم يدخل النار، والمؤمن يدخل الجنة. والمجرم الكافر. وقيل: الذي يقترف المعاصي ويكتسبها. والأول أشبه؛ لقوله{فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا{ وهذه صفة الكافر المكذب الجاحد - على ما تقدم بيانه في سورة {النساء{ وغيرها - فلا ينتفع بحياته ولا يستريح بموته. قال الشاعر:
ألا من لنفس لا تموت فينقضي شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
وقيل: نفس الكافر معلقة في حنجرته أخبر الله تعالى عنه فلا يموت بفراقها، ولا يحيا باستقرارها. ومعنى {من يأت ربه مجرما{ من يأت موعد ربه. ومعنى {ومن يأته مؤمنا{ أي يمت عليه ويوافيه مصدقا به. {قد عمل{ أي وقد عمل {الصالحات{ أي الطاعات وما أمر به ونهى عنه. {فأولئك لهم الدرجات العلا{ أي الرفيعة التي قصرت دونها الصفات. ودل قوله{ومن يأته مؤمنا{ على أن المراد بالمجرم المشرك.
قوله تعالى{جنات عدن{ بيان للدرجات وبدل منها، والعدن الإقامة. {تجري من تحتها{ أي من تحت غرفها وسررها {الأنهار{ من الخمر والعسل واللبن والماء. {خالدين فيها{ أي ماكثين دائمين. {وذلك جزاء من تزكى{ أي من تطهر من الكفر والمعاصي. ومن قال هذا من قول السحرة قال: لعل السحرة سمعوه من موسى أو من بني إسرائيل إذ كان فيهم بمصر أقوام، وكان فيهم أيضا المؤمن من آل فرعون.
قلت: ويحتمل أن يكون ذلك إلهاما من الله لهم أنطقهم بذلك لما آمنوا؛ والله أعلم.
الآية رقم ( 77 : 79 )
{ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى، فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم، وأضل فرعون قومه وما هدى}
قوله تعالى{ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي{ تقدم. {فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا
أي يابسا لا طين فيه ولا ماء. {لا تخاف دركا ولا تخشى{ أي لحاقا من فرعون وجنوده. {ولا تخشى{ قال ابن جريج قال أصحاب موسى: هذا فرعون قد أدركنا، وهذا البحر قد غشينا، فأنزل الله تعالى {لا تخاف دركا ولا تخشى{ أي لا تخاف دركا من فرعون ولا تخشى غرقا من البحر أن يمسك إن غشيك. وقرأ حمزة {لا تخف{ على أنه جواب الأمر. التقدير إن تضرب لهم طريقا في البحر لا تخف. و{لا تخشى{ مستأنف على تقدير: ولا أنت تخشى. أو يكون مجزوما والألف مشبعة من فتحة؛ كقوله{فأضلونا السبيلا}الأحزاب: 67] أو يكون على حد قول الشاعر:
كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
على تقدير حذف الحركة كما تحذف حركة الصحيح. وهذا مذهب الفراء. وقال آخر:
هجوت زبان ثم جئت معتذرا من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
وقال آخر
ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد
قال النحاس: وهذا من أقبح الغلط أن يحمل كتاب الله عز وجل على الشذوذ من الشعر؛ وأيضا فإن الذي جاء به من الشعر لا يشبه من الآية شيئا؛ لأن الياء والواو مخالفتان للألف؛ لأنهما تتحركان والألف لا تتحرك، وللشاعر إذا اضطر أن يقدرهما متحركتين ثم تحذف الحركة للجزم، وهذا محال في الألف؛ والقراءة الأولى أبين لأن بعده {ولا تخشى{ مجمع عليه بلا جزم؛ وفيها ثلاث تقديرات: الأول أن يكون {لا تخاف{ في موضع الحال من المخاطب، التقدير فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا غير خائف ولا خاش. الثاني: أن يكون في موضع النعت للطريق؛ لأنه معطوف على يبس الذي هو صفة، ويكون التقدير لا تخاف فيه؛ فحذف الراجع من الصفة. والثالث: أن يكون منقطعا خبر ابتداء محذوف تقديره وأنت لا تخاف
قوله تعالى{فأتبعهم فرعون بجنوده{ أي اتبعهم ومعه جنوده، وقرئ {فاتَّبعهم{ بالتشديد فتكون الباء في {بجنوده{ عدت الفعل إلى المفعول الثاني؛ لأن اتبع يتعدى إلى مفعول واحد. أي تبعهم ليلحقهم بجنوده أي مع جنوده كما يقال: ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه. ومن قطع {فأتبع{ يتعدى إلى مفعولين: فيجوز أن تكون الباء زائدة، ويجوز أن يكون اقتصر على مفعول واحد. يقال: تبعه وأتبعه ولحقه وألحقه بمعنى واحد. وقوله{بجنوده{ في موضع الحال؛ كأنه قال: فأتبعهم سائقا جنوده. {فغشيهم من اليم ما غشيهم{ أي أصابهم من البحر ما غرقهم، وكرر على معنى التعظيم والمعرفة بالأمر. {وأضل فرعون قومه وما هدى{ أي أضلهم عن الرشد وما هداهم إلى خير ولا نجاة؛ لأنه قدر أن موسى عليه السلام ومن معه لا يفوتونه؛ لأن بين أيديهم البحر. فلما ضرب موسى البحر بعصاه أنفلق منه اثنا عشر طريقا وبين الطرق الماء قائما كالجبال. وفي سورة الشعراء {فكان كل فرق كالطود العظيم{ أي الجبل الكبير؛ فأخذ كل سبط طريقا. وأوحى الله إلى أطواد الماء أن تشكبي فصارت شبكات برى بعضهم بعضا ويسمع بعضهم كلام بعض، وكان هذا من أعظم المعجزات، وأكبر الآيات، فلما أقبل فرعون ورأى الطرق في البحر والماء قائما أوهمهم أن البحر فعل هذا لهيبته، فدخل هو وأصحابه فانطبق البحر عليهم. وقيل إن قوله{وما هدى{ تأكيد لإضلاله إياهم. وقيل هو جواب قول فرعون {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}غافر: 29] فكذبه الله تعالى. وقال ابن عباس{ وما هدى{ أي ما هدى نفسه بل أهلك نفسه وقومه.
الآية رقم ( 80 : 82 )
{يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى، كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى، وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى}
قوله تعالى{يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم{ لما أنجاهم من فرعون قال لهم هذا ليشكروا. {وواعدناكم جانب الطور الأيمن{ {جانب{ نصب على المفعول الثاني {لواعدنا{ ولا يحسن أن ينتصب على الظرف؛ لأنه ظرف مكان غير مبهم. وإنما تتعدى الأفعال والمصادر إلى ظروف المكان بغير حرف جر إذا كانت مبهمة. قال مكي هذا أصل لا خلاف فيه؛ وتقدير الآية. وواعدناكم إتيان جانب الطور؛ ثم حذف المضاف. قال النحاس: أي أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه ليكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام. وقيل: وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور الأيمن فيؤتيه التوراة، فالوعد كان لموسى ولكن خوطبوا به لأن الوعد كان لأجلهم. وقرأ أبو عمرو {ووعدناكم{ بغير ألف واختاره أبو عبيد؛ لأن الوعد إنما هو من الله تعالى لموسى خاصة، والمواعدة لا تكون إلا من اثنين. و{الأيمن{ نصب؛ لأنه نعت للجانب وليس للجبل يمين ولا شمال، فإذا قيل: خذ عن يمين الجبل فمعناه خذ علي يمينك من الجبل. وكان الجبل على يمين موسى إذ أتاه. {ونزلنا عليكم المن والسلوى{ أي في التيه وقد تقدم القول فيه. {كلوا من طيبات ما رزقناكم{ أي من لذيذ الرزق. وقيل: إذ لا صنع فيه لآدمي فتدخله شبهة. {ولا تطغوا فيه{ أي لا تحملنكم السعة والعافية أن تعصوا؛ لأن الطغيان التجاوز إلى ما لا يجوز. وقيل: المعنى؛ أي لا تكفروا النعمة ولا تنسوا شكر المنعم بها عليكم. وقيل: أي ولا تستبدلوا بها شيئا أخر كما قال{أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}البقرة: 61] وقيل: لا تدخروا منه لأكثر من يوم وليله؛ قال ابن عباس: فيتدود عليه ما ادخروه؛ ولولا ذلك ما تدود طعام أبدا. {فيحل عليكم غضبي{ أي يجب وينزل، وهو منصوب بالفاء في جواب النهي من قوله{ولا تطغوا{. فيحل عليكم غضبى قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي {فيحُل{ بضم الحاء. {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى{ قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي {ومن يحلل{ بضم اللام الأولى. والباقون بالكسر وهما لغتان. وحكى أبو عبيده وغيره: أنه يقال حل يحل إذا وجب وحل يحل إذا نزل. وكذا قال الفراء: الضم من الحلول بمعنى الوقوع والكسر من الوجوب. والمعنيان متقاربان إلا أن الكسر أولى؛ لأنهم قد أجمعوا على قوله{ويحل عليه عذاب مقيم}هود: 39]. وغضب الله عقابه ونقمته وعذابه. {فقد هوى{ قال الزجاج: فقد هلك؛ أي صار إلى الهاوية وهي قعر النار، من هوى يهوي هويا أي سقط من علو إلى سفل، وهوى فلان أي مات. وذكر ابن المبارك: أخبرنا إسماعيل بن عياش قال حدثنا ثعلبة بن مسلم عن أيوب بن بشير عن شفي الأصبحي قال: إن في جهنم جبلا يدعى صعودا يطلع فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يرقاه؛ قال الله تعالى{سأرهقه صعودا}المدثر: 17] وإن في جهنم قصرا يقال له هوى يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفا قبل أن يبلغ أصله قال الله تعالى {ومن يحلل عليه فقد هوى{ وذكر الحديث؛ وقد ذكرناه في كتاب {التذكرة {.
قوله تعالى{وإني لغفار لمن تاب{ أي من الشرك. {وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى{ أي أقام علي إيمانه حتى مات عليه؛ قال سفيان الثوري وقتادة وغيرهما. وقال ابن عباس: أي لم يشك في إيمانه؛ ذكره الماوردي والمهدوي. وقال سهل بن عبدالله التستري وابن عباس أيضا: أقام على السنة والجماعة؛ ذكره الثعلبي. وقال أنس: أخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المهدوي، وحكاه الماوردي عن الربيع بن أنس. وقول خامس: أصاب العمل؛ قال ابن زيد؛ وعنه أيضا تعلم العلم ليهتدي كيف يفعل؛ ذكر الأول المهدوي، والثاني الثعلبي. وقال الشعبي ومقاتل والكلبي: علم أن ثوابا وعليه عقابا؛ وقاله الفراء: وقول ثامن{ثم اهتدى{ في ولاية أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاله ثابت البناني. والقول الأول أحسن هذه الأقوال - إن شاء الله - وإليه يرجع سائرها. قال وكيع عن سفيان: كنا نسمع في قوله عز وجل{وإني لغفار لمن تاب{ أي من الشرك {وآمن{ أي بعد الشرك {وعمل صالحا{ صلى وصام {ثم اهتدى{ مات على ذلك.
الآية رقم ( 83 : 84 )
{وما أعجلك عن قومك يا موسى، قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى}
قوله تعالى{وما أعجلك عن قومك يا موسى{ أي ما حملك على أن تسبقهم. قيل: عنى بالقوم جميع بني إسرائيل؛ فعلى هذا قيل: استخلف هارون على بني إسرائيل، وخرج معه بسبعين رجلا للميقات فقوله{قال هم أولاء على أثري{ ليس يريد أنهم يسيرون خلفه متوجهين إليه، بل أراد أنهم بالقرب مني ينتظرون عودي إليهم. وقيل: لا بل كان أمر هارون بأن يتبع في بني إسرائيل أثره ويلتحقوا به. وقال قوم: أراد بالقوم السبعين الذين اختارهم، وكان موسى لما قرب من الطور سبقهم شوقا إلى سماع كلام الله. وقيل: لما وفد إلى طور سينا بالوعد اشتاق إلى ربه وطالت عليه المسافة من شدة الشوق إلى الله تعالى، فضاق به الأمر شق قميصه، ثم لم يصبر حتى خلفهم ومضى وحده؛ فلما وقف في مقامه قال الله تبارك وتعالى{ما أعجلك عن قومك يا موسى{ فبقي صلى الله عليه وسلم متحيرا عن الجواب وكنى عنه بقوله{هم أولاء على أثري{ وإنما سأله السبب الذي أعجله يقوله {ما{ فأخبر عن مجيئهم بالأثر. {وعجلت إليك رب لترضى{ فكنى عن ذكر الشوق وصدقه إلى ابتغاء الرضا. ذكر عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله{وعجلت إليك رب لترضى{ قال: شوقا. وكانت عائشة رضي الله عنها إذا آوت إلى فراشها تقول: هاتوا المجيد. فتؤتى بالمصحف فتأخذه في صدرها وتنام معه تتسلى بذلك؛ رواه سفيان عن معسر عائشة رضي الله عنها. وكان عليه الصلاة والسلام إذا أمطرت السماء خلع ثيابه وتجرد حتى يصيبه المطر ويقول{إنه حديث عهد بربي{ فهذا من الرسول صلى الله عليه وسلم وممن بعده من قبيل الشوق؛ ولذلك قال الله تبارك اسمه فيما يروى عنه{طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق{. قال ابن عباس: كان الله عالما ولكن قال {وما أعجلك عن قومك{ رحمة لموسى، وإكراما له بهذا القول، وتسكينا لقلبه، ورقة عليه؛ فقال مجيبا لربه{هم أولاء على أثري{. قال أبو حاتم قال عيسى: بنو تميم يقولون{هم أولى{ مقصورة مرسلة، وأهل الحجاز يقولون {أولاء{ ممدودة. وحكى الفراء {هم أولاء على أثري{ وزعم أبو إسحاق الزجاج: أن هذا لا وجه له. قال النحاس وهو كما قال: لأن هذا ليس مما يضاف فيكون مثل هداي. ولا يخلو من إحدى جهتين: إما أن يكون اسما مبهما فإضافته محال؛ وإما أن يكون بمعنى الذين فلا يضاف أيضا؛ لأن ما بعده من تمامه وهو معرفة. وقرأ ابن أبي إسحاق ونصر ورويس عن يعقوب {على إثري{ بكسر الهمزة وإسكان الثاء وهو بمعنى أثر، لغتان. {وعجلت إليك رب لترضى{ أ عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني. يقال: رجل عجل وعجل وعجول وعجلان بين العجلة؛ والعجلة خلاف البطء.
الآية رقم ( 85 )
{قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري}
قوله تعالى{قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك{ أي اختبرناهم وامتحناهم بأن يستدلوا على الله عز وجل. {وأضلهم السامري{ أي دعاهم إلى الضلالة أو هو سببها. وقيل: فتناهم ألقيناهم في الفتنة: أي زينا لهم عبادة العجل؛ ولهذا قال موسى{إن هي إلا فتنتك}الأعراف: 155]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان السامري من قوم يعبدون البقر، فوقع بأرض مصر فدخل في دين بني إسرائيل بظاهره، وفي قلبه ما فيه من عبادة البقر. وقيل: كان رجلا من القبط، وكان جارا لموسى أمن به وخرج معه. وقيل: كان عظيما من عظماء بني إسرائيل، من قبيلة تعرف بالسامرة وهم معروفون بالشام. قال سعيد بن جبير: كان من أهل كرمان.
الآية رقم ( 86 : 89 )
{فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي، قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري، فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي، أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا}
قوله تعالى{فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا{ حال وقد مضى في {الأعراف{. {قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا{ وعدهم عز وجل الجنة إذا أقاموا على طاعته، ووعدهم أنه يسمعهم كلامه، في التوراة على لسان موسى؛ ليعملوا بما فيها فيستحقوا ثواب عملهم. وقيل: وعدهم النصر والظفر. وقيل: وعده قوله{وإني لغفار لمن تاب وآمن{ الآية. {أفطال عليكم العهد{ أي أفنسيتم؛ كما قيل؛ والشيء قد ينسى لطول العهد. {أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم{ {يحل{ أي يجب وينزل. والغضب العقوبة والنقمة. والمعنى أم أردتم أن تفعلوا فعلا يكون سبب حلول غضب الله بكم؛ لأن أحدا لا يطلب غضب الله، بل قد يرتكب ما يكون سببا للغضب. {فأخلفتم موعدي{ لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور. وقيل: وعدهم على أثره للميقات فتوقفوا. {قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا{ بفتح الميم، وهي قراءة نافع وعاصم وعيسى بن عمر. قال مجاهد والسدي: ومعناه بطاقتنا. ابن زيد: لم نملك أنفسنا أي كنا مضطرين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر {بملكنا{ بكسر الميم. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنها اللغة العالية. وهو مصدر ملكت الشيء أملكه ملكا. والمصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف؛ كأنه قال: بملكنا الصواب بل أخطأنا فهو اعتراف منهم بالخطأ. وقرأ حمزة والكسائي {بملكنا{ بضم الميم والمعنى بسلطاننا. أي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك. ثم قيل قوله{قالوا{ عام يراد به الخاص، أي قال الذين ثبتوا على طاعة الله إلى أن يرجع إليهم من الطور{ما أخلفنا موعدك بملكنا{ وكانوا اثني عشر ألفا وكان جميع بني إسرائيل ستمائة ألف.
قوله تعالى{ولكنا حملنا{ بضم الحاء وتشديد الميم مكسورة؛ قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحفص ورويس. الباقون بفتح الحرفين خفيفة. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنهم حملوا حلي القوم معهم وما حملوه كرها. {أوزارا{ أي أثقالا {من زينة القوم{ أي من حليهم؛ وكانوا استعاره حين حين أرادوا الخروج مع موسى عليه السلام، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة. وقيل: هو ما أخذوه من آل فرعون، لما قذفهم البحر إلى الساحل. وسميت أوزارا بسبب أنها كانت آثاما. أي لم يحل لهم أخذها ولم تحل لهم الغنائم، وأيضا فالأوزار هي الأثقال في اللغة. {فقذفناها فكذلك ألقى السامري{ أي ثقل علينا حمل ما كان معنا من الحلي فقذفناه في النار ليذوب، أي طرحناه فيها. وقيل: طرحناه إلى السامري لترجع فترى فيها رأيك. {فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار{ قال قتادة: إن السامري قال لهم حين استبطأ القوم موسى: إنما احتبس عليكم من أجل ما عندكم من الحلي؛ فجمعوه ودفعوه إلى السامري فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلا، ثم ألقى عليه قبضة من أثر فرس الرسول وهو جبريل عليه السلام. وقال معمر: الفرس الذي كان عليه جبريل هو الحياة، فلما ألقى عليه القبضة صار عجلا جسدا له خوار. والخوار صوت البقر. وقال ابن عباس: لما انسكبت الحلي في النار، جاء السامري وقال لهارون: يا نبي الله أؤلقي ما في يدي - وهو يظن أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلي - فقذف التراب فيه، وقال: كن عجلا جسدا له خوار؛ فكان كما قال للبلاء والفتنة؛ فخار خورة واحدة لم يتبعها مثلها. وقيل: خواره وصوته كان بالريح؛ لأنه كان عمل فيه خروقا فإذا دخلت الريح في جوفه خار ولم تكن فيه حياة. وهذا قول مجاهد. وعلى القول الأول كان عجلا من لحم ودم، وهو قول الحسن وقتادة والسدي. وروى حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: مر هارون بالسامري وهو يصنع العجل فقال: ما هذا؟ فقال: ينفع ولا يضر؛ فقال: اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه؛ فقال: اللهم إني أسألك أن يخور. وكان إذا خار سجدوا، وكان الخوار من دعوة هارون. قال ابن عباس: خار كما يخور الحي من العجول. وروى أن موسى قال: يا رب هذا السامري أخرج لهم عجلا جسدا له خوار من حليهم، فمن جعل الجسد والخوار؟ قال الله تبارك وتعالى: أنا. قال موسى صلى الله عليه وسلم: وعزتك وجلالك وارتفاعك وعلوك وسلطانك ما أضلهم غيرك. قال: صدقت يا حكيم الحكماء. وقد تقدم. {فقالوا هذا إلهكم وإله موسى{ أي قال السامري ومن تبعه وكانوا ميالين إلى الشبيه؛ إذا قالوا {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة{. {الأعراف 138{ {فنسي{ أي فضل موسى [وذهب] بطلبه فلم يعلم مكانه، وأخطأ الطريق إلى ربه. وقيل معناه: فتركه موسى هنا وخرج يطلبه. أي ترك موسى إلهه هنا. وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: أي فنسي موسى أن يذكر لكم أنه إلهه. وقيل: الخطاب خبر عن السامري. أي ترك السامري ما أمره به موسى من الإيمان فضل؛ قاله ابن العربي. {أفلا يرون{ فقال الله تعالى محتجا عليهم{أفلا يرون{ أي يعتبرون ويتفكرون في {أنـ{ ـه {لا يرجع إليهم قولا{ أي لا يكلمهم. وقيل: لا يعود إلى الخوار والصوت. {ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا{ فكيف يكون إلها؟ والذي يعبده موسى صلى الله عليه وسلم وينفع ويثيب ويعطي ويمنع. {أن لا يرجع{ تقديره أنه لا يرجع فلذلك ارتفع الفعل فخففت {أن{ وحذف الضمير. وهو الاختيار في الرؤية والعلم والظن. قال
في فتية من سيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل
وقد يحذف مع التشديد؛ قال
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ولكن زنجي عظيم المشافر
أي ولكنك.
الآية رقم ( 90 : 93 )
{ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري، قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى، قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا، ألا تتبعن أفعصيت أمري}
قوله تعالى{ولقد قال لهم هارون من قبل{ أي من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم {يا قوم إنما فتنتم به{ أي ابتليتم وأضللتم به؛ أي بالعجل. {وإن ربكم الرحمن{ لا العجل. {فاتبعوني{ في عبادته. {وأطيعوا أمري{ لا أمر السامري. أو فاتبعوني في مسيري إلى موسى ودعوا العجل. فعصوه و{قالوا لن نبرح عليه عاكفين{ أي لن نزال مقيمين على عبادة العجل. {حتى يرجع إلينا موسى{ فينظر هل يعبده كما عبدناه؛ فتوهموا أن موسى يعبد العجل، فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا من الذين لم يعبدوا العجل، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل قال لسبعين معه هذا صوت الفتنة؛ فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله غضبا و{قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا{ أي أخطؤوا الطريق وكفروا. {ألا تتبعن{ {لا{ زائدة أي أن تتبع أمري ووصيتي. وقيل: ما منعك عن اتباعي في الإنكار عليهم. وقيل: معناه هلا قاتلتهم إذ قد علمت أني لو كنت بينهم لقاتلتهم على كفرهم. وقيل: ما منعك من اللحوق بي لما فتنوا. {أفعصيت أمري{ يريد أن مقامك بينهم وقد عبدوا غير الله تعالى عصيان منك لي؛ قال ابن عباس. وقيل: معناه هلا فارقتهم فتكون مفارقتك إياهم تقريعا لهم وزجرا. ومعنى{أفعصيت أمري{ قيل: إن أمره ما حكاه الله تعالى عنه {وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}الأعراف 142]، فلما أقام معهم ولم يبالغ في منعهم والإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره.
مسألة:
وهذا كله أصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغييره ومفارقة أهله، وأن المقيم بينهم لا سيما إذا كان راضيا حكمه كحكمهم. وقد تقدم. وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية؟ وأعلم - حرس الله مدته - أنه اجتمع جماعة من رجال، فيكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه. هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا مأجورين، وهذا القول الذي يذكرونه:
يا شيخ كف عن الذنوب قبل التفرق والزلل
واعمل لنفسك صالحا ما دام ينفعك العمل
أما الشباب فقد مضى ومشيب رأسك قد نزل
وفي مثل هذا نحوه. الجواب - يرحمك الله - مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون؛ فهو دين الكفار وعباد العجل؛ وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى؛ وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار؛ فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم عن الحضور في المساجد وغيرها؛ ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم؛ هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق.
الآية رقم ( 94 : 96 )
{قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي، قال فما خطبك يا سامري، قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي}
قوله تعالى{قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي{ ابن عباس: أخذ شعره بيمينه ولحيته بيساره؛ لأن الغيرة في الله ملكته؛ أي لا تفعل هذا فيتوهموا أنه منك استخفاف أو عقوبة. وقد وقيل: إن موسى عليه السلام إنما فعل هذا على غيرا ولا عقوبة كما يأخذ الإنسان بلحية نفسه. وقد مضى هذا في {الأعراف{ مستوفى. {إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل{ أي خشيت أن أخرج وأتركهم وقد أمرتني أن أخرج معهم فلو خرجت لا تبعني قوم ويتخلف مع العجل قوم؛ وربما أدى الأمر إلى سفك الدماء؛ وخشيت إن زجرتهم أن يقع قتال فتلومني على ذلك. وهذا جواب هارون لموسى السلام عن قوله {أفعصيت أمري{ وفي الأعراف {إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء}الأعراف: 150] لأنك أمرتني أن أكون معهم. وقد تقدم. ومعنى {ولم ترقب قولي{ لم تعمل بوصيتي في حفظه؛ قاله مقاتل. وقال أبو عبيدة: لم تنظر عهدي وقدومي. فتركه موسى ثم أقبل على السامري فـ {قال فما خطبك يا سامري{ أي، ما أمرك وشأنك، وما الذي حملك على ما صنعت؟ قال قتادة: كان السامري عظيما في بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة ولكن عدو الله نافق بعد ما قطع البحر مع موسى، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة وهم يعكفون على أصنام لهم {قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}الأعراف: 138] فاغتنمها السامري وعلم أنهم يميلون إلى عبادة العجل فاتخذ العجل. فـ {قال بصرت بما لم يبصروا به{ {قال{ السامري مجيبا لموسى {قال بصرت بما لم يبصروا به{ بعني: رأيت ما لم يروا؛ رأيت جبريل عليه السلام على فرس الحياة، فألقى في نفسي أن أقبض من أثره قبضة، فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ولحم؛ ودم فلما سألوك أن تجحل لهم إلها زينت لي نفسي ذلك. وقال علي رضي الله عنه: لما نزل جبريل ليصعد بموسى عليه السلام، إلى السماء، وأبصره السامري من بين الناس فقبض قبضة من أثر الفرس. وقيل قال السامري رأيت جبريل على الفرس وهى تلقي خطوها مد البصر فألقي في نفسي أن أقبض من أثرها فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ودم. وقيل: رأى جبريل يوم نزل على رمكة وديق، فتقدم خيل فرعون في ورود البحر. ويقال: إن أم السامري جعلته حين وضعته في غار خوفا من أن يقتله فرعون؛ فجاءه جبريل عليه السلام، فجعل كف السامري في فم السامري، فرضع العسل واللبن فاختلف إليه فعرفه من حينئذ. وقد تقدم هذا المعنى في {الأعراف{. ويقال: إن السامري سمع كلام موسى عليه السلام، حيث عمل تمثالين من شمع أحدهما ثور والآخر فرس فألقاهما في النيل طلب قبر يوسف عليه السلام وكان في تابوت من حجر في النيل فأتى به الثور على قرنه، فتكلم السامري بذلك الكلام الذي سمعه من موسى، وألقى القبضة في جوف العجل فخار. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وخلف {بما لم تبصروا{ بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر.
قوله تعالى{فقبضت قبضة من أثر الرسول{ وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود والحسن وقتادة {فقبصت قبصة{ بصاد غير معجمة. وروي عن الحسن ضم القاف من {قبصة{ والصاد غير معجمة. الباقون: بالضاد المعجمة. والفرق بينهما أن القبض بجميع الكف، والقبص بأطراف الأصابع، ونحوهما الخضم والقضم، والقبضة بضم القاف القدر المقبوض؛ ذكره المهدوي. ولم يذكر الجوهري {قبصة{ بضم القاف والصاد غير معجمة، وإنما ذكر {القبضة{ بضم القاف والضاد المعجمة وهو ما قبضت عليه من شيء؛ يقال: أعطاه قبضة من سويق أو تمر أي كفا منه، وربما جاء بالفتح. قال: والقبض بكسر القاف والصاد غير المعجمة العدد الكثير من الناس؛ قال الكميت
لكم مسجدا الله المزوران والحصى لكم قبصه من بين أثرى وأقترى
{فنبذتها{ أي طرحتها في العجل. {وكذلك سولت لي نفسي{ أي زينته؛ قاله الأخفش. وقال ابن زيد: حدثتني نفسي. والمعنى متقارب.
الآية رقم ( 97 : 98 )
{قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما}
قوله تعالى{قال فاذهب{ أي قال له موسى فاذهب أي من بيننا {فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس{ أي لا أمس ولا أمس طول الحياة. فنفاه موسى عن قومه وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. قال الشاعر:
تميم كرهط السامري وقوله ألا لا يريد السامري مساسا
قال الحسن جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه عقوبة له ولمن كان منه إلى يوم القيامة؛ وكأن الله عز وجل شدد عليه المحنة، بأن جعله لا يماس أحدا ولا يمكن من أن يمسه أحد، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا. ويقال: ابتلى بالوسواس وأصل الوسواس من ذلك الوقت. وقال قتادة: بقاياهم إلى اليوم يقولون ذلك - لا مساس - وإن مس واحد من غيرهم أحدا منهم حم كلاهما في الوقت. ويقال: إن موسى هم بقتل السامري، فقال الله تعالى له: لا تقتله فإنه سخي. ويقال لما قال له موسى{فاذهب فإن في الحياة أن تقول لا مساس{ خاف فهرب فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحشي، لا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار كالقائل لا مساس؛ لبعده عن الناس وبعد الناس عنه؛ كما قال الشاعر:
حمال رايات بها قناعسا حتى تقول الأزد لا مسابسا
مسألة:
هذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألا يخالطوا، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بكعب بن مالك والثلاثة الذين خلفوا. ومن التجأ إلى الحرم وعليه قتل لا يقتل عند بعض الفقهاء، ولكن لا يعامل ولا يبايع ولا يشارى، وهو إرهاق إلى الخروج. ومن هذا القبيل التغريب في حد الزنى، وقد تقدم جميع هذا كله في موضعه، فلا معنى لإعادته. والحمد لله وحده. وقال هارون القارئ: ولغة العرب لا مساس بكسر السين وفتح الميم، وقد تكلم النحويون فيه؛ فقال سيبويه: هو مبني على الكسر كما يقال اضرب الرجل. وقال أبو إسحاق: لا مساس نفي وكسرت السين لأن الكسرة من علامة التأنيث؛ تقول فعلت يا امرأة. قال النحاس وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: إذا اعتل الشيء من ثلاث جهات وجب أن يبني، وإذا اعتل من جهتين وجب ألا ينصرف؛ لأنه ليس بعد ترك الصرف إلا البناء؛ فمساس ودراك اعتل من ثلاث جهات: منها أنه معدول، ومنها أنه مؤنث، وأنه معرفة؛ فلما وجب البناء فيه وكانت الألف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين؛ كما تقول اضرب الرجل. ورأيت أبا إسحاق يذهب إلى أن هذا القول خطأ، وألزم أبا العباس إذا سمى امرأة بفرعون يبنيه، وهذا لا يقول أحد. وقال الجوهري في الصحاح: وأما قول العرب لا مساس مثال قطام فإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر وهو المس. وقرأ أبو حيوة {لا مساس{. {وإن لك موعدا لن تخلفه{ يعني يوم القيامة. والموعد مصدر؛ أي إن لك وعدا لعذابك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {تخلفه{ بكسر اللام وله معنيان: أحدهما: ستأتيه ولن تجده مخلفا؛ كما تقول: أحمدته أي وجدته محمودا. والثاني: على التهديد أي لا بد لك من أن تصير إليه. والباقون بفتح اللام؛ بمعنى: إن الله لن يخلفك إياه.
قوله تعالى{وانظر إلى إلهك الذي ظللت عليه عاكفا{ أي دمت وأقمت عليه. {عاكفا{ أي ملازما؛ وأصله ظللت؛ قال:
خلا أن العتاق من المطايا أحسن به فهن أليه شوس
أي أحسن. وكذلك قرأ الأعمش بلامين على الأصل. وفي قراءة ابن مسعود {ظلت{ بكسر الظاء. يقال: ظللت أفعل كذا إذا فعلته نهارا وظلت وظلت؛ فمن قال: ظلت حذف اللام الأولى تخفيفا؛ ومن قال: ظلت ألقى حركة اللام على الظاء. {لنحرقنه{ قراءة العامة بضم النون وشد الراء من حرق يحرق. وقرأ الحسن وغيره بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء من أحرقه يحرقه. وقرأ علي وابن عباس وأبو جعفر وابن محيصن وأشهب العقيلي {لنحرقنه{ بفتح النون وضم الراء خفيفة، من حرقت الشيء أحرقه حرقا بردته وحككت بعضه ببعض، ومنه قولهم: حرق نابه يحرقه ويحرقه أي سحقه حتى سمع له صريف؛ فمعنى هذه القراءة لنبردنه بالمبارد، ويقال للمبرد المحرق. والقراءتان الأوليان معناهما الحرق بالنار. وقد يمكن جمع ذلك فيه؛ قال السدي: ذبح العجل فسال منه كما يسيل من العجل إذا ذبح، ثم برد عظامه بالمبر حرقه وفي حرقه ابن مسعود {لنذبحنه ثم لنحرقنه{ واللحم والدم إذا أحرقا صارا رمادا تذريته في اليم فأما الذهب فلا يصير رمادا وقيل عرف موسى ما صير به الذهب رمادا، وكان ذلك من آياته. ومعنى {لننسفنه{ لنطيرنه. وقر أبو رجاء {لننسفنه{ بضم السين لغتان، والنسف نفض الشيء ليذهب به الريح وهو التذرية، والمنسف ما ينسف به الطعام؛ وهو شيء متصوب الصدر أعلاه مرتفع، والنسافة ما يسقط منه؛ يقال: اعزل النسافة وكل من الخالص. ويقال: أتانا فلان كأن لحيته منسف؛ حكاه أبو نصر أحمد بن حاتم. والمنسفة آلة يقلع بها البناء، ونسفت البناء نسفا قلعته، ونسفت البعير الكلأ ينسفه بالكسر إذا اقتلعه بأصله، وانتسفت الشيء اقتلعته؛ عن أبي زيد. {إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما{ لا العجل؛ أي وسع كل شيء علمه؛ يفعل الفعل عن العلم؛ ونصب على التفسير. وقرأ مجاهد وقتادة {وسع كل شيء علما{.
الآية رقم ( 99 : 101 )
{كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا، من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا، خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا}
قوله تعالى{كذلك{ الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف. أي كما قصصنا عليك خبر موسى {كذلك نقص عليك{ قصصا كذلك من أخبار ما قد سبق؛ ليكون تسلية لك، وليدل على صدقك. {وقد آتيناك من لدنا ذكرا{ يعني القرآن. وسمي القرآن ذكرا؛ لما فيه من الذكر كما سمي الرسول ذكرا؛ الذكر كان ينزل عليه. وقيل{أتيناك من لدنا ذكرا{ أي شرفا، كما قال تعالى{ وإنه لذكر لك}الزخرف: 44] أي شرف وتنويه باسمك. {من أعرض عنه{ أي القرآن فلم يؤمن به، ولم يعمل بما فيه {فإنه يحمل يوم القيامة وزرا{ أي إثما عظيما وحملا ثقيلا. {خالدين فيه{ يريد مقيمين فيه؛ أي في جزائه وجزاؤه جهنم. {وساء لهم يوم القيامة حملا{ يريد بئس الحمل حملوه يوم القيامة. وقرأ داود بن رفيع{ فإنه يحمل{.
الآية رقم ( 102 : 104 )
{يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا، يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا، نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما}
قوله تعالى{يوم ينفخ في الصور{ قراءة العامة {ينفخ{ بضم الياء على الفعل المجهول. وقرأ أبو عمرو وابن إسحاق بنون مسمى الفاعل. واستدل أبو عمرو بقوله تعالى{ونحشر المجرمين{ بنون.
وعن ابن هرمز {ينفخ{ بفتح الياء أي ينفخ إسرافيل. أبو عياض{في الصُّوَرِ{. الباقون {في الصُّورِ{ وقد تقدم. وقرأ طلحة بن مصرف {ويحشر{ بضم الياء المجرمون رفعا بخلاف المصحف. والباقون {ونحشر المجرمين{ أي المشركين. {يومئذ زرقا{ حال من المجرمين، والزرق خلاف الكحل. والعرب تتشاءم بزرق العيون وتذمه؛ أي تشوه خلقتهم بزرقة عيونهم وسواد وجوههم. وقال الكلبي والفراء{زرقا{ أي عميا. وقال الأزهري: عطاشا قد ازرقت أعينهم من شدة العطش؛ وقاله الزجاج؛ قال: لأن سواد العين يتغير ويزرق من العطش. وقيل: إنه الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة، يقال: ابيضت عيني لطول انتظاري لكذا. وقول خامس: إن المراد بالزرقة شخوص البصر من شدة الخوف؛ قال الشاعر:
لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر كما كل ضبي من اللؤم أزرق
يقال: رجل أزرق العين، والمرأة زرقاء بينة الزرق. والاسم الزرقة. وقد زرقت عينه بالكسر وازرقت عينه ازرقاقا، وازرقت عينه ازريقاقا. وقال سعيد بن جبير: قيل لابن عباس في قوله{ونحشر المجرمين يومئذ زرقا{ وقال في موضع آخر{ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما}الإسراء: 97] فقال: إن ليوم القيامة حالات؛ فحالة يكونون فيه زرقا، وحالة عميا. {يتخافتون بينهم{ أصل الخفت في اللغة السكون، ثم قيل لمن خفض صوته خفته. يتسارون؛ قاله مجاهد؛ أي يقولون بعضهم لبعض في الموقف سرا. {إن لبثتم{ أي ما لبثتم يعني في الدنيا، وقيل في القبور {إلا عشرا{ يريد عشر ليال. وقيل: أراد ما بين النفختين وهو أربعون سنة؛ يرفع العذاب في تلك المدة عن الكفار - في قول ابن عباس - فيستقصرون تلك المدة. أو مدة مقامهم في الدنيا لشدة ما يرون من أهوال يوم القيامة؛ ويخيل إلى أمثلهم أي أعدلهم قولا وأعقلهم وأعلمهم عند نفسه أنهم ما لبثوا إلا يوما واحدا يعني لبثهم في الدنيا؛ عن قتادة؛ فالتقدير: إلا مثل يوم. وقيل: إنهم من شدة هول المطلع نسوا ما كانوا فيه من نعيم الدنيا رأوه كيوم. وقيل: أراد بيوم لبثهم ما بين النفختين، أو لبثهم في القبور على ما تقدم. {وعشرا{ و{يوما{ منصوبان بـ {لبثتم}.
الآية رقم ( 105 : 107 )
{ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا، فيذرها قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا}
قوله تعالى{ويسألونك عن الجبال{ أي عن حال الجبال يوم القيامة. {فقل{ جاء هذا بفاء وكل سؤال في القرآن {قل{ بغير فاء إلا هذا، لأن المعنى إن سألوك عن الجبال فقل، فتضمن الكلام معنى الشرط وقد علم الله أنهم يسألونه عنها، فأجابهم قبل السؤال، وتلك أسئلة تقدمت سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الجواب عقب السؤال؛ فلذلك كان بغير فاء، وهذا سؤال لم يسألوه عنه بعد؛ فتفهمه. {ينسفها ربي نسفا{ يطيرها. {نسفا{ قال ابن الأعرابي وغيره: يقلعها قلعا من أصولها ثم يصيرها رملا يسيل سيلا، ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا قال: ولا يكون العهن من الصوف إلا المصبوغ، ثم كالهباء المنثور. {فيذرها{ أي يذر مواضعها {قاعا صفصفا{ القاع الأرض الملساء بلا نبات ولا بناء؛ قاله ابن الأعرابي. وقال الجوهري: والقاع المستوي من الأرض والجمع أقوع وأقواع وقيعان صارت الواو ياء لكسر ما قبلها. وقال الفراء: القاع مستنقع الماء والصفصف القرعاء. الكلبي: هو الذي لا نبات فيه. وقيل: المستوي من الأرض كأنه على صف واحد في استوائه؛ قاله مجاهد. والمعنى واحد في القاع والصفصف؛ فالقاع الموضع المنكشف، والصفصف المستوي الأملس. وأنشد سيبويه
وكم دون بينك من صفصف ودكداك رمل وأعقادها
و {قاعا{ نصب على الحال والصفصف. و{لا ترى{ في موضع الصفة. {فيها عوجا{ قال ابن الأعرابي: العوج التعوج في الفجاج. والأمت النبك. وقال أبو عمرو: الأمت النباك وهي التلال الصغار واحدها نبك؛ أي هي أرض مستوية انخفاض فيها ولا ارتفاع. تقول: امتلأ فما به أمت، وملأت القربة ملئا لا أمت فيه؛ أي لا استرخاء فيه. والأمت في اللغة المكان المرتفع. وقال ابن عباس{عوجا{ ميلا. قال: والأمت الأثر مثل الشراك. عنه أيضا {عوجا{ {ولا أمتا{ رابية. وعنه أيضا: العوج [الانخفاض] والأمت الارتفاع. وقال قتادة{عوجا{ صدعا. {ولا أمتا{ أي أكمة. وقال يمانك الأمت الشقوق في الأرض. وقيل: الأمت أن يغلظ مكان في الفضاء أو الجبل ويدق في مكان؛ حكاه الصولي.
قلت: وهذه الآية تدخل في باب الرقي؛ ترقى بها الثآليل وهي التي تسمى عندنا {بالبراريق{ واحدها {بروقة{؛ تطلع في الجسد وخاصة في اليد: تأخذ ثلاثة أعواد من تبن الشعير، يكون في طرف كل عود عقدة، تمر كل عقدة على الثآليل وتقرأ الآية مرة، ثم تدفن الأعواد في مكان ندي؛ تعفن وتعفن الثآليل فلا يبقى لها أثر؛ جربت ذلك نفسي وفي غيري فوجدته نافعا إن شاء الله تعالى.
الآية رقم ( 108 : 110 )
{يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا، يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما}
قوله تعالى{يومئذ يتبعون الداعي{ يريد إسرافيل عليه السلام إذا نفخ في الصور {لا عوج له{ أي لا معدل لهم عنه؛ أي عن دعائه لا يزيغون ولا ينحرفون بل يسرعون إليه ولا يحيدون عنه. وعلى هذا أكثر العلماء. وقيل{لا عوج له{ أي لدعائه. وقيل: يتبعون الداعي اتباعا لا عوج له؛ فالمصدر مضمر؛ والمعنى: يتبعون صوت الداعي للمحشر؛ نظيره{واستمع يوم يناد المنادي من مكان قريب}ق: 41] الآية. وسيأتي. {وخشعت الأصوات{ أي ذلت وسكنت؛ عن ابن عباس قال: لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع، فكل لسان ساكت هناك للهيبة. {للرحمن{ أي من أجله. {فلا تسمع إلا همسا{ الهمس الصوت الخفي؛ قاله مجاهد. عن ابن عباس: الحس الخفي. الحسن وابن جريج: هو صوت وقع الأقدام بعضها على بعض إلى المحشر؛ ومنه قول الراجز:
وهن يمشين بنا هميسا
يعني صوت أخفاف الإبل في سيرها. ويقال للأسد الهموس؛ لأنه يهمس في الظلمة؛ أي يطأ وطأ خفيا. قال رؤية يصف نفسه بالشدة:
ليث يدق الأسد الهموسا والأقهبين الفيل والجاموسا
وهمس الطعام؛ أي مضغه وفوه منضم؛ قال الراجز:
لقد رأيت عجبا مذ أمسا عجائزا مثل السعالي خمسا
يأكلن ما أصنع همسا همسا
وقيل: الهمس تحريك الشفة واللسان. وقرأ أبي بن كعب {فلا ينطقون إلا همسا{. والمعنى متقارب؛ أي لا يسمع لهم نطق ولا كلام ولا صوت أقدام. وبناء {هـ م س{ أصله الخفاء كيفما تصرف؛ ومنه الحروف المهموسة، وهي عشرة يجمعها قولك{حثه شخص فسكت{ وإنما سمي الحرف مهموسا لأنه ضعف الاعتماد من موضعه حتى جرى معه النفس.
قوله تعالى{يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن{ {من{ في موضع نصب على الاستثناء الخارج من الأول؛ أي لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن. {ورضي له قولا{ أي رضي قوله في الشفاعة. وقيل: المعنى، أي إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، وكان له قول يرضي. قال ابن عباس: هو قول لا إله إلا الله.
قوله تعالى{يعلم ما بين أيديهم{ أي من أمر الساعة. {وما خلفهم{ من أمر الدنيا قاله قتادة. وقيل: يعلم ما يصيرون إليه من ثواب أو عقاب {وما خلفهم{ ما خلفوه وراءهم في الدنيا. ثم قيل: الآية عامة في جميع الخلق. وقيل: المراد الذين يتبعون الداعي. والحمد لله. {ولا يحيطون به علما{ الهاء في {به{ لله تعالى؛ أي أحد لا يحيط به علما؛ إذ الإحاطة مشعرة بالحد ويتعالى الله عن التحديد. وقيل: تعود على العلم؛ أي أحد لا يحيط علما بما يعلمه الله. وقال الطبري الضمير في {أيديهم{ و{خلقهم{ و{يحيطون{ يعود على الملائكة؛ أعلم الله من يعبدها أنها لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها.
الآية رقم ( 111 - 112 )
{وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما، ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما}
قوله تعالى{وعنت الوجوه{ أي ذلت وخضعت؛ قاله ابن الأعرابي وغيره. ومنه قيل للأسير عان. قال أمية بن أبي الصلت:
مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد
وقال أيضا:
وعنا له وجهي وخلقي كله في الساجدين لوجهه مشكورا
قال الجوهري عنا يعنو خضع وذل وأعناه غيره؛ ومنه قوله تعالى{وعنت الوجوه للحي القيوم{. ويقال أيضا: عنا فهم فلان أسيرا؛ أي قام فيهم على إساره واحتبس. وعناه غيره تعنية حبسه. والعاني الأسير. وقوم عناة ونسوة عوان. وعنت أمور نزلت. وقال ابن عباس{عنت{ ذلت. وقال مجاهد: خشعت. الماوردي: والفرق بين الذل والخشوع - وإن تقارب معناهما - أن الذل أن يكون ذليل النفس، والخشوع أن يتذلل لذي طاعة. وقال الكلبي {عنت{ أي علمت. عطية العوفي: استسلمت. وقال طلق بن حبيب: إنه وضع الجبهة والأنف على الأرض في السجود. النحاس{وعنت الوجوه{ في معناه قولان: أحدهما: أن هذا في الآخرة. وروى عكرمة عن ابن عباس {وعنت الوجوه للحي القيوم{ قال: الركوع والسجود؛ ومعنى {عنت{ اللغة القهر والغلبة؛ ومنه فتحت البلاد عنوة أي غلبة؛ قال الشاعر:
فما أخذوها عنوة عن مودة ولكن ضرب المشرفي استقالها
وقيل: هو من العناء بمعنى التعب؛ وكنى عن الناس بالوجوه؛ لأن أثار الذل إنما تتبين في الوجه. {للحي القيوم{ وفي القيوم ثلاث تأويلات؛ أحدهما: أنه القائم بتدبير الخلق. الثاني: أنه القائم على كل نفس بما كسبت. الثالث: أنه الدائم الذي لا يزول ولا يبيد. وقد مضى في {البقرة{. {وقد خاب من حمل ظلما{ أي خسر من حمل شركا.
قوله تعالى{ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن{ لأن العمل لا يقبل من غير إيمان.
و {من{ في قوله {من الصالحات{ للتبعيض؛ أي شيئا من الصالحات. وقيل للجنس. {فلا يخاف{ قرأ ابن كثير ومجاهد وابن محيص {يخف{ بالجزم جوابا لقوله{ومن يعمل{. الباقون {يخاف{ رفعا على الخبر؛ أي فهو لا يخاف؛ أو فإنه لا يخاف. {ظلما{ أي نقصا لثواب طاعته، ولا زيادة عليه في سيئاته. {ولا هضما{ بالانتقاص من حقه. والهضم النقص والكسر؛ يقال: هضمت ذلك من حقي أي حططته وتركته. وهذ يهضم الطعام أي ينقص ثقله. وامرأة هضيم الكشح ضامرة البطن. الماوردي: والفرق بين الظلم والهضم أن الظلم المنع من الحق كله، والهضم المنع من بعضه، والهضم ظلم وإن افترقا من وجه؛ قال المتوكل الليثي:
إن الأذلة واللئام لمعشر مولاهم المتهضم المظلوم
قال الجوهري ورجل هضيم ومهتضم أي مظلوم. وتهضمه أي ظلمه واهتضمه إذا ظلمه وكسر عليه حقه.
الآية رقم ( 113 : 114 )
{وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا، فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما}
قوله تعالى{وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا{ أي كما بينا لك في هذه السورة من البيان فكذلك جعلناه {قرآنا عربيا{ أي بلغة العرب. {وصرفنا فيه من الوعيد{ أي بينا ما فيه من التخويف والتهديد والثواب والعقاب. {لعلهم يتقون{ أي يخافون الله فيجتنبون معاصيه، ويحذرون عقابه. {أو يحدث لهم ذكرا{ أي موعظة. وقال قتادة: حذرا وورعا. وقيل: شرفا؛ فالذكر ها هنا بمعنى الشرف؛ كقول{وإنه لذكر لك ولقومك}الزخرف 44]. وقيل: أي ليتذكروا العذاب الذي توعدوا به. وقرأ الحسن {أو نحدث{ بالنون؛ وروي عنه رفع الثاء وجزمها.
قوله تعالى{فتعالى الله الملك الحق{ لما عرف العباد عظيم نعمه، وإنزال القرآن نزه نفسه عن الأولاد والأنداد فقال{فتعالى الله{ أي جل الله الملك الحق؛ أي ذو الحق. {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه{ علم نبيه كيف يتلقى القرآن. قال ابن عباس كان عليه السلام يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصا على الحفظ، وشفقة على القرآن مخافة النسيان، فنهاه الله عن ذلك وأنزل {ولا تعجل بالقرآن{ وهذا كقوله{لا تحرك به لسانك لتعجل به}القيامة: 16] على ما يأتي. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا تتله قبل أن تتبينه. وقيل{ولا تعجل{ أي لا تسل إنزاله {من قبل أن يقضى{ أي يأتيك {وحيه{. وقيل: المعنى لا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله. {وقل رب زدني علما{ قال الحسن: نزلت في رجل لطم وجه امرأته؛ فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لها القصاص فنزل {الرجال قوامون على النساء}النساء 34] ولهذا قال{وقل رب زدني علما{ أي فهما؛ لأنه عليه السلام حكم بالقصاص وأبى الله ذلك. وقرأ ابن مسعود وغيره{ من قبل أن نقضي{ بالنون وكسر الضاد {وحيَه{ بالنصب.
الآية رقم ( 115 )
{ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما}
قوله تعالى{ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي{ قرأ الأعمش باختلاف عنه {فنسي{ بإسكان الياء وله معنيان أحدهما: ترك؛ أي ترك الأمر والعهد؛ وهذا قول مجاهد وأكثر المفسرين ومنه {نسوا الله فنسيهم{. [التوبة 67]. و[وثانيهما] قال ابن عباس {نسي{ هنا من السهو والنسيان، وإنما أخذ الإنسان منه لأنه عهد إليه فنسي. قال ابن زيد: نسى ما عهد الله إليه في ذلك، ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس. وعلى هذا القول يحتمل أن يكون آدم عليه السلام في ذلك الوقت مأخوذا بالنسيان، وأن كان النسيان عنا اليوم مرفوعا. ومعنى {من قبل{ أي من قبل أن يأكل من الشجرة؛ لأنه نهى عنها. والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي طاعة بني آدم الشيطان أمر قديم؛ أي إن نقض هؤلاء العهد فان آدم أيضا عهدنا إليه فنسي؛ حكاه القشيري وكذلك الطبري. أي وإن يعرض يا محمد هؤلاء الكفرة عن آياتي، ويخالفوا رسلي، ويطيعوا إبليس فقدما فعل ذلك أبوهم آدم. قال ابن عطية: وهذا التأويل ضعيف، وذلك كون آدم مثالا للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء وآدم إنما عصى بتأويل، ففي هذا غضاضة عليه صلى الله عليه وسلم؛ وإنما الظاهر في الآية إما أن يكون ابتداء قصص لا تعلق له بما قبله، وإما أن يجعل تعلقه أنه لما عهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم ألا يعجل بالقرآن، مثل له بنبي قبله عهد إليه فنسي فعوقب؛ ليكون أشد في التحذير، وأبلغ في العهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ والعهد ها هنا معنى الوصية؛ {ونسي{ معناه ترك؛ ونسيان الذهول لا يمكن هنا؛ لأنه لا يتعلق بالناسي عقاب. والعزم المضي على المعتقد في أي شيء كان؛ وآدم عليه السلام قد كان يعتقد ألا يأكل من الشجرة لكن لما وسوس إليه إبليس لم يعزم على معتقده. والشيء الذي عهد إلى آدم هو ألا يأكل من الشجرة، وأعلم مع ذلك أن إبليس عدو له. واختلف في معنى قوله{ولم نجد له عزما{ فقال ابن عباس وقتادة: لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة، ومواظبة على التزام الأمر. قال النحاس وكذلك هو في اللغة؛ يقال: لفلان عزم أي صبر وثبات على التحفظ من المعاصي حتى يسلم منها، ومنه {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل}الأحقاف: 35]. وعن ابن عباس أيضا وعطية العوفي: حفظا لما أمر به؛ أي لم يتحفظ مما نهيته حتى نسي وذهب عن علم ذلك بترك الاستدلال؛ وذلك أن إبليس قال له: أي إن أكلتها خلدت في الجنة يعني عين تلك الشجرة، فلم يطعه فدعاه إلى نظير تلك الشجرة مما دخل في عموم النهي وكان يجب أن يستدل عليه فلم يفعل، وظن أنها لم تدخل في النهي فأكلها تأويلا، ولا يكون ناسيا للشيء من يعلم أنه معصية. وقال ابن زيد{عزما{ محافظة على أمر الله. وقال الضحاك: عزيمة أمر. ابن كيسان: إصرارا ولا إضمارا للعود إلى الذنب. قال القشيري: والأول أقرب إلى تأويل الكلام؛ ولهذا قال قومك آدم لم يكن من أولي العزم من الرسل؛ لأن الله تعالى قال{ولم نجد له عزما{. وقال المعظم: كان الرسل أولو العزم، وفي الخبر {ما من نبي إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ما خلا يحيى بن زكريا{ فلو خرج آدم بسبب خطيئته من جملة أولي العزم لخرج جميع الأنبياء سوى يحيى. وقد قال أبو أمامة: أن أحلام بني آدم جمعت منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة، ووضعت في كفة ميزان، ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم؛ وقد قال الله تبارك وتعالى{ولم نجد له عزما{
الآية رقم ( 116 : 119 )
{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى، فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى}
قوله تعالى{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى{ تقدم. {فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما{ نهي؛ ومجازه: لا تقبلا منه فيكون ذلك سببا لخروجكما {من الجنة{ {فتشقى{ يعني أنت وزوجك لأنهما في استواء العلة واحد؛ وليقل: فتشقيا لأن المعنى معروف، وآدم عليه السلام هو المخاطب، وهو المقصود. وأيضا لما كان الكاد عليها والكاسب لها كان بالشقاء أخص. وقيل: الإخراج واقع عليهما والشقاوة على آدم وحده، وهو شقاوة البدن؛ ألا ترى أنه عقبه بقوله {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى{ أي في الجنة {وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى{ فأعلمه أن له في الجنة هذا كله: الكسوة والطعام والشراب والمسكن؛ وأنك إن ضيعت الوصية، وأطعت العدو أخرجكما من الجنة فشقيت تعبا ونصبا، أي جعت وعريت وظمئت وأصابتك الشمس؛ لأنك ترد إلى الأرض إذا أخرجت من الجنة. وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيان: يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج؛ فمن يومئذ جرت نفقة النساء على الأزواج، فلما كانت نفقة حواء على آدم كذلك نفقات بناتها على بني آدم بحق الزوجية. وأعلمنا في هذه الآية أن النفقة التي تجب للمرأة على زوجها هذه الأربعة: الطعام والشراب والكسوة والمسكن؛ فإذا أعطاها هذه الأربعة فقد خرج إليها من نفقتها؛ فإن تفضل بعد ذلك فهو مأجور، فأما هذه الأربعة فلا بد لها منها؛ لأن بها إقامة المهجة. قال الحسن المراد بقول{فتشقى{ شقاء الدنيا، لا يرى ابن آدم إلا ناصبا. وقال الفراء هو أن يأكل من كد يديه. وقال سعيد بن جبير: أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فهو شقاؤه الذي قال الله تبارك وتعالى. وقيل: لما أهبط من الجنة كان من أول شقائه أن جبريل أنزل عليه حبات من الجنة؛ فقال يا آدم ازرع هذا، فحرث وزرع، ثم حصد ثم درس ثم نقى ثم طحن ثم عجن ثم خبز، ثم جلس ليأكل بعد التعب؛ فتدحرج رغيفه من يده حتى صار أسفل الجبل، وجرى وراءه آدم حتى تعب وقد عرق جبينه، قال: يا آدم فكذلك رزقك بالتعب والشقاء، ورزق ولدك من بعدك ما كنت في الدنيا.
قوله تعالى{إن لك ألا تجوع فيها{ أي في الجنة {ولا تعرى{. {وأنك لا تظمأ فيها{ أي لا تعطش. والظمأ العطش. {ولا تضحى{ أي تبرز للشمس فتجد حرها. إذ ليس في الجنة شمس، إنما هو ظل ممدود، كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. قال أبو العالية: نهار الجنة هكذا: وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر. قال أبو زيد: ضحا الطريق يضحو ضحوا إذا بدا لك وظهر. وضحيت وضحيت {بالكسر{ ضحا عرقت. وضحيت أيضا للشمس ضحاء ممدود برزت وضحيت {بالفتح{ مثله، والمستقبل أضحى في اللغتين جميعا؛ قال عمر بن أبي ربيعة
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر
في الحديث أن ابن عمر رأى رجلا محرما قد استظل، فقال: أضح لمن أحرمت له. هكذا يرويه المحدثون بفتح الألف وكسر الحاء من أضحيت. وقال الأصمعي: إنما هو أضح لمن أحرمت له؛ بكسر الألف وفتح الحاء من ضحيت أضحى؛ لأنه أمره بالبروز للشمس؛ ومنه قوله تعالى{وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى{ وأنشد:
ضحيت له كي أستظل بظله إذا الظل أضحى في القيامة قالصا
وقرأ أبو عمرو والكوفيون إلا عاصما في رواية أبو بكر عنه {وأنك{ بفتح الهمزة عطفا على {ألا تجوع{. ويجوز أن يكون في موضع رفع عطفا على الموضع، والمعنى: ولك أنك لا تظمأ فيها. الباقون بالكسر على الاستئناف، أو على العطف على {إن لك{.
الآية رقم (120 : 122 )
{فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى، فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى}
قوله تعالى{فوسوس إليه الشيطان{ تقدم. {قال{ يعني الشيطان {يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى{ وهذا يدل على المشافهة، وأنه دخل الجنة في جوف الحية على ما تقدم في {البقرة{. {فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة{ تقدم.
وقال الفراء{وطفقا{ في العربية أقبلا؛ قال وقيل: جعل يلصقان عليهما ورق التين.
قوله تعالى{وعصى{ تقدم في {البقرة{ في ذنوب الأنبياء. وقال بعض المتأخرين من علمائنا والذي ينبغي أن يقال: إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم، ونسبها إليهم، وعاتبهم عليها، وأخبروا بذلك عن نفوسهم وتنصلوا منها، واستغفروا منها وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها، وإن قبل ذلك آحادها، وكل ذلك مما لا يزرى بمناصبهم، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم جهة الندور، وعلى جهة الخطأ والنسيان، أو تأويل دعا إلى ذلك، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات، وفي حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم، وعلو أقدارهم؛ إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس؛ فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة، مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة. قال: وهذا هو الحق ولقد أحسن الجنيد حيث قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين؛ فهم صلوات الله وسلامه عليهم - وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم، فلم يخل ذلك بمناصبهم، ولا قدح في رتبتهم، بل قد تلافاهم، واجتباهم وهداهم، ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم؛ صلوات الله عليه وسلامه.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لأحد منها اليوم أن يخبر بذلك عن آدم إلا إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى عنه، أو قول نبيه، فأما أن يبتدئ ذلك من قبل نفسه فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا، المماثلين لنا، فكيف في أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبي المقدم، الذي عذره الله سبحانه وتعالى وتاب عليه وغفر له.
قلت: وإذا كان هذا في المخلوق لا يجوز، فالإخبار عن صفات الله عز وجل كاليد والرجل والإصبع والجنب والنزول إلى غير ذلك أولى بالمنع، وأنه لا يجوز الابتداء بشيء من ذلك إلا في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسوله، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه من وصف شيئا من ذات الله عز وجل مثل قوله{وقالت اليهود يد الله مغلولة}المائدة 64] فأشار بيده إلى عنقه قطعت يده، وكذلك في السمع والبصر يقطع ذلك منه؛ لأنه شبه الله تعالى بنفسه.
روى الأئمة واللفظ [المسلم] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال آدم يا موسى اصطفاك الله عز وجل بكلامه وخط لك بيده يا موسى: أتلومني على أمر قدّره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى ثلاثا{ قال المهلب قوله{فحج آدم موسى{ أي غلبه بالحجة. قال الليث بن سعد إنما صحت الحجة في هذه القصة لآدم على موسى عليهما السلام من أجل أن الله تعالى قد غفر لآدم خطيئته وتاب عليه، فلم يكن لموسى أن يعيره بخطيئة قد غفرها الله تعالى له، ولذلك قال آدم: أنت موسى الذي أتاك الله التوراة، وفيها علم كل شيء، فوجدت فيها أن الله قد قدر علي المعصية، وقدر علي التوبة منها، وأسقط بذلك اللوم عني أفتلومني أنت والله لا يلومني وبمثل هذا احتج ابن عمر على الذي قال له: إن عثمان فر يوم أحد؛ فقال ابن عمر: ما على عثمان ذنب لأن الله تعالى قد عفا عنه بقوله{ولقد عفا الله عنهم}آل عمران 155] وقد قيل: إن آدم عليه السلام أب وليس تعييره من بره أن لو كان مما يعير به غيره؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول في الأبوين الكافرين{وصاحبهما في الدنيا معروفا}لقمان 5 1] ولهذا إن إبراهيم عليه السلام لما قال ل أبوه وهو كافر{لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا. قال سلام عليك}مريم: 46] فكيف بأب هو نبي قد اجتباه ربه وتاب عليه وهدى.
وأما من عمل الخطايا ولم تأته المغفرة؛ فإن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز له أن يحتجا بمثل حجة آدم، فيقول تلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت وقد قدر الله علي ذلك؛ والأمة مجمعة حلى جواز حمد المحسن على إحسانه، ولوم المسيء على إساءته، وتعديد ذنوبه عليه.
قوله تعالى{فغوى{ أي ففسد عليه عيشه، حكاه النقاش واختاره القشيري. وسمعت شيخنا الأستاذ المقرئ أبا جعفر القرطبي يقولك {فغوى{ ففسد عيشه بنزول إلى الدنيا، والغي الفساد؛ وهو تأويل حسن وهو أولى من تأويل من يقول{فغوى{ معناه ضل؛ من الغي الذي هو ضد الرشد. وقيل معناه جهل موضع رشده؛ أي جهل أن تلك الشجرة هي التي نهي عنها؛ والغي الجهل. وعن بعضهم {فغوى{ فبشم من كثرة الأكل؛ الزمخشري وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفا؛ فيقول في فني وبقي وهم بنو طي تفسير خبيث.
قال القشيري أبو نصر قال قوم يقال: عصى آدم وغوى ولا يقال له عاص ولا غاو، كما أن من خاط مرة يقال له: خاط ولا يقال له خياط ما لم يتكرر منه الخياطة. وقيل: يجوز للسيد أن يطلق في عبده عند معصيته ما لا يجوز لغيره أن يطلقه، وهذا تكلف؛ وما أضيف من هذا إلى الأنبياء فإما أن تكون صغائر، أو الأولى، أو قبل النبوة.
قلت: هذا حسن. قال الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله تعالى: كان هذا من آدم قبل النبوة، {ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى{ فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وإذا كان هذا قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجها واحدا؛ لأن قبل النبوة لا شرع علينا تصديقهم، فإذا بعثهم الله تعالى إلى خلقه وكانوا مأمونين في الأداء معصومين لم يضر ما قد سلف منهم من الذنوب. وهذا نفيس والله أعلم.
{قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى، وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى}
قوله تعالى{قال اهبطا منها جميعا{ خطاب آدم وإبليس. {منها{ أي من الجنة. وقد قال لإبليس{أخرج منها مذؤوما مدحورا}الأعراف 18] فلعله أخرج من الجنة إلى موضع من السماء، ثم أهبط إلى الأرض. {بعضكم لبعض عدو{ أي أنت عدو للحية ولإبليس وهما عدوان لك. وهذا يدل على أن قول {اهبطا{ ليس خطابا لآدم وحواء؛ لأنهما ما كانا متعاديين؛ وتضمن هبوط آدم هبوط حواء. {فإما يأتينكم مني هدى{ أي رشدا وقولا حقا. {فمن اتبع هداي{ يعني الرسل والكتب. {فلا يضل ولا يشقى{ قال ابن عباس: ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وتلا الآية. من قرأ واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، ثم تلا الآية. {ومن أعرض عن ذكري{ أي ديني، وتلاوة كتابي، والعمل بما فيه. وقيل: عما أنزلت من الدلائل. ويحتمل أن يحمل الذكر على الرسول؛ لأنه كان منه الذكر. {فإن له معيشة ضنكا{ أي عيشا ضيقا؛ يقال منزل ضنك وعيش ضنك يستوي فيه الواحد والاثنان والمؤنث والجمع؛ قال عنترة:
إن يلحقوا أكرر وإن يستحلوا أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل
وقال أيضا:
إن المنية لو مثل مثلت مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
وقرئ {ضنكى{ على وزن فعلى: ومعنى ذلك أن الله عز وجل جعل مع الدين التسليم والقناعة والتوكل عليه وعلى قسمته، فصاحبه ينفق مما رزقه الله - عز وجل - بسماح وسهولة ويعيش عيشا رافغا؛ كما قال الله تعالى{فلنحيينه حياة طيبة}النحل 97]. والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشح، الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضنك، وحاله مظلمة، كما قال بعضهم: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه، وكان في عيشة ضنك. وقال عكرمة{ضنكا{ كسبا حراما. الحسن: طعام الضريع والزقوم. وقول رابع وهو الصحيح أنه عذاب القبر؛ قاله أبو سعيد الخدري وعبدالله بن مسعود، ورواه أبو هريرة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرناه في كتاب {التذكرة{؛ قال أبو هريرة: يضيق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، وهو المعيشة الضنك. {ونحشره يوم القيامة أعمى{ قيل: أعمى في حال وبصيرا في حال؛ وقد تقدم في آخر {سبحان}الإسراء 1] وقيل: أعمى عن الحجة؛ قاله مجاهد. وقيل: أعمى عن جهات الخير، لا يهتدي لشيء منها. وقيل: عن الحيلة في دفع العذاب عن نفسه، كالأعمى الذي لا حيلة له فيما لا يراه. {قال رب لم حشرتني أعمى{ أي بأي ذنب عاقبتني بالعمى. {وقد كنت بصيرا{ أي في الدنيا، وكأنه يظن أنه لا ذنب له. وقال ابن عباس ومجاهد: أي {لم حشرتني أعمى{ عن حجتي {وقد كنت بصيرا{ أي عالما بحجتي؛ القشيري: وهو بعيد إذ ما كان للكافر حجة في الدنيا. {قال كذلك أتتك آياتنا{ أي قال الله تعالى له {كذلك أتتك آياتنا{ أي دلالاتنا على وحدانيتنا وقدرتنا. {فنسيتها{ أي تركتها ولم تنظر فيها، وأعرضت عنها. {وكذلك اليوم تنسى{ أي تترك في العذاب؛ يريد جهنم. {وكذلك نجزي من أسرف{ أي وكما جزينا من أعرض عن القرآن، وعن النظر في المصنوعات، والتفكير فيها، وجاوز الحد في المعصية. {ولم يؤمن بآيات ربه{ أي لم يصدق بها. {ولعذاب الآخرة أشد{ أي أفظع من المعيشة الضنك، وعذاب القبر. {وأبقى{ أي أدوم وأثبت؛ لأنه لا ينقطع ولا ينقضي.
الآية رقم ( 128 : 130 )
{أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى، ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى، فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى}
قوله تعالى{أفلم يهد لهم{ يريد أهل مكة؛ أي أفلم يتبين لهم خبر من أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إذا سافروا وخرجوا في التجارة طلب المعيشة، فيرون بلاد الأمم الماضية، والقرون الخالية خاويه؛ أي أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ما حل بالكفار قبلهم. وقرأ ابن عباس والسلمي وغيرهما {نهد لهم{ بالنون وهي أبين. و{يهد{ بالياء مشكل لأجل الفاعل؛ فقال الكوفيون {كم{ الفاعل؛ النحاس: وهذا خطأ لأن {كم{ استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها. وقال الزجاج المعنى أو لم يهد لهم الأم بإهلاكنا من أهلكنا. وحقيقة {يهد{ على الهدى؛ فالفاعل هو الهدى تقديره أفلم يهد الهدى لهم. قال الزجاج{كم{ في موضع نصب {أهلكنا{.
قوله تعالى{ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما{ فيه تقديم وتأخير؛ أي ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما؛ قاله قتادة. واللزام الملازمة؛ أي لكان العذاب لازما لهم. وأضمر اسم كان. {وأجل مسمى{ قال الزجاج: عطف على {كلمة{. قتادة: والمراد القيامة؛ وقاله القتبي. وقيل تأخيرهم إلى يوم بدر.
قوله تعالى{فاصبر على ما يقولون{ أمره تعالى بالصبر على أقوالهم: إنه ساحر؛ إنه كاهن؛ إنه كذاب؛ إلى غير ذلك. والمعنى لا تحفل بهم؛ فان لعذابهم وقتا مضروبا لا يتقدم ولا يتأخر. ثم قيل: هذا منسوخ بآية القتال. وقيل: ليس منسوخا؛ إذ لم يستأصل الكفار بعد آية القتال بل بقي المعظم منهم. {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس{ قال أكثر المتأولين: هذا إشارة إلى الصلوات الخمس {قبل طلوع الشمس{ صلاة الصبح {وقبل غروبها{ صلاة العصر {ومن آناء الليل فسبح{ العتمة {وأطراف النهار{ المغرب والظهر؛ لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول، وأول طرف النهار الآخر؛ فهي في طرفين منه؛ والطرف الثالث غروب الشمس وهو وقت المغرب. وقيل: النهار ينقسم قسمين فصلهما الزوال، ولكل قسم طرفان؛ فعند الزوال طرفان؛ الآخر من القسم الأول والأول من القسم الآخر؛ فقال عن الطرفين أطرافا على نحو {فقد صغت قلوبكما}التحريم: 4] وأشار إلى هذا النظر ابن فورك في المشكل. وقيل: النهار للجنس فلكل يوم طرف، وهو إلى جمع لأنه يعود في كل نهار. و{آناء الليل{ ساعاته وواحد الآناء إني وإنى وأنى. وقالت فرقة: المراد بالآية صلاة التطوع؛ قاله الحسن. {لعلك ترضى{ بفتح التاء؛ أي لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى به. وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم {تُرضى{ بضم التاء؛ أي لعلك تعطى ما يرضيك.
الآية رقم ( 131 : 132 )
{ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى، وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى}
قوله تعالى{ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به{ وقد تقدم. {أزواجا{ مفعول بـ {متعنا{. و{زهرة{ نصب على الحال. وقال الزجاج{زهرة{ منصوبة بمعنى {متعنا{ لأن معناه جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة؛ أو بفعل مضمر وهو {جعلنا{ أي جعلنا لهم زهرة الحياة الدنيا؛ عن الزجاج أيضا. وقيل: هي بدل من الهاء في {به{ على الموضع كما تقول: مررت به أخاك. وأشار الفراء إلى نصبه على الحال؛ والعامل فيه {متعنا{ قال: كما تقول مررت به المسكين؛ وقدره: متعناهم به زهرة الحياة في الدنيا وزينة فيها. ويجوز أن على المصدر مثل {صنع الله{ و{وعد الله{ وفيه نظر. والأحسن أن ينتصب على الحال ويحذف التنوين لسكونه وسكون اللام من الحياة؛ كما قرئ {ولا الليل سابق النهار{ بنصب النهار بسابق على تقدير حذف التنوين لسكونه وسكون اللام، وتكون {الحياة{ مخفوضة على البدل من {ما{ في قوله{إلى ما متعنا به{ فيكون التقدير: ولا تمدن عينيك إلى الحياة الدنيا زهرة أي في حال زهرتها. ولا يحسن أن يكون {زهرة{ بدلا من {ما{ على الموضع في قوله{إلى ما متعنا{ لأن {لنفتنهم{ متعلق و{متعنا{ و{زهرة الحياة الدنيا{ يعني زينتها بالنبات. والزهرة، بالفتح في الزاي والهاء نور النبات. والزهرة بضم الزاي وفتح الهاء النجم. وبنو زهرة بسكون الهاء؛ قاله ابن عزيز. وقرأ عيسى بن عمر {زهرة{ بفتح الهاء مثل نهر ونهر. ويقال: سراج زاهر أي له بريق. وزهر الأشجار ما يروق من ألوانها. وفي الحديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم أزهر اللون أي نير اللون؛ يقال لكل شيء مستنيرك زاهر، وهو أحسن الألوان. {لنفتنهم فيه{ أي لنبتليهم. وقيل: لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالا، ومعنى الآية: لا تجعل يا محمد لزهرة الدنيا وزنا، فإنه لا بقاء لها. {ولا تمدن{ أبلغ من لا تنظرن، لأن الذي يمد بصره، إنما يحمله على ذلك حرص مقترن، والذي ينظر قد لا يكون ذلك معه.
مسألة:
قال بعض الناس سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال نزل ضيف برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلني عليه السلام إلى رجل من اليهود، وقال قل له يقول لك محمد: نزل بنا ضيف ولم يلق عندنا بعض الذي يصلحه؛ فبعني كذا وكذا من الدقيق، أو أسلفني إلى هلال رجب فقال: لا، إلا برهن. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال{والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ولو أسلفني أو باعني لأديت إليه اذهب بدرعي إليه{ ونزلت الآية تعزية له عن الدنيا. قال ابن عطية وهذا معترض أن يكون سببا؛ لأن السورة مكية والقصة المذكورة مدنية في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي بهذه القصة التي ذكرت؛ وإنما الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها، وذلك أن الله تعالى وبخهم على ترك الاعتبار بالأمم السالفة ثم توعدهم بالعذاب المؤجل، ثم أمر نبيه بالاحتقار لشأنهم، والصبر على أقوالهم، والإعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا؛ إذ ذلك منصرم عنهم صائر إلى خزي.
قلت: وكذلك ما روي عنه عليه السلام أنه مر بابل بني المصطلق وقد عبست في أبوالها (1) من السمن فتقنع بثوبه ثم مضى، لقوله عز وجل{ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم{ الآية. ثم سلاه فقال{ورزق ربك خير وأبقى{ أي ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا أولى؛ لأنه يبقى والدنيا تفنى. وقيل: يعني بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من البلاد والغنائم.
قوله تعالى{وأمر أهلك بالصلاة{ أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة ويمتثلها معهم، ويصطبر عليها ويلازمها. وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل في عمومه جميع أمته؛ وأهل بيته على التخصيص. وكان عليه السلام بعد نزول هذه الآية يذهب كل صباح إلى بيت فاطمة وعلي رضوان الله عليهما فيقول {الصلاة{. ويروى أن عروة بن الزبير رضي الله عنه كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزل فدخله، وهو يقرأ {ولا تمدن عينك{ الآية إلى قوله{وأبقى{ ثم ينادي بالصلاة الصلاة يرحمكم الله؛ ويصلي. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي وهو يتمثل بالآية.
قوله تعالى{لا نسألك رزقا{ أي لا نسألك أن ترزق نفسك وإياهم، وتشتغل عن الصلاة بسبب الرزق، بل نحن نتكفل برزقك وإياهم، فكان عليه السلام إذا نزل بأهله ضيق أمرهم بالصلاة. وقد قال الله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق}الذاريات 56]. {والعاقبة للتقوى{ أي الجنة لأهل التقوى؛ يعني العاقبة المحمودة. وقد تكون لغير التقوى عاقبة ولكنها مذمومة فهي كالمعدومة.
الآية رقم ( 133 : 135 )
{وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى، ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى، قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى}
قوله تعالى{وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه{ يريد كفار مكة؛ أي لولا يأتينا محمد بآية توجب العلم الضروري. أو بآية ظاهرة كالناقة والعصا. أو هلا يأتينا بالآيات التي نقترحها نحن كما أتى الأنبياء من قبله. {أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى{ يريد التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة، وذلك أعظم آية إذ أخبر بما فيها. وقرئ {الصحف{ بالتخفيف. وقيل أو لم تأتيهم الآية الدالة على نبوته بما وجدوه في الكتب المتقدمة من البشارة. وقل: أو لم يأتهم إهلاكنا الأمم الذين كفروا واقترحوا الآيات، فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات أن يكون حالهم حال أولئك وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو ويعقوب وابن أبي إسحاق وحفص {أو لم تأتيهم{ بالتاء لتأنيث البينة. الباقون بالياء لتقدم الفعل ولأن البينة هي البيان والبرهان فردوه إلى المعنى، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وحكى الكسائي {أو لم تأتيهم بينة ما في الصحف الأولى{ قال: ويجوز على هذا {بينة ما في الصحف الأولى{. قال النحاس إذا نونت {بينة{ ورفعت جعلت {ما{ بدلا منها وإذا نصبتها فعلى الحال؛ والمعنى أو لم يأتهم ما في الصحف الأولى مبينا.
قوله تعالى{ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله{ أي من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن {لقالوا{ أي يوم القيامة {ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا{ أي هلا أرسلت إلينا رسولا {فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى{ وقرئ {نذل ونخزى{ على ما لم يسم فاعله. وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهالك في الفترة والمعتوه والمولود قال: (يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب ولا رسول ثم تلا {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا{ الآية ويقول المعتوه رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ويقول المولود رب لم أدرك العمل فترفع لهم نار فيقول لهم ردوها وادخلوها قال فيردها أو يدخلها من كان علم الله سعيدا لو أدرك العمل ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل فيقول الله تبارك وتعالى إياك عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم). ويروى موقوفا عن أبي سعيد قوله فيه نظر وقد بيناه في كتاب {التذكرة{ وبه احتج من قال: إن الأطفال وغيرهم يمتحنون في الآخرة. {فنتبع{ نصب بجواب التخصيص. {آياتك{ يريد ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {من قبل أن نذل{ أي في العذاب {ونخزي{ في جهنم؛ قاله ابن عباس. وقيل{من قبل أن نذل{ في الدنيا بالعذاب {ونخزى{ في الآخرة بعذابها.
قوله تعالى{قل كل متربص{ أي قل لهم يا محمد كل متربص؛ أي كل المؤمنين الكافرين منتظرين دوائر الزمان ولمن يكون النصر. {فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى{ يريد الدين المستقيم والهدى والمعنى فستعلمون بالنصر من اهتدى إلى دين الحق. وقيل: فستعلمون يوم القيامة من اهتدى إلى طريق الجنة. وفي هذا ضرب من الوعيد والتخويف والتهديد ختم به السورة. وقرئ {فسوف تعلمون{. قال أبو رافع: حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذكره الزمخشري. و{من{ في موضع رفع عند الزجاج. وقال الفراء يجوز أن يكون في موضع نصب مثل {والله يعلم المفسد من المصلح{. قال أبو إسحاق: هذا خطأ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، و{من{ ها هنا استفهام في موضع رفع بالابتداء؛ والمعنى: فستعلمون أصحاب الصراط السوي نحن أم أنتم؟. قال النحاس والفراء يذهب إلى أن معنى {من أصحاب الصراط السوي{ من لم يضل وإلى أن معنى {ومن اهتدى{ من ضل ثم اهتدى. وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري {فسيعلمون من أصحاب الصراط السوي{ بتشديد الواو بعدها ألف التأنيث على فعلى بغير همزة؛ وتأنيث الصراط شاذ قليل، قال الله وتعالى{اهدنا الصراط المستقيم}الفاتحة: 6] فجاء مذكرا في هذا وفي غيره، وقد رد هذا أبو حاتم قال: إن كان من السوء وجب أن يقال السوءى وإن كان من السواء وجب أن يقال: السيا بكسر السين والأصل السويا. قال الزمخشري: وقرئ {السواء{ بمعنى الوسط والعدل؛ أو المستوي. النحاس وجواز قراءة يحيى بن يعمر والجحدري أن يكون الأصل {السوءى{ والساكن ليس بحاجز حصين، فكأنه قلب الهمزة ضمة فأبدل منها واوا كما يبدل منها ألف إذا انفتح ما قبلها. تمت والحمد لله وحده.
{اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون، ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون}
قوله تعالى{اقترب للناس حسابهم{ قال عبدالله بن مسعود: الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول، وهن تلادي يريد من قديم ما كسب وحفظ من القرآن كالمال التلاد. وروي أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبني جدارا فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون{ فنفض يده من البنيان، وقال: والله لا بنيت أبدا وقد اقترب الحساب. {اقترب{ أي قرب الوقت الذي يحاسبون فيه على أعمالهم. {للناس{ قال ابن عباس: المراد بالناس هنا المشركون بدليل قوله تعالى{إلا استمعوه وهم يلعبون{ إلى قوله{أفتأتون السحر وأنتم تبصرون{. وقيل: الناس عموم وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش؛ يدل على ذلك ما بعد من الآيات؛ ومن علم اقتراب الساعة قصر أمله، وطابت نفسه بالتوبة، ولم يركن إلى الدنيا، فكأن ما كان لم يكن إذا ذهب، وكل آت قريب، والموت لا محالة آت؛ وموت كل إنسان قيام ساعته؛ والقيامة أيضا قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى. وقال الضحاك: معنى {اقترب للناس حسابهم{ أي عذابهم يعني أهل مكة؛ من لأنهم استبطؤوا ما وعدوا به من العذاب تكذيبا، وكان قتلهم يوم بدر. النحاس ولا يجوز في الكلام اقترب حسابهم للناس؛ لئلا يتقدم مضمر على مظهر لا يجوز أن ينوي به التأخير. {وهم في غفلة معرضون{ ابتداء وخبر. ويجوز النصب في غير القرآن على الحال. وفيه وجهان: أحدهما{وهم غفلة معرضون{ يعني بالدنيا عن الآخرة. الثاني: عن التأهب للحساب وعما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا الواو عند سيبويه بمعنى {إذ{ وهي التي يسميها النحويون واو الحال؛ كما قال الله تبارك وتعالى{يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم}آل عمران: 154].
قوله تعالى{ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث{ محدث{ نعت لـ {ذكر{. وأجاز الكسائي والفراء {محدثا{ بمعنى ما يأتيهم محدثا؛ نصب على الحال. وأجاز الفراء أيضا رفع {محدث{ على النعت للذكر؛ لأنك لو حذفت {من{ رفعت ذكرا؛ أي ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث؛ يريد في النزول وتلاوة جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان ينزل سورة بعد سورة، وآية بعد آية، كما كان ينزل الله تعالى عليه في وقت بعد وقت؛ لا أن القرآن مخلوق. وقيل: الذكر ما يذكرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ويعظهم به. وقال{من ربهم{ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بالوحي، فوعظ النبي صلى الله عليه وسلم وتحذيره ذكر، وهو محدث؛ قال الله تعالى{فذكر إنما أنت مذكر}الغاشية: 21]. ويقال: فلان في مجلس الذكر. وقيل: الذكر الرسول نفسه؛ قال الحسين بن الفضل بدليل ما في سياق الآية {هل هذا إلا بشر مثلكم}الأنبياء: 3] ولو أراد بالذكر القرآن لقال: هل هذا إلا أساطير الأولين؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى{ويقولون إنه لمجنون. وما هو إلا ذكر للعالمين}القلم: 51 - 52] يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وقال{قد أنزل الله إليكم ذكرا. رسولا}الطلاق: 10 - 11]. {إلا استمعوه{ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، أو القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم أو من أمته. {وهم يلعبون{ الواو واو الحال يدل عليه {لاهية قلوبهم{ ومعنى {يلعبون{ أي يلهون. وقيل: يشتغلون؛ فإن حمل تأويله على اللهو احتمل ما يلهون به وجهين: أحدهما: بلذاتهم. الثاني: بسماع ما يتلى عليهم. وإن حمل تأويله حلى الشغل احتمل ما يتشاغلون به وجهين: أحدهما: بالدنيا لأنها لعب؛ كما قال الله تعالى{إنما الحياة الدنيا لعب ولهو}محمد: 36]. الثاني: يتشاغلون بالقدح فيه، والاعتراض عليه. قال الحسن: كلما جدد لهم الذكر استمروا على الجهل وقيل: يستمعون القرآن مستهزئين.
قوله تعالى{لاهية قلوبهم{ أي ساهية قلوبهم، معرضة عن ذكر الله، متشاغلة عن التأمل والتفهم؛ من قول العرب: لهيت عن ذكر الشيء إذا تركته وسلوت عنه ألهى لهيا ولهيانا. و{لاهية{ نعت تقدم الاسم، ومن حق النعت أن يتبع المنعوت في جميع الإعراب، فإذا تقدم النعت الاسم انتصب كقوله{خاشعة أبصارهم}القلم: 43] و{ودانية عليهم ظلالها}الإنسان: 14] و{لاهية قلوبهم{ قال الشاعر:
لعزة موحشا طلل يلوح كأنه خلل
أراد: طلل موحش. وأجاز الكسائي والفراء {لاهية قلوبهم{ بالرفع بمعنى قلوبهم لاهية. وأجاز غيرهما الرفع على أن يكون خبرا بعد خبر وعلى إضمار مبتدأ. وقال الكسائي: ويجوز أن يكون المعنى؛ إلا استمعوه لاهية قلوبهم. {وأسروا النجوى الذين ظلموا{ أي تناجوا فيما بينهم بالتكذيب، ثم بين من هم فقال{الذين ظلموا{ أي الذي أشركوا؛ فـ {الذين ظلموا{ بدل من الواو في {أسروا{ وهو عائد على الناس المتقدم ذكرهم؛ ولا يوقف على هذا القول على {النجوى{. قال المبرد وهو كقولك: إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبدالله فبنو بدل من الواو في انطلقوا. وقيل: هو رفع على الذم، أي هم الذين ظلموا. وقيل: على حذف القول؛ التقدير: يقول الذين ظلموا وحذف القول؛ مثل {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم}الرعد: 23 - 24]. واختار هذا القول النحاس؛ قال: والدليل على صحة هذا الجواب أن بعده {هل هذا إلا بشر مثلكم}الأنبياء: 3]. وقول رابع: يكون منصوبا بمعنى أعني الذين ظلموا. وأجاز الفراء أن يكون خفضا بمعنى اقترب للناس الذين ظلموا حسابهم؛ ولا يوقف على هذا الوجه على {النجوى{ ويوقف على الوجه المتقدمة الثلاثة قبله؛ فهذه خمسة أقوال. وأجاز الأخفش الرفع على لغة من قال: أكلوني البراغيث؛ وهو حسن؛ قال الله تعالى{ثم عموا وصموا كثير منهم}المائدة: 71]. وقال الشاعر:
بك نال النضال دون المساعي فاهتدين النبال للأغراض
وقال آخر:
ولكن ديافي أبوه وأمه بحوران يعصرن السليط أقاربه
وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير؛ مجازه: والذين ظلموا أسروا النجوى أبو عبيدة{أسروا{ هنا من الأضداد؛ فيحتمل أن يكونوا أخفوا كلامهم، ويحتمل أن يكونوا أظهروه وأعلنوه.
قوله تعالى{هل هذا إلا بشر مثلكم{ أي تناجوا بينهم وقالوا: هل هذا الذكر الذي هو الرسول، أو هل هذا الذي يدعوكم إلا بشر مثلكم، لا يتميز عنكم بشيء، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق كما تفعلون. وما علموا أن الله عز وجل أنه لا يجوز أن يرسل إليهم إلا بشرا ليتفهموا ويعلمهم. {أفتأتون السحر{ أي إن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم سحر، فكيف تجيؤون إليه وتتبعونه؟ فأطلع الله نبيه عليه السلام على ما تناجوا به. و{السحر{ في اللغة كل مموه لا حقيقة له ولا صحة. {وأنتم تبصرون{ أنه إنسان مثلكم مثل{وأنتم تعقلون{ لأن العقل البصر بالأشياء. وقيل: المعنى؛ أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر. وقيل: المعني؛ أفتعدلون إلى الباطل وأنتم تعرفون الحق؛ ومعنى الكلام التوبيخ.
الآية رقم ( 4 : 6 )
{قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم، بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون، ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون}
قوله تعالى{قال ربي يعلم القول في السماء والأرض{ أي لا يخفى عليه شيء مما يقال في السماء والأرض. وفي مصاحف أهل الكوفة {قال ربي{ أي قال محمد ربي يعلم القول؛ أي هو عالم بما تناجيتم به. وقيل: إن القراءة الأولى أولي لأنهم أسروا هذا القول فأظهر الله عز وجل عليه نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يقول لهم هذا؛ قال النحاس: والقراءتان صحيحتان وهما بمنزلة الآيتين، وفيهما من الفائدة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر وأنه قال كما أمر.
قوله تعالى{بل قالوا أضغاث أحلام{ قال الزجاج: أي قالوا الذي يأتي به أضغاث أحلام. وقال غيره: أي قالوا هو أخلاط كالأحلام المختلطة؛ أي أهاويل رآها في المنام؛ قال معناه مجاهد وقتادة؛ ومنه قول الشاعر:
كضغث حلم غرمنه حالمه
وقال القتبي: إنها الرؤيا الكاذبة؛ وفيه قول الشاعر:
أحاديث طسم أو سراب بفدفد ترقرق للساري وأضغاث حالم
وقال اليزيدي: الأضغاث ما لم يكن له تأويل. وقد مضى هذا في {يوسف{. فلما رأوا أن الأمر ليس كما قالوا انتقلوا عن ذلك فقالوا{بل افتراه{ ثم انتقلوا عن ذلك فقالوا{بل هو شاعر{ أي هم متحيرون لا يستقرون على شيء قالوا ومرة سحر، ومرة أضغاث أحلام، ومرة افتراه، ومرة شاعر. وقيل: أي قال فريق إنه ساحر، وفريق إنه أضغاث أحلام؛ وفريق إنه افتراه، وفريق إنه شاعر. والافتراء الاختلاق؛ وقد تقدم. {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون{ أي كما أرسل موسى بالعصا وغيرها من الآيات ومثل ناقة صالح. وكانوا عالمين بأن القرآن ليس بسحر ولا رؤيا ولكن قالوا: ينبغي أن يأتي بآية نقترحها؛ ولم يكن لهم الاقتراح بعدما رأوا آية واحدة. وأيضا إذا لم يؤمنوا بآية هي من جنس ما هم أعلم الناس به، ولا مجال للشبهة فيها فكيف يؤمنون بآية غيرها، ولو أبرأ الأكمه والأبرص لقالوا: هذا من باب الطب، وليس ذلك من صناعتنا، وإنما كان سؤالهم تعنتا إذ كان الله أعطاهم من الآيات ما فيه كفاية. وبين الله عز وجل أنهم لو كانوا يؤمنون لأعطاهم ما سألوه لقوله عز وجل{ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون}الأنفال: 23].
قوله تعالى{ما آمنت قبلهم من قرية{ قال ابن عباس: يريد قوم صالح وقوم فرعون. {أهلكناها{ يريد كان في علمنا هلاكها. {أفهم يؤمنون{ يريد يصدقون؛ أي فما آمنوا بالآيات فاستؤصلوا فلو رأى هؤلاء ما اقترحوا لما آمنوا؛ لما سبق من القضاء بأنهم لا يؤمنون أيضا؛ وإنما تأخر عقابهم لعلمنا بأن في أصلابهم من يؤمن. و{من{ زائدة في قوله{من قرية{ كقوله{فما منكم من أحد عنه حاجزين}الحاقة: 47].
الآية رقم ( 7 : 10 )
{وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين، ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين، لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون}
قوله تعالى{وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم{ هذا رد عليهم في قولهم{هل هذا إلا بشر مثلكم}الأنبياء: 3] وتأنيس لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ أي لم يرسل قبلك إلا رجالا. {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون{ يريد أهل التوراة والإنجيل الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، قاله سفيان. وسماهم أهل الذكر؛ لأنهم كانوا يذكرون خبر الأنبياء مما لم تعرفه العرب. وكان كفار قريش يراجعون أهل الكتاب في آمر محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن زيد: أراد بالذكر القرآن؛ أي فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن؛ قال جابر الجعفي: لما نزلت هذه الآية قال علي رضي الله عنه نحن أهل الذكر. وقد ثبت بالتواتر أن الرسل كانوا من البشر؛ فالمعنى لا تبدؤوا بالإنكار وبقولكم ينبغي أن يكون الرسول من الملائكة، بل ناظروا المؤمنين ليبينوا لكم جواز أن يكون الرسول من البشر. والملك لا يسمى رجلا؛ لأن الرجل يقع على ماله ضد من لفظه تقول رجل وامرأة، ورجل وصبي فقوله{إلا رجالا{ من بني آدم. وقرأ حفص وحمزة والكسائي {نوحي إليهم{.
مسألة:
لم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المراد بقول الله عز وجل{فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون{ أجمعوا على أن الأعمى لا بدله من تقليد غيره ممن يثق بميزة بالقبلة إذا أشكلت عليه؛ فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد له من تقليد عالمه، وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا؛ لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم.
قوله تعالى{وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام{ الضمير في {جعلناهم{ للأنبياء؛ أي لم نجعل الرسل قبلك خارجين عن طباع البشر لا يحتاجون إلى طعام وشراب {وما كانوا خالدين{ يريد لا يموتون وهذا جواب لقولهم{ما هذا إلا بشر مثلكم}المؤمنون: 33] وقولهم{ما لهذا الرسول يأكل الطعام}الفرقان: 7]. و{جسدا{ اسم جنس؛ ولهذا لم يقل أجسادا، وقيل: لم يقل أجسادا؛ لأنه أراد وما جعلنا كل واحد منهم جسدا. والجسد البدن؛ تقول منه تجسد كما تقول من الجسم تجسم. والجسد أيضا الزعفران أو نحوه الصبغ، وهو الدم أيضا؛ قاله النابغة:
وما أهريق على الأنصاب من جسد
وقال الكلبي: والجسد هو المتجسد الذي فيه الروح يأكل ويشرب؛ فعلى مقتضى هذا القول يكون ما لا يأكل ولا يشرب جسما وقال مجاهد: الجسد ما لا يأكل ولا يشرب؛ فعلى مقتضى هذا القول يكون ما يأكل ويشرب نفسا ذكره الماوردي. {ثم صدقناهم الوعد{ يعني الأنبياء؛ أي بإنجائهم ونصرهم وإهلاك مكذبيهم. {فأنجيناهم ومن نشاء{ أي الذين صدقوا الأنبياء. {وأهلكنا المسرفين{ أي المشركين.
قوله تعالى{لقد أنزلنا إليكم كتابا{ يعني القرآن. {فيه ذكركم{ رفع بالابتداء والجملة في موضع نصب لأنها نعت لكتاب؛ والمراد بالذكر هنا الشرف؛ أي فيه شرفكم، مثل {وإنه لذكر لك ولقومك}الزخرف: 44]. ثم نبههم بالاستفهام الذي معناه التوقيف فقال عز وجل{أفلا تعقلون{ وقيل: فيه ذكركم أي ذكر أم دينكم؛ وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب وعقاب، أفلا تعقلون هذه الأشياء التي ذكرناها؟ ! وقال مجاهد{فيه ذكركم{ أي حديثكم. وقيل: مكارم أخلاقكم، ومحاسن أعمالكم. وقال سهل بن عبدالله: العمل بما فيه حياتكم.
قلت: وهذه الأقوال بمعنى والأول يعمها؛ إذ هي شرف كلها، والكتاب شرف لنبينا عليه السلام؛ لأنه معجزته، وهو شرف لنا إن عملنا بما فيه، دليله قول عليه السلام: (القرآن حجة لك أو عليك).
">الآية رقم ( 11 : 15 )">
الآية رقم ( 11 : 15 )
{وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين، فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون، لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون، قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين، فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين}
قوله تعالى{وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة{ يريد مدائن كانت باليمن. وقال أهل التفسير والأخبار: إنه أراد أهل حضور وكان بعث إليهم نبي اسمه شعيب بن ذي مهدم، وقبر شعيب هذا باليمن بجبل يقال له ضنن كثير الثلج، وليس بشعيب صاحب مدين؛ لأن قصة حضور قبل مدة عيسى عليه السلام، وبعد مئين من السنين من مدة سليمان عليه السلام، وأنهم قتلوا نبيهم وقتل أصحاب الرسول في ذلك التاريخ نبيا لهم اسمه حنظلة بن صفوان، وكانت حضور بأرض الحجاز من ناحية الشام، فأوحى الله إلى أرميا أن أيت بختنصر فأعلمه أني قد سلطته على أرض العرب وأني منتقم بك منهم، وأوحى الله إلى أرميا أن احمل معد بن عدنان على البراق إلى أرض العراق؛ كي لا تصيبه النقمة والبلاء معهم، فإني مستخرج من صلبه نبيا في آخر الزمان اسمه محمد، فحمل معدا وهو ابن اثنتا عشرة سنة، فكان مع بني إسرائيل إلى أن كبر وتزوج امرأة اسمها معانة؛ ثم إن بختنصر نهض بالجيوش، وكمن للعرب في مكان - وهو أول من اتخذ المكامن فيما ذكروا - ثم شن الغارات على حضور فقتل وسبى وخرب العامر، ولم يترك بحضور أثرا، ثم نصرف راجعا إلى السواد. و{كم{ في موضع نصب بـ {قصمنا{. والقصم الكسر؛ يقال: قصمت ظهر فلان وانقصمت سنه إذا انكسرت والمعني به ههنا الإهلاك. وأما الفصم (بالفاء) فهو الصدع في الشيء من غير بينونة؛ قال الشاعر:
كأنه دملج من فضه نبه في ملعب من عذاري الحي مفصوم
ومنه الحديث (فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا). وقوله{كان ظالمة{ أي كافرة؛ يعني أهلها. والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر موضع الإيمان.
قوله تعالى{وأنشأنا{ أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاكهم {فلما أحسوا{ أي رأوا عذابنا؛ يقال: أحسست منه ضعفا. وقال الأخفش{أحسوا{ خافوا وتوقعوا. {إذا هم منها يركضون{ أي يهربون ويفرون. والركض العدو بشدة الوطء. والركض تحريك الرجل؛ ومنه قوله تعالى{اركض برجلك}ص: 42] وركضت الفرس برجلي استحثثته ليعدو ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا وليس بالأصل، والصواب ركض الفرس على ما لم يسم فاعله فهوم مركوض.
قوله تعالى{لا تركضوا{ أي لا تفروا. وقيل: إن الملائكة نادتهم لما انهزموا استهزاء بهم وقالت{لا تركضوا{ {وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم{ أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم، والمترف المتنعم؛ يقال: أترف على فلان أي وسع عليه في معاشه. وإنما أترفهم الله عز وجل كما قال{وأترفناهم في الحياة الدنيا}المؤمنون: 33]. {لعلكم تسألون{ أي لعلكم تسألون شيئا من دنياكم؛ استهزاء بهم؛ قاله قتادة. وقيل: المعنى {لعلكم تسألون{ عما نزل بكم من العقوبة فتخبرون به. وقيل: المعنى {لعلكم تسألون{ أي تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول البأس بكم؛ قيل لهم ذلك استهزاء وتقريعا وتوبيخا. {قالوا يا ويلنا{ لما قالت لهم الملائكة{لا تركضوا{ ونادت بالثارات الأنبياء! ولم يروا شخصا يكلمهم عرفوا أن الله عز وجل هو الذي سلط عليهم عدوهم بقتلهم النبي الذي بعث فيهم، فعند ذلك قالوا {يا ويلنا إن كنا ظالمين{ فاعترفوا بأنهم ظلموا حين لا ينفع الاعتراف. {فما زالت تلك دعواهم{ أي لم يزالوا يقولون{يا ويلتا إنا كنا ظالمين{. {حتى جعلناهم حصيدا{ أي بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل؛ قال مجاهد. وقال الحسن: أي بالعذاب. {خامدين{ أي ميتين. والخمود الهمود كخمود النار إذا طفئت فشبه خمود الحياة بخمود النار كما يقال لمن مات قد طفئ تشبيها بانطفاء النار.
الآية رقم ( 16 : 18 )
{وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين، لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون}
قوله تعالى{وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين{ أي عبثا وباطلا؛ بل للتنبيه على أن لها خالقا قادرا يجب امتثال أموه، وأنه يجازي المسيء والمحسن أي ما خلقنا السماء والأرض ليظلم بعض الناس بعضا ويكفر بعضهم، ويخالف بعضهم ما أمر به ثم يموتوا ولا يجازوا، ولا يؤمروا في الدنيا بحسن ولا ينهوا عن قبيح. وهذا اللعب المنفي عن الحكيم ضده الحكمة.
قوله تعالى{لو أردنا أن نتخذ لهوا{ لما اعتقد قوم أن له ولدا قال{لو أردنا أن نتخذ لهوا{ واللهو المرأة بلغة اليمن؛ قاله قتادة. وقال عقبة بن أبي جسرة - وجاء طاووس وعطاء ومجاهد يسألونه عن قوله تعالى{لو أردنا أن نتخذ لهوا{ - فقال: اللهو الزوجة؛ وقال الحسن. وقال ابن عباس: اللهو الولد؛ وقاله الحسن أيضا. قال الجوهري: وقد يكنى باللهو عن الجماع.
قلت: ومنه قول امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي
وإنما سمي الجماع لهوا لأنه ملهى للقلب، كما قال:
وفيهن ملهى للصديق ومنظر
الجوهري: قوله تعالى{لو أردنا أن نتخذ لهوا{ قالوا امرأة، ويقال: ولدا. {لاتخذناه من لدنا{ أي من عندنا لا من عندكم. قال ابن جريج: من أهل السماء لا من أهل الأرض. قيل: أراد الرد على من قال إن الأصنام بنات الله؛ أي كيف يكون منحوتكم ولدا لنا. وقال ابن قتيبة: الآية رد على النصارى. {إن كنا فاعلين{ قال قتادة ومقاتل وابن. جريح والحسن: المعنى ما كنا فاعلين؛ مثل {إن أنت إلا نذير}فاطر: 23] أي ما أنت إلا نذير. و{إن{ بمعنى الجحد وتم الكلام عند قوله{لاتخذناه من لدنا{. وقيل: إنه على معنى الشرط؛ أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا بفاعلين ذلك لاستحالة أن يكون لنا ولد؛ إذ لو كان ذلك لم نخلق جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا. وقيل: لو أردنا أن نتخذ ولدا على طريق التبني لاتخذناه من عندنا من الملائكة. ومال إلى هذا قوم؛ لأن الإرادة قد تتعلق بالتبني فأما اتخاذ الولد فهو محال، والإرادة لا تتعلق بالمستحيل؛ ذكره القشيري.
قوله تعالى{بل نقذف بالحق على الباطل{ القذف الرمي؛ أي نرمي بالحق على الباطل. {فيدمغه{ أي يقهره ويهلكه. وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدامغة. والحق هنا القرآن، والباطل الشيطان في قول مجاهد؛ قال: وكل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان. وقيل: الباطل كذبهم ووصفهم الله عز وجل بغير صفاته من الولد وغيره. وقيل: أراد بالحق الحجة، وبالباطل شبههم. وقيل: الحق المواعظ، والباطل المعاصي؛ والمعنى متقارب. والقرآن يتضمن الحجة والموعظة. {فإذا هو زاهق{ أي هالك وتالف؛ قاله قتادة. {ولكم الويل{ أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم الله بما لا يجوز وصفه. وقال ابن عباس: الويل واد في جهنم؛ وقد تقدم. {مما تصفون {أي مما تكذبون؛ عن قتادة ومجاهد؛ نظيره{ سيجزيهم وصفهم}الأنعام: 139] أي بكذبهم. وقيل: مما تصفون الله به من المحال وهو اتخاذه سبحانه الولد.
الآية رقم ( 19 : 21 )
{وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون}
قوله تعالى{وله من في السماوات والأرض{ أي ملكا وخلقا فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبده وخلقه. {ومن عنده{ يعني الملائكة الذين ذكرتم أنهم بنات الله. {لا يستكبرون{ أي لا يأنفون {عن عبادته{ والتذلل له. {ولا يستحسرون{ أي يعيون؛ قال قتادة. مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالأعياء والتعب، [يقال]: حسر البعير يحسر حسورا أعيا وكل، واستحسر وتحسر مثله، وحسرته أنا حسرا يتعدى ولا يتعدى، وأحسرته أيضا فهو حسير. وقال ابن زيد: لا يملون. ابن عباس: لا يستنكفون. وقال أبو زيد: لا يكلون. وقيل: لا يفشلون؛ ذكره ابن الأعرابي؛ والمعنى واحد. {يسبحون الليل والنهار{ أي يصلون ويذكرون الله وينزهونه دائما. {لا يفترون{ أي لا يضعفون ولا يسأمون، يلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس. قال عبدالله بن الحرث سألت كعبا فقلت: أما لهم شغل عن التسبيح؟ أما يشغلهم عنه شيء؟ فقال: من هذا؟ فقلت: من بني عبدالمطلب؛ فضمني إليه وقال: يا ابن أخي هل يشغلك شيء عن النفس؟! إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. وقد استدل بهذه الآية من قال: إن الملائكة أفضل من بني آدم. وقد تقدم والحمد لله.
قوله تعالى{أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون{ قال المفضل: مقصود هذا الاستفهام الجحد، أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء. وقيل{أم{ بمعنى {هل{ أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى. ولا تكون {أم{ هنا بمعنى بل؛ لأن ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدر {أم{ مع الاستفهام فتكون {أم{ المنقطعة فيصح المعنى؛ قاله المبرد. وقيل{أم {عطف على المعنى أي أفخلقنا السماء والأرض لعبا، أو هذا الذي أضافوه إلينا من عندنا فيكون لهم موضع شبهة؟ أو هل ما اتخذوه من الآلهة في الأرض يحيي الموتى فيكون موضع شبهة؟. وقيل{لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون}الأنبياء: 10] ثم عطف عليه بالمعاتبة، وعلى هذين التأويلين تكون {أم{ متصلة. وقرأ الجمهور {ينشرون{ بضم الياء وكسر الشين من أنشر الله الميت فنشر أي أحياه فحيي. وقرأ الحسن بفتح الياء؛ أي يحيون ولا يموتون.
الآية رقم ( 22 : 24 )
{لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون}
قوله تعالى{لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا{ أي لو كان في السموات والأرضين آلهة غير الله معبودون لفسدتا. قال الكسائي وسيبويه{إلا{ بمعنى غير فلما جعلت إلا في موضع غير أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب كما غير، كما قال:
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
وحكى سيبويه: لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا. وقال الفراء{إلا{ هنا في موضع سوى، والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسد أهلها. وقال غيره: أي لو كان فيهما إلهان لفسد التدبير؛ لأن أحدهما إن أراد شيئا والآخر ضده كان أحدهما عاجزا. وقيل: معنى {لفسدتا{ أي خربتا وهلك من فيهما بوقوع التنازع بالاختلاف الواقع بين الشركاء. {فسبحان الله رب العرش عما يصفون{ نزه نفسه وأمر العباد أن ينزهوه عن أن يكون له شريك أو ولد.
قوله تعالى{لا يسأل عما يفعل وهم يسألون{ قاصمة للقدرية وغيرهم. قال ابن جريج: المعنى لا يسأل الخلق عن قضائه في خلقه وهو يسأل الخلق عن عملهم؛ لأنهم عبيد. بين بهذا أن من يسأل غدا عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح للألهية. وقيل: لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون. وروي عن علي رضي عنه أن رجلا قال له يا أمير المؤمنين: أيحب ربنا أن يعصى؟ قال: أفيعصى ربنا قهرا؟ قال: أرأيت إن منعني الهدى ومنحني الردى أأحسن إلي أم أساء؟ قال: إن منعك حقك فقد أساء، وإن منعك فضله فهو يؤتيه من يشاء. ثم تلا الآية{لا يسأل عمال يفعل يفعل وهم يسألون{. وعن ابن عباس قال: لما بعث الله عز وجل موسى وكلمه، وأنزل عليه التوراة، قال: اللهم إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت ألا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى فكيف هذا يا رب؟ فأوحي الله إليه: إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون.
قوله تعالى{أم اتخذوا من دونه آلهة{ أعاد التعجب في اتخاذ الآلهة من دون الله مبالغة في التوبيخ، أي صفتهم كما تقدم في الإنشاء والإحياء، فتكون {أم{ بمعنى هل على ما تقدم، فليأتوا بالبرهان على ذلك. وقيل: الأول احتجاج. من حيث المعقول؛ لأنه قال{هم ينشرون{ ويحيون الموتى؛ هيهات! والثاني احتجاج بالمنقول، أي هاتوا برهانكم من هذه الجهة، ففي أي كتاب نزل هذا؟ في القران، أم في الكتب المنزلة سائر الأنبياء؟ {هذا ذكر من معي{ بإخلاص التوحيد في القرآن {وذكر من قبلي{ في التوراة والإنجيل، وما أنزل الله من الكتب؛ فانظروا هل في كتاب من هذه الكتب أن الله أمر باتخاذ آلهة سواه؟ فالشرائع لم تختلف فيما يتعلق بالتوحيد، وإنما اختلفت في الأوامر والنواهي. وقال قتادة: الإشارة إلى القرآن؛ المعنى{هذا ذكر من معي{ بما يلزمهم من الحلال والحرام {وذكر من قبلي{ من الأمم ممن نجا بالإيمان وهلك بالشرك. وقيل{ذكر من معي{ بما لهم من الثواب على الإيمان والعقاب على الكفر {وذكر من قبلي{ من الأمم السالفة فيما يفعل بهم في الدنيا، وما يفعل بهم في الآخرة. وقيل: معنى الكلام الوعيد والتهديد، أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء. وحكى أبو حاتم: أن يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف قرأ {هذا ذكر من معي وذكر من قبلي{ بالتنوين وكسر الميم، وزعم أنه لا وجه لهذا. وقال أبو إسحاق الزجاج في هذه القراءة: المعنى؛ هذا ذكر مما أنزل إلي ومما هو معي وذكر من قبلي. وقيل: ذكر كائن من قبلي، أي جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي. {بل أكثرهم لا يعلمون الحق{ وقرأ ابن محيصن والحسن {الحق{ بالرفع بمعنى هو الحق وهذا هو الحق. وعلى هذا يوقف على {لا يعلمون{ ولا يوقف عليه على قراءة النصب. {فهم معرضون{ أي عن الحق وهو القرآن، فلا يتأملون حجة التوحيد.
الآية رقم ( 25 )
{وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}
قوله تعالى{وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه{ وقرأ حفص وحمزة والكسائي {نوحي إليه{ بالنون؛ لقوله{أرسلنا{. {أنه لا إله إلا أنا فاعبدوني{ أي قلنا للجميع لا إله إلا الله؛ فأدل العقل شاهدة أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إما معقول وإما منقول. وقال قتادة: لم يرسل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والأنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد.
الآية رقم ( 26 : 29 )
{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون، ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين}
قوله تعالى{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه{ نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونهم طمعا في شفاعتهم لهم. وروى معمر عن قتادة قال قالت اليهود - قال معمر في روايته - أو طوائف من الناس: خاتن إلى الجن والملائكة من الجن، فقال الله عز وجل{سبحانه{ تنزيها له. {بل عباد{ أي بل هم عباد {مكرمون{ أي ليس كما زعم هؤلاء الكفار. ويجوز النصب عند الزجاج على معنى بل اتخذ عبادا مكرمين. وأجازه الفراء على أن يرده على ولد، أي بل لم نتخذهم ولدا، بل اتخذناهم عبادا مكرمين. والولد ها هنا للجمع، وقد يكون الواحد والجمع ولدا. ويجوز أن يكون لفظ الولد للجنس، كما يقال لفلان ما {لا يسبقونه بالقول{ أي لا يقولون حتى يقول، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم. {وهم بأمره يعملون{ أي بطاعته وأوامره. {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم{ أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون؛ قال ابن عباس. وعنه أيضا{ما بين أيديهم{ الآخرة {وما خلفهم{ الدنيا؛ ذكر الأول الثعلبي، والثاني القشيري. {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى{ قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله وقال مجاهد: هم كل من رضي الله عنه، والملائكة يشفعون غدا في الآخرة كما في صحيح مسلم وغيره، وفي الدنيا أيضا؛ فإنهم يستغفرون للمؤمنين ولمن في الأرض، كما نص عليه التنزيل على ما يأتي. {وهم{ يعني الملائكة {من خشيته{ يعني من خوفه {مشفقون{ أي خائفون لا يأمنون مكره.
قوله تعالى{ومن يقل منهم إني إله من دونه{ قال قتادة والضحاك وغيرهما: عني بهذه الآية إبليس حيث أدعى الشركة، ودعا إلى عبادة نفسه وكان من الملائكة، ولم يقل أحد من الملائكة إني إله غيره. وقيل: الإشارة إلى جميع الملائكة، أي فذلك القائل {نجزيه جهنم{ وهذا دليل على أنهم وإن أكرموا بالعصمة فهم متعبدون، وليسوا مضطرين إلى العبادة كما ظنه بعض الجهال. وقد استدل ابن عباس بهذه الآية على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل أهل السماء. وقد تقدم في {البقرة{. {كذلك نجزي الظالمين{ أي كما جزينا هذا بالنار فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعهما.
الآية رقم ( 30 : 33 )
{أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون، وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون، وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون، وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون}
قوله تعالى{أولم يرى الذين كفروا{ قراءة العامة {أو لم{ بالواو. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد {ألم تر{ بغير واو وكذلك هو في مصحف مكة. {أو لم ير{ بمعنى يعلم. {الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا{ قال الأخفش{كانتا{ لأنهما صنفان، كما تقول العرب: هما لقاحان أسودان، وكما قال الله عز وجل{إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا}فاطر: 41] قال أبو إسحاق{كانتا{ لأنه يعبر عن السموات بلفظ الواحد بسماء؛ ولأن السموات كانت سماء واحدة، وكذلك الأرضون. وقال{رتقا{ ولم يقل رتقين؛ لأنه مصدر؛ والمعنى كانتا ذواتي رتق. وقرأ الحسن {رتقا{ بفتح التاء. قال عيسى بن عمر: هو صواب وهي لغة. والرتق السد ضد الفتق، وقد رتقت الفتق أرتقه فارتتق أي التأم، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج. قال ابن عباس والحسن وعطاء والضحاك وقتادة: يعني أنها كانت شيط واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما بالهواء. وكذلك قال كعب: خلق الله السموات والأرض بعضها على ثم خلق ريحا بوسطها ففتحها بها، وجعل السموات سبعا والأرضين سبعا. وقول ثان قال مجاهد والسدي وأبو صالح: كانت السموات مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرضين كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعا. وحكاه القتبي في عيون الأخبار له، عن إسماعيل بن أبي خالد في قول الله عز وجل{أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقاهما{ قال: كانت السماء مخلوقة وحدها والأرض مخلوقة وحدها، ففتق من هذه سبع سموات، ومن هذه سبع أرضين؛ خلق الأرض العليا فجعل سكانها الجن والإنس، وشق فيها الأنهار وأنبت فيها الأثمار، وجعل فيها البحار وسماها رعاء، مسيرة خمسمائة عام؛ ثم خلق الثانية مثلها في العرض والغلظ وجعل فيها أقواما، أفواههم كأفواه الكلاب وأيديهم أيدي الناس؛ وآذانهم آذان البقر وشعورهم شعور الغنم، فإذا كان عند اقتراب الساعة ألقتهم الأرض إلى يأجوج ومأجوج، واسم تلك الأرض الدكماء، ثم خلق الأرض الثالثة غلظها مسيرة خمسمائة عام، ومنها هواء إلى الأرض. الرابعة خلق فيها ظلمة وعقارب لأهل النار مثل البغال السود، ولها أذناب مثل أذناب الخيل الطوال، يأكل بعضها بعضا فتسلط على بني آدم. ثم خلق الله الخامسة [مثلها] في الغلظ والطول والعرض فيها سلاسل وأغلال وقيود لأهل النار. ثم خلق الله الأرض السادسة واسمها ماد، فيها حجارة سود بهم، ومنها خلقت تربة آدم عليه السلام، تبعث تلك الحجارة يوم القيامة وكل حجر منها كالطود العظيم، وهي من كبريت تعلق في أعناق الكفار فتشتعل حتى تحرق وجوههم وأيديهم، فذلك قول عز وجل{وقودها الناس والحجارة}البقرة: 24] ثم خلق الله الأرض السابعة واسمها عربية وفيها جهنم، فيها بابان اسم الواحد سجين والآخر الغلق، فأما سجين فهو مفتوح وإليه ينتهي كتاب الكفار، وعليه يعرض أصحاب المائدة وقوم فرعون، وأما الغلق فهو مغلق لا يفتح إلى يوم القيامة. وقد مضى في {البقرة{ أنها سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام، وسيأتي له في آخر {الطلاق{ زيادة بيان إن شاء الله تعالى. وقول ثالث قال عكرمة وعطية وابن زيد وابن عباس أيضا فيما ذكر المهدوي: إن السموات كانت رتقا لا تمطر، والأرض كانت رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات؛ نظيره قوله عز وجل{والسماء ذات الرجع. والأرض ذات الصدع}الطارق: 11 - 12]. واختار هذا القول الطبري؛ لأن بعده{وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون{.
قلت: وبه يقع الاعتبار مشاهدة ومعاينة؛ ولذلك أخبر بذلك في غير ما آية؛ ليدل على مال قدرته، وعلى البعث والجزاء. وقيل:
يهون عليهم إذا يغضبو ن سخط العداة وإرغامها
ورتق الفتوق وفتق الرتو ق ونقض الأمور وإبرامها
قوله تعالى{وجعلنا من الماء كل شيء حي{ ثلاث تأويلات: أحدها: أنه خلق كل شيء من الماء؛ قال قتادة الثاني: حفظ حياة كل شيء بالماء. الثالث: وجعلنا من ماء الصلب كل شيء حي؛ قال قطرب. {وجعلنا{ بمعنى خلقنا. وروى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له حديث أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله إذا رأيتك طابت نفسي، وقرت عيني، أنبئني عن كل شيء؛ قال: (كل شيء خلق من الماء) الحديث؛ قال أبو حاتم قول أبي هريرة{أنبئني عن كل شيء{ أراد به عن كل شيء خلق من الماء، والدليل على صحة هذا جواب المصطفى إياه حيث قال: (كل شيء خلق من الماء) وإن لم يكن مخلوقا. وهذا احتجاج آخر سوى ما تقدم من كون السموات والأرض رتقا. وقيل: الكل قد يذكر بمعنى البعض كقول{وأوتيت من كل شيء}النمل: 23] وقول{تدمر كل شيء}الأحقاف: 25] والصحيح العموم؛ لقول عليه السلام: (كل شي خلق من الماء) والله أعلم. {أفلا يؤمنون{ أي أفلا يصدقون بما يشاهدون، وأن ذلك لم يكن بنفسه، بل لمكون كونه، ومدبر أوجده، ولا يجوز أن يكون ذلك المكون محدثا.
قوله تعالى{وجعلنا في الأرض رواسي{ أي جبالا ثوابت. {أن تميد بهم{ أي لئلا تميد بهم، ولا تتحرك ليتم القرار عليها؛ قاله الكوفيون. وقال البصريون: المعنى كراهية أن تميد. والميد التحرك والدوران. يقال: ماد رأسه؛ أي دار. ومضى في {النحل{ مستوفى. {وجعلنا فيها فجاجا{ يعني في الرواسي؛ عن ابن عباس. والفجاج ا لمسالك. والفج الطريق الواسع بين الجبلين. وقيل: وجعلنا في الأرض فجاجا أي مسالك؛ وهو اختيار الطبري؛ لقوله{لعلهم يهتدون{ أي يهتدون إلى السير في الأرض. {سبلا{ تفسير الفجاج؛ لأن الفج قد يكون طريقا نافذا مسلوكا وقد لا يكون. وقيل: ليهتدوا بالاعتبار بها إلى دينهم.
قوله تعالى{وجعلنا السماء سقفا محفوظا{ أي محفوظا من أن يقع ويسقط على الأرض؛ دليله قوله تعالى{ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه}الحج: 65]. وقيل: محفوظا بالنجوم من الشياطين؛ قاله الفراء. دليله قوله تعالى{وحفظناها من كل شيطان رجيم}الحجر: 17]. وقيل: محفوظا من الهدم والنقض، وعن أن يبلغه أحد بحيلة. وقيل: محفوظا فلا يحتاج إلى عماد. وقال مجاهد: مرفوعا. وقيل: محفوظا من الشرك والمعاصي. {وهم{ يعني الكفار {عن آياتها معرضون{ قال مجاهد يعني الشمس والقمر. وأضاف الآيات إلى السماء لأنها مجعولة فيها، وقد أضاف الآيات إلى نفسه في مواضع، لأنه الفاعل لها. بين أن المشركين غفلوا عن النظر في السموات وآياتها، من ليلها ونهارها، وشمسها وقمرها، وأفلاكها ورياحها وسحابها، وما فيها من قدرة الله تعالى، إذ لو نظروا واعتبروا لعلموا أن لها صانعا قادرا فيستحيل أن يكون له شريك.
قوله تعالى{وهو الذي خلق الليل والنهار{ ذكرهم نعمة أخرى: جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيه لمعايشهم {والشمس والقمر{ أي وجعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل؛ لتعلم الشهور والسنون والحساب، كما تقدم في {سبحان{ بيانه. {كل{ يعني من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار {في فلك يسبحون{ أي يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء. قال الله تعالى وهو أصدق القائلين{والسابحات سبحا{ ويقال للفرس الذي يمد يده في الجري سابح. وفيه من النحو أنه لم يقل: يسحن ولا تسبح؛ فمذهب سيبويه: أنه لما أخبر عنهن بفعل من يعقل وجعلهن في الطاعة بمنزلة من يعقل، أخبر عنهن بفعل من يعقل وجعلهن في الطاعة بمنزلة من يعقل، أخبر عنهن بالواو والنون ونحوه قال الفراء. وقد تقدم هذا المعنى في {يوسف{. وقال الكسائي: إنما قال{يسبحون{ لأنه رأس آية، كما قال الله تعالى{نحن جميع منتصر}القمر: 44] ولم يقل منتصرون. وقيل: الجري للفلك فنسب إليها. والأصح أن السيارة تجري في الفلك، وهي سبعة أفلاك دون السموات المطبقة، التي هي مجال الملائكة وأسباب الملكوت، فالقمر في الفلك الأدنى، ثم عطارد، ثم الزهرة، ثم الشمس، ثم المريخ، ثم المشتري، ثم زحل، والثامن فالك البروج، التاسع الفلك الأعظم. والفلك واحد أفلاك النجوم. قال أبو عمرو: ويجوز أن يجمع على فعل مثل أسد وأسد وخشب وخشب. وأصل الكلمة من الدوران، ومنه فلكة المغزل؛ لاستدارتها. ومنه قيل: فلك ثدي المرأة تفليكا، وتفلك استدار. وفي حديث ابن مسعود: تركت فرسي كأنه يدور في فلك. كأنه لدورانه شبهه بفلك السماء الذي تدور عليه النجوم. قال ابن زيد: الأفلاك مجاري النجوم والشمس والقمر. قال: وهي بين السماء والأرض. وقال قتادة: الفلك استدارة في السماء تدور بالنجوم مع ثبوت السماء. وقال مجاهد: الفلك كهيئة حديد الرحى وهو قطبها. وقال الضحاك: فلكها مجراها وسرعة مسيرها. وقيل: الفلك موج مكتوف ومجرى الشمس والقمر فيه؛ والله أعلم.
الآية رقم ( 34 : 35 )
{وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون، كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}
قوله تعالى{وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد{ أي دوام البقاء في الدنيا نزلت حين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون. وذلك أن المشركين كانوا يدفعون نبوته ويقولون: شاعر نتربص به ريب المنون، ولعله يموت كما مات شاعر بني فلان؛ فقال الله تعالى: قد مات الأنبياء من قبلك، وتولى الله دينه بالنصر والحياطة، فهكذا نحفظ دينك وشرعك. {أفإن مت فهم الخالدون
أي أفهم؛ مثل قول الشاعر:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
أي أهم فهو استفهام إنكار. وقال الفراء: جاء بالفاء ليدل على الشرط؛ لأنه جواب قولهم سيموت. ويجوز أن يكون جيء بها؛ لأن التقدير فيها: أفهم الخالدون إن مت! قال الفراء: ويجوز حذف الفاء وإضمارها؛ لأن {هم{ لا يتبين فيها الإعراب. أي إن مت فهم يموتون أيضا، فلا شماتة في الإماتة. وقرئ {مت{ بكسر الميم وضمها لغتان. {كل نفس ذائقة الموت{ تقدم. {ونبلوكم بالشر والخير فتنة{ {فتنة{ مصدر على غير اللفظ. أي نختبركم بالشدة والرخاء والحلال والحرام، فننظر كيف شكركم وصبركم. {وإلينا ترجعون{ أي للجزاء بالأعمال.
الآية رقم ( 36 )
{وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون}
قوله تعالى{وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا{ أي ما يتخذونك. والهزاء السخرية؛ وقد تقدم وهم المستهزئون المتقدمو الذكر في آخر سورة {الحجر{ في قوله{إنا كفيناك المستهزئين}الحجر: 95]. كانوا يعيبون من جاحد إلهية أصنامهم وهم جاحدون لإلهية الرحمن؛ وهذا غاية الجهل. {أهذا الذي{ أي يقولون: أهذا الذي؟ فأضمر القول وهو جواب {إذا{ وقوله{إن يتخذونك إلا هزوا{ كلام معترض بين {إذا{ وجوابه. {يذكر آلهتكم{ أي بالسوء والعيب. ومنه قول عنترة:
لا تذكري مهري وما أطعمته فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
أي لا تعيبي مهري. {وهم بذكر الرحمن{ أي بالقرآن. {هم كافرون{ {هم{ الثانية توكيد كفرهم، أي هم الكافرون مبالغة في وصفهم بالكفر.
الآية رقم ( 37 : 40 )
{خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون، بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون}
قوله تعالى{خلق الإنسان من عجل{ أي ركب على العجلة فخلق عجولا؛ كما قال الله تعالى{الله الذي خلقكم من ضعف}الروم: 54] أي خلق الإنسان ضعيفا. ويقال: خلق الإنسان من الشر أي شريرا إذا بالغت في وصفه به. ويقال: إنما أنت ذهاب ومجيء. أي ذاهب جائي. أي طبع الإنسان العجلة، فيستعجل كثيرا من الأشياء وإن كانت مضرة. ثم قيل: المراد بالإنسان آدم عليه السلام. قال سعيد بن جبير والسدي: لما دخل الروح في عيني آدم عليه السلام نظر في ثمار الجنة، فلما دخل جوفه اشتهى الطعام، فوثب من قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة. فذلك قوله{خلق الإنسان من عجل{. وقيل خلق آدم يوم الجمعة. في آخر النهار، فلما أحيا الله رأسه استعجل، وطلب تتميم نفخ الروح فيه قبل غروب الشمس؛ قاله الكلبي ومجاهد وغيرهما. وقال أبو عبيدة وكثير من أهل المعاني: العجل الطين بلغة حمير. وأنشدوا:
والنخل ينبت بين الماء والعجل
وقيل: المراد بالإنسان الناس كلهم. وقيل المراد: النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار في تفسير ابن عباس؛ أي لا ينبغي لمن خلق من الطين الحقير أن يستهزئ بآيات الله ورسله. وقيل: إنه من المقلوب؛ أي خلق العجل من الإنسان. وهو مذهب أبي عبيدة. النحاس: وهذا القول لا ينبغي أن يجاب به في كتاب الله؛ لأن القلب إنما يقع في الشعر اضطرارا كما قال:
كان الزناء فريضة الرجم
ونظيره هذه الآية{وكان الإنسان عجولا}الإسراء: 11] وقد مضى في {سبحان}الإسراء: 1]. {سأريكم آياتي فلا تستعجلون{ هذا يقوي القول الأول، وأن طبع الإنسان العجلة، وأنه خلق خلقا لا يتمالك، كما قال عليه السلام حسب ما تقدم في {الإسراء{. والمراد بالآيات ما دل على صدق محمد عليه السلام من المعجزات، وما جعله له. العاقبة المحمودة. وقيل: ما طلبوه من العذاب، فأرادوا الاستعجال وقالوا{متى هذا الوعد}يونس: 48]؟ وما علموا أن لكل شيء أجلا مضروبا. نزلت في النضر بن الحرث. وقول{إن كان هذا هو الحق}الأنفال: 32]. وقال الأخفش سعيد: معنى {خلق الإنسان من عجل{ أي قيل له كن فكان، فمعنى {فلا تستعجلون{ على هذا القول أنه من يقول للشيء كن فيكون، لا يعجزه إظهار ما استعجلوه من الآيات. {ويقولون متى هذا الوعد{ أي الموعود، كما يقال: الله رجاؤنا أي مرجونا. وقيل: معنى {الوعد{ هنا الوعيد، أي الذي يعدنا من العذاب. وقيل: القيامة. {إن كنتم صادقين{ يا معشر المؤمنين.
قوله تعالى{لو يعلم الذين كفروا{ العلم هنا بمعنى المعرفة فلا يقتضي مفعولا ثانيا مثل {لا تعلمونهم الله يعلمهم}الأنفال: 60]. وجواب {لو{ محذوف، أي لو علموا الوقت الذي {لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون{ وعرفوه لما استعجلوا الوعيد. وقال الزجاج: أي لعلموا صدق الوعد. وقيل: المعنى لو علموه لما أقاموا على الكفر ولآمنوا. وقال الكسائي: هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة، أي لو علموه علم يقين لعلموا أن الساعة آتية. ودل عليه {بل تأتيهم بغتة{ أي فجأة يعني القيامة. وقيل: العقوبة. وقيل: النار فلا يتمكنون حيلة {فتبهتهم{ قال الجوهري: بهته بهتا أخذه بغتة، قال الله تعالى{بل تأتيهم بغتة فتهتهم{ وقال الفراء{فتبهتهم{ أي تحيرهم، يقال: بهته يبهته إذا واجهه بشيء يحيره. وقيل: فتفجأهم. {فلا يستطيعون ردها{ أي صرفها عن ظهورهم. {ولا هم ينظرون{ أي لا يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار.
الآية رقم ( 41 )
{ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون}
قوله تعالى{ولقد استهزئ برسل من قبلك{ هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له. يقول: إن استهزأ بك هؤلاء، فقد استهزئ برسل من قبلك، فاصبر كما صبروا. ثم وعده النصر فقال{فحاق{ أي أحاط ودار {بالذين{ كفروا {سخروا منهم{ وهزئوا بهم {ما كانوا به يستهزئون{ أي جزاء استهزائهم.
الآية رقم ( 42 : 44 )
{قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون، أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون، بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون}
قوله تعالى{قل من يكلؤكم{ أي يحرسكم ويحفظكم. والكلاءة الحراسة والحفظ؛ كلاه الله كلاء (بالكسر) أي حفظه وحرسه. يقال: اذهب في كلاءة الله؛ واكتلأت منهم أي احترست، قال الشاعر هو ابن هرمة:
إن سليمى والله يكلؤها ضنت بشيء ما كان يرزؤها
وقال آخر:
أنخت بعيري واكتلأت بعينه
وحكى الكسائي والفراء {قل من يكْلَوكم{ بفتح اللام وإسكان الواو. وحكيا {من يكلاكم{ على تخفيف الهمزة في الوجهين، والمعروف تحقيق الهمزة وهي قراءة العامة. فأما {يكلاكم{ فخطأ من وجهين فيما ذكره النحاس: أحدهما: أن بدل الهمزة. يكون في الشعر. والثاني: أنهما يقولان في الماضي كليته، فينقلب المعنى؛ لأن كليته أوجعت كليته، ومن قال لرجل: كلاك الله فقد دعا عليه بأن يصيبه الله بالوجع في كليته.
ثم قيل: مخرج اللفظ مخرج الاستفهام والمراد به النفي. وتقديره: قل لا حافظ لكم {بالليل{ إذا نمتم {والنهار{ إذا قمتم وتصرفتم في أموركم. {من الرحمن{ أي من عذابه وبأسه؛ كقوله تعالى{فمن ينصرني من الله}هود: 63] أي من عذاب الله. والخطاب لمن اعترف منهم بالصانع؛ أي إذا أقررتم بأنه الخالق، فهو القادر على إحلال العذاب الذي تستعجلونه. {بل هم عن ذكر ربهم{ أي عن القرآن. وقيل: عن مواعظ ربهم وقيل: عن معرفته. {معرضون{ لاهون غافلون.
قوله تعالى{أم لهم آلهة{ المعنى: ألهم والميم صلة. {تمنعهم من دوننا{ أي من عذابنا. {لا يستطيعون{ يعني الذين زعم هؤلاء الكفار. أنهم ينصرونهم لا يستطيعون {نصر أنفسهم{ فكيف ينصرون عابديهم. {ولا هم منا يصحبون{ قال ابن عباس: يمنعون. وعنه: يجارون؛ وهو اختيار الطبري. تقول العرب: أنا لك جار وصاحب. من فلان؛ أي مجير منه؛ قال الشاعر:
ينادي بأعلى صوته متعوذا ليصحب منها والرماح دواني
وروى معمر عن ابن أبي نجيح عن قال{ينصرون{ أي يحفظون. قتادة: أي لا يصحبهم الله بخير، ولا يجعل رحمته صاحبا لهم.
قوله تعالى{بل متعنا هؤلاء وآباءهم{ قال ابن عباس: يريد أهل مكة. أي بسطنا لهم ولآبائهم في نعيمها {حتى طال عليهم العمر{ في النعمة. فظنوا أنها لا تزول عنهم، فاغتروا وأعرضوا عن تدبر حجج {أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها{ أي بالظهور عليها لك يا محمد أرضا بعد أرض، وفتحها بلدا بعد بلد مما حول مكة؛ قال معناه الحسن وغيره. وقيل: بالقتل والسبي؛ حكاه الكلبي. والمعنى واحد. وقد مضى في {الرعد{ الكلام في هذا مستوفى. {أفهم الغالبون{ يعني، كفار مكة بعد أن نقصنا من أطرافهم، بل أنت تغلبهم وتظهر عليهم.
{قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون، ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين}
قوله تعالى{قل إنما أنذركم بالوحي{ أي أخوفكم وأحذركم بالقرآن. {ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون{ أي من أصم الله قلبه، وختم على سمعه، وجعل على بصره غشاوة، عن فهم الآيات وسماع الحق. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي ومحمد بن السميقع {ولا يُسْمَع{ بياء مضمومة وفتح الميم على ما لم يسم فاعله {الصم{ رفعا أي إن الله لا يسمعهم. وقرأ ابن عامر والسلمي أيضا، وأبو حيوة ويحيى بن الحرث {ولا تسمع{ بتاء مضمومة وكسر الميم {الصم{ نصبا؛ أي إنك يا محمد {لا تُسمع الصم الدعاء {؛ فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. ورد هذه القراءة بعض أهل اللغة. وقال: وكان يجب أن يقول: إذا ما تنذرهم. قال النحاس: وذلك جائز؛ لأنه قد عرف المعنى.
قوله تعالى{ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك{ قال ابن عباس: طرف. قال قتادة: عقوبة. ابن كيسان: قليل وأدنى شيء؛ مأخوذة من نفح المسك. قال:
وعمرة من سروات النساء تنفح بالمسك أردانها
ابن جريج: نصيب؛ كما يقال: نفح فلان لفلان من عطائه، إذا أعطاه نصيبا من المال. قال الشاعر:
لما أتيتك أرجو فضل نائلكم نفحتني نفحة طابت لها العرب
أي طابت لها النفس. والنفحة في اللغة الدفعة اليسيرة؛ فالمعنى ولئن مسهم أقل شيء من العذاب. {ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين{ أي متعدين فيعترفون حين لا ينفعهم الاعتراف.
الآية رقم ( 47 )
{ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}
قوله تعالى{ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا{ الموازين جمع ميزان. فقيل: إنه يدل بظاهره على أن لكل مكلف ميزانا توزن به أعماله، فتوضع الحسنات في وكفة، والسيئات في كفة. وقيل: يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد، يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله؛ كما قال:
ملك تقوم الحادثات لعدله فلكل حادثة لها ميزان
ويمكن أن يكون ميزانا واحدا عبر عنه بلفظ الجمع. وخرج اللالكائي الحافظ أبو القاسم في سننه عن أنس يرفعه: (إن ملكا موكلا بالميزان فيؤتي بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان فإن رجح نادي الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان سعادة لا يشقي بعدها أبدا وإن خف نادي الملك شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا). وخرج عن حذيفة رضي الله عنه قال: (صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام) وقيل: للميزان كفتان وخيوط ولسان والشاهين؛ فالجمع يرجع إليها. وقال مجاهد وقتادة والضحاك: ذكر الميزان مثل وليس ثم ميزان وإنما هو العدل. والذي وردت به الأخبار وعليه السواد الأعظم القول الأول. وقد مضى في {الأعراف{ بيان هذا، وفي {الكهف{ أيضا. وقد ذكرناه في كتاب {التذكرة{ مستوفى والحمد لله. و{القسط{ العدل أي ليس فيها بخس ولا ظلم كما يكون في وزن الدنيا. و{القسط{ صفة الموازين ووحد لأنه مصدر؛ يقال: ميزان قسط، وميزانان قسط، وموازين قسط. مثل رجال عدل ورضا. وقرأت فرقة {القصط{ بالصاد. {ليوم القيامة{ أي لأهل يوم القيامة. وقيل: المعنى في يوم القيامة. {فلا تظلم نفس شيئا{ أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء. {وإن كان مثقال حبة من خردل{ قرأ نافع وشيبة وأبو جعفر {مثقال حبة{ بالرفع هنا؛ وفي {لقمان{ على معنى إن وقع أو حضر؛ فتكون كان تامة ولا تحتاج إلى خبر الباقون {مثقال{ بالنصب على معنى وإن كان العمل أو ذلك الشيء مثقال. ومثقال الشيء ميزانه من مثله. {أتينا بها{ مقصورة الألف قراءة الجمهور أي أحضرناها وجئنا بها للمجازاة عليها ولها. يجاء بها أي بالحجة ولو قال به أي بالمثقال لجاز. وقيل: مثقال الحبة ليس شيئا غير الحبة فلهذا قال{أتينا بها{. وقرأ مجاهد وعكرمة {آتينا{ بالمد على معنى جازينا بها. يقال آتى يؤاتي مؤاتاة. {وكفى بنا حاسبين{ أي محاسبين على ما قدموه من خير وشر. وقيل{حاسبين{ إذ لا أحد أسرع حسابا منا. والحساب العد. روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم؟ قال: (يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل) قال: فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما تقرأ كتاب الله تعالى{ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا{) فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم، أشهدك أنهم أحرار كلهم. قال حديث غريب.
الآية رقم ( 48 : 50 )
{ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين، الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون، وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون}
قوله تعالى{ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء{ وحكي عن ابن عباس وعكرمة {الفرقان ضياء{ بغير واو على الحال. وزعم الفراء أن حذف الواو والمجيء بها واحد، كما قال عز وجل{إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا}الصافات: 6 - 7] أي حفظا. ورد عليه هذا القول الزجاج. قال: لأن الواو تجيء لمعنى فلا تزاد قال: وتفسير {الفرقان{ التوراة؛ لأن فيها الفرق بين الحرام والحلال. قال{وضياء{ مثل {فيه هدى ونور{ وقال ابن زيد{الفرقان{ هنا هو النصر على الأعداء؛ دليله قوله تعالى{وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان}الأنفال: 41] يعني يوم بدر. قال الثعلبي: وهذا القول أشبه بظاهر الآية؛ لدخول الواو في الضياء؛ فيكون معنى الآية: ولقد أتينا موسى وهارون النصر والتوراة التي هي الضياء والذكر. {الذين يخشون ربهم بالغيب{ أي غائبين؛ لأنهم لم يروا الله تعالى، بل عرفوا بالنظر. والاستدلال أن لهم ربا قادرا، يجازي على الأعمال فهم يخشونه في سرائرهم، وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس.
{وهم من الساعة{ أي من قيامها قبل التوبة. {مشفقون{ أي خائفون وجلون
قوله تعالى{وهذا ذكر مبارك أنزلناه{ يعني القرآن {أفأنتم له{ يا معشر العرب {منكرون{ وهو معجز لا تقدرون على الإتيان بمثله. وأجاز الفراء {وهذا ذكر مباركا أنزلناه{ بمعنى أنزلناه مباركا.
الآية رقم ( 51 )
{ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين}
قوله تعالى{ولقد آتينا إبراهيم رشده{ قال الفراء: أي أعطياه هداه. {من قبل{ أي من قبل النبوة؛ أي وفقناه للنظر والاستدلال، لما جن عليه الليل فرأى النجم والشمس والقمر. وقيل{من قبل{ أي من قبل موسى وهارون. والرشد على هذا النبوة. وعلى الأول أكثر أهل التفسير؛ كما قال ليحيى{وآتيناه الحكم صبيا}مريم: 12 ]. وقال القرظي: رشده صلاحه. {وكنا به عالمين{ أي إنه أهل لإيتاء الرشد وصالح للنبوة.
الآية رقم ( 52 : 56 )
{إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين، قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين، قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين، قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين}
قوله تعالى{إذ قال لأبيه وقومه{ قيل: المعنى أي اذكر حين قال لأبيه؛ فيكون الكلام قد تم عند قوله{وكنا به عالمين{. وقيل: المعنى؛ {وكنا به عالمين إذ قال{ فيكون الكلام متصلا ولا يوقف على قوله{عالمين{. {لأبيه{ وهو آزر {وقومه{ نمرود ومن اتبعه. {ما هذه التماثيل{ أي الأصنام. والتمثال اسم موضوع للشيء المصنوع مشبها بخلق من بخلق الله تعالى. يقال: مثلت الشيء بالشيء أي شبهته به. واسم ذلك الممثل تمثال. {التي أنتم لها عاكفون{ أي مقيمون على عبادتها. {قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين{ أي نعبدها تقليدا لأسلافنا. {قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين{ أي في خسران بعبادتها؛ إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تعلم. {قالوا أجئتنا بالحق{ أي أجاء أنت بحق فيما تقول؟ {أم أنت من اللاعبين{ أي لاعب مازح. {قال بل ربكم رب السماوات والأرض{ أي لست بلاعب، بل ربكم والقائم بتدبيركم خالق السموات والأرض. {الذي فطرهن{ أي خلقهن وأبدعهن. {وأنا على ذلكم من الشاهدين{ أي على أنه رب السموات والأرض. والشاهد يبين الحكم، ومنه {شهد الله}آل عمران: 18] بين الله؛ فالمعنى: وأنا أبين بالدليل ما أقول.
الآية رقم ( 57 : 58 )
{وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين، فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون}
قوله تعالى{وتالله لأكيدن أصنامكم{ أخبر أنه لم يكتف بالمحاجة باللسان بل كسر أصنامهم فعل واثق بالله تعالى، موطن نفسه على مقاساة المكروه في الذب عن الدين. والتاء في {تالله{ تختص في القسم باسم الله وحده، والواو تختص بكل مظهر، والباء بكل مضمر ومظهر. قال الشاعر:
تالله يبقي على الأيام ذو حيد بمشمخر به الظيان والآس
وقال ابن عباس: أي وحرمة الله لأكيدن أصنامكم، أي لأمكرن بها. والكيد المكر. كاده يكيده كيدا ومكيدة، وكذلك المكايدة؛ وربما سمي الحرب كيدا؛ يقال: غزا فلان فلم يلق كيدا، وكل شيء تعالجه فأنت تكيده. {بعد أن تولوا مدبرين{ أي منطلقين ذاهبين. وكان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه، فقالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا - روي ذلك عن ابن مسعود على ما يأتي بيانه في {والصافات{ - فقال إبراهيم في نفسه{وتالله لأكيدهم أصنامكم{. قال مجاهد وقتادة: إنما قال ذلك إبراهيم في سر من قومه، ولم يسمعه إلا رجل. واحد وهو الذي أفشاه عليه والواحد يخبر عنه بخبر الجمع إذا كان ما أخبر به مما يرضى به غيره ومثله {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأزل}المنافقون: 8]. وقيل: إنما قاله بعد خروج القوم، ولم يبق منهم إلا الضعفاء فهم الدين سمعوه. وكان إبراهيم احتال في التخلف عنهم بقوله{إني سقيم}الصافات: 89] أي ضعيف عن الحركة.
قوله تعالى{فجعلهم جذاذا{ أي فتاتا. والجذ الكسر والقطع؛ جذذت الشيء كسرته وقطعته. والجذاذ والجذاذ ما كسر منه، والضم أفصح من كسره. قاله الجوهري. الكسائي: ويقال لحجارة الذهب جذاذ؛ لأنها تكسر. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن {جذاذا{ بكسر الجيم؛ أي كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم، مثل خفيف وخفاف وظريف وظراف. قال الشاعر:
جذذ الأصنام في محرابها ذاك في الله العلي المقتدر
الباقون بالضم؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. [مثل] الحطام والرفات الواحدة جذاذة. وهذا هو الكيد الذي أقسم به ليفعلنه بها. وقال{فجعلهم{؛ لأن القوم اعتقدوا في أصنامهم الإلهية. وقرأ ابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال {جذاذا{ بفتح الجيم؛ والفتح والكسر لغتان كالحصاد والحصاد. أبو حاتم: الفتح والكسر والضم بمعنى؛ حكاه قطرب. {إلا كبيرا لهم{ أي عظيم الآلهة في الخلق فإنه لم يكسره. وقال السدي ومجاهد: ترك الصنم الأكبر وعلق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه؛ ليحتج به عليهم. {لعلهم إليه يرجعون{ أي إلى إبراهيم دينه {يرجعون{ إذا قامت الحجة عليهم. وقيل{لعلهم إليه{ أي إلى الصنم الأكبر {يرجعون{ في تكسيرها.
الآية رقم ( 59 : 61 )
{قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين، قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم، قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون}
قوله تعالى{قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين{ المعنى لما رجعوا من عيدهم ورأوا ما أحدث بآلهتهم، قالوا على جهة البحث والإنكار{من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين{. وقيل{من{ ليس استفهاما، بل هو ابتداء وخبره {لمن الظالمين{ أي فاعل هذا ظالم. والأول أصح لقوله{سمعنا فتى يذكرهم{ وهذا هو جواب {من فعل هذا{. والضمير في {قالوا{ للقوم الضعفاء الذين سمعوا إبراهيم، أو الواحد على ما تقدم. ومعنى {يذكرهم{ يعيبهم ويسبهم فلعله الذي صنع هذا. واختلف الناس في وجه رفع إبراهيم؛ فقال الزجاج يرتفع على معنى يقال له هو إبراهيم؛ فيكون (1) محذوف، والجملة محكية. قال: ويجوز أن يكون رفعا على النداء وضمه بناء، وقام له مقام ما لم يسم فاعله. وقيل: رفعه على أنه مفعول ما لم يسم فاعله؛ على أن يجعل إبراهيم غير دال على الشخص، بل يجعل النطق به دالا على بناء هذه اللفظة أي يقال له هذا القول وهذا اللفظ، كما تقول زيد وزن، فعل، أو زيد ثلاثة أحرف، فلم تدل بوجه الشخص، بل دللت بنطقك على نفس اللفظة. وعلى هذه الطريقة تقول: قلت إبراهيم، ويكون مفعولا صحيحا نزلته منزلة قول وكلام؛ فلا يتعذر بعد ذلك أن يبني الفعل فيه للمفعول. هذا اختيار ابن عطية في رفعه. وقال الأستاذ أبو الحجاج الأشبيلي الأعلم: هو رفع على الإهمال. قال ابن عطية: لما رأى وجوه الرفع كأنها لا توضح المعنى الذي قصدوه، ذهب إلى رفعه بغير شيء، كما قد يرفع التجرد والعرو عن العوامل الابتداء. والفتى الشاب والفتاة الشابة. وقال ابن عباس: ما أرسل الله نبيا إلا شابا. ثم قرأ{سمعنا فتى يذكرهم{.
قوله تعالى{قالوا فأتوا به على أعين الناس{ فيه مسألة واحدة، وهي أنه لما بلغ الخبر نمرود وأشراف قومه، كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، فقالوا: ائتوا به ظاهرا بمرأى من الناس حتى يروه {لعلهم يشهدون{ عليه بما قال؛ ليكون ذلك حجة عليه. وقيل{لعلهم يشهدون{ عقابه فلا يقدم أحد على مثل ما أقدم عليه. أو لعل قوما {يشهدون{ بأنهم رأوه يكسر الأصنام، أو {لعلهم يشهدون{ طعنه على آلهتهم؛ ليعلموا أنه يستحق العقاب.
قلت: وفي هذا دليل على أنه كان لا يؤاخذ أحد بدعوى أحد فيما تقدم؛ لقوله تعالى{فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون{ وهكذا الأمر في شرعنا ولا خلاف فيه.
">الآية رقم ( 62 : 63 )">
الآية رقم ( 62 : 63 )
{قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم، قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون}
قوله تعالى{قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم{ لما لم يكن السماع عاما ولا ثبتت الشهادة استفهموه هل فعل أم لا؟ وفي الكلام حذف فجاء إبراهيم حين أتى به فقالوا أأنت فعلت هذا بالآلهة؟ فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم{بل فعله كبيرهم هذا{. فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم{بل فعله كبيرهم هذا{. أي إنه غار وغضب من أن يعبد هو ويعبد الصغار معه ففعل هذا بها لذلك، إن كانوا ينطقون فاسألوهم. فعلق فعل الكبير بنطق الآخرين؛ تنبيها لهم على فساد اعتقادهم. كأنه قال: بل هو الفاعل إن نطق هؤلاء. وفي الكلام تقديم على هذا التأويل في قوله{فاسألوهم إن كانوا ينطقون{. وقيل: أراد بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون. بين أن من لا يتكلم ولا يعلم ولا يستحق أن يعبد. وكان قول من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. أي سلوهم إن نطقوا فإنهم يصدقون، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل. وفي ضمن هذا الكلام اعتراف بأنه هو الفاعل وهذا هو الصحيح لأنه عدده على نفسه، فدل أنه خرج مخرج التعريض. وذلك أنهم كانوا يعبدونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله، كما قال إبراهيم لأبيه{يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر}مريم: 42] - الآية - فقال إبراهيم{بل فعله كبيرهم هذا{ ليقولوا إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون؛ فيقول لهم فلم تعبدونهم؟ فتقوم عليهم الحجة منهم، ولهذا يجوز عند الأمة فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من ذات نفسه؛ فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة، كما قال لقومه{هذا ربي{ وهذه أختي و{إني سقيم{ وبل فعله كبيرهم هذا {وقرأ ابن السميقع {بل فعله{ بتشديد اللام بمعنى فلعل الفاعل كبيرهم. وقال الكسائي: الوقف عند قوله{بل فعله{ أي فعله من فعله؛ ثم يبتدئ {كبيرهم هذا{. وقيل: أي لم ينكرون أن يكون فعله كبيرهم؟ فهذا إلزام بلفظ الخبر. أي من اعتقد عبادتها يلزمه أن يثبت لها فعلا؛ والمعنى: بل فعله كبيرهم فيما يلزمكم.
روى البخاري ومسلم والترمذي أبى عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب إبراهيم النبي في شيء قط إلا في ثلاث{إني سقيم}الصافات: 89] وقوله لسارة أختي وقوله {بل فعله كبيرهم{) لفظ الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ووقع في الإسراء في صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة إبراهيم قال: وذكر قوله في الكوكب {هذا ربي{. فعلى هذا تكون الكذبات أربعا إلا أن الرسول قد نفى تلك بقوله: (لم يكذب إبراهيم النبي قط إلا في ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله{إني سقيم}الصافات: 89] وقوله{بل فعله كبيرهم{ وواحدة في شأن سارة) الحديث لفظ مسلم وإنما يعد عليه قوله في الكوكب{هذا ربي}الأنعام: 78] كذبة وهي داخلة في الكذب؛ لأنه - والله أعلم - كان حين قال ذلك في حال الطفولة، وليست حالة تكليف. أو قال لقومه مستفهما لهم على جهة التوبيخ الإنكار، وحذفت همزة الاستفهام. أو على طريق الاحتجاج على قومه: تنبيها على أن ما لا يصلح للربوبية. وقد تقدمت هذه الوجوه كلها في {الأنعام{ مبينة والحمد لله.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: في هذا الحديث نكتة عظمى تقصم الظهر، وهي أنه عليه السلام قال: (لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث كذبات ثنتين ما حل بهما عن دين الله وهما قول {إني سقيم}الصافات: 89] وقوله {بل فعله كبيرهم{ ولم يعد [قوله] هذه أختي في ذات الله تعالى وإن كان دفع بها مكروها، ولكنه لما كان لإبراهيم عليه السلام فيها حظ من صيانة فراشه وحماية أهله، لم يجعلها في ذات الله؛ وذلك لأنه لا يجعل في جنب الله وذاته إلا العمل الخالص من شوائب الدنيا، والمعاريض التي ترجع إلى النفس إذا خلصت للدين كانت لله سبحانه، كما قال{ألا لله الدين الخالص}الزمر: 3]. وهذا لو صدر منا لكان لله، لكن منزلة إبراهيم اقتضت هذا. والله أعلم.
قال علماؤنا: الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه. والأظهر أن قول إبراهيم فيما أخبر عنه عليه السلام كان من المعاريض، وإن كانت معاريض وحسنات وحججا في الخلق ودلالات، لكنها أثرت في الرتبة، وخفضت عن محمد المنزلة، واستحيا منها قائلها، على ما ورد في حديث الشفاعة؛ فإن الأنبياء مما لا يشفق منه غيرهم إجلالا لله؛ فإن الذي كان يليق بمرتبته في النبوة والخلة، أن يصدع بالحق ويصرح بالحق لأمر كيفما كان، ولكنه رخص له فقبل الرخصة فكان ما كان من القصة؛ والقصة جاء في حديث الشفاعة (إنما اتخذت خليلا من وراء وراء) بنصب وراء فيهما على البناء كخمسة عشر، وكما قالوا جاري بيت بيت. ووقع في بعض نسخ مسلم (من وراء من وراء) بإعادة من، وحينئذ لا يجوز البناء على الفتح، وإنما يبني كل واحد منهما على الضم؛ لأنه قطع عن الإضافة ونوى المضاف كقبل وبعد، وإن لم ينو المضاف أعرب ونون غير أن وراء لا ينصرف؛ لأن ألفه للتأنيث؛ لأنهم قالوا في تصغيرها ورية؛ قال الجوهري: وهي شاذة. فعلى هذا الفتح فيهما مع وجود {من{ فيهما. والمعنى إني كنت خليلا متأخرا عن غيري. ويستفاد من هذا أن الخلة لم تصح بكمالها إلا لمن صح له في ذلك اليوم المقام المحمود كما تقدم. وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
">الآية رقم ( 64 : 69 )">
الآية رقم ( 64 : 69 )
{فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون، ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون، قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم، أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون}
قوله تعالى{فرجعوا إلى أنفسهم{ أي رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته، المتفطن لصحة حجه خصمه {فقالوا إنكم أنتم الظالمون{ أي بعبادة من لا ينطق بلفظة، ولا يملك لنفسه لحظة، وكيف ينفع عابديه ويدفع عنهم البأس، من لا يرد عن رأسه الفأس. {ثم نكسوا على رؤوسهم{ أي عادوا إلى جهلهم وعبادتهم فقالوا {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون{ فـ {قال{ قاطعا لما به يهذون، ومفحما لهم فيما يتقولون {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم. أف لكم{ أي النتن لكم {ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون{. وقيل{نكسوا على رؤوسهم{ أي طأطأوا رؤوسهم خجلا من إبراهيم، وفيه نظر؛ لأنه لم يقل نكسوا رؤوسهم، بفتح الكاف بل قال{نكسوا على رؤوسهم{ أي ردوا على ما كانوا عليه في أول الأمر وكذا قال ابن عباس، قال: أدركهم الشقاء فعادوا إلى كفرهم.
{قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين، قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم}
قوله تعالى{قالوا حرقوه{ لما انقطعوا بالحجة أخذتهم عزة بإثم وانصرفوا إلى طريق الغشم والغلبة وقالوا حرقوه. روي أن قائل هذه المقالة هو رجل من الأكراد من أعراب فارس؛ أي من باديتها؛ قال ابن عمرو ومجاهد وابن جريج. ويقال: اسمه هيزر فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقيل: بل قال ملكهم نمرود. {وانصروا آلهتكم{ بتحريق إبراهيم لأنه يسبها ويعيبها. وجاء في الخبر: أن نمرود بنى صرحا طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا. قال ابن إسحاق: وجمعوا الحطب شهرا ثم أوقدوها، واشتعلت واشتدت، حتى أن كان الطائر ليمر بجنباتها فيحترق من شدة وهجها. ثم قيدوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مغلولا. ويقال: إن إبليس صنع لهم المنجنيق يومئذ. فضجت السموات والأرض ومن فيهن من الملائكة وجميع الخلق، إلا الثقلين ضجة واحدة: ربنا! إبراهيم ليس في الأرض أحد يعبدك غيره يحرق فيك فأذن لنا في نصرته. فقال الله تعالى{إن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه{ فلما أرادوا إلقاءه في النار، أتاه خزان الماء - وهو في الهواء - فقالوا: يا إبراهيم إن أردت أخمدنا النار بالماء. فقال: لا حاجة لي إليكم. وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار. فقال: لا. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال{اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل{. وروى أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك) قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع، فاستقبله جبريل؛ فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال{أما إليك فلا{. فقال جبريل: فاسأل ربك. فقال{حسبي من سؤالي علمه بحالي{. فقال الله تعالى وهو أصدق القائلين{يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم{ قال بعض العلماء: جعل الله فيها بردا يرفع حرها، وحرا يرفع بردها، فصارت سلاما عليه. قال أبو العالية: ولو لم يقل {بردا وسلاما{ لكان بردها أشد عليه من حرها، ولو لم يقل {على إبراهيم{ لكان بردها باقيا على الأبد. وذكر بعض العلماء: أن الله تعالى أنزل زربية من الجنة فبسطها في الجحيم، وأنزل الله ملائكة: جبريل وميكائيل وملك البرد وملك السلام. وقال علي وابن عباس: لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها، ولم تبق يومئذ نار إلا طفئت ظنت أنها تعني. قال السدي: وأمر الله كل عود من شجرة أن يرجع إلى شجره ويطرح ثمرته. وقال كعب وقتادة: لم تحرق النار من إبراهيم إلا وثاقه. فأقام في النار سبعة أيام لم يقدر أحد أن يقرب من النار، ثم جاؤوا فإذا هو قائم يصلي. وقال المنهال بن عمرو قال إبراهيم{ما كنت أياما قط أنعم مني في الأيام التي كنت فيها في النار{. وقال كعب وقتادة والزهري: ولم تبق يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار إلا الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه؛ فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها وسماها فويسقة. وقال شعيب الحماني: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة. وقال ابن جريج: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست وعشرين سنة. ذكر الأول الثعلبي، والثاني الماوردي؛ فالله أعلم. وقال الكلبي: بردت نيران الأرض جميعا فما أنضجت كراعا، فرآه نمرود من الصراح وهو جالس على السرير يؤنسه ملك الظل. فقال: نعم الرب ربك! لأقربن له أربعة آلاف بقرة وكف عنه.
">الآية رقم ( 70 : 73 )">
الآية رقم ( 70 : 73 )
{وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين، ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين، ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين}
قوله تعالى{وأرادوا به كيدا{ أي أراد نمرود وأصحابه أن يمكروا به {فجعلناهم الأخسرين{ في أعمالهم، ورددنا مكرهم عليهم بتسليط أضعف خلقنا. قال ابن عباس: سلط الله عليهم أضعف خلقه البعوض، فما برح نمرود حتى رأى عظام أصحابه وخيله تلوح، أكلت لحومهم وشربت دماءهم، ووقعت واحدة في منخره فلم تزل تأكل إلى أن وصلت دماغه، وكان أكوم الناس عليه الذي يضرب رأسه بمرزبة من حديد. فأقام بهذا نحوا من أربعمائة سنة.
قوله تعالى{ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين{ يريد نجينا إبراهيم ولوطا إلى أرض الشام وكانا بالعراق. وكان {إبراهيم{ عليه السلام عمه؛ قال ابن عباس. وقيل: لها مباركة لكثرة خصبها وثمارها وأنهارها؛ ولأنها معادن الأنبياء. والبركة ثبوت الخير، ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح. وقال ابن عباس: الأرض المباركة مكة. وقيل: بيت المقدس؛ لأن منها بعث الله أكثر الأنبياء، وهي أيضا كثيرة الخصب والنمو، عذبة الماء، ومنها يتفرق في الأرض. قال أبو العالية: ليس ماء عذب إلا يهبط من السماء إلى الصخرة التي ببيت المقدس، ثم يتفرق في الأرض. ونحوه عن كعب الأحبار. وقيل: الأرض المباركة مصر.
قوله تعالى{ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة{ أي زيادة؛ لأنه دعا في إسحاق وزيد في يعقوب من غير دعاء فكان ذلك نافلة؛ أي زيادة على ما سأل؛ إذ قال{رب هب لي من الصالحين}الصافات: 100]. ويقال لولد الولد نافلة؛ لأنه زيادة على الولد. {وكلا جعلنا صالحين{ أي وكلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب جعلناه صالحا عاملا بطاعة الله. وجعلهم صالحين إنما يتحقق بخلق الصلاح والطاعة لهم، وبخلق القدرة على الطاعة، ثم ما يكتسبه العبد فهو مخلوق لله تعالى.
قوله تعالى{وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا{ أي رؤساء يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات. ومعنى {بأمرنا{ أي بما أنزلنا عليهم من الوحي والأمر والنهي؛ فكأنه قال يهدون بكتابنا وقيل: المعنى يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم بإرشاد الخلق، ودعائهم إلى التوحيد. {وأوحينا إليهم فعل الخيرات{ أي أن يفعلوا الطاعات. {وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين{ أي مطيعين.
">الآية رقم ( 74 : 75 )">
الآية رقم ( 74 : 75 )
{ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين، وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين}
قوله تعالى{ولوطا آتيناه حكما وعلما{ {لوطا{ منصوب بفعل مضمر دل عليه الثاني؛ أي وآتينا لوطا آتيناه. وقيل: أي واذكر لوطا. والحكم النبوة، والعلم المعرفة بأمر الدين وما يقع به الحكم بين الخصوم. وقيل{علما{ فهما؛ والمعنى واحد. {ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث{ يريد سدوم. ابن عباس: كانت سبع قرى، قلب جبريل عليه السلام ستة وأبقي واحدة للوط وعياله، وهي زغر التي فيها الثمر من كورة فلسطين إلى حد السراة؛ ولها قرى كثيرة إلى حد بحر الحجاز وفي الخبائث التي كانوا يعملونها قولان: أحدهما: اللواط على ما تقدم. والثاني: الضراط؛ أي كانوا يتضارطون في ناديهم ومجالسهم. وقيل: الضراط وحذف الحصي وسيأتي. {إنهم كانوا قوم سوء فاسقين{ أي خارجين عن طاعة الله، والفسوق الخروج وقد تقدم. {وأدخلناه في رحمتنا{ في النبوة. وقيل: في الإسلام. وقيل: الجنة. وقيل: عنى بالرحمة إنجاءه من قومه {إنه من الصالحين{.
">الآية رقم ( 76 : 77 )">
الآية رقم ( 76 : 77 )
{ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم، ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين}
قوله تعالى{ونوحا إذ نادى من قبل{ أي واذكر نوحا إذ نادى؛ أي دعا. {من قبل{ أي من قبل إبراهيم ولوط على قومه، وهو قوله{رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا}نوح: 26] وقال لما كذبوه{أني مغلوب فانتصر}القمر: 10]. {فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم{ أي من الغرق. والكرب الغم الشديد {وأهله{ أي المؤمنين منهم. {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا{ قال أبو عبدة{من{ بمعنى على. وقيل: المعنى فانتقمنا له {من القوم الذين كذبوا بآياتنا{. {فأغرقناهم أجمعين{ أي الصغير منهم والكبير.
">الآية رقم ( 78 : 79 )">
الآية رقم ( 78 : 79 )
{وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين}
قوله تعالى{وداود وسليمان إذ يحكمان{ أي واذكرهما إذ يحكمان، ولم يرد بقوله {إذ يحكمان{ الاجتماع في الحكم وإن جمعهما في القول؛ فإن حكمين على حكم واحد لا يجوز. وإنما حكم كل واحد منهما انفراده؛ وكان سليمان الفاهم لها بتفهيم الله تعالى إياه. {في الحرث{ اختلف فيه على قولين: فقيل: كان زرعا؛ قال قتادة. وقيل: كرما نبت عنا قيده؛ قال ابن مسعود وشريح. و{الحرث{ يقال فيهما، وهو في الزرع أبعد من الاستعارة. {إذ نفشت فيه غنم القوم{ أي رعت فيه ليلا؛ والنفش الرعي بالليل. يقال: نفشت بالليل، وهملت بالنهار، إذا رعت بلا راع. وأنفشها صاحبها. وإبل نفاش. وفي حديث عبدالله بن عمرو: الحبة في الجنة مثل كرش البعير يبيت نافشا؛ أي راعيا؛ حكاه الهروي. وقال ابن سيده: لا يقال الهمل في الغنم وإنما هو في الإبل. {وكنا لحكمهم شاهدين{ دليل على أن أقل الجمع اثنان. وقيل: المراد الحاكمان والمحكوم عليه؛ فلذلك قال {لحكمهم{.
قوله تعالى{ففهمناها سليمان{ أي فهمناه القضية والحكومة، فكنى عنها إذ سبق ما يدل عليها. وفضل حكم سليمان حكم أبيه في أنه أنه أحرز أن يبقي كل واحد منهما على متاعه، وتبقي نفسه طيبة بذلك؛ وذلك أن داود عليه السلام رأى أن يدفع الغنم إلى صاحب الحرث. وقالت فرقة: بل دفع الغنم إلى صاحب الحرث، والحرث إلى صاحب الغنم. قال ابن عطية: فيشبه على القول الواحد أنه رأى الغنم تقاوم الغلة التي أفسدت. وعلى القول الثاني رآها تقاوم الحرث والغلة؛ فلما خرج الخصمان على سليمان وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم، وكانوا يدخلون إلى داود من باب أخر فقال: بم قضى بينكما نبي الله داود؟ فقالا: قضى بالغنم لصاحب الحرث. فقال لعل الحكم غير هذا انصرفا معي. فأتى أباه فقال: يا نبي الله أنك حكمت بكذا وكذا وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع. قال: وما هو؟ قال: ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وسمونها وأصوافها، وتدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه، فإذا عاد الزرع إلى حال التي أصابته الغنم في السنة المقبلة، رد كل واحد منهما مال إلى صاحبه. فقال داود: وفقت يا بني لا يقطع الله فهمك. وقضى بما قضى به سليمان؛ قال معناه ابن مسعود ومجاهد وغيرهما. قال الكلبي: قوم داود الغنم والكرم الذي أفسدته الغنم فكانت القيمتان سواء، فدفع الغنم إلى صاحب الكرم. وهكذا قال النحاس؛ قال: إنما قضى بالغنم لصاحب الحرث؛ لأن ثمنها كان قريبا منه. وأما في حكم سليمان فقد قيل: كانت قيمة ما نال من الغنم وقيمة ما أفسدت الغنم سواء أيضا.
قوله تعالى{وكلا آتينا حكما وعلما{ تأول قوم أن داود عليه السلام لم يخطئ في هذه النازلة، بل فيها أوتي الحكم والعلم. وحملوا قوله{ففهمناها سليمان{ على أنه فضيلة له على داود وفضيلته راجعة إلى داود، والوالد تسره زيادة ولده عليه. وقالت فرقة: بل لأنه لم يصب العين المطلوبة في هذه النازلة، وإنما مدحه الله بأن له حكما وعلما يرجع إليه في غير هذه النازلة. وأما في هذه فأصاب سليمان وأخطأ داود عليهما الصلاة والسلام، ولا يمتنع وجود الغلط والخطأ من الأنبياء كوجوده من غيرهم، لكن لا يقرون عليه، وإن أقر عليه غيرهم. ولما هدم الوليد كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن كنت مصيبا فقد أخطأ أبوك، وإن كان أبوك مصيبا فقد أخطأت أنت؛ فأجابه الوليد {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نقشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما{. وقال قوم: كان داود وسليمان - عليهما السلام - نبيين يقضيان بما يوحى إليهما، فحكم داود بوحي، وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود، وعلى هذا {ففهمناها سليمان{ أي بطريق الوحي الناسخ لما أوحى إلى داود، وأمر سليمان أن يبلغ ذلك داود؛ ولهذا قال{وكلا آتينا حكما وعلما{. هذا قول جماعة من العلماء ومنها ابن فورك. وقال الجمهور: إن حكمهما كان باجتهاد وهي:
واختلف العلماء في جواز الاجتهاد على الأنبياء فمنعه قوم، وجوزه المحققون؛ لأنه ليس فيه استحالة عقلية؛ لأنه دليل شرعي فلا إحالة أن يستدل به الأنبياء، كما لو قال له الله سبحانه وتعالى: إذا غلب على ظنك كذا فاقطع بأن ما غلب على ظنك هو حكمي فبلغه الأمة؛ فهذا غير مستحيل في العقل. فإن قيل: إنما يكون دليلا إذا عدم النص وهم لا يعدمونه. قلنا: إذا لم ينزل الملك فقد عدم النص عندهم، وصاروا في البحث كغيرهم من المجتهدين عن معاني النصوص التي عندهم. والفرق بينهم وبين غيرهم من المجتهدين أنهم معصومون عن الخطأ، وعن الغلط، وعن التقصير في اجتهادهم، وغيرهم ليس كذلك. كما ذهب الجمهور في أن جميع الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون عن الخطأ والغلط في اجتهادهم. وذهب أبو علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي إلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم مخصوص منهم في جواز الخطأ عليهم، وفرق بينه وبين غيره من الأنبياء أنه لم يكن بعده يستدرك غلطه، ولذلك عصمه الله تعالى منه، وقد بعث بعد غيره من الأنبياء من يستدرك غلطة. وقد قيل: إنه على العموم في جميع الأنبياء، وأن نبينا وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم في تجويز الخطأ على سواء إلا أنهم لا يقرون على إمضائه، فلم يعتبر فيه استدراك من بعدهم من الأنبياء. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سألته امرأة عن العدة فقال لها: (اعتدي حيث شئت) ثم قال لها: (امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله). وقال له رجل: أرأيت إن قتلت صبرا محتسبا أيحجزني الجنة شيء؟ فقال: (لا) ثم دعاه فقال: (إلا الدين كذا أخبرني جبريل عليه السلام).
قال الحسن: لولا هذه الآية لرأيت القضاة هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه، وعذر داود باجتهاده. وقد اختلف الناس في المجتهدين في الفروع إذ اختلفوا؛ فقالت فرقة: الحق في طرف واحد عند الله، قد نصب على ذلك أدلة، وحمل المجتهدين على البحث عنها، والنظر فيها، فمن صادف العين المطلوبة في المسألة فهو المصيب على الإطلاق، وله أجران في الاجتهاد وأجر في الإصابة، ومن لم يصادفها فهو مصيب في اجتهاده مخطئ في أنه لم يصب العين فله أجر وهو غير معذور. هذا سليمان قد صادف العين المطلوبة، وهي التي فهم. ورأت فرقة أن العالم المخطئ لا إثم في خطئه وإن كان غير معذور. وقالت فرقة: الحق في طرف واحد ولم ينصب الله تعالى عليه دلائل [بل] وكل الأمر إلى نظر المجتهدين فمن أصابه أصاب ومن أخطأ فهو معذور مأجور متعبد بإصابته العين بل تعبدنا بالاجتهاد فقط. وقال جمهور أهل السنة وهو المحفوظ عن مالك وأصحابه رضي الله عنهم: إن الحق في مسائل الفروع في الطرفين، وكل مجتهد مصيب، والمطلوب إنما هو الأفضل في ظنه، وكل مجتهد قد أداه نظره إلى الأفضل في ظنه؛ والدليل على هذه المقالة أن الصحابة فمن بعدهم قرر بعضهم خلاف بعض، ولم ير أحد منهم أن يقع الانحمال على قوله دون قول مخالفه. ومنه رد مالك رحمه الله للمنصور أبي جعفر عن حمل الناس {الموطأ{؛ فإذا قال عالم في أم حلال فذلك هو الحق فيما يختص بذلك العالم عند الله تعالى وبكل من أخذ بقوله، وكذا في العكس. قالوا: وإن كان سليمان عليه السلام فهم القضية المثلى والتي أرجح فالأولى ليست بخطأ، وعلى هذا يحملون قول عليه السلام: (إذا اجتهد العالم فأخطأ) أي فأخطأ الأفضل.
روى مسلم وغيره عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) هكذا لفظ الحديث في كتاب مسلم (إذا حكم فاجتهد) فبدأ بالحكم قبل الاجتهاد، والأمر بالعكس؛ فإن الاجتهاد مقدم لي الحكم، فلا يجوز الحكم قبل الاجتهاد بالإجماع. وإنما معنى هذا الحديث: إذا أراد أن يحكم، كما قال{فإذا قرأت القرآن فاستعذ}النحل: 98] فعند ذلك أراد أن يجتهد في النازلة. ويفيد هذا صحة ما قال الأصوليون: إن المجتهد يجب عليه أن يجدد نظرا عند وقوع النازلة، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدم لإمكان أن يظهر له ثانيا خلاف ما ظهر له أولا، اللهم إن يكون ذاكرا لأركان اجتهاده، مائلا إليه، فلا يحتاج إلى استئناف نظر في أمارة أخرى.
إنما يكون يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالما بالاجتهاد والسنن والقياس، وقضاء من مضي؛ لأن اجتهاده عبادة ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط، فأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف لا يعذر بالخطأ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوزر. يدل على ذلك حديثه الآخر؛ رواه أبو داود: (القضاة ثلاثة) الحديث. قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب لا على الخطأ، ومما يؤيد هذا قوله تعالى{ففهمناها سليمان{ الآية. قال الحسن: أثنى على سليمان ولم يذم داود.
ذكر أبو التمام المالكي أن مذهب مالك أن الحق في واحد من أقاويل المجتهدين، وليس ذلك في أقاويل المختلفين، وبه قال أكثر الفقهاء. قال: وحكى ابن القاسم أنه سأل مالكا عن اختلاف الصحابة، فقال: مخطئ ومصيب، وليس الحق في جميع أقاويلهم. وهذا القول قيل: هو المشهور عن مالك وإليه ذهب محمد بن الحسين. واحتج من قال هذا بحديث عبدالله بن عمرو؛ قالوا: وهو نص على أن في المجتهدين وفي الحاكمين مخطئا ومصيبا؛ قالوا: والقول بأن كل مجتهد مصيب يؤدي إلى كون الشيء حلالا حراما، وواجبا ندبا. واحتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عمر. قال: نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف من الأحزاب (ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة، وقال الآخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت، قال: فما عنف واحدا من الفريقين؛ قالوا: فلو كان أحد الفريقين مخطئا لعينه النبي صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن يقال: لعله إنما سكت عن تعيين المخطئين لأنه غير آثم بل مأجور، فاستغنى عن تعيينه. والله أعلم. ومسألة الاجتهاد طويلة متشعبة؛ وهذه النبذة التي ذكرناها كافية في معنى الآية، والله الموفق للهداية.
ويتعلق بالآية فصل آخر: وهو رجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاده إلى اجتهاد آخر أرجح من الأول؛ فإن داود عليه السلام فعل ذلك. وقد اختلف في ذلك علماؤنا رحمهم الله تعالى؛ فقال عبدالملك ومطرف في {الواضحة{: ذلك له ما دام في ولايته؛ فأما إن كانت ولاية أخرى فليس له ذلك، وهو بمنزلة غيره من القضاة. وهذا هو ظاهر قول مالك رحمة الله في {المدونة{. وقال سحنون في رجوعه من اجتهاد فيه قول إلى غيره مما رآه أصوب ليس له ذلك؛ وقال ابن عبدالحكم. قالا: ويستأنف الحكم بما قوي عنده. قال سحنون: إلا أن يكون نسي الأقوى عنده في ذلك الوقت، أو وهم فحكم بغيره فله نقضه؛ وأما وإن حكم بحكم هو الأقوى عنده في ذلك الوقت ثم قوى عنده غيره بعد ذلك فلا سبيل إلى نقض الأول؛ قاله سحنون في كتاب ابنه. وقال أشهب في كتاب ابن المواز: إن كان رجوعه إلى الأصوب في مال فله نقض الأول، وإن كان في طلاق أو نكاح أو عتق فليس له نقضه.
قلت: رجوع القاضي عما حكم القاضي إذا يتبين له أن الحق في غيره ما دام في ولايته أولى. وهكذا في رسالة عمر إلى أبي موسى. الله عنهما؛ رواها الدارقطني، وقد ذكرناها في {الأعراف{ ولم يفصل؛ وهي الحجة لظاهر قول مالك. ولم يختلف العلماء أن القاضي إذا قضى تجوزا وبخلاف أهل العلم فهوم دود، إن كان على وجه الاجتهاد؛ فأما أن يتعقب قاض حكم قاض آخر فلا يجوز ذلك له لأن فيه مضرة عظمى من جهة نقض الأحكام، وتبديل الحلال بالحرام، وعدم ضبط قوانين الإسلام، ويتعرض أحد من العلماء لنقض ما رواه الآخر، وإنما كان يحكم بما ظهر له.
قال بعض الناس: إن داود عليه السلام لم يكن أنفذ الحكم وظهر له ما قال غير. وقال آخرون لم يكن حكما وإنما كانت فتيا.
قلت: وهكذا تؤول فيما رواه أبو هريرة عنه عليه السلام أنه قال: بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك؛ فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى؛ فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه؛ فقال: ائتوني بالسكين أشفه بينكما؛ فقالت الصغرى: لا - يرحمك الله - هو ابنها؛ فقضى به للصغرى؛ قال أبو هريرة: إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ، ما كنا نقول إلا المدية؛ أخرجه مسلم. فأما القول بأن ذلك من داود فتيا فهو ضعيف؛ لأنه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وفتياه حكم. وأما القول الآخر فيبعد؛ لأنه تعالى قال{إذ يحكمان في الحرث{ فبين أن كل واحد منهما كان قد حكم. وكذا قول في الحديث: فقضى به للكبرى؛ يدل على إنفاذ القضاء وإنجازه. ولقد أبعد من قال: إنه كان من شرع داود أن يحكم به للكبرى من حيث هي كبرى؛ لأن الكبر والصغر طرد محض عند الدعاوى كالطول والقصر والسواد والبياض وذلك لا يوجب ترجيح أحد المتداعيين حتى يحكم له أو عليه لأجل ذلك. وهو مما يقطع به من فهم ما جاءت به الشرائع. والذي ينبغي أن يقال: إن داود عليه السلام إنما قضى به للكبرى لسبب اقتضى عنده ترجيح قولها. ولم يذكر في الحديث تعيينه إذ لم تدع حاجة إليه، فيمكن أن الولد كان بيدها، وعلم عجز الأخرى عن إقامة البينة، فقضى به لها إبقاء لما كان على ما كان. وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا الحديث. وهو الذي تشهد له قاعدة الدعاوي الشرعية التي يبعد اختلاف الشرائع فيها. لا يقال: فإن كان داود قضى بسبب شرعي فكيف ساغ لسليمان نقض حكمه؛ فالجواب: أن سليمان عليه السلام لم يتعرض لحكم أبيه بالنقض، وإنما احتال حيلة لطيفة ظهر له بسببها صدق الصغرى؛ وهي أنه لما قال: هات السكين أشقه بينكما، قالت الصغرى: لا؛ فظهر له من قرينه الشفقة في الصغرى، وعدم ذلك في الكبرى، مع ما عساه انضاف إلى ذلك من القرائن ما حصل له العلم بصدقها فحكم لها. ولعله كان ممن سوغ له أن يحكم بعلمه. وقد ترجم النسائي على هذا الحديث {حكم الحاكم بعلمه{. وترجم له أيضا {السعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل ليستبين الحق{. وترجم له أيضا {نقض الحاكم لا يحكم به غيره ممن هو مثله أو أجل منه{. ولعل الكبرى اعترفت بأن الولد للصغرى عندما رأت من سليمان الحزم والجد في ذلك، فقضى بالولد للصغرى؛ ويكون هذا كما إذا حكم الحاكم باليمين، فلما مضى ليحلف حضر من استخرج من المنكر ما أوجب إقراره، فإنه يحكم عليه بذلك الإقرار قبل اليمين وبعدها، ولا يكون ذلك من باب نقض الحكم الأول، لكن من باب تبدل الأحكام بحسب تبدل الأسباب. والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفقه أن الأنبياء سوغ لهم الحكم بالاجتهاد؛ وقد ذكرناه. وفيه من الفقه استعمال الحكام الحيل التي تستخرج بها الحقوق، وذلك يكون عن قوة الذكاء والفطنة، وممارسة أحوال الخلق؛ وقد يكون في أهل التقوى فراسة دينية، وتوسمات نورية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وفيه الحجة لمن يقول: إن الأم تستلحق؛ وليس مشهور مذهب مالك، وليس هذا موضع ذكره. وعلى الجملة فقضاء سليمان في هذه القصة تضمنها مدحه تعالى له بقوله{ففهمناها سليمان{.
قد تقدم القول في الحرث والحكم في هذه الواقعة في شرعنا: أن على أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم وزروعهم بالنهار، ثم الضمان في المثل بالمثليات، وبالقيمة في ذوات القيم. والأصل في هذه المسألة في شرعنا ما حكم به نبينا صلى الله عليه وسلم في ناقة البراء بن عازب. رواه مالك عن ابن شهاب عن حرام بن سعد بن محيصة: أن ناقة للبراء دخلت حائط رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالليل، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها. هكذا رواه جميع الرواة مرسلا. وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب عن ابن شهاب، إلا ابن عيينة فإنه رواه عن الزهري عن سعيد وحرام بن سعد بن محيصة: أن ناقة؛ فذكر مثله بمعناه. ورواه ابن أبي ذئب عن ابن شهاب أنه بلغه أن ناقة البراء دخلت حائط قوم؛ مثل حديث مالك سواء، إلا أنه لم يذكر حرام بن سعد بن محيصة ولا غيره. قال أبو عمر: لم يصنع ابن أبي ذئب شيئا؛ إلا أنه أفسد إسناده. ورواه عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتابع عبدالرزاق على ذلك وأنكروا عليه قوله عن أبيه. ورواه ابن جريج عن ابن شهاب قال: حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أن ناقة دخلت في حائط قوم فأفسدت؛ فجعل الحديث لابن شهاب عن أبي أمامة، ولم يذكر أن الناقة كانت للبراء. وجائز أن يكون الحديث عن ابن شهاب عن ابن محيصة، وعن سعيد بن المسيب، وعن أبي أمامة - والله أعلم - فحدث به عمن شاء منهم على ما حضره وكلهم ثقات. قال أبو عمر: وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو حديث مشهور أرسله الأئمة، وحدث به الثقات، واستعمله فقهاء الحجاز وتلقوه بالقبول، وجرى في المدينة العمل به، وحسبك باستعمال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز لهذا الحديث.
ذهب مالك وجمهور الأئمة إلى القول بحديث البراء، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ، وأن البهائم إذا أفسدت زرعا في ليل أو نهار أنه لا يلزم صاحبها شيء، وأدخل فسادها في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (جرح العجماء جبار) فقاس جميع أعمالها على جرحها. ويقال: أنه ما تقدم أبا حنيفة أحد بهذا القول، ولا حجة له ولا لمن اتبعه في حديث العجماء، وكونه ناسخا لحديث البراء ومعارضا له؛ فإن النسخ شروطه معدومة، والتعاوض إنما يصح إذا لم يمكن استعماله أحدهما إلا بنفي الآخر، وحديث (العجماء جرحها جبار) عموم متفق عليه، ثم خص منه الزرع والحوائط بحديث البراء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو جاء عنه في حديث واحد: العجماء جرحها جبار نهارا لا ليلا وفي الزرع والحوائط والحرث، لم يكن هذا مستحيلا من القول؛ فكيف يجوز أن يقال في هذا متعارض؟ ! وإنما هذا من باب العموم والخصوص على ما هو مذكور في الأصول.
إن قيل: ما الحكمة في تفريق الشارع بين الليل والنهار، وقد قال الليث بن سعد: يضمن أرباب المواشي بالليل والنهار كل ما أفسدت، ولا يضمن أكثر من قيمة الماشية؟ قلنا: الفرق بينهما واضح وذلك أن أهل المواشي لهم ضرورة إلى إرسال مواشيهم ترعى بالنهار، والأغلب عندهم أن من عنده زرع يتعاهده بالنهار ويحفظه عمن أراده، فجعل حفظ ذلك بالنهار على أهل الزروع؛ لأنه وقت التصرف في المعاش، كما قال الله سبحانه وتعالى{وجعلنا النهار معاشا}النبأ: 11] فإذا جاء الليل فقد جاء الوقت الذي يرجع كل شيء إلى موضعه وسكنه؛ كما قال الله تعالى{من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه}القصص: 72] وقال{وجعل الليل سكنا}الأنعام: 96] ويرد أهل المواشي مواشيهم إلى مواضعهم ليحفظوها، فإذا فرط صاحب الماشية في ردها إلى منزله، وفرط في ضبطها وحبسها عن الانتشار بالليل حتى أتلفت شيئا فعليه ضمان ذلك، فجرى الحكم الأوفق الأسمح، وكان ذلك أرفق بالفريقين، وأسهل على الطائفتين، وأحفظ للمالين، وقد وضح الصبح لذي عينين، ولكن لسليم الحاستين؛ وأما قول الليث: لا يضمن أكثر من قيمة المال فقد قال أبو عمر: لا أعلم من أين قال هذا الليث بن سعد، إلا أن يجعله قياسا على العبد الجاني لا يفتك بأكثر من قيمته ولا يلزم سيده في جنايته أكثر من قيمته، وهذا ضعيف الوجه؛ كما قال في {التمهيد{ وفي {الاستذكار{ فخالف الحديث في (العجماء جرحها جبار) وخالف ناقة البراء، وقد تقدمه إلى ذلك طائفة من العلماء منهم عطاء. قال ابن جريج قلت لعطاء: الحرث الماشية ليلا أو نهارا؟ قال: يضمن صاحبها ويغرم. قلت: كان عليه حظرا أو لم يكن؟ قال نعم! يغرم. قلت: ما يغرم؟ قال: قيمة ما أكل حماره ودابته وماشيته. وقال معمر عن ابن شبرمة: يقوم الزرع على حاله التي أصيب عليها دراهم. وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنهما: يضمن رب الماشية ليلا أو نهارا، من طرق لا تصح.
قال مالك: ويقوم الزرع الذي أفسدت المواشي بالليل على الرجاء والخوف. قال: والحوائط التي تحرس والتي لا تحرس، والمحظر عليها وغير المحظر سواء، يغرم أهلها ما أصابت بالليل بالغا ما بلغ، وإن كان أكثر من قيمتها. قال: وإن انفلتت دابة بالليل فوطئت على رجل نائم لم يغرم صاحبها شيئا، وإنما هذا في الحائط والزرع والحرث؛ ذكره عنه ابن عبدالحكم. وقال ابن القاسم: ما أفسدت الماشية بالليل فهو في مال ربها، وإن كان أضعاف ثمنها؛ لأن الجناية من قبله إذ لم يربطها، وليست الماشية كالعبيد؛ حكاه سحنون وأصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم.
ولا يستأني بالزرع أن ينبت أولا ينبت كما يفعل في سن الصغير. وقال عيسى عن ابن القاسم: قيمته لو حل بيعه. وقال أشهب وابن نافع في المجموعة عنه: وإن لم يبد صلاحه. ابن العربي: والأول أقوى لأنها صفته فتقوم كما يقوم كل متلف على صفته.
لو لم يقض للمفسد له بشيء حتى نبت وانجبر فإن كان فيه قبل ذلك منفعة رعي أو شيء ضمن تلك المنفعة، وإن لم تكن فيه منفعة فلا ضمان. وقال أصبغ: يضمن؛ لأن التلف قد تحقق والجبر ليس من جهته فلا يعتد له به.
وقع في كتاب ابن سحنون أن الحديث إنما جاء في أمثال المدينة التي هي حيطان محدقة، وأما البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة، وبساتين كذلك، فيضمن أرباب النعم ما أفسدت من ليل أو نهار؛ كأنه ذهب إلى أن ترك تثقيف الحيوان في مثل هذه البلاد تعد؛ لأنها ولا بد تفسد. وهذا جنوب إلى قول الليث.
قال أصبغ في المدينة: ليس لأهل المواشي أن يخرجوا مواشيهم إلى قرى الزرع بغير ذواد؛ فركب العلماء على هذا أن البقعة لا تخلو أن تكون بقعة زرع، أو بقعة سرح، فإن كانت بقعة زرع فلا تدخلها ماشية إلا ماشية تجتاح، وعلى أربابها حفظها، وما أفسدت فصاحبها ضامن ليلا أو نهارا؛ وإن كانت بقعة سرح فعلى صاحب الذي حرثه فيها حفظه، ولا شيء على أرباب المواشي.
المواشي على قسمين: ضواري وحريسة وعليهما قسمها مالك. فالضواري هي المعتادة للزرع والثمار، فقال مالك: تغرب وتباع في بلد لا زرع فيه؛ رواه ابن القاسم في الكتاب وغيره. قال ابن حبيب: وإن كره ذلك ربها، وكذلك قال مالك في الدابة التي ضريت في إفساد الزرع: تغرب وتباع. وأما ما يستطاع الاحتراس منه فلا يؤمر صاحبه بإخراجه.
قال أصبغ: النحل والحمام والإوز والدجاج كالماشية، لا يمنع صاحبها من اتخاذها وإن [ضريت]، وعلى أهل القرية حفظ زروعهم. قال ابن العربي: وهذه رواية ضعيفة لا يلتفت إليها من أراد أن يجد ما ينتفع به مما لا يضر بغيره مكن منه، وأما انتفاعه بما يتخذه بإضراره بأحد فلا سبيل إليه. قال عليه السلام: (لا ضرر ولا ضرار) وهذه الضواري عن ابن القاسم في المدينة لا ضمان على أربابها إلا بعد التقدم ابن العربي: وأرى الضمان عليهم قبل التقدم إذا كانت ضواري.
ذكر عبدالرزاق عن معمر عن قتادة عن الشعبي أن شاة وقعت في غزل حائك فاختصموا إلى شريح، فقال الشعبي: انظروه فإنه سيسألهم ليلا وقعت فيه أو نهارا؛ ففعل. ثم قال: إن كان بالليل ضمن، وإن كان بالنهار لم يضمن، ثم قرأ شريح {إذ نقشت فيه غنم القوم{ قال: والنفش بالليل والهمل بالنهار.
قلت: ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم (العجماء جرحها جبار) الحديث. وقال ابن شهاب: والجبار الهدر، والعجماء البهيمة، قال علماؤنا: ظاهر قوله: (العجماء جرحها جبار) أن ما انفردت البهيمة بإتلافه لم يكن فيه شيء، وهذا مجمع عليه. فلو كان معها قائد أو سائق أو راكب فحملها أحدهم على شيء فأتلفته لزمه حكم المتلف؛ فإن كانت جناية مضمونة بالقصاص وكان الحمل عمدا كان فيه القصاص ولا يختلف فيه؛ لأن الدابة كالآلة. وإن كان عن غير قصد كانت فيه الدية على العاقلة. وفي الأموال الغرامة في مال الجاني.
واختلفوا فيمن أصابته برجلها أو ذنبها، فلم يضمن مالك والليث والأوزاعي صاحبها، وضمنه الشافعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة. واختلفوا في الضارية فجمهورهم أنها كغيرها، ومالك وبعض أصحابه يضمنونه.
روى سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرجل جبار) قال الدارقطني: لم يروه غير سفيان بن حسين ولم يتابع عليه، وخالفه الحفاظ عن الزهري منهم مالك وابن عيينة ويونس ومعمر وابن جريج والزبيدي وعقيل وليث بن سعد، وغيرهم كلهم رووه عن الزهري فقالوا: (العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار) ولم يذكروا الرجل وهو الصواب. وكذلك روى أبو صالح السمان، وعبدالرحمن الأعرج، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن زياد وغيرهم عن أبي هريرة، ولم يذكروا فيه (والرجل جبار) وهو المحفوظ عن أبي هريرة.
قوله: (والبئر جبار) قد روى موضعه (والنار) قال الدارقطني: حدثنا حمزة بن القاسم الهاشمي حدثنا حنبل بن إسحاق قال سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يقول في حديث عبدالرزاق: حديث أبي هريرة (والنار جبار) ليس بشيء لم يكن في الكتاب باطل ليس هو بصحيح. حدثنا محمد بن مخلد حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن هانئ قال سمعت أحمد بن حنبل يقول: أهل اليمن يكتبون النار النير ويكتبون البير؛ يعني مثل ذلك. وإنما لقن عبدالرزاق (النار جبار). وقال الرمادي: قال عبدالرزاق قال معمر لا أراه إلا وهما. قال أبو عمر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (النار جبار) وقال يحيي بن معين: أصله البئر ولكن معمرا صحفه قال أبو عمر: لم يأت ابن معين على قوله هذا بدليل، وليس هكذا ترد أحاديث الثقات. ذكر وكيع عن عبدالعزيز بن حصين عن يحي بن يحي الغساني قال: أحرق رجل سافي قراح له فخرجت شررة من نار حتى أحرقت شيئا لجاره. قال: فكتب فيه إلى عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه ابن حصين فكتب إلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار) وأرى أن النار جبار. وقد روي (والسائمة جبار) بدل العجماء فهذا ما ورد في ألفاظ هذا الحديث ولكل معنى لفظ صحيح مذكور في شرح الحديث وكتب الفقه.
قوله تعالى{وسخرنا مع داود الجبال يسبحن{ قال وهب: كان داود يمر بالجبال مسبحا والجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير. وقيل كان داود إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت حتى يشتاق؛ ولهذا قال{وسخرنا{ أي جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح. وقيل: إن سيرها معه تسبيحها، والتسبيح مأخوذ من السباحة؛ دليله قوله تعالى{يا جبال أوبي معه}سبأ: 10]. وقال قتادة{يسبحن{ يصلين معه إذا صلى، والتسبيح الصلاة. وكل محتمل. وذلك فعل الله تعالى بها؛ ذلك لأن الجبال لا تعقل فتسبيحها دلالة على تنزيه الله تعالى عن صفات العاجزين والمحدثين.
الآية رقم ( 80 )
{وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون}
قوله تعالى{وعلمناه صنعة لبوس لكم{ يعني اتخاذ الدروع بإلانة الحديد له، واللبوس عند العرب السلاح كله؛ درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا. قال الهذلي يصف رمحا:
ومعي لبوس للبئيس كأنه روق بجبهة ذي نعاج مجفل
واللبوس كل ما يلبس، وأنشد ابن السكيت:
ألبس كل حالة لبوسها إما نعيمها وإما ما بوسها
وأراد الله تعالى هنا الدرع، وهو بمعنى الملبوس نحو الركوب والحلوب. قال قتادة: أول من صنع الدروع داود. وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها.
قوله تعالى{ليحصنكم{ ليحرزكم. {من بأسكم{ أي من حربكم. وقيل: من السيف والسهم والرمح، أي من آلة بأسكم فحذف المضاف. ابن عباس{من بأسكم{ من سلاحكم. الضحاك: من حرب أعدائكم. والمعنى واحد. وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر وحفص وروح {لتحصنكم{ بالتاء ردا على الصفة. وقيل: على اللبوس والمنعة التي هي الدروع. وقرأ شيبة وأبو بكر والمفضل ورويس وابن أبي إسحاق {لنحصنكم{ بالنون لقوله{وعلمناه{. وقرأ الباقون بالياء جعلوا الفعل للبوس، أو يكون المعنى ليحصنكم الله. {فهل أنتم شاكرون{ أي على تيسير نعمة الدروع لكم. وقيل{فهل أنتم شاكرون{ بأن تطيعوا رسولي.
هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهل العقول والألباب، لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء، فالسبب سنة الله في خلقه فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة، ونسب من ذكرنا إلى الضعف وعدم المنة. وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضا يصنع الخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدم حراثا، ونوح نجارا، ولقمان خياطا، وطالوت دباغا. وقيل: سقاء؛ فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع. بها عن نفسه الضرر والباس. وفي الحديث{إن الله يحب المؤمن المحترف الضعيف المتعفف ويبغض السائل الملحف{. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة {الفرقان{ وقد تقدم في غير ما آية، وفيه كفاية والحمد لله.
الآية رقم ( 81 : 82 )
{ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين، ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين}
قوله تعالى{ولسليمان الريح عاصفة{ أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة، أي شديدة الهبوب. يقال منه: عصفت الريح أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف. وفي لغة بني أسد: أعصفت الريح فهي معصفة ومعصفة. والعصف التبن فسمي به شدة الريح؛ لأنها تعصفه بشدة تطيرها. وقرأ عبدالرحمن الأعرج وأبو بكر {ولسليمان الريح{ برفع الحاء على القطع مما قبله؛ والمعنى ولسليمان تسخير الريح؛ ابتداء وخبر. {تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها{ يعني الشام يروي أنها كانت تجري به وبأصحابه إلى حيث أراد، ثم ترده إلى الشام. وقال وهب: كان سليمان بن داود إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره. وكان امرأ غزاء لا يعقد عن الغزو؛ فإذا أراد أن يغزو أمر بخشب فمدت ورفع عليها الناس والدواب وآلة الحرب، أمر العاصف فأقلت ذلك، ثم أمر الرخاء فمرت به شهرا في رواحه وشهرا في غدوه، وهو معنى قوله تعالى{تجري بأمره رخاء حيث أصاب}ص: 36]. والرخاء اللينة. {وكنا بكل شيء عالمين{ أي بكل شيء عملنا عالمين بتدبيره.
قوله تعالى{ومن الشياطين من يغوصون له{ أي وسخرنا له من يغوصون؛ يريد تحت الماء. أي يستخرجون له الجواهر من البحر. والغوص النزول تحت الماء، وقد غاص في الماء، والهاجم على الشيء غائص. والغواص الذي يغوص في البحر على اللؤلؤ، وفعله الغياصة. {ويعملون عملا دون ذلك{ أي سوي ذلك من الغوص؛ قاله الفراء. وقيل: يراد بذلك المحاريب والتماثيل وغير ذلك يسخرهم فيه. {وكنا لهم حافظين{ أي لأعمالهم. وقال الفراء: حافظين لهم من أن يفسدوا أعمالهم، أو يهيجوا أحدا من بني آدم في زمان سليمان. وقيل{حافظين{ من أن يهربوا أو يمتنعوا. أو حفظناهم من أن يخرجوا عن أمره. وقد قيل: إن الحمام والنورة والطواحين والقوارير والصابون من استخراج الشياطين.
الآية رقم ( 83 : 84 )
{وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين}
قوله تعالى{وأيوب إذ نادى ربه{ أي واذكر أيوب إذ نادى ربه. {أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين{ أي نالني في بدني ضر وفي مالي وأهلي. قال ابن عباس: سمي أيوب لأنه آب إلى الله تعالى في كل حال. وروي أن أيوب عليه السلام كان رجلا من الروم ذا مال عظيم، وكان برا تقيا رحيما بالمساكين، يكفل الأيتام والأرامل، ويكرم الضيف، ويبلغ ابن السبيل، شاكرا لأنعم الله تعالى، وأنه دخل مع قومه على جبار عظيم فخاطبوه في أمر، فجعل أيوب يلين له في القول من أجل زرع كان له فامتحنه الله بذهاب مال وأهله، وبالضر في جسمه حتى تناثر لحمه وتدود جسمه، حتى أخرجه أهل قريته إلى خارج القرية، وكانت امرأته تخدمه. قال الحسن: مكث بذلك تسع سنين وستة أشهر. فلما أراد الله أن يفرج عنه قال الله تعالى له{اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب}ص: 42] فيه شفاؤك، وقد وهبت لك أهلك ومالك وولدك ومثلهم معهم. وسيأتي في {ص{ ما للمفسرين في قصة أيوب من تسليط الشيطان عليه، والرد عليهم إن شاء الله تعالى. واختلف في قول أيوب{مسني الضر{ على خمسة عشر قولا:
الأول: أنه وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض فقال{مسني الضر{ إخبارا عن حاله، لا شكوى لبلائه؛ رواه أنس مرفوعا. الثاني: أنه إقرار بالعجز فلم يكن منافيا للصبر. الثالث: أنه سبحانه أجراه على لسانه ليكون حجة لأهل البلاء بعده في الإفصاح بما ينزل بهم. الرابع: أنه أجراه على لسانه إلزاما له في صفة الآدمي في الضعف عن تحمل البلاء. الخامس: أنه انقطع الوحي عنه أربعين يوما فخاف هجران ربه فقال{مسني الضر{. وهذا قول جعفر بن محمد. السادس: أن تلامذته الذين كانوا يكتبون عنه لما أفضت حال إلى ما انتهت إليه محوا ما كتبوا عنه، وقالوا: ما لهذا عند الله قدر؛ فاشتكى الضر في ذهاب الوحي والدين من أيدي الناس. وهذا مما لم يصح سنده. والله أعلم؛ قال ابن العربي. السابع: أن دودة سقطت من لحمه فأخذها وردها في موضعها فعقرته فصاح {مسني الضر{ فقيل: أعلينا تتصبر. قال ابن العربي: وهذا بعيد جدا مع أنه يفتقر إلى نقل صحيح، ولا سبيل إلى وجوده. الثامن: أن الدود كان يتناول بدنه فصبر حتى تناولت دودة قلبه وأخرى لسانه، فقال{مسني الضر{ لاشتغاله عن ذكر الله، قال ابن العربي: وما أحسن هذا لو كان له سند ولم تكن دعوى عريضة. التاسع: أنه أبهم عليه جهة أخذ البلاء له هل هو تأديب، أو تعذيب، أو تخصيص، أو تمحيص، أو ذخر أو طهر، فقال{مسني الضر{ أي ضر الإشكال في جهة أخذ البلاء. قال ابن العربي: وهذا غلو لا يحتاج إليه. العاشر: أنه قيل له سل الله العافية فقال: أقمت في النعيم سبعين سنة وأقيم في البلاء سبع سنين وحينئذ أسأله فقال{مسني الضر{. قال ابن العربي: وهذا ممكن ولكنه لم يصح في إقامته مدة خبر ولا في هذه القصة. الحادي عشر: أن ضره قول إبليس لزوجه اسجدي لي فخاف ذهاب الإيمان عنها فتهلك ويبقي بغير كافل. الثاني عشر: لما ظهر به البلاء قال قومه: قد أضر بنا كونه معنا وقذره فليخرج عنا، فأخرجته امرأته إلى ظاهر البلد؛ فكانوا إذا خرجوا رأوه وتطيروا به وتشاءموا برؤيته، فقالوا: ليبعد بحيث لا نراه. فخرج إلى بعد من القرية، فكانت امرأته تقوم عليه وتحمل قوته إليه. فقالوا: إنها تتناوله وتخالطنا فيعود بسببه ضره إلينا. فأرادوا قطعها عنه؛ فقال{مسني الضر{. الثالث عشر: قال عبدالله بن عبيد بن عمير: كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما. بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من نتن ريحه، فقال أحدهما: لو علم الله في أيوب خيرا ما ابتلاه به البلاء؛ فلم يسمع شيئا أشد عليه من هذه الكلمة؛ فعند ذلك قال{مسني الضر{ ثم قال{اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع فصدقني{ فنادى مناد من السماء {أن صدق عبدي{ وهما يسمعان فخرا ساجدين. الرابع عشر: أن معنى {مسني الضر{ من شماتة الأعداء؛ ولهذا قيل له: ما كان أشد عليك في بلائك؟ قال شماتة الأعداء. قال ابن العربي: وهذا ممكن فإن الكليم قد سأله أخوه العافية من ذلك فقال{إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء}الأعراف: 150]. الخامس عشر: أن امرأته كانت ذات ذوائب فعرفت حين منعت أن تتصرف لأحد بسببه ما تعود به عليه، فقطعت ذوائبها واشترت بها ممن قوتا وجاءت به إليه، وكان يستعين بذوائبها في تصرفه وتنقله، فلما عدمها وأراد الحركة في تنقله لم يقدر قال{مسني الضر{. وقيل: إنها لما اشترت القوت بذوائبها جاءه إبليس في صفة رجل وقال له: إن أهلك بغت فأخذت وحلق شعرها. فحلف أيوب أن يجلدها؛ فكانت المحنة على قلب المرأة أشد من المحنة على قلب أيوب.
قلت: وقول سادس عشر: ذكر ابن المبارك: أخبرنا يونس بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوما النبي صلى الله عليه وسلم وما أصابه من البلاء؛ الحديث. وفيه أن بعض إخوانه ممن صابره ولازمه قال: يا نبي الله لقد أعجبني أمرك وذكرته إلى أخيك وصاحبك، أنه قد ابتلاك بذهاب الأهل والمال وفي جسدك منذ ثمان عشرة سنة حتى بلغت ما ترى ألا يرحمك فيكشف عنك ! لقد أذنبت ذنبا ما أظن أحدا بلغه! فقال أيوب عليه السلام{ما أدري ما يقولان غير أن ربي عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان وكل يحلف بالله - أو على النفر يتزاعمون - فأنقلب إلى أهلي فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا يأثم أحد ذكره ولا يذكره أحد إلا بالحق{ فنادى ربه {أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين{ إنما كان دعاؤه عرضا عرضه على الله تبارك وتعالى يخبره بالذي بلغه، صابرا لما يكون من الله تبارك وتعالى فيه. وذكر الحديث. وقول سابع عشر: سمعته ولم أقف عليه أن دودة سقطت من جسده فطلبها ليردها إلى موضعها فلم يجدها فقال{مسني الضر{ لما فقد من أجر ألم تلك الدودة، وكان أراد أن يبقي له الأجر موفرا إلى وقت العافية، وهذا حسن إلا أنه يحتاج إلى سند. قال العلماء: ولم يكن قوله {مسني الضر{ جزعا؛ لأن الله تعالى قال{إنا وجدناه صابرا}ص: 44] بل كان ذلك دعاء منه، والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى، والدعاء لا ينافي الرضا. قال الثعلبي سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرت مجلسا غاصا بالفقهاء والأدباء في دار السلطان، فسألت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أن قول أيوب كان شكاية قد قال الله تعالى{إنا وجدناه صابرا}ص: 44] فقلت: ليس هذا شكاية وإنما كان دعاء؛ بيانه {فاستجبنا له{ والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء. فاستحسنوه وارتضوه. وسئل الجند عن هذه الآية فقال: عرفه فاقة السؤال ليمن عليه بكوم النوال.
قوله تعالى{فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم{ قال مجاهد وعكرمة قيل لأيوب صلى الله عليه وسلم: قد آتيناك أهلك في الجنة فإن شئت تركناهم لك في الجنة وإن شئت آتيناكهم في الدنيا. قال مجاهد: فتركهم الله عز وجل له في الجنة وأعطاه مثلهم في الدنيا. قال النحاس: والإسناد عنهما بذلك صحيح.
قلت: وحكاه المهدوي عن ابن عباس. وقال الضحاك: قال عبدالله بن مسعود كان أهل أيوب قد ماتوا إلا امرأته فأحياهم الله عز وجل في أقل من طرف البصر، وآتاه مثلهم معهم. وعن ابن عباس أيضا: كان بنوه قد ماتوا فأحيوا له وولد له مثلهم معهم. وقال قتادة وكعب الأحبار والكلبي وغيرهم. قال ابن مسعود: مات أولاده وهم سبعة من الذكور وسبعة من الإناث فلما عوفي نشروا له، وولدت امرأته سبعة بنين وسبع بنات. الثعلبي: وهذا القول أشبه بظاهر الآية.
قلت: لأنهم ماتوا ابتلاء قبل آجالهم حسب ما تقدم بيانه في سورة {البقرة{ في قصة {الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت}البقرة: 243]. وفي قصة السبعين الذين أخذتهم الصعقة فماتوا ثم أحيوا؛ وذلك أنهم ماتوا قبل آجالهم، وكذلك هنا والله أعلم. وعلى قول مجاهد وعكرمة يكون المعنى{وأتيناه أهله{ في الآخرة {ومثلهم معهم{ في الدنيا. وفي الخبر: إن الله بعث إليه جبريل عليه السلام حين ركض برجله على الأرض ركضة فظهرت عين ماء حار، وأخذ بيده ونفضه نفضة فتناثرت عنه الديدان، وغاص في الماء غوصة فنبت لحمه وعاد إلى منزله، ورد الله عليه أهله ومثلهم معهم، ونشأت سحابة على قدر قواعد داره فأمطرت ثلاثة أيام بلياليها جرادا من ذهب. فقال له جبريل: أشبعت؟ فقال: ومن يشبع من الله! فضل. فأوحى الله إليه: قد أثنيت عليك بالصبر قبل وقوعك في البلاء وبعده، ولولا أني وضعت تحت كل شعرة منك صبرا ما صبرت. {رحمة من عندنا{ أي فعلنا ذلك به رحمة من عندنا. وقيل: ابتليناه ليعظم ثوابه غدا. {وذكرى للعابدين{ أي وتذكيرا للعباد؛ لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب وصبره عليه ومحنته له وهو أفضل أهل زمانه وطنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا نحو ما فعل أيوب، فيكون هذا تنبيها لهم على إدامة العبادة، واحتمال الضرر. واختلف في مدة إقامته في البلاء؛ فقال ابن عباس: كانت مدة البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ليال. وهب: ثلاثين سنة. الحسن سبع سنين وستة أشهر. قلت: وأصح من هذا والله أعلم ثماني عشرة سنة؛ رواه ابن شهاب عن النبي صلى؛ ذكره ابن المبارك وقد تقدم.