سورة الأنعام مكية في قوله الأكثرين قال ابن عباس وقتادة: هي مكية كلها إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة، قوله تعالى{وما قدروا الله حق قدره}الأنعام: 91] نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين والأخرى قوله{وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات}الأنعام: 141] نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري وقال ابن جريج: نزلت في معاذ بن جبل وقال الماوردي وقال الثعلبي سورة }الأنعام} مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة }وما قدروا الله حق قدره} إلى آخر ثلاث آيات و}قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم}الأنعام: 151] إلى آخر ثلاث آيات قال ابن عطية: وهي الآيات المحكمات وذكر ابن العربي: أن قوله تعالى{قل لا أجد} نزل بمكة يوم عرفة وسيأتي القول في جميع ذلك إن شاء الله وفي الخبر أنها نزلت جملة واحدة غير الست الآيات وشيعها سبعون ألف ملك مع آية واحدة منها اثنا عشر ألف ملك وهي }وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}الأنعام: 59] نزلوا بها ليلا لهم زجل بالتسبيح والتحميد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتبوها من ليلتهم وأسند أبو جعفر النحاس قال: حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أبو حاتم روح بن الفرج مولى الحضارمة قال حدثنا أحمد بن محمد أبو بكر العمري حدثنا ابن أبي فديك حدثني عمر بن طلحة بن علقمة بن وقاص عن نافع أبي سهل بن مالك عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح) والأرض لهم ترتج ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سبحان ربي العظيم) ثلاث مرات وذكر الدارمي أبو محمد في مسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: الأنعام من عجائب القرآن. وفيه عن كعب قال: فاتحة }التوراة} فاتحة الأنعام وخاتمتها خاتمة }هود}. وقاله وهب بن منبه أيضا وذكر المهدوي قال المفسرون إن التوراة افتتحت بقوله{الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض}الأنعام: 1] الآية وختمت بقوله }الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك}الإسراء: 111] إلى آخر الآية وذكر الثعلبي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى قوله{ويعلم ما تكسبون}الأنعام: 3] وكل الله به أربعين ألف ملك يكتبون له مثله عبادتهم إلى يوم القيامة وينزل ملك من السماء السابعة ومعه مرزبة من حديد، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس له أو يوحي في قلبه شيئا ضربه ضربة فيكون بينه وبينه سبعون حجابا فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى{امش في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي وكل من ثمار جنتي واشرب من ماء الكوثر واغتسل من ماء السلسبيل فأنت عبدي وأنا ربك}. وفي البخاري عن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة }الأنعام} }قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم} إلى قوله{وما كانوا مهتدين}الأنعام: 140].
تنبيه: قال العلماء: هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة وعليها بنى المتكلمون أصول الدين لأن فيها آيات بينات ترد على القدرية دون السور التي تذكر والمذكورات وسنزيد ذلك بيانا إن شاء الله بحول الله تعالى وعونه.
الآية رقم (1)
{الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون}
قوله تعالى{الحمد لله} بدأ سبحانه فاتحتها بالحمد على نفسه وإثبات الألوهية أي أن الحمد كله له فلا شريك له فإن قيل: فقد افتتح غيرها بالحمد لله فكان الاجتزاء بواحدة يغني عن سائره فيقال: لأن لكل واحدة منه معنى في موضعه لا يؤدي عنه غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة وأيضا فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون. وقد تقدم معنى }الحمد} في الفاتحة.
قوله تعالى{الذي خلق السماوات والأرض} أخبر عن قدرته وعلمه وإرادته فقال: الذي خلق أي اخترع وأوجد وأنشأ وابتدع والخلق يكون بمعنى الاختراع ويكون بمعنى التقدير، وقد تقدم وكلاهما مراد هنا وذلك دليل على حدوثهما فرفع السماء بغير عمد وجعلها مستوية من غير أود وجعل فيها الشمس والقمر آيتين وزينها بالنجوم وأودعها السحاب والغيوم علامتين وبسط الأرض وأودعها الأرزاق والنبات وبث فيها من كل دابة آيات جعل فيها الجبال أوتادا وسبلا فجاجا وأجرى فيها الأنهار والبحار وفجر فيها العيون من الأحجار دلالات على وحدانيته، وعظيم قدرته وأنه هو الله الواحد القهار وبين بخلقه السماوات والأرض أنه خالق كل شيء.
خرج مسلم قال: حدثني سريج بن يونس وهارون بن عبدالله قالا حدثنا حجاج بن محمد قال قال ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبدالله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: (خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل).
قلت: أدخل العلماء هذا الحديث تفسيرا لفاتحة هذه السورة؛ قال البيهقي: وزعم أهل العلم بالحديث أنه غير محفوظ لمخالفة ما عليه أهله التفسير وأهله التواريخ. وزعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى عن أيوب بن خالد وإبراهيم غير محتج به وذكر محمد بن يحيى قال: سألت علي بن المديني عن حديث أبى هريرة (خلق الله التربة يوم السبت). فقال علي: هذا حديث مدني رواه هشام بن يوسف عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي قال علي: وشبك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى فقال لي: شبك بيدي أيوب بن خالد وقال لي شبك بيدي عبدالله بن رافع وقال لي: شبك بيدي أبو هريرة وقال لي: شبك بيدي أبو القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (خلق الله الأرض يوم السبت) فذكر الحديث بنحوه. قال علي بن المديني: وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا الأمر إلا من إبراهيم بن أبي يحيى قال البيهقي: وقد تابعه على ذلك موسى بن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد إلا أن موسى بن عبيدة ضعيف. وروي عن بكر بن الشرود عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم عن أيوب بن خالد وإسناده ضعيف عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجمعة ساعة لا يوافقها أحد يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا أعطاه إياه) قال فقال عبدالله بن سلام: إن الله عز وجل ابتدأ الخلق فخلق الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين وخلق السماوات يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق الأقوات وما في الأرض يوم الخميس ويوم الجمعة إلى صلاة العصر وما بين صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس خلق آدم خرجه البيهقي
قلت: وفيه أن الله تعالى بدأ الخلق يوم الأحد لا يوم السبت وكذلك تقدم في }البقرة} عن ابن مسعود وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وتقدم فيها أن الاختلاف أيما خلق أولا الأرض أم السماء مستوفى. والحمد لله.
قوله تعالى{وجعل الظلمات والنور} ذكر بعد خلق الجواهر خلق الأعراض لكون الجوهر لا يستغني عنه وما لا يستغني عن الحوادث فهو حادث. والجوهر في اصطلاح المتكلمين هو الجزء الذي لا يتجزأ الحامل للعرض وقد أتينا على ذكره في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى في اسمه }الواحد} وسمي العرض عرضا لأنه يعرض في الجسم والجوهر فيتغير به من حال إلى حال والجسم هو المجتمع وأقل ما يقع عليه اسم الجسم جوهران مجتمعان وهذه الاصطلاحات وإن لم تكن موجودة في الصدر الأول فقد دل عليها معنى الكتاب والستة فلا معنى لإنكارها وقد استعملها العلماء واصطلحوا عليها وبنوا عليها كلامهم وقتلوا بها خصومهم
واختلف العلماء في المعنى المراد بالظلمات والنور فقال السدي وقتادة وجمهور المفسرين: المراد سواد الليل وضياء النهار وقال الحسن الكفر والإيمان قال ابن عطية: وهذا خروج عن الظاهر.
قلت: اللفظ يعمه وفي التنزيل{أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات}الأنعام: 122]. والأرض هنا اسم للجنس فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها وكذلك }والنور} ومثله }ثم يخرجكم طفلا}غافر: 67] وقال الشاعر:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا
وقد تقدم وجعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره قاله ابن عطية.
قلت: وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق فيكون الجمع معطوفا على الجميع والمفرد معطوفا على المفرد فيتجانس اللفظ وتظهر الفصاحة والله أعلم وقيل: جمع }الظلمات} ووحد }النور} لأن الظلمات لا تتعدى والنور يتعدى وحكى الثعلبي أن بعض أهل المعاني قال{جعل} هنا زائدة والعرب تزيد }جعل} في الكلام كقول الشاعر:
وقد جعلت أرى الاثنين أربعة والواحد اثنين لما هدني الكبر
قال النحاس: جعل بمعنى خلق وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد.
قوله تعالى{ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} ابتداء وخبر والمعنى: ثم الذين كفروا يجعلون لله عدلا وشريكا وهو الذي خلق هذه الأشياء وحده قال ابن عطية: فـ }ثم} دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى: أن خلقه السماوات والأرض قد تقرر وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني ولو وقع العطف بالواو في هذا ونحوه لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم والله أعلم.
الآية رقم (2)
{هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون}
قوله تعالى{هو الذي خلقكم من طين} الآية خبر وفي معناه قولان: أحدهما: وهو الأشهر وعليه من الخلق الأكثر أن المراد آدم عليه السلام والخلق نسله والفرع يضاف إلى أصله فلذلك قال{خلقكم} بالجمع فأخرجه مخرج الخطاب لهم إذ كانوا ولده؛ هذا قول الحسن وقتادة وابن أبي نجيح والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم الثاني: أن تكون النطفة خلقها الله من طين على الحقيقة ثم قلبها حتى كان الإنسان منها ذكره النحاس.
قلت: وبالجملة فلما ذكر جل وعز خلق العالم الكبير ذكر بعده خلق العالم الصغير وهو الإنسان وجعل فيه ما في العالم الكبير على ما بيناه في }البقرة} في آية التوحيد والله أعلم والحمد لله وقد روى أبو نعيم الحافظ في كتابه عن مرة عن ابن مسعود أن الملك الموكل بالرحم يأخذ النطفة فيضعها على كفه ثم يقول: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال مخلقة قال: يا رب ما الرزق ما الأثر ما الأجل؟ فيقول: انظر في أم الكتاب فينظر اللوح المحفوظ فيجد فيه رزقه وأثره وأجله وعمله ويأخذ التراب الذي يدفن في بقعته ويعجن به نطفته فذلك قوله تعالى{منها خلقناكم وفيها نعيدكم}طه: 55]. وخرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{ما من مولود إلا وقد ذر عليه من تراب حفرته}.
قلت: وعلى هذا يكون كله إنسان مخلوقا من طين وماء مهين كما أخبر جل وعز في سورة }المؤمنون} فتنتظم الآيات والأحاديث ويرتفع الإشكال والتعارض والله أعلم وأما الإخبار عن خلق آدم عليه السلام فقد تقدم في }البقرة} ذكره واشتقاقه ونزيد هنا طرفا من ذلك ونعته وسنه ووفاته ذكر ابن سعد في }الطبقات} عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس ولد آدم وآدم من التراب) وعن سعيد بن جبير قال: خلق الله آدم عليه السلام من أرض يقال لها دجناء قال الحسن: وخلق جؤجؤه من ضرية قال الجوهري: ضرية قرية لبني كلاب على طريق البصرة وهي إلى مكة أقرب وعن ابن مسعود قال: إن الله تعالى بعث إبليس فأخذ من أديم الأرض من عذبها ومالحها فخلق منه آدم عليه السلام فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى الجنة وإن كان ابن كافر وكل شيء خلقه من مالحها فهو صائر إلى النار وإن كان ابن تقي فمن ثم قال إبليس }أأسجد لمن خلقت طينا}الإسراء: 61] لأنه جاء بالطينة فسمي آدم؛ لأنه خلق من أديم الأرض وعن عبدالله بن سلام قال خلق الله آدم في آخر يوم الجمعة وعن ابن عباس قال لما خلق الله آدم كان رأسه يمس السماء قال فوطده إلى الأرض حتى صار ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا وعن أبي بن كعب قال: كان آدم عليه السلام طوالا جعدا كأنه نخلة سحوق وعن ابن عباس في حديث فيه طول وحج آدم عليه السلام من الهند إلى مكة أربعين حجة على رجليه وكان آدم حين أهبط تمسح رأسه السماء فمن ثم صلع وأورث ولده الصلع ونفرت من طول دواب البر فصارت وحشا من يومئذ ولم يمت حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا وتوفي على ذروة الجبل الذي أنزل عليه فقال شيث لجبريل عليهما السلام{صل على آدم} فقال له جبريل عليه السلام: تقدم أنت فصل على أبيك وكبر عليه ثلاثين تكبيرة فأما خمس فهي الصلاة وخمس وعشرون تفضيلا لآدم. وقيل: كبر عليه أربعا فجعل بنو شيث آدم في مغارة وجعلوا عليها حافظا لا يقربه أحد من بني قابيل وكان الذين يأتونه ويستغفرون له بنو شيث وكان عمر آدم تسعمائة سنة وستا وثلاثين سنة. ويقال: هل في الآية دليل على أن الجواهر من جنس واحد؟ الجواب نعم لأنه إذا جاز أن ينقلب الطين إنسانا حيا قادرا عليما جار أن ينقلب إلى كل حال من أحواله الجواهر لتسوية العقل بين ذلك في الحكم وقد صح انقلاب الجماد إلى الحيوان بدلالة هذه الآية.
قوله تعالى{ثم قضى أجلا} مفعول. }وأجل مسمى عنده} ابتداء وخبر قال الضحاك{أجلا} في الموت {وأجل مسمى عنده} أجل القيامة فالمعنى على هذا: حكم أجلا وأعلمكم أنكم تقيمون إلى الموت ولم يعلمكم بأجل القيامة. وقال الحسن ومجاهد وعكرمة وخصيف وقتادة وهذا لفظ الحسن: قضى أجل الدنيا من يوم خلقك إلى أن تموت }وأجل مسمى عنده} يعني الآخرة. وقيل{قضى أجلا} ما أعلمناه من أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم (وأجل مسمى) من الآخرة وقيل{قضى أجلا} مما نعرفه من أوقات الأهلة والزرع وما أشبههما }وأجل مسمى} أجل الموت لا يعلم الإنسان متى يموت وقال ابن عباس ومجاهد: معنى الآية }قضى أجلا} بقضاء الدنيا، }وأجل مسمى عنده} لابتداء الآخرة. وقيل: الأول قبض الأرواح في النوم والثاني قبض الروح عند الموت عن ابن عباس أيضا.
قوله تعالى{ثم أنتم تمترون} ابتداء وخبر أي تشكون في أنه إله واحد وقيل: تمارون في ذلك أي تجادلون جدال الشاكين والتماري المجادلة على مذهب الشك ومنه قوله تعالى{أفتمارونه على ما يرى}النجم: 12].
الآية رقم (3 : 5)
{وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون، وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين، فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون}
قوله تعالى{وهو الله في السماوات وفي الأرض} يقال: ما عامل الإعراب في الظرف من }في السماوات وفى الأرض} ؟ ففيه أجوبة: أحدها: أي وهو الله المعظم أو المعبود في السماوات وفي الأرض؛ كما تقول: زيد الخليفة في الشرق والغرب أي حكمه ويجوز أن يكون المعنى وهو الله المنفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض؛ كما تقول: هو في حاجات الناس وفي الصلاة ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر ويكون المعنى: وهو الله في السماوات وهو الله في الأرض. وقيل: المعنى وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض فلا يخفى عليه شيء؛ قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه وقال محمد بن جرير: وهو الله في السماوات ويعلم سركم وجهركم في الأرض فيعلم مقدم في الوجهين والأول أسلم وأبعد من الإشكال وقيل غير هذا والقاعدة تنزيهه جل وعز عن الحركة والانتقال وشغل الأمكنة. }ويعلم ما تكسبون} أي من خير وشر والكسب الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضرر ولهذا لا يقال لفعل الله كسب.
قوله تعالى{وما تأتيهم من آية} أي علامة كانشقاق القمر ونحوها. و}من} لاستغراق الجنس؛ تقول: ما في الدار من أحد. }من آيات ربهم} }من} الثانية للتبعيض. و}معرضين} خبر }كانوا} والإعراض ترك النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله جل وعز من خلق السماوات والأرض وما بينهما وأنه يرجع إلى قديم حي غني عن جميع الأشياء قادر لا يعجزه شيء عالم لا يخفى عليه شيء من المعجزات التي أقامها لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ ليستدل بها على صدقه في جميع ما أتى به.
قوله تعالى{فقد كذبوا} يعني مشركي مكة. }بالحق} يعني القرآن، وقيل: بمحمد صلى الله عليه وسلم. }فسوف يأتيهم} أي يحل بهم العقاب؛ وأراد بالأنباء وهي الأخبار العذاب؛ كقولك اصبر وسوف يأتيك الخبر أي العذاب؛ والمراد ما نالهم يوم بدر ونحوه. وقيل: يوم القيامة.
الآية رقم (6)
{ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين}
قوله تعالى{ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن} }كم} في موضع نصب بأهلكنا لا بقوله }ألم يروا} لأن لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وإنما يعمل فيه ما بعده من أجل أن له صدر الكلام. والمعنى: ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم أي ألم يعرفوا ذلك والقرن الأمة من الناس. والجمع القرون؛ قال الشاعر:
إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم وخلفت في قرن فأنت غريب
فالقرن كله عالم في عصره مأخوذ من الاقتران أي عالم مقترن به بعضهم إلى بعض؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني يعني أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) هذا أصح ما قيل فيه. وقيل: المعنى من أهل قرن فحذف كقوله{واسأل القرية}يوسف: 82]. فالقرن على هذا مدة من الزمان؛ قيل: ستون عاما وقيل سبعون، وقيل: ثمانون؛ وقيل: مائة؛ وعليه أكثر أصحاب الحديث أن القرن مائة سنة؛ واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبدالله بن بسر{تعيش قرنا} فعاش مائة سنة؛ ذكره النحاس. وأصل القرن الشيء الطالع كقرن ما له قرن من الحيوان. }مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم} خروج من الغيبة إلى الخطاب؛ عكسه }حتى إذا كنتم في الفلك وجرين؛ بهم بريح طيبة}يونس: 22]. وقال أهل البصرة أخبر عنهم بقوله }ألم يروا} وفيهم محمد عليه السلام وأصحابه؛ ثم خاطبهم معهم؛ والعرب تقول: قلت لعبدالله ما أكرمه: وقلت لعبدالله ما أكرمك؛ ولو جاء على ما تقدم من الغيبة لقال: ما لم نمكن لهم. ويجوز مكنه ومكن له؛ فجاء باللغتين جميعا؛ أي أعطيناهم ما لم نعطكم من الدنيا. }وأرسلنا السماء عليهم مدرارا} يريد المطر الكثير؛ عبر عنه بالسماء لأنه من السماء ينزل؛ ومنه قوله الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم
و}مدرارا} بناء دال على التكثير؛ كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور؛ ومئناث للمرأة التي تلد الإناث؛ يقال: در اللبن يدر إذا أقبل على الحالب بكثرة. وانتصب }مدارا} على الحال. }وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم} أي من تحت أشجارهم ومنازلهم؛ ومنه قوله فرعون{وهذه الأنهار تجري من تحتي}الزخرف: 51] والمعنى: وسعنا عليهم النعم فكفروها. }فأهلكناهم بذنوبهم} أي بكفرهم فالذنوب سبب الانتقام وزوال النعم. }وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين} أي أوجدنا؛ فليحذر هؤلاء من الإهلاك أيضا.
الآية رقم (7)
{ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين}
قوله تعالى{ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس} الآية. المعنى: ولو نزلنا يا محمد بمرأى منهم كما زعموا وطلبوا كلاما مكتوبا }في قرطاس} وعن ابن عباس: كتابا معلقا بين السماء والأرض وهذا يبين لك أن التنزيل على وجهين؛ أحدهما: على معنى نزله عليك الكتاب بمعنى نزول الملك به. والآخر: ولو نزلنا كتابا في قرطاس من يمسكه الله بين السماء والأرض؛ وقال{نزلنا} على المبالغة بطول مكث الكتاب بين السماء والأرض والكتاب مصدر بمعنى الكتابة فبين أن الكتابة في قرطاس؛ لأنه غير معقول كتابة إلا في قرطاس أي في صحيفة والقرطاس الصحيفة؛ ويقال: قرطاس بالضم؛ وقرطس فلان إذا رمى فأصاب الصحيفة الملزقة بالهدف. }فلمسوه بأيديهم} أي فعاينوا ذلك ومسوه باليد كما اقترحوا وبالغوا في ميزه وتقليبه جسا بأيديهم ليرتفع كل ارتياب ويزول عنهم كله إشكال، لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم، وقالوا: سحر مبين إنما سكرت أبصارنا وسحرنا؛ وهذه الآية جواب لقولهم{حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه}الإسراء: 93] فأعلم الله بما سبق في علمه من أنه لو نزل لكذبوا به. قال الكلبي: نزلت في النضر بن الحرث وعبدالله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا{لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا}الإسراء: 90] الآية.
الآية رقم ( 8 : 10 )
{وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون، ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون، ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون}
قوله تعالى{وقالوا لولا أنزل عليه ملك} اقترحوا هذا أيضا و}لولا} بمعنى هلا. }ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر} قال ابن عباس: لو رأوا الملك على صورته لماتوا إذ لا يطيقون رؤيته. مجاهد وعكرمة: لقامت الساعة. قال الحسن وقتادة: لأهلكوا بعذاب الاستئصال؛ لأن الله أجرى سنته بأن من طلب آية فأظهرت له فلم يؤمن أهلكه الله في الحال. }ثم لا ينظرون} أي لا يمهلون ولا يؤخرون.
قوله تعالى{ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا} أي لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلا بعد التجسم بالأجسام الكثيفة؛ لأن كله جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه؛ فلو جعل الله تعالى الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته، ولما أنسوا به، ولداخلهم من الرعب من كلامه والاتقاء له ما يكفهم عن كلامه، ويمنعهم عن سؤاله، فلا تعم المصلحة؛ ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به وليسكنوا إليه لقالوا: لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم. وكانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة البشر فأتوا إبراهيم ولوطا في صورة الآدميين، وأتى جبريل النبي عليه الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي. أي لو أنزل ملك لرأوه في صورة رجل كما جرت عادة الأنبياء، ولو نزل على عادته لم يروه؛ فإذا جعلناه رجلا التبس عليهم فكانوا يقولون: هذا ساحر مثلك. وقال الزجاج: المعنى }وللبسنا عليهم} أي على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفتهم وكانوا يقولون لهم إنما محمد بشروا وليس بينه وبينكم فروق فيلبسون عليهم بهذا ويشككونهم؛ فأعلمهم الله عز وجل أنه لو أنزل في ملكا في صورة رجل لوجدوا سبيلا إلى اللبس كما يفعلون. واللبس الخلط؛ يقال: لبست عليه الأمر ألبسه لبسا أي خلطته؛ وأصله التستر بالثوب ونحوه وقال{لبسنا} بالإضافة إلى نفسه على جهة الخلق، وقال }ما يلبسون} فأضاف إليهم على جهة الاكتساب. ثم قال مؤنسا لنبيه عليه الصلاة والسلام ومعزيا{ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق} أي نزل بأممهم من العذاب ما أهلكوا به جزاء استهزائهم بأنبيائهم. حاق بالشيء يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا نزل؛ قال الله تعالى{ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}فاطر: 43] و}ما} في قوله{ما كانوا} بمعنى الذي وقيل: بمعنى المصدر أي حاق بهم عاقبة استهزائهم.
الآية رقم (11 : 12)
{قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين، قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون}
قوله تعالى{قل سيروا في الأرض} أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين المستسخرين المكذبين: سافروا في الأرض فانظروا واستخبروا لتعرفوا ما حل بالكفرة قبلكم من العقاب وأليم العذاب وهذا السفر مندوب إليه إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الديار، والعاقبة آخر الأمر. والمكذبون هنا من كذب الحق وأهله لا من كذب بالباطل.
قوله تعالى{قل لمن ما في السماوات والأرض} هذا أيضا احتجاج عليهم؛ المعنى قل لهم يا محمد{لمن في السماوات والأرض} فإن قالوا لمن هو؟ فقل هو }لله} المعنى: إذا ثبت أن له ما في السماوات والأرض وأنه خالق الكل إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم، فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب ويبعثهم بعد الموت، ولكنه }كتب على نفسه الرحمة} أي وعد بها فضلا منه وكرما فلذلك أمهل وذكر النفس هنا عبارة عن وجود وتأكيد وعده، وارتفاع الوسائط دونه؛ ومعنى الكلام الاستعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه، وإخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي) أي لما أظهر قضاءه وأبرزه لمن شاء أظهر كتابا في اللوح المحفوظ أو فيما شاءه مقتضاه خبر حق ووعد صدق }إن رحمتي تغلب غضبي} أي تسبقه وتزيد عليه.
قوله تعالى{ليجمعنكم} اللام لام القسم، والنون نون التأكيد. وقال الفراء وغيره: يجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله{الرحمة} ويكون ما بعده مستأنفا على جهة التبيين؛ فيكون معنى }ليجمعنكم} ليمهلنكم وليؤخرن جمعكم. وقيل: المعنى ليجمعنكم أي في القبور إلى اليوم الذي أنكرتموه. وقيل: (إلى) بمعنى في، أي ليجعنكم في يوم القيامة. وقيل: يجوز أن يكون موضع }ليجمعنكم} نصبا على البدل من الرحمة؛ فتكون اللام بمعنى (أن) المعنى: كتب ربكم على نفسه ليجمعنكم، أي أن يجمعكم؛ وكذلك قال كثير من النحويين في قوله تعالى{ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه}يوسف: 35] أي أن يسجنوه. وقيل: موضعه نصب (بكتب)؛ كما تكون (أن) في قوله عز وجل }كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة}الأنعام: 54] وذلك أنه مفسر للرحمة بالإمهال إلى يوم القيامة؛ عن الزجاج. }لا ريب فيه} لا شك فيه. }الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} ابتداء وخبر، قاله الزجاج، وهو أجود ما قيل فيه؛ تقول: الذي يكرمني فله درهم، فالفاء تتضمن معنى الشرط والجزاء. وقال الأخفش: إن شئت كان (الذين) في موضع نصب على البدل من الكاف والميم في (ليجمعنكم) أي ليجمعن المشركين الذين خسروا أنفسهم؛ وأنكروه المبرد وزعم أنه خطأ؛ لأنه لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب، لا يقال: مررت بك زيد ولا مررت بي زيد لأن هذا لا يشكل فيبين. قال القتبي: يجوز أن يكون (الذين) جزاء على البدل من (المكذبين) الذين تقدم ذكرهم. أو على النعت لهم. وقيل: (الذين) نداء مفرد.
الآية رقم ( 13 : 16 )
{وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم، قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين، قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين}
قوله تعالى{وله ما سكن في الليل والنهار} أي ثبت، وهذا احتجاج عليهم أيضا. وقيل: نزلت الآية لأنهم قالوا: علمنا أنه ما يحملك على ما تفعل إلا الحاجة، فنحن نجمع لك من أموالنا حتى تصير أغنانا؛ فقال الله تعالى: أخبرهم أن جميع الأشياء لله، فهو قادر على أن يغنيني. و(سكن) معناه هدأ واستقر؛ والمراد ما سكن وما تحرك، فحذف لعلم السامع. وقيل: خص الساكن بالذكر لان ما يعمه السكون أكثر مما تعمه الحركة. وقيل المعنى ما خلق، فهو عام في جميع المخلوقات متحركها وساكنها، فإنه يجري عليه الليل والنهار؛ وعلى هذا فليس المراد بالسكون ضد الحركة بل المراد الخلق، وهذا أحسن ما قيل؛ لأنه يجمع شتات الأقوال. }وهو السميع} لأصواتهم }العليم} بأسرارهم.
قوله تعالى{قل أغير الله أتخذ وليا} مفعولان؛ لما دعوه إلى عبادة الأصنام دين آبائه أنزل الله تعالى }قل} يا محمد{أغير الله اتخذ وليا} أي ربا ومعبودا وناصرا دون الله. }فاطر السماوات والأرض} بالخفض على النعت لاسم الله؛ وأجاز الأخفش الرفع على إضمار مبتدأ. وقال الزجاج: ويجوز النصب على المدح. أبو علي الفارسي: ويجوز نصبه على فعل مضمر كأنه قال: اترك فاطر السماوات والأرض؟ لأن قوله{أغير الله اتخذ وليا} يدل على ترك الولاية له، وحسن إضماره لقوة هذه الدلالة. }وهو يطعم ولا يطعم} كذا قراءة العامة، أي يرزق ولا يرزق؛ دليله على قوله تعالى{ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون}الذاريات:57] وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش: وهو يطعم ولا يطعم، وهي قراءة حسنة؛ أي أنه يرزق عباده، وهو سبحانه غير محتاج إلى ما يحتاج إليه المخلوقون من الغذاء. وقرئ بضم الياء وكسر العين في الفعلين، أي إن الله يطعم عباده ويرزقهم والولي لا يطعم نفسه ولا من يتخذه. وقرئ بفتح الياء والعين في الأول أي الولي (ولا يطعم) بضم الياء وكسر العين. وخص الإطعام بالذكر دون غيره من ضروب الإنعام؛ لأن الحاجة إليه أمس لجميع الأنام. }قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم} أي استسلم لأمر الله تعالى. وقيل: أول من أخلص أي من قومي وأمتي؛ عن الحسن وغيره. }ولا تكونن من المشركين} أي وقيل لي{ولا تكونن من المشركين}. }قل إني أخاف إن عصيت ربي} أي بعبادة غيره أن يعذبني، والخوف توقع المكروه. قال ابن عباس{أخاف} هنا بمعنى أعلم. }من يصرف عنه} أي العذاب }يومئذ} يوم القيامة }فقد رحمه} أي فاز ونجا ورحم.
وقرأ الكوفيون }من يصرف} بفتح الياء وكسر الراء، وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد؛ لقوله{قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله} ولقوله{فقد رحمه} ولم يقل رحم على المجهول، ولقراءة أبي }من يصرف الله عنه} واختار سيبويه القراءة الأولى - قراءة أهل المدينة وأبي عمرو - قال سيبويه: وكلما قل الإضمار في الكلام كان أولى؛ فأما قراءة من قرأ }من يصرف} بفتح الياء فتقديره: من يصرف الله عنه العذاب، وإذا قرئ (من يصرف عنه) فتقديره: من يصرف عنه العذاب. }وذلك الفوز المبين} أي النجاة البينة.
{وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير}
قوله تعالى{وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو} المس والكشف من صفات الأجسام، وهو هنا مجاز وتوسع؛ والمعنى: إن تنزل بك يا محمد شدة من فقر أو مرض فلا رافع وصارف له إلا هو، وإن يصبك بعافية ورخاء ونعمة }فهو على كل شيء قدير} من الخير والضر روى ابن عباس قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: (يا غلام - أو يا بني - ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن)؟ فقلت: بلى؛ فقال: (احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله فقد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه واعمل الله بالشكر واليقين واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا) أخرجه أبو بكر بن ثابت الخطيب في كتاب (الفصل والوصل) وهو حديث صحيح؛ وقد خرجه الترمذي، وهذا أتم.
الآية رقم ( 18: 19 )
{وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون}
قوله تعالى{وهو القاهر فوق عباده} القهر الغلبة، والقاهر الغالب، وأقهر الرجل إذا صير بحال المقهور الذليل؛ قال الشاعر:
تمنى حصين أن يسود جذاعه فأمسى حصين قد أذل وأقهرا
وقهر غلب. ومعنى (فوق عباده) فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم؛ أي هم تحت تسخيره لا فوقية مكان؛ كما تقول: السلطان فوق رعيته أي بالمنزلة والرفعة. وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة، وهو منع غيره عن بلوغ المراد. }وهو الحكيم} في أمره }الخبير} بأعمال عباده، أي من اتصف بهذه الصفات يجب ألا يشرك به.
قوله تعالى{قل أي شيء أكبر شهادة} وذلك أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: من يشهد لك بأنك رسول الله فنزلت الآية؛ عن الحسن وغيره. ولفظ (شيء) هنا واقع موقع اسم الله تعالى؛ المعنى الله أكبر شهادة أي انفراده بالربوبية، وقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم؛ فهو شهيد بيني وبينكم على أني قد بلغتكم وصدقت فيما قلته وادعيته من الرسالة.
قوله تعالى{وأوحي إلي هذا القرآن} أي والقرآن شاهد بنبوتي. }لأنذركم به} يا أهل مكة. }ومن بلغ} أي ومن بلغه القرآن. فحذف (الهاء) لطول الكلام. وقيل: ومن بلغ الحلم. ودل بهذا على أن من لم يبلغ الحلم ليس بمخاطب ولا متعبد. وتبليغ القرآن والسنة مأمور بهما، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغهما؛ فقال{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}المائدة: 67]. وفي صحيح البخاري عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار). وفي الخبر أيضا؛ من بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله أخذ به أو تركه. وقال مقاتل: من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له. وقال القرظي: من بلغه القرآن فكأنما قد رأى محمدا صلى الله عليه وسلم وسمع منه. وقرأ أبو نهيك: (وأوحى إلي هذا القرآن) مسمى الفاعل؛ وهو معنى قراءة الجماعة. }أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى} استفهام توبيخ وتقريع. وقرئ (أئنكم) بهمزتين على الأصل. وإن خففت الثانية قلت: (أئنكم). وروى الأصمعي عن أبي عمرو ونافع (أئنكم)؛ وهذه لغة معروفة، تجعل بين الهمزتين ألف كراهة لالتقائهما؛ قال الشاعر:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا أأنت أم أم سالم
ومن قرأ }أئنكم} على الخبر فعلى أنه قد حقق عليهم شركهم. وقال{ آلهة أخرى} ولم يقل: (آخر)؛ قال الفراء: لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث؛ ومنه قوله{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}طه: 51] ، وقوله{فما بال القرون الأولى}طه: 51] ولو قال: الأول والآخر صح أيضا. }قل لا أشهد قل} أي فأنا لا أشهد معكم فحذف لدلالة الكلام عليه ونظيره }فإن شهدوا فلا تشهد معهم}الأنعام: 150].
الآية رقم (20)
{الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون}
قوله تعالى{الذين آتيناهم الكتاب} يريد اليهود والنصارى الذين عرفوا وعانوا و(الذين) في موضع رفع بالابتداء. }يعرفونه} في موضع الخبر؛ أي يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم؛ عن الحسن وقتادة، وهو قول الزجاج. وقيل: يعود على الكتاب، أي يعرفونه على ما يدل عليه، أي على الصفة التي هو بها من دلالته على صحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وآله. }الذين خسروا أنفسهم} في موضع النعت؛ ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره }فهم لا يؤمنون}.
الآية رقم (21 : 22 )
{ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون، ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون}
قوله تعالى{ومن أظلم} ابتداء وخبر أي لا أحد أظلم }ممن افترى} أي اختلق }على الله كذبا أو كذب بآياته} يريد القرآن والمعجزات. }إنه لا يفلح الظالمون} قيل: معناه في الدنيا؛ ثم استأنف فقال }ويوم نحشرهم جميعا} على معنى واذكر }يوم نحشرهم} وقيل: معناه أنه لا يفلح الظالمون في الدنيا ولا يوم نحشرهم؛ فلا يوقف على هذا التقدير على قوله: (الظالمون) لأنه متصل. وقيل: هو متعلق بما بعده وهو (انظر) أي انظر كيف كذبوا يوم نحشرهم؛ أي كيف يكذبون يوم نحشرهم؟. }ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم} سؤال إفضاح لا إفصاح. }الذين كنتم تزعمون} أي في أنهم شفعاء لكم عند الله بزعمكم، وأنها تقربكم منه زلفى؛ وهذا توبيخ لهم. قال ابن عباس: كل زعم في القرآن فهو كذب.
الآية رقم (23)
{ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين}
قوله تعالى{ثم لم تكن فتنتهم} الفتنة الاختبار أي لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال، ورأوا الحقائق، وارتفعت الدواعي. }إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} تبرؤوا من الشرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوزه ومغفرته للمؤمنين. قال ابن عباس: يغفر الله تعالى لأهل الإخلاص ذنوبهم، ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره، فإذا رأى المشركون ذلك؛ قالوا إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك فتعالوا نقول إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين؛ فقال الله تعالى: أما إذ كتموا الشرك فاختموا على أفواههم، فيختم على أفواههم، فتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، فعند ذلك يعرف المشركون أن الله لا يكتم حديثا؛ فذلك قوله{يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا}النساء: 42]. وقال أبو إسحاق الزجاج: تأويل هذه الآية لطيف جدا، أخبر الله عز وجل بقصص المشركين وافتتانهم بشركهم، ثم أخبر أن فتنتهم لم تكن حين رأوا الحقائق إلا أن انتفوا من الشرك، ونظير هذا في اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا فإذا وقع في هلكة تبرأ منه، فيقال: ما كانت محبتك إياه إلا أن تبرأت منه. وقال الحسن: هذا خاص بالمنافقين جروا على عادتهم في الدنيا، ومعنى (فتنتهم) عاقبة فتنتهم أي كفرهم. وقال قتادة: معناه معذرتهم. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: (فيلقى العبد فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى أي رب: فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا، فيقول إني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثاني فيقول له ويقول هو مثل ذلك بعينه، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت يثني بخير ما استطاع قال: فيقال ههنا إذا ثم يقال له الآن نبعث شاهدا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي سخط الله عليه).
الآية رقم (24)
{انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون}
قوله تعالى{انظر كيف كذبوا على أنفسهم} كذب المشركين قولهم: إن عبادة الأصنام تقربنا إلى الله زلفى، بل ظنوا ذلك وظنهم الخطأ لا يعذرهم ولا يزيل اسم الكذب عنهم، وكذب المنافقين باعتذارهم بالباطل، وجحدهم نفاقهم. }وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي فانظر كيف ضل عنهم افتراؤهم أي تلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم. وقيل: (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي فارقهم ما كانوا يعبدون من دون الله فلم يغن عنهم شيئا؛ عن الحسن. وقيل: المعنى عزب عنهم افتراؤهم لدهشهم، وذهول عقولهم. والنظر في قوله: (انظر) يراد به نظر الاعتبار؛ ثم قيل{كذبوا} بمعنى يكذبون، فعبر عن المستقبل بالماضي؛ وجاز أن يكذبوا في الآخرة لأنه موضع دهش وحيرة وذهول عقل. وقيل: لا يجوز أن يقع منهم كذب في الآخرة؛ لأنها دار جزاء على ما كان في الدنيا - وعلى ذلك أكثر أهل النظر - وإنما ذلك في الدنيا؛ فمعنى }والله ربنا ما كنا مشركين} على هذا: ما كنا مشركين عند أنفسنا؛ وعلى جواز أن يكذبوا في الآخرة يعارضه قوله: (ولا يكتمون الله حديثا)؛ ولا معارضة ولا تناقض؛ لا يكتمون الله حديثا في بعض المواطن إذا شهدت عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بعملهم، ويكذبون على أنفسهم في بعض المواطن قبل شهادة الجوارح على ما تقدم. والله أعلم. وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى{والله ربنا ما كنا مشركين} قال: اعتذروا وحلفوا؛ وكذلك قال ابن أبي نجيح وقتادة: وروي عن مجاهد أنه قال: لما رأوا أن الذنوب تغفر إلا الشرك بالله والناس يخرجون من النار قالوا{والله ربنا ما كنا مشركين} وقيل{والله ربنا ما كنا مشركين} أي علمنا أن الأحجار لا تضر ولا تنفع، وهذا وإن كان صحيحا من القول فقد صدقوا ولم يكتموا، ولكن لا يعذرون بهذا؛ فإن المعاند كافر غير معذور. ثم قيل في قوله{ثم لم تكن فتنتهم} خمس قراءات: قرأ حمزة والكسائي }يكن} بالياء }فتنتهم} بالنصب خبر }يكن} }إلا أن قالوا} اسمها أي إلا قولهم؛ فهذه قراءة بينة. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو }تكن} بالتاء }فتنتهم} بالنصب (إلا أن قالوا) أي إلا مقالتهم. وقرأ أبي وابن مسعود وما كان - بدل قوله (ثم لم تكن) - فتنتهم إلا أن قالوا). وقرأ ابن عامر وعاصم من رواية حفص، والأعمش من رواية المفضل، والحسن وقتادة وغيرهم (ثم لم تكن} بالتاء }فتنتهم} بالرفع اسم }تكن} والخبر }إلا أن قالوا} فهذه أربع قراءات. الخامسة: (ثم لم يكن} بالياء (فتنتهم)؛ رفع ويذكر الفتنة لأنها بمعنى الفتون، ومثله }فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى}البقرة: 275]. }والله} الواو واو القسم }ربنا} نعت لله عز وجل، أو بدل. ومن نصب فعلى النداء أي يا ربنا وهي قراءة حسنة؛ لأن فيها معنى الاستكانة والتضرع، إلا أنه فصل بين القسم وجوابه بالمنادى.
الآية رقم (25)
{ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين}
قوله تعالى{ومنهم من يستمع إليك} أفرد على اللفظ يعني المشركين كفار مكة. }وجعلنا على قلوبهم أكنة} أي فعلنا ذلك بهم مجازاة على كفرهم. وليس المعنى أنهم لا يسمعون ولا يفقهون، ولكن لما كانوا لا ينتفعون بما يسمعون، ولا ينقادون إلى الحق كانوا بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم. والأكنة الأغطية جمع كنان مثل الأسنة والسنان، والأعنة والعنان. كننت الشيء في كنه إذا صنته فيه. وأكننت الشيء أخفيته. والكنانة معروفة. والكنة (بفتح الكاف والنون) امرأة أبيك؛ ويقال: امرأة الابن أو الأخ؛ لأنها في كنه. }أن يفقهوه} أي يفهموه وهو في موضع نصب؛ المعنى كراهية أن يفهموه، أو لئلا يفهموه. }وفي آذانهم وقرا} عطف عليه أي ثقلا؛ يقال منه: وقرت أذنه (بفتح الواو) توقر وقرا أي صمت، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين. وقد وقر الله أذنه يقرها وقرا؛ يقال: اللهم قر أذنه. وحكى أبو زيد عن العرب: أذن موقورة على ما لم يسم فاعله؛ فعلى هذا وقرت (بضم الواو). وقرأ طلحة بن مصرف (وقرا) بكسر الواو؛ أي جعل، في آذانهم ما سدها عن استماع القول على التشبيه بوقر البعير، وهو مقدار ما يطيق أن يحمل، والوقر الحمل؛ يقال منه: نخلة موقر وموقرة إذا كانت ذات ثمر كثير. ورجل ذو قرة إذا كان وقورا بفتح الواو؛ ويقال منه: وقر الرجل (بقضم القاف) وقارا، ووقر (بفتح القاف) أيضا.
قوله تعالى{وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} أخبر الله تعالى بعنادهم لأنهم لما رأوا القمر منشقا قالوا: سحر؛ فأخبر الله عز وجل بردهم الآيات بغير حجة.
قوله تعالى{حتى إذا جاؤوك يجادلونك} مجادلتهم قولهم: تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله؛ عن ابن عباس. }يقول الذين كفروا} يعني قريشا؛ قال ابن عباس: قالوا للنضر بن الحرث:] ما يقول محمد؟ قال: أرى تحريك شفتيه وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر صاحب قصص وأسفار، فسمع أقاصيص في ديار العجم مثل قصة رستم واسفنديار فكان يحدثهم. وواحد الأساطير أسطار كأبيات وأباييت؛ عن الزجاج. قال الأخفش: واحدها أسطورة كأحدوثة وأحاديث. أبو عبيدة: واحدها إسطارة. النحاس: واحدها أسطور مثل عثكول. ويقال: هو جمع أسطار، وأسطار جمع سطر؛ يقال: سطر وسطر. والسطر الشيء الممتد المؤلف كسطر الكتاب. القشيري: واحدها أسطير. وقيل: هو جمع لا واحد له كمذاكير وعباديد وأبابيل أي ما سطره الأولون في الكتب. قال الجوهري وغيره: الأساطير الأباطيل والترهات. قلت: أنشدني بعض أشياخي:
{وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون}
قوله تعالى{وهم ينهون عنه وينأون عنه} النهي الزجر، والنأي البعد، وهو عام في جميع الكفار أي ينهون عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وينأون عنه؛ عن ابن عباس والحسن. وقيل: هو خاص بأبي طالب ينهى الكفار عن إذاية محمد صلى الله عليه وسلم، ويتباعد عن الإيمان به؛ عن ابن عباس أيضا. وروى أهل السير قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى الكعبة يوما وأراد أن يصلي، فلما دخل في الصلاة قال أبو جهل - لعنه الله - : من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته. فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثا ودما فلطخ به وجه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فانفتل النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، ثم أتى أبا طالب عمه فقال: (يا عم ألا ترى إلى ما فعل بي) فقال أبو طالب: من فعل هذا بك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عبدالله بن الزبعرى؛ فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم؛ فلما رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون؛ فقال أبو طالب: والله لئن قام رجل جللته بسيفي فقعدوا حتى دنا إليهم، فقال: يا بني من الفاعل بك هذا؟ فقال: (عبدالله بن الزبعرى)؛ فأخذ أبو طالب فرثا ودما فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم وأساء لهم القول؛ فنزلت هذه الآية (وهم ينهون عنه وينأون عنه) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عم نزلت فيك آية) قال: وما هي؟ قال: (تمنع قريشا أن تؤذيني وتأبى أن تؤمن بي) فقال أبو طالب:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فأصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي فلقد صدقت وكنت قبل أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك يقينا
فقالوا: يا رسول الله هل تنفع أبا طالب نصرته؟ قال: (نعم دفع عنه بذاك الغل ولم يقرن مع الشياطين ولم يدخل في جب الحيات والعقارب إنما عذابه في نعلين من نار في رجليه يغلي منهما دماغه في رأسه وذلك أهون أهل النار عذابا). وأنزل الله على رسوله }فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل}الأحقاف: 35]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: (قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة) قال: لولا تعيرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك؛ فأنزل الله تعالى{إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}القصص: 56] كذا الرواية المشهورة (الجزع) بالجيم والزاي ومعناه الخوف. وقال أبو عبيد: (الخرع) بالخاء المنقوطة والراء المهملة. قال يعني الضعف والخور، وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين من نار يغلى منهما دماغه). وأما عبدالله بن الزبعرى فإنه أسلم عام الفتح وحسن إسلامه، واعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل عذره؛ وكان شاعرا مجيدا؛ فقال يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، وله في مدحه أشعار كثيرة ينسخ بها ما قد مضى في كفره؛ منها قوله:
منع الرقاد بلابل وهموم والليل معتلج الرواق بهيم
مما أتاني أن أحمد لامني فيه فبت كأنني محموم
يا خير من حملت على أوصالها عيرانة سرح اليدين غشوم
إني لمعتذر إليك من الذي أسديت إذ أنا في الضلال أهيم
أيام تأمرني بأغوى خطة سهم وتأمرني بها مخزوم
وأمد أسباب الردى ويقودني أمر الغواة وأمرهم مشؤوم
فاليوم آمن بالنبي محمد قلبي ومخطئ هذه محروم
مضت العداوة فانقضت أسبابها وأتت أواصر بيننا وحلوم
فاغفر فدى لك والداي كلاهما زللي فإنك راحم مرحوم
وعليك من سمة المليك علامة نور أغر وخاتم مختوم
أعطاك بعد محبة برهانه شرفا وبرهان الإله عظيم
ولقد شهدت بأن دينك صادق حقا وأنك في العباد جسيم
والله يشهد أن أحمد مصطفى مستقبل في الصالحين كريم
قرم علا بنيانه من هاشم فرع تمكن في الذرى وأروم
وقيل: المعنى (ينهون عنه) أي هؤلاء الذين يستمعون ينهون عن القرآن (وينأون عنه). عن قتادة؛ فالهاء على القولين الأولين في (عنه) للنبي صلى الله عليه وسلم، وعلى قول قتادة للقرآن. }وإن يهلكون إلا أنفسهم} (إن) نافية أي وما يهلكون إلا أنفسهم بإصرارهم على الكفر، وحملهم أوزار الذين يصدونهم.
الآية رقم (27)
{ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين}
قوله تعالى{ولو ترى إذ وقفوا على النار} أي إذ وقفوا غدا و(إذ) قد تستعمل في موضع (إذا) و(إذا) في موضع (إذ) وما سيكون فكأنه كان؛ لأن خبر الله تعالى حق وصدق، فلهذا عبر بالماضي. ومعنى (إذ وقفوا) حبسوا يقال: وقفته وقفا فوقف وقوفا. وقرأ ابن السميقع (إذ وقفوا) بفتح الواو والقاف من الوقوف. }على النار} أي هم فوقها على الصراط وهي تحتهم. وقيل: (على) بمعنى الباء؛ أي وقفوا بقربها وهم يعاينونها. وقال الضحاك: جمعوا، يعني على أبوابها. ويقال: وقفوا على متن جهنم والنار تحتهم. وفي الخبر: أن الناس كلهم يوقفون على متن جهنم كأنها متن إهالة، ثم ينادي مناد خذي أصحابك ودعي أصحابي. وقيل: (وقفوا) دخلوها - أعاذنا الله منها - فعلى بمعنى (في) أي وقفوا في النار. وجواب (لو) محذوف ليذهب الوهم إلى كل شيء فيكون أبلغ في التخويف؛ والمعنى: لو تراهم في تلك الحال لرأيت أسوأ حال، أو لرأيت منظرا هائلا، أو لرأيت أمرا عجبا وما كان مثل هذا التقدير.
قوله تعالى{فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} بالرفع في الأفعال الثلاثة عطفا قراءة أهل المدينة والكسائي؛ وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بالضم. ابن عامر على رفع (نكذب) ونصب (ونكون) وكله داخل في معنى التمني؛ أي لا تمنوا الرد وألا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين. واختار سيبويه القطع في (ولا نكذب) فيكون غير داخل في التمني؛ المعنى: ونحن لا نكذب على معنى الثبات على ترك التكذيب؛ أي لا نكذب رددنا أو لم نرد؛ قال سيبويه: وهو مثل قوله دعني ولا أعود أي لا أعود على كل حال تركتني أو لم تتركني. واستدل أبو عمرو على خروجه من التمني بقوله{وإنهم لكاذبون} لأن الكذب لا يكون في التمني إنما يكون في الخبر. وقال من جعله داخلا في التمني: المعنى وإنهم لكاذبون في الدنيا في إنكارهم البعث وتكذيبهم الرسل. وقرأ حمزة وحفص بنصب (نكذب) و(نكون) جوابا للتمني؛ لأنه غير واجب، وهما داخلان في التمني على معنى أنهم تمنوا الرد وترك التكذيب والكون مع المؤمنين. قال أبو إسحاق: معنى (ولا نكذب) أي إن رددنا لم نكذب. والنصب في (الكذب) و(نكون) بإضمار (أن) كما ينصب في جواب الاستفهام والأمر والنهي والعرض؛ لأن جميعه غير واجب ولا واقع بعد، فينصب، الجواب مع الواو كأنه عطف على مصدر الأول؛ كأنهم قالوا: يا ليتنا يكون لنا رد وانتفاء من الكذب، وكون من المؤمنين؛ فحملا على مصدر (نرد) لانقلاب المعنى إلى الرفع، ولم يكن بد من إضمار (أن) فيه يتم النصب في الفعلين. وقرأ ابن عامر (ونكون) بالنصب على جواب التمني كقولك: ليتك تصير إلينا ونكرمك، أي ليت مصيرك يقع وإكرامنا يقع، وأدخل الفعلين الأولين في التمني، أو أراد: ونحن لا نكرمك على القطع على ما تقدم؛ يحتمل. وقرأ أبي (ولا نكذب بآيات ربنا أبدا). وعنه وابن مسعود (يا ليتنا نرد فلا نكذب) بالفاء والنصب، والفاء ينصب بها في الجواب كما ينصب بالواو؛ عن الزجاج. وأكثر البصريين لا يجيزون الجواب إلا بالفاء.
الآية رقم (28)
{بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون}
قوله تعالى{بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل} بل إضراب عن تمنيهم وادعائهم الإيمان لو ردوا. واختلفوا في معنى (بدا لهم) على أقوال بعد تعيين من المراد؛ فقيل: المراد المنافقون لأن اسم الكفر مشتمل عليهم، فعاد الضمير على بعض المذكورين؛ قال النحاس: وهذا من الكلام العذب الفصيح. وقيل: المراد الكفار وكانوا إذا وعظهم النبي صلى الله عليه وسلم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يفطن بهم ضعفاؤهم، فيظهر يوم القيامة؛ ولهذا قال الحسن: (بدا لهم) أي بدا لبعضهم ما كان يخفيه عن بعض. وقيل: بل ظهر لهم ما كانوا يجحدونه من الشرك فيقولون: (والله ربنا ما كنا مشركين) فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك حين (بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل). قال أبو روق. وقيل: (بدا لهم) ما كانوا يكتمونه من الكفر؛ أي بدت أعمالهم السيئة كما قال{وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}الزمر:47]. قال المبرد: بدا لهم جزاء كفرهم الذي كانوا يخفونه. وقيل: المعنى بل ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفون عنهم من أمر البعث والقيامة؛ لأن بعده }وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين}.
قوله تعالى{ولو ردوا} قيل: بعد معاينة العذاب. وقيل: قبل معاينته. }لعادوا لما نهوا عنه} أي لصاروا ورجعوا إلى ما نهوا عنه من الشرك لعلم الله تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون، وقد عاين إبليس ما عاين من آيات الله ثم عاند. قوله تعالى{وإنهم لكاذبون} إخبار عنهم، وحكاية عن الحال التي كانوا عليها في الدنيا من تكذيبهم الرسل، وإنكارهم البعث؛ كما قال{وإن ربك ليحكم بينهم}النحل:124] فجعله حكاية عن الحال الآتية. وقيل: المعنى وإنهم لكاذبون فيما أخبروا به عن أنفسهم من أنهم لا يكذبون ويكونون من المؤمنين. وقرأ يحيى بن وثاب (ولو ردوا) بكسر الراء؛ لأن الأصل رددوا فنقلت كسرة الدال على الراء.
الآية رقم (29)
{وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين}
قوله تعالى{وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا} ابتداء وخبر و(إن) نافية. (وما نحن) (نحن) اسم (ما) بمبعوثين} خبرها؛ وهذا ابتداء إخبار عنهم عما قالوه في الدنيا. قال ابن زيد: هو داخل في قوله{ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} }وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا} أي لعادوا إلى الكفر، واشتغلوا بلذة الحال. وهذا يحمل على المعاند كما بيناه في حال إبليس، أو على أن الله يلبس عليهم بعد ما عرفوا، وهذا شائع في العقل.
الآية رقم (30)
{ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}
قوله تعالى{ولو ترى إذ وقفوا على ربهم} (وقفوا) أي حبسوا (على ربهم) أي على ما يكون من أمر الله فيهم. وقيل: (على) بمعنى (عند) أي عند ملائكته وجزائه؛ وحيث لا سلطان فيه لغير الله عز وجل؛ تقول: وقفت على فلان أي عنده؛ وجواب }لو} محذوف لعظم شأن الوقوف. }قال أليس هذا بالحق} تقرير وتوبيخ أي أليس هذا البعث كائنا موجودا؟ }قالوا بلى} ويؤكدون اعترافهم بالقسم بقولهم{وربنا}. وقيل: إن الملائكة تقول لهم بأمر الله أليس هذا البعث وهذا العذاب حقا؟ فيقولون: (بلى وربنا) إنه حق. }قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}.
الآية رقم (31)
{قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون}
قوله تعالى{قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله} قيل: بالبعث بعد الموت وبالجزاء؛ دليله قوله عليه السلام: (من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) أي لقي جزاءه؛ لأن من غضب عليه لا يرى الله عند مثبتي الرؤية، ذهب إلى هذا القفال وغيره؛ قال القشيري: وهذا ليس بشيء؛ لأن حمل اللقاء في موضع على الجزاء لدليل قائم لا يوجب هذا التأويل في كل موضع، فليحمل اللقاء على ظاهره في هذه الآية؛ والكفار كانوا ينكرون الصانع، ومنكر الرؤية منكر للوجود!
قوله تعالى{حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة} سميت القيامة بالساعة لسرعة الحساب فيها. ومعنى (بغتة) فجأة؛ يقال: بغتهم الأمر بغتهم بغتا وبغتة. وهي نصب على الحال، وهي عند سيبويه مصدر في موضع الحال، كما تقول: قتلته صبرا، وأنشد:
فلأيا بلأي ما حملنا وليدنا على ظهر محبوك ظماء مفاصله
ولا يجيز سيبويه أن يقاس عليه؛ لا يقال: جاء فلان سرعة.
قوله تعالى{قالوا يا حسرتنا} وقع النداء على الحسرة وليست بمنادى في الحقيقة، ولكنه يدل على كثرة التحسر، ومثله يا للعجب ويا للرخاء وليسا بمناديين في الحقيقة، ولكنه يدل على كثرة التعجب والرخاء؛ قال سيبويه: كأنه قال يا عجب تعال فهذا زمن إتيانك؛ وكذلك قولك يا حسرتي أي يا حسرتا تعالي فهذا وقتك؛ وكذلك ما لا يصح نداؤه يجرى هذا المجرى، فهذا أبلغ من قولك تعجبت. ومنه قول الشاعر:
فيا عجبا من رحلها المتحمل
وقيل: هو تنبيه للناس على عظيم ما يحل بهم من الحسرة؛ أي يا أيها الناس تنبوا على عظيم ما بي من الحسرة، فوقع النداء على غير المنادى حقيقة، كقولك: لا أرينك ههنا. فيقع النهي على غير المنهي في الحقيقة.
قوله تعالى{على ما فرطنا فيها} أي في الساعة، أي في التقدمة لها؛ عن الحسن. و(فرطنا) معناه ضيعنا وأصله التقدم؛ يقال: فرط فلان أي تقدم وسبق إلى الماء، ومنه (أنا فرطكم على الحوض). ومنه الفارط أي المتقدم للماء، ومنه - في الدعاء للصبي - اللهم اجعله فرطا لأبويه؛ فقولهم: (فرطنا) أي قدمنا العجز. وقيل: (فرطنا) أي جعلنا غيرنا الفارط السابق لنا إلى طاعة الله وتخلفنا. (فيها) أي في الدنيا بترك العمل للساعة. وقال الطبري: (الهاء) راجعة إلى الصفقة، وذلك أنهم لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الإيمان بالكفر، والآخرة بالدنيا، }قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها} أي في الصفقة، وترك ذكرها لدلالة الكلام عليها؛ لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع؛ دليله قوله{فما ربحت تجارتهم}البقرة: 16]. وقال السدي: على ما ضيعنا أي من عمل الجنة. وفي الخبر عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: (يرى أهل النار منازلهم في الجنة فيقولون: (يا حسرتنا).
قوله تعالى{وهم يحملون أوزارهم} أي ذنوبهم جمع وزر. }على ظهورهم} مجاز وتوسع وتشبيه بمن يحمل ثقلا؛ يقال منه: وزر يزر، ووزر يوزر فهو وازر ومزور؛ وأصله من الوزر وهو الجبل. ومنه الحديث في النساء اللواتي خرجن في جنازة (ارجعن مزورات غير مأجورات) قال أبو عبيد: والعامة تقول: (مأزورات) كأنه لا وجه له عنده؛ لأنه من الوزر. قال أبو عبيد: ويقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع احمل وزرك أي ثقلك. ومنه الوزير لأنه يحمل أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية: والمعنى أنهم لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها. }ألا ساء ما يزرون} أي ما أسوأ الشيء الذي يحملونه.
الآية رقم (32)
{وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون}
قوله تعالى{وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} أي لقصر مدتها كما قال:
ألا إنما الدنيا كأحلام نائم وما خير عيش لا يكون بدائم
تأمل إذا ما نلت بالأمس لذة فأفنيتها هل أنت إلا كحالم
وقال آخر:
فاعمل على مهل فإنك ميت واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى وكأن ما هو كائن قد كانا
وقيل: المعنى متاع الحياة الدنيا لعب ولهو؛ أي الذي يشتهوه في الدنيا لا عاقبة له، فهو بمنزلة اللعب واللهو. ونظر سليمان بن عبدالله في المرآة فقال: أنا الملك الشاب؛ فقالت له جارية له:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى غير أن لا بقاء للإنسان
ليس فيما بدا لنا منك عيب كان في الناس غير أنك فاني
وقيل: معنى (لعب ولهو) باطل وغرور، كما قال: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) }آل عمران: 185] فالمقصد بالآية تكذيب الكفار في قولهم{إن هي إلا الحياة الدنيا} واللعب معروف، والتلعابة الكثير اللعب، والملعب مكان اللعب؛ يقال: لعب يلعب. واللهو أيضا معروف، وكل ما شغلك فقد ألهاك، ولهوت من اللهو، وقيل: أصله الصرف عن الشيء؛ من قولهم: لهيت عنه؛ قال المهدوي: وفيه بعد؛ لأن الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم: لهيان، ولام الأول واو.
ليس من اللهو واللعب ما كان من أمور الآخرة، فإن حقيقة اللعب ما لا ينتفع به واللهو ما يلتهى به، وما كان مرادا للآخرة خارج عنهما؛ وذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال علي: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها. وقال محمود الوراق:
لا تتبع الدنيا وأيامها ذما وإن دارت بك الدائرة
من شرف الدنيا ومن فضلها أن بها تستدرك الآخرة
وروى أبو عمر بن عبدالبر عن أبي سعيد الخدري، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان فيها من ذكر الله أو أدى إلى ذكر الله والعالم والمتعلم شريكان في الأجر وسائر الناس همج لا خير فيه) وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة وقال: حديث حسن غريب. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها). وروى الترمذي عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء). وقال الشاعر:
تسمع من الأيام إن كنت حازما فإنك منها بين ناه وآمر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما فات من شيء فليس بضائر
ولن تعدل الدنيا جناح بعوضة ولا وزن زف من جناح لطائر
فما رضي الدنيا ثوابا لمؤمن ولا رضي الدنيا جزاء لكافر
وقال ابن عباس: هذه حياة الكافر لأنه يزجيها في غرور وباطل، فأما حياة المؤمن فتنطوي على أعمال صالحة، فلا تكون لهوا ولعبا.
وقرأ ابن عامر (ولدار الآخرة) بلام واحدة؛ والإضافة على تقدير حذف المضاف وإقامة الصفة مقامه، التقدير: ولدار الحياة الآخرة. وعلى قراءة الجمهور (وللدار الآخرة) اللام لام الابتداء، ورفع الدار بالابتداء، وجعل الآخرة نعتا لها والخبر (خير للذين) يقويه }تلك الدار الآخرة}القصص: 83] }وإن الدار الآخرة لهي الحيوان}العنكبوت: 64]. فأتت الآخرة صفة للدار فيهما }للذين يتقون} أي الشرك. }أفلا تعقلون} قرئ بالياء والتاء؛ أي أفلا يعقلون أن الأمر هكذا فيزهدوا في الدنيا. والله أعلم.
الآية رقم (33 :34)
{قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون، ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين}
قوله تعالى{قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون} كسرت (إن) لدخول اللام. قال أبو ميسرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بأبي جهل وأصحابه فقالوا: يا محمد والله ما نكذبك وإنك عندنا لصادق، ولكن نكذب ما جئت به؛ فنزلت هذه الآية }فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} ثم آنسه بقوله{ولقد كذبت رسل من قبلك} الآية. وقرئ }يكذبونك} مخففا ومشددا؛ وقيل: هما بمعنى واحد كحزنته وأحزنته؛ واختار أبو عبيد قراءة التخفيف، وهي قراءة علي رضي الله عنه؛ وروي عنه أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به؛ فأنزل الله عز وجل }فإنهم لا يكذبونك}
قال النحاس: وقد خولف أبو عبيد في هذا. وروي: لا نكذبك. فأنزل الله عز وجل{لا يكذبونك}. ويقوي هذا أن رجلا قرأ على ابن عباس }فإنهم لا يكذبونك} مخففا فقال له ابن عباس{فإنهم لا يكذبونك} لأنهم كانوا يسمون النبي صلى الله عليه وسلم الأمين. ومعنى }يكذبونك} عند أهل اللغة ينسبونك إلى الكذب، ويردون عليك ما قلت. ومعنى }لا يكذبونك} أي لا يجدونك تأتي بالكذب؛ كما تقول: أكذبته وجدته كذابا؛ وأبخلته وجدته بخيلا، أي لا يجدونك كذابا إن تدبروا ما جئت به. ويجوز أن يكون المعنى: لا يثبتون عليك أنك كاذب؛ لأنه يقال: أكذبته إذا احتججت عليه وبينت أنه كاذب. وعلى التشديد: لا يكذبونك بحجة ولا برهان؛ ودل على هذا }ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}. قال النحاس: والقول في هذا مذهب أبي عبيد، واحتجاجه لازم؛ لأن عليا كرم الله وجهه هو الذي روى الحديث، وقد صح عنه أنه قرأ بالتخفيف؛ وحكى الكسائي عن العرب: أكذبت الرجل إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه، وكذبته إذا أخبرت أنه كاذب؛ وكذلك قال الزجاج: كذبته إذا قلت له كذبت، وأكذبته إذا أردت أن ما أتى به كذب.
قوله تعالى{فصبروا على ما كذبوا} أي فاصبر كما صبروا. }وأوذوا حتى أتاهم نصرنا} أي عوننا، أي فسيأتيك ما وعدت به. }ولا مبدل لكلمات الله} مبين لذلك النصر؛ أي ما وعد الله عز وجل به فلا يقدر أحد أن يدفعه؛ لا ناقض لحكمه، ولا خلف لوعده؛ و}لكل أجل كتاب}الرعد: 38] ، }إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا}غافر: 51] }ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون}الصافات: 171 - 173] ، }كتب الله لأغلبن أنا ورسلي}المجادلة: 21]. }ولقد جاءك من نبأ المرسلين} فاعل (جاءك) مضمر؛ المعنى: جاءك من نبأ المرسلين نبأ.
{وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين}
قوله تعالى{وإن كان كبر عليك إعراضهم} أي عظم عليك إعراضهم وتوليهم عن الإيمان. }فإن استطعت} قدرت }أن تبتغي} تطلب }نفقا في الأرض} أي سربا تخلص منه إلى مكان آخر، ومنه النافقاء لجحر اليربوع، وقد تقدم في }البقرة} بيانه، ومنه المنافق. وقد تقدم. }أو سلما} معطوف عليه، أي سببا إلى السماء؛ وهذا تمثيل؛ لأن العلم الذي يرتقى عليه سبب إلى الموضع، وهو مذكر، ولا يعرف ما حكاه الفراء من تأنيث العلم. قال قتادة: السلم الدرج. الزجاج: وهو مشتق من السلامة كأنه يسلمك إلى الموضع الذي تريد. }فتأتيهم بآية} عطف عليه أي ليؤمنوا فافعل؛ فأضمر الجواب لعلم السامع. أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يشتد حزنه عليهم إذا كانوا لا يؤمنون؛ كما أنه لا يستطيع هداهم. }ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} أي لخلقهم مؤمنين وطبعهم عليه؛ بين تعالى أن كفرهم بمشيئة الله ردا على القدرية. وقيل المعنى: أي لأراهم آية تضطرهم إلى الإيمان، ولكنه أراد عز وجل أن يثيب منهم من آمن ومن أحسن. }فلا تكونن من الجاهلين} أي من الذين أشتد حزنهم وتحسروا حتى أخرجهم ذلك إلى الجزع الشديد، وإلى ما لا يحل؛ أي لا تحزن على كفرهم فتقارب حال الجاهلين. وقيل: الخطاب له والمراد الأمة؛ فإن قلوب المسلمين كانت تضيق من كفرهم وإذايتهم.
الآية رقم (36 : 37 )
{إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون}
قوله تعالى{إنما يستجيب الذين يسمعون} أي سماع إصغاء وتفهم وإرادة الحق، وهم المؤمنون الذين يقبلون ما يسمعون فينتفعون به ويعملون؛ قال معناه الحسن ومجاهد، وتم الكلام. ثم قال{والموتى يبعثهم الله} وهم الكفار؛ عن الحسن ومجاهد؛ أي هم بمنزلة الموتى في أنهم لا يقبلون ولا يصغون إلى حجة. وقيل: الموتى كل من مات. }يبعثهم الله} أي للحساب؛ وعلى الأول بعثهم هدايتهم إلى الإيمان بالله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن الحسن: هو بعثهم من شركهم حتى يؤمنوا بك يا محمد - يعني عند حضور الموت - في حال الإلجاء في الدنيا.
قوله تعالى{وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه} قال الحسن: (لولا) ههنا بمعنى هلا؛ وقال الشاعر:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا
وكان هذا منهم نعتا بعد ظهور البراهين؛ وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة مثله، لما فيه من الوصف وعلم الغيوب. }ولكن أكثرهم لا يعلمون} أي لا يعلمون أن الله عز وجل إنما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة لعباده؛ وكان في علم الله أن يخرج من أصلابهم أقواما يؤمنون به ولم يرد استئصالهم. وقيل: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أن الله قادر على إنزالها. الزجاج: طلبوا أن يجمعهم على الهدى أي جمع إلجاء.
الآية رقم ( 38 )
{وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون}
قوله تعالى{وما من دابة في الأرض} وأصله الصفة؛ من دب يدب فهو داب إذا مشى مشيا فيه تقارب خطو. }ولا طائر يطير بجناحيه} بخفض }طائر} عطفا على اللفظ.
وقرأ الحسن وعبدالله بن إسحاق (ولا طائر) بالرفع عطفا على الموضع، و(من) زائدة، التقدير: وما من دابة. }بجناحيه} تأكيدا وإزالة للإبهام؛ فإن العرب تستعمل الطيران لغير الطائر؛ تقول للرجل: طر في حاجتي؛ أي أسرع؛ فذكر (بجناحيه) ليتمحض القول في الطير، وهو في غيره مجاز. وقيل: إن اعتدال جسد الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران، ولو كان غير معتدل لكان يميل؛ فأعلمنا أن الطيران بالجناحين و}ما يمسكهن إلا الله}النحل: 79]. والجناح أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء، وأصله الميل إلى ناحية من النواحي؛ ومنه جنحت السفينة إذا مالت إلى ناحية الأرض لاصقة بها فوقفت. وطائر الإنسان عمله؛ وفي التنزيل }وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه}الإسراء: 13]. }إلا أمم أمثالكم} أي هم جماعات مثلكم في أن الله عز وجل خلقهم، وتكفل بأرزاقهم، وعدل عليهم، فلا ينبغي أن تظلموهم، ولا تجاوزوا فيهم ما أمرتم به. و(دابة) تقع على جميع ما دب؛ وخص بالذكر ما في الأرض دون السماء لأنه الذي يعرفونه ويعاينونه. وقيل: هي أمثال لنا في التسبيح والدلالة؛ والمعنى: وما من دابة ولا طائر إلا وهو يسبح الله تعالى، ويدل على وحدانيته لو تأمل الكفار. وقال أبو هريرة: هي أمثال لنا على معنى أنه يحشر البهائم غدا ويقتص للجماء من القرناء ثم يقول الله لها: كوني ترابا. وهذا اختيار الزجاج فإنه قال: (إلا أمم أمثالكم) في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص، وقد دخل فيه معنى القول الأول أيضا. وقال سفيان بن عيينة: أي ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه؛ فمنهم من يعدو كالأسد، ومنهم من يشره كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاوس؛ فهذا معنى المماثلة. واستحسن الخطابي هذا وقال: فإنك تعاشر البهائم والسباع فخذ حذرك. وقال مجاهد في قوله عز وجل{إلا أمم أمثالكم} قال أصناف لهن أسماء تعرف بها كما تعرفون. وقيل غير هذا مما لا يصح من أنها مثلنا في المعرفة، وأنها تحشر وتنعم في الجنة، وتعوض من الآلام التي حلت بها في الدنيا وأن أهل الجنة يستأنسون بصورهم؛ والصحيح }إلا أمم أمثالكم} في كونها مخلوقة دالة على الصانع محتاجة إليه مرزوقة من جهته، كما أن رزقكم على الله. وقول سفيان أيضا حسن؛ فإنه تشبيه واقع في الوجود.
قوله تعالى{ما فرطنا في الكتاب من شيء} أي في اللوح المحفوظ فإنه أثبت فيه ما يقع من الحوادث. وقيل: أي في القرآن أي ما تركنا شيئا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن؛ إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول عليه الصلاة والسلام، أو من الإجماع، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب؛ قال الله تعالى{ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء}النحل:89] وقال{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}النحل: 44] وقال{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}الحشر: 7] فأجمل في هذه الآية وآية (النحل) ما لم ينص عليه مما لم يذكره، فصدق خبر الله بأنه ما فرط في الكتاب من شيء إلا ذكره، إما تفصيلا وإما تأصيلا؛ وقال{اليوم أكملت لكم دينكم}المائدة: 3].
قوله تعالى{ثم إلى ربهم يحشرون} أي للجزاء، كما سبق في خبر أبي هريرة، وفي صحيح مسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء). ودل بهذا على أن البهائم تحشر يوم القيامة؛ وهذا قول أبي ذر وأبي هريرة والحسن وغيرهم؛ وروي عن ابن عباس؛ قال ابن عباس في رواية: حشر الدواب والطير موتها؛ وقال الضحاك؛ والأول أصح لظاهر الآية والخبر الصحيح؛ وفي التنزيل }وإذا الوحوش حشرت}التكوير: 5] وقول أبي هريرة فيما روى جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عنه: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شيء؛ فيبلغ من عدل الله تعالى يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول: (كوني ترابا) فذلك قوله تعالى{ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا}النبأ: 40]. وقال عطاء: فإذا رأوا بني آدم وما هم عليه من الجزع قلن: الحمد لله الذي لم يجعلنا مثلكم، فلا جنة نرجو ولا نار نخاف؛ فيقول الله تعالى لهن: (كن ترابا) فحينئذ يتمنى الكافر أن يكون تراب. وقالت جماعة: هذا الحشر الذي في الآية يرجع إلى الكفار وما تخلل كلام معترض وإقامة حجج؛ وأما الحديث فالمقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص والاعتناء فيه حتى يفهم منه أنه لا بد لكل أحد منه، وأنه لا محيص له عنه؛ وعضدوا هذا بما في الحديث في غير الصحيح عن بعض رواته من الزيادة فقال: حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء، وللحجر لما ركب على الحجر، وللعود لما خدش العود؛ قالوا: فظهر من هذا أن المقصود منه التمثيل المفيد للاعتبار والتهويل، لأن الجمادات لا يعقل خطابها ولا ثوابها ولا عقابها، ولم يصر إليه أحد من العقلاء، ومتخيله من جملة المعتوهين الأغبياء؛ قالوا: ولأن القلم لا يجري عليهم فلا يجوز أن يؤاخذوا.
قلت: الصحيح القول الأول لما ذكرناه من حديث أبي هريرة، وإن كان القلم لا يجري عليهم في الأحكام ولكن فيما بينهم يؤاخذون به؛ وروي عن أبي ذر قال: انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أبا ذر هل تدري فيما انتطحتا؟) قلت: لا. قال: (لكن الله تعالى يدري وسيقضي بينهما) وهذا نص، وقد زدناه بيانا في كتاب (التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة). والله أعلم.
الآية رقم (39 : 41)
{والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم، قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين، بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون}
قوله تعالى{والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم} ابتداء وخبر، أي عدموا الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم؛ فكل أمة من الدواب وغيرها تهتدي لمصالحها والكفار لا يهتدون. }في الظلمات} أي ظلمات الكفر. وقال أبو علي: يجوز أن يكون المعنى (صم وبكم) في الآخرة؛ فيكون حقيقة دون مجاز اللغة. }من يشأ الله يضلله} دل على أنه شاء ضلال الكافر وأراده لينفذ فيه عدله؛ ألا ترى أنه قال{ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} أي على دين الإسلام لينفذ فيه فضله. وفيه إبطال لمذهب القدرية. والمشيئة راجعة إلى الذين كذبوا، فمنهم من يضله ومنهم من يهديه.
قوله تعالى{قل أرأيتكم} وقرأ نافع بتخفيف الهمزتين، يلقي حركة الأولى على ما قبلها، ويأتي بالثانية بين بين. وحكى أبو عبيد عنه أنه يسقط الهمزة ويعوض منها ألفا. قال النحاس: وهذا عند أهل العربية غلط عليه؛ لأن الياء ساكنة والألف ساكنة ولا يجتمع ساكنان. قال مكي: وقد روي عن ورش أنه أبدل من الهمزة ألفا؛ لأن الرواية عنه أنه يمد الثانية، والمد لا يتمكن إلا مع البدل، والبدل فرع عن الأصول، والأصل أن تجعل الهمزة بين الهمزة المفتوحة والألف؛ وعليه كل من خفف الثانية غير ورش؛ وحسن جواز البدل في الهمزة وبعدها ساكن لأن الأول حرف مد ولين، فالمد الذي يحدث مع الساكن يقوم مقام حركة يوصل بها إلى النطق بالساكن الثاني. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة (أرأيتكم) بتحقيق الهمزتين وأتوا بالكلمة على أصلها، والأصل الهمز؛ لأن همزة الاستفهام دخلت على (رأيت) فالهمزة عين الفعل، والياء ساكنة لاتصال المضمر المرفوع بها. وقرأ عيسى بن عمر والكسائي (أريتكم) بحذف الهمزة الثانية. قال النحاس: وهذا بعيد في العربية، وإنما يجوز في الشعر؛ والعرب تقول: أرأيتك زيدا ما شأنه. ومذهب البصريين أن الكاف والميم للخطاب، لا حظ لهما في الإعراب؛ وهو اختبار الزجاج. ومذهب الكسائي والفراء وغيرهما أن الكاف والميم نصب بوقوع الرؤية عليهما، والمعنى أرأيتم أنفسكم؛ فإذا كانت للخطاب - زائدة للتأكيد - كان (إن) من قوله }إن أتاكم} في موضع نصب على المفعول لرأيت، وإذا كان اسما في موضع نصب (فإن) في موضع المفعول الثاني؛ فالأول من رؤية العين لتعديها لمفعول واحد، وبمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين. وقوله{أو أتتكم الساعة} المعنى: أو أتتكم الساعة التي تبعثون فيها. ثم قال{أغير الله تدعون إن كنتم صادقين} والآية في محاجة المشركين ممن اعترف أن له صانعا؛ أي أنتم عند الشدائد ترجعون إلى الله، وسترجعون إليه يوم القيامة أيضا فلم تصرون على الشرك في حال الرفاهية؟ ! وكانوا يعبدون الأصنام ويدعون الله في صرف العذاب.
قوله تعالى{بل إياه تدعون} }بل} إضراب عن الأول وإيجاب للثاني. }إياه} نصب. بـ }تدعون} }فيكشف ما تدعون إليه إن شاء} أي يكشف الضر الذي تدعون إلى كشفه إن شاء كشفه. }وتنسون ما تشركون} قيل: عند نزول العذاب. وقال الحسن: أي تعرضون عنه إعراض الناسي، وذلك لليأس من النجاة من قبله إذ لا ضرر فيه ولا نفع. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى وتتركون. قال النحاس: مثل قوله{ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي}طه: 115].
الآية ر قم ( 42)
{ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون}
قوله تعالى{ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك} الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه إضمار؛ أي أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا وفيه إضمار آخر يدل عليه الظاهر؛ تقديره: فكذبوا
فأخذناهم. وهذه الآية متصلة بما قبل اتصال الحال بحال قريبة منها؛ وذلك أن هؤلاء سلكوا في مخالفة نبيهم مسلك من كان قبلهم في مخالفة أنبيائهم، فكانوا بعرض أن ينزل بهم من البلاء ما نزل بمن كان قبلهم. ومعنى }بالبأساء} بالمصائب في الأموال }والضراء} في الأبدان؛ هذا قول الأكثر، وقد يوضع كل واحد منهما موضع الآخر؛ ويؤدب الله عباده بالبأساء والضراء وبما شاء }لا يسأل عما يفعل}الأنبياء: 23]. قال ابن عطية: استدل العباد في تأديب أنفسهم بالبأساء في تفريق الأموال، والضراء في الحمل على الأبدان بالجوع والعري بهذه الآية.
قلت: هذه جهالة ممن فعلها وجعل هذه الآية أصلا لها؛ هذه عقوبة من الله لمن شاء من عباده يمتحنهم بها، ولا يجوز لنا أن نمتحن أنفسنا ونكافئها قياسا عليها؛ فإنها المطية التي نبلغ عليها دار الكرامة، ونفوز بها من أهوال يوم القيامة؛ وفى التنزيل{يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا}المؤمنون: 51] وقال{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم}البقرة: 267]. }يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}البقرة:172] فأمر المؤمنين بما خاطب به المرسلين؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون الطيبات ويلبسون أحسن الثياب ويتجملون بها؛ وكذلك التابعون بعدهم إلى هلم جرا، ولو كان كما زعموا واستدلوا لما كان في امتنان الله تعالى بالزروع والجنات وجميع الثمار والنبات والأنعام التي سخرها وأباح لنا أكلها وشربها ألبانها والدفء بأصوافها - إلى غير ذلك مما امتن به - كبير فائدة، فلو كان ما ذهبوا إليه فيه الفضل لكان أولى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن بعدهم من التابعين والعلماء، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال مخافة الضعف على الأبدان، ونهى عن إضاعة المال ردا على الأغنياء الجهال.
قوله تعالى{لعلهم يتضرعون} أي يدعون ويذلون، مأخوذ من الضراعة وهي الذلة؛ يقال: ضر فهو ضارع.
الآية رقم ( 43 : 45 )
{فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}
قوله تعالى{فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} (لولا) تخصيص، وهي التي تلي الفعل بمعنى هلا؛ وهذا عتاب على ترك الدعاء، وإخبار عنهم أنهم لم يتضرعوا حين نزول العذاب. ويجوز أن يكونوا تضرعوا تضرع من لم يخلص، أو تضرعوا حين لابسهم العذاب، والتضرع على هذه الوجوه غير نافع. والدعاء مأمور ب حال الرخاء والشدة؛ قال الله تعالى{ادعوني استجب لكم}غافر: 60] وقال{إن الذين يستكبرون عن عبادتي}غافر: 60] أي دعائي }سيدخلون جهنم داخرين}غافر: 60] وهذا وعيد شديد. }ولكن قست قلوبهم} أي صلبت وغلظت، وهي عبارة عن الكفر والإصرار على المعصية، نسأل الله العافية. }وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون} أي أغواهم بالمعاصي وحملهم عليها.
قوله تعالى{فلما نسوا ما ذكروا به} يقال: لم ذموا على النسيان وليس من فعلهم؟ فالجواب: أن (نسوا) بمعنى تركوا ما ذكروا به، عن ابن عباس وابن جريج، وهو قول أبي علي؛ وذلك لأن التارك للشيء إعراضا عنه قد صيره بمنزلة ما قد نسي، كما يقال: تركه. في النسي. جواب آخر: وهو أنهم تعرضوا للنسيان فجاز الذم لذلك؛ كما جاز الذم على التعرض لسخط الله عز وجل وعقابه. }فتحنا عليهم أبواب كل شيء} أي من النعم والخيرات، أي كثرنا لهم ذلك. والتقدير عند أهل العربية: فتحنا عليهم أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم. }حتى إذا فرحوا بما أوتوا} معناه بطروا وأشروا وأعجبوا وظنوا أن ذلك العطاء لا يبيد، وأنه دال على رضاء الله عز وجل عنهم }أخذناهم بغتة} أي استأصلناهم وسطونا بهم. و(بغتة) معناه فجأة، وهي الأخذ على غرة ومن غير تقدم أمارة؛ فإذا أخذ لإنسان وهو غار غافل فقد أخذ بغتة، وأنكى شيء ما يفجأ من البغت. وقد قيل: إن التذكير الذي سلف - فأعرضوا عنه - قام مقام الإمارة. والله أعلم. و(بغتة) مصدر في موضع الحال لا يقاس عليه عند سيبويه كما تقدم؛ فكان ذلك استدراجا من الله تعالى كما قال{وأملي لهم إن كيدي متين}الأعراف: 183] نعوذ بالله من سخطه ومكره. قال بعض العلماء: رحم الله عبدا تدبر هذه الآية }حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة}. وقال محمد بن النضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة. وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاؤون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم) ثم تلا }فلما نسوا ما ذكروا به} الآية كلها. وقال الحسن: والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخفف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه. وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خير له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه. وفي الخبر أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه وسلم: (إذا رأيت الفقر مقبلا إليك فقل مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغني مقبلا إليك فقل ذنب عجلت عقوبته).
قوله تعالى{فإذا هم مبلسون} المبلس الباهت الحزين الآيس من الخير الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال؛ قال العجاج:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا قال نعم أعرفه وأبلسا
أي تحير لهول ما رأى، ومن ذلك اشتق اسم إبليس؛ أبلس الرجل سكت، وأبلست الناقة وهي مبلاس إذا لم ترغ من شدة الضبعة؛ ضبعت الناق تضبع ضبعة وضبعا إذا أرادت الفحل.
قوله تعالى{فقطع دابر القوم الذين ظلموا} الدابر الآخر؛ يقال: دبر القوم يدبرهم دبرا إذا كان آخرهم في المجيء. وفي الحديث عن عبدالله بن مسعود (من الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبريا) أي في آخر الوقت؛ والمعنى هنا قطع خلفهم من نسلهم وغيرهم فلم تبق لهم باقية. قال قطرب: يعني أنهم استؤصلوا وأهلكوا. قال أمية بن أبي الصلت:
فأهلكوا بعذاب حص دابرهم فما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا
ومنه التدبير لأنه إحكام عواقب الأمور.
قوله تعالى{والحمد لله رب العالمين} قيل: على إهلاكهم وقيل: تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه. وتضمنت هذه الآية الحجة على وجوب ترك الظلم؛ لما يعقب من قطع الدابر، إلى العذاب الدائم، مع استحقاق القاطع الحمد من كل حامد.
الآية رقم ( 46 : 47 )
{قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون، قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون}
قوله تعالى{قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} أي أذهب وانتزع. ووحد }سمعكم} لأنه مصدر يدل على الجمع. }وختم} أي طبع. وجواب (إن) محذوف تقديره: فمن يأتيكم به، وموضعه نصب؛ لأنها في موضع الحال، كقولك: اضربه إن خرج أي خارجا. ثم قيل: المراد المعاني القائمة بهذه الجوارح، وقد يذهب الله الجوارح والأعراض جميعا فلا يبقي شيئا، قال الله تعالى{من قبل أن نطمس وجوها}النساء: 47] والآية احتجاج على الكفار. }من إله غير الله يأتيكم به} }من} رفع بالابتداء وخبرها }إله} و}غيره} صفة له، وكذلك }يأتيكم} موضعه رفع بأنه صفة }إله} ومخرجها مخرج الاستفهام، والجملة التي هي منها في موضع مفعولي رأيتم. ومعنى }أرأيتم} علمتم؛ ووحد الضمير في (به) - وقد تقدم الذكر بالجمع - لأن المعنى أي بالمأخوذ، فالهاء راجعة إلى المذكور. وقيل: على السمع بالتصريح؛ مثل قوله{والله ورسوله أحق أن يرضوه}التوبة: 62]. ودخلت الأبصار والقلوب بدلالة التضمين. وقيل{من إله غير الله يأتيكم}. بأحد هذه المذكورات. وقيل: على الهدى الذي تضمنه المعنى.
وقرأ عبدالرحمن الأعرج (به انظر) بضم الهاء على الأصل؛ لأن الأصل أن تكون الهاء مضمومة كما تقول: جئت معه. قال النقاش: في هذه الآية دليل على تفضيل السمع على البصر لتقدمته هنا وفي غير آية، وقد مضى هذا في أول }البقرة} مستوفى. وتصريف الآيات الإتيان بها من جهات؛ من إعذار وإنذار وترغيب وترهيب ونحو ذلك. }ثم هم يصدفون} أي يعرضون. عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي؛ يقال: صدف عن الشيء إذا أعرض عنه صدفا وصدوفا فهو صادف. وصادفته مصادفة أي لقيته عن إعراض عن جهته؛ قال ابن الرقاع:
إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه وهن عن كل سوء يتقى صدف
والصدف في البعير أن يميل خفه من اليد أو الرجل إلى الجانب الوحشي؛ فهم يصدفون أي مائلون معرضون عن الحجج والدلالات.
قوله تعالى{قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة} الحسن{بغتة} ليلا }أو جهرة} نهارا. وقيل: بغتة فجأة. وقال الكسائي: يقال بغتهم الأمر يبغتهم بغتا وبغتة إذا أتاهم فجأة، وقد تقدم. }هل يهلك إلا القوم الظالمون} نظيره }فهل يهلك إلا القوم الفاسقون}الأحقاف: 35] أي هل يهلك إلا أنتم لشرككم؛ والظلم هنا بمعنى الشرك، كما قال لقمان لابنه{يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}لقمان: 13].
الآية رقم ( 48 )
{وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
قوله تعالى{وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين} أي بالترغيب والترهيب. قال الحسن: مبشرين بسعة الرزق في الدنيا والثواب في الآخرة؛ يدل على ذلك قوله تعالى{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}الأعراف: 96]. ومعنى (منذرين) مخوفين عقاب الله؛ فالمعنى: إنما أرسلنا المرسلين لهذا لا لما يقترح عليهم من الآيات، وإنما يأتون من الآيات بما تظهر معه براهينهم وصدقهم. وقوله{فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. تقدم القول فيه.
الآية رقم ( 49 )
{والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون}
قوله تعالى{والذين كذبوا بآياتنا} أي بالقرآن والمعجزات. وقيل: بمحمد عليه الصلاة والسلام. }يمسهم العذاب} أي يصيبهم }بما كانوا يفسقون} أي يكفرون.
الآية رقم ( 50 )
{قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون}
قوله تعالى{قل لا أقول لكم عندي خزائن الله} هذا جواب لقولهم{لولا نزل عليه آية من ربه}الأنعام: 37] ، فالمعنى ليس عندي خزائن قدرته فأنزل ما اقترحتموه من الآيات، ولا أعلم الغيب فأخبركم به. والخزانة ما يخزن فيه الشيء؛ ومنه الحديث (فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته). وخزائن الله مقدوراته؛ أي لا أملك أن أفعل كل ما أريد مما تقترحون }ولا أعلم الغيب} أيضا }ولا أقول لكم إني ملك} وكان القوم يتوهمون أن الملائكة أفضل، أي لست بملك فأشاهد من أمور الله ما لا يشهده البشر. واستدل بهذا القائلون بأن الملائكة أفضل من الأنبياء. وقد مضى في }البقرة} القول فيه فتأمله هناك.
قوله تعالى{إن أتبع إلا ما يوحى إلي} ظاهره أنه لا يقطع أمرا إلا إذا كان فيه وحي. والصحيح أن الأنبياء يجوز منهم الاجتهاد، والقياس على المنصوص، والقياس أحد أدلة الشرع. وسيأتي بيان هذا في }الأعراف} وجواز اجتهاد الأنبياء في (الأنبياء) إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى{قل هل يستوي الأعمى والبصير} أي الكافر والمؤمن؛ عن مجاهد وغيره. وقيل: الجاهل والعالم. }أفلا تتفكرون} أنهما لا يستويان.
الآية رقم ( 51 )
{وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون}
قوله تعالى{وأنذر به} أي بالقرآن. والإنذار الإعلام وقيل{به} أي بالله. وقيل: باليوم الآخر. وخص }الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم} لأن الحجة عليهم أوجب، فهم خائفون من عذابه، لا أنهم يترددون في الحشر؛ فالمعنى }يخافون} يتوقعون عذاب الحشر. وقيل{يخافون} يعلمون، فإن كان مسلما أنذر ليترك المعاصي، وإن كان من أهل الكتاب أنذر ليتبع الحق. وقال الحسن: المراد المؤمنون. قال الزجاج: كل من أقر بالبعث من مؤمن وكافر. وقيل: الآية في المشركين أي أنذرهم بيوم القيامة. والأول أظهر. }ليس لهم من دونه} أي من غير الله }شفيع} هذا رد على اليهود والنصارى في زعمهما أن أباهما يشفع لهما حيث قالوا{نحن أبناء الله وأحباؤه}المائدة: 18] والمشركون حيث جعلوا أصنامهم شفعاء لهم عند الله، فأعلم الله أن الشفاعة لا تكون للكفار. ومن قال الآية في المؤمنين قال: شفاعة الرسول لهم تكون بإذن الله فهو الشفيع حقيقة إذن؛ وفي التنزيل{ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}الأنبياء: 28]. }ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}سبأ: 23]. }من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}البقرة:255]. }لعلهم يتقون} أي في المستقبل وهو الثبات على الإيمان.
الآية رقم ( 52 )
{ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين}
قوله تعالى{ولا تطرد الذين يدعون ربهم} الآية. قال المشركون: ولا نرضى بمجالسة أمثال هؤلاء - يعنون سلمان وصهيبا وبلالا وخبابا - فاطردهم عنك؛ وطلبوا أن يكتب لهم بذلك، فهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ودعا عليا ليكتب؛ فقام الفقراء وجلسوا ناحية؛ فأنزل الله الآية. ولهذا أشار سعد بقوله في الحديث الصحيح: فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع؛ وسيأتي ذكره. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إنما مال إلى ذلك طمعا في إسلامهم، وإسلام قومهم، ورأى أن ذلك لا يفوت أصحابه شيئا، ولا ينقص لهم قدرا، فمال إليه فأنزل الله الآية، فنهاه عما هم به من الطرد لا أنه أوقع الطرد. روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا؛ قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل }ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}. قيل: المراد بالدعاء المحافظة على الصلاة المكتوبة في الجماعة؛ قاله ابن عباس ومجاهد والحسن. وقيل: الذكر وقراءة القرآن. ويحتمل أن يريد الدعاء في أول النهار وآخره؛ ليستفتحوا يومهم بالدعاء رغبة في التوفيق. ويختموه بالدعاء طلبا للمغفرة. }يريدون وجهه} أي طاعته، والإخلاص فيها، أي يخلصون في عبادتهم وأعمالهم لله، ويتوجهون بذلك إليه لا لغيره. وقيل: يريدون الله الموصوف بأن له الوجه كما قال{ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}الرحمن: 27] وهو كقوله{والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم}الرعد: 22]. وخص الغداة والعشي بالذكر؛ لأن الشغل غالب فيهما على الناس، ومن كان في وقت الشغل مقبلا على العبادة كان في وقت الفراغ من الشغل أعمل. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يصبر نفسه معهم كما أمره الله في قوله{واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم}الكهف: 28] ، فكان لا يقوم حتى يكونوا هم الذين يبتدئون القيام، وقد أخرج هذا المعنى مبينا مكملا ابن ماجة في سننه عن خباب في قول الله عز وجل{ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} إلى قوله{فتكون من الظالمين} قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب، قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين؛ فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم؛ فأتوه فخلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت؛ قال: (نعم) قالوا: فاكتب لنا عليك كتابا؛ قال: فدعا بصحيفة ودعا عليا - رضي الله عنه - ليكتب ونحن قعود في ناحية؛ فنزل جبريل عليه السلام فقال{ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين} ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن؛ فقال{وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين}الأنعام: 53] ثم قال{وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة}الأنعام: 54] قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا؛ فأنزل الله عز وجل }واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا}الكهف: 28] ولا تجالس الأشراف }ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا}الكهف: 28] يعني عيينة والأقرع، }واتبع هواه وكان أمره فرطا}الكهف: 28] ، أي هلاكا. قال: أمر عيينة والأقرع؛ ثم ضرب لهم مثل الرجلين ومثل الحياة الدنيا. قال خباب: فكنا نقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم؛ رواه عن أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان حدثنا عمرو بن محمد العنقزي حدثنا أسباط عن السدي عن أبي سعيد الأزدي وكان قارئ الأزد عن أبي الكنود عن خباب؛ وأخرجه أيضا عن سعد قال: نزلت هذه الآية فينا ستة، في وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال؛ قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهم فاطردهم، قال: فدخل قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله أن يدخل؛ فأنزل الله عز وجل{ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} الآية. وقرئ (بالغدوة) وسيأتي بيانه في (الكهف) إن شاء الله.
قوله تعالى{ما عليك من حسابهم من شيء} أي من جزائهم ولا كفاية أرزاقهم، أي جزاؤهم ورزقهم على الله، وجزاؤك ورزقك على الله لا على غيره. (من) الأولى للتبعيض، والثانية زائدة للتوكيد. وكذا }وما من حسابك عليهم من شيء} المعنى وإذا كان الأمر كذلك فاقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين والفضل؛ فإن فعلت كنت ظالما. وحاشاه من وقوع ذلك منه، وإنما هذا بيان للأحكام، ولئلا يقع مثل ذلك من غيره من أهل السلام؛ وهذا مثل قوله{لئن أشركت ليحبطن عملك}الزمر: 65] وقد علم الله منه أنه لا يشرك ولا يحبط عمله. }فتطردهم} جواب النفي. }فتكون من الظالمين} نصب بالفاء في جواب النهي؛ المعنى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم فتكون من الظالمين، وما من حسابك، عليهم من شيء فتطردهم، على التقديم والتأخير. والظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه. وقد حصل من قوة الآية والحديث النهي عن أن يعظم أحد لجاهه ولثوبه، وعن أن يحتقر أحد لخموله ولرثاثة ثوبيه.
{وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين}
قوله تعالى{وكذلك فتنا بعضهم ببعض} أي كما فتنا من قبلك كذلك فتنا هؤلاء. والفتنة الاختبار؛ أي عاملناهم معاملة المختبرين. }ليقولوا} نصب بلام كي، يعني الأشراف والأغنياء. }أهؤلاء} يعني الضعفاء والفقراء. }من الله عليهم من بيننا} قال النحاس: وهذا من المشكل؛ لأنه يقال: كيف فتنوا ليقولوا هذه الآية؟ لأنه إن كان إنكارا فهو كفر منهم. وفي هذا جوابان: أحدهما: أن المعنى اختبر الأغنياء بالفقراء أن تكون مرتبتهم واحدة عند النبي صلى الله عليه وسلم، ليقولوا على سبيل الاستفهام لا على سبيل الإنكار }أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} والجواب الآخر: أنهم لما اختبروا بهذا قال عاقبته إلى أن قالوا هذا على سبيل الإنكار، وصار مثل قوله{فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا}القصص: 8]. }أليس الله بأعلم بالشاكرين} فيمن عليهم بالإيمان دون الرؤساء الذين علم الله منهم الكفر، وهذا استفهام تقرير، وهو جواب لقولهم{أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} وقل: المعنى أليس الله بأعلم من يشكر الإسلام إذا هديته إليه.
الآية رقم ( 54 )
{وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوء بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم}
قوله تعالى{وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم} السلام والسلامة بمعنى واحد. ومعنى }سلام عليكم} سلمكم الله في دينكم وأنفسكم؛ نزلت في الذين نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن طردهم، فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال: (الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام) فعلى هذا كان السلام من جهة النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنه كان من جهة الله تعالى، أي أبلغهم منا السلام؛ وعلى الوجهين ففيه دليل على فضلهم ومكانتهم عند الله تعالى. وفي صحيح مسلم عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال ونفر فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها؛ قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟! فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك) فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا؛ يغفر الله لك يا أخي؛ فهذا دليل على رفعة منازلهم وحرمتهم كما بيناه في معنى الآية. ويستفاد من هذا احترام الصالحين واجتناب ما يغضبهم أو يؤذيهم؛ فإن في ذلك غضب الله، أي حلول عقابه بمن آذى أحدا من أوليائه. وقال ابن عباس: نزلت الآية في أبى بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وقال الفضيل بن عياض: جاء قوم من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا قد أصبنا من الذنوب فاستغفر لنا فأعرض عنهم؛ فنزلت الآية. وروي عن أنس بن مالك مثله سواء.
قوله تعالى{كتب ربكم على نفسه الرحمة} أي أوجب ذلك بخبره الصدق، ووعده الحق، فخوطب العباد على ما يعرفونه من أنه من كتب شيئا فقد أوجبه على نفسه. وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ. }أنه من عمل منكم سوءا بجهالة} أي خطيئة من غير قصد؛ قال مجاهد: لا يعلم حلالا من حرام ومن جهالته ركب الأمر، فكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل؛ وقد مضى هذا المعنى في }النساء} وقيل: من آثر العاجل على الآخرة فهو الجاهل. }فإنه غفور رحيم} قرأ بفتح }أن} من }فأنه} ابن عامر وعاصم، وكذلك }أنه من عمل} ووافقهما نافع في }أنه من عمل}. وقرأ الباقون بالكسر فيهما؛ فمن كسر فعلى الاستئناف، والجملة مفسرة للرحمة؛ و(إن) إذا دخلت على الجمل كسرت وحكم ما بعد الفاء الابتداء والاستئناف فكسرت لذلك. ومن فتحهما فالأولى في موضع نصب على البدل من الرحمة، بدل الشيء من الشيء وهو هو فأعمل فيها (كتب) كأنه قال: كتب ربكم على نفسه أنه من عمل؛ وأما (فأنه غفور) بالفتح ففيه وجهان؛ أحدهما: أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر، كأنه قال: فله أنه غفور رحيم؛ لأن ما بعد الفاء مبتدأ، أي فله غفران الله. الوجه الثاني: أن يضمر مبتدأ تكون (أن) وما عملت فيه خبره؛ تقديره: فأمره غفران الله له، وهذا اختيار سيبويه، ولم يجز الأول، وأجازه أبو حاتم. وقيل: إن (كتب) عمل فيها؛ أي كتب ربكم أنه غفور رحيم. وروي عن علي بن صالح وابن هرمز كسر الأولى على الاستئناف، وفتح الثانية على أن تكون مبتدأة أو خبر مبتدأ أو معمولة لكتب على ما تقدم. ومن فتح الأولى - وهو نافع - جعلها بدلا من الرحمة، واستأنف الثانية لأنها بعد الفاء، وهي قراءة بينة.
الآية رقم ( 55 )
{وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}
قوله تعالى{وكذلك نفصل الآيات} التفصيل التبيين الذي تظهر به المعاني؛ والمعنى: وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا ومحاجتنا مع المشركين كذلك نفصل لكم الآيات في كل ما تحتاجون إليه من أمر الدين، ونبين لكم أدلتنا وحججنا في كل حق ينكره أهل الباطل. وقال القتبي{نفصل الآيات} نأتي بها شيئا بعد شيء، ولا ننزلها جملة متصلة. }ولتستبين سبيل المجرمين} يقال: هذه اللام تتعلق بالفعل فأين الفعل الذي تتعلق به؟ فقال الكوفيون: هو مقدر؛ أي وكذلك نفصل الآيات لنبين لكم ولتستبين؛ قال النحاس: وهذا الحذف كله لا يحتاج إليه، والتقدير: وكذلك نفصل الآيات فصلناها. وقيل: إن دخول الواو للعطف على المعنى؛ أي ليظهر الحق وليستبين، قرئ بالياء والتاء. (سبيل) برفع اللام ونصبها، وقراءة التاء خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين. فإن قيل: فقد كان النبي عليه السلام يستبينها؟ فالجواب عند الزجاج - أن الخطاب للنبي عليه السلام خطاب لأمته؛ فالمعنى: ولتستبينوا سبيل المجرمين. فإن قيل: فلم لم يذكر سبيل المؤمنين؟ ففي هذا جوابان؛ أحدهما: أن يكون مثل قوله{سرابيل تقيكم الحر}النحل: 81] فالمعنى؛ وتقيكم البرد ثم حذف؛ وكذلك يكون هذا المعنى ولتستبين سبيل المؤمنين ثم حذف. والجواب الآخر: أن يقال: استبان الشيء واستبنته؛ وإذا بان سبيل المجرمين فقد بان سبيل المؤمنين. والسبيل يذكر ويؤنث؛ فتميم تذكره، وأهل الحجاز تؤنثه؛ وفي التنزيل }وإن يروا سبيل الرشد}الأعراف: 146] مذكر }لم تصدون عن سبيل الله}آل عمران: 99] مؤنث؛ وكذلك قرئ (ولتستبين) بالياء والتاء؛ فالتاء خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.
الآية رقم ( 56 )
{قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين}
قوله تعالى{قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله} قيل{تدعون} بمعنى تعبدون. وقيل: تدعونهم في مهمات أموركم على جهة العبادة؛ أراد بذلك الأصنام. }قل لا أتبع أهواءكم} فيما طلبتموه من عبادة هذه الأشياء، ومن طرد من أردتم طرده. }قد ضللت إذا} أي قد ضللت إن اتبعت أهواءكم. }وما أنا من المهتدين} أي على طريق رشد وهدى.
وقرئ }ضللت} بفتح اللام وكسرها وهما لغتان. قال أبو عمرو بن العلاء: ضللت بكسر اللام لغة تميم، وهي قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف، والأولى هي الأصح والأفصح؛ لأنها لغة أهل الحجاز، وهي قراءة الجمهور. وقال الجوهري: والضلال والضلالة ضد الرشاد، وقد ضللت أضل، قال الله تعالى{قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي}سبأ: 50] فهذه لغة نجد، وهي الفصيحة، وأهل العالية يقولون: ضللت بالكسر أضل.
الآية رقم ( 57 )
{قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين}
قوله تعالى{قل إني على بينة من ربي} أي دلالة ويقين وحجة وبرهان، لا على هوى؛ ومنه البينة لأنها تبين الحق وتظهره. }وكذبتم به} أي بالبينة لأنها في معنى البيان، كما قال{وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه}النساء: 8] على ما بيناه هناك. وقيل يعود على الرب، أي كذبتم بربي لأنه جرى ذكره. وقيل: بالعذاب. وقيل: بالقرآن. وفي معنى هذه الآية والتي قبلها ما أنشده مصعب بن عبدالله بن الزبير لنفسه، وكان شاعرا محسنا رضي الله عنه:
أأقعد بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني
أجادل كل معترض خصيم وأجعل دينه غرضا لديني
فاترك ما علمت لرأي غيري وليس الرأي كالعلم اليقين
وما أنا والخصومة وهي شيء يصرف في الشمال وفي اليمين
وقد سنت لنا سنن قوام يلحن بكل فج أو وجين
وكان الحق ليس به خفاء أغر كغرة الفلق المبين
وما عوض لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين
فأما ما علمت فقد كفاني وأما ما جهلت فجنبوني
قوله تعالى{ما عندي ما تستعجلون به} أي العذاب؛ فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء نحو قولهم{أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا}الإسراء: 92] }وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء}الأنفال: 32]. وقيل: ما عندي من الآيات التي تقترحونها. }إن الحكم إلا لله} أي ما الحكم إلا لله في تأخير العذاب وتعجيله. وقيل: الحكم الفاصل بين الحق والباطل لله. }يقص الحق} أي يقص القصص الحق؛ وبه استدل من منع المجاز في القرآن، وهي قراءة نافع وابن كثير وعاصم ومجاهد والأعرج وابن عباس؛ قال ابن عباس: قال الله عز وجل{نحن نقص عليك أحسن القصص}يوسف: 3]. والباقون }يَقْضِ الحقَّ} بالضاد المعجمة، وكذلك قرأ علي - رضي الله عنه - وأبو عبدالرحمن السلمي وسعيد بن المسيب، وهو مكتوب في المصحف بغير ياء، ولا ينبغي الوقف عليه، وهو من القضاء؛ ودل على ذلك أن بعده }وهو خير الفاصلين} والفصل لا يكون إلا قضاء دون قصص، ويقوي ذلك قوله قبله{إن الحكم إلا لله} ويقوي ذلك أيضا قراءة ابن مسعود (إن الحكم إلا لله يقضي بالحق) فدخول الباء يؤكد معنى القضاء. قال النحاس: هذا لا يلزم؛ لأن معنى }يقضي} يأتي ويصنع فالمعنى: يأتي الحق، ويجوز أن يكون المعنى: يقضي القضاء الحق. قال مكي: وقراءة الصاد أحب إلي؛ لاتفاق الحرميين وعاصم على ذلك، ولأنه لو كان من القضاء للزمت الباء فيه كما أتت في قراءة ابن مسعود. قال النحاس: وهذا الاحتجاج لا يلزم؛ لأن مثل هذه الباء تحذف كثيرا.
الآية رقم ( 58 )
{قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين}
قوله تعالى{قل لو أن عندي ما تستعجلون به} أي من العذاب لأنزلته بكم حتى ينقضي الأمر إلى آخره. والاستعجال: تعجيل طلب الشيء قبل وقته. }والله أعلم بالظالمين} أي بالمشركين وبوقت عقوبتهم.
الآية رقم ( 59 )
{وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}
جاء في الخبر أن هذه الآية لما نزلت معها اثنا عشر ألف ملك. وروي البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عيه وسلم قال: (مفاتح الغيب خمس لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله). وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية؛ والله تعالى يقول{قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله}النمل: 65]. ومفاتح جمع مفتح، هذه اللغة الفصيحة. يقال: مفتاح ويجمع مفاتيح. وهي قراءة ابن السميقع }مفاتيح}. والمفتح عبارة عن كل ما يحل غلقا، محسوسا كان كالقفل على البيت أو معقول كالنظر وروى ابن ماجة في سننه وأبو حاتم البستي في صحيحه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه). وهو في الآية استعارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان؛ ولذلك قال بعضهم: هو مأخوذ من قول الناس أفتح علي كذا؛ أي أعطني أو علمني ما أتوصل إليه به. فالله تعالى عنده علم الغيب، وبيده الطرق الموصلة إليه، لا يملكها إلا هو، فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه، ومن شاء حجبه عنها حجبه. ولا يكون ذلك من إفاضته إلا على رسله؛ بدليل قوله تعالى{وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء}آل عمران: 179] وقال{عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول}الجن: 26 - 27]. الآية وقيل: المراد بالمفاتح خزائن الرزق؛ عن السدي والحسن. مقاتل والضحاك: خزائن الأرض. وهذا مجاز، عبر عنها بما يتوصل إليها به. وقيل: غير هذا مما يتضمنه معنى الحديث أي عنده الآجال ووقت انقضائها. وقيل: عواقب الأعمار وخواتم الأعمال؛ إلى غير هذا من الأقوال. والأول المختار. والله أعلم.
قال علماؤنا: أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من كتابه إلا من اصطفى من عباده. فمن قال: إنه ينزل الغيث غدا وجزم فهو كافر، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا. وكذلك من قال: إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر؛ فإن لم يجزم وقال: إن النوء ينزل الله به الماء عادة، وأنه سبب الماء عادة، وأنه سبب الماء على ما قدره وسبق في علمه لم يكفر؛ إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به، فإن فيه تشبيها بكلمة أهل الكفر، وجهلا بلطيف حكمته؛ لأنه ينزل متى شاء، مرة بنوء كذا، ومرة دون النوء؛ قال الله تعالى: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب) على ما يأتي بيانه في }الواقعة} إن شاء الله. قال ابن العربي: وكذلك قول الطبيب: إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة فهو ذكر، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى؛ وادعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم يكفر ولم يفسق. وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر. أو أخبر عن الكوائن المجملة أو المفصلة في أن تكون قبل أن تكون فلا ريبة في كفره أيضا. فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر فقد قال علماؤنا: يؤدب ولا يسجن. أما عدم تكفيره فلأن جماعة قالوا: إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل حسب ما أخبر الله عنه من قوله{والقمر قدرناه منازل}يس: 39]. وأما أدبهم فلأنهم يدخلون الشك على العامة، إذ لا يدركون الفرق بين هذا وغيره؛ فيشوشون عقائدهم ويتركون قواعدهم في اليقين فأدبوا حتى يسروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به.
قلت: ومن هذا الباب أيضا ما جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافا فسأل عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة). والعراف هو الحازر والمنجم الذي يدعي علم الغيب. وهي من العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها. وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وأسباب معتادة في ذلك. وهذا الفن هو العيافة (بالياء). وكذا ينطلق عليها اسم الكهانة؛ قاله القاضي عياض. والكهانة: ادعاء علم الغيب. قال أبو عمر بن عبدالبر في كتاب (الكافي): من المكاسب المجتمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسحت والرشا وأخذ الأجرة على النياحة والغناء، وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء، وعلى الزمر واللعب والباطل كله. قال علماؤنا: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان بإتيان المنجمين، والكهان لا سيما بالديار المصرية؛ فقد شاع في رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم اتخاذ المنجمين، بل ولقد أنخدع كثير من المنتسبين للفقه والدين فجاؤوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال، واستخرجوا منهم الأموال فحصلوا من أقوالهم على السراب والآل، ومن أديانهم على الفساد والضلال. وكل ذلك من الكبائر؛ لقوله عليه السلام: (لم تقبل له صلاة أربعين ليلة). فكيف بمن أتخذهم وأنفق عليهم معتمدا على أقوالهم. روى مسلم رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أناس عن الكهان فقال: (إنهم ليسوا بشيء) فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدثونا أحيانا بشيء فيكون حقا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون معها مائة كذبة). قال الحميدي: ليس ليحيى بن عروة عن أبيه عن عائشة في الصحيح غير هذا وأخرجه البخاري أيضا من حديث أبي الأسود محمد بن عبدالرحمن عن عروة عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم). وسيأتي هذا المعنى في }سبأ} إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى{ويعلم ما في البر والبحر} خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات المجاورة للبشر، أي يعلم ما يهلك في البر والبحر. ويقال: يعلم ما في البر من النبات والحب والنوى، وما في البحر من الدواب ورزق ما فيها }وما تسقط من ورقة إلا يعلمها} روى يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من زرع على الأرض ولا ثمار على الأشجار ولا حبة في ظلمات الأرض إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم رزق فلان بن فلان) وذلك قوله في محكم كتابه{وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}. وحكى النقاش عن جعفر بن محمد أن الورقة يراد بها السقط من أولاد بني آدم، والحبة يراد بها الذي ليس بسقط، والرطب يراد به الحي، واليابس يراد به الميت. قال ابن عطية: وهذا قول جار على طريقة الرموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه. وقيل: المعنى }وما تسقط من ورقة} أي من ورقة الشجر إلا يعلم متى تسقط وأين تسقط وكم تدور في الهواء، ولا حبة إلا يعلم متى تنبت وكم تنبت ومن يأكلها، }وظلمات الأرض} بطونها وهذا أصح؛ فإنه موافق للحديث وهو مقتضى الآية. والله الموفق للهداية. وقيل{في ظلمات الأرض} يعني الصخرة التي هي أسفل الأرضين السابعة. }ولا رطب ولا يابس} بالخفض عطفا على اللفظ. وقرأ ابن السميقع والحسن وغيرهما بالرفع فيهما عطفا على موضع }من ورق}؛ فـ } من} على هذا للتوكيد }إلا في كتاب مبين} أي في اللوح المحفوظ لتعتبر الملائكة بذلك، لا أنه سبحانه كتب ذلك لنسيان يلحقه، تعالى عن ذلك. وقيل: كتبه وهو يعلمه لتعظيم الأمر، أي اعلموا أن هذا الذي ليس فيه ثواب ولا عقاب مكتوب، فكيف بما فيه ثواب وعقاب.
الآية رقم ( 60 )
{وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون}
قوله تعالى{وهو الذي يتوفاكم بالليل} أي ينيمكم فيقبض نفوسكم التي بها تميزون، وليس ذلك موتا حقيقة بل هو قبض الأرواح عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت. والتوفي استيفاء الشيء. وتوفي الميت استوفى عدد أيام عمره، والذي ينام كأنه استوفى حركاته في اليقظة. والوفاة الموت. وأوفيتك المال، وتوفيته، واستوفيته إذا أخذته أجمع. وقال الشاعر:
إن بني الأدرد ليسوا من أحد ولا توفاهم قريش في العدد
ويقال: إن الروح إذا خرج من البدن في المنام تبقى فيه الحياة؛ ولهذا تكون فيه الحركة والتنفس، فإذا انقضى عمره خرج روحه وتنقطع حياته، وصار ميتا لا يتحرك ولا يتنفس. وقال بعضهم. لا تخرج منه الروح، ولكن يخرج منه الذهن. ويقال: هذا أمر لا يعرف حقيقته إلا الله تعالى. وهذا أصح الأقاويل، والله أعلم. }ثم يبعثكم فيه} أي في النهار؛ ويعني اليقظة. }ليقضى أجل مسمى} أي ليستوفي كل إنسان أجلا ضرب له. وقرأ أبو رجاء وطلحة بن مصرف }ليقضي أجلا مسمى} أي عنده. }جرحتم} كسبتم، وقد تقدم في (المائدة). وفي الآية تقديم وتأخير، والتقدير وهو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار ويعلم ما جرحتم فيه؛ فقدم الأهم الذي من أجله وقع البعث في النهار. وقال ابن جريج }ثم يبعثكم فيه} أي في المنام. ومعنى الآية: إن إمهاله تعالى للكفار ليس لغفلة عن كفرهم فإنه أحصى كل شيء عددا وعلمه وأثبته، ولكن ليقضي أجلا مسمى من رزق وحياة، ثم يرجعون إليه فيجازيهم. وقد دل على الحشر والنشر بالبعث؛ لأن النشأة الثانية منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر.
الآية رقم ( 61 )
{وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون}
قوله تعالى{وهو القاهر فوق عباده} يعني فوقية المكانة والرتبة لا فوقية المكان والجهة. }ويرسل عليكم حفظة} أي من الملائكة. والإرسال حقيقته إطلاق الشيء بما حمل من الرسالة؛ فإرسال الملائكة بما حملوا من الحفظ الذي أمروا به، كما قال{وإن عليكم لحافظين}الانفطار: 10] أي ملائكة تحفظ أعمال العباد وتحفظهم من الآفات. والحفظة جمع حافظ، مثل الكتبة والكاتب. ويقال: إنهما ملكان بالليل وملكان بالنهار، يكتب أحدهما الخير والآخر الشر، إذا مشى الإنسان يكون أحدهما بين يديه والآخر وراءه، وإذا جلس يكون أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله؛ لقوله تعالى{عن اليمين وعن الشمال قعيد}ق: 17]. ويقال: لكل إنسان خمسة من الملائكة: اثنان بالليل، واثنان بالنهار، والخامس لا يفارقه ليلا ولا نهارا. والله أعلم. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
ومن الناس من يعيش شقيا جاهل القلب غافل اليقظه
فإذا كان ذا وفاء ورأي حذر الموت واتقى الحفظه
إنما الناس راحل ومقيم فالذي بان للمقيم عظه
قوله تعالى{حتى إذا جاء أحدكم الموت} يريد أسبابه؛ كما تقدم في سورة (البقرة). }توفته رسلنا} على تأنيث الجماعة؛ كما قال{ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات}المائدة: 32] و}كذبت رسل}فاطر: 4]. وقرأ حمزة }توفاه رسلنا} على تذكير الجمع. وقرأ الأعمش }تتوفاه رسلنا} بزيادة تاء والتذكير. والمراد أعوان ملك الموت؛ قاله ابن عباس وغيره. ويروى أنهم يسلون الروح من الجسد حتى إذا كان عند قبضها قبضها ملك الموت. وقال الكلبي: يقبض ملك الموت الروح من الجسد ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة إن كان مؤمنا أو إلى ملائكة العذاب إن كان كافرا. ويقال: معه سبعة من ملائكة الرحمة وسبعة من ملائكة العذاب؛ فإذا قبض نفسا مؤمنة دفعها إلى ملائكة الرحمة فيبشرونها بالثواب ويصعدون بها إلى السماء، إذا قبض نفسا كافرة دفعها إلى ملائكة العذاب فيبشرونها بالعذاب ويفزعونها، ثم يصعدون بها إلى السماء ثم ترد إلى سجين، وروح المؤمن إلى عليين. والتوفي تارة يضاف إلى ملك الموت؛ كما قال{قل يتوفاكم ملك الموت}السجدة: 11] وتارة إلى الملائكة لأنهم يتولون ذلك؛ كما في هذه الآية وغيرها. وتارة إلى الله وهو المتوفي على الحقيقة؛ كما قال{الله يتوفى الأنفس حين موتها}الزمر: 42] }قل الله يحييكم ثم يميتكم}الجاثية: 26] }الذي خلق الموت والحياة}الملك: 2] فكل مأمور من الملائكة فإنما يفعل ما أمر به. }وهم لا يفرطون} أي لا يضيعون ولا يقصرون، أي يطيعون أمر الله. وأصله من التقدم، كما تقدم. فمعنى فرط قدم العجز. وقال أبو عبيدة: لا يتوانون. وقرأ عبيد بن عمير }لا يفرطون} بالتخفيف، أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به الإكرام والإهانة.
الآية رقم ( 62 )
{ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين}
قوله تعالى{ثم ردوا إلى الله} أي ردهم الله بالبعث للحساب. }مولاهم الحق} أي خالقهم ورازقهم وباعثهم ومالكهم. }الحق} بالخفض قراءة الجمهور، على النعت والصفة لاسم الله تعالى. وقرأ الحسن }الحق} بالنصب على إضمار أعني، أو على المصدر، أي حقا. }ألا له الحكم} أي اعلموا وقولوا له الحكم وحده يوم القيامة، أي القضاء والفصل. }وهو أسرع الحاسبين} أي لا يحتاج إلى فكرة وروية ولا عقد يد. وقد تقدم.
الآية رقم ( 63 )
{قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين}
قوله تعالى{قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} أي شدائدهما؛ يقال: يوم مظلم أي شديد. قال النحاس: والعرب تقول: يوم مظلم إذا كان شديدا، فإن عظمت ذلك قالت: يوم ذو كواكب؛ وأنشد سيبويه:
بني أسد هل تعلمون بلاءنا إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا
وجمع }الظلمات} على أنه يعني ظلمة البر وظلمة البحر وظلمة الليل وظلمة الغيم، أي إذا أخطأتم الطريق وخفتم الهلاك دعوتموه }لئن أنجانا من هذه} أي من هذه الشدائد }لنكونن من الشاكرين} أي من الطائعين. فوبخهم الله في دعائهم إياه عند الشدائد، وهم يدعون معه في حال الرخاء غيره بقوله{ثم أنتم تشركون}. وقرأ الأعمش }وخيفة} من الخوف، وقرأ أبو بكر عن عاصم }خفية} بكسر الخاء، والباقون بضمها، لغتان. وزاد الفراء خفوة وخفوة. قال: ونظيره حبية وحبية وحبوة وحبوة. وقراءة الأعمش بعيدة؛ لأن معنى }تضرعا} أن تظهروا التذلل و}خفية} أن تبطنوا مثل ذلك. وقرأ الكوفيون }لئن أنجانا} واتساق المعنى بالتاء؛ كما قرأ أهل المدينة وأهل الشأم.
الآية رقم ( 64 )
{قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون}
قوله تعالى{قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب} وقرأ الكوفيون }ينجيكم} بالتشديد، الباقون بالتخفيف. قيل: معناهما واحد مثل نجا وأنجيته ونجيته. وقيل: التشديد للتكثير. والكرب: الغم يأخذ بالنفس؛ يقال منه: رجل مكروب. قال عنترة:
ومكروب كشفت الكرب عنه بطعنة فيصل لما دعاني
والكربة مشتقة من ذلك.
قوله تعالى{ثم أنتم تشركون} تقريع وتوبيخ؛ مثل قوله في أول السورة }ثم أنتم تمترون}. لأن الحجة إذا قامت بعد المعرفة وجب الإخلاص، وهم قد جعلوا بدلا منه وهو الإشراك؛ فحسن أن يقرعوا ويوبخوا على هذه الجهة وإن كانوا مشركين قبل النجاة.
الآية رقم ( 65 )
{قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون}
قوله تعالى{قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا} أي القادر على إنجائكم من الكرب، قادر على تعذيبكم. ومعنى }من فوقكم} الرجم بالحجارة والطوفان والصيحة والريح؛ كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح؛ عن مجاهد وابن جبير وغيرهما. }أو من تحت أرجلكم} الخسف والرجفة؛ كما فعل بقارون وأصحاب مدين. وقيل{من فوقكم} يعني الأمراء الظلمة، }ومن تحت أرجلكم} يعني السفلة وعبيد السوء؛ عن ابن عباس ومجاهد أيضا. }أو يلبسكم شيعا} وروي عن أبي عبدالله المدني }أو يلبسكم} بضم الياء، أي يجللكم العذاب ويعمكم به، وهذا من اللبس بضم الأول، وقراءة الفتح من اللبس. وهو موضع مشكل والأعراب يبينه. أي يلبس عليكم أمركم، فحذف أحد المفعولين وحرف الجر؛ كما قال{وإذا كالوهم أو وزنوهم}المطففين: 3] وهذا اللبس بأن يخلط أمرهم فيجعلهم مختلفي الأهواء؛ عن ابن عباس. وقيل: معنى }يلبسكم شيعا} بقوي عدوكم حتى يخالطكم وإذا خالطكم فقد لبسكم. }شيعا} معناه فرقا. وقيل يجعلكم فرقا يقاتل بعضكم بعضا؛ وذلك بتخليط أمرهم وافتراق أمرائهم على طلب الدنيا. وهو معنى قوله }ويذيق بعضكم بأس بعض} أي بالحرب والقتل في الفتنة؛ عن مجاهد. والآية عامة في المسلمين والكفار. وقيل هي في الكفار خاصة. وقال الحسن: هي في أهل الصلاة.
قلت: وهو الصحيح؛ فإنه المشاهد في الوجود، فقد لبسنا العدو في ديارنا واستولى على أنفسنا وأموالنا، مع الفتنة المستولية علينا بقتل بعضنا بعضا واستباحة بعضنا أموال بعض. نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. وعن الحسن أيضا أنه تأول ذلك فيما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم. روى مسلم عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا). وروى النسائي عن خباب بن الأرت، وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه راقب رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة كلها حتى كان مع الفجر، فلما سلم رسول الله من صلاته جاءه خباب فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجل إنها صلاة رغب ورهب سألت الله عز وجل فيها ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي عز وجل ألا يهلكنا بما أهلك به الأمم فأعطانيها وسألت ربي عز وجل ألا يظهر علينا عدوا من غيرنا فأعطانيها وسألت ربي عز وجل ألا يلبسنا شيعا فمنعنيها). وقد أتينا على هذه الأخبار في كتاب (التذكرة) والحمد لله. وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: (يا جبريل ما بقاء أمتي على ذلك)؟ فقال له جبريل: (إنما أنا عبد مثلك فادع ربك وسله لأمتك) فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ وأسبغ الوضوء وصلى وأحسن الصلاة، ثم دعا فنزل جبريل وقال: (يا محمد إن الله تعالى سمع مقالتك وأجارهم من خصلتين وهو العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم). فقال: (يا جبريل ما بقاء أمتي إذا كان فيهم أهواء مختلفة ويذيق بعضهم بأس بعض)؟ فنزل جبريل بهذه الآية{الم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا}العنكبوت: 1 - 2] الآية. وروى عمرو بن دينار عن جابر بن عبدالله قال: لما نزلت هذه الآية }قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجه الله} فلما نزلت }أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: (هاتان أهون). وفي سنن ابن ماجة عن ابن عمر قال: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يصبح: ويمسي اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة. اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي. اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي). قال وكيع: يعني الخسف.
قوله تعالى{انظر كيف نصرف الآيات} أي نبين لهم الحجج والدلالات. }لعلهم يفقهون} يريد بطلان ما هم عليه من الشرك والمعاصي.
الآية رقم ( 66 )
{وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل}
قوله تعالى{وكذب به قومك} أي بالقرآن. وقرأ ابن أبي عبلة }وكذبت}. بالتاء. }وهو الحق} أي القصص الحق. }قل لست عليكم بوكيل} قال الحسن: لست بحافظ أعمالكم حتى أجازيكم عليها، إنما أنا منذر وقد بلغت؛ نظيره }وما أنا عليكم بحفيظ}هود: 86] أي أحفظ عليكم أعمالكم. ثم قيل: هذا منسوخ بآية القتال. وقيل: ليس بمنسوخ، إذ لم يكن في وسعه إيمانهم.
الآية رقم ( 67 )
{لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون}
قوله تعالى{لكل نبأ مستقر} لكل خبر حقيقة، أي لكل شيء وقت يقع فيه من غير تقدم وتأخر. وقيل: أي لكل عمل جزاء. قال الحسن: هذا وعيد من الله تعالى للكفار؛ لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث. الزجاج: يجوز أن يكون وعيدا بما ينزل بهم في الدنيا. قال السدي: استقر يوم بدر ما كان يعدهم به من العذاب. وذكر الثعلبي أنه رأى في بعض التفاسير أن هذه الآية نافعة من وجع الضرس إذا كتبت على كاغد ووضع على السن.
الآية رقم ( 68 )
{وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}
قوله تعالى{وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} بالتكذيب والرد والاستهزاء }فأعرض عنهم} والخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه. وهو صحيح؛ فإن العلة سماع الخوض في آيات الله، وذلك يشملهم وإياه. وقيل: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وحد؛ لأن قيامه عن المشركين كان يشق عليهم، ولم يكن المؤمنون عندهم كذلك؛ فأمر أن ينابذهم بالقيام عنهم إذا استهزؤوا وخاضوا ليتأدبوا بذلك ويدعوا الخوض والاستهزاء. والخوض أصله في الماء، ثم استعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل، تشبيها بغمرات الماء فاستعير من المحسوس للمعقول. وقيل: هو مأخوذ من الخلط. وكل شيء خضته فقد خلطته؛ ومنه خاض الماء بالعسل خلط. فأدب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية؛ لأنه كان يقعد إلى قوم من المشركين يعظهم ويدعوهم فيستهزؤون بالقرآن؛ فأمره الله أن يعرض عنهم إعراض منكر. ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكرا وعلم أنه لا يقبل منه فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه. وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله{وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} قال: هم الذين يستهزؤون بكتاب الله، نهاه الله عن أن يجلس معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر قام. وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هم الذين يقولون في القرآن غير الحق.
في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم لهم أن يخالطوا الفاسقين ويصوبوا آراءهم تقية. وذكر الطبري عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه أنه قال: لا تجالسوا أهل الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله. قال ابن العربي: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل. قال ابن خويز منداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر، مؤمنا كان أو كافرا. قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع، ومجالس الكفار وأهل البدع، وألا تعتقد مودتهم ولا يسمع كلامهم لا مناظرتهم. وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي: أسمع مني كلمة، فأعرض عنه وقال: ولا نصف كلمة. ومثله عن أيوب السختياني. وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها، ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له. وروى أبو عبدالله الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام). فبطل بهذا كله قول من زعم أن مجالستهم جائزة إذا صانوا أسماعهم.
قوله تعالى{وإما ينسينك} }إما} شرط، فيلزمها النون الثقيلة في الأغلب وقد لا تلزم؛ كما قال:
إما يصبك عدو في مناوأة يوما فقد كنت تستعلي وتنتصر
وقرأ ابن عباس وابن عامر }ينسينك} بتشديد السين على التكثير؛ يقال: نسى وأنسى بمعنى واحد لغتان؛ قال الشاعر:
قالت سليمى أتسري اليوم أم تقل وقد ينسيك بعض الحاجة الكسل
وقال امرؤ القيس:
تنسني إذا قمت سربالي
المعنى: يا محمد إن أنساك الشيطان أن تقوم عنهم فجالستهم بعد النهي. }فلا تقعد بعد الذكرى} أي إذا ذكرت فلا تقعد }مع القوم الظالمين يعني المشركين. والذكرى اسم للتذكير.
قيل: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته؛ ذهبوا إلى تبرئته عليه السلام من النسيان. وقيل: هو خاص به، والنسيان جائز عليه. قال ابن العربي: وإن عذرنا أصحابنا في قولهم إن قوله تعالى{لئن أشركت ليحبطن عملك}الزمر: 65] خطاب للأمة باسم النبي صلى الله عليه وسلم لاستحالة الشرك عليه، فلا عذر لهم في هذا لجواز النسيان عليه. قال عليه السلام؛ (نسي آدم فنسيت ذريته) خرجه الترمذي وصححه. وقال مخبرا عن نفسه: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني). خرجه في الصحيح، فأضاف النسيان إليه. وقال وقد سمع قراءة رجل: (لقد أذكرني آية كذا وكذا كنت أنسيتها). واختلفوا بعد جواز النسيان عليه؛ هل يكون فيما طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع أم لا.؟ فذهب إلى الأول فيما ذكره القاضي عياض عامة العلماء والأئمة النظار؛ كما هو ظاهر القرآن والأحاديث، لكن شرط الأئمة أن الله تعالى ينبهه على ذلك ولا يقره عليه. ثم اختلفوا هل من شرط التنبيه اتصال بالحادثة على الفور، وهو مذهب القاضي أبي بكر والأكثر من العلماء، أو يجوز في ذلك التراخي ما لم ينخرم عمره وينقطع تبليغه، وإليه نحا أبو المعالي. ومنعت طائفة من العلماء السهو عليه في الأفعال البلاغية والعبادات الشرعية؛ كما منعوه اتفاقا في الأقوال البلاغية، واعتذروا عن الظواهر الواردة في ذلك؛ وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق. وشذت الباطنية وطائفة من أرباب علم القلوب فقالوا: لا يجوز النسيان عليه، وإنما ينسى قصدا ويتعمد صورة النسيان ليسن. ونحا إلى هذا عظيم من أئمة التحقيق وهو أبو المظفر الإسفراييني في كتابه (الأوسط) وهو منحى غير سديد، وجمع الضد مع الضد مستحيل بعيد.
{وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون}
قال ابن عباس: لما نزل لا تقعدوا مع المشركين وهو المراد بقوله{فأعرض عنهم} قال المسلمون: لا يمكننا دخول المسجد والطواف؛ فنزلت هذه الآية. }ولكن ذكرى} أي فإن قعدوا يعني المؤمنين فليذكروهم. }لعلهم يتقون} الله في ترك ما هم فيه. ثم قيل: نسخ هذا بقوله{وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره}النساء: 140]. وإنما كانت الرخصة قبل الفتح وكان الوقت وقت تقية. وأشار بقول{وقد نزل عليكم في الكتاب}النساء: 140] إلى قوله{وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا}الأنعام: 70]. قال القشيري: والأظهر أن الآية ليست منسوخة. والمعنى: ما عليكم شيء من حساب المشركين، فعليكم بتذكيرهم وزجرهم فإن أبوا فحسابهم على الله. و}ذكرى} في موضع نصب على المصدر، ويجوز أن تكون في موضع رفع؛ أي ولكن الذي يفعلونه ذكرى، أي ولكن عليهم ذكرى. وقال الكسائي: المعنى ولكن هذه ذكرى.
الآية رقم ( 70 )
{وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون}
قوله تعالى{وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا} أي لا تعلق قلبك بهم فإنهم أهل تعنت إن كنت مأمورا بوعظهم. قال قتادة: هذا منسوخ، نسخه }فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}التوبة: 5]. ومعنى }لعبا ولهوا} أي استهزاء بالدين الذي دعوتهم إليه. وقيل: استهزؤوا بالدين الذي هم عليه فلم يعملوا به. والاستهزاء ليس مسوغا في دين. وقيل{لعبا ولهوا} باطلا وفرحا، وقد تقدم هذا. وجاء اللعب مقدما في أربعة مواضع، وقد نظمت.
إذا أتى لعب ولهو وكم من موضع هو في القرآن
فحرف في الحديد وفي القتال وفي الأنعام منها موضعان
وقيل: المراد بالدين هنا العيد. قال الكلبي: إن الله تعالى جعل لكل قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه لله تعالى، وكل قوم اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم اتخذوه وصلاة وذكرا وحضورا بالصدقة، مثل الجمعة والفطر والنحر.
قوله تعالى{وغرتهم الحياة الدنيا} أي لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا. }وذكر به} أي بالقرآن أو بالحساب. }أن تبسل نفس بما كسبت} أي ترتهن وتسلم للهلكة؛ عن مجاهد وقتادة والحسن وعكرمة والسدي. والإبسال: تسليم المرء للهلاك؛ هذا هو المعروف في اللغة. أبسلت ولدي أرهنته؛ قال عوف بن الأحوص بن جعفر:
وإبسالي بني بغير جرم بعوناه ولا بدم مراق
{بعوناه} بالعين المهملة معناه جنيناه. والبعو الجناية. وكان حمل عن غني لبني قشير دم ابني السجيفة فقالوا: لا نرضى بك؛ فرهنهم بنيه طلبا للصلح. وأنشد النابغة الجعدي:
ونحن رهنا بالأفاقة عامرا بما كان في الدرداء رهنا فأبسلا
الدرداء: كتيبة كانت لهم. }ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع} تقدم معناه.
قوله تعالى{وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها} الآية. العدل الفدية، والحميم الماء الحار؛ وفي التنزيل }يصب من فوق رؤوسهم الحميم}الحج: 19] الآية. }يطوفون بينها وبين حميم آن}الرحمن: 44]. والآية منسوخة بآية القتال. وقيل: ليست بمنسوخة؛ لأن قوله{وذر الذين اتخذوا دينهم} تهديد؛ كقول{ذرهم يأكلوا ويتمتعوا}الحجر: 3]. ومعناه لا تحزن عليهم؛ فإنما عليك التبليغ والتذكير بإبسال النفوس. فمن أبسل فقد أسلم وارتهن. وقيل: أصله التحريم، من قولهم: هذا بسل عليك أي حرام؛ فكأنهم حرموا الجنة وحرمت عليهم الجنة. قال الشاعر:
أجارتكم بسل علينا محرم وجارتنا حل لكم وحليلها
والإبسال: التحريم.
الآية رقم ( 71 : 72 )
{قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين، وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون}
قوله تعالى{قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا} أي ما لا ينفعنا إن دعوناه. }ولا يضرنا} إن تركناه؛ يريد الأصنام. }ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله} أي نرجع إلى الضلالة بعد الهدى. وواحد الأعقاب عقب وهو مؤنث، وتصغيره عقيبة. يقال: رجع فلان على عقبيه، إذا أدبر. قال أبو عبيدة: يقال لمن رد عن حاجته ولم يظفر بها: قد رد على عقبيه. وقال المبرد: معناه تعقب بالشر بعد الخير. وأصله من العاقبة والعقبى وهما ما كان تاليا للشيء واجبا أن يتبعه؛ ومنه }والعاقبة للمتقين}الأعراف: 128]. ومنه عقب الرجل. ومنه العقوبة، لأنها تالية للذنب، وعنه تكون.
قوله تعالى{كالذي} الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف. }استهوته الشياطين في الأرض حيران} أي استغوته وزينت له هواه ودعته إليه. يقال: هوى يهوي إلى الشيء أسرع إليه. وقال الزجاج: هو من هوى يهوي، من هوى النفس؛ أي زين له الشيطان هواه. وقراءة الجماعة }استهوته} أي هوت به، على تأنيث الجماعة. وقرأ حمزة }استهواه الشياطين} على تذكير الجمع. وروي عن ابن مسعود }استهواه الشيطان}، وروي عن الحسن، وهو كذلك في حرف أبي. ومعنى }ائتنا} تابعنا. وفي قراءة عبدالله أيضا }يدعونه إلى الهدى بينا}. وعن الحسن أيضا }استهوته الشياطون}. }حيران} نصب على الحال، ولم ينصرف لأن أنثاه حيرى كسكران وسكرى وغضبان وغضبى. والحيران هو الذي لا يهتدي لجهة أمره. وقد حار يحار حيرا وحيرورة، أي تردد. وبه سمي الماء المستنقع الذي لا منفذ له حائرا، والجمع حوران. والحائر الموضع الذي يتحير فيه الماء. قال الشاعر:
تخطو على برديتين غذاهما غدق بساحة حائر يعبوب
قال ابن عباس: أي مثل عابد الصنم مثل من دعاه الغول فيتبعه فيصبح وقد ألقته في مضلة ومهلكة؛ فهو حائر في تلك المهامه. وقال في رواية أبي صالح: نزلت في عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق، كان يدعو أباه إلى الكفر وأبواه يدعوانه إلى الإسلام والمسلمون؛ وهو معنى قوله{له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى} فيأبى. قال أبو عمر: أمه أم رومان بنت الحارث بن غنم الكنانية؛ فهو شقيق عائشة. وشهد عبدالرحمن بن أبي بكر بدرا وأحدا مع قومه وهو كافر، ودعا إلى البراز فقام إليه أبوه ليبارزه فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له (متعني بنفسك). ثم أسلم وحسن إسلامه، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية. هذا قول أهل السير. قالوا: كان اسمه عبدالكعبة فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه عبدالرحمن، وكان أسن ولد أبي بكر. قال: إنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم أربعة ولاء: أب وبنوه إلا أبا قحافة وابنه أبا بكر وابنه عبدالرحمن بن أبي بكر وابنه أبا عتيق محمد بن عبدالرحمن. والله أعلم.
قوله تعالى{وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه} اللام لام كي، أي أمرنا كي نسلم وبأن أقيموا الصلاة؛ لأن حروف الإضافة يعطف بعضها على بعض. قال الفراء: المعنى أمرنا بأن نسلم؛ لأن العرب تقول: أمرتك لتذهب، وبأن تذهب بمعنى. قال النحاس: سمعت أبا الحسن بن كيسان يقول هي لام الخفض، واللامات كلها ثلاث: لام خفض ولام أمر ولام توكيد، لا يخرج شيء عنها. والإسلام الإخلاص. وإقامة الصلاة الإتيان بها والدوام عليها. ويجوز أن يكون }وأن أقيموا الصلاة} عطفا على المعنى، أي يدعونه إلى الهدى ويدعونه أن أقيموا الصلاة؛ لأن معنى ائتنا أن ائتنا.
قوله تعالى{وهو الذي إليه تحشرون} ابتداء وخبر وكذا }وهو الذي خلق السماوات والأرض} أي فهو الذي يجب أن يعبد لا الأصنام. ومعنى }بالحق} أي بكلمة الحق. يعني قوله }كن}.
الآية رقم ( 73 )
{وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير}
قوله تعالى{ويوم يقول كن فيكون} أي واذكر يوم يقول كن. أو اتقوا يوم يقول كن. أو قدر يوم يقول كن. وقيل: هو عطف على الهاء في قوله{واتقوه} قال الفراء{كن فيكون} يقال: إنه للصور خاصة؛ أي ويوم يقول للصور كن فيكون. وقيل: المعنى فيكون جميع ما أراد من موت الناس وحياتهم وعلى هذين التأويلين يكون }قوله الحق} ابتداء وخبرا. وقيل: إن قوله تعالى{قوله} رفع بيكون؛ أي فيكون ما يأمر به. }الحق} من نعته. ويكون التمام على هذا }فيكون قوله الحق}. وقرأ ابن عامر }فيكون} بالنصب، وهو إشارة إلى سرعة الحساب والبعث. وقد تقدم في (البقرة) مستوفى.
قوله تعالى{يوم ينفخ في الصور} أي وله الملك يوم ينفخ في الصور. أو وله الحق يوم ينفخ في الصور. وقيل: هو بدل من }يوم يقول}. والصور قرن من نور ينفخ فيه، النفخة الأولى للفناء والثانية للإنشاء. وليس جمع صورة كما زعم بعضهم؛ أي ينفخ في صور الموتى على ما نبينه. روى مسلم من حديث عبدالله بن عمرو (..... ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا - قال - وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله قال ويصعق الناس ثم يرسل الله أو قال ينزل الله مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) وذكر الحديث. وكذا في التنزيل }ثم نفخ فيه أخرى}الزمر: 68] ولم يقل فيها؛ فعلم أنه ليس جمع الصورة. والأمم مجمعة على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه السلام. قال أبو الهيثم: من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن ينكر العرش والميزان والصراط، وطلب لها تأويلات. قال ابن فارس: الصور الذي في الحديث كالقرن ينفخ فيه، والصور جمع صورة. وقال الجوهري: الصور القرن. قال الراجز:
لقد نطحنا هم غداة الجمعين نطحا شديدا لا كنطح الصورتين
ومنه قوله{ويوم ينفخ في صور}. قال الكلبي: لا أدري ما هو الصور. ويقال: هو جمع صورة مثل بسرة وبسر؛ أي ينفخ في صور الموتى والأرواح. وقرأ الحسن }(يوم ينفخ في الصور}. والصور (بكسر الصاد) لغة في الصور جمع صورة والجمع صوار، وصيار (بالياء لغة فيه. وقال عمرو بن عبيد: قرأ عياض }يوم ينفخ في الصور} فهذا يعني به الخلق. والله أعلم.
قلت: وممن قال إن المراد بالصور في هذه الآية جمع صورة أبو عبيدة. وهذا وإن كان محتملا فهو مردود بما ذكرناه من الكتاب والسنة. وأيضا لا ينفخ في الصور للبعث مرتين؛ بل ينفخ فيه مرة واحدة؛ فإسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور الذي هو القرن والله عز وجل يحيى الصور. وفي التنزيل }فنفخنا فيه من روحنا}التحريم: 12].
قوله تعالى{عالم الغيب والشهادة} برفع }عالم} صفة لـ }الذي}؛ أي وهو الذي خلق السماوات والأرض عالم الغيب. ويجوز أن يرتفع على إضمار المبتدأ. وقد روي عن بعضهم أنه قرأ }ينفخ} فيجوز أن يكون الفاعل }عالم الغيب}؛ لأنه إذا كان النفخ فيه بأمر الله عز وجل كان منسوبا إلى الله تعالى. ويجوز أن يكون ارتفع }عالم} حملا على المعنى؛ كما أنشد سيبويه:
لبيك يزيد ضارع لخصومة
وقرأ الحسن والأعمش }عالم} بالخفض على البدل من الهاء التي في }له}.
الآية رقم ( 74 )
{وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين}
قوله تعالى{وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} تكلم العلماء في هذا؛ فقال أبو بكر محمد بن محمد بن الحسن الجويني الشافعي الأشعري في النكت من التفسير له: وليس بين الناس اختلاف؛ كأن اسم والد إبراهيم تارح. والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر. وقيل: آزر عندهم ذم في لغتهم؛ كأنه قال: وإذ قال لأبيه يا مخطئ }أتتخذ أصناما آلهة} وإذا كان كذلك فالاختيار الرفع. وقيل: آزر اسم صنم. وإذا كان كذلك فموضعه نصب على إضمار الفعل؛ كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه أتتخذ آزر إلها، أتتخذ أصناما آلهة.
قلت: ما ادعاه من الاتفاق ليس عليه وفاق؛ فقد قال محمد بن إسحاق والكلبي والضحاك: إن آزر أبو إبراهيم عليه السلام وهو تاريخ، مثل إسرائيل ويعقوب؛ قلت فيكون له اسمان كما تقدم. وقال مقاتل: آزر لقب، وتارخ اسم: وحكاه الثعلبي عن ابن إسحاق القشيري ويجوز أن يكون على العكس. قال الحسن: كان اسم أبيه آزر. وقال سليمان التيمي: هو سب وعيب، ومعناه في كلامهم: المعوج. وروى المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: بلغني أنها أعوج، وهي أشد كلمة قالها إبراهيم لأبيه. وقال الضحاك: معنى آزر الشيخ الهم بالفارسية. وقال الفراء: هي صفة ذم بلغتهم؛ كأن قال يا مخطئ؛ فيمن رفعه. أو كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه المخطئ؛ فيمن خفض. ولا ينصرف لأنه على أفعل؛ قاله النحاس. وقال الجوهري: آزر اسم أعجمي، وهو مشتق من آزر فلان فلانا إذا عاونه؛ فهو مؤازر قومه على عبادة الأصنام وقيل: هو مشتق من القوة، والآزر القوة؛ عن ابن فارس. وقال مجاهد ويمان: آزر اسم صنم. وهو في هذا التأويل في موضع نصب، التقدير: أتتخذ آزر إلها، أتتخذ أصناما. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: أتتخذ آزر أصناما.
قلت: فعلى هذا آزر اسم جنس. والله أعلم. وقال الثعلبي في كتاب العرائس: إن اسم أبي إبراهيم الذي سماه به أبوه تارح، فلما صار مع النمروذ قيما على خزانة آلهته سماه آزر. وقال مجاهد: إن آزر ليس باسم أبيه وإنما هو اسم صنم. وهو إبراهيم بن تارح بن ناخور بن ساروع بن أوغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام. و}آزر} فيه قراءات{أإزرا} بهمزتين، الأولى مفتوحة والثانية مكسورة؛ عن ابن عباس. وعنه }أأزرا} بهمزتين مفتوحتين. وقرئ بالرفع، وروي ذلك عن ابن عباس. وعلى القراءتين الأوليين عنه }تتخذ} بغير همزة. قال المهدوي: أإزرا؟ فقيل: إنه اسم صنم؛ فهو منصوب على تقدير أتتخذ إزرا، وكذلك أأزرا. ويجوز أن يجعل أإزرا على أنه مشتق من الأزر وهو الظهر فيكون مفعولا من أجله؛ كأنه قال: أللقوة تتخذ أصناما. ويجوز أن يكون إزر بمعنى وزر، أبدلت الواو همزة. قال القشيري: ذكر في الاحتجاج على المشركين قصة إبراهيم ووده على أبيه في عبادة الأصنام. وأولى الناس بأتباع إبراهيم العرب؛ فإنهم ذريته. أي واذكر إذ قال إبراهيم. أو }وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت}الأنعام: 70] وذكر إذ قال إبراهيم. وقرئ }آزر} أي يا آزر، على النداء المفرد، وهي قراءة أبي ويعقوب وغيرهما. وهو يقوي قول من يقول: إن آزر اسم أب إبراهيم. }أتتخذ أصناما آلهة} مفعولان لتتخذ وهو استفهام فيه معنى الإنكار.
الآية رقم ( 75 )
{وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين}
قوله تعالى{وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} أي ملك، وزيدت الواو والتاء للمبالغة في الصفة. ومثله الرغبوت والرهبوت والجبروت. وقرأ أبو السمال العدوي }ملكوت} بإسكان اللام. ولا يجوز عند سيبويه حذف الفتحة لخفتها، ولعلها لغة. و}نري} بمعنى أرينا؛ فهو بمعنى المضي. فقيل: أراد به ما في السماوات من عبادة الملائكة والعجائب وما في الأرض من عصيان بني آدم؛ فكان يدعو على من يراه يعصي فيهلكه الله، فأوحى الله إليه يا إبراهيم أمسك عن عبادي، أما علمت أن من أسمائي الصبور. روى معناه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: كشف الله له عن السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين. وروى ابن جريج عن القاسم عن إبراهيم النخعي قال: فرجت له السماوات السبع فنظر إليهن حتى انتهى إلى العرش، وفرجت له الأرضون فنظر إليهن، ورأى مكانه في الجنة؛ فذلك قوله{وآتيناه أجره في الدنيا}العنكبوت: 27] عن السدي. وقال الضحاك: أراه من ملكوت السماء ما قصه من الكواكب، ومن ملكوت الأرض البحار والجبال والأشجار، ونحو ذلك مما استدل به. وقال بنحوه ابن عباس. وقال: جعل حين ولد في سرب وجعل رزقه في أطراف أصابعه فكان يمصها، وكان نمروذ اللعين رأى رؤيا فعبرت له أنه يذهب ملكه على يدي مولود يولد؛ فأمر بعزل الرجال عن النساء. وقيل: أمر بقتل كل مولود ذكر. وكان آزر من المقربين عند الملك نمروذ فأرسله يوما في بعض حوائجه فواقع امرأته فحملت بإبراهيم. وقيل: بل واقعها في بيت الأصنام فحملت وخرت الأصنام على وجوهها حينئذ؛ فحملها إلى بعض الشعاب حتى ولدت إبراهيم، وحفر لإبراهيم سربا في الأرض ووضع على بابه صخرة لئلا تفترسه السباع؛ وكانت أمه تختلف إليه فترضعه، وكانت تجده يمص أصابعه، من أحدها عسل ومن الآخر ماء ومن الآخر لبن، وشب فكان على سنة مثل ابن ثلاث سنين. فلما أخرجه من السرب توهمه الناس أنه ولد منذ سنين؛ فقال لأمه: من ربي؟ فقالت أنا. فقال: ومن ربك؟ قالت أبوك. قال: ومن ربه؟ قالت نمروذ. قال: ومن ربه؟ فلطمته، وعلمت أنه الذي يذهب ملكهم على يديه. والقصص في هذا تام في قصص الأنبياء للكسائي، وهو كتاب مما يقتدى به. وقال بعضهم: كان مولده بحران ولكن أبوه نقله إلى أرض بابل. وقال عامة السلف من أهل العلم: ولد إبراهيم في زمن النمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن كوش بن سام بن نوج. وقد مضى ذكره في }البقرة}. وكان بين الطوفان وبين مولد إبراهيم ألف ومائتا سنة وثلاث وستون سنة؛ وذلك بعد خلق آدم بثلاث آلاف سنة وثلاثمائة سنة وثلاثين سنة.
قوله تعالى{وليكون من الموقنين} أي وليكون من الموقنين أريناه ذلك؛ أي الملكوت.
الآية رقم ( 76 )
{فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين}
قوله تعالى{فلما جن عليه الليل} أي ستره بظلمته، ومنه الجنة والجنة والجنة والجنين والمجن والجن كله بمعنى الستر. وجنان الليل أدلهمامه وستره. قال الشاعر:
ولولا جنان الليل أدرك ركضنا بذي الرمث والأرطى عياض بن ناشب
ويقال: جنون الليل أيضا. ويقال: جنة الليل وأجنه الليل، لغتان. }رأى كوكبا} هذه قصة أخرى غير قصة عرض الملكوت عليه. فقيل: رأى ذلك من شق الصخرة الموضوعة على رأس السرب. وقيل: لما أخرجه أبوه من السرب وكان وقت غيبوبة الشمس فرأى الإبل والخيل والغنم فقال: لا بد لها من رب. ورأى المشتري أو الزهرة ثم القمر ثم الشمس، وكان هذا في آخر الشهر. قال محمد بن إسحاق: وكان ابن خمس عشرة سنة. وقيل: ابن سبع سنين. وقيل: لما حاج نمروذا كان ابن سبع عشرة سنة.
قوله تعالى{قال هذا ربي} اختلف في معناه على أقوال؛ فقيل: كان هذا منه في مهلة النظر وحال الطفولية وقبل قيام الحجة؛ وفي تلك الحال لا يكون كفر ولا إيمان. فاستدل قائلو هذه المقالة بما روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال{فلما جن عليه الليل رأي كوكبا قال هذا ربي} فعبده حتى غاب عنه، وكذلك الشمس والقمر؛ فلما تم نظره قال{إني بريء مما تشركون}الأنعام: 78]. واستدل بالأفول؛ لأنه أظهر الآيات على الحدوث. وقال قوم: هذا لا يصح؛ وقالوا: غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف، ومن كل معبود سواه بريء. قالوا: وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وآتاه رشده من قبل، وأراه ملكوته ليكون من الموقنين، ولا يجوز أن يوصف بالخلو عن المعرفة، بل عرف الرب أول النظر. قال الزجاج: هذا الجواب عندي خطأ وغلط ممن قال؛ وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال{واجنبني وبني أن نعبد الأصنام}إبراهيم: 35] وقال جل وعز{إذ جاء ربه بقلب سليم}الصافات: 84] أي لم يشرك به قط. قال: والجواب عندي أنه قال }هذا ربي} على قولكم؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر؛ ونظير هذا قوله تعالى{أين شركائي}النحل: 27] وهو جل وعلا واحد لا شريك له. والمعنى: ابن شركائي على قولكم. وقيل: لما خرج إبراهيم من السرب رأى ضوء الكوكب وهو طالب لربه؛ فظن أنه ضوءه قال{هذا ربي} أي بأنه يتراءى لي نوره. }فلما أفل} علم أنه ليس بربه. }فلما رأى القمر بازغا}الأنعام: 77] ونظر إلى ضوئه }قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين}الأنعام: 77]. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي}الأنعام: 78] وليس هذا شركا. إنما نسب ذلك الضوء إلى ربه فلما رآه زائلا دله العلم على أنه غير مستحق لذلك؛ فنفاه بقلبه وعلم أنه مربوب وليس برب. وقيل: إنما قال }هذا ربي} لتقرير الحجة على قومه فأظهر موافقتهم؛ فلما أفل النجم قرر الحجة وقال: ما تغير لا يجوز أن يكون ربا. وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمون بها. وقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل{نور على نور}النور: 35] قال: كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه، فإذا عرفه أزداد نورا على نور؛ وكذا إبراهيم عليه السلام عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله، فعلم أن له ربا وخالقا. فلما عرفه الله عز وجل بنفسه ازداد معرفة فقال{أتحاجوني في الله وقد هدان}الأنعام: 80]. وقيل: هو على معنى الاستفهام والتوبيخ، منكرا لفعلهم. والمعنى: أهذا ربي، أو مثل هذا يكون ربا؟ فحذف الهمزة. وفي التنزيل }أفإن مت فهم الخالدون}الأنبياء: 34] أي أفهم الخالدون. وقال الهذلي:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
آخر:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا بسبع رمين الجمر أم بثمان
وقيل: المعنى هذا ربي على زعمكم؛ كما قال تعالى{أين شركائي الذين كنتم تزعمون}القصص: 74]. وقال{ذق إنك أنت العزيز الكريم}الدخان: 49] أي عند نفسك. وقيل: المعنى أي وأنتم تقولون هذا ربي؛ فأضمر القول، وإضماره في القرآن كثير. وقيل: المعنى في هذا ربي؛ أي هذا دليل على ربي.
الآية رقم ( 77 )
{فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين}
قوله تعالى{فلما رأى القمر بازغا} أي طالعا. يقال: بزغ القمر إذا ابتدأ في الطلوع، والبزغ الشق؛ كأنه يشق بنوره الظلمة؛ ومنه بزغ البيطار الدابة إذا أسال دمها. }قال لئن لم يهدني ربي} أي لم يثبتني على الهداية. وقد كان مهتديا؛ فيكون جرى هذا في مهلة النظر، أو سأل التثبيت لإمكان الجواز العقلي؛ كما قال شعيب{وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله}الأعراف: 89]. وفي التنزيل }اهدنا الصراط المستقيم}الفاتحة: 4] أي ثبتنا على الهداية. وقد تقدم.
الآية رقم ( 78 )
{فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون}
قوله تعالى{فلما رأى الشمس بازغة} نصب على الحال؛ لأن هذا من رؤية العين. بزغ يبزغ إذا طلع. وأفل يأفل أفولا إذا غاب. وقال{هذا} والشمس مؤنثة؛ لقوله }فلما أفلت} فقيل: إن تأنيث الشمس لتفخيمها وعظمها؛ فهو كقولهم: رجل نسابة وعلامة. وإنما قال{هذا ربي} على معنى: هذا الطالع ربي؛ قاله الكسائي والأخفش. وقال غيرهما: أي هذا الضوء. قال أبو الحسن علي بن سليمان: أي هذا الشخص؛ كما قال الأعشى:
قامت تبكيه على قبره من لي من بعدك يا عامر
تركتني في الدار ذا غربة قد ذل من ليس له ناصر
الآية رقم ( 79 )
{إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين}
قوله تعالى{إني وجهت وجهي} أي قصدت بعبادتي وتوحيدي لله عز وجل وحده. وذكر الوجه لأنه أظهر ما يعرف به الإنسان صاحبه. }حنيفا} مائلا إلى الحق. }وما أنا من المشركين} اسم }ما} وخبرها. وإذا وقفت قلت{أنا} زدت الألف لبيان الحركة، وهي اللغة الفصيحة. وقال الأخفش: ومن العرب من يقول{أن}. وقال الكسائي: ومن العرب من يقول{أنه}. ثلاث لغات. وفي الوصل أيضا ثلاث لغات: أن تحذف الألف في الإدراج؛ لأنها زائدة لبيان الحركة في الوقف. ومن العرب من يثبت الألف في الوصل؛ كما قال الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني
وهي لغة بعض بني قيس وربيعة؛ عن الفراء. ومن العرب من يقول في الوصل: أن فعلت، مثل عان فعلت؛ حكاه الكسائي عن بعض قضاعة.
الآية رقم ( 80 )
{وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون}
قوله تعالى{وحاجه قومه} دليل على الحجاج والجدال؟ حاجوه في توحيد الله. }قال أتحاجوني في الله} قرأ نافع بتخفيف النون، وشدد النون الباقون. وفيه عن ابن عامر من رواية هشام عنه خلاف؛ فمن شدد قال: الأصل فيه نونان، الأولى علامة الرفع والثانية فاصلة بين الفعل والياء؛ فلما اجتمع مثلان في فعل وذلك ثقيل أدغم النون في الأخرى فوقع التشديد ولا بد من مد الواو لئلا يلتقي الساكنان، الواو وأول المشدد؛ فصارت المدة فاصلة بين الساكنين. ومن خفف حذف النون الثانية استخفافا لاجتماع المثلين، ولم تحذف الأولى لأنها علامة الرفع؛ فلو حذفت لاشتبه المرفوع بالمجزوم والمنصوب. وحكي عن أبي عمرو بن العلاء أن هذه القراءة لحن. وأجاز سيبويه ذلك فقال: استثقلوا التضعيف. وأنشد:
تراه كالثغام يعل مسكا يسوء الفاليات إذا فليني
قوله تعالى{ولا أخاف ما تشركون به} أي لأنه لا ينفع ولا يضر وكانوا خوفوه بكثرة آلهتهم إلا أن يحييه الله ويقدره فيخاف ضرره حينئذ؛ وهو معنى قوله{إلا أن يشاء ربي شيئا} أي إلا أن يشاء أن يلحقني شيء من المكروه بذنب عملته فتتم مشيئته. وهذا استثناء ليس من الأول. والهاء في }به} يحتمل أن تكون لله عز وجل، ويجوز أن تكون للمعبود. وقال{إلا أن يشاء ربي} يعني أن الله تعالى لا يشاء أن أخافهم. ثم قال{وسع ربي كل شيء علما} أي وسع علمه كل شيء. وقد تقدم.
الآية رقم ( 81 : 82 )
{وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}
قوله تعالى{وكيف أخاف ما أشركتم} ففي }كيف} معنى الإنكار؛ أنكر عليهم تخويفهم إياه بالأصنام وهم لا يخافون الله عز وجل؛ أي كيف أخاف مواتا وأنتم لا تخافون الله القادر على كل شيء }ما لم ينزل به عليكم سلطانا} أي حجة؛ وقد تقدم. }فأي الفريقين أحق بالأمن} أي من عذاب الله: الموحد أم المشرك؛ فقال الله قاضيا بينهم{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} أي بشرك؛ قال أبو بكر الصديق وعلي وسلمان وحذيفة، رضي الله عنهم. وقال ابن عباس: هو من قول إبراهيم؛ كما يسأل العالم ويجيب نفسه. وقيل: هو من قول قوم إبراهيم؛ أي أجابوا بما وهو حجة عليهم؛ قاله ابن جريج. وفي الصحيحين عن ابن مسعود لما نزلت }الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه }يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}لقمان: 13]. }وهم مهتدون} أي في الدنيا.
{وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم}
قوله تعالى{وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم} تلك إشارة إلى جميع احتجاجاته حتى خاصمهم وغلبهم بالحجة. وقال مجاهد: هي قوله{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}. وقيل: حجته عليهم أنهم لما قالوا له: أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لسبك إياها؟ قال لهم: أفلا تخافون أنتم منها إذ سويتم بين الصغير والكبير في العبادة والتعظيم؛ فيغضب الكبير فيخبلكم؟. }نرفع درجات من نشاء} أي بالعلم والفهم والإمامة والملك. وقرأ الكوفيون }درجات} بالتنوين. ومثله في }يوسف} أوقعوا الفعل على }من} لأنه المرفوع في الحقيقة، التقدير: ونرفع من نشاء إلى درجات. ثم حذفت إلى. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو بغير تنوين على الإضافة، والفعل واقع على الدرجات، إذا رفعت فقد رفع صاحبها. يقوي هذه القراءة قوله تعالى{رفيع الدرجات}غافر: 15] وقوله عليه السلام{اللهم ارفع درجته). فأضاف الرفع إلى الدرجات. وهو لا إله إلا هو الرفيع المتعالي في شرفه وفضله. فالقراءتان متقاربتان؛ لأن من رفعت درجاته فقد رفع، ومن رفع فقد رفعت درجاته، فاعلم. }إن ربك حكيم عليم} يضع كل شيء موضعه.
الآية رقم ( 84 : 86 )
{ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين، وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين}
قوله تعالى{ووهبنا له إسحاق ويعقوب} أي جزاء له على الاحتجاج في الذين وبذل النفس فيه. }كلا هدينا} أي كل واحد منهم مهتد. و}كلا} نصب بـ }هدينا} }ونوحا} نصب بـ }هدينا} الثاني. }ومن ذريته} أي ذرية إبراهيم. وقيل: من ذرية نوح؛ قاله الفراء واختاره الطبري وغير واحد من المفسرين كالقشيري وابن عطية وغيرهما. والأول قاله الزجاج، واعترض بأنه عد من هذه الذرية يونس ولوط وما كانا من ذرية إبراهيم. وكان لوط ابن أخيه. وقيل: ابن أخته. وقال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء جميعا مضافون إلى ذرية إبراهيم، وإن كان فيهم من لم تلحقه ولادة من جهته من جهة أب ولا أم؛ لأن لوطا ابن أخي إبراهيم. والعرب تجعل العم أبا كما أخبر الله عن ولد يعقوب أنهم قالوا{نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق}البقرة: 133]. وإسماعيل عم يعقوب. وعد عيسى من ذرية إبراهيم وإنما هو ابن البنت. فأولاد فاطمة رضي الله عنها ذرية النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا تمسك من رأى أن ولد البنات يدخلون في اسم الولد.
قال أبو حنيفة والشافعي: من وقف وقفا على ولده وولد ولده أنه يدخل فيه ولد ولده وولد بناته ما تناسلوا. وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد البنات. والقرابة عند أبي حنيفة كل ذي رحم محرم. ويسقط عنده ابن العم والعمة وابن الخال والخالة؛ لأنهم ليسو بمحرمين. وقال الشافعي: القرابة كل ذي رحم محرم وغيره. فلم يسقط عنده ابن العم ولا غيره. وقال مالك: لا يدخل في ذلك ولد البنات. وقول: لقرابتي وعقبي كقول: لولدي وولد ولدي. يدخل في ذلك ولد البنين ومن يرجع إلى عصبة الأب وصلبه، ولا يدخل في ذلك ولد البنات. وقد تقدم نحو هذا عن الشافعي في }آل عمران}. والحجة لهما قول سبحانه{يوصيكم الله في أولادكم}النساء: 11] فلم يعقل المسلمون من ظاهر الآية إلا ولد الصلب وولد الابن خاصة. وقال تعالى{وللرسول ولذي القربى}الأنفال: 41] فأعطى عليه السلام القرابة منهم من أعمامه دون بني أخواله. فكذلك ولد البنات لا ينتمون إليه بالنسب، ولا يلتقون معه في أب. قال ابن القصار: وحجة من أدخل البنات في الأقارب قوله عليه السلام للحسن بن علي (إن ابني هذا سيد). ولا نعلم أحدا يمتنع أن يقول في ولد البنات إنهم ولد لأبي أمهم. والمعنى يقتضي ذلك؛ لأن الولد مشتق من التولد وهم متولدون عن أبي أمهم لا محالة؛ والتولد من جهة الأم كالتولد من جهة الأب. وقد دل القرآن على ذلك، قال الله تعالى{ومن ذريته داود} إلى قوله }من الصالحين} فجعل عيسى من ذريته وهو ابن ابنته.
قد تقدم في سورة (النساء) بيان ما لا ينصرف من هذه الأسماء. ولم ينصرف داود لأنه اسم أعجمي، ولما كان على فاعول لا يحسن فيه الألف واللام لم ينصرف. وإلياس أعجمي. قال الضحاك: كان إلياس من ولد إسماعيل. وذكر القتبي قال: كان من سبط يوشع بن نون. وقرأ الأعرج والحسن وقتادة }والياس} بوصل الألف. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم }واليسع} بلام مخففة. وقرأ الكوفيون إلا عاصما }والليسع}. وكذا قرأ الكسائي، ورد قراءة من قرأ }واليسع} قال: لأنه لا يقال اليفعل مثل اليحيى. قال النحاس: وهذا الرد لا يلزم، والعرب تقول: اليعمل واليحمد، ولو نكرت يحيى لقلت اليحيى. ورد أبو حاتم على من قرأ }الليسع} وقال: لا يوجد ليسع. وقال النحاس: وهذا الرد لا يلزم، فقد جاء في كلام العرب حيدر وزينب، والحق في هذا أنه اسم أعجمي، والعجمة لا تؤخذ بالقياس إنما تؤخذ سماعا والعرب تغيرها كثيرا، فلا ينكر أن يأتي الاسم بلغتين. قال مكي: من قرأ بلامين فأصل الاسم ليسع، ثم دخلت الألف واللام للتعريف. ولو كان أصله يسع ما دخلته الألف واللام؛ إذ لا يدخلان على يزيد ويشكر: اسمين لرجلين؛ لأنهما معرفتان علمان. فأما }ليسع} نكرة فتدخله الألف واللام للتعريف، والقراءة بلام واحدة أحب إلي؛ لأن أكثر القراء عليه. وقال المهدوي: من قرأ }اليسع} بلام واحدة فالاسم يسع، ودخلت الألف واللام زائدتين، كزيادتهما في نحو الخمسة عشر، وفي نحو قوله:
وجدنا اليزيد بن الوليد مباركا شديدا بأعباء الخلافة كأهله
وقد زادوها في الفعل المضارع نحو قوله:
فيستخرج اليربوع من نافقائه ومن بيته بالشيخة اليتقصع
يريد الذي يتقصع. قال القشيري: قرئ بتخفيف اللام والتشديد. والمعنى واحد في أنه اسم لنبي معروف؛ مثل إسماعيل إبراهيم، ولكن خرج عما عليه الأسماء الأعجمية بإدخال الألف واللام. وتوهم قوم أن اليسع هو إلياس، وليس كذلك؛ لأن الله تعالى أفرد كل واحد بالذكر. وقال وهب: اليسع هو صاحب إلياس، وكانا قبل زكريا ويحيى وعيسى. وقيل: إلياس هو إدريس وهذا غير صحيح لأن إدريس جد نوج وإلياس من ذريته. وقيل: إلياس هو الخضر. وقيل: لا، بل اليسع هو الخضر. و}لوطا} اسم أعجمي انصرف لخفته. وسيأتي اشتقاقه في }الأعراف}.
الآية رقم ( 87 )
{ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم}
قوله تعالى{ومن آبائهم وذرياتهم} }من} للتبعيض؛ أي هدينا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم. }واجتبيناهم} قال مجاهد: خلصناهم، وهو عند أهل اللغة بمعنى اخترناهم؛ مشتق من جبيت الماء في الحوض أي جمعته. فالاجتباء ضم الذي تجتبيه إلى خاصتك. قال الكسائي: وجبيت الماء في الحوض جبا، مقصور. والجابية الحوض. قال:
كجابية الشيخ العراقي تفهق
الآية رقم ( 88 )
{ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون}
قوله تعالى{ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا} أي لو عبدوا غيري لحبطت أعمالهم، ولكني عصمتهم. والحبوط البطلان. وقد تقدم في (البقرة).
الآية رقم ( 89 )
{أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين}
قوله تعالى{أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة} ابتداء وخبر }والحكم} العلم والفقه. }فإن يكفر بها} أي بآياتنا. }هؤلاء} أي كفار عصرك يا محمد. }فقد وكلنا بها} جواب الشرط؛ أي وكلنا بالإيمان بها }قوما ليسوا بها بكافرين} يريد الأنصار من أهل المدينة والمهاجرين من أهل مكة. وقال قتادة: يعني النبيين الذين قص الله عز وجل. قال النحاس: وهذا القول أشبه بالمعنى؛ لأنه قال بعد{أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}الأنعام: 90]. وقال أبو رجاء: هم الملائكة. وقيل: هو عام في كل مؤمن من الجن والإنس والملائكة. والباء في }بكافرين} زائدة على جهة التأكيد.
الآية رقم ( 90 )
{أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين}
قوله تعالى{فبهداهم اقتده} الاقتداء طلب موافقة الغير في فعله. فقيل: المعنى أصبر كما صبروا. وقيل: معنى }فبهداهم اقتده} التوحيد والشرائع مختلفة. وقد احتج بعض العلماء بهذه الآية على وجوب أتباع شرائع الأنبياء فيما عدم فيه النص؛ كما في صحيح مسلم وغيره: أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (القصاص القصاص) فقالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة؟! والله لا يقتص منها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله). قالت: والله لا يقتص منها أبدا. قال: فما زالت حتى قبلوا الدية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره). فأحال رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوله{وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس}المائدة: 45] الآية. وليس في كتاب الله تعالى نص على القصاص في السن إلا في هذه الآية؛ وهي خبر عن شرع التوراة ومع ذلك فحكم بها وأحال عليها. وإلى هذا ذهب معظم أصحاب مالك وأصحاب الشافعي، وأنه يجب العمل بما وجد منها. قال ابن بكير: وهو الذي تقتضيه أصول مالك وخالف في ذلك كثير من أصحاب مالك وأصحاب الشافعي والمعتزلة؛ لقوله تعالى{لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}المائدة: 48]. وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يحتمل التقييد: إلا فيما قص عليكم من الأخبار عنهم مما لم يأت من كتابكم. وفي صحيح البخاري عن العوام قال: سألت مجاهدا عن سجدة }ص} فقال: سألت ابن عباس عن سجدة }ص} فقال: أو تقرأ }ومن ذريته داود وسليمان}الأنعام: 84] إلى قوله }أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}؟ كان داود عليه السلام ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به.
قرأ حمزة والكسائي }اقتد قل} بغير هاء في الوصل. وقرأ ابن عامر }اقتد هي قل}. قال النحاس: وهذا لحن؛ لأن الهاء لبيان الحركة في الوقف وليست بهاء إضمار ولا بعدها واو ولا ياء، وكذلك أيضا لا يجوز }فبهداهم اقتد قل}. ومن اجتنب اللحن وأتبع السواد قرأ }فبهداهم اقتده} فوقف ولم يصل؛ لأنه إن وصل بالهاء لحن وإن حذفها خالف السواد. وقرأ الجمهور بالهاء في الوصل على نية الوقف وعلى نية الإدراج اتباعا لثباتها في الخط. وقرأ ابن عياش وهشام }اقتده قل} بكسر الهاء، وهو غلط لا يجوز في العربية.
قوله تعالى{قل لا أسألكم عليه أجرا} أي جعلا على القرآن. }إن هو} أي القرآن. }إلا ذكرى للعالمين} أي هو موعظة للخلق. وأضاف الهداية إليهم فقال{فبهداهم اقتده} لوقوع الهداية بهم. وقال{ذلك هدى الله} لأنه الخالق للهداية.
الآية رقم ( 91 )
{وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون}
قوله تعالى{وما قدروا الله حق قدره} أي فيما وجب له واستحال عليه وجاز. قال ابن عباس: ما آمنوا أنه على كل شيء قدير. وقال الحسن: ما عظموه حق عظمته. وهذا يكون من قولهم: لفلان قدر. وشرح هذا أنهم لما قالوا{ما أنزل الله على بشر من شيء} نسبوا الله عز وجل إلى أنه لا يقيم الحجة على عباده، ولا يأمرهم بما لهم فيه الصلاح؛ فلم يعظموه حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته. وقال أبو عبيدة: أي ما عرفوا الله حق معرفته. قال النحاس: وهذا معنى حسن؛ لأن معنى قدرت الشيء وقدرته عرفت مقداره. ويدل عليه قوله تعالى{إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} أي لم يعرفوه حق معرفته؛ إذ أنكروا أن يرسل رسولا. والمعنيان متقاربان. وقد قيل: وما قدروا نعم الله حق تقديرها. وقرأ أبو حيوة }وما قدروا الله حق قدره} بفتح الدال، وهي لغة.
قوله تعالى{إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} قال ابن عباس وغيره: يعني مشركي قريش. وقال الحسن وسعيد بن جبير: الذي قاله أحد اليهود، قال: لم ينزل الله كتابا من السماء. قال السدي: اسمه فنحاص. وعن سعيد بن جبير أيضا قال: هو مالك بن الصيف، جاء يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين)؟ وكان حبرا سمينا. فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا على موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء؛ فنزلت الآية. ثم قال نقضا لقولهم وردا عليهم{قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس يجعلونه قراطيس أي في قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا} هذا لليهود الذين أخفوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها من الأحكام.
قوله تعالى{قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} خطاب للمشركين، وقوله }يجعلونه قراطيس} لليهود وقوله }وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} للمسلمين. وهذا يصح على قراءة من قرأ }يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون} بالياء. والوجه على قراءة التاء أن يكون كله لليهود، ويكون معنى }وعلمتم ما لم تعلموا} أي وعلمتم ما لم تكونوا تعلمونه أنتم ولا آباؤكم على وجه المن عليهم بإنزال التوراة. وجعلت التوراة صحفا فلذلك قال }قراطيس تبدونها} أي تبدون القراطيس. وهذا ذم لهم؛ ولذلك كره العلماء كتب القرآن أجزاء. }قل الله} أي قل يا محمد الله الذي أنزل ذلك الكتاب على موسى وهذا الكتاب علي. أو قل الله علمكم الكتاب. }ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} أي لاعبين، ولو كان جوابا للأمر لقال يلعبوا. ومعنى الكلام التهديد. وقيل: هو من المنسوخ بالقتال؛ ثم قيل{يجعلونه} في موضع الصفة لقوله }نورا وهدى} فيكون في الصلة. ويحتمل أن يكون مستأنفا، والتقدير: يجعلونه ذا قراطيس. وقوله{يبدونها ويخفون كثيرا} يحتمل أن يكون صفة لقراطيس؛ لأن النكرة توصف بالجمل. ويحتمل أن يكون مستأنفا حسبما تقدم.
الآية رقم ( 92 )
{وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون}
قوله تعالى{وهذا كتاب} يعني القرآن }أنزلناه} صفة }مبارك} أي بورك فيه، والبركة الزيادة. ويجوز نصبه في غير القرآن على الحال. وكذا }مصدق الذي بين يديه} أي من الكتب المنزلة قبله، فإنه يوافقها في نفي الشرك وإثبات التوحيد. }ولتنذر أم القرى} يريد مكة والمراد أهلها، فحذف المضاف؛ أي أنزلناه للبركة والإنذار. }ومن حولها} يعني جميع الآفاق. }ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة} يريد أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ بدليل قوله{يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون} إيمان من آمن بالآخرة ولم يؤمن بالنبي عليه السلام ولا بكتابه غير معتد به.
الآية رقم ( 93 )
{ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون}
قوله تعالى{ومن أظلم} ابتداء وخبر؛ أي لا أحد أظلم. }ممن افترى على الله كذبا} أي اختلق. }أو قال أوحي إلي} فزعم أنه نبي }ولم يوح إليه شيء} نزلت في رحمان اليمامة والأسود العبسي وسجاح زوج مسيلمة؛ كلهم تنبأ وزعم أن الله قد أوحى إليه. قال قتادة: بلغنا أن الله أنزل هذا في مسيلمة؛ وقال ابن عباس.
قلت: ومن هذا النمط من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن يقول: وقع في خاطري كذا، أو أخبرني قلبي بكذا؛ فيحكمون بما يقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم، ويزعمون أن ذلك لصفائها من الأكدار وخلوها من الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكليات ويعلمون أحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، ويقولون: هذه الأحكام الشرعية العامة، إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص، فلا يحتاجون لتلك النصوص. وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون؛ ويستدلون على هذا بالخضر؛ وأنه استغنى بما تجلى له من تلك العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وهذا القول زندقة وكفر، يقتل قائله ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب؛ فإنه يلزم منه هد الأحكام وإثبات أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم. وسيأتي لهذا المعنى في }الكهف} مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى{ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} }من} في موضع خفض؛ أي ومن أظلم ممن قال سأنزل، والمراد عبدالله بن أبي سرح الذي كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد ولحق بالمشركين. وسبب ذلك فيما ذكر المفسرون أنه لما نزلت الآية التي في }المؤمنون}{ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين}المؤمنون:12] دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأملاها عليه؛ فلما انتهى إلى قوله }ثم أنشأناه خلقا آخر}المؤمنون: 14] عجب عبدالله في تفصيل خلق الإنسان فقال{تبارك الله أحسن الخالقين}المؤمنون: 14]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وهكذا أنزلت على) فشك عبدالله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إليه، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال<فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، فذلك قوله{ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} رواه الكلبي عن ابن عباس. وذكره محمد بن إسحاق قال حدثني شرحبيل قال: نزلت في عبدالله بن سعد بن أبي سرح }ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} ارتد عن الإسلام، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر بقتله وقتل عبدالله بن خطل ومقيس بن صبابة ولو وجدوا تحت أستار الكعبة، ففر عبدالله بن أبي سرح إلى عثمان رضي الله عنه، وكان أخاه من الرضاعة، أرضعت أمه عثمان، فغيبه عثمان حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما اطمأن أهل مكة فاستأمنه له؛ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال: (نعم). فلما انصرف عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه). فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلى يا رسول الله؟ فقال: (إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين). قال أبو عمر: وأسلم عبدالله بن سعد بن أبي سرح أيام الفتح فحسن إسلامه، ولم يظهر منه ما ينكر عليه بعد ذلك. وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش، وفارس بني عامر بن لؤي المعدود فيهم، ثم ولاه عثمان بعد ذلك مصر سنة خمس وعشرين. وفتح على يديه إفريقية سنة سبع وعشرين، وغزا منها الأساود من أرض النوبة سنة إحدى وثلاثين، وهو هادنهم الهدنة الباقية إلى اليوم. وغزا الصواري من أرض الروم سنة أربع وثلاثين؛ فلما رجع من وفاداته منعه ابن أبي حذيفة من دخول الفسطاط، فمضى إلى عسقلان، فأقام فيها حتى قتل عثمان رضي الله عنه. وقيل: بل أقام بالرملة حتى مات فارا من الفتنة. ودعا ربه فقال: اللهم أجعل خاتمة عملي صلاة الصبح؛ فتوضأ ثم صلى فقرأ في الركعة الأولى بأم القرآن والعاديات، وفي الثانية بأم القرآن وسورة، ثم سلم عن يمينه، ثم ذهب يسلم عن يساره فقبض الله روحه. ذكر ذلك كله يزيد بن أبي حبيب وغيره. ولم يبايع لعلي ولا لمعاوية رضي الله عنهما. وكانت وفاته قبل اجتماع الناس على معاوية. وقيل: إنه توفي بإفريقية. والصحيح أنه توفي بعسقلان سنة ست أو سبع وثلاثين. وقيل: سنة ست وثلاثين. وروى حفص بن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث؛ لأنه عارض القرآن فقال: والطاحنات طحنا. والعاجنات عجنا. فالخابزات خبزا. فاللاقمات لقما.
قوله تعالى{ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت} أي شدائده وسكراته. والغمرة الشدة؛ وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها. ومنه غمره الماء. ثم وضعت في معنى الشدائد والمكاره. ومنه غمرات الحرب. قال الجوهري: والغمرة الشدة، والجمع غمر مثل نوبة ونوب. قال القطامي يصف سفينة نوح عليه السلام:
وحان لتالك الغمر انحسار
وغمرات الموت شدائده. }والملائكة باسطو أيديهم} ابتداء وخبر. والأصل باسطون. قيل: بالعذاب ومطارق الحديد؛ عن الحسن والضحاك. وقيل: لقبض أرواحهم؛ وفي التنزيل{ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم}الأنفال: 50] فجمعت هذه الآية القولين. يقال: بسط إليه يده بالمكروه. }أخرجوا أنفسكم} أي خلصوها من العذاب إن أمكنكم، وهو توبيخ. وقيل: أخرجوها كرها؛ لأن روح المؤمن تنشط للخروج للقاء ربه، وروح الكافر تنتزع انتزاعا شديدا، ويقال: أيتها النفس الخبيثة أخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله وهو أن؛ كذا جاء في حديث أبي هريرة وغيره. وقد أتينا عليه في كتاب }التذكرة} والحمد لله. وقيل: هو بمنزلة قول القائل لمن يعذبه: لأذيقنك العذاب ولأخر جن نفسك؛ وذلك لأنهم لا يخرجون أنفسهم بل يقبضها ملك الموت وأعوانه. وقيل: يقال هذا للكفار وهم في النار. والجواب محذوف لعظم الأمر؛ أي ولو رأيت الظالمين في هذه الحال لرأيت عذابا عظيما. والهون والهوان سواء. }تستكبرون} أي تتعظمون وتأنفون عن قبول آياته.
الآية رقم ( 94 )
{ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون}
قوله تعالى{ولقد جئتمونا فرادى} هذه عبارة عن الحشر و}فرادى} في موضع نصب على الحال، ولم ينصرف لأن فيه ألف تأنيث. وقرأ أبو حيوة }فرادا} بالتنوين وهي لغة تميم، ولا يقولون في موضع الرفع فراد. وحكى أحمد بن يحيى }فراد} بلا تنوين، قال: مثل ثلاث ورباع. و}فرادى} جمع فردان كسكارى جمع سكران، وكسالى جمع كسلان. وقيل: واحده }فرد} بجزم الراء، و}فرد} بكسرها، و}فرد} بفتحها، و}فريد}. والمعنى: جئتمونا واحدا واحدا، كل واحد منكم منفردا بلا أهل ولا مال ولا ولد ولا ناصر ممن كان يصاحبكم في الغي، ولم ينفعكم ما عبدتم من دون الله. وقرأ الأعرج }فردى} مثل سكرى وكسلى بغير ألف. }كما خلقناكم أول مرة} أي منفردين كما خلقتم. وقيل: عراة كما خرجتم من بطون أمهاتكم حفاة غرلا بهما ليس معهم شيء. وقال العلماء: يحشر العبد غدا وله من الأعضاء ما كان له يوم ولد؛ فمن قطع منه عضو يرد في القيامة عليه. وهذا معنى قوله{غرلا} أي غير مختونين، أي يرد عليهم ما قطع منه عند الختان.
قوله تعالى{وتركتم ما خولناكم} أي أعطيناكم وملكناكم. والخول: ما أعطاه الله للإنسان من العبيد والنعم. }وراء ظهوركم} أي خلفكم. }وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء} أي الذين عبدتموهم وجعلتموهم شركاء يريد الأصنام أي شركائي. وكان المشركون يقولون: الأصنام شركاء الله وشفعاؤنا عنده. }لقد تقطع بينكم} قرأ نافع والكسائي وحفص بالنصب على الظرف، على معنى لقد تقطع وصلكم بينكم. ودل على حذف الوصل قوله }وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم}. فدل هذا على التقاطع والتهاجر بينهم وبين شركائهم: إذ تبرؤوا منهم ولم يكونوا معهم. ومقاطعتهم لهم هو تركهم وصلهم لهم؛ فحسن إضمار الوصل بعد }تقطع} لدلالة الكلام عليه. وفي حرف ابن مسعود ما يدل على النصب فيه وهذا لا يجوز فيه إلا النصب، لأنك ذكرت المتقطع وهو }ما}. كأنه قال: لقد تقطع الوصل بينكم. وقيل: المعنى لقد تقطع الأمر بينكم. والمعنى متقارب. وقرأ الباقون }بينكم} بالرفع على أنه اسم غير ظرف، فأسند الفعل إليه فرفع. ويقوي جعل }بين} اسما من جهة دخول حرف الجر عليه في قوله تعالى{ومن بيننا وبينك حجاب}فصلت: 5] و}هذا فراق بيني وبينك}الكهف: 78]. ويجوز أن تكون قراءة النصب على معنى الرفع، وإنما نصب لكثرة استعماله ظرفا منصوبا وهو في موضع رفع، وهو مذهب الأخفش؛ فالقراءتان على هذا بمعنى واحد، فاقرأ بأيهما شئت. }وضل عنكم} أي ذهب. }ما كنتم تزعمون} أي تكذبون به في الدنيا. روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث. وروي أن عائشة رضي الله عنها قرأت قول الله تعالى{ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة} فقالت: يا رسول الله، واسوءتاه! إن الرجال والنساء يحشرون جميعا، ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض). وهذا حديث ثابت في الصحيح أخرجه مسلم بمعناه.
الآية رقم ( 95 )
{إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون}
قوله تعالى{إن الله فالق الحب والنوى} عد من عجائب صنعه ما يعجز عن أدنى شيء منه آلهتهم. والفلق: الشق؛ أي يشق النواة الميتة فيخرج منها ورقا أخضر، وكذلك الحبة. وخرج من الورق الأخضر نواة ميتة وحبة؛ وهذا معنى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي؛ عن الحسن وقتادة. وقال ابن عباس والضحاك: معنى فالق خالق. وقال مجاهد: عني بالفلق الشق الذي في الحب وفي النوى. والنوى جمع نواة. ويجري في كل ما له كالمشمش والخوخ. }يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي} يخرج البشر الحي من النطفة الميتة، والنطفة الميتة من البشر الحي؛ عن ابن عباس. وفي صحيح مسلم عن علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. }ذلكم الله} ابتداء وخبر. }فأنى تؤفكون} فمن أين تصرفون عن الحق مع ما ترون من قدرة الله جل وعز.
الآية رقم ( 96 )
{فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم}
قوله تعالى{فالق الإصباح} نعت لاسم الله تعالى، أي ذلكم الله ربكم فالق الإصباح. وقيل: المعنى إن الله فالق الإصباح. والصبح والصباح أول النهار، وكذلك الإصباح؛ أي فالق الصبح كل يوم، يريد الفجر. والإصباح مصدر أصبح. والمعنى: شاق الضياء عن الظلام وكاشفه. وقال الضحاك: فالق الإصباح خالق النهار. وهو معرفة لا يجوز فيه التنوين عند أحد من النحويين. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر }فالق الإصباح} بفتح الهمزة، وهو جمع صبح. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه قرأ }فلق الإصباح} على فعل، والهمزة مكسورة والحاء منصوبة. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وحمزة والكسائي }وجعل الليل سكنا} بغير ألف. ونصب }الليل} حملا على معنى }فالق} في الموضعين؛ لأنه بمعنى فلق، لأنه أمر قد كان فحمل على المعنى. وأيضا فإن بعده أفعالا ماضية وهو قوله{جعل لكم النجوم}الأنعام: 97]. }أنزل من السماء ماء}الرعد: 17]. فحمل أول الكلام على آخره. يقوي ذلك إجماعهم على نصب الشمس والقمر على إضمار فعل، ولم يحملوه على فاعل فيخفضوه؛ قال مكي رحمه الله. وقال النحاس: وقد قرأ يزيد بن قطيب السكوني }جاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا} بالخفض عطفا على اللفظ.
قلت: فيريد مكي والمهدوي وغيرهما إجماع القراء السبعة. والله أعلم. وقرأ يعقوب في رواية رويس عنه }وجاعل الليل ساكنا}. وأهل المدينة }وجاعل الليل سكنا} أي محلا للسكون. وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول{اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عني الدين وأغنني من الفقر وأمتعني بسمعي وبصري وقوتي في سبيلك). فإن قيل: كيف قال (وأمتعني بسمعي وبصري) وفي كتاب النسائي والترمذي وغيرهما (واجعله الوارث مني) وذلك يفنى مع البدن؟ قيل له: في الكلام تجوز، والمعنى اللهم لا تعدمه قبلي. وقد قيل: إن المراد بالسمع والبصر هنا أبو بكر وعمر؛ لقوله عليه السلام فيهما: (هما السمع والبصر). وهذا تأويل بعيد، إنما المراد بهما الجارحتان. ومعنى }حسبانا} أي بحساب يتعلق به مصالح العباد. وقال ابن عباس في قول جل وعز{والشمس والقمر حسبانا} أي بحساب. الأخفش: حسبان جمع حساب؛ مثل شهاب وشهبان. وقال يعقوب: حسبان مصدر حسبت الشيء أحسبه حسبانا وحسابا وحسبة، والحساب الاسم. وقال غيره: جعل الله تعالى سير الشمس والقمر بحساب لا يزيد ولا ينقص؛ فدلهم الله عز وجل بذلك على قدرته ووحدانيته. وقيل{حسبانا} أي ضياء. والحسبان: النار في لغة؛ وقد قال الله تعالى{ويرسل عليها حسبانا من السماء}الكهف: 40]. قال ابن عباس: نارا. والحسبانة: الوسادة الصغيرة.
الآية رقم ( 97 )
{وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون}
قوله تعالى{وهو الذي جعل لكم النجوم} بين كمال قدرته، وفي النجوم منافع جمة. ذكر في هذه الآية بعض منافعها، وهي التي ندب الشرع إلى معرفتها؛ وفي التنزيل{وحفظا من كل شيطان مارد}الصافات: 7]. }وجعلناها رجوما للشياطين}الملك: 5]. و}جعل} هنا بمعنى خلق. }قد فصلنا الآيات} أي بيناها مفصلة لتكون أبلغ في الاعتبار. }لقوم يعلمون} خصهم لأنهم المنتفعون بها.
الآية رقم ( 98 )
{وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون}
قوله تعالى{وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة} يريد آدم عليه السلام. وقد تقدم في أول السورة. }فمستقر} قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وأبو عمرو وعيسى والأعرج وشيبة والنخعي بكسر القاف، والباقون بفتحها. وهي في موضع رفع بالابتداء، إلا أن التقدير فيمن كسر القاف فمنها }مستقر} والفتح بمعنى لها }مستقر}. قال عب الله بن مسعود: فلها مستقر في الرحم ومستودع في الأرض التي تموت فيها؛ وهذا التفسير يدل على الفتح. وقال الحسن: فمستقر في القبر. وأكثر أهل التفسير يقولون: المستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في الصلب؛ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقاله النخعي. وعن ابن عباس أيضا: مستقر في الأرض، ومستودع في الأصلاب. قال سعيد بن جبير: قال لي ابن عباس هل تزوجت؟ قلت: لا؛ فقال: إن الله عز وجل يستخرج من ظهرك ما استودعه فيه. وروي عن ابن عباس أيضا أن المستقر من خلق، والمستودع من لم يخلق؛ ذكره الماوردي. وعن ابن عباس أيضا: ومستودع عند الله.
قلت: وفي التنزيل }ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين}البقرة: 36] والاستيداع إشارة إلى كونهم في القبر إلى أن يبعثوا للحساب؛ وقد تقدم في (البقرة). }قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} قال قتادة{فصلنا} بينا وقررنا. والله أعلم.
الآية رقم ( 99 )
{وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون}
قوله تعالى{وهو الذي أنزل من السماء ماء} أي المطر. }فأخرجنا به نبات كل شيء} أي كل صنف من النبات. وقيل: رزق كل حيوان. }فأخرجنا منه خضرا} قال الأخفش: أي أخضر؛ كما تقول العرب: أرينها نمرة أركها مطرة. والخضر رطب البقول. وقال ابن عباس: يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز وسائر الحبوب. }نخرج منه حبا متراكبا} أي يركب بعضه على بعض كالسنبلة.
قوله تعالى{ومن النخل من طلعها قنوان دانية} ابتداء وخبر. وأجاز الفراء في غير القرآن }قنوانا دانية} على العطف على ما قبله. قال سيبويه: ومن العرب من يقول: قنوان. قال الفراء: هذه لغة قيس، وأهل الحجاز يقولون: قنوان، وتميم يقولون: قنيان؛ ثم يجتمعون في الواحد فيقولون: قنو وقنو. والطلع الكفري قبل أن ينشق عن الإغريض. والإغريض يسمى طلعا أيضا. والطلع؛ ما يرى من عذق النخلة. والقنوان: جمع قنو، وتثنيته قنوان كصنو وصنوان (بكسر النون). وجاء الجمع على لفظ الاثنين. قال الجوهري وغيره: الاثنان صنوان والجمع صنوان (برفع النون). والقنو: العذق والجمع القنوان والأقناء؛ قال:
طويلة الأقناء والأثاكل
غيره{أقناء} جمع القلة. قال المهدوي: قرأ ابن هرمز }قنوان} بفتح القاف، وروي عنه ضمها. فعلى الفتح هو اسم للجمع غير مكسر، بمنزلة ركب عند سيبويه، وبمنزلة الباقر والجامل؛ لأن فعلان ليس من أمثلة الجمع، وضم القاف على أنه جمع قنو وهو العذق (بكسر العين) وهي الكباسة، وهي عنقود النخلة. والعذق (بفتح العين) النخلة نفسها. وقيل: القنوان الجمار. }دانية} قريبة، ينالها القائم والقاعد. عن ابن عباس والبراء بن عازب وغيرهما. وقال الزجاج: منها دانية ومنها بعيدة؛ فحذف؛ ومثله }سرابيل تقيكم الحر}النحل: 81]. وخص الدانية بالذكر، لأن من الغرض في الآية ذكر القدرة والامتنان بالنعمة، والامتنان فيما يقرب متناوله أكثر.
قوله تعالى{وجنات من أعناب} أي وأخرجنا جنات. وقرأ محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى والأعمش، وهو الصحيح من قراءة عاصم }وجنات} بالرفع. وأنكر هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، حتى قال أبو حاتم: هي محال؛ لأن الجنات لا تكون من النخل. قال النحاس. والقراءة جائزة، وليس التأويل على هذا، ولكنه رفع بالابتداء والخبر محذوف؛ أي ولهم جنات. كما قرأ جماعة من القراء }وحور عين}الواقعة: 22]. وأجاز مثل هذا سيبويه والكسائي والفراء؛ ومثله كثير. وعلى هذا أيضا }وحورا عينا} حكاه سيبويه، وأنشد:
جئني بمثل بني بدر لقومهم أو مثل أسرة منظور بن سيار
وقيل: التقدير }وجنات من أعناب} أخرجناها؛ كقولك: أكرمت عبدالله وأخوه، أي وأخوه أكرمت أيضا. فأما الزيتون والرمان فليس فيه إلا النصب للإجماع على ذلك. وقيل{وجنات} بالرفع عطف على }قنوان} لفظا، وإن لم تكن في المعنى من جنسها. }والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه} أي متشابها في الأوراق؛ أي ورق الزيتون يشبه ورق الرمان في اشتمال على جميع الغصن وفي حجم الورق، وغير متشابه في الذواق؛ عن قتادة وغيره. قال ابن جريج{متشابها} في النظر }وغير متشابه} في الطعم؛ مثل الرمانتين لونهما واحد وطعامهما مختلف. وخص الرمان والزيتون بالذكر لقربهما منهم ومكانهما عندهم. وهو كقوله{أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت}الغاشية: 17]. ردهم إلى الإبل لأنها أغلب ما يعرفونه.
قوله تعالى{انظروا إلى ثمره إذا أثمر} أي نظر الاعتبار لا نظر الإبصار المجرد عن التفكر. والثمر في اللغة جنى الشجر. وقرأ حمزة والكسائي }ثمره} بضم الثاء والميم. والباقون بالفتح فيهما جمع ثمرة، مثل بقرة وبقر وشجرة وشجر. قال مجاهد الثمر أصناف المال، والتمر ثمر النخل. وكأن المعنى على قول مجاهد: انظروا إلى الأموال التي يتحصل منه الثمر؛ فالثمر بضمتين جمع ثمار وهو المال المثمر. وروي عن الأعمش }ثمره} بضم الثاء وسكون الميم؛ حذفت الضمة لثقلها طلبا للخفة. ويجوز أن يكون ثمر جمع ثمرة مثل بدنة وبدن. ويجوز أن يكون ثمر جمع جمع، فتقول: ثمرة وثمار وثمر مثل حمار وحمر. ويجوز أن يكون جمع ثمرة كخشبة وخشب لا جمع الجمع.
قوله تعالى{وينعه} قرأ محمد بن السميقع }ويانعه}. وابن محيصن وابن أبي إسحاق }وينعه} بضم الياء. قال الفراء: هي لغة بعض أهل نجد؛ يقال: ينع الثمر يينع، والثمر يانع. وأينع يونع والتمر مونع. والمعنى: ونضجه. ينع وأينع إذا نضج وأدرك. قال الحجاج في خطبته: أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها. قال ابن الأنباري: الينع جمع يانع، كراكب وركب، وتاجر وتجر، وهو المدرك البالغ. وقال الفراء: أينع أكثر من ينع، ومعناه أحمر؛ ومنه ما روي في حديث الملاعنة (إن ولدته أحمر مثل الينعة) وهي خرزة حمراء، يقال: إنه العقيق أو نوع منه. فدلت الآية لمن تدبر ونظر ببصره وقلبه، نظر من تفكر، أن المتغيرات لا بد لها من مغير؛ وذلك أنه تعالى قال{انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه}. فتراه أولا طلعا ثم إغريضا إذا انشق عنه الطلع. والإغريض يسمى ضحكا أيضا، ثم بلحا، ثم سيابا، ثم جدا لا إذ اخضر واستدار قبل أن يشتد، ثم بسرا إذا عظم، ثم زهوا إذا أحمر؛ يقال: أزهى يزهي، ثم موكتا إذا بدت فيه نقط من الإرطاب. فإن كان ذلك من قبل الذنب فهي مذنبة، وهو التذنوب، فإذا لانت فهي ثعدة، فإذا بلغ الإرطاب نصفها فهي مجزعة، فإذا بلغ ثلثيها فهي حلقانة، فإذا عمها الإرطاب فهي منسبتة؛ يقال: رطب منسبت، ثم ييبس فيصير تمرا. فنبه الله تعالى بانتقالها من حال إلى حال وتغيرها ووجودها بعد أن لم تكن بعد على وحدانيته وكمال قدرته، وأن لها صانعا قادرا عالما. ودل على جواز البعث؛ لإيجاد النبات بعد الجفاف. قال الجوهري: ينع الثمر يينع ويينع ينعا وينوعا، أي نضج.
قال ابن العربي قال مالك: الإيناع الطيب بغير فساد ولا نقش. قال: مالك: والنقش أن ينقش أهل البصرة الثمر حتى يرطب؛ يريد يثقب فيه بحيث يسرع دخول الهواء إليه فيرطب معجلا. فليس ذلك الينع المراد في القرآن، ولا هو الذي ربط به رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع، وإنما هو ما يكون من ذاته بغير محاولة. وفي بعض بلاد التين، وهي البلاد الباردة، لا ينضج حتى يدخل في فمه عود قد دهن زيتا، فإذا طاب حل بيعه؛ لأن ذلك ضرورة الهواء وعادة البلاد، ولولا ذلك ما طاب في وقت الطيب.
قلت: وهذا الينع الذي يقف عليه جواز بيع التمر وبه يطيب أكلها ويأمن من العاهة، هو عند طلوع الثريا بما أجرى الله سبحانه من العادة وأحكمه من العلم والقدرة. ذكر المعلى بن أسد عن وهيب عن عسل بن سفيان عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا طلعت الثريا صباحا رفعت العاهة عن أهل البلد). والثريا النجم، لا خلاف في ذلك. وطلوعها صباحا لاثنتي عشرة ليلة تمضي من شهر أيار، وهو شهر مايو. وفي البخاري: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأصفر من الأحمر.
وقد استدل من أسقط الجوائح في الثمار بهذه الآثار، وما كان مثلها من نهيه عليه السلام عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وعن بيع الثمار حتى تذهب العاهة. قال عثمان بن سراقة: فسألت ابن عمر متى هذا؟ فقال: طلوع الثريا. قال الشافعي: لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت عندي لم أعده، والأصل المجتمع عليه أن كل من ابتاع ما يجوز بيعه وقبضه كانت المصيبة منه، قال: ولو كنت قائلا بوضع الجوائح لو ضعتها في القليل والكثير. وهو قول الثوري والكوفيين. وذهب مالك وأكثر أهل المدينة إلى وضعها؛ لحديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح. أخرجه مسلم. وبه كان يقضي عمر بن عبدالعزيز، وهو قول أحمد بن حنبل وسائر أصحاب الحديث. وأهل الظاهر وضعوها عن المبتاع في القليل والكثير على عموم الحديث؛ إلا أن مالكا وأصحابه اعتبروا أن تبلغ الجائحة ثلث الثمرة فصاعدا، وما كان دون الثلث ألغوه وجعلوه تبعا، إذ لا تخلو ثمرة من أن يتعذر القليل من طيبها وأن يلحقها في اليسير منها فساد. وكان أصبغ وأشهب لا ينظران إلى الثمرة ولكن إلى القيمة، فإذا كانت القيمة الثلث فصاعدا وضع عنه. والجائحة ما لا يمكن دفعه عند ابن القاسم. وعليه فلا تكون السرقة جائحة، وكذا في كتاب محمد. وفي الكتاب أنه جائحة، وروي عن ابن القاسم، وخالفه أصحابه والناس. وقال مطرف وابن الماجشون: ما أصاب الثمرة من السماء من عفن أو برد، أو عطش أو حر أو كسر الشجر بما ليس بصنع ادمي فهو جائحة. واختلف في العطش؛ ففي رواية ابن القاسم هو جائحة. والصحيح في البقول أنها فيها جائحة كالثمرة. ومن باع ثمرا قبل بدو صلاحه بشرط التبقية فسخ بيعه ورد؛ للنهي عنه؛ ولأنه من أكل المال بالباطل؛ لقوله عليه السلام: (أرأيت إن منع الله الثمرة فبم أخذ أحدكم مال أخيه بغير حق)؟ هذا قول الجمهور، وصححه أبو حنيفة وأصحابه وحملوا النهي على الكراهة. وذهب الجمهور إلى جواز بيعها قبل بدو الصلاح بشرط القطع. ومنعه الثوري وابن أبي ليلى تمسكا بالنهي الوارد في ذلك. وخصصه الجمهور بالقياس الجلي؛ لأنه مبيع معلوم يصح قبضه حالة العقد فصح بيعه كسائر المبيعات.
{وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون}
قوله تعالى{وجعلوا لله شركاء الجن} هذا ذكر نوع آخر من جهالاتهم، أي فيهم من أعتقد لله شركاء من الجن. قال النحاس{الجن} مفعول أول، و}شركاء} مفعول ثان؛ مثل }وجعلكم ملوكا}المائدة: 20]. }وجعلت له مالا ممدودا}المدثر: 12]. وهو في القرآن كثير. والتقدير وجعلوا لله الجن شركاء. ويجوز أن يكون }الجن} بد لا من شركاء، والمفعول الثاني }لله}. وأجاز الكسائي رفع }الجن} بمعنى هم الجن. }وخلقكم} كذا قراءة الجماعة، أي خلق الجاعلين له شركاء. وقيل: خلق الجن الشركاء. وقرأ ابن مسعود }وهو خلقهم} بزيادة هو. وقرأ يحيى بن يعمر }وخلقهم} بسكون اللام، وقال: أي وجعلوا خلقهم لله شركاء؛ لأنهم كانوا يخلقون الشيء ثم يعبدونه. والآية نزلت في مشركي العرب. ومعنى إشراكهم بالجن أنهم أطاعوهم كطاعة الله عز وجل؛ روي ذلك عن الحسن وغيره. قال قتادة والسدي: هم الذين قالوا الملائكة بنات الله. وقال الكلبي: نزلت في الزنادقة، قالوا: إن الله وإبليس أخوان؛ فالله خالق الناس والدواب، وإبليس خالق الجان والسباع والعقارب. ويقرب من هذا قول المجوس، فإنهم قالوا: للعالم صانعان: إله قديم، والثاني شيطان حادث من فكرة الإله القديم؛ وزعموا أن صانع الشر حادث. وكذا الحائطية من المعتزلة من أصحاب أحمد بن حائط، زعموا أن للعالم صانعين: الإله القديم، والآخر محدث، خلقه الله عز وجل ألا ثم فوض إليه تدبير العالم؛ وهو الذي يحاسب الخلق في الآخرة. تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. }وخرقوا} قراءة نافع بالتشديد على التكثير؛ لأن المشركين ادعوا أن لله بنات وهم الملائكة، وسموهم جنا لاجتنانهم. والنصارى ادعت المسيح ابن الله. واليهود قالت: عزير ابن الله، فكثر ذلك من كفرهم؛ فشدد الفعل لمطابقة المعنى. تعالى الله عما يقولون. وقرأ الباقون بالتخفيف على التقليل. وسئل الحسن البصري عن معنى }وخرقوا له} بالتشديد فقال: إنما هو }وخرقوا} بالتخفيف، كلمة عربية، كان الرجل إذا كذب في النادي قيل: خرقها ورب الكعبة. وقال أهل اللغة: معنى }خرقوا} اختلقوا وافتعلوا }وخرقوا} على التكثير. قال مجاهد وقتادة وابن زيد وابن جريج{خرقوا} كذبوا. يقال: إن معنى خرق واخترق واختلق سواء؛ أي أحدث:
الآية رقم ( 101 )
{بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم}
قوله تعالى{بديع السماوات والأرض} أي مبدعهما؛ فكيف يجوز أن يكون له ولد. و}بديع} خبر ابتداء مضمر أي هو بديع. وأجاز الكسائي خفضه على النعت لله عز وجل، ونصبه بمعنى بديعا السماوات والأرض. وذا خطأ عند البصريين لأنه لما مضى. }أنى يكون له ولد} أي من أين يكون له ولد. وولد كل شيء شبيهه، ولا شبيه له. }ولم تكن له صاحبة} أي زوجة. }وخلق كل شيء} عموم معناه الخصوص؛ أي خلق العالم. ولا يدخل في ذلك كلامه ولا غيره من صفات ذاته. ومثله }ورحمتي وسعت كل شيء}الأعراف: 156] ولم تسع إبليس ولا من مات كافرا. ومثله }تدمر كل شيء}الأحقاف: 25] ولم تدمر السماوات والأرض.
الآية رقم ( 102 )
{ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل}
قوله تعالى{ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو} }ذلكم} في موضع رفع بالابتداء. }الله ربكم} على البدل. }خالق كل شيء} خبر الابتداء. ويجوز أن يكون }ربكم} الخبر، و}خالق} خبرا ثانيا، أو على إضمار مبتدأ، أي هو خالق. وأجاز الكسائي والقراء فيه النصب.
الآية رقم ( 103 )
{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}
قوله تعالى{لا تدركه الأبصار} بين سبحانه أنه منزه عن سمات الحدوث، ومنها الإدراك بمعنى الإحاطة والتحديد، كما تدرك سائر المخلوقات، والرؤية ثابتة. فقال الزجاج: أي لا يبلغ كنه حقيقته؛ كما تقول: أدركت كذا وكذا؛ لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث في الرؤية يوم القيامة. وقال ابن عباس{لا تدركه الأبصار} في الدنيا، ويراه المؤمنون في الآخرة؛ لإخبار الله بها في قوله{وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}القيامة: 22 - 23]. وقال السدي. وهو أحسن ما قيل لدلالة التنزيل والأخبار الواردة برؤية الله في الجنة. وسيأتي بيانه في }يونس}. وقيل{لا تدركه الأبصار} لا تحيط به وهو يحيط بها؛ عن ابن عباس أيضا. وقيل: المعنى لا تدركه أبصار القلوب، أي لا تدركه العقول فتتوهمه؛ إذ }ليس كمثله شيء}الشورى: 11] وقيل: المعنى لا تدركه الأبصار المخلوقة في الدنيا، لكنه يخلق لمن يريد كرامته بصرا وإدراكا يراه فيه كمحمد عليه السلام؛ إذ رؤيته تعالى في الدنيا جائزة عقلا، إذ لو لم تكن جائزة لكان سؤال موسى عليه السلام مستحيلا، ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله وما لا يجوز، بل لم يسأل إلا جائزا غير مستحيل. واختلف السلف في رؤية نبينا عليه السلام ربه، ففي صحيح مسلم عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هن؟ قالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل }ولقد رآه بالأفق المبين}التكوير: 23]. }ولقد رآه نزلة أخرى}النجم: 13] ؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة من سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض). فقالت: أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}؟ أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا - إلى قول - علي حكيم}الشورى: 51] ؟ قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}المائدة: 67] قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول{قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله}النمل: 65]. إلى ما ذهبت إليه عائشة رضي الله عنها من عدم الرؤية، وأنه إنما رأى جبريل: ابن مسعود، ومثله عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأنه رأى جبريل، واختلف عنهما. وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين. وعن ابن عباس أنه رآه بعينه؛ هذا هو المشهور عنه. وحجته قوله تعالى{ما كذب الفؤاد ما رأى}النجم: 11]. وقال عب الله بن الحارث: اجتمع ابن عباس وأبي بن كعب، فقال ابن عباس: أما نحن بنو هاشم فنقول إن محمدا رأى ربه مرتين. ثم قال ابن عباس: أتعجبون أن الخلة تكون لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. قال: فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، ثم قال: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى عليهما السلام، فكلم موسى ورآه محمد صلى الله عليه وسلم.
وحكى عبدالرزاق أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه. وحكاه أبو عمر الطلمنكي عن عكرمة، وحكاه بعض المتكلمين عن ابن مسعود، والأول عنه أشهر. وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمد ربه؟ فقال نعم وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس: بعينه رآه رآه! حتى انقطع نفسه، يعني نفس أحمد. وإلى هذا ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى الله ببصره وعيني رأسه. وقال أنس وابن عباس وعكرمة والربيع والحسن. وكان الحسن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأى محمد ربه. وقال جماعة منهم أبو العالية والقرظي والربيع بن أنس: إنه إنما رأى ربه بقلبه وفؤاده؛ وحكي عن ابن عباس أيضا وعكرمة. وقال أبو عمر: قال أحمد بن حنبل رآه بقلبه، وجبن عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار. وعن مالك بن أنس قال: لم ير في الدنيا؛ لأنه باق ولا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي. قال القاضي عياض: وهذا كلام حسن مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القدرة؛ فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم يمتنع في حقه. وسيأتي شيء من هذا في حق موسى عليه السلام في }الأعراف} إن شاء الله. قوله تعالى{وهو يدرك الأبصار} أي لا يخفى عليه شيء إلا يراه ويعلمه. إنما خص الأبصار؛ لتجنيس الكلام. وقال الزجاج: وفي هذا الكلام دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار؛ أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه. ثم قال{وهو اللطيف الخبير} أي الرفيق بعباده؛ يقال: لطف فلان بفلان يلطف، أي رفق به. واللطف في الفعل الرفق فيه. واللطف من الله تعالى التوفيق والعصمة. وألطفه بكذا، أي بره به. والاسم اللطف بالتحريك. يقال: جاءتنا من فلان لطفه؛ أي هدية. والملاطفة المبارة؛ عن الجوهري وابن فارس. قال أبو العالية: المعنى لطيف باستخراج الأشياء خبير بمكانها. وقال الجنيد: اللطيف من نور قلبك بالهدى، وربى جسمك بالغذا، وجعل لك الولاية في البلوى، ويحرسك وأنت في لظى، ويدخلك جنة المأوى. وقيل غير هذا، مما معناه راجع إلى معنى الرفق وغيره. وسيأتي ما للعلماء من الأقوال في ذلك في }الشورى} إن شاء الله تعالى.
الآية رقم ( 104 )
{قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ}
قوله تعالى{قد جاءكم بصائر من ربكم} أي آيات وبراهين يبصر بها ويستدل؛ جمع بصيرة وهي الدلالة. قال الشاعر:
جاؤوا بصائرهم على أكتافهم وبصيرتي يعدو بها عَتَدٌ وآي
يعني بالبصيرة الحجة البينة الظاهرة. ووصف الدلالة بالمجيء لتفخيم شأنها؛ إذ كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره للنفس؛ كما يقال: جاءت العافية وقد انصرف المرض، وأقبل السعود وأدبر النحوس. }فمن أبصر فلنفسه} الإبصار: هو الإدراك بحاسة البصر؛ أي فمن استدل وتعرف فنفسه نفع. }ومن عمي فعليها} لم يستدل، فصار بمنزلة الأعمى؛ فعلى نفسه يعود ضرر عماه. }وما أنا عليكم بحفيظ} أي لم أومر بحفظكم على أن تهلكوا أنفسكم. وقيل: أي لا أحفظكم من عذاب الله. وقيل{بحفظ} برقيب؛ أحصي عليكم أعمالكم، إنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي، وهو الحفيظ عليكم لا يخفى عليه شيء من أفعالكم. قال الزجاج: نزل هذا قبل فرض القتال، ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان.
قوله تعالى{وكذلك نصرف الآيات} الكاف في كذلك في موضع نصب؛ أي نصرف الآيات مثل ما تلونا عليك. أي كما صرفنا الآيات في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه في هذه السورة نصرف في غيرها. }وليقولوا درست} والواو للعطف على مضمر؛ أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست. وقيل: أي }وليقولوا درست} صرفناها؛ فهي لام الصيرورة. وقال الزجاج: هذا كما تقول كتب فلان هذا الكتاب لحتفه؛ أي آل أمره إلى ذلك. وكذا لما صرفت الآيات آل أمرهم إلى أن قالوا: درست وتعلمت من جبر ويسار، وكانا غلامين نصرانيين بمكة، فقال أهل مكة: إنما يتعلم منهما. قال النحاس: وفي المعنى قول آخر حسن، وهو أن يكون معنى }نصرف الآيات} نأتي بها آية بعد آية ليقولوا درست علينا؛ فيذكرون الأول بالآخر. فهذا حقيقة، والذي قاله أبو إسحاق مجاز.
وفي }درست} سبع قراءات. قرأ أبو عمرو وابن كثير }دارست} بالألف بين الدال والراء؛ كفاعلت. وهي قراءة علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأهل مكة. قال ابن عباس: معنى }دارست} تاليت. وقرأ ابن عامر }درست} بفتح السين وإسكان التاء غير ألف؛ كخرجت. وهي قراءة الحسن. وقرأ الباقون }درست} كخرجت. فعلى الأولى: دارست أهل الكتاب ودارسوك؛ أي ذاكرتهم وذاكروك؛ قال سعيد بن جبير. ودل على هذا المعنى قوله تعالى إخبارا عنهم{وأعانه عليه قوم آخرون}الفرقان: 4] أي أعان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن وذاكروه فيه. وهذا كله قول المشركين. ومثله قولهم{وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا}الفرقان: 5] }إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين}النحل: 24]. وقيل: المعنى دارستنا؛ فيكون معناه كمعنى درست؛ ذكره النحاس واختاره، والأول ذكره مكي. وزعم النحاس أنه مجاز؛ كما قال:
فللموت ما تلد الوالده
ومن قرأ }درست} فأحسن ما قيل في قراءته أن المعنى: ولئلا يقولوا انقطعت وامحت، وليس يأتي محمد صلى الله عليه وسلم بغيرها. وقرأ قتادة }درست} أي قرئت. وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه قرأ }دارست}. وكان أبو حاتم يذهب إلى أن هذه القراءة لا تجوز؛ قال: لأن الآيات لا تدارس. وقال غيره: القراءة بهذا تجوز، وليس المعنى على ما ذهب إليه أبو حاتم، ولكن معناه دارست أمتك؛ أي دارستك أمتك، وإن كان لم يتقدم لها ذكر؛ مثل قوله{حتى توارت بالحجاب}ص: 32]. وحكى الأخفش }وليقولوا درست} وهو بمعنى }درست} إلا أنه أبلغ. وحكى أبو العباس أنه قرئ }وليقولوا درست} بإسكان اللام على الأمر. وفيه معنى التهديد؛ أي فليقولوا بما شاؤوا فإن الحق بين؛ كما قال عز وجل }فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا}التوبة: 82] فأما من كسر اللام فإنها عنده لام كي. وهذه القراءات كلها يرجع اشتقاقها إلى شيء واحد، إلى التليين والتذليل. و}درست} من درس يدرس دراسة، وهي القراءة على الغير. وقيل: درسته أي ذللته بكثرة القراءة؛ وأصله درس الطعام أي داسه. والدياس الدراس بلغة أهل الشام. وقيل: أصله من درست الثوب أدرسه درسا أي أخلقته. وقد درس الثوب درسا أي أخلق. ويرجع هذا إلى، التذلل أيضا. ويقال: سمي إدريسي لكثرة دراسته لكتاب الله. ودارست الكتب وتدارستها وادارستها أي درستها. ودرست الكتاب درسا ودراسة. ودرست المرأة درسا أي حاضت. ويقال إن فرج المرأة يكنى أبا أدراس؛ وهو من الحيض. والدرس أيضا: الطريق الخفي. وحكى الأصمعي: بعير لم يدرس أي لم يركب، ودرست من درس المنزل إذا عفا. وقرأ ابن مسعود وأصحابه وأبي وطلحة والأعمش }وليقولوا درس} أي درس محمد الآيات. }ولنبينه} يعني القول والتصريف، أو القرآن }لقوم يعلمون}.
الآية رقم ( 106 )
{اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين}
قوله تعالى{اتبع ما أوحي إليك من ربك} يعني القرآن؛ أي لا تشغل قلبك وخاطرك بهم، بل اشتغل بعبادة الله. }لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين} منسوخ.
الآية رقم ( 107 )
{ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل}
قوله تعالى{ولو شاء الله ما أشركوا} نص على أن الشرك بمشيئته، وهو إبطال لمذهب القدرية كما تقدم. }وما جعلناك عليهم حفيظا} أي لا يمكنك حفظهم من عذاب الله. }وما أنت عليهم بوكيل} أي قيم بأمورهم في مصالحهم لدينهم أو دنياهم، حتى تلطف لهم في تناول ما يجب لهم؛ فلست بحفيظ في ذلك ولا وكيل في هذا، إنما أنت مبلغ. وهذا قبل أن يؤمر بالقتال.
الآية رقم ( 108 )
{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون}
قوله تعالى{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله} نهي. }فيسبوا الله} جواب النهي. فنهى سبحانه لمؤمنين أن يسبوا أوثانهم؛ لأنه علم إذا سبوها نفر الكفار وازدادوا كفرا. قال ابن عباس: قالت كفار قريش لأبي طالب إما أن تنهى محمدا وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما أن إلهه ونهجوه؛ فنزلت الآية.
قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمة على كل حال؛ فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو البني عليه السلام أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية. وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل بـ }الذين} على معتقد الكفرة فيها.
في هذه الآية أيضا ضرب من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع؛ وفيها دليل على أن المحق قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين. ومن هذا المعنى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تبتوا الحكم بين ذوي القرابات مخافة القطيعة. قال ابن العربي: إن كان الحق واجبا فيأخذه بكل حال وإن كان جائزا ففيه يكون هذا القول.
قوله تعالى{عدوا} أي جهلا واعتداء. وروي عن أهل مكة أنهم قرؤوا }عدوا} بضم العين والدال وتشديد الواو، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة، وهي راجعة إلى القراءة الأولى، وهما جميعا بمعنى الظلم. وقرأ أهل مكة أيضا }عدوا} بفتح العين وضم الدال بمعنى عدو. وهو واحد يؤدي عن جمع؛ كما قال{فإنهم عدو لي إلا رب العالمين}الشعراء: 77]. وقال تعالى{هم العدو} وهو منصوب على المصدر أو على المفعول من أجله.
قوله تعالى{كذلك زينا لكل أمة عملهم} أي كما زينا لهؤلاء أعمالهم كذلك زينا لكل أمة عملهم. قال ابن عباس. زينا لأهل الطاعة الطاعة، ولأهل الكفر الكفر؛ وهو كقوله{كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء}المدثر: 31]. وفي هذا رد على القدرية.
الآية رقم ( 109 )
{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون}
قوله تعالى{وأقسموا} أي حلفوا. وجهد اليمين أشدها، وهو بالله. فقوله{جهد أيمانهم} أي غاية أيمانهم التي بلغها علمهم، وانتهت إليها قدرتهم. وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم، وأن هذه الآلهة إنما يعبدونها ظنا منهم أنها تقربهم إلى الله زلفى؛ كما أخبر عنهم بقوله تعالى{ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}الزمر: 3]. وكانوا يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك، وكانوا يحلفون بالله تعالى وكانوا يسمونه جهد اليمين إذا كانت اليمين بالله. }جهد} منصوب على المصدر والعامل فيه }أقسموا} على مذهب سيبويه؛ لأنه في معناه. والجهد (بفتح الجيم): المشقة يقال: فعلت ذلك بجهد. والجهد (بضمها): الطاقة يقال: هذا جهدي، أي طاقتي. ومنهم من يجعلهما واحدا، ويحتج بقول }والذين لا يجدون إلا جهدهم}التوبة: 79]. وقرئ }جهدهم} بالفتح؛ عن ابن قتيبة. وسبب الآية فيما ذكر المفسرون: القرظي والكلبي وغيرهما، أن قريشا قالت: يا محمد، تخبرنا بأن موسى ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة؛ فائتنا ببعض هذه الآيات حتى نصدقك. فقال: (أي شيء تحبون)؟ قالوا: أجعل لنا الصفا ذهبا؛ فوالله إن فعلته لنتبعنك أجمعون. فقام رسول الله صلى الله عليه سلم يدعو؛ فجاءه جبريل عليه السلام فقال: (إن شئت أصبح الصفا ذهبا، ولئن أرسل الله آية ولم يصدقوا عندها ليعذبنهم فأتركهم حتى يتوب تائبهم) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بل يتوب تائبهم) فنزلت هذه الآية. وبين الرب بأن من سبق العلم الأزلي بأنه لا يؤمن فإنه لا يومن وإن أقسم ليؤمنن.
قوله تعالى{جهد أيمانهم} قيل: معناه بأغلظ الأيمان عندهم. وتعرض هنا مسألة من الأحكام عظمى، وهي قول الرجل: الأيمان تلزمه إن كان كذا وكذا. قال ابن العربي: وقد كانت هذه اليمين في صدر الإسلام معروفة بغير هذه الصورة، كانوا يقولون: على أشد ما أخذه أحد على أحد؛ فقال مالك: تطلق نساؤه. ثم تكاثرت الصورة حتى آلت بين الناس إلى صورة هذه أمها. وكان شيخنا الفهري الطرسوسي يقول: يلزمه إطعام ثلاثين مسكينا إذا حنث فيها؛ لأن قوله }الإيمان} جمع يمين، وهو لو قال علي يمين وحنث ألزمناه كفارة. ولو قال: علي يمينان للزمته كفارتان إذا حنث. والإيمان جمع يمين فيلزمه فيها ثلاث كفارات.
قلت: وذكر أحمد بن محمد بن مغيث في وثائقه: اختلف شيوخ القيروان فيها؛ فقال أبو محمد بن أبي زيد؛ يلزمه في زوجته ثلاث تطليقات، والمشي إلى مكة، وتفريق ثلث ماله، وكفارة يمين، وعتق رقبة. قال ابن مغيث: وبه قال ابن أرفع رأسه وابن بدر من فقهاء طليطلة. وقال الشيخ أبو عمران الفاسي وأبو الحسن القابسي وأبو بكر بن عبدالرحمن القروي: تلزمه طلقة واحدة إذا لم تكن له نية. ومن حجتهم في ذلك رواية ابن الحسن في سماعه من ابن وهب في قوله{وأشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه ذلك كفارة يمين}. قال ابن مغيث: فجعل من سميناه على القائل{الإيمان تلزمه} طلقة واحدة؛ لأنه لا يكون أسوأ حالا من قوله: أشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه كفارة يمين، قال وبه نقول. قال: واحتج الأولون بقول ابن القاسم من قال: علي عهد الله وغليظ ميثاقه وكفالته وأشد ما أخذه أحد على أحد على أمر ألا يفعله ثم فعله؛ فقال: إن لم يرد الطلاق ولا العتاق وعزلهما عن ذلك فلتكن ثلاث كفارات. فان لم تكن له نية حين حلف فليكفر كفارتين في قوله: علي عهد الله وغليظ ميثاقه. ويعتق رقبة وتطلق نساؤه، ويمشي إلى مكة ويتصدق بثلث ما له في قوله: وأشد ما أخذه على أحد. قال ابن العربي: أما طريق الأدلة فإن الألف واللام في الإيمان لا تخلو أن يراد بها الجنس أو العهد؛ فإن دخلت للعهد فالمعهود قولك }بالله} فيكون ما قاله الفهري. فإن دخلت للجنس فالطلاق جنس فيدخل فيها ولا يستوفى عدده، فإن الذي يكفي أن يدخل في كل جنس معنى واحد؛ فإنه لو دخل في الجنس المعنى كله للزمه أن يتصدق بجميع ما له؛ إذ قد تكون الصدقة بالمال يمينا. والله أعلم.
قوله تعالى{قل إنما الآيات عند الله} أي قل يا محمد: الله القادر على الآتيان بها، وإنما يأتي بها إذا شاء. }وما يشعركم} أي وما يدويكم أيمانكم؛ فحذف المفعول. ثم استأنف فقال{إنها إذا جاءت لا يؤمنون} بكسر إن، وهي قراءة مجاهد وأبي عمرو وابن كثير. ويشهد لهذا قراءة ابن مسعود }وما يشعركم إذا جاءت لا يؤمنون}. وقال مجاهد وابن زيد: المخاطب بهذا المشركون، وتم الكلام. حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون، وقد أعلمنا في الآية بعد هذه أنهم لا يؤمنون. وهذا التأويل يشبه قراءة من قرأ }تؤمنون} بالتاء. وقال الفراء وغيره؛ الخطاب للمؤمنين؛ لأن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون؛ فقال الله تعالى{وما يشعركم} أي يعلمكم ويدريكم أيها المؤمنون. }أنها} بالفتح، وهي قراءة أهل المدينة والأعمش وحمزة، أي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. قال الخليل{أنها} بمعنى لعلها؛ وحكاه عنه سيبويه. وفي التنزيل{وما يدريك لعله يزكى}عبس: 3] أي أنه يزكى. وحكي عن العرب: ايت السوق أنك تشتري لنا شيئا، أي لعلك. وقال أبو النجم:
قلت لشيبان ادن من لقائه أنّ تغدي القوم من شوائه
وقال عدي بن زيد:
أعاذل ما يدريك أنّ منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
أي لعل. وقال دريد بن الصمة:
أريني جوادا مات هزلا لأنني أري ما ترين أو بخيلا مخلدا
أي لعلني. وهو في كلام العرب كثير }أن} بمعنى لعل. وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب }وما أدراكم لعلها}. وقال الكسائي والفراء: أن }لا} زائدة، والمعنى: وما يشعركم أنها - أي الآيات - إذا جاءت المشركين يؤمنون، فزيدت }لا}؛ كما زيدت }لا} في قوله تعالى{وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون}الأنبياء: 95]. لأن المعنى: ووحرام على قرية مهلكة رجوعهم. وفي قوله{ما منعك ألا تسجد}الأعراف: 12]. والمعنى: ما منعك أن تسجد. وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة }لا} وقالوا: هو غلط وخطأ؛ لأنها إنما تزاد فيما لا يشكل. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون، ثم حذف هذا لعلم السامع؛ ذكره النحاس وغيره.
الآية رقم ( 110 )
{ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون}
قوله تعالى{ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} هذه آية مشكلة، ولا سيما وفيها }ونذرهم في طغيانهم يعمهون}. قيل: المعنى ونقلب أفئدتهم وأنظارهم يوم القيامة على لهب النار وحر الجمر؛ كما لم يؤمنوا في الدنيا. }ونذرهم} في الدنيا، أي نمهلهم ولا نعاقبهم؛ فبعض الآية في الآخرة، وبعضها في الدنيا. ونظيرها }وجوه يومئذ خاشعة}الغاشية: 2] فهذا في الآخرة. }عاملة ناصبة} في الدنيا. وقيل: ونقلب في الدنيا؛ أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة؛ لما دعوتهم وأظهرت المعجزة. وفي التنزيل{واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه}الأنفال: 24]. والمعنى: كان ينبغي أن يؤمنوا إذا جاءتهم الآية فرأوها بأبصارهم وعرفوها بقلوبهم؛ فإذا لم يؤمنوا كان ذلك بتقليب الله قلوبهم وأبصارهم. }كما لم يؤمنوا به أول مرة} ودخلت الكاف على محذوف، أي فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة؛ أي أول مرة أتتهم الآيات التي عجزوا عن معارضتها مثل القرآن وغيره. وقيل: ونقلب أفئدة هؤلاء كيلا يؤمنوا؛ كما لم تؤمن كفار الأمم السالفة لما رأوا ما اقترحوا من الآيات. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ أي أنها إذا جاءت لا يؤمنون كما لم يؤمنوا أول مرة ونقلب أفئدتهم وأبصارهم. }ونذرهم في طغيانهم يعمهون} يتحيرون. وقد مضى في }البقرة}.
الآية رقم ( 111 )
{ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون}
قوله تعالى{ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة} فرأوهم عيانا. }وكلمهم الموتى} بإحيائنا إياهم. }وحشرنا عليهم كل شيء} سألوه من الآيات. }قبلا} مقابلة؛ عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. وهي قراءة نافع وابن عامر. وقيل: معاينة، لما آمنوا. وقال محمد بن يزيد: يكون }قبلا} بمعنى ناحية؛ كما نقول: لي قبل فلان مال؛ فقبلا نصب على الظرف. وقرأ الباقون }قبلا} بضم القاف والباء، ومعناه ضمناء؛ فيكون جمع قبيل بمعنى كفيل، نحو رغيف ورغف؛ كما قال{أو تأتي بالله والملائكة قبيلا}الإسراء: 92]؛ أي يضمنون ذلك؛ عن الفراء. وقال الأخفش: هو بمعنى قبيل قبيل؛ أي جماعة جماعة، وقال مجاهد، وهو نصب على الحال على القولين. وقال محمد بن يزيد }قبلا} أي مقابلة؛ ومنه }إن كان قميصه قد من قبل}يوسف: 26]. ومنه قبل الرجل ودبره لما كان من بين يديه ومن ورائه. ومنه قبل الحيض. حكى أبو زيد: لقيت فلانا قيلا ومقابلة وقبلا وقبلا، كله بمعنى المواجهة؛ فيكون الضم كالكسر في المعنى وتستوي القراءتان؛ قاله مكي. وقرأ الحسن }قبلا} حذف الضمة من الباء لثقلها. وعلى قول الفراء يكون فيه نطق ما لا ينطق، وفي كفالة ما لا يعقل آية عظيمة لهم. وعلى قول الأخفش يكون فيه اجتماع الأجناس الذي ليس بمعهود. والحشر الجمع. }ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} }أن} في موضع استثناء ليس من الأول؛ أي لكن إن شاء ذلك لهم. وقيل: الاستثناء لأهل السعادة الذين سبق لهم في علم الله الإيمان. وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. }ولكن أكثرهم يجهلون} أي يجهلون الحق. وقيل: يجهلون أنه لا يجوز اقتراح الآيات بعد أن رأوا آية واحدة.
الآية رقم ( 112 )
{وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون}
قوله تعالى{وكذلك جعلنا لكل نبي} يعزي نبيه ويسليه، أي كما ابتليناك بهؤلاء القوم فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك. }عدوا} أي أعداء. ثم نعتهم فقال }شياطين الإنس والجن} حكى سيبويه جعل بمعنى وصف. }عدوا} مفعول أول. }لكل نبي} في موضع المفعول الثاني. }شياطين الإنس والجن} بدل من عدو. ويجوز أن يكون }شياطين} مفعولا أول، }عدوا} مفعولا ثانيا؛ كأنه قيل: جعلنا شياطين الإنس والجن عدوا. وقرأ الأعمش{شياطين الجن والإنس} بتقديم الجن. والمعنى واحد. }يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} عبارة عما يوسوس به شياطين الجن إلى شياطين الإنس. وسمي وحيا لأنه إنما يكون خفية، وجعل تمويههم زخرفا لتزيينهم إياه؛ ومنه سمي الذهب زخرفا. وكل شيء حسن مموه فهو زخرف. والمزخرف المزين. وزخارف الماء طرائقه. و}غرورا} نصب على المصدر، لأن معنى }يوحي بعضهم إلى بعض} يغرونهم بذلك غرورا. ويجوز أن يكون في موضع الحال. والغرور الباطل. قال النحاس: وروي عن ابن عباس بإسناد ضعيف أنه قال في قول الله عز وجل }يوحي بعضهم إلى بعض} قال: مع كل جني شيطان، ومع كل إنسي شيطان، فيلقى أحدهما الآخر فيقول: إني قد أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثله. ويقول الآخر مثل ذلك؛ فهذا وحي بعضهم إلى بعض. وقاله عكرمة والضحاك والسدي والكلبي. قال النحاس: والقول الأول يدل عليه }وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم}الأنعام:121]؛ فهذا يبين معنى ذلك.
قلت: ويدل عليه من صحيح السنة قوله عليه السلام: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن) قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير). روي (فأسلم) برفع الميم ونصبها. فالرفع على معنى فأسلم من شره. والنصب على معنى فأسلم هو. فقال: (ما منكم من أحد) ولم يقل ولا من الشياطين؛ إلا أنه يحتمل أن يكون نبه على أحد الجنسين بالآخر؛ فيكون من باب }سرابيل تقيكم الحر}النحل: 81] وفيه بعد، والله أعلم. وروى عوف بن مالك عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن)؟ قال قلت: يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: (نعم هم شر من شياطين الجن). وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة تنشد:
إن النساء رياحين خلقن لكم وكلكم يشتهي شم الرياحين
فأجابها عمر رضي الله عنه:
إن النساء شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شر الشياطين
قوله تعالى{ولو شاء ربك ما فعلوه} أي ما فعلوا إيحاء القول بالغرور. }فذرهم} أمر فيه معنى التهديد. قال سيبويه: ولا يقال وذر ولا ودع، استغنوا عنهما بترك.
قلت: هذا إنما خرج على الأكثر. وفي التنزيل{وذر الذين} و}ذرهم} و}ما ودعك}الضحى: 3]. وفي السنة (لينتهن أقوام عن ودعهم الجمعات). وقول: (إذا فعلوا - يريد المعاصي - فقد تودع منهم). قال الزجاج: الواو ثقيلة؛ فلما كان }ترك} ليس فيه واو بمعنى ما فيه الواو ترك ما فيه الواو. وهذا معنى قول وليس بنصه.
{ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون}
قوله تعالى{ولتصغى إليه أفئدة} تصغى تميل؛ يقال: صغوت أصغو صغوا وصغوا، وصغيت أصغي، وصغيت بالكسر أيضا. يقال منه: صغي يصغى صغى وصغيا، وأصغيت إليه إصغاء بمعنىً.
قال الشاعر:
ترى السفيه به عن كل محكمة زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء
ويقال: أصغيت الإناء إذا أملته ليجتمع ما فيه. وأصله الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض. ومنه صغت النجوم: مالت للغروب. وفي التنزيل{فقد صغت قلوبكما}التحريم: 4]. قال أبو زيد: يقال صغوه معك وصغوه، وصغاه معك، أي ميله. وفي الحديث: (فأصغى لها الإناء) يعني للهرة. وأكرموا فلانا في صاغيته، أي في قرابته الذين يميلون إليه ويطلبون ما عنده. وأصغت الناقة إذا أمالت رأسها إلى الرجل كأنها تستمع شيئا حين يشد عليها الرحل. قال ذو الرمة:
تصغي إذا شدها بالكور جانحة حتى إذا ما استوى في غرزها تثب
واللام في ولتصغى لام كي، والعامل فيها }يوحي} تقديره: يوحي بعضهم إلى بعض ليغروهم ولتصغى. وزعم بعضهم أنها لام الأمر، وهو غلط؛ لأنه كان يجب }ولتصغ إليه} بحذف الألف، وإنما هي لام كي. وكذلك }وليرضوه وليقترفوا} إلا أن الحسن قرأ }وليرضوه وليقترفوا} بإسكان اللام، جعلها لام أمر فيه معنى التهديد؛ كما يقال: افعل ما شئت. ومعنى }وليقترفوا ما هم مقترفون} أي وليكتسبوا؛ عن ابن عباس والسدي وابن زيد. يقال: خرج يقترف أهله أي يكتسب لهم. وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه وعمله. وقرفتني بما ادعيت علي، أي رميتني بالريبة. وقرف القرحة إذا قشر منها. واقترف كذبا. قال رؤبة:
أعيا اقتراف الكذب المقروف تقوى التقي وعفة العفيف
وأصله اقتطاع قطعة من الشيء.
الآية رقم ( 114 )
{أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين}
قوله تعالى{أفغير الله أبتغي حكما} }غير} نصب بـ }أبتغي}. }حكما} نصب على البيان، وإن شئت على الحال. والمعنى: أفغير الله أطلب لكم حاكما وهو كفاكم مؤونة المسألة في الآيات بما أنزله إليكم من الكتاب المفصل، أي المبين. ثم قيل: الحكم أبلغ من الحاكم؛ إذ لا يستحق التسمية بحكم إلا من يحكم بالحق، لأنها صفة تعظيم في مدح. والحاكم صفة جارية على الفعل، فقد يسمى بها من يحكم بغير الحق. }والذين آتيناهم الكتاب} يريد اليهود والنصارى. وقيل: من أسلم منهم كسلمان وصهيب وعبدالله بن سلام. }يعلمون أنه} أي القرآن. }منزل من ربك بالحق} أي أن كل ما فيه من الوعد والوعيد لحق }فلا تكونن من الممترين} أي من الشاكين في أنهم يعلمون أنه منزل من عند الله. وقال عطاء: الذين آتيناهم الكتاب وهم رؤساء أصحاب محمد عليه السلام: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
الآية رقم ( 115 )
{وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم}
قوله تعالى{وتمت كلمة ربك} قراءة أهل الكوفة بالتوحيد، والباقون بالجمع. قال ابن عباس: مواعيد ربك، فلا مغير لها. والكلمات ترجع إلى العبارات أو إلى المتعلقات من الوعد والوعيد وغيرهما. قال قتادة: الكلمات هي القرآن لا مبدل له، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون. }صدقا وعدلا} أي فيما وعد وحكم، لا راد لقضائه ولا خلف في وعده. وحكى الرماني، عن قتادة. لا مبدل لها فيما حكم به، أي إنه وإن أمكنه التغيير والتبديل في الألفاظ كما غير أهل الكتاب التوراة والإنجيل فإنه لا يعتد بذلك. ودلت الآية على وجوب اتباع دلالات القرآن؛ لأنه حق لا يمكن تبديله بما يناقضه، لأنه من عند حكيم لا يخفى عليه شيء من الأمور كلها.
الآية رقم ( 116 )
{وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}
قوله تعالى{وإن تطع أكثر من في الأرض} أي الكفار. }يضلوك عن سبيل الله} أي عن الطريق التي تؤدي إلى ثواب الله. }إن يتبعون إلا الظن} }إن} بمعنى ما، وكذلك }وإن هم إلا يخرصون} أي يحدسون ويقدرون؛ ومنه الخرص، وأصله القطع. قال الشاعر:
ترى قصد المران فينا كأنه تذرع خرصان بأيدي الشواطب
يعني جريدا يقطع طولا ويتخذ منه الخرص. وهو جمع الخرص؛ ومنه خرص يخرص النخل خرصا إذا حزره ليأخذ الخراج منه. فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به؛ إذ لا يقين معه. وسيأتي لهذا مزيد بيان في }الذاريات} إن شاء الله تعالى.
الآية رقم ( 117 )
{إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}
قوله تعالى{إن ربك هو أعلم} قال بعض الناس: إن }أعلم} هنا بمعنى يعلم؛ وأنشد قول حاتم الطائي:
تحالفت طيء من دوننا حلفا والله أعلم ما كنا لهم خذلا
وقول الخنساء:
الله أعلم أن جفنته تغدو غداة الريح أو تسري
وهذا لا حجة فيه؛ لأنه لا يطابق }هو أعلم بالمهتدين}. ولأنه يحتمل أن يكون على أصله. }من يضل عن سبيله} }من} بمعنى أي؛ فهو في محل رفع والرافع له }يضل}. وقيل: في محل نصب بأعلم، أي إن ربك أعلم أي الناس يضل عن سبيله. وقيل: في محل نصب بنزع الخافض؛ أي بمن يضل. قال بعض البصريين، وهو حسن؛ لقوله{وهو أعلم بالمهتدين} وقوله في آخر النحل{إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}النحل: 125]. وقرئ }يضل} وهذا على حذف المفعول، والأول أحسن؛ لأنه قال{وهو أعلم بالمهتدين}. فلو كان من الإضلال لقال وهو أعلم بالهادين.
الآية رقم ( 118 )
{فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين}
قوله تعالى{فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} نزلت بسبب أناس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا نأكل ما نقتل ولا نأكل ما قتل الله؟ فنزلت }فكلوا} إلى قوله }وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}الأنعام: 121] خرجه الترمذي وغيره. قال عطاء: هذه الآية أمر بذكر اسم الله على الشراب والذبح وكل مطعوم. وقوله{إن كنتم بآياته مؤمنين} أي بأحكامه وأوامره آخذين؛ فإن الإيمان بها يتضمن ويقتضي الأخذ بها والانقياد لها.
الآية رقم ( 119)
{وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين}
قوله تعالى{وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه} المعنى ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه ربكم وإن قتلتموه بأيديكم. }وقد فصل} أي بين لكم الحلال من الحرام، وأزيل عنكم اللبس والشك. فـ }ما} استفهام يتضمن التقرير. وتقدير الكلام: وأي شيء لكم في ألا تأكلوا. }فأن} في موضع خفض بتقدير حرف الجر. ويصح أن تكون في موضع نصب على ألا يقدر حرف جر، ويكون الناصب معنى الفعل الذي في قوله }مالكم} تقديره أي ما يمنعكم. ثم استثنى فقال }إلا ما اضطررتم إليه} يريد من جميع ما حرم كالميتة وغيرها وهو استثناء منقطع. وقرأ نافع ويعقوب }وقد فصل لكم ما حرم} بفتح الفعلين. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالضم فيهما، والكوفيون }فصل} بالفتح }حرم} بالضم. وقرأ عطية العوفي }فصل} بالتخفيف. ومعناه أبان وظهر؛ كما قرئ }الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت}هود: 1] أي استبانت. واختار أبو عبيدة قراءة أهل المدينة. وقيل{فصل} أي بين، وهو ما ذكره في سورة }المائدة} من قوله{حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير}المائدة: 3] الآية.
قلت: هذا فيه نظر؛ فإن }الأنعام} مكية والمائدة مدنية فكيف يحيل بالبيان على ما لم ينزل بعد، إلا أن يكون فصل بمعنى يفصل. والله أعلم.
قوله تعالى{وإن كثيرا ليضلون} وقرأ الكوفيون }يضلون} من أضل. }بأهوائهم بغير علم} يعني المشركين حيث قالوا: ما ذبح الله بسكينه خير مما ذبحتم بسكاكينكم }بغير علم} أي بغير علم يعلمونه في أمر الذبح؛ إذ الحكمة فيه إخراج ما حرمه الله علينا من الدم بخلاف ما مات حتف أنفه؛ ولذلك شرع الذكاة في محل مخصوص ليكون الذبح فيه سببا لجذب كل دم في الحيوان بخلاف غيره من الأعضاء والله أعلم.
الآية رقم ( 120 )
{وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون}
قوله تعالى{وذروا ظاهر الإثم وباطنه} للعلماء فيه أقوال كثيرة. وحاصلها راجع إلى أن الظاهر ما كان عملا بالبدن مما نهى الله عنه، وباطنه ما عقد بالقلب من مخالفة أمر الله فيما أم ونهى؛ وهذه المرتبة لا يبلغها إلا من اتقى وأحسن؛ كما قال{ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا}المائدة: 93]. وهي المرتبة الثالثة. حسب ما تقدم بيانه في (المائدة). وقيل: هو ما كان عليه الجاهلية من الزنا الظاهر واتخاذ الحلائل في الباطن. وما قدمنا جامع لكل إثم وموجب لكل أمر.
الآية رقم ( 121 )
{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}
روى أبو داود قال: جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنزل الله عز وجل{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} إلى آخر الآية. وروى النسائي عن ابن عباس في قوله تعالى{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} قال: خاصمهم المشركون فقالوا: ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم أكلتموه؛ فقال الله سبحانه لهم: لا تأكلوا؛ فإنكم لم تذكروا اسم الله عليها. وتنشأ هنا مسألة أصولية، وهي أن اللفظ الوارد على سبب هل يقصر عليه أم لا؛ فقال علماؤنا: لا إشكال في صحة دعوى العموم فيما يذكره الشارع ابتداء من صيغ ألفاظ العموم. أما ما ذكره جوابا لسؤال ففيه تفصيل، على ما هو معروف في أصول الفقه؛ إلا أنه إن أتى بلفظ مستقل دون السؤال لحق بالأول في صحة القصد إلى التعميم. فقول{لا تأكلوا} ظاهر في تناول الميتة، وتدخل فيه ما ذكر عليه غير اسم الله بعموم أنه لم يذكر عليه اسم الله، وبزيادة ذكر غير اسم الله سبحانه عليه الذي يقتضي تحريمه نصا بقول{وما أهل به لغير الله}البقرة: 173]. وهل يدخل فيه ما ترك المسلم التسمية عمدا عليه من الذبح، وعند إرسال الصيد. اختلف العلماء في ذلك على أقوال خمسة، وهي
القول الأول: إن تركها سهوا أكلا جميعا، وهو قول إسحاق ورواية عن أحمد بن حنبل. فإن تركها عمدا لم يؤكلا؛ وقال في الكتاب مالك وابن القاسم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وعيسى وأصبغ، وقاله سعيد بن جبير وعطاء، واختاره النحاس وقال: هذا أحسن، لأنه لا يسمى فاسقا إذا كان ناسيا.
الثاني: إن تركها عامدا أو ناسيا يأكلهما. وهو قول الشافعي والحسن، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد وعكرمة وأبي عياض وأبي رافع وطاوس وإبراهيم النخعي وعبدالرحمن بن أبي ليلى وقتادة. وحكى الزهراوي عن مالك بن أنس أنه قال: تؤكل الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمدا أو نسيانا. وروي عن ربيعة أيضا. قال عبدالوهاب: التسمية سنة؛ فإذا تركها الذابح ناسيا أكلت الذبيحة في قول مالك وأصحابه.
الثالث: إن تركها عامدا أو ساهيا حرم أكلها؛ قال محمد بن سيرين وعبدالله بن عياش بن أبي ربيعة وعبدالله بن عمر ونافع وعبدالله بن زيد الخطمي والشعبي؛ وبه قال أبو ثور وداود بن علي وأحمد في رواية.
الرابع: إن تركها عامدا كره أكلها؛ قاله القاضي أبو الحسن والشيخ أبو بكر من علمائنا.
الخامس: قال أشهب: تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمدا إلا أن يكون مستخفا، وقال نحوه الطبري. أدلة قال الله تعالى{فكلوا مما ذكر اسم الله عليه}الأنعام: 118] وقال{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} فبين الحالين وأوضح الحكمين. فقول{لا تأكلوا} نهي على التحريم لا يجوز حمله على الكراهة؛ لتناول في بعض مقتضياته الحرام المحض، ولا يجوز أن يتبعض، أي يراد به التحريم والكراهة معا؛ وهذا من نفيس الأصول. وأما الناسي فلا خطاب توجه إليه إذ يستحيل خطابه؛ فالشرط ليس بواجب عليه. وأما التارك للتسمية عمدا فلا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يتركها إذا أضجع الذبيحة ويقول: قلبي مملوء من أسماء الله تعالى وتوحيده فلا أفتقر إلى ذكر بلساني؛ فذلك يجزئه لأنه ذكر الله جل جلال وعظمه. أو يقول: إن هذا ليس بموضع تسمية صريحة، إذ ليست بقربة؛ فهذا أيضا يجزئه. أو يقول: لا أسمي، وأي قدر للتسمية؛ فهذا متهاون فاسق لا تؤكل ذبيحته. قال ابن العربي: وأعجب لرأس المحققين أمام الحرمين حيث قال: ذكر الله تعالى إنما شرع في القرب، والذبح ليس بقربة. وهذا يعارض القرآن والسنة؛ قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل). فإن قيل: المراد بذكر اسم الله بالقلب؛ لأن الذكر يضاد النسيان ومحل النسيان القلب فمحل الذكر القلب، وقد روى البراء بن عازب: اسم الله على قلب كل مؤمن سمى أو لم يسم. قلنا: الذكر باللسان وبالقلب، والذي كانت العرب تفعله تسمية الأصنام والنصب باللسان، فنسخ الله ذلك بذكره في الألسنة، وأشتهر ذلك في الشريعة حتى قيل لمالك: هل يسمي الله تعالى إذا توضأ فقال: أيريد أن يذبح. وأما الحديث الذي تعلقوا به من قوله:(اسم الله على قلب كل مؤمن) فحديث ضعيف. وقد استدل جماعة من أهل العلم على أن التسمية على الذبيحة ليست بواجبة؛ لقوله عليه السلام لأناس سألوه، قالوا: يا رسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري اذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم{سموا الله عليه وكلوا}. أخرجه الدارقطني عن عائشة ومالك مرسلا عن هشام بن عروة عن أبيه، لم يختلف عليه في إرساله. وتأول بأن قال في آخره: وذلك في أول الإسلام. يريد قبل أن ينزل عليه} ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه}. قال أبو عمر: وهذا ضعيف، وفي الحديث نفسه ما يرده، وذلك أنه أمرهم فيه بتسمية الله على الأكل؛ فدل على أن الآية قد كانت نزلت عليه. ومما يدل على صحة ما قلناه أن هذا الحديث كان بالمدينة، ولا يختلف العلماء أن قوله تعالى{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} نزل في سورة }الأنعام} بمكة. ومعنى }وإنه لفسق} أي لمعصية عن ابن عباس. والفسق: الخروج. وقد تقدم.
قوله تعالى{وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} أي يوسوسون فيلقون في قلوبهم الجدال بالباطل. روى أبو داود عن ابن عباس في قوله{وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه، وما ذبحتم أنتم فكلوه، فأنزل الله }ولا تأكلوا مما لو يذكر اسم الله عليه} قال عكرمة: عنى بالشياطين في هذه الآية مردة الإنس من مجوس فارس. وقال ابن عباس وعبدالله بن كثير: بل الشياطين الجن، وكفرة الجن أولياء قريش. وروي عن عبدالله بن الزبير أنه قيل له: إن المختار يقول: يوحى إلى فقال: صدق، إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم. وقوله{ليجادلوكم}. يريد قولهم: ما قتل الله لم تأكلوه وما قتلتموه أكلتموه. والمجادلة: دفع القول على طريق الحجة بالقوة؛ مأخوذ من الأجدل، طائر قوي. وقيل: هو مأخوذ من الجدالة، وهي الأرض؛ فكأنه يغلبه بالحجة يقهره حتى يصير كالمجدول بالأرض. وقيل: هو مأخوذ من الجدل، وهو شدة القتل؛ فكأن كل واحد منهما يفتل حجة صاحبه حتى يقطعها، وتكون حقا في نصرة الحق وباطلا في نصرة الباطل.
قوله تعالى{وإن أطعتموهم} أي في تحليل الميتة }إنكم لمشركون}. فدلت الآية على أن من استحل شيئا مما حرم الله تعالى صار به مشركا. وقد حرم الله سبحانه الميتة نصا؛ فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك. قال ابن العربي: إنما يكون المؤمن بطاعة المشرك مشركا إذا أطاعه في الاعتقاد؛ فأما إذا أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص؛ فافهموه. وقد مضى في }المائدة}.
الآية رقم ( 122 )
{أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون}
قوله تعالى{أومن كان ميتا فأحييناه} قرأ الجمهور بفتح الواو، دخلت عليها همزة الاستفهام. وروى المسيبي عن نافع بن أبي نعيم }أو من كان} بإسكان الواو. قال النحاس: يحوز أن يكون محمولا على المعنى، أي انظروا وتدبروا أغير الله أبتغي حكما. }أو من كان ميتا فأحييناه} قيل: معناه كان ميتا حين كان نطفة فأحييناه بنفخ الروح فيه؛ حكاه ابن بحر. وقال ابن عباس: أو من كان كافرا فهديناه. نزلت في حمزة بن عب المطلب وأبي جهل. وقال زيد بن أسلم والسدي{فأحييناه} عمر رضي الله عنه. }كمن مثله في الظلمات} أبو جهل لعنه الله. والصحيح أنها عامة في كل مؤمن وكافر. وقيل: كان ميتا بالجهل فأحييناه بالعلم. وأنشد بعض أهل العلم ما يدل على صحة هذا التأويل لبعض شعراء البصرة:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله فأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرأ لم يحي بالعلم ميت فليس له حتى النشور نشور
والنور عبارة عن الهدى والإيمان. وقال الحسن: القرآن. وقيل: الحكمة. وقيل: هو النور المذكور في قوله{يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم}الحديد: 12]، وقوله{انظرونا نقتبس من نوركم}الحديد: 13]. }يمشي به} أي بالنور }كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} أي كمن هو فمثل زائدة. تقول: أنا أكرم مثلك؛ أي أكرمك. ومثله }فجزاء مثل ما قتل من النعم}المائدة: 95]، }ليس كمثله شيء}الشورى: 11]. وقيل: المعنى كمن مثله ما قتل من هو في الظلمات. والمثل والمثل واحد. }كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} أي زين لهم الشيطان عبادة الأصنام وأوهمهم أنهم أفضل من المسلمين.
الآية رقم ( 123 )
{وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون}
قوله تعالى{وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها} المعنى: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون كذلك جعلنا في كل قرية. }مجرميها} مفعول أول لجعل }مفعول ثاني على التقديم والتأخير. وجعل بمعنى صير. والأكابر جمع الأكبر. قال مجاهد: يريد العظماء. وقيل: الرؤساء والعظماء. وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد. والمكر الحيلة في مخالفة الاستقامة، أصله الفتل؛ فالماكر يفتل عن الاستقامة أي يصرف عنها. قال مجاهد: كانوا يجلسون على كل عقبة أربعة ينفرون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما فعل من قبلهم من الأمم السالفة بأنبيائهم. }وما يمكرون إلا بأنفسهم} أي وبال مكرهم راجع إليهم. وهو من الله عز وجل الجزاء على مكر الماكرين بالعذاب الأليم. }وما يشعرون} في الحال؛ لفرط جهلهم أن وبال مكرهم عائد إليهم.
الآية رقم ( 124 )
{وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون}
قوله تعالى{وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن} بين شيئا آخر من جهلهم، وهو أنهم قالوا لن نؤمن حتى نكون أنبياء، فنؤتى مثل ما أوتي موسى وعيسى من الآيات؛ ونظيره }بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة}المدثر: 52]. والكناية في }جاءتهم} ترجع إلى الأكابر الذين جرى ذكرهم. قال الوليد بن المغيرة: لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك؛ لأني أكبر منك سنا، وأكثر منك ما لا. وقال أبو جهل: والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه؛ فنزلت الآية. وقيل: لم يطلبوا النبوة ولكن قالوا لا نصدقك حتى يأتينا جبريل والملائكة يخبروننا بصدقك. والأول أصح؛ لأن الله تعالى قال{الله أعلم حيث يجعل رسالته}الأنعام: 124] أي بمن هو مأمون عليها وموضع لها. و}حيث} ليس ظرفا هنا، بل هو اسم نصب نصب المفعول به على الاتساع؛ أي الله أعلم أهل الرسالة. وكان الأصل الله أعلم بمواضع رسالته، ثم حذف الحرف، ولا يجوز أن يعمل }أعلم} في }حيث} ويكون ظرفا، لأن المعنى يكون على ذلك الله أعلم في هذا الموضع، وذلك لا يجوز أن يوصف به الباري تعالى، وإنما موضعها نصب بفعل مضمر دل عليه }أعلم}. وهي اسم كما ذكرنا. والصغار: الضيم والذل والهوان، وكذلك الصغر (بالضم). والمصدر الصغر (بالتحريك). وأصله من الصغر دون الكبر؛ فكأن الذل يصغر إلى المرء نفسه، وقيل: أصله من الصغر وهو الرضا بالذل؛ يقال منه: صغر يصغر بفتح الغين في الماضي وضمها في المستقبل. وصغر بالكسر يصغر بالفتح لغتان، صغرا وصغارا، واسم الفاعل صاغر وصغير. والصاغر: الراضي بالضيم. والمصغوراء الصغار. وأرض مصغرة: نبتها لم يطل؛ عن ابن السكيت. }عند الله} أي من عند الله، فحذف. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي سيصيب الذين أجرموا عند الله صغار. الفراء: سيصيب الذين أجرموا صغار من الله. وقيل: المعنى سيصيب الذين أجرموا صغار ثابت عند الله. قال النحاس: وهذا أحسن الأقوال؛ لأن }عند} في موضعها.
الآية رقم ( 125 )
{فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون}
قوله تعالى{فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} أي يوسعه له، ويوفقه ويزين عنده ثوابه. ويقال: شرح شق، وأصله التوسعة. وشرح الله صدره وسعه بالبيان لذلك. وشرحت الأمر: بنته وأوضحته. وكانت قريش تشرح النساء شرحا، وهو مما تقدم: من التوسعة والبسط، وهو وطء المرأة مستلقية على قفاها. فالشرح: الكشف؛ تقول: شرحت الغامض؛ ومنه تشريح اللحم. قال الراجز:
كم قد أكلت كبدا وإنفحه ثم ادخرت إلية مُشَرَّحَه
والقطعة منه شريحة. وكل سمين من اللحم ممتد فهو شريحة. }ومن يرد أن يضله} يغويه }يجعل صدره ضيقا حرجا} وهذا رد على القدرية. ونظير هذه الآية من السنة قوله عليه السلام: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) أخرجه الصحيحان. ولا يكون ذلك إلا بشرح الصدر وتنويره. والدين العبادات؛ كما قال{إن الدين عند الله الإسلام}آل عمران: 19]. ودليل خطابه أن من لم يرد الله به خيرا ضيق صدره، وأبعد فهمه فلم يفقهه. والله أعلم. وروي أن عبدالله بن مسعود قال: يا رسول الله، وهل ينشرح الصدر؟ فقال: (نعم يدخل القلب نور) فقال: وهل لذلك من علامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزول الموت). وقرأ ابن كثير }ضيقا} بالتخفيف؛ مثل هين ولين لغتان. ونافع وأبو بكر }حرجا} بالكسر، ومعناه الضيق. كرر المعنى، وحسن ذلك لاختلاف اللفظ. والباقون بالفتح. جمع حرجة؛ وهو شدة الضيق أيضا، والحرجة الغيضة؛ والجمع حرج وحرجات. ومنه فلان يتحرج أي يضيق على نفسه في تركه هواه للمعاصي؛ قال الهروي. وقال ابن عباس: الحرج موضع الشجر الملتف؛ فكأن قلب الكافر لا تصل إليه الحكمة كما لا تصل الراعية إلى الموضع الذي التف شجره. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا المعنى؛ ذكره مكي والثعلبي وغيرهما. وكل ضيق حرج. قال الجوهري: مكان حرج وحرج أي ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الراعية. وقرئ }يجعل صدره ضيقا حرجا} و}حرجا}. وهو بمنزلة الوحد والوحد والفرد والفرد والدنف والدنف؛ في معنى واحد، وحكاه غيره عن الفراء. وقد حرج صدره يحرج حرجا. والحرج الإثم. والحرج أيضا: الناقة الضامرة. ويقال: الطويلة على وجه الأرض؛ عن أبي زيد، فهو لفظ مشترك. والحرج: خشب يشد بعضه إلى بعض يحمل فيه الموتى؛ عن الأصمعي. وهو قول امرئ القيس:
فإما تريني في رحالة جابر على حرج كالقر تخفق أكفاني
وربما وضع فوق نعش النساء؛ قال عنترة يصف ظليما:
يتبعن قلة رأسه وكأنه حرج على نعش لهن مخيم
وقال الزجاج: الحرج: أضيق الضيق. فإذا قيل. فلان حرج الصدر، فالمعنى ذو حرج في صدره. فإذا قيل: حرج فهو فاعل. قال النحاس: حرج اسم الفاعل، وحرج مصدر وصف به؛ كما يقال: رجل عدل ورضا.
قوله تعالى{كأنما يصعد في السماء} قرأه ابن كثير بإسكان الصاد مخففا، من الصعود هو الطلوع. شبه الله الكافر في نفوره من الإيمان وثقله عليه بمنزلة من تكلف ما لا يطيقه؛ كما أن صعود السماء لا يطاق. وكذلك يصاعد وأصله يتصاعد، أدغمت التاء في الصاد، وهي قراءة أبي، بكر والنخعي؛ إلا أن فيه معنى فعل شيء بعد شيء، وذلك أثقل على فاعله. وقرأ الباقون بالتشديد من غير ألف، وهو كالذي قبله. معناه يتكلف ما لا يطيق شيئا بعد شيء؛ كقولك: يتجرع ويتفوق. وروي عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ }كأنما يتصعد}. قال النحاس: ومعنى هذه القراءة وقراءة من قرأ يصعد ويصاعد واحد. والمعنى فيهما أن الكافر من ضيق صدره كأنه يريد أن يصعد إلى السماء وهو لا يقدر على ذلك؛ فكأنه يستدعي ذلك. وقيل: المعنى كاد قلبه يصعد إلى السماء نَبْواً عن الإسلام. }كذلك يجعل الله الرجس} عليهم؛ كجعله ضيق الصدر في أجسادهم. وأصل الرجس في اللغة النتن. قال ابن زيد: هو العذاب. وقال ابن عباس: الرجس هو الشيطان؛ أي يسلطه عليهم. وقال مجاهد: الرجس ما لا خير فيه. وكذلك الرجس عند أهل اللغة هو النتن. فمعنى الآية والله أعلم: ويجعل اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة }على الذين لا يؤمنون}.
الآية رقم ( 126 )
{وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون}
قوله تعالى{وهذا صراط ربك مستقيما} أي هذا الذي أنت عليه يا محمد والمؤمنون دين ربك لا اعوجاج فيه. }قد فصلنا الآيات} أي بيناها }لقوم يذكرون} أي للمتذكرين.
الآية رقم ( 127 )
{لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون}
قوله تعالى{لهم} أي للمذكرين. }دار السلام} أي الجنة، فالجنة دار الله؛ كما يقال: الكعبة بيت الله. ويجوز أن يكون المعنى دار السلامة، أي التي يسلم فيها من الآفات. ومعنى قوله{عند ربهم} أي مضمونة لهم عنده يوصلهم إليها بفضله. }وهو وليهم} أي ناصرهم ومعينهم.
الآية رقم ( 128 )
{ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم}
قوله تعالى{ويوم نحشرهم} نصب على الفعل المحذوف، أي ويوم نحشرهم نقول. }جميعا} نصب على الحال. والمراد حشر جميع الخلق في موقف القيامة. }يا معشر الجن} نداء مضاف. }قد استكثرتم من الإنس} أي من الاستمتاع بالإنس؛ فحذف المصدر المضاف إلى المفعول، وحرف الجر؛ يدل على ذلك قوله{ربنا استمتع بعضنا ببعض} وهذا يرد قول من قال: إن الجن هم الذين استمتعوا من الإنس؛ لأن الإنس قبلوا منهم. والصحيح أن كل واحد مستمتع بصاحبه. والتقدير في العربية: استمتع بعضنا بعضا؛ فاستمتاع الجن من الإنس إنهم تلذذوا بطاعة الإنس إياهم، وتلذذ الإنس بقبولهم من الجن حتى زنوا وشربوا الخمور بإغواء الجن إياهم. وقيل: كان الرجل إذا مر بواد في سفره وخاف على نفسه قال: أعوذ برب هذا الوادي من جميع ما أحذر. وفي التنزيل{وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا}الجن: 6]. فهذا استمتاع الإنس بالجن. وأما استمتاع الجن بالإنس فما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والكهانة والسحر. وقيل: استمتاع الجن بالإنس أنهم يعترفون أن الجن يقدرون أن يدفعوا عنهم ما يحذرون. ومعنى الآية تقريع الضالين والمضلين وتوبيخهم في الآخرة على أعين العالمين. }وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} يعني الموت والقبر، ووافينا نادمين. }قال النار مثواكم} أي موضع مقامكم. والمثوى المقام. }خالدين فيها إلا ما شاء الله} استثناء ليس من الأول. قال الزجاج: يرجع إلى يوم القيامة، أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في الحساب؛ فالاستثناء قطع. وقيل: يرجع الاستثناء إلى النار، أي إلا ما شاء الله من تعذيبكم بغير النار في بعض الأوقات. وقال ابن عباس: الاستثناء لأهل الإيمان. فـ }ما} على هذا بمعنى من. وعنه أيضا أنه قال: هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار. ومعنى ذلك أنها توجب الوقف فيمن لم يمت، إذ فد يسلم. وقيل{إلا ما شاء الله} من كونهم في الدنيا بغير عذاب. ومعنى هذه الآية معنى الآية التي في }هود}. قوله{فأما الذين شقوا ففي النار}هود: 106] وهناك يأتي مستوفى إن شاء الله. }إن ربك حكيم} أي في عقوبتهم وفي جميع أفعاله }عليم} بمقدار مجازاتهم.
الآية رقم ( 129 )
{وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون}
قوله تعالى{وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا} المعنى وكما فعلنا بهؤلاء مما وصفته لكم من استمتاع بعضهم ببعض أجعل بعض الظالمين أولياء بعض، ثم يتبرأ بعضهم من بعض غدا. ومعنى }نولي} على هذا نجعل وليا. قال ابن زيد: نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس. وعنه أيضا: نسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله. وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع من ظلمه سلط الله عليه ظالما آخر. ويدخل في الآية جميع من يظلم نفسه أو يظلم الرعية، أو التاجر يظلم الناس في تجارته أو السارق وغيرهم. وقال فضيل بن عياض: إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف، وانظر فيه متعجبا. وقال ابن عباس: إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم، إذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أعان ظالما سلطه الله عليه). وقيل: المعنى نكل بعضهم إلى بعض فيما يختارونه من الكفر، كما نكلهم غدا إلى رؤسائهم الذين لا يقدرون على تخليصهم من العذاب أي كما نفعل بهم ذلك في الآخرة كذلك نفعل بهم في الدنيا. وقد قيل في قوله تعالى{نوله ما تولى}النساء: 115]: نكله إلى ما وكل إليه نفسه. قال ابن عباس: تفسيرها هو أن الله إذا أراد بقوم شرا ولى أمرهم شرارهم. يدل عليه قوله تعالى{وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}الشورى: 30].
الآية رقم ( 130 )
{يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}
قوله تعالى{يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم} أي يوم نحشرهم نقول لهم ألم يأتكم رسل فحذف؛ فيعترفون بما فيه افتضاحهم. ومعنى }منكم} في الخلق والتكليف والمخاطبة. ولما كانت الجن ممن يخاطب ويعقل قال{منكم} وإن كانت الرسل من الإنس وغلب الإنس في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث. وقال ابن عباس: رسل الجن هم الذين بلغوا قومهم ما سمعوه من الوحي؛ كما قال{ولوا إلى قومهم منذرين}الأحقاف: 29]. وقال مقاتل والضحاك: أرسل الله رسلا من الجن كما أرسل من الإنس. وقال مجاهد: الرسل من الإنس، والنذر من الجن؛ ثم قرأ }إلى قومهم منذرين}الأحقاف: 29]. وهو معنى قول ابن عباس، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في }الأحقاف}. وقال الكلبي: كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الإنس والجن جميعا.
قلت: وهذا لا يصح، بل في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود) الحديث. على ما يأتي بيانه في }الأحقاف}. وقال ابن عباس: كانت الرسل تبعث إلى الإنس وإن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجن والإنس؛ ذكره أبو الليث السمرقندي. وقيل: كان قوم من الجن: استمعوا إلى الأنبياء ثم عادوا إلى قومهم وأخبروهم؛ كالحال مع نبينا عليه السلام. فيقال لهم رسل الله، وإن لم ينص على إرسالهم. وفي التنزيل{يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان}الرحمن: 22] أي من أحدهما، وإنما يخرج من الملح دون العذب، فكذلك الرسل من الإنس دون الجن؛ فمعنى }منكم} أي من أحدكم. وكان هذا جائزا؛ لأن ذكرهما سبق. وقيل: إنما صير الرسل في مخرج اللفظ من الجميع لأن الثقلين قد ضمتهما عرصة القيامة، والحساب عليهم دون الخلق؛ فلما صاروا في تلك العرصة في حساب واحد في شأن الثواب والعقاب خوطبوا يومئذ بمخاطبة واحدة كأنهم جماعة واحدة؛ لأن بدء خلقهم للعبودية، والثواب والعقاب على العبودية، ولأن الجن أصلهم من مارج من نار، وأصلنا من تراب، وخلقهم غير خلقنا؛ فمنهم مؤمن وكافر. وعدونا إبليس عدوهم، يعادي مؤمنهم ويوالي كافرهم. وفيهم أهواء: شيعة وقدرية ومرجئة يتلون كتابنا. وقد وصف الله عنهم في سورة }الجن} من قوله{وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون}الجن: 14]. }وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا}الجن: 11] على ما يأتي بيانه هناك. }يقصون} في موضع رفع نعت لرسل. }قالوا شهدنا على أنفسنا} أي شهدنا أنهم بلغوا. }وغرتهم الحياة الدنيا} قيل: هذا خطاب من الله للمؤمنين؛ أي أن هؤلاء قد غرتهم الحياة الدنيا، أي خدعتهم وظنوا أنها تدوم، وخافوا زوالها عنهم إن آمنوا. }وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} أي اعترفوا بكفرهم. قال مقاتل: هذا حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك وبما كانوا يعملون.
الآية رقم ( 131 )
{ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون}
قوله تعالى{ذلك} في موضع رفع عند سيبويه؛ أي الأمر ذلك. و}أن} مخففة من الثقيلة؛ أي إنما فعلنا هذا بهم لأني لم أكن أهلك القرى بظلمهم؛ أي بشركهم قبل إرسال الرسل إليهم فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير. وقيل: لم أكن أهلك القرى بشرك من أشرك منهم؛ فهو مثل }ولا تزر وازرة وزر أخرى}الأنعام: 164]. ولو أهلكهم قبل بعثة الرسل فله أن يفعل ما يريد. وقد قال عيسى{إن تعذبهم فإنهم عبادك}المائدة: 118] وأجاز الفراء أن يكون }ذلك} في موضع نصب، المعنى: فعل ذلك بهم؛ لأنه لم يكن يهلك القرى بظلم.
الآية رقم ( 132 )
{ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون}
قوله تعالى{ولكل درجات مما عملوا} أي من الجن والإنس؛ كما قال في آية أخرى{أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين}الأحقاف: 18] ثم قال{و لكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون}الأحقاف: 19]. وفي هذا ما يدل على أن المطيع من الجن في الجنة، والعاصي منهم في النار؛ كالإنس سواء. وهو أصح ما قيل في ذلك فاعلمه. ومعنى }ولكل درجات} أي ولكل عامل بطاعة درجات في الثواب. ولكل عامل بمعصية دركات في العقاب. }وما ربك بغافل} أي ليس بلاه ولا ساه. والغفلة أن يذهب الشيء عنك لاشتغالك بغيره. }عما يعملون} قرأه ابن عامر بالتاء، الباقون بالياء.
{وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين}
قوله تعالى{وربك الغني} أي عن خلقه وعن أعمالهم. }ذو الرحمة} أي بأوليائه وأهل طاعته. }إن يشأ يذهبكم} بالإماتة والاستئصال بالعذاب. }ويستخلف من بعدكم ما يشاء} أي خلقا آخر أمثل منكم وأطوع. }كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين} والكاف في موضع نصب، أي يستخلف من بعدكم ما يشاء استخلافا مثل ما أنشأكم، ونظيره }إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين}النساء: 133]. }وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم}محمد: 38]. فالمعنى يبدل غيركم مكانكم، كما تقول: أعطيتك من دينارك ثوبا.
الآية رقم ( 134 )
{إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين}
قوله تعالى{إن ما توعدون لآت} يحتمل أن يكون من }أوعدت} في الشر، والمصدر الإيعاد. والمراد عذاب الآخرة. ويحتمل أن يكون من }وعدت} على أن يكون المراد الساعة التي في مجيئها الخير والشر فغلب الخير. روي معناه عن الحسن. }وما أنتم بمعجزين} أي فائتين؛ يقال: أعجزني فلان، أي فاتني وغلبني.
الآية رقم ( 135 )
{قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون}
قوله تعالى{قل يا قوم اعملوا على مكانتكم} وقرأ أبو بكر بالجمع }مكاناتكم}. والمكانة الطريقة. والمعنى اثبتوا على ما أنتم عليه فأنا أثبت على ما أنا عليه. فإن قيل: كيف يجوز أن يؤمروا بالثبات على ما هم عليه وهم كفار. فالجواب أن هذا تهديد؛ كما قال عز وجل{فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا}التوبة: 82]. ودل عليه }فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار} أي العاقبة المحمودة التي يحمد صاحبها عليها، أي من له النصر في دار الإسلام، ومن له وراثة الأرض، ومن له الدار الآخرة، أي الجنة. قال الزجاج{مكانتكم} تمكنكم في الدنيا. ابن عباس والحسن والنخعي: على ناحيتكم. القتبي: على موضعكم. }إني عامل} على مكانتي، فحذف لدلالة الحال عليه. }من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون} }ومن} من قوله }من تكون في موضع نصب بمعنى الذي؛ لوقوع العلم عليه. ويجوز أن تكون في موضع رفع؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله فيكون الفعل معلفا. أي تعلمون أينا تكون له عاقبة الدار؛ كقول{لنعلم أي الحزبين أحصى} وقرأ حمزة والكسائي }من يكون} بالياء.
الآية رقم ( 136 )
{وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون}
ويقال: ذرأ يذرأ ذرءا، أي خلق. وفي الكلام حذف واختصار، وهو وجعلوا لأصنامهم نصيبا؛ دل عليه ما بعده. وكان هذا مما زينه الشيطان وسوله لهم، حتى صرفوا من ماله طائفة إلى الله بزعمهم وطائفة إلى أصنامهم؛ قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة. والمعنى متقارب. جعلوا لله جزءا ولشركائهم جزءا، فإذا ذهب ما لشركائهم بالإنفاق عليها وعلى سدنتها عوضوا منه ما لله، وإذا ذهب ما لله بالإنقاق على الضيفان والمساكين لم يعوضوا منه شيئا، وقالوا: الله مستغن عنه وشركاؤنا فقراء. وكان هذا من جهالاتهم وبزعمهم. والزعم الكذب. قال شريح القاضي: إن لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا. وكانوا يكذبون في هذه الأشياء لأنه لم ينزل بذلك شرع. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: من أراد أن يعلم جهل العرب فليقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام إلى قوله{قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم}الأنعام: 140]. قال ابن العربي: وهذا الذي قاله كلام صحيح، فإنها تصرفت بعقولها العاجزة في تنويع الحلال والحرام سفاهة بغير معرفة ولا عدل، والذي تصرفت بالجهل فيه من اتخاذ الآلهة أعظم جهلا وأكبر جرما؛ فإن الاعتداء على الله تعالى أعظم من الاعتداء على المخلوقات. والدليل في أن الله واحد في ذاته واحد في صفاته واحد في مخلوقاته أبين وأوضح من الدليل على أن هذا حلال وهذا حرام. وقد روي أن رجلا قال لعمرو بن العاص: إنكم على كمال عقولكم ووفور أحلامكم عبدتم الحجر! فقال عمرو: تلك عقول كادها باريها. فهذا الذي أخبر الله سبحانه من سخافة العرب وجهلها أمر أذهبه الإسلام، وأبطله الله ببعثة الرسول عليه السلام. فكان من الظاهر لنا أن نميته حتى لا يظهر، وننساه حتى لا يذكر؛ إلا أن ربنا تبارك وتعالى ذكره بنصه وأورده بشرحه، كما ذكر كفر الكافرين به. وكانت الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن قضاءه قد سبق، وحكمه قد نفذ بأن الكفر والتخليط لا ينقطعان إلى يوم القيامة. وقرأ يحيى بن وثاب والسلمي والأعمش والكسائي }بزعمهم} بضمه الزاي. والباقون بفتحها، وهما لغتان. }فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله} أي إلى المساكين. }ساء ما يحكمون} أي ساء الحكم حكمهم. قال ابن زيد: كانوا إذا ذبحوا ما لله ذكروا عليه اسم الأوثان، وإذا ذبحوا ما لأوثانهم لم يذكروا عليه اسم الله، فهذا معنى }فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله}. فكان تركهم لذكر الله مذموما منهم وكان داخلا في ترك أكل ما لم يذكر اسم الله عليه.
الآية رقم ( 137 )
{وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون}
قوله تعالى{وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} المعنى: فكما زين لهؤلاء أن جعلوا لله نصيبا ولأصنامهم نصيبا كذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم. قال مجاهد وغيره: زينت لهم قتل البنات مخافة العيلة. قال الفراء والزجاج: شركاؤهم ههنا هم الذين كانوا يخدمون الأوثان. وقيل: هم الغواة من الناس. وقيل: هم الشياطين. وأشار بهذا إلى الوأد الخفي وهو دفن البنت حية مخافة السباء والحاجة، وعدم ما حرمن من النصرة. وسمى الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم. وقيل: كان الرجل في الجاهلية يحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلاما لينحرن أحدهم؛ كما فعله عب المطلب حين نذر ذبح ولده عبدالله. ثم قيل: في الآية أربع قراءات، أصحها قراءة الجمهور{وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} وهذه قراءة أهل الحرمين وأهل الكوفة وأهل البصرة. }شركاؤهم} رفع بـ }زين}؛ لأنهم زينوا ولم يقتلوا. }قتل} نصب بـ }زين} و}أولادهم} مضاف إلى المفعول، والأصل في المصدر أن يضاف إلى الفاعل؛ لأنه أحدثه ولأنه لا يستغني عنه ويستغني عن المفعول؛ فهو هنا مضاف إلى المفعول لفظا مضاف إلى الفاعل معنى؛ لأن التقدير زين لكثير من المشركين قتلهم أولادهم شركاؤهم، ثم حذف المضاف وهو الفاعل كما حذف من قوله تعالى{لا يسأم الإنسان من دعاء الخير}فصلت: 49] أي من دعائه الخير. فالهاء فاعلة الدعاء، أي لا يسأم الإنسان من أن يدعو بالخير. وكذا قوله: زين لكثير من المشركين في أن يقتلوا أولادهم شركاؤهم. قال مكي: وهذه القراءة هي الاختيار؛ لصحة الإعراب فيها ولأن عليها الجماعة. القراءة الثانية }زين} (بضم الزاي). }لكثير من المشركين قتل} (بالرفع). }أولادهم} بالخفض }شركاؤهم} (بالرفع) قراءة الحسن. ابن عامر وأهل الشام }زين} بضم الزاي }لكثير من المشركين قتل أولادهم برفع }قتل} ونصب }أولادهم}. }شركائهم} بالخفض فيما حكى أبو عبيد؛ وحكى غيره عن أهل الشام أنهم قرؤوا }وكذلك} بضم الزاي }لكثير من المشركين قتل بالرفع }أولادهم} بالخفض }شركائهم} بالخفض أيضا. فالقراءة الثانية قراءة الحسن جائزة، يكون }قتل} اسم ما لم يسم فاعله، }شركاؤهم}؛ رفع بإضمار فعل يدل عليه }زين}، أي زينه شركاؤهم. ويجوز على هذا ضرب زيد عمرو، بمعنى ضربه عمرو، وأنشد سيبويه:
لبيك يزيد ضارع لخصومة
أي يبكيه ضارع. وقرأ ابن عامر وعاصم من رواية أبي بكر }يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال}النور: 36 - 37] التقدير يسبحه رجال. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة }قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود}البروج: 4 - 5] بمعنى قتلهم النار. قال النحاس: وأما ما حكاه أبو عبيد عن ابن عامر وأهل الشام فلا يجوز في كلام ولا في شعر، وإنما أجاز النحويون التفريق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف لأنه لا يفصل، فأما بالأسماء غير الظروف فلحن. قال مكي: وهذه القراءة فيها ضعف للتفريق بين المضاف والمضاف إليه؛ لأنه إنما يجوز مثل هذا التفريق في الشعر مع الظروف لاتساعهم فيها وهو في المفعول به في الشعر بعيد، فإجازته في القراءة أبعد. وقال المهدوي: قراءة ابن عامر هذه على التفرقة بين المضاف والمضاف إليه، ومثله قول الشاعر:
فزججتها بمزجة زج القلوص أبي مزادة
يريد: زج أبي مزادة القلوص. وأنشد:
تمر على ما تستمر وقد شفت غلائل عبدالقيس منها صدورها
يريد شقت عبدالقيس غلائل صدورها. وقال أبو غانم أحمد بن حمدان النحوي: قراءة ابن عامر لا تجوز في العربية؛ وهي زلة عالم، وإذا زل العالم لم يجز اتباعه، ورد قوله إلى الإجماع، وكذلك يجب أن يرد من زل منهم أو سها إلى الإجماع؛ فهو أولى من الإصرار على غير الصواب. وإنما أجازوا في الضرورة للشاعر أن يفرق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف؛ لأنه لا يفصل. كما قال:
كما خط الكتاب بكف يوما يهودي يقارب أو يزيل
وقال آخر:
كأن أصوات من إيغالهن بنا أواخر الميس أصوات الفراريج
وقال آخر:
لما رأت ساتيدما استعبرت لله در اليوم من لامها
وقال القشيري: وقال قوم هذا قبيح، وهذا محال، لأنه إذا ثبتت القراءة بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو الفصيح لا القبيح. وقد ورد ذلك في كلام العرب وفي مصحف عثمان }شركائهم} بالياء وهذا يدل على قراءة ابن عامر. وأضيف القتل في هذه القراءة إلى الشركاء؛ لأن الشركاء هم الذي زينوا ذلك ودعوا إليه؛ فالفعل مضاف إلى فاعله على ما يجب في الأصل، لكنه فرق بين المضاف والمضاف إليه؛ وقدم المفعول وتركه منصوبا على حاله؛ إذ كان متأخرا في المعنى، وأخر المضاف وتركه مخفوضا على حاله؛ إذ كان متقدما بعد القتل. والتقدير: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم. أي أن قتل شركاؤهم أولادهم. قال النحاس: فأما ما حكاه غير أبي عبيد (وهي القراءة الرابعة) فهو جائز. على أن تبدل شركاءهم من أولادهم؛ لأنهم شركاؤهم في النسب والميراث. }ليردوهم} اللام لام كي. والإرداء الإهلاك. }وليلبسوا عليهم دينهم} الذي ارتضى لهم. أي يأمرونهم - بالباطل ويشككونهم في دينهم. وكانوا على دين إسماعيل، وما كان فيه قتل الولد؛ فيصير الحق مغطى عليه؛ فبهذا يلبسون. }ولو شاء الله ما فعلوه} بين تعالى أن كفرهم بمشيئة الله. وهو رد على القدرية. }فذرهم وما يفترون} يريد قولهم إن لله شركاء.
الآية رقم ( 138 )
{وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون}
ذكر تعالى نوعا آخر من جهالتهم. وقرأ أبان بن عثمان }حجر} بضم الحاء والجيم. وقرأ الحسن وقتادة }حجر} بفتح الحاء وإسكان الجيم، لغتان بمعنى. وعن الحسن أيضا }حجر} بضم الحاء. قال أبو عبيد عن هارون قال: كان الحسن يضم الحاء في }حجر} في جميع القرآن إلا في قوله{برزخا وحجرا محجورا}الفرقان: 53] فإنه كان يكسرها ههنا. وروي عن ابن عباس وابن الزبير }وحرث حرج} الراء قبل الجيم؛ وكذا في مصحف أبي؛ وفيه قولان: أحدهما أنه مثل جبذ وجذب. والقول الآخر - وهو أصح - أنه من الحرج؛ فإن الحرج (بكسر الحاء) لغة في الحرج (بفتح الحاء) وهو الضيق والإثم؛ فيكون معناه الحرام. ومنه فلان يتحرج أي يضيق على نفسه الدخول فيما يشتبه عليه من الحرام. والحجر: لفظ مشترك. وهو هنا بمعنى الحرام، وأصله المنع. وسمي العقل حجرا لمنعه عن القبائح. وفلان في حجر القاضي أي منعه. حجرت على الصبي حجرا. والحجر العقل؛ قال الله تعالى{هل في ذلك قسم لذي حجر}الفجر: 5] والحجر الفرس الأنثى. والحجر القرابة. قال:
يريدون أن يقصوه عني وإنه لذو حسب دان إلي وذو حجر
وحجر الإنسان وحجره لغتان، والفتح أكثر. أي حرموا أنعاما وحرثا وجعلوها لأصنامهم وقالوا{لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم} وهم خدام الأصنام. ثم بين أن هذا تحكم لم يرد به شرع؛ ولهذا قال{بزعمهم}. }وأنعام حرمت ظهورها} يريد ما يسيبونه لآلهتهم على ما تقدم من النصيب. وقال مجاهد: المراد الجيرة والوصيلة والحام. }وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها} يعني ما ذبحوه لآلهتهم. قال أبو وائل: لا يحجون عليها. }افتراء} أي للافتراء }على الله}؛ لأنهم كانوا يقولون: الله أمرنا بهذا. فهو نصب على المفعول له. وقيل: أي يفترون افتراء، وانتصابه لكونه مصدرا.
الآية رقم ( 139 )
{وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم}
قوله تعالى{وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا} هذا نوع آخر من جهلهم. قال ابن عباس: هو اللبن، جعلوه حلالا للذكور وحراما على الإناث. وقيل: الأجنة؛ قالوا: إنها لذكورنا. ثم إن مات منها شيء أكله الرجال والنساء. والهاء في }خالصة} للمبالغة في الخلوص؛ ومثله رجل علامة ونسابة؛ عن الكسائي والأخفش. و}خالصة} بالرفع خبر المبتدأ الذي هو }ما}. وقال الفراء: تأنيثها لتأنيث الأنعام. وهذا القول عند قوم خطأ؛ لأن ما في بطونها ليس منها؛ فلا يشبه قوله }يلتقطه بعض السيارة}يوسف: 10] لأن بعض السيارة سيارة، وهذا لا يلزم قال الفراء: فان ما في بطون الأنعام أنعام مثلها؛ فأنث لتأنيثها، أي الأنعام التي في بطون الأنعام خالصة لذكورنا. وقيل: أي جماعة ما في البطون. وقيل: إن }ما} ترجع إلى الألبان أو الأجنة؛ فجاء التأنيث على المعنى والتذكير على اللفظ. ولهذا قال }ومحرم على أزواجنا} على اللفظ. ولو راعى المعنى لقال ومحرمة. ويعضد هذا قراءة الأعمش }خالص} بغير هاء. قال الكسائي: معنى خالص وخالصة واحد، إلا أن الهاء للمبالغة؛ كما يقال.: رجل داهية وعلامة؛ كما تقدم. وقرأ قتادة }خالصة} بالنصب على الحال من الضمير في الظرف الذي هو صلة لـ }ما}. وخبر المبتدأ محذوف؛ كقولك: الذي في الدار قائما زيد. هذا مذهب البصريين. وأنتصب عند الفراء على القطع. وكذا القول في قراءة سعيد بن جبير }خالصا}. وقرأ ابن عباس }خالصه} على الإضافة فيكون ابتداء ثانيا؛ والخبر }لذكورنا} والجملة خبر }ما}. ويجوز أن يكون }خالصه} بدلا من }ما}. فهذه خمس قراءات. }ومحرم على أزواجنا} أي بناتنا؛ عن ابن زيد. وغيره: نساؤهم. }وإن يكن ميتة} قرئ بالياء والتاء؛ أي إن يكن ما في بطون الأنعام ميتة }فهم فيه شركاء} أي الرجال والنساء. وقال }فيه} لأن المراد بالميتة الحيوان، وهي تقوي قراءة الياء، ولم يقل فيها. }ميتة} بالرفع بمعنى تقع أو تحدث. }ميتة} بالنصب؛ أي وإن تكن النسمة ميتة. }سيجزيهم وصفهم} أي كذبهم وافتراءهم؛ أي يعذبهم على ذلك. وانتصب }وصفهم} بنزع الخافض؛ أي بوصفهم. وفي الآية دليل على أن العالم ينبغي له أن يتعلم قول من خالفه وإن لم يأخذ به، حتى يعرف فساد قول، ويعلم كيف يرد عليه؛ لأن الله تعالى أعلم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قول من خالفهم من أهل زمانهم، ليعرفوا فساد قولهم.
الآية رقم ( 140 )
{قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين}
أخبر بخسرانهم لوأدهم البنات وتحريمهم البحيرة وغيرها بعقولهم؛ فقتلوا أولادهم سفها خوف الإملاق، وحجروا على أنفسهم في أموالهم ولم يخشوا الإملاق؛ فأبان ذلك عن تناقض رأيهم.
قلت: إنه كان من العرب من يقتل ولده خشية الإملاق؛ كما ذكر الله عز وجل في غير هذا الموضع. وكان منهم من يقتله سفها بغير حجة منهم في قتلهم؛ وهم ربيعة ومضر، وكانوا يقتلون بناتهم لأجل الحمية. ومنهم من يقول: الملائكة بنات الله؛ فألحقوا البنات بالبنات. وروي أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مالك تكون محزونا)؟ فقال: يا رسول الله، إن أذنبت ذنبا في الجاهلية فأخاف ألا يغفره الله لي وإن أسلمت! فقال له: (أخبرني عن ذنبك). فقال: يا رسول الله، إن كنت، من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت فتشفعت إلي امرأتي أن أتركها فتركتها حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء فخطبوها؛ فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج، فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي، فسرت بذلك وزينتها بالثياب والحلي، وأخذت علي المواثيق بألا أخونها، فذهبت بها إلى رأس بئر فنظرت في البئر ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر؛ فالتزمتني وجعلت تبكي وتقول: يا أبت! إيش تريد أن تفعل بي! فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت لا تضيع أمانة أمي؛ فجعلت مرة أنظر في البئر ومرة أنظر إليها فأرحمها، حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبت، قتلتني. فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت. فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال: (لو أمرت أن أعاقب أحدا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك).
الآية رقم ( 141 )
{وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}
قوله تعالى{أنشأ} أي خلق. }جنات معروشات} أي بساتين ممسوكات مرفوعات. }وغير معروشات} غير مرفوعات. قال ابن عباس{معروشات} ما انبسط على الأرض مما يفرش مثل الكروم والزروع والبطيخ. }وغير معروشات} ما قام على ساق مثل النخل وسائر الأشجار. وقيل: المعروشات ما ارتفعت أشجارها. وأصل التعريش الرفع. وعن ابن عباس أيضا: المعروشات ما أثبته ورفعه الناس. وغير المعروشات ما خرج في البراري والجبال من الثمار. يدل عليه قراءة علي رضي الله عنه }مغروسات وغير مغروسات} بالغين المعجمة والسين المهملة.
قوله تعالى{والنخل والزرع} أفردهما بالذكر وهما داخلان في الجنات لما فيهما من الفضيلة؛ على ما تقدم بيانه في }البقرة} عند قوله{من كان عدوا لله وملائكته}البقرة: 98] الآية.
{مختلفا أكله} يعني طعمه منه الجيد والدون. وسماه أكلا لأنه يؤكل. و}أكله} مرفوع بالابتداء. و}مختلفا} نعته؛ ولكنه لما تقدم عليه وولي منصوبا نصب. كما تقول: عندي طباخا غلام. قال:
الشر منتشر يلقاك عن عرض والصالحات عليها مغلقا باب
وقيل{مختلفا} نصب على الحال. قال أبو إسحاق الزجاج: وهذه مسألة مشكلة من النحو؛ لأنه يقال: قد أنشأها ولم يختلف أكلها وهو ثمرها؛ فالجواب أن الله سبحانه أنشأها بقول{خالق كل شيء}الأنعام: 102] فأعلم أنه أنشأها مختلفا أكلها؛ أي أنه أنشأها مقدرا فيه الاختلاف؛ وقد بين هذا سيبويه بقوله: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، على الحال؛ كما تقول؛ لتدخلن الدار آكلين شاربين؛ أي مقدرين ذلك. جواب ثالث: أي لما أنشأه كان مختلفا أكله، على معنى أنه لو كان له لكان مختلفا أكله. ولم يقل أكلهما؛ لأنه اكتفى بإعادة الذكر على أحدهما؛ كقول{وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها}الجمعة: 11] أي إليهما. وقد تقدم هذا المعنى.
قوله تعالى{والزيتون والرمان} عطف عليه }متشابها وغير متشابه} نصب على الحال، وقد تقدم القول فيه. وفي هذه أدلة ثلاثة؛ أحدها ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بدلها من مغير. الثاني على المنة منه سبحانه علينا؛ فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء، إذ خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجني؛ فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء؛ لأنه لا يجب عليه شيء. الثالث على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأ فيها أوراق ليست من جنسها، وثمر خارج من صفته الجرم الوافر، واللون الزاهر، والجنى الجديد، والطعم اللذيذ؛ فأين الطبائع وأجناسها، وأين الفلاسفة وأناسها، هل في قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان، أو ترتب هذا الترتيب العجيب! كلا! لا يتم ذلك في العقول إلا لحي عالم قدير مريد. فسبحان من له في كل شيء آية ونهاية!
ووجه اتصال هذا بما قبله أن الكفار لما افتروا على الله الكذب وأشركوا معه وحللوا وحرموا دلهم على وحدانيته بأنه خالق الأشياء، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقا لهم.
قوله تعالى{كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} فهذان بناءان جاءا بصيغة أفعل، أحدهما مباح كقول{فانتشروا في الأرض}الجمعة: 10] والثاني واجب. وليس يمتنع في الشريعة اقتران المباح والواجب، وبدأ بذكر نعمة الأكل قبل الأمر بإيتاء الحق ليبين أن الابتداء بالنعمة كان من فضله قبل التكليف.
قوله تعالى{وآتوا حقه يوم حصاده} اختلف الناس في تفسير هذا الحق، ما هو؛ فقال أنس بن مالك وابن عباس وطاوس والحسن وابن زيد وابن الحنفية والضحاك وسعيد بن المسيب: هي الزكاة المفروضة، العشر ونصف العشر. ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك في تفسير الآية، وبه قال بعض أصحاب الشافعي. وحكى الزجاج أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة. وقال علي بن الحسين وعطاء والحكم وحماد وسعيد بن جبير ومجاهد: هو حق في المال سوى الزكاة، أم الله به ندبا. وروي عن ابن عمر ومحمد بن الحنفية أيضا، ورواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال مجاهد: إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل، وإذا جذذت فألق لهم من الشماريخ، وإذا درسته ودسته وذريته فاطرح لهم منه، وإذا عرفت كيله فأخرج منه زكاته. وقول ثالث هو منسوخ بالزكاة؛ لأن هذه السورة مكية وآية الزكاة لم تنزل إلا بالمدينة{خذ من أموالهم صدقة}التوبة: 103]، }وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}البقرة: 43]. روي عن ابن عباس وابن الحنفية والحسن وعطية العوفي والنخعي وسعيد بن جبير. وقال سفيان: سألت السدي عن هذه الآية فقال. نسخها العشر ونصف العشر. فقلت عمن؟ فقال عن العلماء.
وقد تعلق أبو حنيفة بهذه الآية وبعموم ما في قوله عليه السلام: (فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر} في إيجاب الزكاة في كل ما تنبت الأرض طعاما كان أو غيره. وقال أبو يوسف عنه: إلا الحطب والحشيش والقضب والتين والسعف وقصب الذريرة وقصب السكر. وأباه الجمهور، معولين على أن المقصود من الحديث بيان ما يؤخذ منه العشر وما يؤخذ منه نصف العشر. قال أبو عمر: لا اختلاف بين العلماء فيما علمت أن الزكاة واجبة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وقالت طائفة: لا زكاة في غيرها. روي ذلك عن الحسن وابن سيرين والشعبي. وقال به من الكوفيين ابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح وابن المبارك يحيى بن آدم، وإليه ذهب أبو عبيد. وروي ذلك عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب أبي موسى، فإنه كان لا يأخذ الزكاة إلا من الحنطة والشعير والتمر والزبيب؛ ذكره وكيع عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبيه. وقال مالك وأصحابه: الزكاة واجبة في كل مقتات مدخر؛ وبه قال الشافعي. وقال الشافعي: إنما تجب الزكاة فيما ييبس يدخر في كل مقتات مأكولا. ولا شيء في الزيتون لأنه إدام. وقال أبو ثور مثله. وقال أحمد أقوالا أظهرها أن الزكاة إنما تجب في كل ما قال أبو حنيفة إذا كان يوسق؛ فأوجبها في اللوز لأنه مكيل دون الجوز لأنه معدود. واحتج بقوله عليه السلام: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر أو حب صدقة) قال: فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن محل الواجب هو الوسق، وبين المقدار الذي يجب إخراج الحق منه. وذهب النخعي إلى أن الزكاة واجبة في كل ما أخرجته الأرض، حتى في عشر دساتج من بقل دستجة بقل. وقد اختلف عنه في ذلك، وهو قول عمر بن عبدالعزيز فإنه كتب أن يؤخذ مما تنبت الأرض من قليل أو كثير العشر؛ ذكره عبدالرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل، قال: كتب عمر...؛ فذكره. وهو قول حماد بن أبي سليمان وتلميذه أبي حنيفة. وإلى هذا مال ابن العربي في أحكامه فقال: وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق، وأخذ يعضد مذهب الحنفي ويقويه. وقال في كتاب (1) فقال: قال الله تعالى{والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه}الأنعام: 141]. واختلف الناس في وجوب الزكاة في جميع ما تضمنته أو بعضه، وقد بينا ذلك، في (الأحكام) لبابه، أن الزكاة إنما تتعلق بالمقتات كما بينا دون الخضراوات؛ وقد كان بالطائف الرمان والفرسك والأترج فما اعترضه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ذكره ولا أحد من خلفائه.
قلت: هذا وإن لم يذكره في الأحكام هو الصحيح في المسألة، وأن الخضراوات ليس فيها شيء. وأما الآية فقد اختلف فيها، هل هي محكمة أو منسوخة أو محمولة على الندب. ولا قاطع يبين أحد محاملها، بل القاطع المعلوم ما ذكره ابن بكير في أحكامه: أن الكوفة افتتحت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وبعد استقرار الأحكام في المدينة، أفيجوز أن يتوهم متوهم أو من له أدنى بصيرة أن تكون شريعة مثل هذه عطلت فلم يعمل بها في دار الهجرة ومستقر الوحي ولا في خلافة أبي بكر، حتى عمل بذلك الكوفيون؟. إن هذه لمصيبة فيمن ظن هذا وقال به!
قلت: ومما يدل على هذا من معنى التنزيل قوله تعالى{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}المائدة: 67] أتراه يكتم شيئا أمر بتبليغه أو ببيانه؟ حاشاه عن ذلك وقال تعالى{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي}المائدة: 3] ومن كمال الدين كونه لم يأخذ من الخضراوات شيئا. وقال جابر بن عبدالله فيما رواه الدارقطني: إن المقاثئ كانت تكون عندنا تخرج عشرة آلاف فلا يكون فيها شيء. وقال الزهري والحسن: تزكى أثمان الخضر إذا بيعت وبلغ الثمن مائتي درهم؛ وقاله الأوزاعي في ثمن الفواكه. ولا حجة في قولهما لما ذكرنا. وقد روى الترمذي عن معاذ أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضراوات وهي البقول فقال: (ليس فيها شيء). وقد روي هذا المعنى عن جابر وأنس وعلي ومحمد بن عبدالله بن جحش وأبي موسى وعائشة. ذكر أحاديثهم الدار قطني رحمه الله. قال الترمذي: ليس يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء. واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة بحديث صالح بن موسى عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة). قال أبو عمر: وهذا حديث لم يروه من ثقات أصحاب منصور أحد هكذا، وإنما هو من قول إبراهيم.
قلت: وإذا سقط الاستدلال من جهة السنة لضعف أسانيدها فلم يبق إلا ما ذكرناه من تخصيص عموم الآية، وعموم قوله عليه السلام: (فيما سقت السماء العشر) ما ذكرنا. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس في شيء من الخضر زكاة إلا ما كانت له ثمرة باقية، سوى الزعفران ونحوه مما يوزن ففيه الزكاة. وكان محمد يعتبر في العصفر والكتان البزر، فإذا بلغ بزرهما من القرطم والكتان خمسة أوسق كان العصفر والكتان تبعا للبزر، وأخذ منه العشر أو نصف العشر. وأما القطن فليس فيه عنده دون خمسة أحمال شيء؛ والحمل ثلاثمائة من بالعراقي. والورس والزعفران ليس فيما دون خمسة أمنان منها شيء. فإذا بلغ أحدهما خمسة أمنان كانت فيه الصدقة، عشرا أو نصف، العشر. وقال أبو يوسف: وكذلك قصب السكر الذي يكون منه السكر، ويكون في أرض العشر دون أرض الخراج، فيه ما في الزعفران. وأوجب عبدالملك بن الماجشون الزكاة في أصول الثمار دون البقول. وهذا خلاف ما عليه مالك وأصحابه، لا زكاة عندهم لا في اللوز ولا في الجوز ولا في الجلوز وما كان مثلها، وإن كان ذلك يدخر. كما أنه لا زكاة عندهم في الإجاص ولا في التفاح ولا في الكمثرى، ولا ما كان مثل ذلك كله مما لا ييبس ولا يدخر. واختلفوا في التين؛ والأشهر عند أهل المغرب ممن يذهب مذهب مالك أنه لا زكاة عندهم في التين. إلا عبدالملك بن حبيب فإنه كان يرى فيه الزكاة على مذهب مالك، قياسا على التمر والزبيب. وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم البغداد بين المالكيين، إسماعيل بن إسحاق ومن اتبعه. قال مالك في الموطأ: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي سمعته من أهل العلم، أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة: الرمان والفرسك والتين وما أشبه ذلك. وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه. قال أبو عمر: فأدخل التين في هذا الباب، وأظنه (والله أعلم) لم يعلم بأنه ييبس ويدخر ويقتات، ولو علم ذلك ما أدخله في هذا الباب؛ لأنه أشبه بالتمر والزبيب منه بالرمان. وقد بلغني عن الأبهري وجماعة من أصحابه أنهم كانوا يفتون بالزكاة فيه، ويرونه مذهب مالك على أصوله عندهم. والتين مكيل يراعى فيه الخمسة الأوسق وما كان مثلها وزنا، ويحكم في التين عندهم بحكم التمر والزبيب المجتمع عليهما. وقال الشافعي: لا زكاة في شيء من الثمار غير التمر والعنب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الصدقة منهما وكانا قوتا بالحجاز يدخر. قال: وقد يدخر الجوز واللوز ولا زكاة فيهما؛ لأنهما لم يكونا بالحجاز قوتا فيما علمت، وإنما كانا فاكهة. ولا زكاة في الزيتون، لقوله تعالى{والزيتون والرمان}الأنعام: 141]. فقرنه مع الرمان، ولا زكاة فيه. وأيضا فإن التين أنفع منه في القوت ولا زكاة فيه. وللشافعي قول بزكاة الزيتون قاله بالعراق، والأول قال بمصر؛ فاضطرب قول الشافعي في الزيتون، ولم يختلف فيه قول مالك. فدل على أن الآية محكمة عندهما غير منسوخة. واتفقا جميعا على أن لا زكاة في الرمان، وكان يلزمهما إيجاب الزكاة فيه. قال أبو عمر: فإن كان الرمان خرج باتفاق فقد بان بذلك المراد بأن الآية ليست على عمومها، وكان الضمير عائدا على بعض المذكور دون بعض. والله أعلم.
قلت: بهذا استدل من أوجب العشر في الخضراوات فإنه تعالى قال{وآتوا حقه يوم حصاده} والمذكور قبله الزيتون والرمان، والمذكور عقيب. جملة ينصرف إلى الأخير بلا خلاف؛ قال الكيا الطبري. وروي عن ابن عباس أنه قال: ما لقحت رمانة قط إلا بقطرة من ماء الجنة. وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إذا أكلتم الرمانة فكلوها بشحمها فإنه دباغ المعدة. وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق عن ابن عباس قال: لا تكسروا الرمانة من رأسها فإن فيها دودة يعتري منها الجذام. وسيأتي منافع زيت الزيتون في سورة }المؤمنون} إن شاء الله تعالى. وممن قال بوجوب زكاة الزيتون الزهري والأوزاعي والليث والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور. قال الزهري والأوزاعي والليث: يخرص زيتونا ويؤخذ زيتا صافيا. وقال مالك: لا يخرص، ولكن يؤخذ العشر بعد أن يعصر ويبلغ كيله خمسة أوسق. وقال أبو حنيفة والثوري: يؤخذ من حبه.
قوله تعالى{يوم حصاده} قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم }حصاده} بفتح الحاء، والباقون بكسرها، وهما لغتان مشهورتان؛ ومثله الصرام والصرام والجذاذ والجذاذ والقطاف والقطاف واختلف العلماء في وقت الوجوب على ثلاثة أقوال:
الأولى: أنه وقت الجذاذ؛ قال محمد بن مسلمة؛ لقوله تعالى{يوم حصاده}.
الثاني: يوم الطيب؛ لأن ما قبل الطيب يكون علفا لا قوتا ولا طعاما؛ فإذا طاب وحان الأكل الذي أنعم الله به وجب الحق الذي أمر الله به، إذ بتمام النعمة يجب شكر النعمة، ويكون الإيتاء الحصاد لما قد وجب يوم الطيب.
الثالث: أنه يكون بعد تمام الخرص؛ لأنه حينئذ يتحقق الواجب فيه من الزكاة فيكون شرطا لوجوبها. أصله مجيء الساعي في الغنم؛ وبه قال المغيرة. والصحيح الأول لنص التنزيل. والمشهور من المذهب الثاني، وبه قال الشافعي. وفائدة الخلاف إذا مات بعد الطيب زكيت على ملكه، أو قبل الخرص على ورثته. وقال محمد بن مسلمة: إنما قدم الخرص توسعة على أرباب الثمار، ولو قدم رجل زكاته بعد الخرص وقبل الجذاذ لم يجزه؛ لأنه أخرجها قبل وجوبها. وقد اختلف العلماء في القول بالخرص فكرهه الثوري ولم يجزه بحال، وقال: الخرص غير مستعمل. قال: وإنما على رب الحائط أن يؤدي عشر ما يصير في يده للمساكين إذا بلغ خمسة أوسق. وروى الشيباني عن الشعبي أنه قال: الخرص اليوم بدعة. والجمهور على خلاف هذا، ثم اختلفوا فالمعظم على جوازه في النخل والعنب؛ لحديث عتاب بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأمره أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ زكاة النخل تمرا. رواه أبو داود. وقال داود بن علي: الخرص للزكاة جائز في النخل، وغير جائز في العنب؛ ودفع حديث عتاب بن أسيد لأنه منقطع ولا يتصل من طريق صحيح، قال أبو محمد عبدالحق.
وصفة الخرص أن يقدر ما على نخله رطبا ويقدر ما ينقص لو يتمر، ثم يعتد بما بقي بعد النقص ويضيف بعض ذلك إلى بعض حتى يكمل الحائط، وكذلك في العنب في كل دالية.
ويكفي في الخرص الواحد كالحاكم. فإذا كان في التمر زيادة على ما خرص لم يلزم رب الحائط الإخراج عنه، لأنه حكم قد نفذ؛ قال عبدالوهاب. وكذلك إذا نقصى لم تنقص الزكاة. قال الحسن: كان المسلمون يخرص عليهم ثم يؤخذ منهم على ذلك الخرص.
فإن استكثر رب الحائط الخرص خيره الخارص في أن يعطيه ما خرص وأخذ خرصه؛ ذكره عبدالرزاق أخبرنا ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: خرص ابن رواحة أربعين ألف وسق، وزعم أن اليهود لما خيرهم أخذوا التمر وأعطوه عشرين ألف وسق. قال ابن جريج فقلت لعطاء: فحق على الخارص إذا استكثر سيد المال الخرص أن يخيره كما خير ابن رواحة اليهود؟ قال: أي لعمري! وأي سنة خير من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يكون الخرص إلا بعد الطيب؛ لحديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث ابن رواحة إلى اليهود فيخرص عليهم النخل حين تطيب أول التمرة قبل أن يؤكل منها، ثم يخير يهودا يأخذونها بذلك الخرص أو يدفعونها إليه. وإنما كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق. أخرجه الدار قطني من حديث ابن جريج عن الزهري عن عروة عن عائشة. قال: ورواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة، وأرسله مالك ومعمر وعقيل عن الزهري عن سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا خرص الخارص فحكمه أن يسقط من خرصه مقدارا ما؛ لما رواه أبو داود والترمذي والبستي في صحيحه عن سهل بن أبي حثمة أن النبي كان يقول: (إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع). لفظ الترمذي. قال أبو داود: الخارص يدع الثلث للخرفة: وكذا قال يحيى القطان. وقال أبو حاتم البستي: لهذا الخبر صفتان: أحدهما أن يترك الثلث أو الربع من العشر، والثاني أن يترك ذلك من نفس التمر قبل أن يعشر، إذا كان ذلك حائطا كبيرا يحتمله. الخرفة بضم الخاء: ما يخترف من النخل حين يدرك ثمره، أي يجتنى. يقال: التمر خرفة الصائم؛ عن الجوهري والهروي. والمشهور من مذهب مالك أنه لا يترك الخارص شيئا في حين خرصه من تمر النخل والعنب إلا خرصه. وقد روى بعض المدنيين أنه يخفف في الخرص ويترك للعرايا والصلة ونحوها.
فإن لحقت الثمرة جائحة بعد الخرص وقبل الجذاذ سقطت الزكاة عنه بإجماع من أهل العلم، إلا أن يكون فيما بقي منه خمسة أوسق فصاعدا.
ولا زكاة في أقل من خمسة أوسق، كذا جاء مبينا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو في الكتاب مجمل، قال الله تعالى{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض}البقرة: 267]. وقال تعالى{وآتوا حقه}. ثم وقع البيان بالعشر ونصف العشر. ثم لما كان المقدار الذي إذا بلغه المال أخذ منه الحق مجملا بينه أيضا فقال: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر أو حب صدقة) وهو ينفي الصدقة في الخضراوات، إذ ليست مما يوسق؛ فمن حصل له خمسة أوسق في نصيبه من تمر أو حب وجبت عليه الزكاة، وكذلك من زبيب؛ وهو المسمى بالنصاب عند العلماء. يقال: وسق ووسق (بكسر الواو وفتحها) وهو ستون صاعا، والصاع أربعة أمداد، والمد رطل وثلث بالبغدادي ومبلغ الخمسة الأوسق من الأمداد ألف مد ومائتا مد، وهي بالوزن ألف رطل وستمائة رطل.
ومن حصل له من تمر وزبيب معا خمسة أوسق لم تلزمه الزكاة إجماعا؛ لأنهما صنفان مختلفان. وكذلك أجمعوا على أنه لا يضاف التمر إلى البر ولا البر إلى الزبيب؛ ولا الإبل إلى البقر، ولا البقر إلى الغنم. ويضاف الضأن إلى المعز بإجماع. واختلفوا في ضم البر إلى الشعير والسلت فأجازه مالك في هذه الثلاثة خاصة فقط؛ لأنها في معنى الصنف الواحد لتقاربها في المنفعة واجتماعها في المنبت والمحصد، وافتراقها في الاسم لا يوجب افتراقها في الحكم كالجواميس والبقر، والمعز والغنم. وقال الشافعي وغيره: لا يجمع بينها؛ لأنها أصناف مختلفة، وصفاتها متباينة، وأسماؤها متغايرة، وطعمها مختلف؛ وذلك يوجب افتراقها. والله أعلم. قال مالك: والقطاني كلها صنف واحد، يضم إلى بعض. وقال الشافعي: لا يضم حبة عرفت باسم منفرد دون صاحبتها، وهي خلافها مباينه في الخلقة والطعم إلى غيرها. يضم كل صنف بعضه إلى بعض، رديئه إلى جيده؛ كالتمر وأنواعه، والزبيب أسوده وأحمره، والحنطة وأنواعها من السمراء وغيرها. وهو قول الثوري وأبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد وأبي ثور. وقال الليث: تضم الحبوب كلها: القطنية وغيرها بعضها إلى بعض في الزكاة. وكان أحمد بن حنبل يجبن عن ضم الذهب إلى الورق، وضم الحبوب بعضها إلى بعض، ثم كان في آخر أمره يقول فيها بقول الشافعي.
قال مالك: وما استهلكه منه ربه بعد بدو صلاحه أو بعدما أفرك حسب عليه، وما أعطاه ربه منه في حصاده وجذاذه، ومن الزيتون في التقاطه، تحرى ذلك وحسب عليه. وأكثر الفقهاء يخالقونه في ذلك، ولا يوجبون الزكاة إلا فيما حصل في يده بعد الدرس. قال الليث في زكاة الحبوب: يبدأ بها قبل النفقة، وما أكل من فريك هو وأهله فلا يحسب عليه، بمنزلة الذي يترك لأهل الحائط يأكلونه فلا يخرص عليهم. وقال الشافعي: يترك الخارص لرب الحائط ما يأكله هو وأهله رطبا، لا يخرصه عليهم. وما أكله وهو رطب لم يحسب عليه. قال أبو عمر: احتج الشافعي ومن وافقه بقول الله تعالى{كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده}. واستدلوا على أنه لا يحتسب بالمأكول قبل الحصاد بهذه الآية. واحتجوا بقوله عليه السلام: (إذا خرصتم فدعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع). وما أكلت الدواب والبقر منه عند الدرس لم يحسب منه شيء على صاحبه عند مالك وغيره.
وما بيع من الفول والحمص والجلبان أخضر؛ تحري مقدار ذلك يابسا وأخرجت زكاته حبا. وكذا ما بيع من الثمر أخضر أعتبر وتوخي وخرص يابسا وأخرجت زكاته على ذلك الخرص زبيبا وتمرا. وقيل: يخرج من ثمنه.
وأما ما لا يتتمر من ثمر النخل ولا يتزبب من العنب كعنب مصر وبلحها، وكذلك زيتونها الذي لا يعصر، فقال مالك: تخرج زكاته من ثمنه، لا يكلف غير ذلك صاحبه، ولا يراعى فيه بلوغ ثمنه عشرين مثقالا أو مائتي درهم، وإنما ينظر إلى ما يرى أنه يبلغه خمسة أوسق فأكثر. وقال الشافعي: يخرج عشره أو نصف عشره من وسطه تمرا إذا أكله أهله رطبا أو أطعموه.
روى أبو داود عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا العشر، وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر وكذلك إن كان يشرب سيحا فيه العشر). وهو الماء الجاري على وجه الأرض؛ قال ابن السكيت. ولفظ السيح مذكور في الحديث، خرجه النسائي. فإن كان يشرب بالسيح لكن رب الأرض لا يملك ماء وإنما يكتريه له فهو كالسماء؛ على المشهور من المذهب. ورأى أبو الحسن اللخمي أنه كالنضح؛ فلو سقي مرة بماء السماء ومرة بدالية؛ فقال مالك: ينظر إلى ما تم به الزرع وحيي وكان أكثر؛ فيتعلق الحكم عليه. هذه رواية ابن القاسم عنه. وروى عنه ابن وهب: إذا سقي نصف سنة بالعيون ثم انقطع فسقي بقية السنة بالناضح فإن عليه نصف زكاته عشرا، والنصف الآخر نصف العشر. وقال مرة: زكاته بالذي تمت به حياته. وقال الشافعي: يزكى واحد منهما بحسابه. مثاله أن يشرب شهرين بالنضح وأربعة بالسماء؛ فيكون فيه ثلثا العشر لماء السماء وسدس العشر للنضح! وهكذا ما زاد ونقصى بحساب. وبهذا كان يفتي بكار بن قتيبة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: ينظر إلى الأغلب فيزكى، ولا يلتفت إلى ما سوى ذلك. وروي عن الشافعي. قال الطحاوي: قد اتفق الجميع على أنه لو سقاه بماء المطر يوما أو يومين أنه لا اعتبار به، ولا يجعل لذلك حصة؛ فدل على أن الاعتبار بالأغلب، والله أعلم.
قلت: فهذه جملة من أحكام هذه الآية، ولعل غيرنا يأتي بأكثر منها على ما يفتح الله له. وقد مضى في }البقرة} جملة من معنى هذه الآية، والحمد لله.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس في حب ولا تمر صدقة) فخرجه النسائي. قال حمزة الكناني: لم يذكر في هذا الحديث (في حب) غير إسماعيل بن أمية، وهو ثقة قرشي من ولد سعيد بن العاص. قال: وهذه السنة لم يروها أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه غير أبي سعيد الخدري. قال أبو عمر: هو كما قال حمزة، وهذه سنة جليلة تلقاها الجميع بالقبول، ولم يروها أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه ثابت محفوظ غير أبي سعيد. وقد روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، ولكنه غريب، وقد وجدناه من حديث أبي هريرة بإسناد حسن.
قوله تعالى{ولا تسرفوا} الإسراف في اللغة الخطأ. وقال أعرابي أراد قوما: طلبتكم فسرفتكم؛ أي أخطأت موضعكم. وقال الشاعر:
وقال قائلهم والخيل تخبطهم أسرفتم فأجبنا أننا سرف
والإسراف في النفقة: التبذير. ومسرف لقب مسلم بن عقبة المري صاحب وقعة الحرة؛ لأنه قد أسرف فيها. قال علي بن عبدالله بن العباس:
هم منعوا ذماري يوم جاءت كتائب مسرف وبني اللكيعه
والمعنى المقصود من الآية: لا تأخذوا الشيء بغير حقه ثم تضعوه في غير حقه؛ قاله أصبغ بن الفرج. ونحوه قول إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله فهو سرف وإسراف. وقال ابن زيد: هو خطاب للولاة، يقول: لا تأخذوا فوق حقكم وما لا يجب على الناس. والمعنيان يحتملهما قوله عليه السلام: (المعتدي في الصدقة كمانعها). وقال مجاهد: لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا، ولو أنفق درهما أو مدا في معصية الله كان مسرفا. وفي هذا المعنى قيل لحاتم: لا خير في السرف؛ فقال: لا سرف في الخير.
قلت: وهذا ضعيف؛ يرده ما روى ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا؛ فنزلت }ولا تسرفوا} أي لا تعطوا كله. وروى عبدالرزاق عن ابن جريج قال: جذ معاذ بن جبل نخله فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منه شي: فنزل }ولا تسرفوا}. قال السدي{ولا تسرفوا} أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء. وروي عن معاوية بن أبي سفيان أنه سئل عن قوله تعالى{ولا تسرفوا} قال: الإسراف ما قصرت عن حق الله تعالى.
قلت: فعلى هذا تكون الصدقة بجميع المال ومنه إخراج حق المساكين داخلين، في حكم السرف، والعدل خلاف هذا؛ فيتصدق ويبقي كما قال عليه السلام: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) إلا أن يكون قوي النفس غنيا بالله متوكلا عليه منفردا لا عيال له، فله أن يتصدق بجميع ماله، وكذلك يخرج الحق الواجب عليه من زكاة وما يعن في بعض الأحوال من الحقوق المتعينة في المال. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: الإسراف ما لم يقدر على رده إلى الصلاح. والسرف ما يقدر على رده إلى الصلاح. وقال النضر بن شميل: الإسراف التبذير والإفراط، والسرف الغفلة والجهل. قال جرير:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم من ولا سرف
أي إغفال، ويقال: خطأ. ورجل سرف الفؤاد، أي مخطئ الفؤاد غافله. قال طرفة:
إن امرأ سوف الفؤاد يرى عسلا بماء سحابة شتمي
الآية رقم ( 142 )
{ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}
قوله تعالى{ومن الأنعام حمولة وفرشا} عطف على ما تقدم. أي وأنشأ حمولة وفرشا من الأنعام. وللعلماء في الأنعام ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأنعام الإبل خاصة؛ وسيأتي في }النحل} بيانه. الثاني: أن الأنعام الإبل وحدها، وإذا كان معها بقر وغنم فهي أنعام أيضا. الثالث: وهو أصحها قال أحمد بن يحيى: الأنعام كل ما أحله الله عز وجل من الحيوان. ويدل على صحة هذا قوله تعالى{أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم}المائدة: 1] وقد تقدم. والحمولة ما أطاق الحمل والعمل؛ عن ابن مسعود وغيره. ثم قيل: يختص اللفظ بالإبل. وقيل: كل ما احتمل عليه الحي من حمار أو بغل أو بعير؛ عن أبي زيد، سواء كانت عليه الأحمال أو لم تكن. قال عنترة:
ما راعني إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الحمحم
وفعولة بفتح الفاء إذا كانت بمعنى الفاعل استوى فيها المؤنث والمذكر؛ نحو قولك: رجل فروقة وامرأة فروقة للجبان والخائف. ورجل صرورة وامرأة صرورة إذا لم يحجا؛ ولا جمع له. فإذا كانت بمعنى المفعول فرق بين المذكر والمؤنث بالهاء كالحلوبة والركوبة. والحمولة (بضم الحاء): الأحمال. وأما الحمول (بالضم بلا هاء) فهي الإبل التي عليها الهوادج، كان فيها نساء أو لم يكن؛ عن أبي زيد. }وفرشا} قال الضحاك: الحمولة من الإبل والبقر. والفرش: الغنم. النحاس: واستشهد لصاحب هذا القول بقول{ثمانية أزواج} قال{فثمانية} بدل من قوله{حمولة وفرشا}. وقال الحسن: الحمولة الإبل. والفرش: الغنم. وقال ابن عباس: الحمولة كل ما حمل من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير. والفرش: الغنم. وقال ابن زيد: الحمولة ما يركب، والفرش ما يؤكل لحمه ومحلب؛ مثل الغنم والفصلان والعجاجيل؛ سميت فرشا للطافة أجسامها وقربها من الفرش، وهي الأرض المستوية التي يتوطؤها الناس. قال الراجز:
أورثني حمولة وفرشا أمشها في كل يوم مشا
وقال آخر:
وحوينا الفرش من أنعامكم والحمولات وربات الحجل
قال الأصمعي: لم أسمع له بجمع. قال: ويحتمل أن يكون مصدرا سمي به؛ من قولهم: فرشها الله فرشا، أي بثها بثا. والفرش: المفروش من متاع البيت. والفرش: الزرع إذا فرش. والفرش: الفضاء الواسع. والفرش في رجل البعير: اتساع قليل، وهو محمود. وافترش الشيء أنبسط؛ فهو لفظ مشترك. وقد يرجع قوله تعالى{وفرشا} إلى هذا. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيهما أن الحمولة المسخرة المذللة للحمل. والفرش ما خلقه الله عز وجل من الجلود والصوف مما يجلس ويتمهد. وباقي الآية قد تقدم.
الآية رقم ( 143 : 144 )
{ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين، ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}
قوله تعالى{ثمانية أزواج} }ثمانية} منصوب بفعل مضمر، أي وأنشأ }ثمانية أزواج}؛ عن الكسائي.
وقال الأخفش سعيد: هو منصوب على البدل من }حمولة وفرشا}. وقال الأخفش علي بن سليمان: يكون منصوبا }بكلوا}؛ أي كلوا لحم ثمانية أزواج. ويجوز أن يكون منصوبا على البدل من }ما} على الموضع. ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى كلوا المباح }ثمانية أزواج من الضأن اثنين}. ونزلت الآية في مالك بن عوف وأصحابه حيث قالوا{ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا} فنبه الله عز وجل نبيه والمؤمنين بهذه الآية على ما أحله لهم؛ لئلا يكونوا بمنزلة من حرم ما أحله الله تعالى. والزوج خلاف الفرد؛ يقال: زوج أو فرد. كما يقال: خسا أو زكا، شفع أو وتر. فقول{ثمانية أزواج} يعني ثمانية أفراد. وكل فرد عند العرب يحتاج إلى آخر يسمى زوجا، فيقال للذكر زوج وللأنثى زوج. ويقع لفظ الزوج للواحد وللاثنين؛ يقال هما زوجان، وهما زوج؛ كما يقال: هما سيان وهما سواء. وتقول: اشتريت زوجي حمام. وأنت تعني ذكرا وأنثى.
قوله تعالى{من الضأن اثنين} أي الذكر والأنثى. والضأن: ذوات الصوف من الغنم، وهي جمع ضائن. والأنثى ضائنة، والجمع ضوائن. وقيل: هو جمع لا واحد له. وقيل في جمعه: ضئين؛ كعبد وعبيد. ويقال فيه ضئين. كما يقال في شعير: شعير، كسرت الضاد اتباعا. وقرأ طلحة بن مصرف }من الضأن اثنين} بفتح الهمزة، وهي لغة مسموعة عند البصريين. وهو مطرد عند الكوفيين في كل ما ثانيه حرف حلق. وكذلك الفتح والإسكان في المعز. وقرأ أبان بن عثمان }من الضأن اثنان ومن المعز اثنان} رفعا بالابتداء. وفي حرف أبي. }ومن المعز اثنين} وهي قراءة الأكثر. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو بالفتح. قال النحاس: الأكثر في كلام العرب المعز والضأن بالإسكان. ويدل على هذا قولهم في الجمع: معيز؛ فهذا جمع معز. كما يقال: عبد وعبيد. قال امرؤ القيس:
ويمنحها بنو شمجى بن جرم معيزهم حنانك ذا الحنان
ومثله ضأن وضئين. والمعز من الغنم خلاف الضأن، وهي ذوات الأشعار والأذناب القصار، وهو اسم جنس، وكذلك المعز والمعيز والأمعوز والمعزى. وواحد المعز ماعز؛ مثل صاحب وصحب وتاجر وتجر. والأنثى ماعزة وهي العنز، والجمع مواعز. وأمعز القوم كثرت معزاهم. والمعاز صاحب المعزى. قال أبو محمد الفقعسي يصف إبلا بكثرة اللبن ويفضلها على الغنم في شدة الزمان:
يكلن كليلا ليس بالممحوق إذ رضي المعاز باللعوق
والمعز الصلابة من الأرض. والأمعز: المكان الصلب الكثير الحصى؛ والمعزاء أيضا. واستمعز الرجل في أمره: جد. }قل آلذكرين حرم} منصوب }بحرم}. }أم الأنثيين} عطف عليه. وكذا }أما اشتملت}. وزيدت مع ألف الوصل مدة للفرق بين الاستفهام والخبر. ويجوز حذف الهمزة لأن }أم} تدل على الاستفهام. كما قال:
تروح من الحي أم تبتكر
قال العلماء: الآية احتجاج على المشركين في أمر البحيرة وما ذكر معها. وقولهم{ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا}. فدلت على إثبات المناظرة في العلم؛ لأن الله تعالى أمر نبيه عليه السلام بأن يناظرهم، ويبين لهم فساد قولهم. وفيها إثبات القول بالنظر والقياس. وفيها دليل بأن القياس إذا ورد عليه النص بطل القول به. ويروى{إذا ورد عليه النقض}؛ لأن الله تعالى أمرهم بالمقايسة الصحيحة، وأمرهم بطرد علتهم. والمعنى: قل لهم إن كان حرم الذكور فكل ذكر حرام. لان كان حرم الإناث فكل أنثى حرام. لان كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، يعني من الضأن والمعز، فكل مولود حرام، ذكرا كان أو أنثى. وكلها مولود فكلها إذا حرام لوجود العلة فيها، فبين انتقاض علتهم وفساد قولهم؛ فأعلم الله سبحانه أن ما فعلوه من ذلك افتراء عليه }نبئوني بعلم} أي بعلم إن كان عندكم، من أين هذا التحريم الذي افتعلتموه؟ ولا علم عندهم؛ لأنهم لا يقرؤون الكتب. والقول في{ومن الإبل اثنين} وما بعده كما سبق }أم كنتم شهداء} أي هل شاهدتم الله قد حرم هذا. ولما لزمتهم الحجة أخذوا في الافتراء فقالوا: كذا أمر الله. فقال الله تعالى{فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم} بين أنهم كذبوا؛ إذ قالوا ما لم يقم عليه دليل.
الآية رقم ( 145 )
{قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم}
قوله تعالى{قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما} أعلم الله عز وجل في هذه الآية بما حرم. والمعنى: يا محمد لا أجد فيما أوحي إلي محرما إلا هذه الأشياء، لا ما تحرمونه بشهوتكم. والآية مكية. ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت محرم غير هذه الأشياء، ثم نزلت سورة }المائدة} بالمدينة. وزيد في المحرمات كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة والخمر وغير ذلك. وحرم رسول الله صلى الله عليه بالمدينة أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير.
وقد اختلف العلماء في حكم هذه الآية وتأويلها على أقوال: الأول: ما أشرنا إليه من أن هذه لآية مكية، وكل محرم حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جاء في الكتاب مضموم إليها؛ فهو زيادة حكم من الله عز وجل على لسان نبيه عليه السلام. على هذا أكثر أهل العلم من أهل النظر، والفقه والأثر. ونظيره نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قوله{وأحل لكم ما وراء ذلكم}النساء: 24] وكحكمه باليمين مع الشاهد مع قوله{فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان}البقرة: 282] وقد تقدم. وقد قيل: إنها منسوخة بقوله عليه السلام (أكل كل ذي ناب من السباع حرام) أخرجه مالك، وهو حديث صحيح. وقيل: الآية محكمة ولا حرام إلا ما فيها وهو قول يروى عن ابن عباس وابن عمر وعائشة، وروي عنهم خلافه. قال مالك: لا حرام بين إلا ما ذكر في هذه الآية. وقال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية تحليل كل شيء من الحيوان وغيره إلا ما استثني في الآية من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير. ولهذا قلنا: إن لحوم السباع وسائر الحيوان ما سوى الإنسان والخنزير مباح. وقال الكيا الطبري: وعليها بنى الشافعي تحليل كل مسكوت عنه؛ أخذا من هذه الآية، إلا ما دل عليه الدليل. وقيل: إن الآية جواب لمن سأل عن شيء بعينه فوقع الجواب مخصوصا. وهذا مذهب الشافعي. وقد روى الشافعي عن سعيد بن جبير أنه قال: في هذه الآية أشياء سألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابهم عن المحرمات من تلك الأشياء. وقيل: أي لا أجد فيما أوحي إلى أي في، هذه الحال حال الوحي ووقت نزوله، ثم لا يمتنع حدوث وحي بعد ذلك بتحريم أشياء أخر. وزعم ابن العربي أن هذه الآية مدنية وهي مكية في قول الأكثرين، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم نزل عليه }اليوم أكملت لكم دينكم}المائدة: 3] ولم ينزل بعدها ناسخ فهي محكمة، فلا محرم إلا ما فيها، وإليه أميل.
قلت: وهذا ما رأيته قال غيره. وقد ذكر أبو عمر بن عبدالبر الإجماع في أن سورة }الأنعام} مكية إلا قوله تعالى{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم}الأنعام: 151] الثلاث الآيات، وقد نزل بعدها قرآن كثير وسنن جمة. فنزل تحريم الخمر بالمدينة في }المائدة}. وأجمعوا على أن نهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع إنما كان منه بالمدينة. قال إسماعيل بن إسحاق: وهذا كله يدل على أنه أمر كان بالمدينة بعد نزول قوله{قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} لأن ذلك مكي.
قلت: وهذا هو مثار الخلاف بين العلماء. فعدل جماعة عن ظاهر الأحاديث الواردة بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع؛ لأنها متأخرة عنها والحصر فيها ظاهر فالأخذ بها أولى؛ لأنها إما ناسخة لما تقدمها أو راجحة على تلك الأحاديث. وأما القائلون بالتحريم فظهر لهم وثبت عندهم أن سورة }الأنعام} مكية؛ نزلت قبل الهجرة، وأن هذه الآية قصد بها الرد على الجاهلية في تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، ثم بعد ذلك حرم أمورا كثيرة كالحمر الإنسية ولحوم البغال وغيرها، وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. قال أبو عمر: ويلزم على قول من قال{لا محرم إلا ما فيها} ألا يحرم ما لم يذكر اسم الله عليه عمدا، وتستحل الخمر المحرمة عند جماعة المسلمين. وفي إجماع المسلمين على تحريم خمر العنب دليل واضح على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد فيما أوحي إليه محرما غير ما في سورة }الأنعام} مما قد نزل بعدها من القرآن. وقد اختلفت الرواية عن مالك في لحوم السباع والحمير والبغال فقال مرة: هي محرمة؛ لما ورد من نهيه عليه السلام عن ذلك، وهو الصحيح من قول على ما في الموطأ. وقال مرة: هي مكروهة، وهو ظاهر المدونة؛ لظاهر الآية؛ ولما روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة من إباحة أكلها، وهو قول الأوزاعي. روى البخاري من رواية عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن زيد إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية؟ فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة؛ ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس، وقرأ }قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما}. وروي عن ابن عمر أنه سئل عن لحوم السباع فقال: لا بأس بها. فقيل له: حديث أبي ثعلبة الخشني فقال: لا ندع كتاب الله ربنا لحديث أعرابي يبول على ساقيه. وسئل الشعبي عن لحم الفيل والأسد فتلا هذه الآية؛ وقال القاسم: كانت عائشة تقول لما سمعت الناس يقولون حرم كل ذي ناب من السباع: ذلك حلال، وتتلو هذه الآية }قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما} ثم قالت: إن كانت البرمة ليكون ماؤها أصفر من الدم ثم يراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحرمها. والصحيح في هذا الباب ما بدأنا بذكره، وإن ما ورد من المحرمات بعد الآية مضموم إليها معطوف عليها. وقد أشار القاضي أبو بكر بن العربي إلى هذا في قبسه خلاف ما ذكر في أحكامه قال: روي عن ابن عباس أن هذه الآية من آخر ما نزل؛ فقال البغداديون من أصحابنا: إن كل ما عداها حلال، لكنه يكره أكل السباع. وعند فقهاء الأمصار منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وعبدالملك أن أكل كل ذي ناب من السباع حرام، وليس يمتنع أن تقع الزيادة بعد قوله{قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} بما يرد من الدليل فيها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) فذكر الكفر والزنى والقتل. ثم قال علماؤنا: إن أسباب القتل عشرة بما ورد من الأدلة، إذ النبي صلى الله عليه وسلم إنما يخبر بما وصل إليه من العلم عن الباري تعالى؛ وهو يمحو ما يشاء ويثبت وينسخ ويقدم. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أكل كل ذي ناب من السباع حرام) وقد روي أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير. وروى مسلم عن معن عن مالك{نهي عن أكل كل ذي مخلب من الطير} والأول أصح وتحريم كل ذي ناب من السباع هو صريح المذهب وبه ترجم مالك في الموطأ حين قال: تحريم أكل كل ذي ناب من السباع. ثم ذكر الحديث وعقبه بعد ذلك بأن قال: وهو الأمر عندنا. فأخبر أن العمل أطرد مع الأثر. قال القشيري: فقول مالك }هذه الآية من أواخر ما نزل} لا يمنعنا من أن نقول: ثبت تحريم بعض هذه الأشياء بعد هذه الآية، وقد أحل الله الطيبات وحرم الخبائث، ونهى رسول الله صلى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن أكل كل ذي مخلب من الطير، ونهى عن لحوم الحمر الأهلية عام خيبر. والذي يدل على صحة هذا التأويل الإجماع على تحريم العذرة والبول والحشرات المستقذرة والحمر مما ليس مذكورا في هذه الآية.
قوله تعالى{محرما} قال ابن عطية: لفظة التحريم إذا وردت على لسان رسول الله صلى الله عليه مسلم فإنها صالحة أن تنتهي بالشيء المذكور غاية الحظر والمنع، وصالحة أيضا بحسب اللغة أن تقف دون الغاية في حيز الكراهة ونحوها؛ فما اقترنت به قرينة التسليم من الصحابة المتأولين وأجمع الكل منهم ولم تضطرب فيه ألفاظ الأحاديث وجب بالشرع أن يكون تحريمه قد وصل الغاية من الحظر والمنع، ولحق بالخنزير والميتة والدم، وهذه صفة تحريم الخمر. وما اقترنت به قرينة اضطراب ألفاظ الأحاديث واختلفت الأئمة فيه مع علمهم بالأحاديث كقوله عليه السلام: (أكل كل ذي ناب من السباع حرام). وقد ورد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، ثم اختلفت الصحابة ومن بعدهم في تحريم ذلك، فجاز لهذه الوجوه لمن ينظر أن يحمل لفظ التحريم على المنع الذي هو الكراهة ونحوها. وما اقترنت به قرينة التأويل كتحريمه عليه السلام لحوم الحمر الإنسية فتأول بعض الصحابة الحاضرين ذلك لأنه نجس، وتأول بعضهم ذلك لئلا تفنى حمولة الناس، وتأول بعضهم التحريم المحض. وثبت في الأمة الاختلاف في تحريم لحمها؛ فجائز لمن ينظر من العلماء أن يحمل لفظ التحريم على المنع الذي هو الكراهة ونحوها نحوها بحسب اجتهاده وقياسه.
قلت: وهذا عقد حسن في هذا الباب وفي سبب الخلاف على ما تقدم. وقد قيل: إن الحمار لا يؤكل، لأنه أبدى جوهره الخبيث حيث نزا على ذكر وتلوط؛ فسمي رجسا. قال محمد بن سيري: ليس شيء من الدواب يعمل عمل قوم لوط إلا الخنزير والحمار؛ ذكره الترمذي في نوادر الأصول.
روى عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء، فبعث الله نبيه عليه السلام وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه؛ فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو، وتلا هذه الآية }قل لا أجد} الآية. يعني ما لم يبين تحريمه فهو مباح بظاهر هذه الآية. وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عباس أنه قرأ }قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} قال: إنما حرم من الميتة أكلها، ما يؤكل منها وهو اللحم؛ فأما الجلد والعظم والصوف والشعر فحلال. وروى أبو داود عن ملقام بن تلب عن أبيه قال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرة الأرض تحريما. الحشرة: صغار دواب الأرض كاليرابيع والضباب والقنافذ. ونحوها؛ قال الشاعر:
أكلنا الرُبى يا أم عمرو ومن يكن غريبا لديكم يأكل الحشرات
أي ما دب ودرج. والربى جمع ربية وهي الفأرة. قال الخطابي: وليس في قوله }لم أسمع ل لها تحريما} دليل على أنها مباحة؛ لجواز أن يكون غيره قد سمعه. وقد اختلف الناس في اليربوع والوبر والجمع وبار ونحوهما من الحشرات؛ فرخص في اليربوع عروة وعطاء والشافعي وأبو ثور. قال الشافعي: لا بأس بالوبر وكرهه ابن سيرين والحكم وحماد وأصحاب الرأي. وكره أصحاب الرأي القنفذ. وسئل عنه مالك بن أنس فقال: لا أدري. وحكى أبو عمرو: وقال مالك لا بأس بأكل القنفذ. وكان أبو ثور لا يرى به بأسا؛ وحكاه عن الشافعي. وسئل عنه ابن عمر فتلا }قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} الآية؛ فقال شيخ عنده سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (خبيثة من الخبائث). فقال ابن عمر: إن كان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فهو كما قال. ذكره أبو داود. وقال مالك: لا بأس بأكل الضب واليربوع والورل. وجائز عنده أكل الحيات إذا ذكيت؛ وهو قول ابن أبي ليلى والأوزاعي. وكذلك الأفاعي والعقارب والفأر والعظاية والقنفذ والضفدع. وقال ابن القاسم: ولا بأس بأكل خشاش الأرض وعقاربها ودودها في قول مالك؛ لأنه قال: موته في الماء لا يفسده. وقال مالك: لا بأس بأكل فراخ النحل ودود الجبن والتمر ونحوه. والحجة له حديث ملقام بن تلب، وقول ابن عباس وأبي الدرداء: ما أحل الله فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو. وقالت عائشة في الفأرة: ما هي بحرام، وقرأت }قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما}. ومن علماء أهل المدينة جماعة لا يجيزون أكل كل شيء من خشاش الأرض وهوامها؛ مثل الحيات والأوزاغ والفأر وما أشبهه. وكل ما يجوز قتله فلا يجوز عند هؤلاء أكله، ولا تعمل الذكاة عندهم فيه. وهو قول ابن شهاب وعروة والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم. ولا يؤكل عند مالك وأصحابه شيء من سباع الوحش كلها، ولا الهر الأهلي ولا الوحشي لأنه سبع. وقال: ولا يؤكل الضبع ولا الثعلب، ولا بأس بأكل سباع الطير كلها: الرخم والنسور والعقبان وغيرها، ما أكل الجيف منها وما لم يأكل. وقال الأوزاعي الطير كله حلال، إلا أنهم يكرهون الرخم. وحجة مالك أنه لم يجد أحدا من أهل العلم يكره أكل سباع الطير، وأنكر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى عن أكل كل ذي مخلب من الطير). وروي عن أشهب أنه قال: لا بأس بأكل الفيل إذا ذكي؛ وهو قول الشعبي، ومنع منه الشافعي. وكره النعمان وأصحابه أكل الضبع والثعلب.
ورخص في ذلك الشافعي، وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يأكل الضباع. وحجة مالك، عموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، ولم يخصى سبعا من سبع. وليس حديث الضبع الذي خرجه النسائي في إباحة أكلها مما يعارض به حديث النهي؛ لأنه حديث أنفرد به عبدالرحمن بن أبي عمار، وليس مشهورا بنقل العلم، ولا ممن يحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه. قال أبو عمر: وقد روي النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من طرق متواترة. وروى ذلك جماعة من الأئمة الثقات الأثبات، ومحال أن يعارضوا بمثل حديث ابن أبي عمار. قال أبو عمر: أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أكل القرد لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله، ولا يجوز بيعه لأنه لا منفعة فيه. قال: وما علمت أحدا رخص في أكله إلا ما ذكره عبدالرزاق عن معمر عن أيوب. سئل مجاهد عن أكل القرد فقال: ليس من بهيمة الأنعام.
قلت: ذكر ابن المنذر أنه قال: روينا عن عطاء أنه سئل عن القرد يقتل في الحرم فقال: يحكم به ذوا عدل. قال: فعلى مذهب عطاء يجوز أكل لحمه؛ لأن الجزاء لا يجب على من قتل غير الصيد. وفي (بحر المذهب) للروياني على مذهب الإمام الشافعي: وقال الشافعي يجوز بيع القرد لأنه يعلم وينتفع به لحفظ المتاع. وحكى الكشفلي عن ابن شريح يجوز بيعه لأنه ينتفع به. فقيل له: وما وجه الانتفاع به؟ قال تفرح به الصبيان. قال أبو عمر: والكلب والفيل وذو الناب كله عندي مثل القرد. والحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في قول غيره. وقد زعم ناس أنه لم يكن في العرب من يأكل لحم الكلب إلا قوم من فقعس. وروى أبو داود عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها. في رواية: عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها. قال الحليمي أبو عبدالله: فأما الجلالة فهي التي تأكل العذرة من الدواب والدجاج المخلاة. ونهى النبي عن لحومها. وقال العلماء: كل ما ظهر منها ريح العذرة في لحمه أو طعمه فهو حرام، وما لم يظهر فهو حلال. وقال الخطابي: هذا نهي تنزه وتنظف، وذلك أنها إذا اغتذت الجلة وهي العذرة وجد نتن رائحتها في لحومها، وهذا إذا كان غالب علفها منها؛ فأما إذا رعت الكلأ واعتلفت الحب وكانت تنال مع ذلك شيئا من الجلة فليست بجلالة؛ وإنما هي كالدجاج المخلاة، ونحوها من الحيوان الذي ربما نال الشيء منها وغالب غذائه وعلفه من غيره فلا يكره أكلها. وقال أصحاب الرأي والشافعي وأحمد: لا تؤكل حتى تحبس أياما وتعلف علفا غيرها؛ فإذا طاب لحمها أكلت. وقد روي في الحديث (أن البقر تعلف أربعين يوما ثم يؤكل لحمها). وكان ابن عمر يحبس الدجاج ثلاثا ثم يذبح. وقال إسحاق: لا بأس بأكلها بعد أن يغسل لحمها غسلا جيدا. وكان الحسن لا يرى بأسا بأكل لحم الجلالة؛ وكذلك مالك بن أنس. ومن هذا الباب نهي أن تلقى في الأرض العذرة. روي عن بعضهم قال: كنا نكري أرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشترط على من يكريها ألا يلقي فيها العذرة. وعن ابن عمر أنه كان يكري أرضه ويشترط ألا تدمن بالعذرة. وروي أن رجل كان يزرع أرضه بالعذرة فقال له عمر: أنت الذي تطعم الناس ما يخرج ما منهم. واختلفوا في أكل الخيل؛ فأباحها الشافعي، وهو الصحيح، وكرهها مالك. وأما البغل فهو متولد من بين الحمار والفرس، وأحدهما مأكول أو مكروه وهو الفرس، والآخر محرم وهو الحمار؛ فغلب حكم التحريم؛ لأن التحليل والتحريم إذا اجتمعا في عين واحدة غلب حكم التحريم. وسيأتي بيان هذه المسألة في }النحل} إن شاء الله بأوعب من هذا. وسيأتي حكم الجراد في }الأعراف}. والجمهور من الخلف والسلف على جواز أكل الأرنب. وقد حكي عن عبدالله بن عمرو بن العاص تحريمه. وعن ابن أبي ليلى كراهته. قال عبدالله بن عمرو: جيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس فلم يأكلها ولم ينه عن أكلها. وزعم أنها تحيض. ذكره أبو داود. وروى النسائي مرسلا عن موسى بن طلحة قال: أتي النبي بأرنب قد شواها رجل وقال: يا رسول الله، إني رأيت بها دما؛ فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأكلها، وقال لمن عنده: (كلوا فإني لو اشتهيتها أكلتها).
قلت: وليس في هذا ما يدل على تحريمه، وإنما هو نحو من قوله عليه السلام: (إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه). وقد روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: مررنا بمر الظهران فاستنفجنا أرنبا فسعوا عليه فلغبوا. قال: فسعيت حتى أدركتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، فبعث بوركها وفخذها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله.
قوله تعالى{على طاعم يطعمه} أي أكل يأكله. وروي عن ابن عامر أنه قرأ }أوحى} بفتح الهمزة. وقرأ علي بن أبي طالب }يطعمه} مثقل الطاء، أراد يتطعمه فأدغم. وقرأت عائشة ومحمد بن الحنفية }على طاعم طعمه} بفعل ماض }إلا أن يكون ميتة} قرئ بالياء والتاء؛ أي إلا أن تكون العين أو الجثة أو النفس ميتة. وقرئ }يكون} بالياء }ميتة} بالرفع بمعنى تقع وتحدث ميتة. والمسفوح: الجاري الذي يسيل وهو المحرم. وغيره معفو عنه. وحكى الماوردي أن الدم غير المسفوح أنه إن كان ذا عروق يجمد عليها كالكبد والطحال فهو حلال؛ لقوله عليه السلام: (أحلت لنا ميتتان ودمان) الحديث. وإن كان غير ذي عروق يجمد عليها، وإنما هو مع اللحم ففي تحريمه قولان: أحدهما أنه حرام؛ لأنه من جملة المسفوح أو بعضه. وإنما ذكر المسفوح لاستثناء الكبد والطحال منه. والثاني أنه لا يحرم؛ لتخصيص التحريم بالمسفوح.
قلت: وهو الصحيح. قال عمران بن حدير: سألت أبا مجلز عما يتلطخ من اللحم بالدم، وعن القدر تعلوها الحمرة من الدم فقال: لا بأس به، إنما حرم الله المسفوح. وقالت نحوه عائشة وغيرها، وعليه إجماع العلماء. وقال عكرمة: لو لا هذه الآية لا تبع المسلمون من العروق ما تتبع اليهود. وقال إبراهيم النخعي: لا بأس بالدم في عرق أو مخ. وقد تقدم هذا وحكم المضطر في }البقرة} والله أعلم.
{وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون}
قوله تعالى{وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} لما ذكر الله عز وجل ما حرم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم عقب ذلك بذكر ما حرم على اليهود؛ لما في ذلك من تكذيبهم في قولهم: إن الله لم يحرم علينا شيئا، وإنما نحن حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه. وهذا التحريم على الذين هادوا إنما هو تكليف بلوى وعقوبة. فأول ما ذكر من المحرمات عليهم كل ذي ظفر. وقرأ الحسن }ظفر} بإسكان الفاء. وقرأ أبو السمال }ظفر} بكسر الظاء وإسكان الفاء. وأنكر أبو حاتم كسر الظاء وإسكان الفاء، ولم يذكر هذه القراءة وهي لغة. }وظفر} بكسرهما. والجمع أظفار وأظفور وأظافير؛ قال الجوهري. وزاد النحاس عن الفراء أظافير وأظافرة؛ قال ابن السكيت: يقال رجل أظفر بين الظفر إذا كان طويل الأظفار؛ كما يقال: رجل أشعر للطويل الشعر. قال مجاهد وقتادة{ذي ظفر} ما ليس بمنفرج الأصابع من البهائم والطير؛ مثل الإبل والنعام والإوز والبط. وقال ابن زيد: الإبل فقط. وقال ابن عباس{ذي ظفر} البعير والنعامة؛ لأن النعامة ذات ظفر كالإبل. وقيل: يعني كل ذي بخلب من الطير وذي حافر من الدواب. ويسمى الحافر ظفرا استعارة. وقال الترمذي الحكيم: الحافر ظفر، والمخلب ظفر؛ إلا أن هذا على قدره، وذاك على قدره وليس ههنا استعارة؛ ألا ترى أن كليهما يقص ويؤخذ منهما وكلاهما جنس واحد: عظم لين رخو. أصله من غذاء ينبت فيقص مثل ظفر الإنسان، وإنما سمي حافرا لأنه يحفر الأرض بوقعه عليها. وسمي مخلبا لأنه يخلب الطير برؤوس تلك الإبر منها. وسمي ظفرا لأنه يأخذ الأشياء بظفره، أي يظفر به الآدمي والطير.
قوله تعالى{ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما} قال قتادة: يعني الثروب وشحم الكليتين؛ وقال السدي. والثروب جمع الثرب، وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش. قال ابن جريج: حرم عليهم كل شحم غير مختلط بعظم أو على عظم، وأحل لهم شحم الجنب والألية؛ لأنه على العصعص.
قوله تعالى{إلا ما حملت ظهورهما} }ما} في موضع نصب على الاستثناء }ظهورهما} رفع }بحملت} }أو الحوايا} في موضع رفع عطف على الظهور أي أو حملت حواياهما، والألف واللام بدل من الإضافة. وعلى هذا تكون الحوايا من جملة ما أحل. }أو ما أختلط بعظم} }ما} في موضع نصب عطف على }ما حملت} أيضا هذا أصح ما قيل فيه. وهو. قول الكسائي والفراء وأحمد بن يحيى. والنظر يوجب أن يعطف الشيء على ما يليه، إلا ألا يصح معناه أو يدل دليل على غير ذلك. وقيل: إن الاستثناء في التحليل إنما هو ما حملت الظهور خاصة، وقوله{أو الحوايا أو ما اختلط بعظم} معطوف على المحرم. والمعنى: حرمت عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم؛ إلا ما حملت الظهور فإنه غير محرم. وقد احتج الشافعي بهذه الآية في أن من حلف ألا يأكل الشحم حنث بأكل شحم الظهور؛ لاستثناء الله عز وجل ما على ظهورهما من جملة الشحم.
قوله تعالى{أو الحوايا} الحوايا: هي المباعر، عن ابن عباس وغيره. وهو جمع مبعر، سمي بذلك لاجتماع البعر فيه. وهو الزبل. وواحد الحوايا حاوياء؛ مثل قاصعاء وقواصع. وقيل: حاوية مثل ضاربة وضوارب. وقيل: حوية مثل سفينة وسفائن. قال أبو عبيدة: الحوايا ما تحوى من البطن أي استدار. وهي منحوية أي مستديرة. وقيل: الحوايا خزائن اللبن، وهو يتصل بالمباعر وهي المصارين. وقيل: الحوايا الأمعاء التي عليها الشحوم. والحوايا في غير هذا الموضع: كساء يحوى حول سنام البعير. قال امرؤ القيس:
جعلن حوايا واقتعدن قعائدا وخففن من حوك العراق المنمق
فأخبر الله سبحانه أنه كتب عليهم تحريم هذا في التوراة ردا لكذبهم. ونصه فيها{حرمت عليكم} الميتة والدم ولحم الخنزير وكل دابة ليست مشقوقة الحافر وكل حوت ليس فيه سفاسق} أي بياض. ثم نسخ الله ذلك كله بشريعة محمد. وأباح لهم ما كان محرما عليهم من الحيوان، وأزال الحرج بمحمد عليه السلام، وألزم الخليقة دين الإسلام بحله وحرمه وأمره ونهيه.
لو ذبحوا أنعامهم فأكلوا ما أحل الله لهم في التوراة وتركوا ما حرم عليهم فهل يحل لنا؛ قال مالك في كتاب محمد: هي محرمة. وقال في سماع المبسوط: هل محللة وبه قال ابن نافع. وقال ابن القاسم: أكرهه. وجه الأول أنهم يدينون بتحريمها ولا يقصدونها عند الذكاة، فكانت محرمة كالدم. ووجه الثاني وهو الصحيح أن الله عز وجل رفع ذلك التحريم بالإسلام، واعتقادهم فيه لا يؤثر؛ لأنه اعتقاد فاسد؛ قاله ابن العربي.
قلت: ويدل على صحته ما رواه الصحيحان عن عبدالله بن مغفل قال: كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم فنزلت لآخذه فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه. لفظ البخاري. ولفظ مسلم: قال عبدالله بن مغفل: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر، قال فالتزمته وقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، قال: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسما. قال علماؤنا: تبسمه عليه السلام إنما كان لما رأى من شدة حرص ابن مغفل على أخذ الجراب ومن ضنته به، ولم يأمره بطرحه ولا نهاه. وعلى جواز الأكل مذهب أبي حنيفة والشافعي وعامة العلماء؛ غير أن مالكا كرهه للخلاف فيه. وحكى ابن المنذر عن مالك تحريمها؛ وإليه ذهب كبراء أصحاب مالك. ومتمسكهم ما تقدم، والحديث حجة عليهم؛ فلو ذبحوا كل ذي ظفر قال أصبغ: ما كان محرما في كتاب الله من ذبائحهم فلا يحل أكله؛ لأنهم يدينون بتحريمها. وقاله أشهب وابن القاسم، وأجازه ابن وهب. وقال ابن حبيب: ما كان محرما عليهم، وعلمنا ذلك من كتابنا فلا يحل لنا من ذبائحهم، وما لم نعلم تحريمه إلا من أقوالهم واجتهادهم فهو غير محرم علينا من ذبائحهم.
قوله تعالى{ذلك} أي ذلك التحريم. فذلك في موضع رفع، أي الأمر ذلك. }جزيناهم ببغيهم} أي بظلمهم، عقوبة لهم لقتلهم الأنبياء وصدهم عن سبيل الله، وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل. وفي هذا دليل على أن التحريم إنما يكون بذنب؛ لأنه ضيق فلا يعدل عن السعة إليه إلا عند المؤاخذة. }وإنا لصادقون} في إخبارنا عن هؤلاء اليهود عما حرمنا عليهم من اللحوم والشحوم.
الآية رقم ( 147 )
{فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين}
قوله تعالى{فإن كذبوك} شرط والجواب }فقل ربكم ذو رحمة واسعة} أي من سعة رحمته حلم عنكم فلم يعاقبكم في الدنيا. ثم أخبر بما أعده لهم في الآخرة من العذاب فقال{ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين} وقيل: المعنى ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين إذا أراد حلوله في الدنيا.
الآية رقم ( 148 )
{سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون}
قوله تعالى{سيقول الذين أشركوا} قال مجاهد: يعني كفار قريش. قالوا }لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا} يريد البحيرة والسائبة والوصيلة. أخبر الله عز وجل بالغيب عما سيقولونه؛ وظنوا أن هذا متمسك لهم لما لزمتهم الحجة وتيقنوا باطل ما كانوا عليه. والمعنى: لو شاء الله لأرسل إلى آبائنا رسولا فنهاهم عن الشرك وعن تحريم ما أحل لهم فينتهوا فأتبعناهم على ذلك. فرد الله عليهم ذلك فقال }قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} أي أعندكم دليل على أن هذا كذا؟{إن تتبعون إلا الظن} في هذا القول. }وإن أنتم إلا تخرصون} لتوهموا ضعفتكم أن لكم حجة. وقول }ولا آباؤنا} عطف على النون في }أشركنا}. ولم يقل نحن ولا آباؤنا؛ لأن قول }ولا} قام مقام توكيد المضمر؛ ولهذا حسن أن يقال: ما قمت ولا زيد.
الآية رقم ( 149 )
{قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين}
قوله تعالى{قل فلله الحجة البالغة} أي التي تقطع عذر المحجوج، وتزيل الشك عمن نظر فيها. فحجته البالغة على هذا تبيينه أنه الواحد، وإرساله الرسل والأنبياء؛ فبين التوحيد بالنظر في المخلوقات، وأيد الرسل بالمعجزات، ولزم أمره كل مكلف. فأما علمه وإرادته وكلامه فغيب لا يطلع عليه العبد، إلا من ارتضى من رسول. ويكفي في التكليف أن يكون العبد بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به لأمكنه. وقد لبست المعتزلة بقول{لو شاء الله ما أشركنا} فقالوا: قد ذم الله هؤلاء الذين جعلوا شركهم عن مشيئته. وتعلقهم بذلك باطل؛ لأن الله تعالى إنما ذمهم على ترك اجتهادهم في طلب الحق. وإنما قالوا ذلك على جهة الهزء واللعب. نظيره }وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم}الزخرف: 20]. ولو قالوه على جهة التعظيم والإجلال والمعرفة به لما عابهم؛ لأن الله تعالى يقول{لو شاء الله ما أشركوا}الأنعام: 107]. و}ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله}الأنعام: 111]. }ولو شاء لهداكم أجمعين}النحل: 9]. ومثله كثير. فالمؤمنون يقولونه لعلم منهم بالله تعالى.
الآية رقم ( 150 )
{قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون}
قوله تعالى{قل هلم شهداءكم} أي قل لهؤلاء المشركين أحضروا شهداءكم على أن الله حرم ما حرمتم. و}هلم} كلمة دعوة إلى شيء، ويستوي فيه الواحد والجماعة والذكر والأنثى عند أهل الحجاز، إلا في لغة نجد فإنهم يقولون: هلما هلموا هلمي، يأتون بالعلامة كما تكون في سائر الأفعال. وعلى لغة أهل الحجاز جاء القرآن، قال الله تعالى{والقائلين لإخوانهم هلم إلينا}الأحزاب: 18] يقول: هلم أي أحضر أو ادن. وهلم الطعام، أي هات الطعام. والمعنى ههنا: هاتوا شهداءكم، وفتحت الميم لالتقاء الساكنين؛ كما تقول: رد يا هذا، ولا يجوز ضمها ولا كسرها. والأصل عند الخليل }ها} ضمت إليها }لم} ثم حذفت الألف لكثرة الاستعمال. وقال غيره. الأصل }هل} زيدت عليها }لم}. وقيل: هي على لفظها تدل على معنى هات. وفي كتاب العين للخليل: أصلها هل أؤم، أي هل أقصدك، ثم كثر استعمالهم إياها حتى صار المقصود بقولها احضر كما أن تعال أصلها أن يقولها المتعالي للمتسافل؛ فكثر استعمالهم إياها حتى صار المتسافل يقول للمتعالي تعال.
قوله تعالى{فإن شهدوا} أي شهد بعضهم لبعض }فلا تشهد معهم} أي فلا تصدق أداء الشهادة إلا من كتاب أو على لسان نبي، وليس معهم شيء من ذلك.
الآية رقم ( 151 )
{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون}
قوله تعالى{قل تعالوا أتل} أي تقدموا واقرؤوا حقا يقينا كما أوحى إلى ربي، لا ظنا ولا كذبا كما زعمتم. ثم بين ذلك فقال }ألا تشركوا به شيئا} يقال للرجل: تعال، أي تقدم، وللمرأة تعالي، وللاثنين والاثنتين تعاليا، ولجماعة الرجال تعالوا، ولجماعة النساء تعالين؛ قال الله تعالى{فتعالين أمتعكن}الأحزاب: 28]. وجعلوا التقدم ضربا من التعالي والارتفاع؛ لأن المأمور بالتقدم في أصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعدا فقيل له تعال، أي ارفع شخصك بالقيام وتقدم؛ واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي؛ قاله ابن الشجري.
قوله تعالى{ما حرم} الوجه في }ما} أن تكون خبرية في موضع نصب بـ }أتل} والمعنى: تعالوا أتل الذي حرم ربكم عليكم؛ فإن علقت }عليكم} }بحرم} فهو الوجه؛ لأنه الأقرب وهو اختيار البصريين. وإن علقته بـ }أتل} فجيد لأنه الأسبق؛ وهو اختيار الكوفيين؛ فالتقدير في هذا القول أتل عليكم الذي حرم ربكم. }ألا تشركوا} في موضع نصب بتقدير فعل من لفظ الأول، أي أتل عليكم ألا تشركوا؛ أي أتل عليكم تحريم الإشراك، ويحتمل أن يكون منصوبا بما في }عليكم} من الإغراء، وتكون }عليكم} منقطعة مما قبلها؛ أي عليكم ترك الإشراك، وعليكم إحسانا بالوالدين، وألا تقتلوا أولادكم وألا تقربوا الفواحش. كما تقول: عليك شأنك؛ أي الزم شأنك. وكما قال{عليكم أنفسكم}المائدة: 105] قال جميعه ابن الشجري. وقال النحاس: يجوز أن تكون }أن} في موضع نصب بد لا من }ما}؛ أي أتل عليكم تحريم الإشراك. واختار الفراء أن تكون }لا} للنهي؛ لأن بعده }ولا}.
هذه الآية أمر من الله تعالى لنبيه عليه السلام بأن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله. وهكذا يجب على من بعده من العلماء أن يبلغوا الناس ويبينوا لهم ما حرم الله عليهم مما حل. قال الله تعالى{لتبيننه للناس ولا تكتمونه}آل عمران: 187]. وذكر ابن المبارك: أخبرنا عيسى بن عمر عن عمرو بن مرة أنه حدثهم قال: قال ربيع بن خيثم لجليس له: أيسرك أن تؤتى بصحيفة من النبي صلى الله عليه وسلم لم يفك خاتمها؟ قال نعم. قال فاقرأ }قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} فقرأ إلى آخر الثلاث الآيات. وقال كعب الأحبار: هذه الآية مفتتح التوراة: (بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) الآية. وقال ابن عباس: هذه الآيات المحكمات التي ذكرها الله في سورة }آل عمران} أجمعت عليها شرائع الخلق، ولم تنسخ قط في ملة. وقد قيل: إنها العشر كلمات المنزلة على موسى.
قوله تعالى{وبالوالدين إحسانا} الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما وإزالة الرق عنهما وترك السلطنة عليهما. و}إحسانا} نصب على المصدر، وناصبه فعل مضمر من لفظه؛ تقديره وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
قوله تعالى{ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} الإملاق الفقر: أي لا تئدوا من الموؤودة - بناتكم خشية العيلة، فإني رازقكم وإياهم. وقد كان منهم من يفعل ذلك بالإناث والذكور خشية الفقر، كما هو ظاهر الآية. أملق أي افتقر. وأملقه أي أفقره؛ فهو لازم ومتعد. وحكى النقاش عن مؤرج أنه قال: الإملاق الجوع بلغة لخم. وذكر منذر بن سعيد أن الإملاق الإنفاق؛ يقال: أملق ماله بمعنى أنفقه. وذكر أن عليا رضي الله عنه قال لامرأته: أملقي من مالك ما شئت. ورجل ملق يعطي بلسانه ما ليس في قلبه. فالملق لفظ مشترك يأتي بيانه في موضعه.
وقد يستدل بهذا من يمنع العزل؛ لأن الوأد يرفع الموجود والنسل؛ والعزل منع أصل النسل فتشابها؛ إلا أن قتل النفس أعظم وزرا وأقبح فعلا؛ ولذلك قال بعض علمائنا: إنه يفهم من قوله عليه السلام في العزل: (ذلك الوأد الخفي) الكراهة لا التحريم وقال به جماعة من الصحابة وغيرهم. وقال بإباحته أيضا جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء؛ لقوله عليه السلام: (لا عليكم ألا تفعلوا فإنما هو القدر) أي ليس عليكم جناح في ألا تفعلوا. وقد فهم منه الحسن ومحمد بن المثنى النهي والزجر عن العزل. والتأويل الأول أولى؛ لقوله عليه السلام: (إذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء). قال مالك والشافعي: لا يجوز العزل عن الحرة إلا بإذنها. وكأنهم رأوا الإنزال من تمام لذاتها، ومن حقها في الولد، ولم يروا ذلك في الموطوءة بملك اليمين، إذ له أن يعزل عنها بغير إذنها، إذ لا حق لها في شيء مما ذكر.
قوله تعالى{ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} نظيره }وذروا ظاهر الإثم وباطنه}الأنعام: 120]. فقوله{ما ظهر} نهي عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي. }وما بطن} ما عقد عليه القلب من المخالفة. وظهر وبطن حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء. و}ما ظهر} نصب على البدل من }الفواحش}. }وما بطن} عطف عليه.
قوله تعالى{ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} الألف واللام في }النفس} لتعريف الجنس؛ كقولهم: أهلك الناس حب الدرهم والدينار. ومثله }إن الإنسان خلق هلوعا}المعارج: 19] ألا ترى قول سبحانه{إلا المصلين }؟ وكذلك قوله{والعصر. إن الإنسان لفي خسر}العصر: 1،2] لأنه قال{إلا الذين آمنوا} وهذه الآية نهي عن قتل النفس المحرمة، مؤمنة كانت أو معاهدة إلا بالحق الذي يوجب قتلها. قال رسول الله صلى: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم ما له ونفسه إلا بحقه وحسابهم على الله). وهذا الحق أمور: منها منع الزكاة وترك الصلاة؛ وقد قاتل الصديق مانعي الزكاة. وفي التنزيل }فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}التوبة: 5] وهذا بين. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة). وقال عليه السلام: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما). أخرجه مسلم. وروى أبو داود عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به). وسيأتي بيان هذا في }الأعراف}. وفي التنزيل{إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا}المائدة: 33] الآية. وقال{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا}الحجرات: 9] الآية. وكذلك من شق عصا المسلمين وخالف إمام جماعتهم وفرق كلمتهم وسعى في الأرض فسادا بانتهاب الأهل والمال والبغي على السلطان والامتناع من حكمه يقتل. فهذا معنى قوله{إلا بالحق}. وقال عليه السلام: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ولا يتوارث أهل ملتين). وروى أبو داود والنسائي عن أبي بكر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قتل معاهدا في غير كنهه حرم الله عليه الجنة}. وفي رواية أخرى لأبي داود قال: (من قتل رجل من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما). في البخاري في هذا الحديث (وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما). خرجه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص.
قوله تعالى{ذلكم} إشارة إلى هذه المحرمات. والكاف والميم للخطاب، ولا حظ لهما من الإعراب. }وصاكم به لعلكم تعقلون} الوصية الأمر المؤكد المقدور. والكاف والميم محله النصب؛ لأنه ضمير موضوع للمخاطبة. وفي وصى ضمير فاعل يعود على الله. وروى مطر الوراق عن نافع عن ابن عمر أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أشرف على أصحابه فقال: علام تقتلوني! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل زنى بعد حصانه فعليه الرجم أو قتل عمدا فعليه القود أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل) فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا قتلت أحدا فأقيد نفسي به، ولا ارتددت منذ أسلمت، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسول، ذلكم الذي ذكرت لكم وصاكم به لعلكم تعقلون!
الآية رقم ( 152 )
{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون}
قوله تعالى{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} أي بما فيه صلاحه وتثميره، وذلك بحفظ أصول وتثمير فروعه. وهذا أحسن الأقوال في هذا؛ فإنه جامع. قال مجاهد{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} بالتجارة فيه، ولا تشتري منه ولا تستقرض.
قوله تعالى{حتى يبلغ أشده} يعني قوته، وقد تكون في البدن، وقد تكون في المعرفة بالتجربة، ولا بد من حصول الوجهين؛ فإن الأشد وقعت هنا مطلقة وقد جاء بيان حال اليتيم في سورة }النساء} مقيدة، فقال{وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا}النساء: 6] فجمع بين قوة البدن وهو بلوغ النكاح، وبين قوة المعرفة وهو إيناس الرشد؛ فلو مكن اليتيم من ماله قبل حصول المعرفة وبعد حصول القوة لأذهبه في شهوته وبقي صعلوكا لا مال له. وخص اليتيم بهذا الشرط لغفلة الناس عنه وافتقاد الآباء لأبنائهم فكان الاهتبال بفقيد الأب أولى. وليس بلوغ الأشد مما يبيح قرب ماله بغير الأحسن؛ لأن الحرمة في حق البالغ ثابتة. وخص اليتيم بالذكر لأن خصمه الله. والمعنى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن على الأبد حتى يبلغ أشده. وفي الكلام حذف؛ فإذا بلغ أشده وأونس منه الرشد فادفعوا إليه ماله. واختلف العلماء في أشد اليتيم؛ فقال ابن زيد: بلوغه. وقال أهل المدينة. بلوغه وإيناس رشده. وعند أبي حنيفة: خمس وعشرون سنة. قال ابن العربي: وعجبا من أبي حنيفة، فإنه يرى أن المقدرات لا تثبت قياسا ولا نظرا وإنما تثبت نقلا، وهو يثبتها بالأحاديث الضعيفة، ولكنه سكن دار الضرب فكثر عنده المدلس، ولو سكن المعدن كما قيض الله لمالك لما صدر عنه إلا إبريز الدين. وقد قيل: إن انتهاء الكهولة فيها مجتمع الأشد؛ كما قال سحيم بن وثيل:
أخو خمسين مجتمع أشدي ونجذني مداورة الشؤون
يروى }نجدني} بالدال والذال. والأشد واحد لا جمع له؛ بمنزلة الآنك وهو الرصاص. وقد قيل: واحده شد؛ كفلس وأفلس. وأصله من شد النهار أي ارتفع؛ يقال: أتيته شد النهار ومد النهار. وكان محمد بن الضبي ينشد بيت عنترة:
عهدي به النهار كأنما خضب اللبان ورأسه بالعظلم
وقال آخر:
تطيف به شد النهار ظعينة طويلة أنقاء اليدين سحوق
وكان سيبويه يقول: واحده شدة. قال الجوهري: وهو حسن في المعنى؛ لأنه يقال: بلغ الغلام شدته، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل، وأما أنعم فإنما هو جمع نعم؛ من قولهم: يوم بؤس ويوم نعم. وأما قول من قال: واحده شد؛ مثل كلب وأكلب، وشد مثل ذئب وأذؤب فإنما هو قياس. كما يقولون في واحد الأبابيل: أبول، قياسا على عجول، وليس هو شيئا سمع من العرب. قال أبو زيد: أصابتني شدى على فعلى؛ أي شدة. وأشد الرجل إذا كانت معه دابة شديدة.
قوله تعالى{وأوفوا الكيل والميزان بالقسط} أي بالاعتدال في الأخذ والعطاء عند البيع والشراء. والقسط: العدل. }لا نكلف نفسا إلا وسعها} أي طاقتها في إيفاء الكيل والوزن. وهذا يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرر. وما لا يمكن الاحتراز عنه من تفاوت ما بين الكيلين، ولا يدخل تحت قدرة البشر فمعفو عنه. وقيل: الكيل بمعنى المكيال. يقال: هذا كذا وكذا كيلا؛ ولهذا عطف عليه بالميزان. وقال بعض العلماء: لما علم الله سبحانه من عباده أن كثيرا منهم تضيق نفسه عن أن تطيب للغير بما لا يجب عليها له أمر المعطي بإيفاء رب الحق حقه الذي هو له، ولم يكلفه الزيادة؛ لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها. وأمر صاحب الحق بأخذ حقه ولم يكلفه الرضا بأقل منه؛ لما في النقصان من ضيق نفسه. وفي موطأ مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن عبدالله بن عباس أنه قال: ما ظهر الغلول في قوم قط إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنى في قوم إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو. وقال ابن عباس أيضا: إنكم معشر الأعاجم قد وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم الكيل والميزان.
قوله تعالى{وإذا قلتم فاعدلوا} يتضمن الأحكام والشهادات. }ولو كان ذا قربى} أي ولو كان الحق على مثل قراباتكم. }وبعهد الله أوفوا} عام في جميع ما عهده الله إلى عباده. ومحتمل أن يراد به جميع ما انعقد بين إنسانين. وأضيف ذلك العهد إلى الله من حيث أمر بحفظه والوفاء به }لعلكم تتذكرون} تتعظون.
الآية رقم ( 153 )
{وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}
قوله تعالى{وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه} هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم؛ فإنه لما نهى وأمر حذر هنا عن اتباع غير سبيله، فأمر فيها باتباع طريقه على ما نبينه بالأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف. }وأن} في موضع نصب، أي واتل أن هذا صراطي. عن الفراء والكسائي. قال الفراء: ويجوز أن يكون خفضا، أي وصاكم به وبأن هذا صراطي. وتقديرها عند الخليل وسيبويه: ولأن هذا صراطي؛ كما قال{وأن المساجد لله}الجن: 18] وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي }وإن هذا} بكسر الهمزة على الاستئناف؛ أي الذي ذكر في الآيات صراطي مستقيما. وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب }وأن هذا} بالتخفيف. والمخففة مثل المشددة، إلا أن فيه ضمير القصة والشان؛ أي وأنه هذا. فهي في موضع رفع. ويجوز النصب. ويجوز أن تكون زائدة للتوكيد؛ كما قال عز وجل{فلما أن جاء البشير}يوسف: 96]. والصراط: الطريق الذي هو دين الإسلام. }مستقيما} نصب على الحال، ومعناه مستويا قويما لا اعوجاج فيه. فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه ونهايته الجنة. وتشعبت منه طرق فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار. قال الله تعالى{ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} أي تميل. روى الدارمي أبو محمد في مسنده بإسناد صحيح: أخبرنا عفان حدثنا حماد بن زيد حدثنا عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبدالله بن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا، ثم قال: (هذا سبيل الله) ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره ثم قال (هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها) ثم قرأ هذه الآية. وأخرجه ابن ماجة في سننه عن جابر بن عبدالله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطا، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: (هذا سبيل الله - ثم تلا هذه الآية - }وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتعبوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}. وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام. هذه كلها عرضة للزلل، ومظنة لسوء المعتقد؛ قاله ابن عطية.
قلت: وهو الصحيح. ذكر الطبري في كتاب آداب النفوس: حدثنا محمد بن عبدالأعلى الصنعاني قال حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن أبان أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد وعن يساره جواد، وثم رجال يدعون من مر بهم فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود{وأن هذا صراطي مستقيما} الآية. وقال عبدالله بن مسعود: تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب أهله، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع، وعليكم بالعتيق. أخرجه الدارمي. وقال مجاهد في قوله{ولا تتبعوا السبل} قال: البدع. قال ابن شهاب: وهذا كقوله تعالى{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا}الأنعام: 159] الآية. فالهرب الهرب، والنجاة النجاة! والتمسك بالطريق المستقيم والسنن القويم، الذي سلكه السلف الصالح، وفيه المتجر الرابح. روى الأئمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فخذوه وما نهيتكم عنه فانتهوا). وروى ابن ماجة وغيره عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون؛ ووجلت منها القلوب؛ فقلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فما تعهد إلينا؟ فقال:(قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم والأمور المحدثات فإن كل بدعة ضلالة وعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد) أخرجه الترمذي بمعناه وصححه. وروى أبو داود قال حدثنا ابن كثير قال أخبرنا سفيان قال: كتب رجل إلى عمر بن عبدالعزيز يسأل عن القدر؛ فكتب إليه: أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته، وكفوا مؤونته، فعليك بلزوم الجماعة فإنها لك بإذن الله عصمة، ثم أعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها؛ فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل، والحمق والتعمق؛ فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وإنهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدي ما أنتم عليه فقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم إنما حدث بعدهم فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم؛ فإنهم هم السابقون، قد تكلموا فيه بما يكفي ووصفوا ما يشفي؛ فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من مجسر، وقد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فغلوا وإنهم مع ذلك لعلى مستقيم. وذكر الحديث. وقال سهل بن عبدالله التستري: عليكم بالاقتداء بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في جميع أحوال ذموه ونفروا عنه وتبرؤوا منه وأذلوه وأهانوه. قال سهل: إنما ظهرت البدعة على يدي أهل السنة لأنهم ظاهروهم وقاولوهم؛ فظهرت أقاويلهم وفشت في العامة فسمعه من لم يكن يسمعه، فلو تركوهم ولم يكلموهم لمات كل واحد منهم على ما في صدره ولم يظهر منه شيء وحمله معه إلى قبره. وقال سهل: لا يحدث أحدكم بدعة حتى يحدث له إبليس عبادة فيتعبد بها ثم يحدث له بدعة، فإذا نطق بالبدعة ودعا الناس إليها نزع منه تلك الخَذْمَة.
قال سهل: لا أعلم حديثا جاء في المبتدعة أشد هذا الحديث: (حجب الله الجنة عن صاحب البدعة). قال: فاليهودي والنصراني أرجى منهم. قال سهل: من أراد أن يكرم دينه فلا يدخل على السلطان، ولا يخلون بالنسوان، ولا يخاصمن أهل الأهواء. وقال أيضا: أتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم. وفي مسند الدارمي: أن أبا موسى الأشعري جاء إلى عبدالله بن مسعود فقال: يا أبا عبدالرحمن، إن رأيت في المسجد آنفا شيئا أنكرته ولم أر والحمد لله إلا خيرا، قال: فما هو؟ قال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوما حلقا حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة؛ في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول لهم: كبروا مائة؛ فيكبرون مائة. فيقول: هللوا مائة؛ فيهللون مائة. ويقول: سبحوا مائة؛ فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئا؛ انتظار رأيك وانتظار أمرك. قال أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم. ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق؛ فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبدالرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدوا سيئاتكم وأنا ضامن لكم ألا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم. أو مفتتحي باب ضلالة! قالوا: والله يا أبا عبدالرحمن، ما أردنا إلا الخير. فقال: وكم من مريد للخير لن يصيبه. وعن عمر بن عبدالعزيز وسأله رجل عن شيء من أهل الأهواء والبدع؛ فقال: عليك بدين الأعراب والغلام في الكتاب، وآله عما سوى ذلك. وقال الأوزاعي: قال إبليس لأوليائه من أي شيء تأتون بنى آدم؟ فقالوا: من كل شيء. قال: فهل تأتونهم من قبل الاستغفار؟ قالوا: هيهات! ذلك شيء قرن بالتوحيد. قال: لأبثن فيهم شيئا لا يستغفرون الله منه. قال: فبث فيهم الأهواء. وقال مجاهد: ولا أدري أي النعمتين علي أعظم أن هداني للإسلام، أو عافاني من هذه الأهواء. وقال الشعبي: إنما سموا أصحاب الأهواء لأنهم يهوون في النار. كله عن الدارمي. وسئل سهل بن عبدالله عن الصلاة خلف المعتزلة والنكاح منهم وتزوجهم. فقال: لا، ولا كرامة! هم كفار، كيف يؤمن من يقول: القرآن مخلوق، ولا جنة مخلوقة ولا نار مخلوقة، ولا لله صراط ولا شفاعة، ولا أحد من المؤمنين يدخل النار ولا يخرج من النار من مذنبي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا عذاب القبر ولا منكر ولا نكير، ولا رؤية لربنا في الآخرة ولا زيادة، وأن علم الله مخلوق، ولا يرون السلطان ولا جمعة؛ ويكفرون من يؤمن بهذا. وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه. وقال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. وقال ابن عباس: النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة، عبادة. وقال أبو العالية: عليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه قبل أن يفترقوا. قال عاصم الأحول: فحدثت به الحسن فقال: قد نصحك والله وصدقك. وقد مضى في }آل عمران} معنى قوله عليه السلام: (تفرقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين فرقة وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين). الحديث. وقد قال بعض العلماء العارفين: هذه الفرقة التي زادت في فرق أمة محمد صلى الله عليه وسلم هم قوم يعادون العلماء ويبغضون الفقهاء، ولم يكن ذلك قط في الأمم السالفة. وقد روى رافع بن خديج أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يكون في أمتي قوم يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون كما كفرت اليهود والنصارى). قال فقلت: جعلت فداك يا رسول الله! كيف ذاك؟ قال: (يقرون ببعض ويكفرون ببعض). قال قلت: جعلت فداك يا رسول الله! وكيف يقولون؟ قال: (يجعلون إبليس عدلا لله في خلقه وقوته ورزقه ويقولون الخير من الله والشر من إبليس). قال: فيكفرون بالله ثم يقرؤون على ذلك كتاب الله، فيكفرون بالقرآن بعد الإيمان والمعرفة؟ قال: (فما تلقى أمتي منهم من العداوة والبغضاء والجدال أولئك زنادقة هذه الأمة). وذكر الحديث.
ومضى في }النساء} وهذه السورة النهي عن مجالسة أهل البدع والأهواء، وأن من جالسهم حكمه حكمهم فقال{وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا}الأنعام: 68] الآية. ثم بين في سورة }النساء} وهي مدنية عقوبة من فعل ذلك وخالف ما أمر الله به فقال{وقد نزل عليكم في الكتاب}النساء: 140] الآية. فألحق من جالسهم بهم. وقد ذهب إلى هذا جماعة من أئمة هذه الأمة وحكم بموجب هذه الآيات في مجالس أهل البدع على المعاشرة والمخالطة منهم أحمد بن حنبل والأوزاعي وابن المبارك فإنهم قالوا في رجل شأنه مجالسة أهل البدع قالوا: ينهي عن مجالستهم، فإن انتهى وإلا ألحق بهم، يعنون في الحكم. وقد حمل عمر بن عبدالعزيز الحد على مجالس شربة الخمر، وتلا }إنكم إذا مثلهم}. قيل له: فإنه يقول إني أجالسهم لأباينهم وأرد عليهم. قال ينهى عن مجالستهم، فإن لم ينته أُلحق بهم.
الآية رقم ( 154 )
{ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون}
قوله تعالى{ثم آتينا موسى الكتاب} مفعولان. }تماما} مفعول من أجله أو مصدر. }على الذي أحسن} قرئ بالنصب والرفع. فمن رفع - وهي قراءة يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق. فعلى تقدير: تماما على الذي هو أحسن. قال المهدوي: وفيه بعد من أجل حذف المبتدأ العائد على الذي. وحكى سيبويه عن الخليل أنه سمع }ما أنا بالذي قائل لك شيئا}. ومن نصب فعلى أنه فعل ماضي داخل في الصلة؛ هذا قول البصريين. وأجاز الكسائي والفراء أن يكون اسما نعتا للذي. وأجازا }مررت بالذي أخيك} ينعتان الذي بالمعرفة وما قاربها. قال النحاس: وهذا محال عند البصريين؛ لأنه نعت للاسم قبل أن يتم، والمعنى عندهم: على المحسن. قال مجاهد: تماما على المحسن المؤمن. وقال الحسن في معنى قوله{تماما على الذين أحسن} كان فيهم محسن وغير محسن؛ فأنزل الله الكتاب تماما على المحسنين. والدليل على صحة هذا القول أن ابن مسعود قرأ{تماما على الذين أحسنوا}. وقيل: المعنى أعطينا موسى التوراة زيادة على ما كان يحسنه موسى مما كان علمه الله قبل نزول التوراة عليه. قال محمد بن يزيد: فالمعنى }تماما على الذي أحسن} أي تماما على الذي أحسنه الله عز وجل إلى موسى عليه السلام من الرسالة وغيرها. وقال عبدالله بن زيد: معناه على إحسان الله تعالى إلى أنبيائه عليهم السلام من الرسالة وغيرها. وقال الربيع بن أنس: تماما على إحسان موسى من طاعته لله عز وجل؛ وقاله الفراء. ثم قيل{ثم} يدل على أن الثاني بعد الأول، وقصة موسى صلى الله عليه وسلم وإتيانه الكتاب قبل هذا؛ فقيل{ثم} بمعنى الواو؛ أي وآتينا موسى الكتاب، لأنهما حرفا عطف. وقيل: تقدير الكلام ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: المعنى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، ثم أتل ما آتينا موسى تماما. }وتفصيلا} عطف عليه. وكذا }وهدى ورحمة}.
الآية رقم ( 155 )
{وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون}
قوله تعالى{وهذا كتاب} ابتداء وخبر. }أنزلناه مبارك} نعت؛ أي كثير الخيرات. ويجوز في غير القرآن }مباركا} على الحال. }فاتبعوه} أي أعملوا بما فيه. }واتقوا} أي اتقوا تحريفه. }لعلكم ترحمون} أي لتكونوا راجين للرحمة فلا تعذبون.
الآية رقم ( 156 )
{أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين}
قوله تعالى{أن تقولوا} في موضع نصب. قال الكوفيون. لئلا تقولوا. وقال البصريون: أنزلناه كراهية أن تقولوا. وقال الفراء والكسائي: المعنى فاتقوا أن تقولوا يا أهل مكة. }إنما أنزل الكتاب} أي التوراة والإنجيل. }على طائفتين من قبلنا} أي على اليهود والنصارى، ولم ينزل علينا كتاب. }وإن كنا عن دراستهم لغافلين} أي عن تلاوة كتبهم وعن لغاتهم. ولم يقل عن دراستهما؛ لأن كل طائفة جماعة.
الآية رقم ( 157 )
{أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون}
قوله تعالى{أو تقولوا} عطف على }أن تقولوا}. }فقد جاءكم بينة من ربكم} أي قد زال العذر بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم. والبينة والبيان واحد؛ والمراد محمد صلى الله عليه وسلم، سماه سبحانه بينة. }وهدى ورحمة} أي لمن أتبعه. ثم قال{فمن أظلم} أي فإن كذبتم فلا أحد أظلم منكم. }صدف} أعرض، و}يصدفون} يعرضون. وقد تقدم.
الآية رقم ( 158 )
{هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون}
قوله تعالى{هل ينظرون} معناه أقمت عليهم الحجة وأنزلت عليهم الكتاب فلم يؤمنوا، فماذا ينتظرون. }إلا أن تأتيهم الملائكة} أي عند الموت لقبض أرواحهم. }أو يأتي ربك} قال ابن عباس والضحاك: أمر ربك فيهم بالقتل أو غيره، وقد يذكر المضاف إليه والمراد به المضاف؛ كقوله تعالى{واسأل القرية}يوسف: 82] يعني أهل القرية. وقول{وأشربوا في قلوبهم العجل}البقرة: 93] أي حب العجل. كذلك هنا: يأتي أمر ربك، أي عقوبة ربك وعذاب ربك. ويقال: هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله. }أو يأتي بعض آيات ربك} قيل: هو طلوع الشمس من مغربها. بين بهذا أنهم يمهلون في الدنيا فإذا ظهرت الساعة فلا إمهال. وقيل: إتيان الله تعالى مجيئه لفصل القضاء بين خلقه في موقف القيامة؛ كما قال تعالى{وجاء ربك والملك صفا صفا}الفجر: 22]. وليس مجيئه تعالى حركة ولا انتقالا ولا زوالا؛ لأن ذلك إنما يكون إذا كان الجائي جسما أو جوهرا. والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: يجيء وينزل ويأتي. ولا يكيفون؛ لأنه }ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}الشورى: 11]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض). وعن صفوان بن عسال المرادي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بالمغرب باب مفتوحا للتوبة مسيرة سبعين سنة لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه). أخرجه الدارقطني والدارمي والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال سفيان: قبل الشام، خلقه الله يوم خلق السماوات والأرض. (مفتوحا) يعني للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه. قال: حديث حسن صحيح.
قلت: وكذب بهذا كله الخوارج والمعتزلة كما تقدم. وروى ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب فقال: أيها الناس، إن الرجم حق فلا تخدعن عنه، وإن آية ذلك أن رسول الله صلى الله عليه قد رجم، وأن أبا بكر قد رجم، وأنا قد رجمنا بعدهما، وسيكون قوم من هذه الأمة يكذبون بالرجم، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بطلوع الشمس من مغربها، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا. ذكر أبو عمر. وذكر الثعلبي في حديث فيه طول عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه: أن الشمس تحبس عن الناس - حين تكثر المعاصي في الأرض، ويذهب المعروف فلا يأمر به أحد، ويفشو المنكر فلا ينهى عنه - مقدار ليلة تحت العرش، كلما سجدت واستأذنت ربها تعالى من أين تطلع لم يجيء لها جواب حتى يوافيها القمر فيسجد معها، ويستأذن من أين يطلع فلا يجاء إليهما جواب حتى يحبسا مقدار ثلاث ليال للشمس وليلتين للقمر؛ فلا يعرف طول تلك الليلة إلا المتهجدون في الأرض وهم يومئذ عصابة قليلة في كل بلدة من بلاد المسلمين فإذا تم لهما مقدار ثلاث ليال أرسل الله تعالى إليهما جبريل عليه السلام فيقول: (إن الرب سبحانه وتعالى يأمر كما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منه، وأنه لا ضوء لكما عندنا ولا نور) فيطلعان من مغاربهما أسودين، لا ضوء للشمس ولا نور للقمر، مثلهما في كسوفهما قبل ذلك. فذلك قوله تعالى{وجمع الشمس والقمر}القيامة: 9] وقوله{إذا الشمس كورت}التكوير: 1] فيرتفعان كذلك مثل البعيرين المقرونين؛ فإذا ما بلغ الشمس والقمر سرة السماء وهي منصفها جاءهما جبريل عليه السلام فأخذ بقرونهما وردهما إلى المغرب، فلا يغربهما من مغاربهما ولكن يغربهما من باب التوبة ثم يرد المصراعين، ثم يلتئم ما بينهما فيصير كأنه لم يكن بينهما صدع. فإذا أغلق باب التوبة لم تقبل لعبد بعد ذلك توبة، ولم تنفعه بعد ذلك حسنة يعملها؛ إلا من كان قبل ذلك محسنا فإنه يجري عليه ما كان عليه قبل ذلك اليوم؛ فذلك قوله تعالى{يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا}. ثم إن الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك الضوء والنور، ثم يطلعان على الناس ويغربان كما كانا قبل ذلك يطلعان ويغربان.
قال العلماء: وإنما لا ينفع نفسا إيمانها عند طلوعها من مغربها؛ لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن؛ فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم، وبطلانها من أبدانهم؛ فمن تاب في مثل هذه الحال لم تقبل توبته، كما لا تقبل توبة من حضره الموت. قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) أي تبلغ روحه رأس حلقه، وذلك وقت المعاينة الذي يرى فيه مقعده من الجنة أو مقعده من النار؛ فالمشاهد لطلوع الشمس من مغربها مثله. وعلى هذا ينبغي أن تكون توبة كل من شاهد ذلك أو كان كالمشاهد له مردودة ما عاش؛ لأن علمه بالله تعالى وبنبيه صلى الله عليه وسلم وبوعده قد صار ضرورة. فإن امتدت أيام الدنيا إلى أن ينسى الناس من هذا الأمر العظيم ما كان، ولا يتحدثوا عنه إلا قليلا، فيصير الخبر عنه خاصا وينقطع التواتر عنه؛ فمن أسلم في ذلك الوقت أو تاب قبل منه. والله أعلم. وفي صحيح مسلم عن عبدالله قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا). وفيه عن حذيفة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرفة ونحن أسفل منه، فأطلع إلينا فقال{ما تذكرون)؟ قلنا: الساعة. قال: (إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات. خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف في جزيرة العرب والدخان والدجال ودابة الأرض ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ونار تخرج من قعر عدن ترحل الناس). قال شعبة: وحدثني عبدالعزيز بن رفيع عن أبي الطفيل عن أبي سريحة مثل ذلك، لا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أحدهما في العاشرة: ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم. وقال الآخر: وريح تلقي الناس في البحر.
قلت: وهذا حديث متقن في ترتيب العلامات. وقد وقع بعضها وهي الخسوفات على ما ذكر أبو الفرج الجوزي من وقوعها بعراق العجم والمغرب. وهلك، بسببها خلق كثير؛ ذكره في كتاب فهوم الآثار وغيره. ويأتي ذكر الدابة في }النمل}. ويأجوج ومأجوج في }الكهف}. ويقال: إن الآيات تتابع كالنظم في الخيط عاما فعاما. وقيل: إن الحكم في طلوع الشمس من مغربها أن إبراهيم عليه السلام قال لنمروذ{فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر}البقرة: 258] وأن الملحدة والمنجمة عن آخرهم ينكرون ذلك ويقولون: هو غير كائن؛ فيطلعها الله تعالى يوما من المغرب ليري المنكرين قدرته أن الشمس في ملكه، إن شاء أطلعها من المشرق وإن شاء أطلعها من المغرب. وعلى هذا يحتمل أن يكون رد التوبة والإيمان على من آمن وتاب من المنكرين لذلك المكذبين لخبر النبي صلى الله عليه وسلم بطلوعها، فأما المصدقون لذلك فإنه تقبل توبتهم وينفعهم إيمانهم قبل ذلك. وروي عن عبدالله بن عباس أنه قال: لا يقبل من كافر عمل ولا توبة إذا أسلم حين يراها، إلا من كان صغيرا يومئذ؛ فإنه لو أسلم بعد ذلك قبل ذلك منه. ومن كان مؤمنا مذنبا فتاب من الذنب قبل منه. وروي عن عمران بن حصين أنه قال: إنما لم تقبل توبته وقت طلوع الشمس حين تكون صيحة فيهلك فيها كثير من الناس؛ فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت وهلك لم تقبل توبته، ومن تاب بعد ذلك قبلت توبته؛ ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسيره. وقال عبدالله بن عمر: يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة حتى يغرسوا النحل. والله بغيبه أعلم. وقرأ ابن عمر وابن الزبير }يوم تأتي} بالتاء؛ مثل }تلقطه بعض السيارة}. وذهبت بعض أصابعه. وقال جرير:
لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع
قال المبرد: التأنيث على المجاورة لمؤنث لا على الأصل. وقرأ ابن سيرين }لا تنفع} بالتاء. قال أبو حاتم: يذكرون أن هذا غلط من ابن سيرين. قال النحاس: في هذا شيء دقيق من النحو ذكره سيبويه، وذلك أن الإيمان والنفس كل واحد منهما مشتمل على الآخر فأنث الإيمان إذ هو من النفس وبها؛ وأنشد سيبويه:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم
قال المهدوي: وكثيرا ما يؤنثون فعل المضاف المذكر إذا كانت إضافته إلى مؤنث، وكان المضاف بعض المضاف إليه منه أو به؛ وعليه قول ذي الرمة: مشين.... البيت فأنث المر لإضافته إلى الرياح وهي مؤنثة، إذ كان المر من الرياح. قال النحاس: وفيه قول آخر وهو أن يؤنث الإيمان لأنه مصدر كما يذكر المصدر المؤنث؛ مثل }فمن جاءه موعظة من ربه}البقرة: 275] وكما قال:
فقد عذرتنا في صحابته العذر
ففي أحد الأقوال أنث العذر لأنه بمعنى المعذرة. }قل انتظروا إنا منتظرون} بكم العذاب.
الآية رقم ( 159 )
{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون}
قوله تعالى{إن الذين فرقوا دينهم} قرأه حمزة والكسائي }فارقوا} بالألف، وهي قراءة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؛ من المفارقة والفراق. على معنى أنهم تركوا دينهم وخرجوا عنه. وكان علي يقول: والله ما فرقوه ولكن فارقوه. وقرأ الباقون بالتشديد؛ إلا النخعي فإنه قرأ }فرقوا} مخففا؛ أي آمنوا ببعض وكفروا ببعض. والمراد اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك. وقد وصفوا بالتفرق؛ قال الله تعالى{وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة}البينة: 4]. وقال{ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله}النساء: 150]. وقيل: عنى المشركين، عبد بعضهم الصنم وبعضهم الملائكة. وقيل: الآية عامة في جميع الكفار. وكل من ابتدع وجاء بما لم يأمر الله عز وجل به فقد فرق دينه. وروي أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية }إن الذين فرقوا دينهم} هم أهل البدع والشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة. وروي بقية بن الوليد حدثنا شعبة بن الحجاج حدثنا مجالد عن الشعبي عن شريح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا إنما هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة، يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة وأنا بريء منهم وهم منا برآء). وروى ليث بن أبي سليم عن طاوس عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ }إن الذين فارقوا دينهم}. }وكانوا شيعا} فرقا وأحزابا. وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع. }لست منهم في شيء} فأوجب براءته منهم؛ وهو كقوله عليه السلام: (من غشنا فليس منا) أي نحن برآء منه. وقال الشاعر:
إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني
أي أنا أبرأ منك. وموضع }في شيء} نصب على الحال من المضمر الذي في الخبر؛ قاله أبو علي. وقال الفراء هو على حذف مضاف، المعنى لست من عقابهم في شيء، وإنما عليك الإنذار.
قوله تعالى{إنما أمرهم إلى الله} تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم.
الآية رقم ( 160 )
{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون}
قوله تعالى{من جاء بالحسنة} ابتداء، وهو شرط، والجواب }فله عشر أمثالها} أي فله عشر حسنات أمثالها؛ فحذفت الحسنات وأقيمت الأمثال التي هي صفتها مقامها؛ جمع مثل وحكى سيبويه: عندي عشرة نسابات، أي عندي عشرة رجال نسابات. وقال أبو علي: حسن التأنيث في }عشر أمثالها} لما كان الأمثال مضافا إلى مؤنث، والإضافة إلى المؤنث إذا كان إياه في المعنى يحسن فيه ذلك؛ نحو }تلقطه بعض السيارة}. وذهبت بعض أصابعه. وقرأ الحسن وسعيد بن جبير والأعمش }فله عشر أمثالها}. والتقدير: فله عشر حسنات أمثالها، أي له من الجزاء عشرة أضعاف مما يجب له. ويجوز أن يكون له مثل، ويضاعف المثل فيصير عشرة. والحسنة هنا: الإيمان. أي من جاء بشهادة أن لا إله إلا الله فله بكل عمل عمله في الدنيا من الخير عشرة أمثاله من الثواب. }ومن جاء بالسيئة} يعني الشرك }فلا يجزى إلا مثلها} وهو الخلود في النار؛ لأن الشرك أعظم الذنوب، والنار أعظم العقوبة؛ فذلك قوله تعالى{جزاء وفاقا}النبأ: 26] يعني جزاء وافق العمل. وأما الحسنة فبخلاف ذلك؛ لنص الله تعالى على ذلك. وفي الخبر (الحسنة بعشر أمثالها وأزيد والسيئة واحدة وأغفر فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره). وروى الأعمش عن أبي صالح قال: الحسنة لا إله إلا الله والسيئة الشرك. }وهم لا يظلمون} أي لا ينقص ثواب أعمالهم. وقد مضى في }البقرة} بيان هذه الآية، وأنها مخالفة للإنفاق في سبيل الله؛ ولهذا قال بعض العلماء: العشر لسائر الحسنات؛ والسبعمائة للنفقة في سبيل الله، والخاص والعام فيه سواء. وقال بعضهم: يكون للعوام عشرة وللخواص سبعمائة وأكثر إلى ما لا يحصى؛ وهذا يحتاج إلى توقيف. والأول أصح؛ لحديث خريم بن فاتك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: (وأما حسنة بعشر فمن عمل حسنة فله عشر أمثالها وأما حسنة بسبعمائة فالنفقة في سبيل الله).
الآية رقم ( 161 )
{قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين}
قوله تعالى{قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم} لما بين تعالى أن الكفار تفرقوا بين أن الله هداه إلى الدين المستقيم وهو دين إبراهيم }دينا} نصب على الحال؛ عن قطرب. وقيل: نصب بـ }هداني} عن الأخفش. قال غيره: انتصب حملا على المعنى؛ لأن معنى هداني عرفني دينا. ويجوز أن يكون بد لا من الصراط، أي هداني صراطا مستقيما دينا. وقيل: منصوب بإضمار فعل؛ فكأنه قال: اتبعوا دينا، واعرفوا دينا. }قيما} قرأه الكوفيون وابن عامر بكسر القاف والتخفيف وفتح الياء، مصدر كالشبع فوصف به. والباقون بفتح القاف وكسر الياء وشدها، وهما لغتان. وأصل الياء الواو }قيوم} ثم أدغمت الواو في الياء كميت. ومعناه دينا مستقيما لاعوج فيه }ملة إبراهيم} بدل }حنيفا} قال الزجاج: هو حال من إبراهيم. وقال علي بن سليمان: هو نصب بإضمار أعني.
الآية رقم ( 162 : 163 )
{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}
قوله تعالى{قل إن صلاتي ونسكي} قيل: المراد بههنا صلاة الليل. وقيل: صلاة العيد. والنسك جمع نسيكة، وهي الذبيحة، وكذلك قال مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وغيرهم. والمعنى: ذبحي في الحج والعمرة. وقال الحسن: نسكي ديني. وقال الزجاج: عبادتي؛ ومنه الناسك الذي يتقرب إلى الله بالعبادة. وقال قوم: النسك في هذه الآية جميع أعمال البر والطاعات؛ من قولك نسك فلان فهو ناسك، إذا تعبد. }ومحياي} أي ما أعمله في حياتي }ومماتي} أي ما أوصي به بعد وفاتي }لله رب العالمين} أي أفرده بالتقرب بها إليه. وقيل{ومحياي ومماتي لله} أي حياتي وموتي له. وقرأ الحسن{نُسْكي} بإسكان السين. وأهل المدينة }ومحياي} بسكون الياء في الإدراج. والعامة بفتحها؛ لأنه يجتمع ساكنان. قال النحاس: لم يجزه أحد من النحويين إلا يونس، وإنما أجازه لأن قبله ألفا، والألف المدة التي فيها تقوم مقام الحركة. وأجاز يونس آضربان زيدا، وإنما منع النحويون هذا لأنه جمع بين ساكنين وليس في الثاني إدغام، ومن قرأ بقراءة أهل المدينة وأراد أن يسلم من اللحن وقف على }محياي} فيكون غير لاحن عند جميع النحويين. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وعاصم الجحدري }ومحيي} بتشديد الياء الثانية من غير ألف؛ وهي لغة عليا مضر يقولون: قفي وعصي. وأنشد أهل اللغة:
سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم
قال الكيا الطبري: قوله تعالى{قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم} إلى قوله{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} استدل به الشافعي على افتتاح الصلاة بهذا الذكر؛ فإن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل في كتابه، ثم ذكر حديث علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة قال{وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين - إلى قوله - وأنا من المسلمين).
قلت: روي مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك. تباركت وتعاليت. أستغفرك وأتوب إليك. الحديث. وأخرجه الدارقطني وقال في آخره: بلغنا عن النضر بن شميل وكان من العلماء باللغة وغيرها قال: معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (والشر ليس إليك) الشر ليس مما يتقرب به إليك. قال مالك: ليس التوجيه في الصلاة بواجب على الناس، والواجب عليهم التكبير ثم القراءة. قال ابن القاسم: لم ير مالك هذا الذي يقوله الناس قبل القراءة: سبحانك اللهم وبحمدك. وفي مختصر ما ليس في المختصر: أن مالكا كان يقوله في خاصة نفسه؛ لصحة الحديث به، وكان لا يراه للناس مخافة أن يعتقدوا وجوبه. قال أبو الفرج الجوزي: وكنت أصلى وراء شيخنا أبي بكر الدينوري الفقيه في زمان الصبا، فرآني مرة أفعل هذا فقال: يا بني، إن الفقهاء قد اختلفوا في وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام، ولم يختلفوا أن الافتتاح سنه، فاشتغل بالواجب ودع السنن. والحجة لمالك قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي علمه الصلاة: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ) ولم يقل له سبح كما يقول أبو حنيفة، ولا قل وجهت وجهي، كما يقول الشافعي. وقال لأبي: (كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة)؟ قال: قلت الله أكبر، الحمد لله رب العالمين. فلم يذكر توجيها ولا تسبيحا. فإن قيل: فإن عليا قد أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله.
قلنا: يحتمل أن يكون قاله قبل التكبير ثم كبر، وذلك حسن عندنا. فإن قيل: فقد روى النسائي والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم يقول: (إن صلاتي ونسكي) الحديث قلنا: هذا نحمله على النافلة في صلاة الليل؛ كما جاء في كتاب النسائي عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة بالليل قال: (سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك). أو في النافلة مطلقا؛ فإن النافلة أخف من الفرض؛ لأنه يجوز أن يصليها قائما وقاعدا وراكبا، وإلى القبلة وغيرها في السفر، فأمرها أيسر. وقد روى النسائي عن محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي تطوعا قال: (الله أكبر. وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك). ثم يقرأ. وهذا نص في التطوع لا في الواجب. وإن صح أن ذلك كان في الفريضة بعد التكبير، فيحمل على الجواز والاستحباب، وأما المسنون فالقراءة بعد التكبير، والله بحقائق الأمور عليم. ثم إذا قال فلا يقل{وأنا أول المسلمين} إذ ليس أحدهم بأولهم إلا محمدا صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: أو ليس إبراهيم والنبيون قبله؟ قلنا عنه ثلاثة أجوبة: الأول: أنه أول الخلق أجمع معنى؛ كما في حديث أبي هريرة من قوله عليه السلام: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة). وفي حديث حذيفة (نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق). الثاني: أنه أولهم لكونه مقدما في الخلق عليهم؛ قال الله تعالى{وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح}الأحزاب: 7]. قال قتادة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث). فلذلك وقع ذكره هنا مقدما قبل نوح وغيره. الثالث: أول المسلمين من أهل ملته؛ قال ابن العربي، وهو قول قتادة وغيره. واختلفت الروايات في }أول} ففي بعضها ثبوتها وفي بعضها لا، على ما ذكرنا. وروى عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك في أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه ثم قولي: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين). قال عمران: يا رسول الله، هذا لك ولأهل بيتك خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: (بل للمسلمين عامة).
الآية رقم ( 164 )
{قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون}
قوله تعالى{قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء} أي مالكه. روي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع يا محمد إلى ديننا، واعبد آلهتنا، واترك ما أنت عليه، ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك؛ فنزلت الآية. وهي استفهام يقتضي التقرير والتوبيخ. و}غير} نصب بـ }أبغي} و}ربا} تمييز.
قوله تعالى{ولا تكسب كل نفس إلا عليها} أي لا ينفعني في ابتغاء رب غير الله كونكم على ذلك؛ إلا تكسب كل نفس إلا عليها؛ أي لا يؤخذ بما أتت من المعصية، وركبت من الخطيئة سواها.
وقد استدل بعض العلماء من المخالفين بهذه الآية على أن بيع الفضولي لا يصح، وهو قول الشافعي. وقال علماؤنا: المراد من الآية تحمل الثواب والعقاب دون أحكام الدنيا، بدليل قوله تعالى{ولا تزر وازرة وزر أخرى} على ما يأتي. وبيع الفضولي عندنا موقوف على إجازة المالك، فإن أجازه جاز. هذا عروة البارقي قد باع للنبي صلى الله عليه وسلم واشترى وتصرف بغير أمره، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم؛ وبه قال أبو حنيفة. وروى البخاري والدارقطني عن عروة بن أبي الجعد قال: عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب فأعطاني دينارا وقال: (أي عروة ايت الجلب فاشتر لنا شاة بهذا الدينار) فأتيت الجلب فساومت فاشتريت شاتين بدينار، فجئت أسوقهما - أو قال أقودهما - فلقيني رجل في الطريق فساومني فبعته إحدى الشاتين بدينار، وجئت بالشاة الأخرى وبدينار، فقلت: يا رسول الله، هذه الشاة وهذا ديناركم. قال: (كيف صنعت)؟ فحدثته الحديث. قال: (اللهم بارك له في صفقة يمينه). قال: فلقد رأيتني أقف في كناسة الكوفة فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي. لفظ الدارقطني. قال أبو عمر: وهو حديث جيد، وفيه صحة ثبوت النبي صلى الله عليه وسلم للشاتين، ولو لا ذلك ما أخذ منه الدينار ولا أمضى له البيع.
وفيه دليل على جواز الوكالة، ولا خلاف فيها بين العلماء. فإذا قال الموكل لو كيله: اشتر كذا؛ فاشترى زيادة على ما وكل به فهل يلزم ذلك الأمر أم لا؟. كرجل قال لرجل: أشتر بهذا الدرهم رطل لحم، صفته كذا؛ فاشترى له أربعة أرطال من تلك الصفة بذلك الدرهم. فالذي عليه مالك وأصحابه أن الجميع يلزمه إذا وافق الصفة ومن جنسها؛ لأنه محسن. وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة: الزيادة للمشتري. وهذا الحديث حجة عليه.
قوله تعالى{ولا تزر وازرة وزر أخرى} أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى، أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، بل كل نفس مأخوذة بجرمها ومعاقبة بإثمها. وأصل الوزر الثقل؛ ومنه قوله تعالى{ووضعنا عنك وزرك}الشرح: 2]. وهو هنا الذنب؛ كما قال تعالى{وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم}الأنعام: 31]. قال الأخفش: يقال وزر يوزر، ووزر يزر، ووزر يوزر وزرا. ويجوز إزرا، كما يقال: إسادة. والآية نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يقول: اتبعوا سبيلي أحمل أوزاركم؛ ذكره ابن عباس. وقيل: إنها نزلت ردا على العرب في الجاهلية من مؤاخذة الرجل بأبيه وبابنه وبجريرة حليفه.
قلت: ويحتمل أن يكون المراد بهذه الآية في الآخرة، وكذلك التي قبلها؛ فأما التي في الدنيا فقد يؤاخذ فيها بعضهم بجرم بعض، لا سيما إذا لم ينه الطائعون العاصين، كما تقدم في حديث أبي بكر في قوله{عليكم أنفسكم}المائدة: 105]. وقوله تعالى{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}الأنفال: 25]. }إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}الرعد: 11]. وقالت زينب بنت جحش: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث). قال العلماء: معناه أولاد الزنى. والخبث (بفتح الباء) اسم للزنى. فأوجب الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم دية الخطأ على العاقلة حتى لا يطل دم الحر المسلم تعظيما للدماء. وأجمع أهل العلم على ذلك من غير خلاف بينهم في ذلك؛ فدل على ما قلناه. وقد يحتمل أن يكون هذا في الدنيا، في ألا يؤاخذ زيد بفعل عمرو، وأن كل مباشر لجريمة فعليه مغبتها. وروى أبو داود عن أبي رمثة قال؛ انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي: (ابنك هذا)؟ قال: أي ورب الكعبة. قال: (حقا). قال: أشهد به. قال: فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ضاحكا من ثبت شبهي في أبي، ومن حلف أبي علي. ثم قال: (أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه). وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم }ولا تزر وازرة وزر أخرى}. ولا يعارض ما قلناه أولا بقوله{وليحملن أثقالهم} وأثقالا مع أثقالهم}العنكبوت: 13]؛ فإن هذا مبين في الآية الأخرى قوله{ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم}النحل: 25]. فمن كان إماما في الضلالة ودعا إليها واتبع عليها فإنه يحمل وزر من أضله من غير أن ينقص من وزر المضل شيء، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الآية رقم ( 165 )
{وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم}
قوله تعالى{وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} }خلائف} جمع خليفة، ككرائم جمع كريمة. وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة. أي جعلكم خلفا للأمم الماضية والقرون السالفة. قال الشماخ:
تصيبهم وتخطئني المنايا وأخلف في ربوع عن ربوع
{ورفع بعضكم فوق بعض} في الخلق. الرزق والقوة والبسطة والفضل والعلم. }درجات} نصب بإسقاط الخافض، أي إلى درجات. }ليبلوكم} نصب بلام كي. والابتلاء الاختبار؛ أي ليظهر منكم ما يكون غايته التواب والعقاب. ولم يزل بعلمه غنيا؛ فأبتلي الموسر بالغني وطلب منه الشكر، وأبتلي المعسر بالفقر وطلب منه الصبر. ويقال{ليبلوكم} أي بعضكم ببعض. كما قال{وجعلنا بعضكم لبعض فتنة}الفرقان: 20] على ما يأتي بيانه. ثم خوفهم فقال{إن ربك سريع العقاب} لمن عصاه. }وإنه لغفور رحيم} لمن أطاعه. وقال{سريع العقاب} مع وصفه سبحانه بالإمهال، ومع أن عقاب النار في الآخرة؛ لأن كل آت قريب؛ فهو سريع على هذا. كما قال تعالى{وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب}النحل: 77]. وقال }يرونه بعيدا. ونراه قريبا}المعارج: 6،7]. ويكون أيضا سريع العقاب لمن استحقه في دار الدنيا؛ فيكون تحذيرا لمواقع الخطيئة على هذه الجهة. والله أعلم.
سورة الأعراف هي مكية، إلا ثمان آيات، وهي قوله تعالى{واسألهم عن القرية}الأعراف: 163] إلى قوله{وإذ نتقنا الجبل فوقهم}الأعراف: 171]. وروى النسائي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف، فرَّقها في ركعتين. صححه أبو محمد عبدالحق.
الآية رقم ( 1 : 2 )
{المص، كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين}
قوله تعالى }المص} تقدم في أول }البقرة} وموضعه رفع بالابتداء. و}كتاب} خبره. كأنه قال{المص} حروف كتاب أنزل إليك} وقال الكسائي: أي هذا كتاب.
قوله تعالى{حرج} أي ضيق؛ أي لا يضيق صدرك بالإبلاغ؛ لأنه روي عنه عليه السلام أنه قال: (إني أخاف أن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة) الحديث. خرجه مسلم. قال الكيا: فظاهره النهي، ومعناه نفي الحرج عنه؛ أي لا يضيق صدرك ألا يؤمنوا به، فإنما عليك البلاغ، وليس عليك سوى الإنذار به من شيء من إيمانهم أو كفرهم، ومثله قوله تعالى{فلعلك باخع نفسك}الكهف: 6] الآية. وقال{لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين}الشعراء: 3]. ومذهب مجاهد وقتادة أن الحرج هنا الشك، وليس هذا شك الكفر إنما هو شك الضيق. وكذلك قوله تعالى{ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون}الحجر: 97]. وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. وفيه بعد. والهاء في }منه} للقرآن. وقيل: للإنذار؛ أي أنزل إليك الكتاب لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج منه. فالكلام فيه تقديم وتأخير. وقيل للتكذيب الذي يعطيه قوة الكلام. أي فلا يكن في صدرك ضيق من تكذيب المكذبين له.
قوله تعالى{وذكرى} يجوز أن يكون في موضع رفع ونصب وخفض. فالرفع من وجهين؛ قال البصريون: هي رفع على إضمار مبتدأ. وقال الكسائي: عطف على }كتاب} والنصب من وجهين؛ على المصدر؛ أي وذكر به ذكرى؛ قال البصريون. وقال الكسائي: عطف على الهاء في }أنزلناه}. والخفض حملا على موضع }لتنذر به} والإنذار للكافرين، والذكرى للمؤمنين؛ لأنهم المنتفعون به.
الآية رقم ( 3 )
{اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون}
قوله تعالى{اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} يعني الكتاب والسنة. قال الله تعالى{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}الحشر: 7]. وقالت فرقة: هذا أمر يعم النبي صلى الله عليه وسلم وأمته. والظاهر أنه أمر لجميع الناس دونه. أي اتبعوا ملة الإسلام والقرآن، وأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه. ودلت الآية على ترك اتباع الآراء مع وجود النص.
قوله تعالى{ولا تتبعوا من دونه أولياء} }من دونه} من غيره. والهاء تعود على الرب سبحانه، والمعنى: لا تعبدوا معه غيره، ولا تتخذوا من عدل عن دين الله وليا. وكل من رضي مذهبا فأهل ذلك المذهب أولياؤه. وروي عن مالك بن دينار أنه قرأ }ولا تبتغوا من دونه أولياء} أي ولا تطلبوا. ولم ينصرف }أولياء} لأن فيه ألف التأنيث. وقيل: تعود على }ما} من قوله{اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم}. }قليلا ما تتذكرون} }ما} زائدة. وقيل: تكون مع الفعل مصدرا.
الآية رقم ( 4 : 5 )
{وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون، فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين}
قوله تعالى{وكم من قرية أهلكناها} }كم} للتكثير؛ كما أن }رب} للتقليل. وهي في موضع رفع بالابتداء، و}أهلكنا} الخبر. أي وكثير من القرى - وهي مواضع اجتماع الناس - أهلكناها. ويجوز النصب بإضمار فعل بعدها، ولا يقدر قبلها؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. ويقوي الأول قوله{وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} ولو لا اشتغال }أهلكنا} بالضمير لانتصب به موضع }كم}. ويجوز أن يكون }أهلكنا} صفة للقرية، و}كم} في المعنى هي القرية؛ فإذا وصفت القرية فكأنك قد وصفت كم. يدل على ذلك قوله تعالى{وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا}النجم: 26] فعاد الضمير على }كم}. على المعنى؛ إذ كانت الملائكة في المعنى. فلا يصح على هذا التقدير أن يكون }كم} في موضع نصب بإضمار فعل بعدها. }فجاءها بأسنا} فيه إشكال للعطف بالفاء. فقال الفراء: الفاء بمعنى الواو، فلا يلزم الترتيب. وقيل: أي وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا؛ كقوله{فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}النحل: 98]. وقيل: إن الهلاك. واقع ببعض القوم؛ فيكون التقدير: وكم من قرية أهلكنا بعضها فجاءها بأسنا فأهلكنا الجميع. وقيل: المعنى وكم من قرية أهلكناها في حكمنا فجاءها بأسنا. وقيل: أهلكناها بإرسالنا ملائكة العذاب إليها، فجاءها بأسنا وهو الاستئصال. والبأس، العذاب الآتي على النفس. وقيل: المعنى أهلكناها فكان إهلاكنا إياهم في وقت كذا؛ فمجيء البأس على هذا هو الإهلاك. وقيل: البأس غير الإهلاك؛ كما ذكرنا. وحكى الفراء أيضا أنه إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت؛ فيكون المعنى وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها؛ مثل دنا فقرب، وقرب فدنا، وشتمني فأساء، وأساء فشتمني؛ لأن الإساءة والشتم شيء واحد. وكذلك قوله{اقتربت الساعة وانشق القمر}القمر: 1]. المعنى - والله أعلم - انشق القمر فاقتربت الساعة. والمعنى واحد. }بياتا} أي ليلا؛ ومنه البيت، لأنه يبات فيه. يقال: بات يبيت بيتا وبياتا. }أو هم قائلون} أي أو وهم قائلون، فاستثقلوا فحذفوا الواو؛ قاله الفراء. وقال الزجاج: هذا خطأ، إذا عاد الذكر استغني عن الواو، تقول: جاءني زيد راكبا أو هو ماش، ولا يحتاج إلى الواو. قال المهدوي: ولم يقل بياتا أو وهم قائلون لأن في الجملة ضميرا يرجع إلى الأول فاستغني عن الواو. وهو معنى قول الزجاج سواء، وليس أو للشك بل للتفصيل؛ كقولك: لأكرمنك منصفا لي أو ظالما. وهذه الواو تسمى عند النحويين واو الوقت. و}قائلون} من القائلة وهي القيلولة؛ وهي نوم نصف النهار. وقيل: الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن معها نوم. والمعنى جاءهم عذابنا وهم غافلون إما ليلا وإما نهارا. والدعوى الدعاء؛ ومنه قوله{وآخر دعواهم}يونس: 10]. وحكى النحويون: اللهم أشركنا في صالح دعوى من دعاك. وقد تكون الدعوى بمعنى الادعاء. والمعنى: أنهم لم يخلصوا عند الإهلاك إلا على الإقرار بأنهم كانوا ظالمين. و}دعواهم} في موضع نصب خبر كان، واسمها }إلا أن قالوا}. نظيره }فما كان جواب قومه إلا أن قالوا}النمل: 56] ويجوز أن تكون الدعوى رفعا، و}أن قالوا} نصبا؛ كقوله تعالى{ليس البر أن تولوا}البقرة: 177] برفع }البر} وقوله{ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوءى أن كذبوا}الروم: 10] برفع }عاقبة}.
الآية رقم ( 6 : 7 )
{فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين، فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين}
قوله تعالى{فلنسألن الذين أرسل إليهم} دليل على أن الكفار يحاسبون. وفي التنزيل }ثم إن علينا حسابهم}الغاشية: 26]. وفي سورة القصص }ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون}القصص: 78] يعني إذا استقروا في العذاب. والآخرة مواطن: موطن يسألون فيه للحساب. وموطن لا يسألون فيه. وسؤالهم تقرير وتوبيخ وإفضاح. وسؤال الرسل سؤال استشهاد بهم وإفصاح؛ أي عن جواب القوم لهم. وهو معنى قوله{ليسأل الصادقين عن صدقهم}الأحزاب: 8] على ما يأتي. وقيل: المعنى }فلنسألن الذين أرسل إليهم} أي الأنبياء }ولنسألن المرسلين} أي الملائكة الذين أرسلوا إليهم. واللام في }فلنسألن} لام القسم وحقيقتها التوكيد. وكذا }فلنقصن عليهم بعلم}. قال ابن عباس: ينطق عليهم. }وما كنا غائبين} أي كنا شاهدين لأعمالهم. ودلت الآية على أن الله تعالى عالم بعلم.
الآية رقم ( 8 : 9 )
{والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}
قوله تعالى{والوزن يومئذ الحق} ابتداء وخبر. ويجوز أن يكون }الحق} نعته، والخبر }يومئذ}. ويجوز نصب }الحق} على المصدر. والمراد بالوزن وزن أعمال العباد بالميزان. قال ابن عمر: توزن صحائف أعمال العباد. وهذا هو الصحيح، وهو الذي ورد به الخبر على ما يأتي. وقيل: الميزان الكتاب الذي فيه أعمال الخلق. وقال مجاهد: الميزان الحسنات والسيئات بأعيانها. وعنه أيضا والضحاك والأعمش: الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء، وذكر الوزن ضرب مثل؛ كما تقول: هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه، أي يعادله ويساويه وإن لم يكن هناك وزن. قال الزجاج: هذا سائغ من جهة اللسان، والأولى أن يتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان. قال القشيري: وقد أحسن فيما قال، إذ لو حمل الميزان على هذا فليحمل الصراط على الذين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة. وقد أجمعت الأمة في الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل. وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر، وصارت هذه الظواهر نصوصا. قال ابن فورك: وقد أنكرت المعتزلة الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها، إذ لا تقوم بأنفسها. ومن المتكلمين من يقول: إن الله تعالى يقلب الأعراض أجساما فيزنها يوم القيامة. وهذا ليس بصحيح عندنا، والصحيح أن الموازين تثقل بالكتب التي فيها الأعمال مكتوبة، وبها تخف. وقد روي في الخبر ما يحقق ذلك، وهو أنه روي (أن ميزان بعض بني آدم كاد يخف بالحسنات فيوضع فيه رق مكتوب فيه }لا إله إلا الله} فيثقل). فقد علم أن لك يرجع إلى وزن ما كتب فيه الأعمال لا نفس الأعمال، وأن الله سبحانه يخفف الميزان إذا أراد، ويثقله إذا أراد بما يوضع في كفتيه من الصحف التي فيها الأعمال. وفي صحيح مسلم عن صفوان بن محرز قال قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى؟ قال سمعته يقول: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول أي رب أعرف قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيعطي صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله). فقوله: (فيعطى صحيفة حسناته) دليل على أن الأعمال تكتب في الصحف وتوزن.
وروى ابن ماجة من حديث عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر ثم يقول الله تبارك وتعالى هل تنكر من هذا شيئا فيقول لا يا رب فيقول أظلمتك كتبتي الحافظون فيقول لا ثم يقول ألك عذر ألك حسنة فيهاب الرجل فيقول لا فيقول بلى إن لك عندنا حسنات وإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة). زاد الترمذي (فلا يثقل مع اسم الله شيء) وقال: حديث حسن غريب. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في }الكهف والأنبياء} إن شاء الله تعالى. قوله تعالى{فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون} جمع ميزان، وأصله موزان، قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. وقيل: يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله. ويمكن أن يكون ذلك ميزانا واحدا عبر عنه بلفظ الجمع؛ كما تقول: خرج فلان إلى مكة على البغال، وخرج إلى البصرة في السفن. وفي التنزيل{كذبت قوم نوح المرسلين}الشعراء: 105]. }كذبت عاد المرسلين}الشعراء: 123]. وإنما هو رسول واحد في أحد التأويلين. وقيل: الموازين جمع موزون، لا جمع ميزان. أراد بالموازين الأعمال الموزونة. }ومن خفت موازينه} مثله. وقال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان كفتان؛ فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فيوضع في كفة الميزان فتثقل حسناته على سيئاته؛ فذلك قوله{فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون} ويؤتى بعمل الكافر في أقبح صورة فيوضع في كفة الميزان فيخف وزنه حتى يقع في النار. وما أشار إليه ابن عباس قريب مما قيل: يخلق الله تعالى كل جزء من أعمال العباد جوهرا فيقع الوزن على تلك الجواهر. ورده ابن فورك وغيره. وفي الخبر (إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله صل الله عليه وسلم بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وأمي! ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت؟ فيقول أنا محمد نبيك وهذه صلواتك التي كنت تصلي على قد وفيتك أحوج ما تكون إليها). ذكره القشيري في تفسيره. وذكر أن البطاقة (بكسر الباء) رقعة فيها رقم المتاع بلغة. أهل مصر. وقال ابن ماجة: قال محمد بن يحيى: البطاقة الرقعة، وأهل مصر يقولون للرقعة بطاقة. وقال حذيفة: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام، يقول الله تعالى: (يا جبريل زن بينهم فرد من بعض على بعض). قال: وليس ثم ذهب ولا فضة؛ فإن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته فرد على المظلوم، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتحمل على الظالم؛ فيرجع الرجل وعليه مثل الجبال. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله تعالى يقول يوم القيامة يا آدم ابرز إلى جانب الكرسي عند الميزان وأنظر ما يرفع إليك من أعمال بنيك فمن رجح خيره على شره مثقال حبة فله الجنة ومن رجح شره على خيره مثقال حبة فله النار حتى تعلم أني لا أعذب إلا ظالما).
الآية رقم ( 10 )
{ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون}
أي جعلناها لكم قرارا ومهادا، وهيأنا لكم فيها أسباب المعيشة. والمعايش مع معيشة، أي ما يتعيش به من المطعم والمشرب وما تكون به الحياة. يقال: عاش يعيش عيشا ومعاشا ومعيشا ومعيشة وعيشة. وقال الزجاج: المعيشة ما يتوصل به إلى العيش. ومعيشة في قول الأخفش وكثير من النحويين مفعلة. وقرأ الأعرج{معائش} بالهمز. وكذا روى خارجة بن مصعب عن نافع. قال النحاس: والهمز لحن لا يجوز؛ لأن الواحدة معيشة، أصلها معيشة، فزيدت ألف الوصل وهي ساكنة والياء ساكنة، فلا بد من تحريك إذ لا سبيل إلى الحذف، والألف لا تحرك فحركت الياء بما كان يجب لها في الواحد. ونظيره من الواو مناور ومناور، ومقام ومقاوم؛ كما قال الشاعر:
وإني لقوام مقاوم لم يكن جرير ولا مولى جرير يقومها
وكذا مصيبة ومصاوب. هذا الجيد، ولغة شاذة مصائب. قال الأخفش: إنما جاز مصائب لأن الواحدة معتلة. قال الزجاج: هذا خطأ يلزمه عليه أن يقول مقائم. ولكن القول أنه مثل وسادة وإسادة. وقيل: لم يجز الهمز في معايش لأن المعيشة مفعلة؛ فالياء أصلية، وإنما يهمز إذا كانت الياء زائدة مثل مدينة ومدائن، وصحيفة وصحائف، وكريمة وكرائم، ووظيفة ووظائف، وشبهه.
الآية رقم ( 11 )
{ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين}
قوله تعالى{ولقد خلقناكم ثم صورناكم} لما ذكر نعمه ذكر ابتداء خلقه. وقد تقدم معنى الخلق في غير موضع. }ثم صورناكم} أي خلقناكم نطفا ثم صورناكم، ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم. وعن ابن عباس والضحاك وغيرهما: المعنى خلقنا آدم ثم صورناكم في ظهره. وقال الأخفش{ثم} بمعنى الواو. وقيل: المعنى }ولقد خلقناكم} يعني آدم عليه السلام، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، ثم صورناكم؛ على التقديم والتأخير. وقيل{ولقد خلقناكم} يعني آدم؛ ذكر بلفظ الجمع لأنه أبو البشر. }ثم صورناكم} راجع إليه أيضا. كما يقال: نحن قتلناكم؛ أي قتلنا سيدكم. }ثم قلنا لملائكة اسجدوا لآدم} وعلى هذا لا تقديم ولا تأخير؛ عن ابن عباس أيضا. وقيل: المعنى ولقد خلقناكم، يريد آدم وحواء؛ فآدم من التراب وحواء من ضلع من أضلاعه، ثم وقع التصوير بعد ذلك. فالمعنى: ولقد خلقنا أبويكم ثم صورناهما؛ قاله الحسن. وقيل: المعنى خلقناكم في ظهر آدم ثم صورناكم حين أخذنا عليكم الميثاق. هذا قول مجاهد، رواه عنه ابن جريج وابن أبي نجيح. قال النحاس: وهذا أحسن الأقوال. يذهب مجاهد إلى أنه خلقهم في ظهر آدم، ثم صورهم حين أخذ عليهم الميثاق، ثم كان السجود بعد. ويقوي هذا }وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم}الأعراف: 172]. والحديث (أنه أخرجهم أمثال الذر فأخذ عليهم الميثاق). وقيل{ثم} للإخبار، أي ولقد خلقناكم يعني في ظهر آدم صلى الله عليه وسلم، ثم صورناكم أي في الأرحام. قال النحاس: هذا صحيح عن ابن عباس.
قلت: كل هذه الأقوال محتمل، والصحيح منها ما يعضده التنزيل؛ قال الله تعالى{ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين}المؤمنون: 12] يعني آدم. وقال{وخلق منها زوجها}النساء: 1]. ثم قال{جعلناه} أي جعلنا نسله وذريته }نطفة في قرار مكين}المؤمنون: 13] الآية. فآدم خلق من طين ثم صور وأكرم بالسجود، وذريته صوروا في أرحام الأمهات بعد أن خلقوا فيها وفي أصلاب الآباء. وقد تقدم في أول سورة }الأنعام} أن كل إنسان مخلوق من نطفة وتربة؛ فتأمله. وقال هنا{خلقناكم ثم صورناكم} وقال في آخر الحشر{هو الله الخالق البارئ المصور}الحشر: 24]. فذكر التصوير بعد البرء. وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وقيل: معنى }ولقد خلقناكم} أي خلقنا الأرواح أولا ثم صورنا الأشباح آخرا.
قوله تعالى{إلا إبليس لم يكن من الساجدين} استثناء من غير الجنس. وقيل: من الجنس. وقد اختلف العلماء: هل كان من الملائكة أم لا؛ كما سبق بيانه في }البقرة}.
الآية رقم ( 12 )
{قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}
قوله تعالى{قال ما منعك} }ما} في موضع رفع بالابتداء؛ أي أي شيء منعك. وهذا سؤال توبيخ. }ألا تسجد} في موضع نصب، أي من أن تسجد. و}لا} زائدة. وفي ص }ما منعك أن تسجد}ص: 75] وقال الشاعر:
أبى جوده لا البخل فاستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجود نائله
أراد أبى جوده البخل، فزاد }لا}. وقيل: ليست بزائدة؛ فان المنع فيه طرف من القول والدعاء، فكأنه قال: من قال لك ألا تسجد؟ أو من دعاك إلى ألا تسجد؟ كما تقول: قد قلت لك ألا تفعل كذا. وقيل: في الكلام حذف، والتقدير: ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى ألا تسجد. قال العلماء: الذي أحوجه إلى ترك السجود هو الكبر والحسد؛ وكان أضمر ذلك في نفسه إذا أمر بذلك. وكان أمره من قبل خلق آدم؛ يقول الله تعالى{إني خالق بشرا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}ص: 71، 72]. فكأنه دخله أمر عظيم من قوله }فقعوا له ساجدين}. فإن في الوقوع توضيع الواقع وتشريفا لمن وقع له؛ فأضمر في نفسه ألا يسجد إذا أمره في ذلك الوقت. فلما نفخ فيه الروح وقعت الملائكة سجدا، وبقي هو قائما بين أظهرهم؛ فأظهر بقيامه وترك السجود ما في ضميره. فقال الله تعالى{ما منعك ألا تسجد} أي ما منعك من الانقياد لأمري؛ فأخرج سر ضميره فقال{أنا خير منه}.
قوله تعالى{إذ أمرتك} يدل على ما يقوله الفقهاء من أن الأمر يقتضي الوجوب بمطلقه من غير قرينة؛ لأن الذم علق على ترك الأمر المطلق الذي هو قوله عز وجل للملائكة{اسجدوا لآدم} وهذا بين.
قوله تعالى{قال أنا خير منه} أي منعني من السجود فضلي عليه؛ فهذا من إبليس جواب على المعنى. كما تقول: لمن هذه الدار؟ فيقول المخاطب: مالكها زيد. فليس هذا عين الجواب، بل هو كلام يرجع إلى معنى الجواب. }خلقتني من نار وخلقته من طين} فرأى أن النار أشرف من الطين؛ لعلوها وصعودها وخفتها، ولأنها جوهر مضيء. قال ابن عباس والحسن وابن سيرين: أول من قاس إبليس فأخطأ القياس. فمن قاس الدين برأيه قرنه مع إبليس. قال ابن سيرين: وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. وقالت الحكماء: أخطأ عدو الله من حيث فضل النار على الطين، وإن كانا في درجة واحدة من حيث هي جماد مخلوق. فإن الطين أفضل من النار من وجوه أربعة: أحدها: أن من جوهر الطين الرزانة والسكون، والوقار والأناة، والحلم، والحياء، والصبر. وذلك هو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع، فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية. ومن جوهر النار الخفة، والطيش، والحدة، والارتفاع، والاضطراب. وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار؛ فأورثه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاء؛ قال القفال. الثاني: إن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر، ولم ينطق الخبر بأن في الجنة نارا وأن في النار ترابا. الثالث: أن النار سبب العذاب، وهي عذاب الله لأعدائه؛ وليس التراب سببا للعذاب. الرابع: أن الطين مستغن عن النار، والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب.
قلت: ومحتمل قولا خامسا وهو أن التراب مسجد وطهور؛ كما جاء في صحيح الحديث. والنار تخويف وعذاب؛ كما قال تعالى{ذلك يخوف الله به عباده}الزمر: 16]. وقال ابن عباس: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه، وهو أول من قاس برأيه. والقياس في مخالفة النص مردود.
واختلف الناس في القياس إلى قائل به، وراد له؛ فأما القائلون به فهم الصحابة والتابعون، وجمهور من بعدهم، وأن التعبد به جائز عقلا واقع شرعا، وهو الصحيح. وذهب القفال من الشافعية وأبو الحسين البصري إلى وجوب التعبد به عقلا. وذهب النظام إلى أنه يستحيل التعبد به عقلا وشرعا؛ ورده بعض أهل الظاهر. والأول الصحيح. قال البخاري في (1): المعنى لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو سنة نبيه أو في إجماع العلماء إذا وجد فيها الحكم فإن لم يوجد فالقياس. وقد ترجم على هذا (2). وترجم بعد هذا (3). وقال الطبري: الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة هو الحق الواجب، والفرض اللازم لأهل العلم. وبذلك جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة الصحابة والتابعين. وقال أبو تمام المالكي: أجمعت الأمة على القياس؛ فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب والورق في الزكاة. وقال أبو بكر: أقيلوني بيعتي. فقال علي: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟ فقاس الإمامة على الصلاة. وقاس الصديق الزكاة على الصلاة وقال: والله لا أفرق بين ما جمع الله. وصرح علي بالقياس في شارب الخمر بمحضر من الصحابة وقال: إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى؛ فحده حد القاذف. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري كتابا فيه: الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة، أعرف الأمثال والأشباه، ثم قس الأمور عند ذلك، فاعمد إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق فيما ترى. الحديث بطوله ذكره الدارقطني. وقد قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنهما في حديث الوباء، حين رجع عمر من سرغ: نفر من قدر الله؟ فقال عمر: نعم! نفر من قدر الله إلى قدر الله. ثم قال له عمر: أرأيت... فقايسه وناظره بما يشبه من مسألته بمحضر المهاجرين والأنصار، وحسبك. وأما الآثار وأي القرآن في هذا المعنى فكثير. وهو يدل على أن القياس أصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين، يرجع إليه المجتهدون، ويفزع إليه العلماء العاملون، فيستنبطون به الأحكام. وهذا قول الجماعة الذين هم الحجة، ولا يلتفت إلى من شذ عنها. وأما الرأي المذموم والقياس المتكلف المنهي عنه فهو ما لم يكن على هذه الأصول المذكورة؛ لأن ذلك ظن ونزغ من الشيطان؛ قال الله تعالى{ولا تقف ما ليس لك به علم}الإسراء: 36]. وكل ما يورده المخالف من الأحاديث الضعيفة والأخبار الواهية في ذم القياس فهي محمولة على هذا النوع من القياس المذموم، الذي ليس له في الشرع أصل معلوم. وتتميم هذا الباب في كتب الأصول.
الآية رقم ( 13 )
{قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين}
قوله تعالى{قال فاهبط منها} أي من السماء. }فما يكون لك أن تتكبر فيها} لأن أهلها الملائكة المتواضعون. }فاخرج إنك من الصاغرين} أي من الأذلين. ودل هذا أن من عصى مولاه فهو ذليل. وقال أبو روق والبجلي{فاهبط منها} أي من صورتك التي أنت فيها؛ لأنه افتخر بأنه من النار فشوهت صورته بالإظلام وزوال إشراقه. وقيل{فاهبط منها} أي انتقل من الأرض إلى جزائر البحار؛ كما يقال: هبطنا أرض كذا أي انتقلنا إليها من مكان آخر، فكأنه أخرج من الأرض إلى جزائر البحار فسلطانه فيها، فلا يدخل الأرض إلا كهيئة السارق يخاف فيها حتى يخرج منها. والقول الأول أظهر. وقد تقدم في }البقرة}.
الآية رقم ( 14 : 15 )
{قال أنظرني إلى يوم يبعثون، قال إنك من المنظرين}
سأل النظرة والإمهال إلى يوم البعث والحساب. طلب ألا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده؛ فقال الله تعالى{إنك من المنظرين}. قال ابن عباس والسدي وغيرها: أنظره إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم. وكان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين؛ فأبى الله ذلك عليه. وقال{إلى يوم يبعثون} ولم يتقدم من يبعث؛ لأن القصة في آدم وذريته، فدلت القرينة على أنهم هم المبعوثون.
الآية رقم ( 16 : 17 )
{قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين}
قوله تعالى{قال فبما أغويتني} الإغواء إيقاع الغي في القلب؛ أي فبما أوقعت في قلبي من الغي والعناد والاستكبار. وهذا لأن كفر إبليس ليس كفر جهل؛ بل هو كفر عناد واستكبار. قيل: معنى الكلام القسم، أي فبإغوائك إياي لأقعدن لهم على صراطك، أو في صراطك؛ فحذف. دليل على هذا القول قوله في (ص){فبعزتك لأغوينهم أجمعين}ص: 82] فكأن إبليس أعظم قدر إغواء الله إياه لما فيه من التسليط على العباد، فأقسم به إعظاما لقدره عنده. وقيل: الباء بمعنى اللام، كأنه قال: فلإغوائك إياي. وقيل: هي بمعنى مع، والمعنى فمع إغوائك إياي. وقيل: هو استفهام، كأنه سأل بأي شيء أغواه؟. وكان ينبغي على هذا أن يكون: فبم أغويتني؟. وقيل: المعنى فبما أهلكتني بلعنك إياي. والإغواء الإهلاك، قال الله تعالى{فسوف يلقون غيا}مريم: 59] أي هلاكا. وقيل: فبما أضللتني. والإغواء: الإضلال والإبعاد؛ قال ابن عباس. وقيل: خيبتني من رحمتك؛ ومنه قول الشاعر:
ومن يغو لا يعدم عل الغي لائما
أي من يخب. وقال ابن الأعرابي: يقال غوى الرجل يغوي غيا إذا فسد عليه أمره، أو فسد هو في نفسه. وهو أحد معاني قوله تعالى{وعصى آدم ربه فغوى}طه: 121] أي فسد عيشه في الجنة. ويقال: غوي الفصيل إذا لم يدر لبن أمه.
مذهب أهل السنة أي أن الله تعالى أضله وخلق فيه الكفر؛ ولذلك نسب الإغواء في هذا إلى الله تعالى. وهو الحقيقة، فلا شيء في الوجود إلا وهو مخلوق له، صادر عن إرادته تعالى. وخالف الإمامية والقدرية وغيرهما شيخهم إبليس الذي طاوعوه في كل ما زينه لهم، ولم يطاوعوه في هذه المسألة ويقولون: أخطأ إبليس، وهو أهل للخطأ حيث نسب الغواية إلى ربه، تعالى الله عن ذلك. فيقال لهم: وإبليس وإن كان أهلا للخطأ فما تصنعون في نبي مكرم معصوم، وهو ونوح عليه السلام حيث قال لقومه{ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون}هود: 34] وقد روي أن طاوسا جاءه رجل في المسجد الحرام، وكان متهما بالقدر، وكان من الفقهاء الكبار؛ فجلس إليه فقال له طاوس: تقوم أو تقام؟ فقيل لطاوس: تقول هذا لرجل فقيه! فقال: إبليس أفقه منه، يقول إبليس: رب بما أغويتني. ويقول هذا: أنا أغوي نفسي.
قوله تعالى{لأقعدن لهم صراطك المستقيم} أي بالصد عنه، وتزيين الباطل حتى يهلكوا كما هلك، أو يضلوا كما ضل، أو يخيبوا كما خيب؛ حسب ما تقدم من المعاني الثلاثة في }أغويتني}. والصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الجنة. و}صراطك} منصوب على حذف }على} أو }في} من قوله{صراطك المستقيم}؛ كما حكى سيبويه }ضرب زيد الظهر والبطن}. وأنشد:
لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب
ومن أحسن ما قيل في تأويل }ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} أي لأصدنهم عن الحق، وأرغبنهم في الدنيا، وأشككهم في الآخرة. وهذا غاية في الضلالة. كما قال{ولأضلنهم}النساء: 119] حسب ما تقدم. وروى سفيان عن منصور عن الحكم بن عتيبة{من بين أيديهم} من دنياهم. }ومن خلفهم} من آخرتهم. }وعن أيمانهم} يعني حسناتهم. }وعن شمائلهم} يعني سيئاتهم. قال النحاس: وهذا قول حسن وشرحه: أن معنى }ثم لآتينهم من بين أيديهم} من دنياهم، حتى يكذبوا بما فيها من الآيات وأخبار الأمم السالفة }ومن خلفهم} من آخرتهم حتى يكذبوا بها. }وعن أيمانهم} من حسناتهم وأمور دينهم. ويدل على هذا قوله{إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين}الصافات: 28] }وعن شمائلهم} يعني سيئاتهم، أي يتبعون الشهوات؛ لأنه يزينها لهم. }ولا تجد أكثرهم شاكرين} أي موحدين طائعين مظهرين الشكر.
الآية رقم ( 18 )
{قال اخرج منها مذؤوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين}
قوله تعالى{قال اخرج منها} أي من الجنة. }مذؤوما مدحورا}. }مذؤوما} أي مذموما. والذأم: العيب، بتخفيف الميم. قال ابن زيد: مذؤوما ومذموما سواء؛ يقال: ذأمته وذممته وذمته بمعنى واحد. وقرأ الأعمش }مذوما}. والمعنى واحد؛ إلا أنه خفف الهمزة. وقال مجاهد: المذؤوم المنفي. والمعنيان متقاربان. والمدحور: المبعد المطرود؛ عن مجاهد وغيره. وأصله الدفع. }لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين} اللام لام القسم، والجواب }لأملأن جهنم}. وقيل{لمن تبعك} لام توكيد. }لأملأن} لام قسم. والدليل على هذا أنه يجوز في غير القراءة حذف اللام الأولى، ولا يجوز حذف الثانية. وفي الكلام معنى الشرط والمجازاة؛ أي من تبعك عذبته. ولو قلت: من تبعك أعذبه لم يجز؛ إلا أن تريد لأعذبه. وقرأ عاصم من رواية أبي بكر بن عياش }لمن تبعك منهم} بكسر اللام. وأنكره بعض النحويين. قال النحاس: وتقديره - والله أعلم - من أجل من تبعك. كما يقال: أكرمت فلانا لك. وقد يكون المعنى: الدحر لمن تبعك. ومعنى }منكم أجمعين} أي منكم ومن بني آدم؛ لأن ذكرهم قد جرى إذ قال{ولقد خلقناكم}الأعراف: 11]. خاطب ولد آدم.
الآية رقم ( 19 )
{ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}
قال لآدم بعد إخراج إبليس من موضعه من السماء: اسكن أنت وحواء الجنة. وقد تقدم في البقرة معنى الإسكان، فأغنى عن إعادته. وقد تقدم معنى }ولا تقربا هذه الشجرة}البقرة: 35] هناك. والحمد لله.
الآية رقم ( 20 )
{فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}
قوله تعالى{فوسوس لهما الشيطان} أي إليهما. قيل: داخل الجنة بإدخال الحية إياه وقيل: من خارج، بالسلطنة التي جعلت له. والوسوسة: الصوت الخفي. والوسوسة: حديث النفس؛ يقال: وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواسا (بكسر الواو). والوسواس (بالفتح): اسم، مثل الزلزال. ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلى: وسواس. قال الأعشى:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل
والوسواس: اسم الشيطان؛ قال الله تعالى{من شر الوسواس الخناس}الناس: 4]. }ليبدي لهما} أي ليظهر لهما. واللام لام العاقبة؛ كما قال{ليكون لهم عدوا وحزنا}القصص: 8]. وقيل: لام كي. }ما ووري عنهما} أي ستر وغطي عنهما. ويجوز في غير القرآن أوري، مثل أقتت و}من سوآتهما} من عوراتهما وسمي الفرج عورة لأن إظهاره يسوء صاحبه. ودل هذا على قبح كشفها فقيل: إنما بدت سوآتهما لهما لا لغيرهما؛ كان عليهما نور لا ترى عوراتهما فزال النور. وقيل: ثوب؛ فتهافت، والله أعلم. }إلا أن تكونا ملكين} }أن} في موضع نصب، بمعنى إلا، كراهية أن؛ فحذف المضاف. هذا قول البصريين. والكوفيون يقولون: لئلا تكونا. وقيل: أي إلا ألا تكونا ملكين تعلمان الخير والشر. وقيل: طمع آدم في الخلود؛ لأنه علم أن الملائكة لا يموتون إلى يوم القيامة. قال النحاس: وبين الله عز وجل فضل الملائكة على جميع الخلق في غير موضع من القرآن؛ فمنها هذا، وهو }إلا أن تكونا ملكين}. ومنه }ولا أقول إني ملك}هود: 31]. ومنه }ولا الملائكة المقربون}النساء: 172]. وقال الحسن: فضل الله الملائكة بالصور. والأجنحة والكرامة. وقال غيره: فضلهم جل وعز بالطاعة وترك المعصية؛ فلهذا يقع التفضيل في كل شيء. وقال ابن فورك. لا حجة في هذه الآية؛ لأنه يحتمل أن يريد ملكين في ألا يكون لهما شهوة في طعام. واختيار ابن عباس والزجاج وكثير من العلماء تفضيل المؤمنين على الملائكة؛ وقال الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم، غير طائفة من الملائكة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت؛ لأنهم من جملة رسل الله. وتمسك كل فريق بظواهر من الشريعة، والفضل بيد الله. وقرأ ابن عباس }ملكين} بكسر اللام، وهي قراءة يحيى بن أبي كثير والضحاك. وأنكر أبو عمرو بن العلاء كسر اللام وقال: لم يكن قبل آدم صلى الله عليه وسلم ملك فيصيرا ملكين. قال النحاس: ويجوز على هذه القراءة إسكان اللام، ولا يجوز على القراءة الأولى لخفة الفتحة. قال ابن عباس: أتاهما الملعون من جهة الملك؛ ولهذا قال{هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى}طه: 120]. وزعم أبو عبيد أن احتجاج يحيى بن أبي كثير بقوله{وملك لا يبلى} حجة بينة، ولكن الناس على تركها فلهذا تركناها. قال النحاس{إلا أن تكون مَلِكين} قراءة شاذة. وقد أنكر على أبي عبيد هذا الكلام، وجعل من الخطأ الفاحش. وهل يجوز أن يتوهم آدم عليه السلام أنه يصل إلى أكثر من ملك الجنة؛ وهو غاية الطالبين. وإنما معنى }وملك لا يبلى} المقام في ملك الجنة، والخلود فيه.
الآية رقم ( 21 )
{وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين}
قوله تعالى{وقاسمهما} أي حلف لهما. يقال: أقسم إقساما؛ أي حلف. قال الشاعر:
وقاسمها بالله جهدا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها
وجاء }فاعلت} من واحد. وهو يرد على من قال: إن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين. وقد تقدم في }المائدة}. }إني لكما لمن الناصحين} ليس }لكما} داخلا في الصلة. والتقدير: إني ناصح لكما لمن الناصحين؛ قاله هشام النحوي. وقد تقدم مثله في }البقرة}. ومعنى الكلام: اتبعاني أرشدكما؛ ذكره قتادة.
الآية رقم ( 22 : 24 )
{فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين، قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين}
قوله تعالى{فدلاهما بغرور} أوقعهما في الهلاك. قال ابن عباس: غرهما باليمين. وكان يظن آدم أنه لا يحلف أحد بالله كاذبا، فغررهما بوسوسته وقسمه لهما. وقال قتادة: حلف بالله لهما حتى خدعهما. وقد يخدع المؤمن بالله. كان بعض العلماء يقول: من خادعنا بالله خدعنا. وفي الحديث عنه صلى: (المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم). وأنشد نفطويه:
إن الكريم إذا تشاء خدعته وترى اللئيم مجربا لا يخدع
}فدلاهما} يقال: أدلى دلوه: أرسلها. ودلاها: أخرجها. وقيل{دلاهما} أي دللهما؛ من الدالة وهي الجرأة. أي جرأهما على المعصية فخرجا من الجنة.
قوله تعالى{فلما ذاقا الشجرة} أي أكلا منها. }بدت لهما سوآتهما} أكلت حواء أولا فلم يصبها شيء؛ فلما أكل آدم حلت العقوبة؛ لأن النهي ورد عليهما كما تقدم في }البقرة}. قال ابن عباس: تقلص النور الذي كان لباسهما فصار أظفارا في الأيدي والأرجل.
قوله تعالى{وطفقا} ويجوز إسكان الفاء. وحكى الأخفش طفق يطفق؛ مثل ضرب يضرب. يقال: طفق، أي أخذ في الفعل. }يخصفان} وقرأ الحسن بكسر الخاء وشد الصاد. والأصل }يختصفان} فأدغم، وكسر الخاء لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن بريدة ويعقوب بفتح الخاء، ألقيا حركة التاء عليها. ويجوز }يخصفان} بضم الياء، من خصف يخصف. وقرأ الزهري }يخصفان} من أخصف. وكلاهما منقول بالهمزة أو التضعيف والمعنى: يقطعان الورق ويلزقانه ليستترا به، ومنه خصف النعل. والخصاف الذي يرقعها. والمخصف المثقب. قال ابن عباس: هو ورق التين. ويروى أن آدم عليه السلام لما بدت سوأته وظهرت عورته طاف على أشجار الجنة يسل منها ورقة يغطي بها عورته؛ فزجرته أشجار الجنة حتى رحمته شجرة التين فأعطته ورقة. }فطفقا} يعني آدم وحواء }يخصفان عليهما من ورق الجنة} فكافأ الله التين بأن سوى ظاهره وباطنه في الحلاوة والمنفعة وأعطاه ثمرتين في عام واحد مرتين.
وفي الآية دليل على قبح كشف العورة، وأن الله أوجب عليهما الستر؛ ولذلك ابتدرا إلى سترها، ولا يمتنع أن يؤمرا بذلك في الجنة؛ كما قيل لهما{ولا تقربا هذه الشجرة}. وقد حكى صاحب البيان عن الشافعي أن من لم يجد ما يستر به عورته إلا ورق الشجر لزمه أن يستتر بذلك؛ لأنه سترة ظاهرة يمكنه التستر بها؛ كما فعل آدم في الجنة. والله أعلم.
قوله تعالى{وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} أي قال لهما: ألم أنهكما. قالا ربنا نداء مضاف. والأصل يا ربنا. وقيل. إن في حذف }يا} معنى التعظيم. فاعترفا بالخطيئة وتابا صلى الله عليهما وسلم وقد مضى في }البقرة}. ومعنى قوله{قلنا اهبطوا} تقدم أيضا إلى آخر الآية.
الآية رقم ( 25 )
{قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون}
الضمائر كلها للأرض. ولم يذكر الواو في }قال}، ولو ذكرها لجاز أيضا. وهو كقولك: قال زيد لعمرو كذا قال له كذا.
الآية رقم ( 26 )
{يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون}
قوله تعالى{يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا} قال كثير من العلماء: هذه الآية دليل على وجوب ستر العورة؛ لأنه قال{يواري سوآتكم}. وقال قوم إنه ليس فيها دليل على ما ذكروه، بل فيها دلالة على الإنعام فقط.
قلت: القول الأول أصح. ومن جملة الإنعام ستر العورة؛ فبين أنه سبحانه وتعالى جعل لذريته ما يسترون به عوراتهم، ودل على الأمر بالستر. ولا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعين الناس. واختلفوا في العورة ما هي؟ فقال ابن أبي ذئب: هي من الرجل الفرج نفسه، القبل والدبر دون غيرهما. وهو قول داود وأهل الظاهر وابن أبي عبلة والطبري؛ لقوله تعالى{لباسا يواري سوآتكم}، }بدت لهما سوآتهما}الأعراف: 22]، }ليريهما سوآتهما}الأعراف: 27]. وفي البخاري عن أنس{فأجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر - وفيه - ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم}. وقال مالك: السرة ليست بعورة، وأكره للرجل أن يكشف فخذه بحضرة زوجته. وقال أبو حنيفة: الركبة عورة. وهو قول عطاء. وقال الشافعي: ليست السرة ولا الركبتان من العورة على الصحيح. وحكى أبو حامد الترمذي أن للشافعي في السرة قولين. وحجة مالك قوله عليه السلام لجرهد: (غط فخذك فإن الفخذ عورة). خرجه البخاري تعليقا وقال: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط حتى يخرج من اختلافهم. وحديث جرهد هذا يدل على خلاف ما قال أبو حنيفة. وروي أن أبا هريرة قبل سرة الحسن بن علي وقال: أقبل منك ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل منك. فلو كانت السرة عورة ما قبلها أبو هريرة، ولا مكنه الحسن منها. وأما المرأة الحرة فعورة كلها إلا الوجه والكفين.. على هذا أكثر أهل العلم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يتزوج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها). ولأن ذلك واجب كشفه في الإحرام. وقال أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام: كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها. وروي عن أحمد بن حنبل نحوه. وأما أم الولد فقال الأثرم: سمعته - يعني أحمد بن حنبل - يسأل عن أم الولد كيف تصلي؟ فقال: تغطي رأسها وقدميها؛ لأنها لا تباع، وتصلي كما تصلي الحرة. وأما الأمة فالعورة منها ما تحت ثديها، ولها أن تبدي رأسها ومعصميها. وقيل: حكمها حكم الرجل. وقيل: يكره لها كشف رأسها وصدرها. وكان عمر رضي الله عنه يضرب الإماء على تغطيتهن رؤوسهن ويقول: لا تشبهن بالحرائر. وقال أصبغ: إن انكشف فخذها أعادت الصلاة في الوقت. وقال أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام: كل شيء من الأمة عورة حتى ظفرها. وهذا خارج عن أقوال الفقهاء؛ لإجماعهم على أن المرأة الحرة لها أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله، تباشر الأرض به. فالأمة أولى، وأم الولد أغلظ حالا من الأمة. والصبي الصغير لا حرمة لعورته. فإذا بلغت الجارية إلى حد تأخذها العين وتشتهى سترت عورتها. وحجة أبي بكر بن عبدالرحمن قوله تعالى{يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن}الأحزاب: 59]. وحديث أم سلمة أنها سئلت: ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب؟ فقالت: تصلي في الدرع والخمار السابغ الذي يغيب ظهور قدميها. وقد روي مرفوعا. والذين أوقفوه على أم سلمة أكثر وأحفظ؛ منهم مالك وابن إسحاق وغيرهما. قال أبو داود: ورفعه عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمر: عبدالرحمن هذا ضعيف عندهم؛ إلا أنه قد خرج البخاري بعض حديثه. والإجماع في هذا الباب أقوى من الخبر.
قوله تعالى{أنزلنا عليكم لباسا} يعني المطر الذي ينبت القطن والكتان، ويقيم البهائم الذي منها الأصواف والأوبار والأشعار؛ فهو مجاز مثل }وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج}الزمر: 6] على ما يأتي. وقيل: هذا الإنزال إنزال شيء من اللباس مع آدم وحواء، ليكون مثالا لغيره. وقال سعيد بن جبير{أنزلنا عليكم} أي خلقنا لكم؛ كقوله{وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أواج} أي خلق. على ما يأتي. وقيل: ألهمناكم كيفية صنعته.
قرأ أبو عبدالرحمن والحسن وعاصم من رواية المفضل الضبي، وأبو عمرو من رواية الحسين بن علي الجعفي }ورياشا}. ولم يحكه أبو عبيد إلا عن الحسن، ولم يفسر معناه. وهو جمع ريش. وهو ما كان من المال واللباس. وقال الفراء: ريش ورياش، كما يقال: لبس ولباس. وريش الطائر ما ستره الله به. وقيل: هو الخصب ورفاهية العيش. والذي عليه أكثر أهل اللغة أن الريش ما ستر من لباس أو معيشة. وأنشد سيبويه:
فريشي منكم وهواي معكم وإن كانت زياتكم لماما
وحكى أبو حاتم عن أبي عبيدة: وهت له دابة بريشها؛ أي بكسوتها وما عليها من اللباس.
قوله تعالى{ولباس التقوى ذلك خير} بين أن التقوى خير لباس؛ كما قال:
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى تقلب عيانا وإن كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا
وروى قاسم بن مالك عن عوف عن معبدالجهني قال{لباس التقوى} الحياء. وقال ابن عباس{لباس التقوى} هو العمل الصالح. وعنه أيضا: السمت الحسن في الوجه. وقيل: ما علمه عز وجل وهدى به. وقيل{لباس التقوى} لبس الصوف والخشن من الثياب، مما يتواضع به لله تعالى ويتعبد له خير من غيره. وقال زيد بن علي{لباس التقوى} الدرع والمغفر؛ والساعدان، والساقان، يتقى بهما في الحرب. وقال عروة بن الزبير: هو الخشية لله. وقيل: هو استشعار تقوى الله تعالى فيما أمر به ونهى عنه.
قلت: وهو الصحيح، وإليه يرجع قول ابن عباس وعروة. وقول زيد بن علي حسن، فإنه خض على الجهاد. وقال ابن زيد: هو ستر العورة. وهذا فيه تكرار، إذ قال أولا{قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم}. ومن قال: إنه لبس الخشن من الثياب فإنه أقرب إلى التواضع وترك الرعونات فدعوى؛ فقد كان الفضلاء من العلماء يلبسون الرفيع من الثياب مع حصول التقوى، على ما يأتي مبينا إن شاء الله تعالى. وقرأ أهل المدينة والكسائي }لباس} بالنصب عطفا على }لباسا} الأول. وقيل: انتصب بفعل مضمر؛ أي وأنزلنا لباس التقوى. والباقون بالرفع على الابتداء. و}ذلك} نعته و}خير} خبر الابتداء. والمعنى: ولباس التقوى المشار إليه، الذي علمتموه، خير لكم من لباس الثياب التي تواري سوآتكم، ومن الرياش الذي أنزلنا إليكم؛ فألبسوه. وقيل: ارتفع بإضمار هو؛ أي وهو لباس التقوى؛ أي هو ستر العورة. وعليه يخرج قول ابن زيد. وقيل: المعنى ولباس التقوى هو خير؛ }فذلك} بمعنى هو. والإعراب الأول أحسن ما قيل فيه. وقرأ الأعمش }ولباس التقوى خير} ولم يقرأ }ذلك}. وهو خلاف المصحف. }ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون} أي مما يدل على أن له خالقا. و}ذلك} رفع على الصفة، أو على البدل، أو عطف بيان.
الآية رقم ( 27 )
{يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون}
قوله تعالى{لا يفتننكم} أي لا يصرفنكم الشيطان عن الدين؛ كما فتن أبويكم بالإخراج من الجنة. }أب} للمذكر، و}أبة} للمؤنث. فعلى هذا قيل: أبوان }ينزع عنهما لباسهما} في موضع نصب على الحال. ويكون مستأنفا فيوقف على }من الجنة}. }ليريهما} نصب بلام كي. وفي هذا أيضا دليل على وجوب ستر العورة؛ لقوله{ينزع عنهما لباسهما}. قال الآخرون: إنما فيه التحذير من زوال النعمة؛ كما نزل بآدم. هذا أن لو ثبت أن شرع آدم يلزمنا، والأمر بخلاف ذلك.
قوله تعالى{إنه يراكم هو وقبيله} }قبيله} جنوده. قال مجاهد: يعني الجن والشياطين. ابن زيد{قبيله} نسله. وقيل: جيله. }من حيث لا ترونهم} قال بعض العلماء: في هذا دليل على أن الجن لا يرون؛ لقوله }من حيث لا ترونهم} قيل: جائز أن يروا؛ لأن الله تعالى إذا أراد أن يريهم كشف أجسامهم حتى ترى. قال النحاس{من حيث لا ترونهم} يدل على أن الجن لا يرون إلا في وقت نبي؛ ليكون ذلك دلالة على نبوته؛ لأن الله جل وعز خلقهم خلقا لا يرون فيه، وإنما يرون إذا نقلوا عن صورهم. وذلك من المعجزات التي لا تكون إلا في وقت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. قال القشيري: أجرى الله العادة بأن بني آدم لا يرون الشياطين اليوم. وفي الخبر (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم). وقال تعالى{الذي يوسوس في صدور الناس}الناس: 5]. وقال عليه السلام: (إن للملك لمة وللشيطان لمة - أي بالقلب - فأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق). وقد جاء في رؤيتهم أخبار صحيحة. وقد خرج البخاري عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، وذكر قصة طويلة، ذكر فيها أنه أخذ الجني الذي كان يأخذ التمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ما فعل أسيرك البارحة). وقد تقدم في البقرة. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لو لا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة) - في العفريت الذي تفلت عليه. وسيأتي في }ص} إن شاء الله تعالى. }إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون} أي زيادة في عقوبتهم وسوينا بينهم في الذهاب عن الحق.
الآية رقم ( 28 )
{وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون}
الفاحشة هنا في قول كثر المفسرين طوافهم بالبيت عراة. وقال الحسن: هي الشرك والكفر. واحتجوا على ذلك بتقليدهم أسلافهم، وبأن الله أمرهم بها. وقال الحسن{والله أمرنا بها} قالوا: لو كره الله ما نحن عليه لنقلنا عنه. }قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} بين أنهم متحكمون، ولا دليل لهم على أن الله أمرهم بما ادعوا. وقد مضى ذم التقليد وذم كثير من جهالاتهم. وهذا منها.
الآية رقم ( 29 )
{قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون}
قوله تعالى{قل أمر ربي بالقسط} قال ابن عباس: لا إله إلا الله. وقيل: القسط العدل؛ أي أمر: العدل فأطيعوه. ففي الكلام حذف. }وأقيموا وجوهكم} أي توجهوا إليه في كل صلاة إلى القبلة. }عند كل مسجد} أي في أي مسجد كنتم. }وادعوه مخلصين له الدين} أي وحدوه ولا تشركوا به. }كما بدأكم تعودون} نظيره }ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة}الأنعام: 94] وقد تقدم. والكاف في موضع نصب؛ أي تعودون كما بدأكم؛ أي كما خلقكم أول مرة يعيدكم. وقال الزجاج: هو متعلق بما قبله. أي ومنها تخرجون كما بدأكم تعودون.
الآية رقم ( 30 )
{فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون}
قوله تعالى{فريقا هدى} }فريقا} نصب على الحال من المضمر في }تعودون} أي تعودون فريقين: سعداء، وأشقياء. يقوي هذا قراءة أبي }تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة}؛ عن الكسائي. وقال محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى }فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة} قال: من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة، وإن عمل بأعمال الهدى. ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى، وإن عمل بأعمال الضلالة. ابتدأ الله خلق إبليس على الضلالة، وعمل بأعمال السعادة مع الملائكة، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه. قال{وكان من الكافرين}البقرة: 34] وفي هذا رد واضح على القدرية ومن تابعهم. وقيل{فريقا} نصب بـ }هدى}، }وفريقا} الثاني نصب بإضمار فعل؛ أي وأضل فريقا. وأنشد سيبويه:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا
قال الفراء: ولو كان مرفوعا لجاز. }إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله} وقرأ عيسى بن عمر{أنهم} بفتح الهمزة، يعني لأنهم.
الآية رقم ( 31 )
{يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}
قوله تعالى{يا بني آدم} هو خطاب لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا؛ فإنه عام في كل مسجد للصلاة. لأن العبرة للعموم لا! للسبب. ومن العلماء من أنكر أن يكون المراد به الطواف؛ لأن الطواف لا يكون إلا في مسجد واحد، والذي يعم كل مسجد هو الصلاة. وهذا قول من خفي عليه مقاصد الشريعة. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول: من يعيرني تِطوافا؟ تجعله على فرجها. وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية{خذوا زينتكم عند كل مسجد}. التطواف (بكسر التاء). وهذه المرأة هي ضباعة بنت عامر بن قرط؛ قاله القاضي عياض. وفي صحيح مسلم أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء. وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات. في غير مسلم: ويقولون نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبا ولا يسار يستأجره به كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانا، وإما أن يطوف في ثيابه؛ فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللقى؛ قال قائل من العرب:
كفى حزنا كري عليه كأنه لقى بين أيدي الطائفين حريم
فكانوا على تلك الجهالة والبدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى{يا بني آدم خذوا زينتكم} الآية. وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا لا يطوف بالبيت عريان. قلت: ومن قال بأن المراد الصلاة فزينتها النعال؛ لما رواه كرز بن وبرة عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم: (خذوا زينة الصلاة) قيل: وما زينة الصلاة؟ قال: (البسوا نعالكم فصلوا فيها).
دلت الآية على وجوب ستر العورة كما تقدم. وذهب جمهور أهل العلم إلى أنها فرض من فروض الصلاة. وقال الأبهري هي فرض في الجملة، وعلى الإنسان أن يسترها عن أعين الناس في الصلاة وغيرها. وهو الصحيح؛ لقوله عليه السلام للمسور بن مخرمة: (ارجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عراة). أخرجه مسلم. وذهب إسماعيل القاضي إلى أن ستر العورة من سنن الصلاة، واحتج بأنه لو كان فرضا في الصلاة لكان العريان لا يجوز له أن يصلي؛ لأن كل شيء من فروض الصلاة يجب الإتيان به مع القدرة عليه، أو بدله مع عدمه، أو تسقط الصلاة جملة، وليس كذلك. قال ابن العربي: وإذا قلنا إن ستر العورة فرض في الصلاة فسقط ثوب إمام فانكشف دبره وهو راكع فرفع رأسه فغطاه أجزأه؛ قاله ابن القاسم. وقال سحنون: وكل من نظر إليه من المأمومين أعاد. وروي عن سحنون أيضا: أنه يعيد ويعيدون؛ لأن ستر العورة شرط من شروط الصلاة، فإذا ظهرت بطلت الصلاة. أصله الطهارة. قال القاضي ابن العربي: أما من قال، إن صلاتهم لا تبطل فإنهم لم يفقدوا شرطا، وأما من قال إن أخذه مكانه صحت صلاته وتبطل صلاة من نظر إليه فصحيفة يجب محوها ولا يجوز الاشتغال بها. وفي البخاري والنسائي عن عمرو بن سلمة قال: لما رجع قومي من عند النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قال: (ليؤمكم أكثركم قراءة للقرآن). قال: فدعوني فعلموني الركوع والسجود؛ فكنت أصلي بهم وكانت علي بردة مفتوقة، وكانوا يقولون لأبي: ألا تغطي عنا است ابنك. لفظ النسائي. وثبت عن سهل بن سعد قال: لقد كانت الرجال عاقدي أزرهم في أعناقهم من ضيق الأزر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة كأمثال الصبيان؛ فقال قائل: يا معشر النساء، لا ترفعن رؤوسكن حتى ترفع الرجال. أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود.
واختلفوا إذا رأى عورة نفسه؛ فقال الشافعي: إذا كان الثوب ضيقا يزره أو يخلله بشيء لئلا يتجافى القميص فترى من الجيب العورة، فإن لم يفعل ورأى عورة نفسه أعاد الصلاة. وهو قول أحمد. ورخص مالك في الصلاة في القميص محلول الأزرار، ليس عليه سراويل. وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور. وكان سالم يصلي محلول الأزرار. وقال داود الطائي: إذا كان عظيم اللحية فلا بأس به. وحكى معناه الأثرم عن أحمد. فإن كان إماما فلا يصلي إلا بردائه؛ لأنه من الزينة. وقيل: من الزينة الصلاة في النعلين؛ رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح. وقيل: زينة الصلاة رفع الأيدي في الركوع وفي الرفع منه. قال أبو عمر: لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي. وقال عمر رضي الله عنه: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، جمع رجل عليه ثيابه، صلى في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء - وأحسبه قال: في تبان وقميص - في تبان ورداء، في تبان وقباء. رواه البخاري والدارقطني.
قوله تعالى{وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} قال ابن عباس: أحل الله في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة. فأما ما تدعو الحاجة إليه، وهو ما سد الجوعة وسكن الظمأ، فمندوب إليه عقلا وشرعا، لما فيه من حفظ النفس وحراسة الحواس؛ ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال؛ لأنه يضعف الجسد ويميت النفس، ويضعف عن العبادة، وذلك يمنع منه الشرع وتدفعه العقل. وليس لمن منع نفسه قدر الحاجة حظ من بر ولا نصيب من زهد؛ لأن ما حرمها من فعل الطاعة بالعجز والضعف أكثر ثوابا وأعظم أجرا. وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين: فقيل حرام، وقيل مكروه. قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطعمان. ثم قيل: في قلة الأكل منافع كثيرة؛ منها أن يكون الرجل أصح جسما وأجود حفظا وأزكى فهما وأقل نوما وأخف نفسا. وفي كثرة الأكل كظ المعدة ونتن التخمة، ويتولد منه الأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل. وقال بعض الحكماء: أكبر الدواء تقدير الغذاء. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بيانا شافيا يغني عن كلام الأطباء فقال: (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه). خرجه الترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب. قال علماؤنا: لو سمع بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة. ويذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان. فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له: ما هي؟ قال قوله عز وجل{وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا}. فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب. فقال علي: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: ما هي؟ قال: (المعدة بيت الأدواء والحمية رأس كل دواء وأعط كل جسد ما عودته). فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا.
قلت: ويقال إن معالجة المريض نصفان: نصف دواء ونصف حمية: فإن اجمعا فكأنك بالمريض قد برأ وصح. وإلا فالحمية به أولى؛ إذ لا ينفع دواء مع ترك الحمية. ولقد تنفع الحمية مع ترك الدواء. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصل كل دواء الحمية). والمعني بها - والله أعلم - أنها تغني عن كل دواء؛ ولذلك يقال: إن الهند جل معالجتهم الحمية، يمتنع المريض عن الأكل والشراب والكلام عدة أيام فيبرأ ويصح.
روى مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في مِعىً واحد). وهذا منه صلى الله عليه وسلم حض على التقليل من الدنيا والزهد فيها والقناعة بالبلغة. وقد كانت العرب تمتدح بقلة الأكل وتذم بكثرته. كما قال قائلهم:
تكفيه فلذة كبد إن ألم بها من الشواء ويروي شربه الغمر
وقالت أم زرع في ابن أبي زرع: ويشبعه ذراع الجفرة. وقال حاتم الطائي يذم بكثرة الأكل:
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
وقال الخطاب: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يأكل في معى واحد) أنه يتناول دون شبعه، ويؤثر على نفسه ويبقي من زاده لغيره؛ فيقنعه ما أكل. والتأويل الأول أولى والله أعلم. وقيل في قوله عليه السلام: (والكافر يأكل في سبعة أمعاء) ليس على عمومه؛ لأن المشاهدة تدفعه، فإنه قد يوجد كافر أقل أكلا من مؤمن، ويسلم الكافر فلا يقل أكله ولا يزيد. وقيل: هو إشارة إلى معين. ضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيف كافر يقال: إنه الجهجاه الغفاري. وقيل: ثمامة بن أثال. وقيل: نضلة بن عمرو الغفاري. وقيل: بصرة بن أبي بصرة الغفاري. فشرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم فشرب حلاب شاة فلم يستتمه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. فكأنه قال: هذا الكافر. والله أعلم. وقيل: إن القلب لما تنور بنور التوحيد نظر إلى الطعام بعين التقوي على الطاعة، فأخذ منه قدر الحاجة، وحين كان مظلما بالكفر كان أكله كالبهيمة ترتع حتى تثلط. واختلف في هذه الأمعاء، هل هي حقيقة أم لا؟ فقبل: حقيقة، ولها أسماء معروفة عند أهل العلم بالطب والتشريح. وقيل: هي كنايات عن أسباب سبعة يأكل بها النهم: يأكل للحاجة والخبر والشم والنظر واللمس والذوق ويزيد استغناما. وقيل: المعنى أن يأكل أكل من له سبعة أمعاء. والمؤمن بخفة أكله يأكل أكل من ليس له إلا معى واحد؛ فيشارك الكافر بجزء من أجزاء أكله، ويزيد الكافر عليه بسبعة أمثال. والمعى في هذا الحديث هو المعدة.
وإذا تقرر هذا فاعلم أنه يستحب للإنسان غسل اليد قبل الطعام وبعده؛ لقوله عليه السلام: (الوضوء قبل الطعام وبعده بركة). وكذا في التوراة. رواه زاذان عن سلمان. وكان مالك يكره غسل اليد النظيفة. والاقتداء بالحديث أولى. ولا يأكل طعاما حتى يعرف أحارا هو أم باردا؟ فإنه إن كان حارا فقد يتأذى. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أبردوا بالطعام فإن الحار غير ذي بركة) حديث صحيح. ولا يشمه فإن ذلك من عمل البهائم، بل إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه، ويصغر اللقمة ويكثر مضغها لئلا يعد شرها. ويسمي الله تعالى في أوله ويحمده في آخره. ولا ينبغي أن يرفع صوته بالحمد إلا أن يكون جلساؤه قد فرغوا من الأكل؛ لأن في رفع الصوت منعا لهم من الأكل. وآداب الأكل كثيرة، هذه جملة منها. وسيأتي بعضها في سورة }هود} إن شاء الله تعالى. وللشراب أيضا آداب معروفة، تركنا ذكرها لشهرتها. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشمال ويشرب بشماله).
قوله تعالى{ولا تسرفوا} أي في كثرة الأكل، وعنه يكون كثرة الشرب، وذلك يثقل المعدة، ويثبط الإنسان عن خدمة ربه، والأخذ بحظه من نوافل الخير. فإن تعدى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام الواجب عليه حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه. روى أسد بن موسى من حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: أكلت ثريدا بلحم سمين، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أتجشأ؛ فقال: (اكفف عليك من جشائك أبا جحيفة فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة). فما أكل أبو جحيفة بملء بطنه حتى فارق الدنيا، وكان إذا تغدى لا يتعشى، وإذا تعشى لا يتغدى. قلت: وقد يكون هذا معنى قوله عليه السلام: (المؤمن يأكل في معى واحد) أي التام الإيمان؛ لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه كأبي جحيفة تفكر فيما يصير إليه من أمر الموت وما بعده؛ فيمنعه الخوف والإشفاق من تلك الأهوال من استيفاء شهواته. والله أعلم. وقال ابن زيد: معنى }ولا تسرفوا} لا تأكلوا حراما. وقيل: (من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت). رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، خرجه ابن ماجة في سننه. وقيل: من الإسراف الأكل بعد الشبع. وكل ذلك محظور. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تأكل شبعا فوق شبع، فإنك إن تنبذه للكلب خير من أن تأكله. وسأل سمرة بن جندب عن ابنه ما فعل؟ قالوا: بشم البارحة. قال: بشم! فقالوا: نعم. قال: أما إنه لو مات ما صليت عليه. وقيل: إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسما في أيام حجهم، ويكتفون باليسير من الطعام، ويطوفون عراة. فقيل لهم{خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا في تحريم ما لم يحرم عليكم.
الآية رقم ( 32 )
{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون}
قوله تعالى{قل من حرم زينة الله} بين أنهم حرموا من تلقاء أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم. والزينة هنا الملبس الحسن، إذا قدر عليه صاحبه. وقيل: جميع الثياب؛ كما روي عن عمر: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا. وقد تقدم. وروي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب شيخ مالك رضي الله عنهم أنه كان يلبس كساء خز بخمسين دينارا، يلبسه في الشتاء، فإذا كان في الصيف تصدق به، أو باعه فتصدق بثمنه، وكان يلبس في الصيف ثوبين من متاع بمصر ممشقين ويقول{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}.
وإذا كان هذا فقد دلت الآية على لباس الرفيع من الثياب، والتجمل بها في الجمع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان. قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حلة سيراء تباع عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة). فما أنكر عليه ذكر التجمل، وإنما أنكر عليه كونها سيراء. وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم كان يصلي فيها. وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد. وكان ثوب أحمد بن حنبل يشترى بنحو الدينار. أين هذا ممن يرغب عنه ويؤثر لباس الخشن من الكتان والصوف من الثياب. ويقول{ولباس التقوى ذلك خير}الأعراف: 26] هيهات! أترى من ذكرنا تركوا لباس التقوى، لا والله! بل هم أهل التقوى وأولو المعرفة والنهى، وغيرهم أهل دعوى، وقلوبهم خالية من التقوى. قال خالد بن شوذب: شهدت الحسن وأتاه فرقد، فأخذه الحسن بكسائه فمده إليه وقال: يا فريقد، يا ابن أم فريقد، إن البر ليس في هذا الكساء، إنما البر ما وقر في الصدر وصدقه العمل. ودخل أبو محمد ابن أخي معروف الكرخي على أبي الحسن بن يسار وعليه جبة صوف، فقال له أبو الحسن: يا أبا محمد، صوفت قلبك أو جسمك؟ صوف قلبك والبس القوهي على القوهي. وقال رجل للشبلي: قد ورد جماعة من أصحابك وهم في الجامع، فمضى فرأى عليهم المرقعات والفوط، فأنشأ يقول:
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائه
قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله: وأنا أكره ليس الفوط والمرقعات لأربعة أوجه: أحدها: أنه ليس من لبس السلف، وإنما كانوا يرقعون ضرورة. والثاني: أنه يتضمن ادعاء الفقر، وقد أمر الإنسان أن يظهر أثر نعم الله عليه. والثالث: إظهار التزهد؛ وقد أمرنا بستره. والرابع: أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة. ومن تشبه بقوم فهو منهم وقال الطبري: ولقد أخطأ من أثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حله. ومن أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر. ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض شهوة النساء. وسئل بشر بن الحارث عن لبس الصوف، فشق عليه وتبينت الكراهة في وجهه ثم قال: لبس الخزز والمعصفر أحب إلي من لبس الصوف في الأمصار. وقال أبو الفرج: وقد كان السلف يلبسون الثياب المتوسطة، لا المترفعة ولا الدون، ويتخيرون أجودها للجمعة والعيد وللقاء الإخوان، ولم يكن تخير الأجود عندهم قبيحا. وأما اللباس الذي يزري بصاحبه فإنه يتضمن إظهار الزهد وإظهار الفقر، وكأنه لسان شكوى من الله تعالى، ويوجب احتقار اللابس؛ وكل ذلك مكروه منهي عنه. فإن قال قائل: تجويد اللباس هوى النفس وقد أمرنا بمجاهدتها، وتزين للخلق وقد أمرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق. فالجواب ليس كل ما تهواه النفس يذم، وليس كل ما يتزين به للناس يكره، وإنما ينهي عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه أو على وجه الرياء في باب الدين. فإن الإنسان يجب أن يرى جميلا. وذلك حظ للنفس لا يلام فيه. ولهذا يسرح شعره وينظر في المرآة ويسوي عمامته ويلبس بطانة الثوب الخشنة إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج. وليس في شيء من هذا ما يكره ولا يذم. وقد روى مكحول عن عائشة قالت: كان نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفي الدار ركوة فيها ماء؛ فجعل ينظر في الماء ويسوي لحيته وشعره. فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: (نعم إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال). وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر). فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: (إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس). والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، تدل كلها على النظافة وحسن الهيئة. وقد روى محمد بن سعد أخبرنا الفضل بن دكين قال حدثنا مندل عن ثور عن خالد بن معدان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافر بالمشط والمرآة والدهن والسواك والكحل. وعن ابن جريج: مشط عاج يمتشط به. قال ابن سعد: وأخبرنا قبيصة بن عقبة قال حدثنا سفيان عن ربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه ويسرح لحيته بالماء. أخبرنا يزيد بن هارون حدثنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكحلة يكتحل بها عند النوم ثلاثا في كل عين.
قوله تعالى{والطيبات من الرزق} الطيبات اسم عام لما طاب كسبا وطعما. قال ابن عباس وقتادة: يعني بالطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي. وقيل: هي كل مستلذ من الطعام. وقد اختلف في ترك الطيبات والإعراض عن اللذات؛ فقال قوم: ليس ذلك من القربات، والفعل والترك يستوي في المباحات. وقال آخرون: ليس قربة في ذاته، وإنما هو سبيل إلى الزهد في الدنيا، وقصر الأمل فيها، وترك التكلف لأجلها؛ وذلك مندوب إليه، والمندوب قربة. وقال آخرون: ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: لو شئنا لاتخذنا صلاء وصلائق وصنابا، ولكني سمعت الله تعالى يذم أقواما فقال{أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا}الأحقاف: 20]. ويروى }صرائق} بالراء، وهما جميعا الجرادق. والصلائق (باللام): ما يلصق من اللحوم والبقول. والصلاء (بكسر الصاد والمد): الشواء: والصناب: الخردل بالزبيب. وفرق آخرون بين حضور ذلك كله بكلفة وبغير كلفة. قال أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي شيخ أشياخنا: وهو الصحيح إن شاء الله عز وجل؛ فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه امتنع من طعام لأجل طيبه قط، بل كان يأكل الحلوى والعسل والبطيخ والرطب، وإنما يكره التكلف لما فيه من التشاغل بشهوات الدنيا عن مهمات الآخرة. والله تعالى أعلم.
قلت: وقد كره بعض الصوفية أكل الطيبات؛ واحتج بقول عمر رضي الله عنه: إياكم واللحم فإن له ضراوة كضرواة الخمر. والجواب أن هذا من عمر قول خرج على من خشي منه إيثار التنعم في الدنيا، والمداومة على الشهوات، وشفاء النفس من اللذات، ونسيان الآخرة والإقبال على الدنيا، ولذلك كان يكتب عمر إلى عمال: إياكم والتنعم وزي أهل العجم، واخشوشنوا. ولم يرد رضي الله عنه تحريم شيء أحله الله، ولا تحظير ما أباحه الله تبارك اسمه. وقول الله عز وجل أولى ما امتثل واعتمد عليه. قال الله تعالى{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}. وقال عليه السلام: (سيد آدام الدنيا والآخرة اللحم). وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل البطيخ بالرطب ويقول: (يكسر حر هذا برد هذا وبرد هذا حر هذا). والطبيخ لغة في البِطيخ، وهو من المقلوب. وقد مضى في }المائدة} الرد على من آثر أكل الخشن من الطعام. وهذه الآية ترد عليه وغيرها: والحمد لله.
قوله تعالى{قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا} يعني بحقها من توحيد الله تعالى والتصديق له؛ فإن الله ينعم ويرزق، فإن وحده المنعم عليه وصدقه فقد قام بحق النعمة، وإن كفر فقد أمكن الشيطان من نفسه. وفي صحيح الحديث (لا أحد أصبر على أذى من الله يعافيهم وير زقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد). وتم الكلام على }الحياة الدنيا}. ثم قال }خالصة} بالرفع وهي قراءة ابن عباس ونافع. }خالصة يوم القيامة} أي يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء كما كان لهم في الدنيا من الاشتراك فيها. ومجاز الآية: قل هي للذين آمنوا مشتركة في الدنيا مع غيرهم، وهي للمؤمنين خالصة يوم القيامة. فخالصة مستأنف على خبر مبتدأ مضمر. وهذا قول ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد. وقيل: المعنى أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصة يوم القيامة، للمؤمنين في الدنيا؛ وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون فقوله{في الحياة الدنيا} متعلق بـ }آمنوا}. وإلى هذا يشير تفسير سعيد بن جبير. وقرأ الباقون بالنصب على الحال والقطع؛ لأن الكلام قد تم دونه. ولا يجوز الوقف على هذه القراءة على }الدنيا}؛ لأن ما بعده متعلق بقول }للذين آمنوا} حال منه؛ بتقدير قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم القيامة؛ قاله أبو علي. وخبر الابتداء }للذين آمنوا}. والعالم في الحال ما في اللام من معنى الفعل في قوله{للذين} واختار سيبويه النصب لتقدم الظرف. }كذلك نفصل الآيات} أي كالذي فصلت لكم الحلال والحرام أفصل لكم ما تحتاجون إليه.
{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}
قال الكلبي: لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت غيرهم المشركون؛ فنزلت هذه الآية. والفواحش: الأعمال المفرطة في القبح، ما ظهر منها وما بطن. وروى روح بن عبادة عن زكريا بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال{ما ظهر منها} نكاح الأمهات في الجاهلية. }وما بطن} الزنى. وقال قتادة: سرها وعلانيتها. وهذا فيه نظر؛ فإنه ذكر الإثم والبغي فدل أن المراد بالفواحش. بعضها، وإذا كان كذلك فالظاهر من الفواحش الزنى. والله أعلم. }والإثم} قال الحسن: الخمر. قال الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول
وقال آخر:
نشرب الإثم بالصواع جهارا وترى المسك بيننا مستعارا
{والبغي} الظلم وتجاوز الحد فيه. وقد تقدم. وقال ثعلب: البغي أن يقع الرجل في الرجل فيتكلم فيه، ويبغي عليه بغير الحق؛ إلا أن ينتصر منه بحق. وأخرج الإثم والبغي من الفواحش وهما منه لعظمهما وفحشهما؛ فنص على ذكرهما تأكيدا لأمرهما وقصدا للزجر عنهما. وكذا وقد أنكر جماعة أن يكون الإثم بمعنى الخمر. قال الفراء: الإثم ما دون الحد والاستطالة على الناس. قال النحاس: فأما أن يكون الإثم الخمر فلا يعرف ذلك، وحقيقة الإثم أنه جميع المعاصي؛ كما قال الشاعر:
إني وجدت الأمر أرشده تقوى الإله وشره الإثم
قلت: وأنكره ابن العربي أيضا وقال{ولا حجة في البيت؛ لأنه لو قال: شربت الذنب أو شربت الوزر لكان كذلك، ولم يوجب قول أن يكون الذنب والوزر اسما من أسماء الخمر كذلك، الإثم. والذي أوجب التكلم بمثل هذا الجهل باللغة وبطريق الأدلة في المعاني}. قلت: وقد ذكرناه عن الحسن. وقال الجوهري في الصحاح: وقد يسمى الخمر إثما، وأنشد:
شربت الإثم...... البيت
وأنشده الهروي في غريبيه، على أن الخمر الإثم. فلا يبعد أن يكون الإثم يقع على جميع المعاصي وعلى الخمر أيضا لغة، فلا تناقض. والبغي: التجاوز في الظلم، وقيل: الفساد.
الآية رقم ( 34 )
{ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}
قوله تعالى{ولكل أمة أجل} أي وقت مؤقت. }فإذا جاء أجلهم} أي الوقت المعلوم عند الله عز وجل. وقرأ ابن سيرين }جاء آجالهم} بالجمع }لا يستأخرون} عنه ساعة ولا أقل من ساعة؛ إلا أن الساعة خصت بالذكر لأنها أقل أسماء الأوقات، وهي ظرف زمان. }ولا يستقدمون} فدل بهذا على أن المقتول إنما يقتل بأجله. وأجل الموت هو وقت الموت؛ كما أن أجل الدين هو وقت حلوله. وكل شيء وقت به شيء فهو أجل له. وأجل الإنسان هو الوقت الذي يعلم الله أنه يموت الحي فيه لا محالة. وهو وقت لا يجوز تأخير موته عنه، لا من حيث إنه ليس مقدورا تأخيره. وقال كثير من المعتزلة إلا من شذ منهم: إن المقتول مات بغير أجله الذي ضرب له، وإنه لو لم يقتل لحيي. وهذا غلط، لأن المقتول لم يمت من أجل قتل غيره له، بل من أجل ما فعله الله من إزهاق نفسه عند الضرب له. فإن قيل: فإن مات بأجله فلم تقتلون ضاربه وتقتصون منه؟. قيل له: نقتله لتعديه وتصرفه فيما ليس له أن يتصرف فيه، لا لموته وخروج الروح إذ ليس ذلك من فعله. ولو ترك الناس والتعدي من غير قصاص لأدى ذلك إلى الفساد ودمار العباد. وهذا واضح.
الآية رقم ( 35 : 36 )
{يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}
قوله تعالى{يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم} شرط. ودخلت النون توكيدا لدخول }ما}. وقيل: ما صلة، أي إن يأتكم. أخبر أنه يرسل إليهم الرسل منهم لتكون إجابتهم أقرب. والقصص اتباع الحديث بعضه بعضا. }آياتي} أي فرائضي وأحكامي.
قوله تعالى{فمن اتقى وأصلح} شرط، وما بعده جوابه، وهو جواب الأول. أي وأصلح منكم ما بيني وبينه. }فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} دليل على أن المؤمنين يوم القيامة لا يخافون ولا يحزنون، ولا يلحقهم رعب ولا فزع. وقيل: قد يلحقهم أهوال يوم القيامة، ولكن مآلهم الأمن. وقيل: جواب }إما يأتينكم} ما دل عليه الكلام، أي فأطيعوهم }فمن اتقى وأصلح} والقول الأول قول الزجاج.
الآية رقم ( 37 )
{فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}
قوله تعالى{فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته} المعنى أي ظلم أشنع من الافتراء على الله تعالى والتكذيب بآياته. ثم قال{أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} أي ما كتب لهم من رزق وعمر وعمل؛ عن ابن زيد. ابن جبير: من شقاء وسعادة. ابن عباس: من خير وشر. الحسن وأبو صالح: من العذاب بقدر كفرهم. واختيار الطبري أن يكون المعنى: ما كتب لهم، أي ما قدر لهم من خير وشر ورزق وعمل وأجل؛ على ما تقدم عن ابن زيد وابن عباس وابن جبير. }حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم} يعني رسل ملك الموت. وقيل{الكتاب} هنا القرآن؛ لأن عذاب الكفار مذكور فيه. وقيل{الكتاب} اللوح المحفوظ. ذكر الحسن بن علي الحلواني قال: أملى علي علي بن المديني قال: سألت عبدالرحمن بن مهدي عن القدر فقال لي: كل شيء بقدر، والطاعة والمعصية بقدر، وقد أعظم الفرية من قال: إن المعاصي ليست بقدر. قال علي وقال لي عبدالرحمن بن مهدي: العلم والقدر والكتاب سواء. ثم عرضت كلام عبدالرحمن بن مهدي على يحيى بن سعيد فقال: لم يبق بعد هذا قليل ولا كثير. وروى يحيى بن معين حدثنا مروان الفزاي حدثنا إسماعيل بن سميع عن بكير الطويل عن مجاهد عن ابن عباس }أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} قال: قوم يعملون أعمالا لا بد لهم من أن يعملوها. و}حتى} ليست غاية، بل هي ابتداء خبر عنهم. قال الخليل وسيبويه: حتى وإما وألا لا يملن لأنهن حروف ففرق بينها وبين الأسماء نحو حبلى وسكرى. قال الزجاج: تكتب حتى بالياء لأنها أشبهت سكرى، ولو كتبت ألا بالياء لأشبهت إلى. ولم تكتب إما بالياء لأنها }إن} ضمت إليها ما. }قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله} سؤال توبيخ. ومعنى }تدعون} تعبدون. }قالوا ضلوا عنا} أي بطلوا وذهبوا. قيل: يكون هذا في الآخرة. }وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} أي أقروا بالكفر على أنفسهم.
الآية رقم ( 38 : 39 )
{قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون، وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون}
قوله تعالى{قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار} أي مع أمم؛ فـ }في} بمعنى مع. وهذا لا يمتنع؛ لأن قولك: زيد في القوم، أي مع القوم. وقيل: هي على بابها، أي ادخلوا في جملتهم. والقائل قيل: هو الله عز وجل، أي قال الله ادخلوا. وقيل: هو مالك خازن النار. }كلما دخلت أمة لعنت أختها} أي التي سبقتها إلى النار، وهي أختها في، الدين والملة. }حتى إذا اداركوا فيها جميعا} أي اجتمعوا. وقرأ الأعمش }تداركوا} وهو الأصل، ثم وقع الإدغام فاحتيج إلى ألف الوصل. وحكاها المهدوي عن ابن مسعود. النحاس: وقرأ ابن مسعود }حتى إذا أدركوا} أي أدرك بعضهم بعضا. وعصمة عن أبي عمرو }حتى إذا اداركوا} بإثبات الألف على الجمع بين الساكنين. وحكى: هذان عبدا الله. وله ثلثا المال. وعن أبي عمرو أيضا{إذا اداركوا} بقطع ألف الوصل؛ فكأنه سكت على }إذا} للتذكر، فلما طال سكوته قطع ألف الوصل؛ كالمبتدئ بها. وقد جاء في الشعر قطع ألف الوصل نحو قوله:
يا نفس صبرا كل حي لاقي وكل اثنين إلى افتراق
وعن مجاهد وحميد بن قيس }حتى إذ ادركوا} بحذف ألف }إذا} لالتقاء الساكنين، وحذف الألف التي بعد الدال. }جميعا} نصب على الحال. }قالت أخراهم لأولاهم} أي آخرهم دخولا وهم الأتباع لأولاهم وهم القادة. }ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار} فاللام في }لأولاهم} لام أجل؛ لأنهم لم يخاطبوا أولاهم ولكن قالوا في حق أولاهم ربنا هؤلاء أضلونا. والضعف المثل الزائد على مثله مرة أو مرات. وعن ابن مسعود أن الضعف ههنا الأفاعي والحيات. ونظير هذه الآية }ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا}الأحزاب: 68]. وهناك يأتي ذكر الضعف بأبشع من هذا وما يترتب عليه من الأحكام، إن شاء الله تعالى. }قال لكل ضعف} أي للتابع والمتبوع. }ولكن لا تعلمون} على قراءة من قرأ بالياء؛ أي لا يعلم كل فريق ما بالفريق الآخر، إذ لو علم بعض من في النار أن عذاب أحد فوق عذابه لكان نوع سلوة له. وقيل: المعنى }ولكن لا تعلمون} بالتاء، أي ولكن لا تعلمون أيها المخاطبون ما يجدون من العذاب. ويجوز أن يكون المعنى ولكن لا تعلمون يأهل الدنيا مقدار ما هم فيه من العذاب. }وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل} أي قد كفرتم وفعلتم كما فعلنا، فليس تستحقون تخفيفا من العذاب }فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون}.
الآية رقم (40 : 41 )
{إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين، لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين}
قوله تعالى{إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء} أي لأرواحهم. جاءت بذلك أخبار صحاح ذكرناها في كتاب (التذكرة). منها حديث البراء بن عازب، وفيه في قبض روح الكافر قال: ويخرج منها ريح كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة. فيقولون فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون فلا يفتح لهم، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم{لا تفتح لهم أبواب السماء} الآية. وقيل: لا تفتح لهم أبواب السماء إذا دعوا؛ قاله مجاهد والنخعي. وقيل: المعنى لا تفتح لهم أبواب الجنة؛ لأن الجنة في السماء. ودل على ذلك قوله{ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} والجمل لا يلج فلا يدخلونها البتة. وهذا دليل قطعي لا يجوز العفو عنهم. وعلى هذا أجمع المسلمون الذين لا يجوز عليهم الخطأ أن الله سبحانه وتعالى لا يغفر لهم ولا لأحد منهم. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: فإن قال قائل كيف يكون هذا إجماعا من الأمة؟ وقد زعم قوم من المتكلمين بأن مقلدة اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر ليسوا في النار. قيل له: هؤلاء قوم أنكروا أن يكون المقلد كافرا لشبهة دخلت عليهم، ولم يزعموا أن المقلد كافر وأنه مع ذلك ليس في النار، والعلم بأن المقلد كافر أو غير كافر طريقه النظر دون التوقيف والخبر. وقرأ حمزة والكسائي{لا تفتح} بالياء مضمومة على تذكير الجمع. وقرأ الباقون بالتاء على تأنيث الجماعة؛ كما قال{مفتحة لهم الأبواب}ص: 50] فأنث. ولما كان التأنيث في الأبواب غير حقيقي جاز تذكير الجمع. وهي قراءة ابن عباس بالياء وخفف أبو عمرو وحمزة والكسائي، على معنى أن التخفيف يكون للقليل والكثير، والتشديد للتكثير والتكرير مرة بعد مرة لا غير، والتشديد هنا أولى لأنه على الكثير أدل. والجمل من الإبل. قال الفراء: الجمل زوج الناقة. وكذا قال عبدالله بن مسعود لما سئل عن الجمل فقال: هو زوج الناقة؛ كأنه استجهل من سأله عما يعرفه الناس جميعا. والجمع جمال وأجمال وجمالات وجمائل. وإنما يسمى جملا إذا أربع. وفي قراءة عبدالله{حتى يلج الجمل الأصفر في سم الخياط}. ذكره أبو بكر الأنباري حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد حدثنا حجاج عن ابن جريج عن ابن كثير عن مجاهد قال في قراءة عبدالله...؛ فذكره. وقرأ ابن عباس }الجمل} بضم الجيم وفتح الميم وتشديدها. وهو حبل السفينة الذي يقال له القلس، وهو حبال مجموعة، جمع جملة؛ قاله أحمد بن يحيى ثعلب. وقيل: الحبل الغليظ من القنب. وقيل: الحبل الذي يصعد به في النخل. وروي عنه أيضا وعن سعيد بن جبير{الجمل} بضم الجيم وتخفيف الميم هو القلس أيضا والحبل، على ما ذكرنا آنفا. وروي عنه أيضا }الجمل} بضمتين جمع جمل؛ كأسد وأسد، والجمل مثل أسد وأسد. وعن أبي السمال }الجمل} بفتح الجيم وسكون الميم، تخفيف }جمل}. وسم الخياط: ثقب الإبرة؛ عن ابن عباس وغيره. وكل ثقب لطيف في البدن يسمى سما وسماه وجمعه سموم. وجمع السم القاتل سمام. وقرأ ابن سيرين }في سُم} بضم السين. والخياط: ما يخاط به؛ يقال: خياط ومخيط؛ مثل إزار ومئزر وقناع ومقنع. و}المهاد} الفراش. و}غواش} جمع غاشية، أي نيران تغشاهم. }وكذلك نجزي الظالمين} يعني الكفار. والله أعلم.
الآية رقم ( 42 )
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}
قوله تعالى{لا نكلف نفسا إلا وسعها} كلام معترض، أي والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون، ومعنى }لا نكلف نفسا إلا وسعها} أي أنه لم يكلف أحدا من نفقات الزوجات إلا ما وجد وتمكن منه، دون ما لا تناله يده، ولم يرد إثبات الاستطاعة قبل الفعل؛ قال ابن الطيب. نظيره }لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها}الطلاق: 7].
الآية رقم ( 43 )
{ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}
ذكر الله عز وجل فيما ينعم به على أهل الجنة نزع الغل من صدورهم. والنزع: الاستخراج. والغل: الحقد الكامن في الصدر. والجمع غلال. أي أذهبنا في الجنة ما كان في قلوبهم من الغل في الدنيا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الغل على باب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين). وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم{ونزعنا ما في صدورهم من غل}. وقيل: نزع الغل في الجنة ألا يحسد بعضهم بعضا في تفاضل منازلهم. وقد قيل: إن ذلك يكون عن شراب الجنة، ولهذا قال{وسقاهم ربهم شرابا طهورا}الإنسان: 21] أي يطهر الأوضار من الصدور؛ على ما يأتي بيانه في سورة }الإنسان} و}الزمر} إن شاء الله تعالى. }وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا} أي لهذا الثواب؛ بأن أرشدنا وخلق لنا الهداية. وهذا رد على القدرية. }وما كنا} قراءة ابن عامر بإسقاط الواو. والباقون بإثباتها. }لنهتدي} لام كي. }لولا أن هدانا الله} في موضع رفع. }ونودوا} أصله. نوديوا }أن} في موضع نصب مخففة من الثقيلة؛ أي بأنه }تلكم الجنة} وقد تكون تفسيرا لما نودوا به؛ لأن النداء قول؛ فلا يكون لها موضع. أي قيل لهم{تلكم الجنة} لأنهم وعدوا بها في الدنيا؛ أي قيل لهم: هذه تلكم الجنة التي وعدتم بها، أو يقال ذلك قبل الدخول حين عاينوها من بعد. وقيل{تلكم} بمعنى هذه. ومعنى }أورثتموها بما كنتم تعملون} أي ورثتم منازلها بعملكم، ودخولكم إياها برحمة الله وفضله. كما قال{ذلك الفضل من الله}النساء: 70]. وقال{فسيدخلهم في رحمة منه وفضل}النساء: 175]. وفي صحيح مسلم: (لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته منه وفضل). وفي غير الصحيح: ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنار منزل؛ فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها، فقيل لهم: هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله. ثم يقال: يأهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون؛ فتقسم بين أهل الجنة منازلهم.
قلت: وفي صحيح مسلم: (لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه في النار يهوديا أو نصرانيا). فهذا أيضا ميراث؛ نعم بفضله من شاء وعذب بعدله من شاء. وبالجملة فالجنة ومنازلها لا تنال إلا برحمته؛ فإذا دخلوها بأعمالهم فقد ورثوها برحمته، ودخلوها برحمته؛ إذ أعمالهم رحمة منه لهم وتفضل عليهم. وقرئ }أورثتموها} من غير إدغام. وقرئ بإدغام التاء في الثاء.
الآية رقم ( 44 )
{ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين}
قوله تعالى{ونادى أصحاب الجنة} هذا سؤال تقريع وتعيير. }أن قد وجدنا} مثل }أن تلكم الجنة} أي أنه قد وجدنا. وقيل: هو نفس النداء. }فأذن مؤذن بينهم} أي نادى وصوت؛ يعني من الملائكة. }بينهم} ظرف؛ كما تقول: أعلم وسطهم. وقرأ الأعمش والكسائي{نعم} بكسر العين وتجوز على هذه اللغة بإسكان العين. قال مكي: من قال }نعم} بكسر العين أراد أن يفرق بين }نعم} التي هي جواب وبين }نعم} التي هي اسم للإبل والبقر والغنم. وقد روي عن عمر إنكار }نعم} بفتح العين في الجواب، وقال: قل نعم. ونعم ونعم، لغتان بمعنى العدة والتصديق. فالعدة إذا استفهمت عن موجب نحو قولك: أيقوم زيد؟ فيقول نعم. والتصديق إذا أخبرت عما وقع، تقول: قد كان كذا وكذا، فيقول نعم. فإذا استفهمت عن منفي فالجواب بلى نحو قولك ألم أكرمك، فيقول بلى. فنعم لجواب الاستفهام الداخل على الإيجاب كما في هذه الآية. وبلى، لجواب الاستفهام الداخل على النفي؛ كما قال تعالى{ألست بربكم قالوا بلى}الأعراف: 172]. وقرأ البزي وابن عامر وحمزة والكسائي }أن لعنة الله} وهو الأصل. وقرأ الباقون بتخفيف }أن} ورفع اللعنة على الابتداء. فـ }أن} في موضع نصب على القراءتين على إسقاط الخافض. ويجوز في المخففة ألا يكون لها موضع من الإعراب، وتكون مفسرة كما تقوم. وحكي عن الأعمش أنه قرأ }إن لعنة الله} بكسر الهمزة؛ فهذا على إضمار القول كما قرأ الكوفيون }فناداه الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله} ويروى أن طاوسا دخل على هشام بن عبدالملك فقال له: اتق الله واحذر يوم الأذان. فقال: وما يوم الأذان؟ قال: قوله تعالى{فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين} فصعق هشام. فقال طاوس: هذا ذل الصفة فكيف ذل المعاينة.
الآية رقم ( 45 )
{الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون}
قوله تعالى{الذين يصدون عن سبيل الله} في موضع خفض لـ }ظالمين} على النعت. ويجوز الرفع والنصب على إضمارهم أو أعني. أي الذين كانوا يصدون في الدنيا الناس عن الإسلام. فهو من الصد الذي هو المنع. أو يصدون بأنفسهم عن سبيل الله أي يعرضون. وهذا من الصدود. }ويبغونها عوجا} يطلبون اعوجاجها ويذمونها فلا يؤمنون بها. وقد مضى هذا المعنى. }وهم بالآخرة كافرون} أي وكانوا بها كافرين، فحذف وهو كثير في الكلام.
الآية رقم ( 46 )
{وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون}
قوله تعالى{وبينهما حجاب} أي بين النار والجنة - لأنه جرى ذكرهما - حاجز؛ أي سور. وهو السور الذي ذكره الله في قوله{فضرب بينهم بسور}الحديد: 13]. }وعلى الأعراف رجال} أي على أعراف السور؛ وهي شرفه. ومنه عرف الفرس وعرف الديك. روى عبدالله بن أبي يزيد عن ابن عباس أنه قال: الأعراف الشيء المشرف. وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: الأعراف سور له عرف كعرف الديك. والأعراف في اللغة: المكان المشرف؛ جمع عرف. قال يحيى بن آدم: سألت الكسائي عن واحد الأعراف فسكت، فقلت: حدثنا إسرائيل عن جابر عن مجاهد عن ابن عباس قال: الأعراف سور له عرف كعرف الديك. فقال: نعم والله، واحده يعني، وجماعته أعراف، يا غلام، هات القرطاس؛ فكتبه. وهذا الكلام خرج مخرج المدح؛ كما قال فيه{رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله}النور: 37] وقد تكلم العلماء في أصحاب الأعراف على عشرة أقوال: فقال عبدالله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وابن عباس والشعبي والضحاك وابن جبير: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. قال ابن عطية: وفي مسند خيثمة بن سليمان (في آخر الجزء الخامس عشر) حديث عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار]. قيل: يا رسول الله، فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال: (أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون). وقال مجاهد: هم قوم صالحون فقهاء علماء. وقيل: هم الشهداء؛ ذكره المهدوي. وقال القشيري: وقيل هم فضلاء المؤمنين والشهداء، فرغوا من شغل أنفسهم، وتفرغوا لمطالعة حال الناس؛ فإذا رأوا أصحاب النار تعوذوا بالله أن يردوا إلى النار، فإن في قدرة الله كل شيء، وخلاف المعلوم مقدور. فإذا رأوا أهل الجنة وهم لم يدخلوها بعد يرجون لهم دخولها. وقال شرحبيل بن سعد: هم المستشهدون في سبيل الله الذين خرجوا عصاة لآبائهم. وذكر الطبري في ذلك حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه تعادل عقوقهم واستشهادهم. وذكر الثعلبي بإسناده عن ابن عباس في قول عز وجل{وعلى الأعراف رجال} قال: الأعراف موضع عال على الصراط، عليه العباس وحمزة وعلي بن أبي طالب وجعفر ذو الجناحين، رضي الله عنهم، يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه. وحكى الزهراوي أنهم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم، وهم في كل أمة. واختار هذا القول النحاس، وقال: وهو من أحسن ما قيل فيه؛ فهم على السور بين الجنة والنار. وقال الزجاج: هم قوم أنبياء. وقيل: هم قوم كانت لهم صغائر لم تكفر عنهم بالآلام والمصائب في الدنيا وليست لهم كبائر فيحبسون عن الجنة لينالهم بذلك غم فيقع في مقابلة صغائرهم. وتمنى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف؛ لأن مذهبه أنهم مذنبون. وقيل: هم أولاد الزنى؛ ذكره القشيري عن ابن عباس. وقيل: هم ملائكة موكلون بهذا السور، يميزون الكافرين من المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار؛ ذكره أبو مجلز. فقيل له: لا يقال للملائكة رجال؟ فقال: إنهم ذكور وليسوا بإناث، فلا يبعد إيقاع لفظ الرجال عليهم؛ كما أوقع على الجن في قوله{وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن}الجن: 6]. فهؤلاء الملائكة يعرفون المؤمنين بعلاماتهم والكفار بعلاماتهم؛ فيبشرون المؤمنين قبل دخولهم الجنة وهم لم يدخلوها بعد فيطمعون فيها. وإذا رأوا أهل النار دعوا لأنفسهم بالسلامة من العذاب. قال ابن عطية: واللازم من الآية أن على الأعراف رجالا من أهل الجنة يتأخر دخولهم ويقع لهم ما وصف من الاعتبار في الفريقين. و}يعرفون كلا بسيماهم} أي بعلاماتهم، وهي بياض الوجوه وحسنها في أهل الجنة، وسوادها وقبحها في أهل النار، إلى غير ذلك من معرفة حيز هؤلاء وحيز هؤلاء.
قلت: فوقف عن التعيين لاضطراب الأثر والتفصيل، والله بحقائق الأمور عليم. ثم قيل: الأعراف جمع عرف وهو كل عال مرتفع؛ لأنه بظهوره أعرف من المنخفض. قال ابن عباس: الأعراف شرف الصراط. وقيل: هو جبل أحد يوضع هناك. قال ابن عطية: وذكر الزهراوي حديثا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدا جبل يحبنا ونحبه وإنه يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار يحبس عليه أقوام يعرفون كلا بسيماهم هم إن شاء الله من أهل الجنة). وذكر حديثا آخر عن صفوان بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدا على ركن من أركان الجنة).
قلت: وذكر أبو عمر عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحد جبل يحبنا ونحبه وإنه لعلى ترعة من ترع الجنة).
قوله تعالى{ونادوا أصحاب الجنة} أي نادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة. }أن سلام عليكم} أي قالوا لهم سلام عليكم. وقيل: المعنى سلمتم من العقوبة. }لم يدخلوها وهم يطمعون} أي لم يدخل الجنة أصحاب الأعراف، أي لم يدخلوها بعد. }وهم يطمعون} على هذا التأويل بمعنى وهم يعلمون أنهم يدخلونها. وذلك معروف في اللغة أن يكون طمع بمعنى علم؛ ذكره النحاس. وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما، أن المراد أصحاب الأعراف. وقال أبو مجلز: هم أهل الجنة، أي قال لهم أصحاب الأعراف سلام عليكم وأهل الجنة لم يدخلوا الجنة بعد وهم يطمعون في دخولها للمؤمنين المارين على أصحاب الأعراف. والوقف على قوله{سلام عليكم}. وعلى قوله{لم يدخلوها}. ثم يبتدئ }وهم يطمعون} على معنى وهم يطمعون في دخولها. ويجوز أن يكون }وهم يطمعون} حالا، ويكون المعنى: لم يدخلها المؤمنون المارون على أصحاب الأعراف طامعين، وإنما دخلوها غير طامعين في دخولها؛ فلا يوقف على }لم يدخلوها}.
الآية رقم ( 47 )
{وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين}
قوله تعالى{وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار} أي جهة اللقاء وهي جهة المقابلة. ولم يأت مصدر على تفعال غير حرفين: تلقاء وتبيان. والباقي بالفتح؛ مثل تسيار وتهمام وتذكار. وأما الاسم بالكسر فيه فكثير؛ مثل تقصار وتمثال. }قالوا} أي قال أصحاب الأعراف. }ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} سألوا الله ألا يجعلهم معهم، وقد علموا أنه لا يجعلهم معهم. فهذا على سبيل التذلل؛ كما يقول أهل الجنة{ربنا أتمم لنا نورنا}التحريم: 8] ويقولون: الحمد لله. على سبيل الشكر لله عز وجل. ولهم في ذلك لذة.
الآية رقم ( 48 : 49 )
{ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون، أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون}
قوله تعالى{ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم} أي من أهل النار. }قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون} أي للدنيا واستكباركم عن الإيمان. }أهؤلاء الذين} إشارة إلى قوم من المؤمنين الفقراء؛ كبلال وسلمان وخباب وغيرهم. }أقسمتم} في الدنيا. }لا ينالهم الله} في الآخرة. }برحمة} يوبخونهم بذلك. وزيدوا غما وحسرة بأن قالوا لهم }ادخلوا الجنة}. وقرأ عكرمة }دخلوا الجنة} بغير ألف والدال مفتوحة. وقرأ طلحة بن مصرف }أدخِلوا الجنة} بكسر الخاء على أنه فعل ماض.
ودلت الآية على أن أصحاب الأعراف ملائكة أو أنبياء؛ فإن قولهم ذلك إخبار عن الله تعالى ومن جعل أصحاب الأعراف المذنبين كان آخر قولهم لأصحاب النار }وما كنتم تستكبرون} ويكون }أهؤلاء الذين} إلى آخر الآية من قول الله تعالى لأهل النار توبيخا لهم على ما كان من قولهم في الدنيا. وروي عن ابن عباس، والأول عن الحسن. وقيل: هو من كلام الملائكة الموكلين بأصحاب الأعراف؛ فإن أهل النار يحلفون أن أصحاب الأعراف يدخلون معهم النار فتقول الملائكة لأصحاب الأعراف{ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون}
الآية ر قم ( 50 )
{ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين}
قوله تعالى{ونادى} قيل: إذا صار أهل الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار فقالوا: يا ربنا إن لنا قرابات في الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم. وأهل الجنة لا يعرفونهم لسواد وجوههم، فيقولون{أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله} فبين أن ابن آدم لا يستغني عن الطعام والشراب وإن كان في العذاب. }قالوا إن الله حرمهما على الكافرين} يعني طعام الجنة وشرابها.
والإفاضة التوسعة؛ يقال: أفاض عليه نعمه.
في هذه الآية دليل على أن سقي الماء من أفضل الأعمال. وقد سئل ابن عباس: أي الصدقة أفضل؟ فقال: الماء، ألم تروا إلى أهل النار حين استغاثوا بأهل الجنة }أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله}؟. وروى أبو داود أن سعدا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الصدقة أعجب إليك؟ قال: (الماء). وفي رواية: فحفر بئرا فقال: (هذه لأم سعد). وعن أنس قال قال سعد: يا رسول الله، إن أم سعد كانت تحب الصدقة، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: (نعم وعليك بالماء). وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن عبادة أن يسقي عنها الماء. فدل على أن سقي الماء من أعظم القربات عند الله تعالى. وقد قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء. وقد غفر الله ذنوب الذي سقى الكلب، فكيف بمن سقى رجلا مؤمنا موحدا وأحياه. روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينا رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج فإذا كلب يأكل الثرى من العطش فقال لقد بلغ هذا الكلب مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له). قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجرا؟ قال: (في كل ذات كبد رطبة أجر}. وعكس هذا ما رواه مسلم عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض). وفي حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم (ومن سقى مسلما شربة من ماء حيث يوجد الماء فكأنما أعتق رقبة ومن سقى مسلما شربة من ماء حيث لا يوجد الماء فكأنما أحياها). خرجه ابن ماجة في السنن.
وقد استدل بهذه الآية من قال: إن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه، وأن له منعه ممن أراده؛ لأن معنى قول أهل الجنة{إن الله حرمهما على الكافرين} لا حق لكم فيها. وقد بوب البخاري رحمه الله على هذا المعنى: (1) وأدخل في الباب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لأذودن رجالا عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض). قال المهلب: لا خلاف أن صاحب الحوض أحق بمائه؛ لقوله عليه السلام: (لأذودن رجالا عن حوضي).
الآية رقم ( 51 )
{الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون}
قوله تعالى{الذين} في موضع خفض نعت للكافرين. وقد يكون رفعا ونصبا بإضمار. قيل: هو من قول أهل الجنة. }فاليوم ننساهم} أي نتركهم في النار. }كما نسوا لقاء يومهم هذا} أي تركوا العمل به وكذبوا به. و}ما} مصدرية، أي كنسيهم. }وما كانوا بآياتنا يجحدون} عطف عليه، أي وجحدهم.
الآية رقم ( 52 )
{ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون}
قوله تعالى{ولقد جئناهم بكتاب} يعني القرآن. }فصلناه} أي بيناه حتى يعرفه من تدبره. وقيل{فصلناه} أنزلناه متفرقا. }على علم} منا به، لم يقع فيه سهو ولا غلط. }هدى ورحمة} قال الزجاج: أي هاديا وذا رحمة، فجعله حالا من الهاء التي في }فصلناه}. قال الزجاج: ويجوز هدى ورحمة، بمعنى هو هدى ورحمة. وقيل: يجوز هدى ورحمة بالخفض على البدل من كتاب. وقال الكسائي والفراء: ويجوز هدى ورحمة بالخفض على النعت لكتاب. قال الفراء: مثل }وهذا كتاب أنزلناه مبارك}الأنعام: 155]. }لقوم يؤمنون} خص المؤمنون لأنهم المنتفعون به.
الآية رقم ( 53 )
{هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون}
قوله تعالى{هل ينظرون إلا تأويله} بالهمز، من آل. وأهل المدينة يخففون الهمزة. والنظر: الانتظار، أي هل ينتظرون إلا ما وعدوا به في القرآن من العقاب والحساب. وقيل{ينظرون} من النظر إلى يوم القيامة. فالكناية في }تأويله} ترجع إلى الكتاب. وعاقبة الكتاب ما وعد الله فيه من البعث والحساب. وقال مجاهد{تأويله} جزاؤه، أي جزاء تكذيبهم بالكتاب. قال قتادة{تأويله} عاقبته. والمعنى متقارب. }يوم يأتي تأويله} أي تبدو عواقبه يوم القيامة. و}يوم} منصوب بـ }يقول}، أي يقول الذين نسوه من قبل يوم يأتي تأويله. }قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء} استفهام فيه معنى التمني. }فيشفعوا} نصب لأنه جواب الاستفهام. }لنا أو نرد} قال الفراء: المعنى أو هل نرد }فنعمل غير الذي كنا نعمل} قال الزجاج: نرد عطف على المعنى، أي هل يشفع لنا أحد أو نرد. وقرأ ابن إسحاق }أو نرد فنعمل} بالنصب فيهما. والمعنى إلا أن نرد؛ كما قال:
فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
وقرأ الحسن }أو نرد فنعمل} برفعهما جميعا. }قد خسروا أنفسهم} أي فلم ينتفعوا بها، وكل من لم ينتفع بنفسه فقد خسرها. وقيل: خسروا النعم وحظ أنفسهم منها. }وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي بطل ما كانوا يقولون من أن مع الله إلها آخر.
الآية رقم ( 54 )
{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}
قوله تعالى{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام} بين أنه المنفرد بقدرة الإيجاد، فهو الذي يجب أن يعبد. وأصل }ستة} سدسة، فأرادوا إدغام الدال في السين فالتقيا عند مخرج التاء فغلبت عليهما. وإن شئت قلت: أبدل من إحدى السينين تاء وأدغم في الدال؛ لأنك تقول في تصغيرها: سديسة، وفي الجمع أسداس، والجمع والتصغير يردان الأسماء إلى أصولها. ويقولون: جاء فلان سادسا وسادتا وساتا؛ فمن قال: سادتا أيدل من السين تاء. واليوم: من طلوع الشمس إلى غروبها. فإن لم يكن شمس فلا يوم؛ قال القشيري. وقال: ومعنى (في ستة أيام) أي من أيام الآخرة، كل يوم ألف سنة؛ لتفخيم خلق السماوات والأرض. وقيل: من أيام الدنيا. قال مجاهد وغيره: أولها الأحد وآخرها الجمعة. وذكر هذه المدة ولو أراد خلقها في لحظة لفعل؛ إذ هو القادر على أن يقول لها كوني فتكون. ولكنه أراد أن يعلم العباد الرفق والتثبت في الأمور، ولتظهر قدرته للملائكة شيئا بعد شيء. وهذا عند من يقول: خلق الملائكة قبل خلق السماوات والأرض. وحكمة أخرى - خلقها في ستة أيام لأن لكل شيء عنده أجلا. وبين بهذا ترك معاجلة العصاة بالعقاب؛ لأن لكل شيء عنده أجلا. وهذا كقول{ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب. فاصبر على ما يقولون}ق: 38، 39]. بعد أن قال{وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا}ق: 36].
قوله تعالى{ثم استوى على العرش} هذه مسألة الاستواء؛ وللعلماء فيها كلام وإجراء. وقد بينا أقوال العلماء فيها في الكتاب(2) وذكرنا فيههناك أربعة عشر قولا. والأكثر من المتقدمين والمتأخرين أنه إذا وجب تنزيه الباري سبحانه عن الجهة والتحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدمين وقادتهم من المتأخرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة، فليس بجهة فوق عندهم؛ لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون للمتحيز، والتغير والحدوث. هذا قول المتكلمين. وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله. ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة. وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته. قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم - يعني في اللغة - والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة. وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها. وهذا القدر كاف، ومن أراد زيادة عليه فليقف عليه في موضعه من كتب العلماء. والاستواء في كلام العرب هو العلو والاستقرار. قال الجوهري: واستوى من اعوجاج، واستوى على ظهر دابته؛ أي استقر. واستوى إلى السماء أي قصد. واستوى أي استولى وظهر. قال:
قد استوى بِشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
واستوى الرجل أي انتهى شبابه. واستوى الشيء إذا اعتدل. وحكى أبو عمر بن عبدالبر عن أبي عبيدة في قوله تعالى{الرحمن على العرش استوى}طه: 5] قال: علا. وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد حلق النجم اليماني فاستوى
أي علا وارتفع.
قلت: فعلو الله تعالى وارتفاعه عبارة عن علو مجده وصفاته وملكوته. أي ليس فوقه فيما يجب له من معاني الجلال أحد، ولا معه من يكون العلو مشتركا بينه وبينه؛ لكنه العلي بالإطلاق سبحانه.
قوله تعالى{على العرش} لفظ مشترك يطلق على أكثر من واحد. قال الجوهري وغيره: العرش سرير الملك. وفي التنزيل }نكروا لها عرشها}النمل: 41]، }ورفع أبويه على العرش}يوسف: 100]. والعرش: سقف البيت. وعرش القدم: ما نتأ في ظهرها وفيه الأصابع. وعرش السماك: أربعة كواكب صغار أسفل من العواء، يقال: إنها عجز الأسد. وعرش البئر: طيها بالخشب، بعد أن يطوى أسفلها بالحجارة قدر قامة؛ فذلك الخشب هو العرش، والجمع عروش. والعرش اسم لمكة. والعرش الملك والسلطان. يقال: ثل عرش فلان إذا ذهب ملكه وسلطانه وعزه. قال زهير:
تداركتما عبسا وقد ثل عرشها وذبيان إذ ذلت بأقدامها النعل
وقد يؤول العرش في الآية بمعنى الملك، أي ما استوى الملك إلا له جل وعز. وهو قول حسن وفيه نظر، وقد بيناه في جملة الأقوال في كتابنا. والحمد لله.
قوله تعالى{يغشي الليل النهار} أي يجعله كالغشاء، أي يذهب نور النهار ليتم قوام الحياة في الدنيا بمجيء الليل. فالليل للسكون، والنهار للمعاش. وقرئ }يغشى} بالتشديد؛ ومثله في }الرعد}. وهي قراءة أبي بكر عن عاصم وحمزة والكسائي. وخفف الباقون. وهما لغتان أغشى وغشى. وقد أجمعوا على }فغشاها ما غشى}النجم: 54] مشددا. وأجمعوا على }فأغشيناهم}يس: 9] فالقراءتان متساويتان. وفي التشديد معنى التكرير والتكثير. والتغشية والإغشاء: إلباس الشيء الشيء. ولم يذكر في هذه الآية دخول النهار على الليل، فاكتفى بأحدهما عن الآخر، مثل }سرابيل تقيكم الحر}النحل: 81]. }بيدك الخير}آل عمران: 26]. وقرأ حميد بن قيس }يغشي الليل النهار} ومعناه أن النهار يغشي الليل.
قوله تعالى{يطلبه حثيثا} أي يطلبه دائما من غير فتور. و}يغشي الليل النهار} في موضع نصب على الحال. والتقدير: استوى على العرش مغشيا الليل النهار. وكذا }يطلبه حثيثا} حال من الليل؛ أي يغشي الليل النهار طالبا له. ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة ليست بحال. }حثيثا} بدل من طالب المقدر أو نعت له، أو نعت لمصدر محذوف؛ أي يطلبه طلبا سريعا. والحث: الإعجال والسرعة. وولى حثيثا أي مسرعا. }والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} قال الأخفش: هي معطوفة على السماوات؛ أي وخلق الشمس. وروي عن عبدالله بن عامر بالرفع فيها كلها على الابتداء والخبر.
قوله تعالى{ألا له الخلق والأمر} صدق الله في خبره، فله الخلق وله الأمر، خلقهم وأمرهم بما أحب. وهذا الأمر يقتضي النهي. قال ابن عيينة: فرق بين الخلق والأمر؛ فمن جمع بينهما فقد كفر. فالخلق المخلوق، والأمر كلامه الذي هو غير مخلوق وهو قوله{كن}. }إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}يس: 82]. وفي تفرقته بين الخلق والأمر دليل بين على فساد قول من قال بخلق القرآن؛ إذ لو كان كلامه الذي هو أمر مخلوقا لكان قد قال: ألا له الخلق والخلق. وذلك عي من الكلام ومستهجن ومستغث. والله يتعالى عن التكلم بما لا فائدة فيه. ويدل عليه قوله سبحانه. }ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره}الروم: 25]. }والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره}الأعراف: 54]. فأخبر سبحانه أن المخلوقات قائمة بأمره؛ فلو كان الأمر مخلوقا لافتقر إلى أمر آخر يقوم به، وذلك الأمر إلى أمر آخر إلى ما لا نهاية له. وذلك محال. فثبت أن أمره الذي هو كلامه قديم أزلي غير مخلوق؛ ليصح قيام المخلوقات به. ويدل عليه أيضا قوله تعالى{وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق}الحجر: 85]. وأخبر تعالى أنه خلقهما بالحق، يعني القول وهو قوله للمكونات{كن}. فلو كان الحق مخلوقا لما صح أن يخلق به المخلوقات؛ لأن الخلق لا يخلق بالمخلوق. يدل عليه }ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين}الصافات: 171]. }إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون}الأنبياء: 101]. }ولكن حق القول مني}السجدة: 13]. وهذا كله إشارة إلى السبق في القول في القدم، وذلك يوجب الأزل في الوجود. وهذه النكتة كافية في الرد عليهم. ولهم آيات احتجوا بها على مذهبهم، مثل قوله تعالى{ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث}الأنبياء: 2] الآية. ومثل قوله تعالى{وكان أمر الله قدرا مقدورا}الأحزاب: 38]. و}مفعولا}المزمل: 18] وما كان مثله. قال القاضي أبو بكر: معنى }ما يأتيهم من ذكر} أي من وعظ من النبي صلى الله عليه وسلم ووعد وتخويف }إلا استمعوه وهم يلعبون}؛ لأن وعظ الرسل صلوات الله عليهم وسلامه وتحذيرهم ذكر. قال الله تعالى{فذكر إنما أنت مذكر}الغاشية: 21]. ويقال: فلان في مجلس الذكر. ومعنى }وكان أمر الله قدرا مقدورا} و}مفعولا} أراد سبحانه عقابه وانتقامه من الكافرين ونصره للمؤمنين وما حكم به وقدره من أفعاله. ومن ذلك قوله تعالى{حتى إذا جاء أمرنا}هود: 40] وقال عز وجل{وما أمر فرعون برشيد}هود: 97] يعني به شأنه وأفعال وطرائقه. قال الشاعر:
لها أمرها حتى إذا ما تبوأت بأخفافها مرعى تبوأ مضجعا
وإذا تقرر هذا فاعلم أن الأمر ليس من الإرادة في شيء. والمعتزلة تقول: الأمر نفس الإرادة. وليس بصحيح، بل يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد. ألا ترى أنه أمر إبراهيم بذبح ولده ولم يرده منه، وأمر نبيه أن يصلي مع أمته خمسين صلاة، ولم يرد منه إلا خمس صلوات. وقد أراد شهادة حمزة حيث يقول{ويتخذ منكم شهداء}آل عمران: 140]. وقد نهى الكفار عن قتله ولم يأمرهم به. وهذا صحيح نفيس في بابه، فتأمله.
قوله تعالى{تبارك الله رب العالمين} }تبارك} تفاعل، من البركة وهي الكثرة والاتساع. يقال: بورك الشيء وبورك فيه؛ قال ابن عرفة. وقال الأزهري{تبارك} تعالى وتعاظم وارتفع. وقيل: إن باسمه يتبرك ويتيمن. وقد مضى في الفاتحة معنى }رب العالمين}الفاتحة، 1].
الآية رقم ( 55 )
{ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين}
قوله تعالى{ادعوا ربكم} هذا أمر بالدعاء وتعبد به. ثم قرن جل وعز بالأمر صفات تحسن معه، وهي الخشوع والاستكانة والتضرع. ومعنى }خفية} أي سرا في النفس ليبعد عن الرياء؛ وبذلك أثنى على نبيه زكريا عليه السلام إذ قال مخبرا عنه{إذ نادى ربه نداء خفيا}مريم: 3]. ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي). والشريعة مقررة أن السر فيما لم يعترض من أعمال البر أعظم أجرا من الجهر. قال الحسن بن أبي الحسن: لقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون على أن يكون سرا فيكون جهرا أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء فلا يسمع لهم صوت، إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله تعالى يقول{ادعوا ربكم تضرعا وخفية}. وذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال{إذ نادى ربه نداء خفيا}مريم: 3]. وقد استدل أصحاب أبي حنيفة بهذا على أن إخفاء }آمين} أولى من الجهر بها؛ لأنه دعاء. وقد مضى القول فيه في }الفاتحة}. وروى مسلم عن أبي موسى قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر - وفي رواية في غزاة - فجعل الناس يجهرون بالتكبير - وفي رواية فجعل رجل كلما علا ثنية قال: لا إله إلا الله - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لستم تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم). الحديث.
واختلف العلماء في رفع اليدين في الدعاء؛ فكرهه طائفة منهم جبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير. ورأى شريح رجلا رافعا يديه فقال: من تتناول بهما، لا أم لك! وقال مسروق لقوم رفعوا أيديهم: قطعها الله. واختاروا إذا دعا الله في حاجة أن يشير بأصبعه السبابة. ويقولون: ذلك الإخلاص. وكان قتادة يشير بأصبعه ولا يرفع يديه. وكره رفع الأيدي عطاء وطاوس ومجاهد وغيرهم. وروى جواز الرفع عن جماعة من الصحابة والتابعين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره البخاري. قال أبو موسى الأشعري: دعا النبي صلى الله عليه وسلم ثم رفع يديه ورأيت بياض إبطيه. ومثله عن أنس. وقال ابن عمر: رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد). وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، وهم ألف وأصحابه ثلثمائة وسبعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة مادا يديه، فجعل يهتف بربه؛ وذكر الحديث. وروى الترمذي عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه. قال: هذا حديث صحيح غريب. وروى ابن ماجة عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده أن يرفع يديه إليه فيردهما صفرا أو قال خائبتين). احتج الأولون بما رواه مسلم عن عمارة بن رويبة ورأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه فقال: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا؛ وأشار بأصبعه المسبحة. وبما روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن أنس بن مالك حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا عند الاستسقاء فإنه كان يرفعهما حتى يرى بياض إبطيه. والأول أصح طرقا وأثبت من حديث سعيد بن أبي عروبة؛ فإن سعيدا كان قد تغير عقله في آخر عمره. وقد خالفه شعبة في روايته عن قتادة عن أنس بن مالك فقال فيه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه. وقد قيل: إنه إذا نزلت بالمسلمين نازلة أن الرفع عند ذلك جميل حسن كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ويوم بدر.
قلت: والدعاء حسن كيفما تيسر، وهو المطلوب من الإنسان لإظهار موضع الفقر والحاجة إلى الله عز وجل، والتذلل له والخضوع. فإن شاء استقبل القبلة ورفع يديه فحسن، وإن شاء فلا؛ فقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حسبما ورد في الأحاديث. وقد قال تعالى{ادعوا ربكم تضرعا وخفية}الأعراف: 55]. ولم يرد صفة من رفع دين وغيرها. وقال{الذين يذكرون الله قياما وقعودا}آل عمران: 191] فمدحهم ولم يشترط حالة غير ما ذكر. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة وهو غير مستقبل القبلة.
قوله تعالى{إنه لا يحب المعتدين} يريد في الدعاء وإن كان اللفظ عاما إلى هذا هي الإشارة. والمعتدي هو المجاوز للحد ومرتكب الحظر. وقد يتفاضل بحسب ما اعتدى فيه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيكون قوم يعتدون في الدعاء). أخرجه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة. حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا سعيد الجريري عن أبي نعامة أن عبدالله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال: أي بني، سل الله الجنة وعذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيكون قوم يعتدون في الدعاء). والاعتداء في الدعاء على وجوه: منها الجهر الكثير والصياح؛ كما تقدم. ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي، أو يدعو في محال؛ ونحو هذا من الشطط. ومنها أن يدعو طالبا معصية وغير ذلك. ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة؛ فيتخير ألفاظا مفقرة وكلمات مسجعة قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معول عليها، فيجعلها شعاره ويترك ما دعا به رسوله عليه السلام. وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء، كما تقدم بيانه في }البقرة}.
الآية رقم ( 56 )
{ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين}
قوله تعالى{ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} أنه سبحانه نهى عن كل فساد قل أو كثر بعد صلاح قل أو كثر. فهو على العموم على الصحيح من الأقوال. وقال الضحاك: معناه لا تعوروا الماء المعين، ولا تقطعوا الشجر المثمر ضرارا. وقد ورد: قطع الدنانير من الفساد في الأرض. وقد قيل: تجارة الحكام من الفساد في الأرض. وقال القشيري: المراد ولا تشركوا؛ فهو نهي عن الشرك وسفك الدماء والهرج في الأرض، وأمر بلزوم الشرائع بعد إصلاحها، بعد أن أصلحها الله ببعثه الرسل، وتقرير الشرائع ووضوح ملة محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن عطية: وقائل هذه المقالة قصد إلى أكبر فساد بعد أعظم صلاح فخصه بالذكر.
قلت: وأما ما ذكره الضحاك فليس على عمومه، وإنما ذلك إذا كان فيه ضرر على المؤمن، وأما ما يعود ضرره على المشركين فذلك جائز؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عور ماء قليب بدر وقطع شجر الكافرين. وسيأتي الكلام في قطع الدنانير في }هود} إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى{وادعوه خوفا وطمعا} أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب وتخوف وتأميل لله عز وجل، حتى يكون الرجاء والخوف للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامته، وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان، قال الله تعالى{نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم}الحجر: 49،50]. فرجى وخوف. فيدعو الإنسان خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه؛ قال الله تعالى{ويدعوننا رغبا ورهبا}الأنبياء: 90]. وسيأتي القول فيه. والخوف: الانزعاج لما لا يؤمن من المضار. والطمع: توقع المحبوب؛ قال القشيري. وقال بعض أهل العلم: ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة، فإذا جاء الموت غلب الرجاء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله). صحيح أخرجه مسلم.
قوله تعالى{إن رحمة الله قريب من المحسنين} ولم يقل قريبة. ففيه سبعة أوجه: أولها أن الرحمة والرحم واحد، وهي بمعنى العفو والغفران؛ قاله الزجاج واختاره النحاس. وقال النضر بن شميل: الرحمة مصدر، وحق المصدر التذكير؛ كقوله{فمن جاءه موعظة}البقرة: 275]. وهذا قريب من قول الزجاج؛ لأن الموعظة بمعنى الوعظ. وقيل: أراد بالرحمة الإحسان؛ ولأن ما لا يكون تأنيثه حقيقيا جاز تذكيره؛ ذكره الجوهري. وقيل: أراد بالرحمة هنا المطر؛ قاله الأخفش. قال: ويجوز أن يذكر كما يذكر بعض المؤنث. وأنشد:
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
وقال أبو عبيدة: ذكر }قريب} على تذكير المكان، أي مكانا قريبا. قال علي بن سليمان: وهذا خطأ، ولو كان كما قال لكان }قريب} منصوبا في القرآن؛ كما تقول: إن زيدا قريبا منك. وقيل: ذكر على النسب؛ كأنه قال: إن رحمة الله ذات قرب؛ كما تقول: امرأة طالق وحائض. وقال الفراء: إذا كان القريب في معنى المسافة يذكر مؤنث، إن كان في معنى النسب يؤنث بلا اختلاف بينهم. تقول: هذه المرأة قريبتي، أي ذات قرابتي؛ ذكره الجوهري. وذكره غيره عن الفراء: يقال في النسب قريبة فلان، وفي غير النسب يجوز التذكير والتأنيث؛ يقال: دارك منا قريب، وفلانة منا قريب؛ قال الله تعالى{وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا}الأحزاب: 63]. وقال من احتج له: كذا كلام العرب؛ كما قال امرؤ القيس:
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
قال الزجاج: وهذا خطأ؛ لأن سبيل المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما.
الآية رقم ( 57 )
{وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون}
قوله تعالى{وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} عطف على قوله{يغشي الليل النهار}الرعد: 3]. ذكر شيئا آخر من نعمه، ودل على وحدانيته وثبوت إلاهيته. ورياح جمع كثرة وأرواح جمع قلة. وأصل ريح روح. وقد خطئ من قال في جمع القلة أرياح. }بشرا} فيه سبع قراءات: قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو }نشرا} بضم النون والشين جمع ناشر على معنى النسب، أي ذات نشر؛ فهو مثل شاهد وشهد. ويجوز أن يكون جمع نشور كرسول ورسل. يقال: ريح النشور إذا أتت من ههنا وهاهنا. والنشور بمعنى المنشور؛ كالركوب بمعنى المركوب. أي وهو الذي يرسل الرياح منشرة. وقرأ الحسن وقتادة }نشرا} بضم النون وإسكان الشين مخففا من نشر؛ كما يقال: كتب ورسل. وقرأ الأعمش وحمزة }نشرا} بفتح النون وإسكان الشين على المصدر، أعمل فيه معنى ما قبله؛ كأنه قال: وهو الذي ينشر الرياح نشرا. نشرت الشيء فانتشر، فكأنها كانت مطوية فنشرت عند الهبوب. ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال من الرياح؛ كأنه قال يرسل الرياح منشرة، أي محيية؛ من أنشر الله الميت فنشر، كما تقول أتانا ركضا، أي راكضا. وقد قيل: إن نشرا (بالفتح) من النشر الذي هو خلاف الطي على ما ذكرنا. كأن الريح في سكونها كالمطوية ثم ترسل من طيها ذلك فتصير كالمنفتحة. وقد فسره أبو عبيد بمعنى متفرقة في وجوهها، على معنى ينشرها ههنا وهاهنا. وقرأ عاصم{بشرا} بالباء وإسكان الشين والتنوين جمع بشير، أي الرياح تبشر بالمطر. وشاهده قوله{ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات}. وأصل الشين الضم، لكن سكنت تخفيفا كرسل ورسل. وروي عنه }بشرا} بفتح الباء. قال النحاس: ويقرأ }بشرا} و}بشر مصدر بشره يبشره بمعنى بشره} فهذه خمس قراءات. وقرأ محمد اليماني }بشرى} على وزن حبلى. وقراءة سابعة }بشرى} بضم الباء والشين.
قوله تعالى{حتى إذا أقلت سحابا ثقالا} السحاب يذكر ويؤنث. وكذا كل جمع بينه وبين واحدته هاء. ويجوز نعته بواحد فتقول: سحاب ثقيل وثقيلة. والمعنى: حملت الريح سحابا ثقالا بالماء، أي أثقلت بحمله. يقال: أقل فلان الشيء أي حمله. }سقناه} أي السحاب. }لبلد ميت} أي ليس فيه نبات. يقال: سقته لبلد كذا وإلى بلد كذا. وقيل: لأجل بلد ميت؛ فاللام لام أجل. والبلد كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون. والبلدة والبلد واحد البلاد والبلدان. والبلد الأثر وجمعه أبلاد. قال الشاعر:
من بعد ما شمل البلى أبلادها
والبلد: أدحي النعام. يقال: هو أذل من بيضة البلد، أي من بيضة النعام التي يتركها. والبلدة الأرض؛ يقال: هذه بلدتنا كما يقال بحرتنا. والبلدة من منازل القمر، وهي ستة أنجم من القوس تنزلها الشمس في أقصر يوم في السنة. والبلدة الصدر؛ يقال: فلان واسع البلدة أي واسع قال الشاعر:
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة قليل بها الأصوات إلا بغامها
يقول: بركت الناقة فألقت صدرها على الأرض. والبلدة (بفتح الباء وضمها): نقاوة ما بين الحاجبين؛ فهما من الألفاظ المشتركة. }فأنزلنا به الماء} أي بالبلد. وقيل: أنزلنا بالسحاب الماء؛ لأن السحاب آلة لإنزال الماء. ويحتمل أن يكون المعنى فأنزلنا منه الماء؛ كقول{يشرب بها عباد الله}الإنسان: 6] أي منها. }فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون} الكاف في موضع نصب. أي مثل ذلك الإخراج نحيي الموتى. وخرج البيهقي وغيره عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله، كيف يعيد الله الخلق، وما آية ذلك في خلقه؟ قال: (أما مررت بوادي قومك جدبا ثم مررت به يهتز خضرا) قال: نعم، قال: (فتلك آية الله في خلقه). وقيل: وجه التشبيه أن إحياءهم من قبورهم يكون بمطر يبعثه الله على قبورهم، فتنشق عنهم القبور، ثم تعود إليهم الأرواح. وفي صحيح مسلم من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم (ثم يرسل الله - أو قال ينزل الله - مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ثم يقال يا أيها الناس هلموا إلى ربكم وقفوهم إنهم مسؤولون). وذكر الحديث. وقد ذكرناه بكماله في كتاب (3) والحمد لله. فدل على البعث والنشور؛ وإلى الله ترجع الأمور.
الآية رقم ( 58 )
{والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون}
قوله تعالى{والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} أي التربة الطيبة. والخبيث الذي في تربته حجارة أو شوك؛ عن الحسن. وقيل: معناه التشبيه، شبه تعالى السريع الفهم بالبلد الطيب، والبليد بالذي خبث؛ عن النحاس. وقيل: هذا مثل للقلوب؛ فقلب يقبل الوعظ والذكرى، وقلب فاسق ينبو عن ذلك؛ قال الحسن أيضا. وقال قتادة: مثل للمؤمن يعمل محتسبا متطوعا، والمنافق غير محتسب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء). }نكدا} نصب على الحال، وهو العسر الممتنع من إعطاء الخير. وهذا تمثيل. قال مجاهد: يعني أن في بني آدم الطيب والخبيث. وقرأ طلحة }إلا نكدا} حذف الكسرة لثقلها. وقرأ ابن القعقاع }نكدا} بفتح الكاف، فهو مصدر بمعنى ذا نكد. كما قال:
فإنما هي إقبال وإدبار
وقيل{نكدا} بنصب الكاف وخفضها بمعنى؛ كالدنف والدنف، لغتان. }كذلك نصرف الآيات} أي كما صرفنا من الآيات، وهي الحجج والدلالات، في إبطال الشرك؛ كذلك نصرف الآيات في كل ما يحتاج إليه الناس. }لقوم يشكرون} وخص الشاكرين لأنهم المنتفعون بذلك.
الآية رقم ( 59 )
{لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم}
قوله تعالى{لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله} لما بين أنه الخالق القادر على الكمال ذكر أقاصيص الأمم وما فيها من تحذير الكفار. واللام في }لقد} للتأكيد المنبه على القسم. والفاء دالة على أن الثاني بعد الأول. }يا قوم} نداء مضاف. ويجوز }يا قومي} على الأصل. ونوح أول الرسل إلى الأرض بعد آدم عليهما السلام بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات. قال النحاس: وانصرف لأنه على ثلاثة أحرف. وقد يجوز أن يشتق من ناح ينوح؛ وقد تقدم. قال ابن العربي: ومن قال إن إدريس كان قبله من المؤرخين فقد وهم. والدليل على صحة وهمه الحديث الصحيح في الإسراء حين لقي النبي صلى الله عليه وسلم آدم وإدريس فقال له آدم: (مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح). وقال له إدريس: (مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح). فلو كان إدريس أبا لنوح لقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح. فلما قال له والأخ الصالح دل ذلك على أنه يجتمع معه في نوح، صلوات الله عليهم أجمعين. ولا كلام لمنصف بعد هذا. قال القاضي عياض: وجاء جواب الآباء ههنا كنوح وإبراهيم وآدم (مرحبا بالابن الصالح). وقال عن إدريس (بالأخ الصالح) كما ذكر عن موسى وعيسى ويوسف وهارون ويحيى ممن ليس بأب باتفاق للنبي صلى الله عليه وسلم. وقال المازري: قد ذكر المؤرخون أن إدريس جد نوح عليهما السلام. فإن قام الدليل على أن إدريس بعث أيضا لم يصح قول النسابين أنه قبل نوح؛ لما أخبر عليه السلام من قول آدم أن نوحا أول رسول بعث، لان لم يقم دليل جاز ما قالوا: وصح أن يحمل أن إدريس كان نبيا غير مرسل. قال القاضي عياض: قد يجمع بين هذا بأن يقال: اختص بعث نوح لأهل الأرض - كما قال في الحديث - كافة كنبينا عليه السلام. ويكون إدريس لقومه كموسى وهود وصالح ولوط وغيرهم. وقد استدل بعضهم على هذا بقوله تعالى{وإن إلياس لمن المرسلين. إذ قال لقومه ألا تتقون}الصافات: 123، 124]. وقد قيل: إن إلياس هو إدريس. وقد قرئ }سلام على إدراسين}. قال القاضي عياض: وقد رأيت أبا الحسن بن بطال ذهب إلى أن آدم ليس برسول؛ ليسلم من هذا الاعتراض. وحديث أبي ذر الطويل يدل على أن آدم وإدريس رسولان. قال ابن عطية: ومجمع ذلك بأن تكون بعثة نوح مشهورة لإصلاح الناس وحملهم بالعذاب والإهلاك على الإيمان؛ فالمراد أنه أول نبي بعث على هذه الصفة. والله أعلم.
وروي عن ابن عباس أن نوحا عليه السلام بعث وهو ابن أربعين سنة. قال الكلبي: بعد آدم بثمانمائة سنة. وقال ابن عباس: وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما؛ كما أخبر التنزيل. ثم عاش بعد الطوفان ستين سنة. حتى كثر الناس وفشوا. وقال وهب: بعث نوح وهو ابن خمسين سنة. وقال عون بن شداد: بعث نوح وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة. وفي كثير من كتب الحديث: الترمذي وغيره أن جميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه السلام. وذكر النقاش عن سليمان بن أرقم عن الزهري: أن العرب وفارس والروم وأهل الشام وأهل اليمن من ولد سام بن نوح. والسند والهند والزنج والحبشة والزط والنوبة، وكل جلد أسود من ولد حام بن نوح. والترك وبربر ووراء الصين ويأجوج ومأجوج والصقالبة كلهم من ولد يافث بن نوح. والخلق كلهم ذرية نوح.
قوله تعالى{ما لكم من إله غيره} برفع }غيره} قراءة نافع وأبي عمرو وعاصم وحمزة. أي ما لكم إله غيره. نعت على الموضع. وقيل{غير} بمعنى إلا؛ أي ما لكم من إله إلا الله. قال أبو عمرو: ما أعرف الجر ولا النصب. وقرأ الكسائي بالخفض على الموضع. ويجوز النصب على الاستثناء، وليس بكثير؛ غير أن الكسائي والفراء أجازا نصب }غير} في كل موضع يحسن فيه }إلا} تم الكلام أو لم يتم. فأجازا: ما جاءني غيرك. قال الفراء: هي لغة بعض بني أسد وقضاعة. وأنشد:
لم يمنع الشرب منها غير أن هتفت حمامة في سحوق ذات أو قال
قال الكسائي: ولا يجوز جاءني غيرك، في الإيجاب؛ لأن إلا لا تقع ههنا. قال النحاس: لا يجوز عند البصريين نصب }غير} إذا لم يتم الكلام. وذلك عندهم من أقبح اللحن.
الآية رقم ( 60 : 61 : 62 )
{قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين، قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون}
الملأ: أشراف القوم ورؤساهم. وقد تقدم بيانه في }البقرة}. والضلال والضلالة: العدول عن طريق الحق، والذهاب عنه. أي إنا لنراك في دعائنا إلى إله واحد في ضلال عن الحق. }أبلغكم} بالتشديد من التبليغ، وبالتخفيف من الإبلاغ. وقيل: هما بمعنى واحد لغتان؛ مثل كرمه وأكرمه. }وأنصح لكم} النصح: إخلاص النية من شوائب الفساد في المعاملة، بخلاف الغش. يقال: نصحته ونصحت له نصيحة ونصاحة ونصحا. وهو باللام أفصح. قال الله تعالى{وأنصح لكم} والاسم النصيحة. والنصيح الناصح، وقوم نصحاء. ورجل ناصح الجيب أي نقي القلب. قال الأصمعي: الناصح الخالص من العسل وغيره. مثل الناصع. وكل شيء خلص فقد نصح. وانتصح فلان أقبل على النصيحة. يقال: انتصحني إنني لك ناصح. والناصح الخياط. والنصاح السلك يخاط به. والنصاحات أيضا الجلود. قال الأعشى:
فترى الشرب نشاوى كلهم مثل ما مدت نصاحات الربح
الربح لغة في الربع، وهو الفصيل. والربح أيضا طائر. وسيأتي لهذا زيادة معنى في }براءة} إن شاء الله تعالى.
الآية رقم ( 63 : 64 )
{أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون، فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين}
قوله تعالى{أوعجبتم} فتحت الواو لأنها واو عطف، دخلت عليها ألف الاستفهام للتقرير. وسبيل الواو أن تدخل على حروف الاستفهام إلا الألف لقوتها. }أن جاءكم ذكر} أي وعظ من ربكم. }على رجل منكم} أي على لسان رجل. وقيل{على} بمعنى }مع}، أي مع رجل وقيل: المعنى أن جاءكم ذكر من ربكم منزل على رجل منكم، أي تعرفون نسبه. أي على رجل من جنسكم. ولو كان ملكا فربما كان في اختلاف الجنس تنافر الطبع. و}الفلك} يكون واحدا ويكون جمعا. وقد تقدم في }البقرة}. و}عمين} أي عن الحق؛ قال قتادة. وقيل: عن معرفة الله تعالى وقدرته، يقال: رجل عم بكذا، أي جاهل.
الآية رقم ( 65 : 68 )
{وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون . قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين . قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين . أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين}
قوله تعالى{وإلى عاد أخاهم هودا} أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا. قال ابن عباس أي ابن أبيهم. وقيل: أخاهم في القبيلة. وقيل: أي بشرا من بني أبيهم آدم. وفي مصنف أبي داود أن أخاهم هودا أي صاحبهم. وعاد من ولد سام بن نوح. قال ابن إسحاق: وعاد هو ابن عوص بن إرم بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام. وهود هو هود بن عبدالله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. بعثه الله إلى عاد نبيا. وكان من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا. و}عاد} من لم يصرفه جعله اسما للقبيلة، ومن صرفه جعله اسما للحي. قال أبو حاتم: وفي حرف أبي وابن مسعود }عادًا الأولى}النجم: 50] بغير ألف. و}هود} أعجمي، وانصرف لخفته؛ لأنه على ثلاثة أحرف. وقد يجوز أن يكون عربيا مشتقا من هاد يهود. والنصب على البدل. وكان بين هود ونوح فيما ذكر المفسرون سبعة آباء. وكانت عاد فيما روي ثلاث عشرة قبيلة، ينزلون الرمال، رمل عالج. وكانوا أهل بساتين وزروع وعمارة، وكانت بلادهم أخصب البلاد، فسخط الله عليهم فجعلها مفاوز. وكانت فيما روي بنواحي حضرموت إلى اليمن، وكانوا يعبدون الأصنام. ولحق هود حين أهلك قومه بمن آمن معه بمكة، فلم يزالوا بها حتى ماتوا. }إنا لنراك في سفاهة} أي في حمق وخفة عقل. قال:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم
وقد تقدم هذا المعنى في }البقرة}. والرؤية هنا وفي قصة نوح قيل: هي من رؤية البصر. وقيل: ويجوز أن يراد بها الرأي الذي هو أغلب الظن.
{أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون}
قوله تعالى{أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم} }أو عجبتم} فتحت الواو لأنها واو عطف، دخلت عليها ألف الاستفهام للتقرير. وسبيل الواو أن تدخل على حروف الاستفهام إلا الألف لقوتها. أي وعظ من ربكم. }على رجل منكم} أي على لسان رجل. وقيل{على} بمعنى }مع}، أي مع رجل وقيل: المعنى أن جاءكم ذكر من ربكم منزل على رجل منكم، أي تعرفون نسبه. أي على رجل من جنسكم. ولو كان ملكا فربما كان في اختلاف الجنس تنافر الطبع.
قوله تعالى{واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} }خلفاء} جمع خليفة على التذكير والمعنى، وخلائف على اللفظ، من عليهم بأن جعلهم سكان الأرض بعد قوم نوح. }وزادكم في الخلق بسطة} ويجوز }بصطة} بالصاد لأن بعدها طاء؛ أي طولا في الخلق وعظم الجسم. قال ابن عباس: كان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستين ذراعا. وهذه الزيادة كانت على خلق آبائهم. وقيل: على خلق قوم نوح. قال وهب: كان رأس أحدهم مثل قبة عظيمة، وكان عين الرجل يفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم. وروى شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: أن كان الرجل من قوم عاد يتخذ المصراعين من حجارة لو اجتمع عليها خمسمائة رجل من هذه الأمة لم يطيقوه، وأن كان أحدهم ليغمز برجله الأرض فتدخل فيها. }فاذكروا آلاء الله} أي نعم الله، واحدها إلى وإلي وإلو وألى. كالآناء واحدها إنى وإني وإنو وأنى. }لعلكم تفلحون} تقدم.
الآية رقم ( 70 : 72 )
{قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين، فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين}
طلبوا العذاب الذي خوفهم به وحذرهم منه. فقال لهم{قد وقع عليكم} ومعنى وقع أي وجب. يقال: وقع القول والحكم أي وجب ! ومثله{ولما وقع عليهم الرجز}الأعراف: 134]. أي نزل بهم. }وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض}النمل: 82]. والرجس العذاب وقيل: عني بالرجس الرين على القلب بزيادة الكفر. }أتجادلونني في أسماء} يعني الأصنام التي عبدوها، وكان لها أسماء مختلفة. }ما نزل الله بها من سلطان} أي من حجة لكم في عبادتها. فالاسم هنا بمعنى المسمى. نظيره }إن هي إلا أسماء سميتموها}النجم: 23]. وهذه الأسماء مثل العزى من العز والأعز واللات، وليس لها من العز والإلهية شيء. }دابر} آخر. وقد تقدم. أي لم يبق لهم بقية.
الآية رقم ( 73 )
{وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم}
قوله تعالى{وإلى ثمود أخاهم صالحا} هو ثمود بن عاد بن إرم بن سام بن نوح. وهو أخو جديس، وكانوا في سعة من معايشهم؛ فخالفوا أمر الله وعبدوا غيره، وأفسدوا في الأرض. فبعث الله إليهم صالحا نبيا، وهو صالح بن عبيد بن آسف بن كاشح بن عبيد بن حاذر بن ثمود. وكانوا قوما عربا. وكان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا فدعاهم إلى الله تعالى حتى شمط ولا يتبعه. منهم إلا قليل مستضعفون. ولم ينصرف }ثمود} لأنه جعل اسما للقبيلة. وقال أبو حاتم: لم ينصرف، لأنه اسم أعجمي. قال النحاس: وهذا غلط؛ لأنه مشتق من الثمد وهو الماء القليل. وقد قرأ القراء }ألا إن ثمود كفروا ربهم}هود: 68] على أنه اسم للحي. وكانت مساكن ثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى. وهم من ولد سام بن نوح. وسميت ثمود لقلة مائها. وسيأتي بيانه في }الحجر} إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى{هذه ناقة الله لكم آية} أخرج لهم الناقة حين سألوه من حجر صلد؛ فكان لها يوم تشرب فيه ماء الوادي كله، وتسقيهم مثله لبنا لم يشرب قط ألذ وأحلى منه. وكان بقدر حاجتهم على كرتهم؛ قال الله تعالى{لها شرب ولكم شرب يوم معلوم}الشعراء: 155]. وأضيفت الناقة إلى الله عز وجل على جهة إضافة الخلق إلى الخالق. وفيه معنى التشريف والتخصيص.
قوله تعالى{فذروها تأكل في أرض الله} أي ليس عليكم رزقها ومؤونتها.
الآية رقم ( 74 )
{واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين}
قوله تعالى{وبوأكم في الأرض} فيه محذوف، أي بوأكم في الأرض منازل. }تتخذون من سهولها قصورا} أي تبنون القصور بكل موضع. }وتنحتون الجبال بيوتا} اتخذوا البيوت في الجبال لطول أعمارهم؛ فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم. وقرأ الحسن بفتح الحاء، وهي لغة. وفيه حرف من حروف الحلق؛ فلذلك جاء على فعل يفعل.
استدل بهذه الآية من أجاز البناء الرفيع كالقصور ونحوها، وبقوله{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}الأعراف: 32]. ذكر أن ابنا لمحمد بن سيرين نبني دارا وأنفق فيها مالا كثيرا؛ فذكر ذلك لمحمد بن سيرين فقال: ما أرى بأسا أن يبني الرجل بناء ينفعه. وروي أنه عليه السلام قال: (إذا أنعم الله على عبد أحب أن يرى أثر النعمة عليه). ومن آثار النعمة البناء الحسن، والثياب الحسنة. ألا ترى أنه إذا اشترى جارية جميلة بمال عظيم فإنه يجوز وقد يكفيه دون ذلك؛ فكذلك البناء. وكره ذلك آخرون، منهم الحسن البصري وغيره. واحتجوا بقوله عليه السلام: (إذا أراد الله بعبد شرا أهلك مال في الطين واللبن). وفي خبر آخر عنه أنه عليه السلام قال: (من بنى فوق ما يكفيه جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه).
قلت: بهذا أقول؛ لقوله عليه السلام: (وما أنفق المؤمن من نفقة فإن خلفها على الله عز وجل إلا ما كان في بنيان أو معصية). رواه جابر بن عبدالله وخرجه الدارقطني. وقوله عليه السلام: (ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء) أخرجه الترمذي.
قوله تعالى{فاذكروا آلاء الله} أي نعمه. وهذا يدل على أن الكفار منعم عليهم. وقد مضى في }آل عمران} القول فيه. }ولا تعثوا في الأرض مفسدين} والعثي والعثو لغتان. وقرأ الأعمش }تعثوا} بكسر التاء أخذه من عثي لا من عثا يعثو.
الآية رقم ( 75 : 76 )
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون، قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون}
قوله تعالى{قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم} الثاني بدل من الأول، لأن المستضعفين هم المؤمنون. وهو بدل البعض من الكل.
الآية رقم ( 77 : 79 )
{فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين، فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين}
قوله تعالى{فعقروا الناقة} العقر الجرح. وقيل: قطع عضو يؤثر في النفس. وعقرت الفرس: إذا ضربت قوائمه بالسيف. وخيل عقرى. وعقرت ظهر الدابة: إذا أدبرته. قال امرؤ القيس:
تقول وقد مال الغبيط بنا معا عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
أي جرحته وأدبرته قال القشيري: العقر كشف عرقوب البعير؛ ثم قيل للنحر عقر؛ لأن العقر سبب النحر في الغالب. وقد اختلف في عاقر الناقة على أقوال. أصحها ما في صحيح مسلم من حديث عبدالله بن زمعة قال؛ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال: (إذ انبعث أشقاها انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة) وذكر الحديث. وقيل في اسمه: قدار بن سالف. وقيل: إن ملكهم كان إلى امرأة يقال لها ملكي، فحسدت صالحا لما مال إليه الناس، وقالت لامرأتين كان لهما خليلان يعشقانهما: لا تطيعاهما واسألاهما عقر الناقة؛ ففعلتا. وخرج الرجلان وألجآ الناقة إلى مضيق ورماها أحدهما بسهم وقتلاها. وجاء السقب وهو ولدها إلى الصخرة التي خرجت الناقة منها فرغا ثلاثا وانفرجت الصخرة فدخل فيها. ويقال: إنه الدابة التي تخرج في آخر الزمان على الناس؛ على ما يأتي بيانه في }النمل}. وقال ابن إسحاق: أتبع السقب أربعة نفر ممن كان عقر الناقة، مصدع وأخوه ذؤاب. فرماه مصدع بسهم فانتظم قلبه، ثم جره برجله فألحقه بأمه، وأكلوه معها. والأول أصح؛ فإن صالحا قال لهم: إنه بقي من عمركم ثلاثة أيام، ولهذا رغا ثلاثا. وقيل: عقرها عاقرها ومعه ثمانية رجال، وهم الذين قال الله فيهم{وكان في المدينة تسعة رهط}النمل: 48] على ما يأتي بيانه في }النمل}. وهو معنى قوله }فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر}. [القمر: 29]. وكانوا يشربون فأعوزهم الماء ليمزجوا شرابهم، وكان يوم لبن الناقة، فقام أحدهم وترصد الناس وقال: لأريحن الناس منها؛ فعقرها.
قوله تعالى{وعتوا عن أمر ربهم} أي استكبروا. عتا يعتو عتوا أي استكبر. وتعتى فلان إذا لم يطع. والليل العاتي: الشديد الظلمة؛ عن الخليل.
قوله تعالى{وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا} أي من العذاب. }فأخذتهم الرجفة} أي الزلزلة الشديدة. وقيل: كان صيحة شديدة خلعت قلوبهم؛ كما في قصة ثمود في سورة }هود} في قصة ثمود فأخذتهم الصيحة. يقال: رجف الشيء يرجف رجفا رجفانا. وأرجفت الريح الشجر حركته. وأصله حركة مع صوت؛ ومنه قوله تعالى }يوم ترجف الراجفة}النازعات: 6] قال الشاعر:
ولما رأيت الحج قد آن وقته وظلت مطايا القوم بالقوم ترجف
قوله تعالى{فأصبحوا في دارهم} أي بلدهم. وقيل: وحد على طريق الجنس، والمعنى: في دورهم. وقال في موضع آخر{في ديارهم}هود: 67] أي في منازلهم. }جاثمين} أي لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم؛ كما يجثم الطائر. أي صاروا خامدين من شدة العذاب. وأصل الجثوم للأرنب وشبهها، والموضع مجثم. قال زهير:
بها العين والآرام يمشين خلفة وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
وقيل: احترقوا بالصاعقة فأصبحوا ميتين، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله؛ فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه. }فتولى عنهم} أي عند اليأس منهم. }وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم} يحتمل أنه قال ذلك قبل موتهم. ويحتمل أنه قال بعد موتهم؛ كقوله عليه السلام لقتلى بدر: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا) فقيل: أتكلم هؤلاء الجيف ؟ فقال: (ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يقدرون على الجواب). والأول أظهر. يدل عليه }ولكن لا تحبون الناصحين} أي لم تقبلوا نصحي.
الآية رقم ( 80 )
{ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين}
قوله تعالى{ولوطا إذ قال لقومه} قال الفراء: لوط مشتق من قولهم: هذا أليط بقلبي، أي ألصق. وقال النحاس: قال الزجاج زعم بعض النحويين - يعني الفراء - أن لوطا يجوز أن يكون مشتقا من لطت إذا ملسته بالطين. قال: وهذا غلط؛ لأن الأسماء الأعجمية لا تشتق كإسحاق، فلا يقال: إنه من السحق وهو البعد. وإنما صرف لوط لخفته لأنه على ثلاثة أحرف وهو ساكن الوسط. قال النقاش: لوط من الأسماء الأعجمية وليس من العربية. فأما لطت الحوض، وهذا أليط بقلبي من هذا، فصحيح. ولكن الاسم أعجمي كإبراهيم وإسحاق. قال سيبويه: نوح ولوط أسماء أعجمية، إلا أنها خفيفة فلذلك صرفت. بعثه الله تعالى إلى أمة تسمى سدوم، وكان ابن أخي إبراهيم. ونصبه إما بـ }أرسلنا} المتقدمة فيكون معطوفا. ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى واذكر.
قوله تعالى{أتأتون الفاحشة} يعني إتيان الذكور. ذكرها الله باسم الفاحشة ليبين أنها زنى؛ كما قال الله تعالى{ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة}الإسراء: 32]. واختلف العلماء فيما يجب على من فعل ذلك بعد إجماعهم على تحريمه؛ فقال مالك: يرجم؛ أحصن أو لم يحصن. وكذلك يرجم المفعول به إن كان محتلما. وروي عنه أيضا: يرجم إن كان محصنا، ويحبس ومؤدب إن كان غير محصن. وهو مذهب عطاء والنخعي وابن المسيب وغيرهم. وقال أبو حنيفة: يعزر المحصن وغيره؛ وروي عن مالك. وقال الشافعي: يحد حد الزنى قياسا عليه. احتج مالك بقوله تعالى{وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل}الحجر: 74]. فكان ذلك عقوبة لهم وجزاء على فعلهم. فإن قيل: لا حجة فيها لوجهين؛ أحدهما - أن قوم لوط إنما عوقبوا على الكفر والتكذيب كسائر الأمم. الثاني: أن صغيرهم وكبيرهم دخل فيها؛ فدل على خروجها من باب الحدود. قيل: أما الأول فغلط؛ فإن الله سبحانه أخبر عنهم أنهم كانوا على معاصي فأخذهم بها؛ منها هذه. وأما الثاني فكان منهم فاعل وكان منهم راض، فعوقب الجميع لسكوت الجماهير عليه. وهي حكمة الله وسنته في عباده. وبقي أمر العقوبة على الفاعلين مستمرا. والله أعلم. وقد روى أبو داود وابن ماجة والترمذي والنسائي والدارقطني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به). لفظ أبي داود وابن ماجة. وعند الترمذي (أحصنا أو لم يحصنا). وروى أبو داود والدارقطني عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية قال: يرجم. وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه حرق رجلا يسمى الفجاءة حين عمل عمل قوم لوط بالنار. وهو رأي علي بن أبي طالب؛ فإنه لما كتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر في ذلك جمع أبو بكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واستشارهم فيه؛ فقال علي: إن هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما علمتم، أرى أن يحرق بالنار. فاجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرق بالنار. فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار فأحرقه. ثم أحرقهم ابن الزبير في زمانه. ثم أحرقهم هشام بن الوليد. ثم أحرقهم خالد القسري بالعراق. وروي أن سبعة أخذوا في زمن ابن الزبير في لواط؛ فسأل عنهم فوجد أربعة قد أحصنوا فأمر بهم فخرجوا بهم من الحرم فرجموا بالحجارة حتى ماتوا، وحد الثلاثة؛ وعنده ابن عباس وابن عمر فلم ينكرا عليه. وإلى هذا ذهب الشافعي. قال ابن العربي: والذي صار إليه مالك أحق، فهو أصح سندا وأقوى معتمدا. وتعلق الحنفيون بأن قالوا: عقوبة الزنى معلومة؛ فلما كانت هذه المعصية غيرها وجب ألا يشاركها في حدها. ويأثرون في هذا حديثا: (من وضع حدا في غير حد فقد تعدى وظلم). وأيضا فإنه وطء في فرج لا يتعلق به إحلال ولا إحصان، ولا وجوب مهر ولا ثبوت نسب؛ فلم يتعلق به حد.
فإن أتى بهيمة فقد قيل: لا يقتل هو ولا البهيمة. وقيل: يقتلان؛ حكاه ابن المنذر عن أبي سلمة بن عبدالرحمن. وفي الباب حديث رواه أبو داود والدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة معه). فقلنا لابن عباس: ما شأن البهيمة؟ قال: ما أراه قال ذلك، إلا أنه كره أن يؤكل لحمها وقد عمل بها ذلك العمل. قال ابن المنذر: إن يك الحديث ثابتا فالقول به يجب، وإن لم يثبت فليستغفر الله من فعل ذلك كثيرا، وإن عزره الحاكم كان حسنا. والله أعلم. وقد قيل: إن قتل البهيمة لئلا تلقي خلقا مشوها؛ فيكون قتلها مصلحة لهذا المعنى مع ما جاء من السنة. والله أعلم. وقد روى أبو داود عن ابن عباس قال: ليس على الذي زنى بالبهيمة حد. قال أبو داود: وكذا قال عطاء. وقال الحكم: أرى أن يجلد ولا يبلغ به الحد. وقال الحسن: هو بمنزلة الزاني. وقال الزهري: يجلد مائة أحصن أو لم يحصن. وقال مالك والثوري وأحمد وأصحاب الرأي يعزر. وروي عن عطاء والنخعي والحكم. واختلفت الرواية عن الشافعي، وهذا أشبه على مذهبه في هذا الباب. وقال جابر بن زيد: يقام عليه الحد، إلا أن تكون البهيمة له.
قوله تعالى{ما سبقكم بها من أحد من العالمين} }من} لاستغراق الجنس، أي لم يكن اللواط في أمة قبل قوم لوط. والملحدون يزعمون أن ذلك كان قبلهم. والصدق ما ورد به القرآن. وحكى النقاش أن إبليس كان أصل عملهم بأن دعاهم إلى نفسه لعنه الله، فكان ينكح بعضهم بعضا. قال الحسن: كانوا يفعلون ذلك بالغرباء، ولم يكن يفعله بعضهم ببعض. وروى ابن ماجة عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط). وقال محمد بن سيرين: ليس شيء من الدواب يعمل عمل قوم لوط إلا الخنزير والحمار.
الآية رقم ( 81 )
{إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون}
قوله تعالى{إنكم} قرأ نافع وحفص على الخبر بهمزة واحدة مكسورة، تفسيرا للفاحشة المذكورة، فلم يحسن إدخال الاستفهام عليه لأنه يقطع ما بعده مما قبله. وقرأ الباقون بهمزتين على لفظ الاستفهام الذي معناه التوبيخ، وحسن ذلك لأن ما قبله وبعده كلام مستقل. واختار الأول أبو عبيد والنسائي وغيرهما؛ واحتجوا بقوله عز وجل{أفإن مت فهم الخالدون}الأنبياء: 34] ولم يقل أفهم. وقال{أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم}آل عمران: 144] ولم يقل انقلبتم. وهذا من أقبح الغلط لأنهما شبها شيئين بما لا يشتبهان؛ لأن الشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد كالمبتدأ والخبر؛ فلا يجوز أن يكون فيهما استفهامان. فلا يجوز: أفإن مت أفهم، كما لا يجوز أزيد أمنطلق. وقصة لوط عليه السلام فيها جملتان، فلك أن تستفهم عن كل واحدة منهما. هذا قول الخليل وسيبويه، واختاره النحاس ومكي وغيرهما }شهوة} نصب على المصدر، أي تشتهونهم شهوة. ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال. }بل أنتم قوم مسرفون} نظيرة }بل أنتم قوم عادون}الشعراء: 166] في جمعكم إلى الشرك هذه الفاحشة.
الآية ر قم ( 82 : 83 )
{وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون، فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين}
قوله تعالى{وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم} أي لوطا وأتباعه. ومعنى }يتطهرون} عن الإتيان في هذا المأتى. يقال: تطهر الرجل أي تنزه عن الإثم. قال قتادة: عابوهم والله بغير عيب. }من الغابرين} أي الباقين في عذاب الله؛ قال ابن عباس وقتادة. غبر الشيء إذا مضى، وغبر إذا بقي. وهو من الأضداد. وقال قوم: الماضي عابر بالعين غير معجمة. والباقي غابر بالغين معجمة. حكاه ابن فارس في المجمل. وقال الزجاج{من الغابرين} أي من الغائبين عن النجاة وقيل: لطول عمرها. قال النحاس: وأبو عبيدة يذهب إلى أن المعنى من المعمرين؛ أي أنها قد هرمت. والأكثر في اللغة أن يكون الغابر الباقي؛ قال الراجز:
فما ونى محمد مذ أن غفر له الإله ما مضى وما غبر
الآية رقم ( 84 )
{وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين}
سرى لوط بأهله كما وصف الله }بقطع من الليل}هود: 81] ثم أمر جبريل، عليه السلام فأدخل جناحه تحت مدائنهم فاقتلعها ورفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب، ثم جعل عاليها سافلها، وأمطرت عليهم حجارة من سجيل، قيل: على من غاب منهم. وأدرك امرأة لوط، وكانت معه حجر فقتلها. وكانت فيما ذكر أربع قرى. وقيل: خمس فيها أربعمائة ألف. وسيأتي في سورة }هود} قصة لوط بأبين من هذا، إن شاء الله تعالى.
الآية رقم ( 85 : 87 )
{وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين، ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين}
قوله تعالى{وإلى مدين} قيل في مدين: اسم بلد وقطر. وقيل: اسم قبيلة كما يقال: بكر وتميم. وقيل: هم من ولد مدين بن إبراهيم الخليل عليه السلام. فمن رأى أن مدين اسم رجل لم يصرفه لأنه معرفة أعجمي. ومن رآه اسما للقبيلة أو الأرض فهو أحرى بألا يصرفه. قال المهدوي: ويروى أنه كان ابن بنت لوط. وقال مكي: كان زوج بنت لوط. واختلف في نسبه؛ فقال عطاء وابن إسحاق وغيرهما: وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام. وكان اسمه بالسريانية بيروت. وأمه ميكائيل بنت لوط. وزعم الشرقي بن القطامي أن شعيبا بن عيفاء بن يوبب بن مدين بن إبراهيم. وزعم ابن سمعان أن شعيبا بن جزى بن يشجر بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وشعيب تصغير شعب أو شعب. وقال قتادة: هو شعيب بن يوبب. وقيل: شعيب بن صفوان بن عيفاء بن ثابت بن مدين بن إبراهيم. والله أعلم. وكان أعمى؛ ولذلك قال قومه{وإنا لنراك فينا ضعيفا}هود: 91]. وكان يقال له: خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه. وكان قومه أهل كفر بالله وبخس للمكيال والميزان.
قوله تعالى{قد جاءتكم بينة من ربكم} أي بيان، وهو مجيء شعيب بالرسالة. ولم يذكر له معجزة في القرآن. وقيل: معجزته فيما ذكر الكسائي في قصص الأنبياء.
قوله تعالى{فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم} البخس النقص. وهو يكون في السلعة بالتعييب والتزهيد فيها، أو المخادعة عن القيمة، والاحتيال في التزيد في الكيل والنقصان منه. وكل ذلك من أكل المال بالباطل، وذلك منهي عنه في الأمم المتقدمة والسالفة على ألسنة الرسل صلوات الله وسلامه على جميعهم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قوله تعالى{ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} عطف على }ولا تبخسوا}. وهو لفظ يعم دقيق الفساد وجليله. قال ابن عباس: كانت الأرض قبل أن يبعث الله شعيبا رسولا يعمل فيها بالمعاصي وتستحل فيها المحارم وتسفك فيها الدماء. قال: فذلك فسادها. فلما بعث الله شعيبا ودعاهم إلى الله صلحت الأرض. وكل نبي بعث إلى قومه فهو صلاحهم.
قوله تعالى{ولا تقعدوا بكل صراط }نهاهم عن القعود بالطرق والصد عن الطريق الذي يؤدي إلى طاعة الله، وكانوا يوعدون العذاب من آمن. واختلف العلماء في معنى قعودهم على الطرق على ثلاثة معان؛ قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي: كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون: إنه كذاب فلا تذهب إليه؛ كما كانت قريش تفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا ظاهر الآية. وقال أبو هريرة: هذا نهي عن قطع الطريق، وأخذ السلب؛ وكان ذلك من فعلهم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأيت ليلة أسري بي خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته فقلت ما هذا يا جبريل قال هذا مثل لقوم من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه - ثم تلا - }ولا تقعدوا بكل صراط توعدون} الآية. وقد مضى القول في اللصوص والمحاربين، والحمد لله. وقال السدي أيضا: كانوا عشارين متقبلين. ومثلهم اليوم هؤلاء المكاسون الذين يأخذون ما لا يلزمهم شرعا من الوظائف المالية بالقهر والجبر؛ فضمنوا ما لا يجوز ضمان أصله من الزكاة والمواريث والملاهي. والمترتبون في الطرق إلى غير ذلك مما قد كثر في الوجود وعمل به في سائر البلاد. وهو من أعظم الذنوب وأكبرها وأفحشها؛ فإنه غصب وظلم وعسف على الناس وإذاعة للمنكر وعمل به ودوام عليه وإقرار له، وأعظمه تضمين الشرع والحكم للقضاء، فإنا لله وإنا إليه راجعون ! لم يبق من الإسلام إلا رسمه، ولا من الدين إلا اسمه. يعضد هذا التأويل ما تقدم من النهي في شأن المال في الموازين والأكيال والبخس.
قوله تعالى{من آمن به} الضمير في }به} يحتمل أن يعود على اسم الله تعالى، وأن يعود إلى شعيب في قول من رأى القعود على الطريق للصد، وأن يعود على السبيل. }عوجا} قال أبو عبيدة والزجاج: كسر العين في المعاني. وفتحها في الأجرام. }واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم} أي كثر عددكم، أو كثركم بالغنى بعد الفقر. أي كنتم فقراء فأغناكم. }فاصبروا} ليس هذا أمرا بالمقام على الكفر، ولكنه وعيد وتهديد. وقال{وإن كان طائفة منكم} فذكر على المعنى، ولو راعى اللفظ قال: كانت.
الآية رقم ( 88 : 89 )
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين، قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين}
قوله تعالى{قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا} تقدم معناه. ومعنى }أو لتعودن في ملتنا} أي لتصيرن إلى ملتنا وقيل: كان أتباع شعيب قبل الإيمان به على الكفر 0 أي لتعودن إلينا كما كنتم من قبل. قال الزجاج: يجوز أن يكون العود بمعنى الابتداء؛ يقال: عاد إلي من فلان مكروه، أي صار، وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك، أي لحقني ذلك منه. فقال لهم شعيب{أولو كنا كارهين} أي ولو كنا كارهين تجبروننا عليه، أي على الخروج من الوطن أو العود في ملتكم. أي إن فعلتم هذا أتيتم عظيما.
قوله تعالى{قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها} إياس من العود إلى ملتهم. }وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} قال أبو إسحاق الزجاج: أي إلا بمشيئة الله عز وجل، قال: وهذا قول أهل السنة؛ أي وما يقع منا العود إلى الكفر إلا أن يشاء الله ذلك. فالاستثناء منقطع. وقيل: الاستثناء هنا على جهة التسليم لله عز وجل؛ كما قال{وما توفيقي إلا بالله}هود: 88]. والدليل على هذا أن بعده }وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا}. وقيل: هو كقولك ألا أكلمك حتى يبيض الغراب، وحتى يلج الجمل في سم الخياط. والغراب لا يبيض أبدا، والجمل لا يلج في سم الخياط.
قوله تعالى{وسع ربنا كل شيء علما} أي علم ما كان وما يكون. }علما} نصب على التمييز. }وما يكون لنا أن نعود فيها} أي في القرية بعد أن كرهتم مجاورتنا، بل نخرج من قريتكم مهاجرين إلى غيرها. }إلا أن يشاء الله} ردنا إليها. وفيه بعد؛ لأنه يقال: عاد للقرية ولا يقال عاد في القرية.
قوله تعالى{على الله توكلنا} أي اعتمدنا. وقد تقدم. }ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} قال قتادة: بعثه الله إلى أمتين: أهل مدين، وأصحاب الأيكة. قال ابن عباس: وكان شعيب كثير الصلاة، فلما طال تمادي قومه في كفرهم وغيهم، ويئس من صلاحهم، دعا عليهم فقال{ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق }وأنت خير الفاتحين} فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم بالرجفة.
الآية رقم ( 90 : 92 )
{وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون، فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين}
قوله تعالى{وقال الملأ الذين كفروا من قومه} أي قالوا لمن دونهم. }لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون} أي هالكون. }فأخذتهم الرجفة} أي الزلزلة. وقيل: الصيحة. وأصحاب الأيكة أهلكوا بالظلة، على ما يأتي.
قوله تعالى{الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها} قال الجرجاني: قيل هذا كلام مستأنف؛ أي الذين كذبوا شعيبا صاروا كأنهم لم يزالوا موتى. }يغنوا} يقيموا؛ يقال: غنيت بالمكان إذا أقمت به. وغني القوم في دارهم أي طال مقامهم فيها. والمغنى: المنزل؛ والجمع المغاني. قال لبيد:
وعنيت ستا قبل مجرى داحس لو كان للنفس اللجوج خلود
وقال حاتم طي:
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى كما الدهر في أيامه العسر واليسر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
قوله تعالى{الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين} ابتداء خطاب، وهو مبالغة في الذم والتوبيخ وإعادة لتعظيم الأم وتفخيمه. ولما قالوا: من اتبع شعيبا خاسر قال الله الخاسرون هم الذين قالوا هذا القول.
الآية رقم ( 93 )
{فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين}
قوله تعالى{فكيف آسى على قوم كافرين} أي أحزن. أسيت على الشيء آسى أسى، وأنا آس.
الآية رقم ( 94 : 95 )
{وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون، ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون}
قوله تعالى{وما أرسلنا في قرية من نبي} فيه إضمار، وهو فكذب أهلها إلا أخذناهم. }بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون} تقدم القول فيه. }ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة} أي أبدلناهم بالجدب خصبا. }حتى عفوا} أي كثروا؛ عن ابن عباس. وقال ابن زيد: كثرت أموالهم وأولادهم. وعفا: من الأضداد: عفا: كثر. وعفا: درس. أعلم الله تعالى أنه أخذهم بالشدة والرخاء فلم يزدجروا ولم يشكروا. }وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء} فنحن مثلهم. }فأخذناهم بغتة} أي فجأة ليكون أكثر حسرة.
الآية ر قم ( 96 )
{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}
قوله تعالى{ولو أن أهل القرى} يقال للمدينة قرية لاجتماع الناس فيها. من قريت الماء إذا جمعته. وقد مضى في }البقرة} مستوفى. }آمنوا} أي صدقوا. }واتقوا} أي الشرك. }لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} يعني المطر والنبات. وهذا في أقوام على الخصوص جرى ذكرهم. إذ قد يمتحن المؤمنون بضيق العيش ويكون تكفيرا لذنوبهم. ألا ترى أنه أخبر عن نوح إذ قال لقومه }استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا}نوح: 10، 11] وعن هود }ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا}هود: 52]. فوعدهم المطر والخصب على التخصيص. يدل عليه }ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} أي كذبوا الرسل. والمؤمنون صدقوا ولم يكذبوا.
الآية رقم ( 97 : 98 )
{أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون، أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون}
قوله تعالى{أفأمن أهل القرى} الاستفهام للإنكار، والفاء للعطف. نظيره{أفحكم الجاهلية}المائدة: 50]. والمراد بالقرى مكة وما حولها؛ لأنهم كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم وقيل: هو عام في جميع القرى. }أن يأتيهم بأسنا} أي عذابنا. }بياتا} أي ليلا }وهم نائمون} }أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا} قرأه الحرميان وابن عامر بإسكان الواو للعطف، على معنى الإباحة؛ مثل }ولا تطع منهم آثما أو كفورا}الإنسان: 24]. جالس الحسن أو ابن سيرين. والمعنى: أو أمنوا هذه الضروب من العقوبات. أي إن أمنتم ضربا منها لم تأمنوا الآخر. ويجوز أن يكون }أو} لأحد الشيئين، كقولك: ضربت زيدا أو عمرا. وقرأ الباقون بفتحها بهمزة بعدها. جعلها واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام؛ نظيره }أوكلما عاهدوا عهدا}البقرة: 100]. ومعنى }ضحى وهم يلعبون} أي وهم فيما لا يجدي عليهم؛ يقال لكل من كان فيما يضره ولا يجدي عليه لاعب، ذكره النحاس. وفي الصحاح. اللعب معروف، واللعب مثله. وقد لعب يلعب. وتلعب: لعب مرة بعد أخرى. ورجل تلعابة: كثير اللعب، والتلعاب بالفتح المصدر. وجارية لعوب.
الآية رقم ( 99 )
{أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}
قوله تعالى{أفأمنوا مكر الله} أي عذابه وجزاءه على مكرهم. وقيل: مكره استدراجه بالنعمة والصحة.
الآية رقم ( 100 )
{أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون}
قوله تعالى{أولم يهد} أي يبين. }للذين يرثون الأرض} يريد كفار مكة ومن حولهم. }أصبناهم} أي أخذناهم }بذنوبهم} أي بكفرهم وتكذيبهم. }ونطبع} أي ونحن نطبع؛ فهو مستأنف. وقيل: هو معطوف على أصبنا، أي نصيبهم ونطبع، فوقع الماضي موقع المستقبل.
الآية رقم ( 101 )
{تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين}
قوله تعالى{تلك القرى} أي هذه القرى التي أهلكناها؛ وهي قرى نوح وعاد ولوط وهود وشعيب المتقدمة الذكر. }نقص} أي نتلو. }عليك من أنبائها} أي من أخبارها. وهي تسلية للنبي عليه السلام والمسلمين. }فما كانوا ليؤمنوا} أي فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا بعد هلاكهم لو أحييناهم؛ قاله مجاهد. نظيره }ولو ردوا لعادوا}الأنعام: 28]. وقال ابن عباس والربيع: كان في علم الله تعالى يوم أخذ عليهم الميثاق أنهم لا يؤمنون بالرسل. }بما كذبوا من قبل} يريد يوم الميثاق حين أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كرها لا طوعا. قال السدي: آمنوا يوم أخذ عليهم الميثاق كرها فلم يكونوا ليؤمنوا الآن حقيقة. وقيل: سألوا المعجزات، فلما رأوها ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل رؤية المعجزة. نظيره }كما لم يؤمنوا به أول مرة}. [الأنعام: 110]. }كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين} أي مثل طبعه على قلوب هؤلاء المذكورين كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم.
الآية رقم ( 102 )
{وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}
قوله تعالى{وما وجدنا لأكثرهم من عهد} }من} زائدة، وهي تدل على معنى الجنس؛ ولولا }من} لجاز أن يتوهم أنه واحد في المعنى. قال ابن عباس: يريد العهد المأخوذ عليهم وقت الذر، ومن نقض العهد قيل له إنه لا عهد له، أي كأنه لم يعهد. وقال الحسن: العهد الذي عهد إليهم مع الأنبياء أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. وقيل: أراد أن الكفار منقسمون؛ فالأكثرون منهم من لا أمانة له ولا وفاء، ومنهم من له أمانة مع كفره وإن قلوا؛ روي عن أبي عبيدة.
الآية رقم ( 103 )
{ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}
قوله تعالى{ثم بعثنا من بعدهم} أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. }موسى} أي موسى بن عمران. }بآياتنا} بمعجزاتنا. }فظلموا بها} أي كفروا ولم يصدقوا بالآيات. والظلم: وضع الشيء في غير موضعه. }فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} أي آخر أمرهم.
الآية رقم ( 104 : 106 )
{وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل، قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين}
قوله تعالى{حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم
أي واجب. ومن قرأ }على ألا} فالمعنى حريص على ألا أقول. وفي قراءة عبدالله }حقيق ألا أقول} بإسقاط }على}. وقيل{على} بمعنى الباء، أي حقيق بألا أقول. وكذا في قراءة أبي والأعمش }بألا أقول}. كما تقول: رميت بالقوس وعلى القوس. فـ }حقيق} على هذا بمعنى محقوق. }فأرسل معي بني إسرائيل} أي خلهم. وكان يستعملهم في الأعمال الشاقة.
الآية رقم ( 107 : 110 )
{فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون}
قوله تعالى{فألقى عصاه} يستعمل في الأجسام والمعاني. وقد تقدم. والثعبان: الحية الضخم الذكر، وهو أعظم الحيات. }مبين} أي حية لا لبس فيها. }ونزع يده} أي أخرجها وأظهرها. قيل: من جيبه أو من جناحه؛ كما في التنزيل }وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء}النمل: 12] أي من غير برص. وكان موسى أسمر شديد السمرة، ثم أعاد يده إلى جيبه فعادت إلى لونها الأول. قال ابن عباس: كان ليده نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض. وقيل: كانت تخرج يده بيضاء كالثلج تلوح، فإذا ردها عادت إلى مل سائر بدنه. ومعنى }عليم} أي بالسحر. }من أرضكم} أي من ملككم معاشر القبط، بتقديمه بني إسرائيل عليكم. }فماذا تأمرون} أي قال فرعون: فماذا تأمرون. وقيل: هو من قول الملأ؛ أي قالوا لفرعون وحده: فماذا تأمرون. كما يخاطب الجبارون والرؤساء: ما ترون في كذا. ويجوز أن يكون قالوا له ولأصحابه. و}ما} في موضع رفع، على أن }ذا} بمعنى الذي. وفي موضع نصب، على أن }ما} و}ذا} شيء واحد.
الآية رقم ( 111 : 112 )
{قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين، يأتوك بكل ساحر عليم}
قوله تعالى{قالوا أرجه} قرأ أهل المدينة وعاصم والكسائي بغير حمزة؛ إلا أن ورشا والكسائي أشبعا كسرة الهاء. وقرأ أبو عمرو بهمزة ساكنة والهاء مضمومة. وهما لغتان؛ يقال: أرجأته وأرجيته، أي أخرته. وكذلك قرأ ابن كثير وابن محيصن وهشام؛ إلا أنهم أشبعوا ضمة الهاء. وقرأ سائر أهل الكوفة }أرجه} بإسكان الهاء. قال الفراء: هي لغة للعرب، يقفون على الهاء المكني عنها في الوصل إذا تحرك ما قبلها، وكذا هذه طلحة قد أقبلت. وأنكر البصريون هذا. قال قتادة:: معنى }أرجه} احبسه. وقال ابن عباس: أخره. وقيل{أرجه} مأخوذ من رجا يرجو؛ أي أطمعه ودعه يرجو؛ حكاه النحاس عن محمد بن يزيد. وكسر الهاء على الإتباع. ويجوز ضمها على الأصل. وإسكانها لحن لا يجوز إلا في شذوذ من الشعر. }وأخاه} عطف على الهاء. }حاشرين} نصب على الحال. }يأتوك} جزم؛ لأنه جواب الأمر ولذلك حذفت منه النون. قرأ أهل الكوفة إلا عاصما }بكل سحار} وقرأ سائر الناس }ساحر} وهما متقاربان؛ إلا أن فعالا أشد مبالغة.
الآية رقم ( 113 : 114 )
{وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين، قال نعم وإنكم لمن المقربين}
قوله تعالى{وجاء السحرة فرعون} وحذف ذكر الإرسال لعلم السامع. قال ابن عبدالحكم: كانوا اثني عشر نقيبا، مع كل نقيب عشرون عريفا، تحت يدي كل عريف ألف ساحر. وكان رئيسهم شمعون في قول مقاتل بن سليمان. وقال ابن جريج: كانوا تسعمائة من العريش والفيوم والإسكندرية أثلاثا. وقال ابن إسحاق: كانوا خمسة عشر ألف ساحر؛ وروي عن وهب. وقيل: كانوا اثني عشر ألفا. وقال ابن المنكدر: ثمانين ألفا. وقيل: أربعة عشر ألفا. وقيل: كانوا ثلاثمائة ألف ساحر من الريف، وثلاثمائة ألف ساحر من الصعيد، وثلاثمائة ألف ساحر من الفيوم وما والاها. وقيل: كانوا سبعين رجلا. وقيل: ثلاثة وسبعين؛ فالله أعلم. وكان معهم فيما روي حبال وعصي يحملها ثلاثمائة بعير. فالتقمت الحية ذلك كله. قال ابن عباس والسدي: كانت إذا فتحت فاها صار شدقها ثمانين ذراعا؛ واضعة فكها الأسفل على الأرض، وفكها الأعلى على سور القصر. وقيل: كان سعة فمها أربعين ذراعا؛ فالله أعلم. فقصدت فرعون لتبتلعه، فوثب من سريره فهرب منها واستغاث بموسى؛ فأخذها فإذا هي عصا كما كانت. قال وهب: مات من خوف العصا خمسة وعشرون ألفا. }قالوا إن لنا لأجرا} أي جائزة ومالا. ولم يقل فقالوا بالفاء؛ لأنه أراد لما جاؤوا قالوا. وقرئ {إن لنا} على الخبر. وهي قراءة نافع وابن كثير. ألزموا فرعون أن يجعل لهم مالا إن غلبوا. فقال لهم فرعون }نعم وإنكم لمن المقربين} أي لمن أهل المنزلة الرفيعة لدينا، فزادهم على ما طلبوا. وقيل: إنهم إنما قطعوا ذلك لأنفسهم في حكمهم إن غلبوا. أي قالوا: يجب لنا الأجر إن غلبنا. وقرأ الباقون بالاستفهام على جهة الاستخبار. استخبروا فرعون: هل يجعل لهم أجرا إن غلبوا أو لا؛ فلم يقطعوا على فرعون بذلك، إنما استخبروه هل يفعل ذلك؛ فقال لهم }نعم} لكم الأجر والقرب إن غلبتم.
الآية رقم ( 115 : 117 )
{قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين، قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم، وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون}
تأدبوا مع موسى عليه السلام فكان ذلك سبب إيمانهم. و}أن} في موضع نصب عند الكسائي والفراء، على معنى إما أن تفعل الإلقاء. ومثله قول الشاعر:
قالوا الركوب فقلنا تلك عادتنا
{قال ألقوا} قال الفراء: في الكلام حذف. والمعنى: قال لهم موسى إنكم لن تغلبوا ربكم ولن تبطلوا آياته. وهذا من معجز القرآن الذي لا يأتي مثله في كلام الناس، ولا يقدرون عليه. يأتي اللفظ اليسير بجمع المعاني الكثيرة. وقيل: هو تهديد. أي ابتدؤوا بالإلقاء، فسترون ما يحل بكم من الافتضاح؛ إذا لا يجوز على موسى أن يأمرهم بالسحر. وقيل: أمرهم بذلك ليبين كذبهم وتمويههم. }فلما ألقوا} أي الحبال والعصي }سحروا أعين الناس} أي خيلوا لهم وقلبوها عن صحة إدراكها، بما يتخيل من التمويه الذي جرى مجرى الشعوذة وخفة اليد. كما تقدم في }البقرة} بيانه. ومعنى }عظيم} أي عندهم؛ لأنه كان كثيرا وليس بعظيم على الحقيقة. قال ابن زيد: كان الاجتماع بالإسكندرية فبلغ ذنب الحية وراء البحيرة. وقال غيره: وفتحت فاها فجعلت تلقف - أي تلتقم - ما ألقوا من حبالهم وعصيهم. وقيل: كان ما ألقوا حبالا من أدم فيها زئبق فتحركت وقالوا هذه حيات. وقرأ حفص }تلقف} بإسكان اللام والتخفيف. جعله مستقبل لقف يلقف. قال النحاس: ويجوز على هذه القراءة }تلقف} لأنه من لقف. وقرأ الباقون بالتشديد وفتح اللام، وجعلوه مستقبل تلقف؛ فهي تتلقف. يقال: لقفت الشيء وتلقفته إذا أخذته أو بلعته. تلقف وتلقم وتلهم بمعنى واحد. قال أبو حاتم: وبلغني في بعض القراءات }تلقَّم} بالميم والتشديد. قال الشاعر:
أنت عصا موسى التي لم تزل تلقم ما يأفكه الساحر
ويروى: تلقف. }ما يأفكون} أي ما يكذبون، لأنهم جاؤوا بحبال وجعلوا فيها زئبقا حتى تحركت.
الآية رقم ( 118 : 122 )
{فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وألقي السحرة ساجدين، قالوا آمنا برب العالمين، رب موسى وهارون}
قوله تعالى{فوقع الحق} قال مجاهد: فظهر الحق. }وانقلبوا صاغرين} نصب على الحال. والفعل منه صغر يصغر صغرا وصغرا وصغارا. أي انقلب قوم فرعون وفرعون معهم أذلاء مقهورين مغلوبين. فأما السحرة فقد آمنوا.
الآية رقم ( 123 : 124 )
{قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون، لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين}
قوله تعالى{قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم} إنكار منه عليهم. }إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها} أي جرت بينكم وبينه مواطأة في هذا لتستولوا على مصر، أي كان هذا منكم في مدينة مصر قبل أن تبرزوا إلى هذه الصحراء }فسوف تعلمون} تهديدا لهم. قال ابن عباس: كان فرعون أول من صلب، وقطع الأيدي والأرجل من خلاف، الرجل اليمنى واليد اليسرى، واليد اليمنى والرجل اليسرى، عن الحسن.
الآية رقم ( 125 : 126 )
{قالوا إنا إلى ربنا منقلبون، وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين}
قوله تعالى{وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا} قرأ الحسن بفتح القاف. قال الأخفش: هي لغة يقال: نقمت الأمر ونقمته أنكرته، أي لست تكره منا سوى أن آمنا بالله وهو الحق. }لما جاءتنا} آياته وبيناته. }ربنا أفرغ علينا صبرا} الإفراغ الصب، أي اصببه علينا عند القطع والصلب. }وتوفنا مسلمين} فقيل: إن فرعون أخذ السحرة وقطعهم على شاطئ النهر، وإنه آمن بموسى عند إيمان السحرة ستمائة ألف.
الآية رقم ( 127 : 128 )
{وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون، قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}
قوله تعالى{وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض} أي بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل. }ويذرك} بنصب الراء جواب الاستفهام، والواو نائبة عن الفاء. }وآلهتك} قال الحسن: كان فرعون يعبد الأصنام، فكان يعبد ويعبد. قال سليمان التيمي: بلغني أن فرعون كان يعبد البقر. قال التيمي: فقلت للحسن هل كان فرعون يعبد شيئا؟ قال نعم؛ إنه كان يعبد شيئا كان قد جعل في عنقه. وقيل: معنى }وآلهتك} أي وطاعتك، كما قيل في قوله{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}التوبة: 31] إنهم ما عبدوهم ولكن أطاعوهم؛ فصار تمثيلا. وقرأ نعيم بن ميسرة }ويذرك} بالرفع على تقدير وهو يذرك. وقرأ الأشهب العقيلي }ويذرك} مجزوما مخفف يذرك لثقل الضمة. وقرأ أنس بن مالك }ونذرك} بالرفع والنون. أخبروا عن أنفسهم أنهم يتركون عبادته إن ترك موسى حيا. وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس والضحاك }وإلا هتك} ومعناه وعبادتك. وعلى هذه القراءة كان يعبد ولا يعبد، أي ويترك عبادته لك. قال أبو بكر الأنباري: فمن مذهب أصحاب هذه القراءة أن فرعون لما قال }أنا ربكم الأعلى}النازعات: 24] و}ما علمت لكم من إله غيري}القصص: 38] نفى أن يكون له رب مع الإهة. فقيل له: ويذرك وإلاهتك؛ بمعنى ويتركك وعبادة الناس لك. وقراءة العامة }وآلهتك} كما تقدم، وهي مبنية على أن فرعون ادعى الربوبية في ظاهر أمره وكان يعلم أنه مربوب. ودليل هذا قوله عند حضور الحمام }آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل}يونس: 90] فلم يقبل هذا القول منه لما أتى به بعد إغلاق باب التوبة. وكان قبل هذا الحال له إله يعبده سرا دون رب العالمين جل وعز؛ قال الحسن وغيره. وفي حرف أبي }أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك}. وقيل{وإلا هتك} قيل: كان يعبد بقرة، وكان إذا استحسن بقرة أمر بعبادتها، وقال: أنا ربكم ورب هذه. ولهذا قال{فأخرج لهم عجلا جسدا}طه: 88]. ذكره ابن عباس والسدي. قال الزجاج: كان له أصنام صغار يعبدها قومه تقربا إليه فنسبت إليه؛ ولهذا قال{أنا ربكم الأعلى}. قال إسماعيل بن إسحاق: قول فرعون }أنا ربكم الأعلى}. يدل على أنهم كانوا يعبدون شيئا غيره. وقد قيل: إن المراد بالإلاهة على قراءة ابن عباس البقرة التي كان يعبدها. وقيل: أرادوا بها الشمس وكانوا يعبدونها. قال الشاعر:
وأعجلنا الإلاهة أن تؤوبا
ثم آنس قومه فقال }سنقتل أبناءهم} بالتخفيف، قراءة نافع وابن كثير. والباقون بالتشديد على التكثير. }ونستحيي نساءهم} أي لا تخافوا جانبهم. }وإنا فوقهم قاهرون} آنسهم بهذا الكلام. ولم يقل سنقتل موسى لعلمه أنه لا يقدر عليه. وعن سعيد بن جبير قال: كان فرعون قد ملئ من موسى رعبا؛ فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار. ولما بلغ قوم موسى من فرعون هذا قال لهم موسى{استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء} أطمعهم في أن يورثهم الله أرض مصر. }والعاقبة للمتقين} أي الجنة لمن اتقى. وعاقبة كل شيء: آخره، ولكنها إذا أطلقت فقيل: العاقبة لفلان فهم منه في العرف الخير.
الآية رقم ( 129 )
{قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون}
قوله تعالى{قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا} أي في ابتداء ولادتك بقتل الأبناء واسترقاق النساء. }ومن بعد ما جئتنا} أي والآن أعيد علينا ذلك؛ يعنون الوعيد الذي كان من فرعون. وقيل: الأذى من قبل تسخيرهم لبني إسرائيل في أعمالهم إلى نصف النهار، وإرسالهم بقيته ليكتسبوا لأنفسهم. والأذى من بعد: تسخيرهم جميع النهار كله بلا طعام ولا شراب؛ قاله جويبر. وقال الحسن: الأذى من قبل ومن بعد واحد، وهو أخذ الجزية. }قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض} }عسى} من الله واجب؛ جدد لهم الوعد وحققه. وقد استحلفوا في مصر في زمان داود وسليمان عليهما السلام، وفتحوا بيت المقدس مع يوشع بن نون؛ كما تقدم. وروي أنهم قالوا ذلك حين خرج بهم موسى وتبعهم فرعون فكان وراءهم والبحر أمامهم، فحقق الله الوعيد بأن غرق فرعون وقومه وأنجاهم. }فينظر كيف تعملون} أي يرى ذلك العمل الذي يجب به الجزاء؛ لأن الله لا يجازيهم على ما يعلمه منهم؛ إنما يجازيهم على ما يقع منهم.
الآية رقم ( 130 )
{ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون}
قوله تعالى{ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين} يعني الجدوب. وهذا معروف في اللغة؛ يقال: أصابتهم سنة، أي جدب. وتقديره جدب سنة. وفي الحديث: (اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف). ومن العرب من يعرب النون في السنين؛ وأنشد الفراء:
أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال
قال النحاس: وأنشد سيبويه هذا البيت بفتح النون؛ ولكن أنشد في هذا ما لا يجوز غيره، وهو قوله:
وقد جاوزت رأس الأربعين
وحكى الفراء عن بني عامر أنهم يقولون: أقمت عنده سنينا يا هذا؛ مصروفا. قال: وبنو تميم لا يصرفون ويقولون: مضت له سنين يا هذا. وسنين جمع سنة، والسنة هنا بمعنى الجدب لا بمعنى الحول. ومنه أسنت القوم أي أجدبوا. قال عبدالله بن الزبعرى:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
{لعلهم يذكرون} أي ليتعظوا وترق قلوبهم.
الآية رقم ( 131 )
{فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون}
قوله تعالى{فإذا جاءتهم الحسنة} أي الخصب والسعة. }قالوا لنا هذه} أي أعطيناها باستحقاق. }وإن تصبهم سيئة} أي قحط ومرض }يطيروا بموسى ومن معه} أي يتشاءموا به. نظيره }وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك}النساء: 78]. والأصل }يتطيروا} أدغمت التاء في الطاء. وقرأ طلحة{تطيروا} على أنه فعل ماض. والأصل في هذا من الطيرة وزجر الطير، ثم كثر استعمالهم حتى قيل لكل من تشاءم: تطير. وكانت العرب تتيمن بالسانح: وهو الذي يأتي من ناحية اليمين. وتتشاءم بالبارح: وهو الذي يأتي من ناحية الشمال. وكانوا يتطيرون أيضا بصوت الغراب؛ ويتأولونه البين. وكانوا يستدلون بمجاوبات الطيور بعضها بعضا على أمور، وبأصواتها في غير أوقاتها المعهودة على مثل ذلك. وهكذا الظباء إذا مضت سانحة أو بارحة، ويقولون إذا برحت{من لي بالسانح بعد البارح}. إلا أن أقوى ما عندهم كان يقع في جميع الطير؛ فسموا الجميع تطيرا من هذا الوجه. وتطير الأعاجم إذا رأوا صبيا يذهب به إلى العلم بالغداة، ويتيمنون برؤمة صبي يرجع من عند المعلم إلى بيته، ويتشاءمون برؤية السقاء على ظهره قربة مملوءة مشدودة، ويتيمنون برؤية فارغ السقاء مفتوحة قربته؛ ومتشائمون بالحمال المثقل بالحمل، والدابة الموقرة، ويتيمنون بالحمال الذي وضع جمله، وبالدابة يحط عنها ثقلها. فجاء الإسلام بالنهي عن التطير والتشاؤم بما يسمع من صوت طائر ما كان، وعلى أي حال كان؛ فقال عليه السلام: (أقروا الطير على مكناتها). وذلك أن كثيرا من أهل الجاهلية كان إذا أراد الحاجة أتى الطير في وكرها فنفرها؛ فإذا أخذت ذات اليمين مضى لحاجته، وهذا هو السانح عندهم. وإن أخذت ذات الشمال رجع، وهذا هو البارح عندهم. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا بقول: (أقروا الطير على مكناتها) هكذا في الحديث. وأهل العربية يقولون: (وكناتها) قال امرؤ القيس:
وقد أغتدي والطير في وُكناتها
والوكنة: اسم لكل وكر وعش. والوكن: موضع الطائر الذي يبيض فيه ويفرخ، وهو الخرق في الحيطان والشجر. ويقال: وكن الطائر يكن وكونا إذا حضن بيضه. وكان أيضا من العرب من لا يرى التطير شيئا، ويمدحون من كذب به. قال المرقش:
ولقد غدوت وكنت لا أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا من والأيامن كالأشائم
وقال عكرمة: كنت عند ابن عباس فمر طائر يصيح؛ فقال رجل من القوم: خير، خير. فقال ابن عباس: ما عند هذا لا خير ولا شر. قال علماؤنا: وأما أقوال الطير فلا تعلق لها بما يجعل دلالة عليه، ولا لها علم بكائن فضلا عن مستقبل فتخبر به، ولا في الناس من يعلم منطق الطير؛ إلا ما كان الله تعال خص به سليمان صلى الله عليه وسلم من ذلك، فالتحق التطير بجملة الباطل. والله أعلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من تحلم أو تكهن أو رده عن سفره تطير). وروى أبو داود عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطيرة شرك - ثلاثا - وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل). وروى عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من رجعته الطيرة عن حاجته فقد أشرك). قيل: وما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: (أن يقول أحدهم اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك ثم يمضي لحاجته). وفي خبر آخر: (إذا وجد ذلك أحدكم فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت لا حول ولا قوة إلا بك). ثم يذهب متوكلا على الله؛ فإن الله يكفيه ما وجد في نفسه من ذلك، وكفاه الله تعالى ما يهمه.
قوله تعالى{ألا إنما طائرهم عند الله} وقرأ الحسن }طيرهم} جمع طائر. أي ما قدر لهم وعليهم. }ولكن أكثرهم لا يعلمون} أن ما لحقهم من القحط والشدائد إنما هو من عند الله عز وجل بذنوبهم لا من عند موسى وقومه.
الآية رقم ( 132 )
{وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين}
قوله تعالى{وقالوا مهما تأتنا به من آية} أي قال قوم فرعون لموسى }مهما}. قال الخليل: الأصل ما، ما؛ الأولى للشرط، والثانية زائدة توكيد للجزاء؛ كما تزاد في سائر الحروف، مثل إما وحيثما وأينما وكيفما. فكرهوا حرفين لفظهما واحد؛ فأبدلوا من الألف الأولى هاء فقالوا مهما. وقال الكسائي: أصله مه؛ أي اكفف، ما تأتنا به من آية. وقيل: هي كلمة مفردة، يجازي بها ليجزم ما بعدها على تقدير إن. والجواب }فما نحن لك بمؤمنين} }لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين} لتصرفنا عما نحن عليه. قيل: بقي موسى في القبط بعد إلقاء السحرة سجدا عشرين سنة يريهم الآيات إلى أن أغرق الله فرعون، فكان هذا قولهم.
الآية رقم ( 133 )
{فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين}
روى إسرائيل عن سماك عن نوف الشامي قال: مكث موسى صلى الله عليه وسلم في آل فرعون بعد ما غلب السحرة أربعين عاما. وقال محمد بن عمان بن أبي شيبة عن منجاب: عشرين سنة، يريهم الآيات: الجراد والقمل والضفادع والدم.
قوله تعالى{الطوفان} أي المطر الشديد حتى عاموا فيه. وقال مجاهد وعطاء: الطوفان الموت قال الأخفش: واحدته طوفانة. وقيل: هو مصدر كالرجحان والنقصان؛ فلا يطلب له واحد. قال النحاس: الطوفان في اللغة ما كان مهلكا من موت أو سيل؛ أي ما يطيف بهم فيهلكهم. وقال السدي: ولم يصب بني إسرائيل قطرة من ماء، بل دخل بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، ودام عليهم سبعة أيام. وقيل: أربعين يوما. فقالوا: ادع لنا ربك يكشف عنا فنؤمن بك؛ فدعا ربه فرفع عنهم الطوفان فلم يؤمنوا. فأنبت الله لهم في تلك السنة ما لم ينبته قبل ذلك من الكلأ والزرع. فقالوا: كان ذلك الماء نعمة؛ فبعث الله عليهم الجراد وهو الحيوان المعروف، جمع جرادة في المذكر والمؤنث. فإن أردت الفصل نعت فقلت رأيت جرادة ذكرا - فأكل زروعهم وثمارهم حتى أنها كانت تأكل السقوف والأبواب حتى تنهدم ديارهم. ولم يدخل دور بني إسرائيل منها شيء.
واختلف العلماء في قتل الجراد إذا حل بأرض فأفسد؛ فقيل: لا يقتل. وقال أهل الفقه كلهم: يقتل. احتج الأولون بأنه خلق عظيم من خلق الله يأكل من رزق الله ولا يجري عليه القلم. وبما روي (لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم). واحتج الجمهور بأن في تركها فساد الأموال، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المسلم إذا أواد أخذ مال؛ فالجراد إذا أرادت فساد الأموال كانت أولى أن يجوز قتلها. ألا ترى أنهم قد اتفقوا على أنه يجوز قتل الحية والعقرب؟ لأنهما يؤذيان الناس فكذلك الجراد. روى ابن ماجة عن جابر وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا على الجراد قال: (اللهم أهلك كباره واقتل صغاره وأفسد بيضه واقطع دابره وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء). قال رجل: يا رسول الله، كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره؟ قال: (إن الجراد نثرة الحوت في البحر).
ثبت في صحيح مسلم عن عبدالله بن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه. ولم يختلف العلماء في أكله على الجملة، وأنه إذا أخذ حيا وقطعت رأسه أنه حلال باتفاق. وإن ذلك يتنزل منه منزلة الذكاة فيه. وإنما اختلفوا هل يحتاج إلى سبب يموت به إذا صيد أم لا؛ فعامتهم على أنه لا يحتاج إلى ذلك، ويؤكل كيفما مات. وحكمه عندهم حكم الحيتان، وإليه ذهب ابن نافع ومطرف وذهب مالك إلى أنه لا بد له من سبب يموت به؛ كقطع رؤوسه أو أرجله أو أجنحته إذا مات من ذلك، أو يصلق أو يطرح في النار؛ لأنه عنده من حيوان البر فميتته محرمة. وكان الليث يكره أكل ميت الجراد، إلا ما أخذ حيا ثم مات فإن أخذه ذكاة. وإليه ذهب سعيد بن المسيب. وروى الدارقطني عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أحل لنا ميتتان الحوت والجراد ودمان الكبد والطحال). وقال ابن ماجة: حدثنا أحمد بن منيع حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي سعيد سمع أنس بن مالك يقول: كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتهادين الجراد على الأطباق. ذكره ابن المنذر أيضا.
روى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تعالى خلق ألف أمة ستمائة منها في البحر وأربعمائة في البر وإن أول هلاك هذه الأمم الجراد فإذا هلكت الجراد تتابعت الأمم مثل نظام السلك إذا انقطع). ذكره الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول) وقال: وإنما صار الجراد أول هذه الأمم هلاكا لأنه خلق من الطينة التي فضلت من طينة آدم. وإنما تهلك الأمم لهلاك الآدمين لأنها مسخرة لهم. رجعنا إلى قصة القبط - فعاهدوا موسى أن يؤمنوا لو كشف عنهم الجراد، فدعا فكشف وكان قد بقي من زروعهم شيء فقالوا: يكفينا ما بقي؛ ولم يؤمنوا فبعث الله عليهم القمل، وهو صغار الدبى؛ قاله قتادة. والدبى: الجراد قبل أن يطير، الواحدة دباة. وأرض مدبية إذا أكل الدبى نباتها. وقال ابن عباس: القمل السوس الذي في الحنطة. وقال ابن زيد: البراغيث. وقال الحسن: دواب سود صغار. وقال أبو عبيدة: الحمنان، وهو ضرب من القراد، واحدها حمنانة. فأكلت دوابهم وزروعهم، ولزمت جلودهم كأنها الجدري عليهم، ومنعهم النوم والقرار. وقال حبيب بن أبي ثابت: القمل الجعلان. والقمل عند أهل اللغة ضرب من القردان. قال أبو الحسن الأعرابي العدوي: القمل دواب صغار من جنس القردان؛ إلا أنها أصغر منها، واحدتها قملة. قال النحاس: وليس هذا بناقض لما قاله أهل التفسير؛ لأنه يجوز أن تكون هذه الأشياء كلها أرسلت عليهم، وهي أنها كلها تجتمع في أنها تؤذيهم. وذكر بعض المفسرين أنه كان }بعين شمس} كثيب من رمل فضربه موسى بعصاه فصار قملا. وواحد القمل قملة. وقيل: القمل القمل؛ قاله عطاء الخراساني. وفي قراءة الحسن }والقمل} بفتح القاف وإسكان الميم فتضرعوا فلما كشف عنهم لم يؤمنوا؛ فأرسل الله عليهم الضفادع، جمع ضفدع وهي المعروفة التي تكون في الماء، وفيه مسألة واحدة هي أن النهي ورد عن قتلها؛ أخرجه أبو داود وابن ماجة بإسناد صحيح. أخرجه أبو داود عن أحمد بن حنبل عن عبدالرزاق وابن ماجة عن محمد بن يحيى النيسابوري الذهلي عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الصرد والضفدع والنملة والهدهد. وخرج النسائي عن عبدالرحمن بن عثمان أن طبيبا ذكر ضفدعا في دواء عند النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن قتله. صححه أبو محمد عبدالحق. وعن أبي هريرة قال: الصرد أول طير صام. ولما خرج إبراهيم عليه السلام من الشأم إلى الحرم في بناء البيت كانت السكينة معه والصرد؛ فكان الصرد دليله إلى الموضع، والسكينة مقداره. فلما صار إلى البقعة وقعت السكينة على موضع البيت ونادت: ابن يا إبراهيم على مقدار ظلي؛ فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الصرد لأنه كان دليل إبراهيم على البيت، وعن الضفدع لأنها كانت تصب الماء على نار إبراهيم. ولما تسلطت على فرعون جاءت فأخذت الأمكنة كلها، فلما صارت إلى التنور وثبت فيها وهي نار تسعر، طاعة لله. فجعل الله نقيقها تسبيحا. يقال: إنها أكثر الدواب تسبيحا. قال عبدالله بن عمرو: لا تقتلوا الضفدع فإن نقيقه الذي تسمعون تسبيح. فروي أنها ملأت فرشهم وأوعيتهم وطعامهم وشرابهم؛ فكان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، وإذا تكلم وثب الضفدع في فيه. فشكوا إلى موسى وقالوا: نتوب؛ فكشف الله عنهم ذلك فعادوا إلى كفرهم؛ فأرسل الله عليهم الدم فسال النيل عليهم دما. وكان الإسرائيلي يغترف منه الماء، والقبطي الدم. وكان الإسرائيلي يصب الماء في فم القبطي فيصير دما، والقبطي يصب الدم في فم الإسرائيلي فيصير ماء زلالا. }آيات مفصلات} أي مبينات ظاهرات؛ عن مجاهد. قال الزجاج{آيات مفصلات} نصب على الحال. ويروى أنه كان بين الآية والآية ثمانية أيام. وقيل: أربعون يوما. وقيل: شهر؛ فلهذا قال }مفصلات}. }فاستكبروا} أي ترفعوا عن الإيمان بالله تعالى.
الآية رقم ( 134 : 136 )
{ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل، فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون، فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين}
قوله تعالى{ولما وقع عليهم الرجز} }الرجز} أي العذاب. وقرئ بضم الراء، لغتان. قال ابن جبير: كان طاعونا مات به من القبط في يوم واحد سبعون ألفا. وقيل: المراد بالرجز ما تقدم ذكره من الآيات. }بما عهد عندك} }ما} بمعنى الذي، أي بما استودعك من العلم، أو بما اختصك به فنبأك. وقيل: هذا قسم، أي بعهده عندك إلا ما دعوت لنا؛ فـ }ما} صلة. }لئن كشفت عنا الرجز} أي بدعائك لإلهك حتى يكشف عنا. }لنؤمنن لك} أي نصدقك بما جئت به. }ولنرسلن معك بني إسرائيل} وكانوا يستخدمونهم؛ على ما تقدم. }إلى أجل هم بالغوه} يعني أجلهم الذي ضرب لهم في التغريق. }إذا هم ينكثون} أي ينقضون ما عقدوه على أنفسهم. }فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} واليم البحر. }وكانوا عنها} أي النقمة. دل عليها }فانتقمنا}. وقيل: عن الآيات أي لم يعتبروا بها حتى صاروا كالغافلين عنها.
الآية رقم ( 137 )
{وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون}
قوله تعالى{وأورثنا القوم} يريد بني إسرائيل. }الذين كانوا يستضعفون} أي يستذلون بالخدمة. }مشارق الأرض ومغاربها} زعم الكسائي والفراء أن الأصل }في مشارق الأرض ومغاربها} ثم حذف }في} فنصب. والظاهر أنهم ورثوا أرض القبط. فهما نصب على المفعول الصريح؛ يقال: ورثت المال وأورثته المال؛ فلما تعدى الفعل بالهمزة نصب مفعولين. والأرض هي أرض الشأم ومصر. ومشارقها ومغاربها جهات الشرق والغرب بها؛ فالأرض مخصوصة، عن الحسن وقتادة وغيرهما. وقيل: أراد جميع الأرض؛ لأن بن بني إسرائيل داود وسليمان وقد ملكا الأرض. }التي باركنا فيها} أي بإخراج الزروع والثمار والأنهار. }وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل} هي قوله{ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}القصص: 5]. }بما صبروا} أي بصبرهم على أذى فرعون، وعلى أمر الله بعد أن آمنوا بموسى. }ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون} يقال: عرش يعرش إذا بنى. قال ابن عباس ومجاهد: أي ما كانوا يبنون من القصور وغيرها. وقال الحسن: هو تعريش الكرم. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم }يعرشون} بضم الراء. قال الكسائي: هي لغة تميم. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة }يعرِّشون} بتشديد الراء وضم الياء.
الآية رقم ( 138 )
{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون}
قوله تعالى{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم} قرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف، والباقون بضمها. يقال: عكف يعكف ويعكف بمعنى أقام على الشيء ولزمه. والمصدر منهما على فعول. قال قتادة: كان أولئك القوم من لخم، وكانوا نزولا بالرقة وقيل: كانت أصنامهم تماثيل بقر؛ ولهذا أخرج لهم السامري عجلا. }قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} نظيره قول جهال الأعراب وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمى ذات أنواط يعظمونها في كل سنة يوما: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال عليه الصلاة والسلام: (الله أكبر. قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى }اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى إنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه). وكان هذا في مخرجه إلى حنين، على ما يأتي بيانه في }براءة} إن شاء الله تعالى.
{إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون، قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين}
قوله تعالى{إن هؤلاء متبر ما هم فيه} أي مهلك، والتبار: الهلاك. وكل إناء مكسر متبر. وأمر متبر. أي إن العابد والمعبود مهلكان. }وباطل} أي ذاهب مضمحل. }ما كانوا يعملون} }كانوا} صلة زائدة. }قال أغير الله أبغيكم إلها} أي أطلب لكم إلها غير الله تعالى. يقال: بغيته وبغيت له. }وهو فضلكم على العالمين} أي على عالمي زمانكم. وقيل: فضلهم بإهلاك عدوهم، وبما خصهم به من الآيات.
الآية رقم ( 141 )
{وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}
ذكرهم منته. وقيل: هو خطاب ليهود عصر النبي صلى الله عليه وسلم. أي واذكروا إذ أنجينا أسلافكم؛ حسب ما تقدم بيانه في سورة }البقرة}.
الآية رقم ( 142 )
{وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}
قوله تعالى{وواعدنا موسى ثلاثين ليلة} ذكر أن مما كرم الله به موسى صلى الله عليه وسلم هذا فكان وعده المناجاة إكراما له. }وأتممناها بعشر} قال ابن عباس ومجاهد ومسروق رضي الله عنهم: هي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة. أمره أن يصوم الشهر وينفرد فيه بالعبادة؛ فلما صامه أنكر خلوف فمه فاستاك. قيل: بعود خرنوب؛ فقالت الملائكة: إنا كنا نستنشق من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك. فزيد عليه عشر ليال من ذي الحجة. وقيل: إن الله تعالى أوحى إليه لما استاك: (يا موسى لا أكلمك حتى يعود فوك إلى ما كان عليه قبل، أما علمت أن رائحة الصائم أحب إلي من ريح المسك). وأمره بصيام عشرة أيام. وكان كلام الله تعالى لموسى صلى الله عليه وسلم غداة النحر حين فدى إسماعيل من الذبح، وأكمل لمحمد صلى الله عليه وسلم الحج. وحذفت الهاء من عشر لأن المعدود مؤنث. والفائدة في قوله{فتم ميقات ربه أربعين ليلة} وقد علم أن ثلاثين وعشرة أربعون، لئلا يتوهم أن المراد أتممنا الثلاثين بعشر منها؛ فبين أن العشر سوى الثلاثين. فإن قيل: فقد قال في البقرة أربعين وقال هنا ثلاثين؛ فيكون ذلك من البداء. قيل: ليس كذلك؛ فقد قال{وأتممناها بعشر} والأربعون، والثلاثون والعشرة قول واحد ليس بمختلف. وإنما قال القولين على تفصيل وتأليف؛ قال أربعين في قول مؤلف، وقال ثلاثين، يعني شهرا متتابعا وعشرا. وكل ذلك أربعون؛ كما قال الشاعر:
(عشر وأربع....)
يعني أربع عشرة، ليلة البدر. وهذا جائز في كلام العرب.
قال علماؤنا: دلت هذه الآية على أن ضرب الأجل للمواعدة سنة ماضية، ومعنى قديم أسسه الله تعالى في القضايا، وحكم به للأمم، وعرفهم به مقادير التأني في الأعمال. وأول أجل ضربه الله تعالى الأيام الستة التي خلق فيها جميع المخلوقات، }ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب}ق: 38]. وقد بينا معناه فيما تقدم في هذه السورة من قوله{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام}الأعراف: 54]. قال ابن العربي: فإذا ضرب الأجل لمعنى يحاول فيه تحصيل المؤجل فجاء الأجل ولم يتيسر زيد فيه تبصرة ومعذرة. وقد بين الله تعالى ذلك لموسى عليه السلام فضرب له أجلا ثلاثين ثم زاده عشرا تتمة أربعين. وأبطأ موسى عليه السلام في هذه العشر على قومه؛ فما عقلوا جواز التأني والتأخر حتى قالوا: إن موسى ضل أو نسي، ونكثوا عهده وبدلوا بعده، وعبدوا إلها غير الله. قال ابن عباس: إن موسى قال لقومه: إن ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه، وأخلف فيكم هارون، فلما فصل موسى إلى ربه زاده الله عشرا؛ فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله بما فعلوه من عبادة العجل؛ على ما يأتي بيانه. ثم الزيادة التي تكون على الأجل تكون مقدرة؛ كما أن الأجل مقدر. ولا يكون إلا باجتهاد من الحاكم بعد النظر إلى المعاني المتعلقة بالأمر: من وقت وحال وعمل، فيكون مثل ثلث المدة السالفة؛ كما أجل الله لموسى. فإن رأى الحاكم أن يجمع له الأصل في الأجل والزيادة في مدة واحدة جاز، ولكن لا بد من التربص بعدها لما يطرأ من العذر على البشر، قال ابن العربي. روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة).
قلت: وهذا أيضا أصل لإعذار الحكام إلى المحكوم عليه مرة بعد أخرى. وكان هذا لطفا بالخلق، ولينفذ القيام عليهم بالحق. يقال: أعذر في الأمر أي بالغ فيه؛ أي أعذر غاية الإعذار الذي لا إعذار بعده. وأكبر الإعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم لتتم حجته عليهم، }وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}الإسراء: 15]. وقال }وجاءكم النذير}فاطر: 37] قيل: هم الرسل. ابن عباس: هو الشيب. فإنه يأتي في سن الاكتهال، فهو علامة لمفارقة سن الصبا. وجعل الستين غاية الإعذار لأن الستين قريب من معترك العباد، وهو سن الإنابة والخشوع والاستسلام لله، وترقب المنية ولقاء الله؛ ففيه إعذار بعد إعذار. الأول بالنبي عليه السلام، والثاني بالشيب؛ وذلك عند كمال الأربعين؛ قال الله تعالى{وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك}الأحقاف: 15]. فذكر عز وجل أن من بلغ أربعين فقد أن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه وعلى والديه ويشكرها. قال مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا، وهم يطلبون الدنيا ويخالطون الناس حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة؛ فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس.
ودلت الآية أيضا على أن التاريخ يكون بالليالي دون الأيام؛ لقوله تعالى{ثلاثين ليلة} لأن الليالي أوائل الشهور. وبها كانت الصحابة رضي الله عنهم تخبر عن الأيام؛ حتى روي عنها أنها كانت تقول: صمنا خمسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والعجم تخالف في ذلك، فتحسب بالأيام لأن معولها على الشمس. ابن العربي: وحساب الشمس للمنافع، وحساب القمر للمناسك؛ ولهذا قال{وواعدنا موسى ثلاثين ليلة}. فيقال: أرخت تاريخا، وورخت توريخا؛ لغتان.
قوله تعالى{وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح} المعنى: وقال موسى حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها لأخيه هارون: كن خليفتي؛ فدل على النيابة. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي حين خلفه في بعض مغازيه: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي). فاستدل بهذا الروافض والإمامية وسائر فرق الشيعة على أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف عليا على جميع الأمة؛ حتى كفر الصحابة الإمامية - قبحهم الله - لأنهم عندهم تركوا العمل الذي هو النص على استخلاف علي واستخلفوا غيره بالاجتهاد منهم. ومنهم من كفر عليا إذ لم يقم بطلب حقه. وهؤلاء لا شك في كفرهم وكفر من تبعهم على مقالتهم، ولم يعلموا أن هذا استخلاف في حياة كالوكالة التي تنقضي بعزل الموكل أو بموته، لا يقتضي أنه متماد بعد وفاته؛ فينحل على هذا ما تعلق به الإمامية وغيرهم. وقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم وغيره، ولم يلزم من ذلك استخلافه دائما بالاتفاق. على أنه قد كان هارون شرك مع موسى في أصل الرسالة، فلا يكون لهم فيه على ما راموه دلالة. والله الموفق للهداية. }وأصلح} أمر بالإصلاح. قال ابن جريج: كان من الإصلاح أن يزجر. السامري ويغير عليه. وقيل: أي ارفق بهم، وأصلح أمرهم، وأصلح نفسك؛ أي كن مصلحا. }ولا تتبع سبيل المفسدين} أي لا تسلك سبيل العاصين، ولا تكن عونا للظالين.
الآية رقم ( 143 )
{ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين}
قوله تعالى{ولما جاء موسى لميقاتنا} أي في الوقت الموعود. }وكلمه ربه} أي أسمعه كلامه من غير واسطة. }قال رب أرني أنظر إليك} سأل النظر إليه؛ واشتاق إلى رؤيته لما أسمعه كلامه.
قوله تعالى{قال لن تراني} أي في الدنيا. ولا يجوز الحمل على أنه أراد: أرني آية عظيمة لأنظر إلى قدرتك؛ لأنه قال }إليك} و}قال لن تراني}. ولو سأل آية لأعطاه الله ما سأل، كما أعطاه سائر الآيات. وقد كان لموسى عليه السلام فيها مقنع عن طلب آية أخرى؛ فبطل هذا التأويل. }ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} ضرب له مثالا مما هو أقوى من بنيته وأثبت. أي فإن ثبت الجبل وسكن فسوف تراني، وإن لم يسكن فإنك لا تطيق رؤيتي، كما أن الجبل لا يطيق رؤيتي. وذكر القاضي عياض عن القاضي أبي بكر بن الطيب ما معناه: أن موسى عليه السلام رأى الله فلذلك خر صعقا، وأن الجبل رأى ربه فصار دكا بإدراك خلقه الله له. واستنبط ذلك من قوله{ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني}. ثم قال{فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا} وتجلى معناه ظهر؛ من قولك: جلوت العروس أي أبرزتها. وجلوت السيف أبرزته من الصدأ؛ جلاء فيهما. وتجلى الشيء انكشف. وقيل: تجلى أمره وقدرته؛ قاله قطرب وغيره. وقراءة أهل المدينة وأهل البصرة }دكا}؛ يدل على صحتها }دكت الأرض دكا}الفجر: 21] وأن الجبل مذكر. وقرأ أهل الكوفة }دكاء} أي جعله مثل أرض دكاء، وهي الناتئة لا تبلغ أن تكون جبلا. والمذكر أدك، وجمع دكاء دكاوات ودك؛ مثل حمراوات وحمر. قال الكسائي: الدك من الجبال: العراض، واحدها أدك. غيره: والدكاوات جمع دكاء: رواب من طين ليست بالغلاظ. والدكداك كذلك من الرمل: ما التبد بالأرض فلم يرتفع. وناقة دكاء لا سنام لها. وفي التفسير: فساخ الجبل في الأرض؛ فهو يذهب فيها حتى الآن. وقال ابن عباس: جعله ترابا. عطية العوفي: رملا هائلا. }وخر موسى صعقا} أي مغشيا عليه؛ عن ابن عباس والحسن وقتادة. وقيل: ميتا؛ يقال: صعق الرجل فهو صعق. وصعق فهو مصعوق. وقال قتادة والكلبي: خر موسى صعقا يوم الخميس يوم عرفة، وأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر. }فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك} قال مجاهد: من مسألة الرؤية في الدنيا. وقيل: سأل من غير استئذان؛ فلذلك تاب. وقيل: قال على جهة الإنابة إلى الله والخشوع له عند ظهور الآيات. وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية؛ فإن الأنبياء معصومون. وأيضا عند أهل السنة والجماعة الرؤية جائزة. وعند المبتدعة سأل لأجل القوم ليبين لهم أنها غير جائزة، وهذا لا يقتضي التوبة. فقيل: أي تبت إليك من قتل القبطي؛ ذكره القشيري. وقد مضى في }الأنعام} بيان أن الرؤية جائزة. قال علي بن مهدي الطبري: لو كان سؤال موسى مستحيلا ما أقدم عليه مع معرفته بالله؛ كما لم يجز أن يقول له يا رب ألك صاحبة وولد. وسيأتي في }القيامة} مذهب المعتزلة والرد عليهم، إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى{وأنا أول المؤمنين} قيل: من قومي. وقيل: من بني إسرائيل في هذا العصر. وقيل: بأنك لا ترى في الدنيا لوعدك السابق، في ذلك. وفي الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأرفع رأسي فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أصعق فيمن صعق فأفاق قبلي أو حوسب بصفته الأولى). أو قال (كفته صعقته الأولى). وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن كعب قال: إن الله تبارك وتعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى صلى الله وسلم عليهما؛ فكلمه موسى مرتين، ورآه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين.
الآية رقم ( 144 )
{قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين}
قوله تعالى{قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} الاصطفاء: الاجتباء؛ أي فضلتك. ولم يقل على الخلق؛ لأن من هذا الاصطفاء أنه كلمه وقد كلم الملائكة وأرسله وأرسل غيره. فالمراد }على الناس} المرسل إليهم. وقرأ }برسالتي} على الإفراد نافع وابن كثير. والباقون بالجمع. والرسالة مصدر، فيجوز إفرادها. ومن جمع على أنه أرسل بضروب من الرسالة فاختلفت أنواعها، فجمع المصدر لاختلاف أنواعه؛ كما قال{إن أنكر الأصوات لصوت الحمير}لقمان: 19]. فجمع لاختلاف أجناس الأصوات واختلاف المصوتين. ووحد في قوله }الصوت} لما أراد به جنسا واحدا من الأصوات. ودل هذا على أن قومه لم يشاركه في التكليم ولا واحد من السبعين؛ كما بيناه في }البقرة}.
قوله تعالى{فخذ ما آتيتك} إشارة إلى القناعة؛ أي اقنع بما أعطيتك. }وكن من الشاكرين} أي من المظهرين لإحساني إليك وفضلي عليك؛ يقال: دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف. والشاكر معرض للمزيد كما قال{لئن شكرتم لأزيدنكم}إبراهيم: 7]. ويروى أن موسى عليه السلام مكث بعد أن كلمه الله تعالى أربعين ليلة لا يراه أحد إلا مات من نور الله عز وجل.
الآية رقم ( 145 )
{وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين}
قوله تعالى{وكتبنا له في الألواح من كل شيء} يريد التوراة. وروي في الخبر أنه قبض عليه جبريل عليه السلام بجناحه فمر به في العلا حتى أدناه حتى سمع صريف القلم حين كتب الله له الألواح؛ ذكره الترمذي الحكيم. وقال مجاهد: كانت الألواح من زمردة خضراء. ابن جبير: من ياقوتة حمراء. أبو العالية: من زبرجد. الحسن: من خشب؛ نزلت من السماء. وقيل: من صخرة صماء، لينها الله لموسى عليه السلام فقطعها بيده ثم شقها بأصابعه؛ فأطاعته كالحديد لداود. قال مقاتل: أي كتبنا له في الألواح كنقس الخاتم. ربيع بن أنس: نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير. وأضاف الكتابة إلى نفسه على جهة التشريف؛ إذ هي مكتوبة بأمره كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر. واستمد من نهر النور. وقيل: هي كتابة أظهرها الله وخلقها في الألواح. وأصل اللوح: لوح (بفتح اللام)؛ قال الله تعالى{بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ}البروج: 21، 22]. فكأن اللوح تلوح فيه المعاني. ويروى أنها لوحان، وجاء بالجمع لأن الاثنين جمع. ويقال: رجل عظيم الألواح إذا كان كبير عظم اليدين والرجلين. ابن عباس: وتكسرت الألواح حين ألقاها فرفعت إلا سدسها. وقيل: بقي سبعها ورفعت ستة أسباعها. فكان في الذي رفع تفصيل كل شيء، وفي الذي بقي الهدى والرحمة. وأسند أبو نعيم الحافظ عن عمرو بن دينار قال: بلغني أن موسى بن عمران نبي الله صلى الله عليه وسلم صام أربعين ليلة؛ فلما ألقى الألواح تكسرت فصام مثلها فردت إليه. ومعنى }من كل شيء} مما يحتاج إليه في دينه من الأحكام وتبيين الحلال والحرام؛ عن الثوري وغيره. وقيل: هو لفظ يذكر تفخيما ولا يراد به التعميم؛ تقول: دخلت السوق فاشتريت كل شيء. وعند فلان كل شيء. و}تدمر كل شيء}الأحقاف: 25]. }وأوتيت من كل شيء}النمل: 23]. وقد تقدم. }موعظة وتفصيلا لكل شيء} أي لكل شيء أمروا به من الأحكام؛ فإنه لم يكن عندهم اجتهاد، وإنما خص بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم. }فخذها بقوة} في الكلام حذف، أي فقلنا له: خذها بقوة؛ أي بجد ونشاط. نظيره }خذوا ما آتيناكم بقوة}البقرة: 63] وقد تقدم. }وأمر قومك يأخذوا بأحسنها} أي يعملوا بالأوامر ويتركوا النواهي، ويتدبروا الأمثال والمواعظ. نظيره }واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم}الزمر: 55]. وقال{فيتبعون أحسنه}الزمر: 18]. والعفو أحسن من الاقتصاص. والصبر أحسن من الانتصار. وقيل: أحسنها الفرائض والنوافل، وأدونها المباح. }سأريكم دار الفاسقين} قال الكلبي{دار الفاسقين} ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود، والقرون التي أهلكوا. وقيل: هي جهنم؛ عن الحسن ومجاهد. أي فلتكن منكم على ذكر، فاحذروا أن تكونوا منها. وقيل: أراد بها مصر؛ أي سأريكم ديار القبط ومساكن فرعون خالية عنهم؛ عن ابن جبير. قتادة: المعنى سأريكم منازل الكفار التي سكنوها قبلكم من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها؛ يعني الشأم. وهذان القولان يدل عليهما }وأورثنا القوم}الأعراف: 137] الآية. }ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض}القصص: 5] الآية، وقد تقدم. وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير }سأورثكم} من ورث. وهذا ظاهر. وقيل: الدار الهلاك، وجمعه أدوار. وذلك أن الله تعالى لما أغرق فرعون أوحى إلى البحر أن اقذف بأجسادهم إلى الساحل، قال: ففعل؛ فنظر إليهم بنو إسرائيل فأراهم هلاك الفاسقين.
الآية رقم ( 146 : 147 )
{سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين، والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون}
قوله تعالى{سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} قال قتادة: سأمنعهم فهم كتابي. وقاله سفيان بن عيينة. وقيل: سأصرفهم عن الإيمان بها. وقيل: سأصرفهم عن نفعها؛ وذلك مجازاة على تكبرهم. نظيره{فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}الصف: 5]. والآيات على هذا المعجزات أو الكتب المنزلة. وقيل: خلق السماوات والأرض. أي أصرفهم عن الاعتبار بها. }يتكبرون} يرون أنهم أفضل الخلق. وهذا ظن باطل؛ فلهذا قال{بغير الحق} فلا يتبعون نبيا ولا يصغون إليه لتكبرهم.
قوله تعالى{وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا} يعني هؤلاء المتكبرون. أخبر عنهم أنهم يتركون طريق الرشاد ويتبعون سبيل الغي والضلال؛ أي الكفر يتخذونه دينا. }ثم علل فقال{ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا} أي ذلك الفعل الذي فعلته بهم بتكذيبهم. }وكانوا عنها غافلين} أي كانوا في تركهم تدبر الحق كالغافلين. ويحتمل أن يكونوا غافلين عما يجازون به؛ كما يقال: ما أغفل فلان عما يراد به؛ وقرأ مالك بن دينار }وإن يروا} بضم الياء في الحرفين؛ أي يفعل ذلك بهم. وقرأ أهل المدينة وأهل البصرة }سبيل الرشد} بضم الراء وإسكان الشين. وأهل الكوفة إلا عاصما }الرشد} بفتح الراء والشين. قال أبو عبيد: فرق أبو عمرو بين الرشد والرشد فقال: الرشد في الصلاح. والرشد في الدين. قال النحاس{سيبويه يذهب إلى أن الرشد والرشد مثل السخط والسخط، وكذا قال الكسائي. والصحيح عن أبي عمرو غير ما قال أبو عبيد. قال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا نصر بن علي عن أبيه عن أبي عمرو بن العلاء قال: إذا كان الرشد وسط الآية فهو مسكن، وإذا كان رأس الآية فهو محرك. قال النحاس: يعني برأس الآية نحو }وهيئ لنا من أمرنا رشدا}الكهف: 10] فهما عنده لغتان بمعنى واحد؛ إلا أنه فتح هذا لتتفق الآيات. ويقال: رشد يرشد، ورشد يرشد. وحكى سيبويه رشد يرشد. وحقيقة الرشد والرشد في اللغة أن يظفر الإنسان بما يريد، وهو ضد الخيبة}.
الآية رقم ( 148 )
{واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين}
قوله تعالى{واتخذ قوم موسى من بعده} أي من بعد خروجه إلى الطور. }من حليهم} هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما }من حليهم} بكسر الحاء. وقرأ يعقوب }من حليهم} بفتح الحاء والتخفيف. قال النحاس: جمع حلي وحلي وحلي؛ مثل ثدي وثدي وثدي. والأصل }حلوى} ثم أدغمت الواو في الياء فانكسرت اللام لمجاورتها الياء، وتكسر الحاء لكسرة اللام. وضمها على الأصل. }عجلا} مفعول. }جسدا} نعت أو بدل. }له خوار} رفع بالابتداء. يقال: خار يخور خوارا إذا صاح. وكذلك جأر يجأر جؤارا. ويقال: خور يخور خورا إذا جبن وضعف. وروي في قصص العجل: أن السامري، واسمه موسى بن ظفر، ينسب إلى قرية تدعى سامرة. ولد عام قتل الأبناء، وأخفته أمه في كهف جبل فغذاه جبريل فعرفه لذلك؛ فأخذ حين عبر البحر على فرس وديق ليتقدم فرعون في البحر - قبضة من أثر حافر الفرس. وهو معنى قوله{فقبضت قبضة من أثر الرسول}طه: 96]. وكان موسى وعد قومه ثلاثين يوما، فلما أبطأ في العشر الزائد ومضت ثلاثون ليلة قال لبني إسرائيل وكان مطاعا فيهم: إن معكم حليا من حلي آل فرعون، وكان لهم عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي فاستعاروا لذلك اليوم؛ فلما أخرجهم الله من مصر وغرق القبط بقي ذلك الحلي في أيديهم، فقال لهم السامري: إنه حرام عليكم، فهاتوا ما عندكم فنحرقه. وقيل: هذا الحلي ما أخذه بنو إسرائيل من قوم فرعون بعد الغرق، وأن هارون قال لهم: إن الحلي غنيمة، وهي لا تحل لكم؛ فجمعها في حفرة حفرها فأخذها السامري. وقيل: استعاروا الحلي ليلة أرادوا الخروج من مصر، وأوهموا القبط أن لهم عرسا أو مجتمعا، وكان السامري سمع قولهم }اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}الأعراف: 138]. وكانت تلك الآلهة على مثال البقر؛ فصاغ لهم عجلا جسدا، أي مصمتا؛ غير أنهم كانوا يسمعون منه خوار. وقيل: قلبه الله لحما ودما. وقيل: إنه لما ألقى تلك القبضة من التراب في النار على الحلي صار عجلا له خوار؛ فخار خورة واحدة ولم يثن ثم قال للقوم{هذا إلهكم وإله موسى فنسي}طه: 88]. يقول: نسيه ههنا وذهب يطلبه فضل عنه - فتعالوا نعبد هذا العجل. فقال الله لموسى وهو يناجيه{فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري}طه: 85]. فقال موسى: يا رب، هذا السامري أخرج لهم عجلا من حليهم، فمن جعل له جسدا؟ - يريد اللحم والدم - ومن جعل له خوارا؟ فقال الله سبحانه: أنا فقال: وعزتك وجلالك ما أضلهم غيرك. قال صدقت يا حكيم الحكماء. وهو معنى قوله{إن هي إلا فتنتك}الأعراف: 155]. وقال القفال: كان السامري احتال بأن جوف العجل، وكان قابل به الريح، حتى جاء من ذلك ما يحاكي الخوار، وأوهمهم أن ذلك إنما صار كذلك لما طرح في الجسد من التراب الذي كان أخذه من تراب قوائم فرس جبريل. وهذا كلام فيه تهافت؛ قاله القشيري.
قوله تعالى{ألم يروا أنه لا يكلمهم} بين أن المعبود يجب أن يتصف بالكلام. }ولا يهديهم سبيلا} أي طريقا إلى حجة. }اتخذوه} أي إلها. }وكانوا ظالمين} أي لأنفسهم فيما فعلوا من اتخاذه. وقيل: وصاروا ظالمين أي مشركين لجعلهم العجل إلها.
الآية رقم ( 149 )
{ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين}
قوله تعالى{ولما سقط في أيديهم} أي بعد عود موسى من الميقات. يقال للنادم المتحير: قد سقط في يده. قال الأخفش: يقال سقط في يده، وأسقط. ومن قال: سقط في أيديهم على بناء الفاعل؛ فالمعنى عنده: سقط الندم؛ قال الأزهري والنحاس وغيرهما. والندم يكون في القلب، ولكنه ذكر اليد لأنه يقال لمن تحصل على شيء: قد حصل في يده أمر كذا؛ لأن مباشرة الأشياء في الغالب باليد؛ قال الله تعالى{ذلك بما قدمت يداك}الحج: 10]. وأيضا: الندم وإن حل في القلب فأثره يظهر في البدن؛ لأن النادم يعض يده؛ ويضرب إحدى يديه على الأخرى؛ وقال الله تعالى{فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها}الكهف: 42] أي ندم. }ويوم يعض الظالم على يديه}الفرقان: 27] أي من الندم. والنادم يضع ذقنه في يده. وقيل: أصله من الاستئسار، وهو أن يضرب الرجل الرجل أو يصرعه فيرمي به من يديه إلى الأرض ليأسره أو يكتفه؛ فالمرمي مسقوط به في يد الساقط. }ورأوا أنهم قد ضلوا} أي انقلبوا بمعصية الله. }قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} أخذوا في الإقرار بالعبودية والاستغفار. وقرأ حمزة والكسائي{لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا} بالتاء على الخطاب. وفيه معنى الاستغاثة والتضرع والابتهال في السؤال والدعاء. }ربنا} بالنصب على حذف النداء. وهو أيضا أبلغ في الدعاء والخضوع. فقراءتهما أبلغ في الاستكانة والتضرع، فهي أولى.
الآية رقم ( 150 : 151 )
{ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئس ما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين، قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين}
قوله تعالى{ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا} لم ينصرف }غضبان} لأن مؤنثه غضبى، ولأن الألف والنون فيه بمنزلة ألفي التأنيث في قولك حمراء. وهو نصب على الحال. و}أسفا} شديد الغضب. قال أبو الدرداء: الأسف منزلة وراء الغضب أشد من ذلك. وهو أسف وأسف وأسفان وأسوف. والأسيف أيضا الحزين. ابن عباس والسدي: رجع حزينا من صنيع قومه. وقال الطبري: أخبره الله عز وجل قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل؛ فلذلك رجع وهو غضبان. ابن العربي: وكان موسى عليه السلام من أعظم الناس غضبا، لكنه كان سريع الفيئة؛ فتلك بتلك. قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: كان موسى عليه السلام إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته، ورفع شعر بدنه جبته. وذلك أن الغضب جمرة تتوقد في القلب. ولأجله أمر النبي صلى الله عليه وسلم من غضب أن يضطجع. فإن لم يذهب غضبه اغتسل؛ فيخمدها اضطجاعه ويطفئها اغتساله. وسرعه غضبه كان سببا لصكه ملك الموت ففقأ عينه. وقال الترمذي الحكيم: وإنما استجاز موسى عليه السلام ذلك لأنه كليم الله؛ كأنه رأى أن من اجترأ عليه أو مد إليه يدا بأذى فقد عظم الخطب فيه. ألا ترى أنه احتج عليه فقال: من أين تنزع روحي؟ أمن فمي وقد ناجيت به ربي! أم من سمعي وقد سمعت به كلام ربي! أم من يدي وقد قبضت منه الألواح! أم من قدمي وقد قمت بين يديه أكلمه بالطور! أم من عيني وقد أشرق وجهي لنوره. فرجع إلى ربه مفحما. وفي مصنف أبي داود عن أبي ذر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع). وروي أيضا عن أبي وائل القاص قال: دخلنا على عروة بن محمد السعدي فكلمه رجل فأغضبه؛ فقام ثم رجع وقد توضأ، فقال: حدثني أبي عن جدي عطية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ).
قوله تعالى{قال بئسما خلفتموني من بعدي} ذم منه لهم؛ أي بئس العمل عملتم بعدي. يقال: خلفه؛ بما يكره. ويقال في الخير أيضا. يقال منه: خلفه بخير أو بشر في أهله وقومه بعد شخوصه. }أعجلتم أمر ربكم} أي سبقتموه. والعجلة: التقدم بالشيء قبل وقته، وهي مذمومة. والسرعة: عمل الشيء في أول أوقاته، وهي محمودة. قال يعقوب: يقال عجلت الشيء سبقته. وأعجلت الرجل استعجلته، أي حملته على العجلة. ومعنى }أمر ربكم} أي ميعاد ربكم، أي وعد أربعين ليلة. وقيل: أن تعجلتم سخط ربكم. وقيل: أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم.
قوله تعالى{وألقى الألواح} أي مما اعتراه من الغضب والأسف حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل، وعلى أخيه في إهمال أمرهم؛ قال سعيد بن جبير. ولهذا قيل: ليس الخبر كالمعاينة. ولا التفات لما روي عن قتادة إن صح عنه، ولا يصح أن إلقاءه الألواح إنما كان لما رأى فيها من فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك لأمته. وهذا قول رديء لا ينبغي أن يضاف إلى موسى صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أن الألواح تكسرت، وأنه رفع منها التفصيل وبقي فيها الهدى والرحمة.
وقد استدل بعض جهال المتصوفة بهذا على جواز رمي الثياب إذا اشتد طربهم على المغنى. ثم منهم من يرمي بها صحاحا، ومنهم من يخرقها ثم يرمي بها. قال: هؤلاء في غيبة فلا يلامون؛ فإن موسى عليه السلام لما غلب عليه الغم بعبادة قومه العجل، رمى الألواح فكسرها، ولم يدر ما صنع. قال أبو الفرج الجوزي: من يصحح عن موسى عليه السلام أنه رماها رمي كاسر؟ والذي ذكر في القرآن ألقاها، فمن أين لنا أنها تكسرت؟ ثم لو قيل: تكسرت فمن أين لنا أنه قصد كسرها؟ ثم لو صححنا ذلك عنه قلنا كان في غيبة، حتى لو كان بين يديه بحر من نار لخاضه. ومن يصحح لهؤلاء غيبتهم وهم يعرفون المغنى من غيره، ويحذرون من بئر لو كانت عندهم. ثم كيف تقاس أحوال الأنبياء على أحوال هؤلاء السفهاء. وقد سئل ابن عقيل عن تواجدهم وتخريق ثيابهم فقال: خطأ وحرام؛ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. فقال له قائل: فإنهم لا يعقلون ما يفعلون. فقال: إن حضروا هذه الأمكنة مع علمهم أن الطرب يغلب عليهم فيزيل عقولهم أثموا بما أدخلوه على أنفسهم من التخريق وغيره مما أفسدوا، ولا يسقط عنهم خطاب الشرع؛ لأنهم مخاطبون قبل الحضور بتجنب هذا الموضع الذي يفضي إلى ذلك. كما هم منهيون عن شرب المسكر، كذلك هذا الطرب الذي يسميه أهل التصوف وجدا إن صدقوا أن فيه سكر طبع، وإن كذبوا أفسدوا مع الصحو، فلا سلامة فيه مع الحالين، وتجنب مواضع الريب واجب.
قوله تعالى{وأخذ برأس أخيه يجره إليه} أي بلحيته وذؤابته. وكان هارون أكبر من موسى - صلوات الله وسلامه عليهما - بثلاث سنين، وأحب إلى بني إسرائيل من موسى؛ لأنه كان لين الغضب. وللعلماء في أخذ موسى برأس أخيه أربع تأويلات: الأول: أن ذلك كان متعارفا عندهم؛ كما كانت العرب تفعله من قبض الرجل على لحية أخيه وصاحبه إكراما وتعظيما، فلم يكن ذلك على طريق الإذلال. الثاني: أن ذلك إنما كان ليسر إليه نزول الألواح عليه؛ لأنها نزلت عليه في هذه المناجاة وأراد أن يخفيها عن بني إسرائيل قبل التوراة. فقال له هارون: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي؛ لئلا يشتبه سراره على بني إسرائيل بإذلاله. الثالث: إنما فعل ذلك به لأنه وقع في نفسه أن هارون مائل مع بني إسرائيل فيما فعلوه من أمر العجل. ومثل هذا لا يجوز على الأنبياء. الرابع: ضم إليه أخاه ليعلم ما لديه؛ فكره ذلك هارون لئلا يظن بنو إسرائيل أنه أهانه؛ فبين له أخوه أنهم استضعفوه، يعني عبدة العجل، وكادوا يقتلونه أي قاربوا. فلما سمع عذره قال: رب اغفر لي ولأخي؛ أي اغفر لي ما كان من الغضب الذي ألقيت من أجله الألواح، ولأخي لأنه ظنه مقصرا في الإنكار عليهم وإن لم يقع منه تقصير؛ أي اغفر لأخي إن قصر. قال الحسن: عبد كلهم العجل غير هارون، إذ لو كان ثم مؤمن غير موسى وهارون لما اقتصر على قوله: رب اغفر لي ولأخي، ولدعا لذلك المؤمن أيضا. وقيل: استغفر لنفسه من فعله بأخيه، فعل ذلك لموجدته عليه؛ إذ لم يلحق به فيعرفه ما جرى ليرجع فيتلافاهم؛ ولهذا قال{يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري}طه: 92 - 93] الآية. فبين هارون أنه إنما أقام خوفا على نفسه من القتل. فدلت الآية على أن لمن خشي القتل على نفسه عند تغيير المنكر أن يسكت. ابن العربي: وفيها دليل على أن الغضب لا يغير الأحكام كما زعم بعض الناس؛ فإن موسى عليه السلام لم يغير غضبه شيئا من أفعاله، بل اطردت على مجراها من إلقاء لوح وعتاب أخ وصك ملك. الهدوي: لأن غضبه كان لله عز وجل، وسكوته عن بني إسرائيل خوفا أن يتحاربوا أو يتفرقوا.
قوله تعالى{قال ابن أم} وكان ابن أمه وأبيه. ولكنها كلمة لين وعطف. قال الزجاج: قيل كان هارون أخا موسى لأمه لا لأبيه. وقرئ بفتح الميم وكسرها؛ فمن فتح جعل }ابن أم} اسما واحدا كخمسة عشر؛ فصار كقولك: يا خمسة عشر أقبلوا. ومن كسر الميم جعله مضافا إلى ضمير المتكلم ثم حذف ياء الإضافة؛ لأن مبنى النداء على الحذف، وأبقى الكسرة في الميم لتدل على الإضافة؛ كقوله{يا عباد}الزمر: 10]. يدل عليه قراءة ابن السميقع }يا ابن أمي} بإثبات الياء على الأصل. وقال الكسائي والفراء وأبو عبيد{يا ابن أم} بالفتح، تقديره يا ابن أماه. وقال البصريون: هذا القول خطأ؛ لأن الألف خفيفة لا تحذف، ولكن جعل الاسمين اسما واحدا. وقال الأخفش وأبو حاتم{يا ابن أم} بالكسر كما تقول: يا غلام غلام أقبل، وهي لغة شاذة والقراءة بها بعيدة. وإنما هذا فيما يكون مضافا إليك؛ فأما المضاف إلى مضاف إليك فالوجه أن تقول: يا غلام غلامي، ويا ابن أخي. وجوزوا يا ابن أم، يا ابن عم، لكثرتها في الكلام. قال الزجاج والنحاس: ولكن لها وجه حسن جيد، يجعل الابن مع الأم ومع العم اسما واحدا؛ بمنزلة قولك: يا خمسة عشر أقبلوا، فحذفت الياء كما حذفت من يا غلام }إن القوم استضعفوني} استذلوني وعدوني ضعيفا. }وكادوا} أي قاربوا. }يقتلونني} بنونين؛ لأنه فعل مستقبل. ويجوز الإدغام في غير القرآن. }فلا تشمت بي الأعداء} أي لا تسرهم. والشماتة: السرور بما يصيب أخاك من المصائب في الدين والدنيا. وهي محرمة منهي عنها. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء). أخرجه البخاري وغيره. وقال الشاعر:
إذا ما الدهر جر على أناس كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا
وقرأ مجاهد ومالك بن دينار }تشمت} بالنصب في التاء وفتح الميم، }الأعداء} بالرفع. والمعنى: لا تفعل بي ما تشمت من أجله الأعداء، أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله أنت بي. وعن مجاهد أيضا }تشمت} بالفتح فيهما }الأعداء} بالنصب. قال ابن جني: المعنى فلا تشمت بي أنت يا رب. وجاز هذا كما قال{الله يستهزئ بهم}البقرة: 15] ونحوه. ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلا نصب به الأعداء؛ كأنه قال: ولا تشمت بي، الأعداء. قال أبو عبيد: وحكيت عن حميد{فلا تشمت} بكسر الميم. قال النحاس: ولا وجه لهذه القراءة؛ لأنه إن كان من شمت وجب أن يقول تشمت. وإن كان من أشمت وجب أن يقول تشمت. وقوله{ولا تجعلني مع القوم الظالمين} قال مجاهد: يعني الذين عبدوا العجل. }قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين} تقدم.
الآية رقم ( 152 : 153 )
{إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين، والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم}
قوله تعالى{إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم} الغضب من الله العقوبة. }وذلة في الحياة الدنيا} لأنهم أمروا بقتل بعضهم بعضا. وقيل: الذلة الجزية. وفيه بعد؛ لأن الجزية لم تؤخذ منهم وإنما أخذت من ذرياتهم. ثم قيل: هذا من تمام كلام موسى عليه السلام؛ أخبر الله عز وجل به عنه، وتم الكلام. ثم قال الله تعالى{وكذلك نجزي المفترين} وكان هذا القول من موسى عليه السلام قبل أن يتوب القوم بقتلهم أنفسهم، فإنهم لما تابوا وعفا الله عنهم بعد أن جرى القتل العظيم أخبرهم أن من مات منهم قتيلا فهو شهيد، ومن بقي حيا فهو مغفور له. وقيل: كان ثم طائفة أشربوا في قلوبهم العجل، أي حبه، فلم يتوبوا؛ فهم المعنيون. وقيل: أراد من مات منهم قبل رجوع موسى من الميقات. وقيل: أراد أولادهم. وهو ما جرى على قريظة والنضير؛ أي سينال أولادهم. والله أعلم. }وكذلك نجزي المفترين} أي مثل ما فعلنا بهؤلاء نفعل بالمفترين. وقال مالك بن أنس رحمة الله عليه: ما من مبتدع إلا وتجد فوق رأسه ذلة، ثم قرأ }إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم - حتى قال - وكذلك نجزي المفترين} أي المبتدعين. وقيل: إن موسى أم بذبح العجل، فجرى منه دم وبرده بالمبرد وألقاه مع الدم في اليم وأمرهم بالشرب من ذلك الماء؛ فمن عبد ذلك العجل وأشربه ظهر ذلك على أطراف فمه؛ فبذلك عرف عبدة العجل. ثم أخبر الله تعالى أن الله يقبل توبة التائب من الشرك وغيره. }والذين عملوا السيئات} أي الكفر والمعاصي. }ثم تابوا من بعدها} أي من بعد فعلها. }وآمنوا إن ربك من بعدها} أي من بعد التوبة }لغفور رحيم}.
الآية رقم ( 154 )
{ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون}
قوله تعالى{ولما سكت عن موسى الغضب} أي سكن. وكذلك قرأها معاوية بن قرة }سكن} بالنون. وأصل السكوت السكون والإمساك؛ يقال: جرى الوادي ثلاثا ثم سكن، أي أمسك عن الجري. وقال عكرمة: سكت موسى عن الغضب؛ فهو من المقلوب. كقولك: أدخلت الأصبع في الخاتم وأدخلت الخاتم في الأصبع. وأدخلت القلنسوة في رأسي، وأدخلت رأسي في القلنسوة. }أخذ الألواح} التي ألقاها. }وفي نسختها هدى ورحمة} أي }هدى} من الضلالة؛ }ورحمة} أي من العذاب. والنسخ: نقل ما في كتاب إلى كتاب آخر. ويقال للأصل الذي كتبت منه: نسخة، وللفرع نسخة. فقيل: لما تكسرت الألواح صام موسى أربعين يوما؛ فردت عليه وأعيدت له تلك الألواح في لوحين، ولم يفقد منها شيئا؛ ذكره ابن عباس. قال القشيري: فعلى هذا }وفي نسختها} أي وفيما نسخ من الألواح المتكسرة ونقل إلى الألواح الجديدة هدى ورحمة. وقال عطاء: وفيما بقي منها. وذلك أنه لم يبق منها إلا سبعها، وذهب ستة أسباعها. ولكن لم يذهب من الحدود والأحكام شيء. وقيل: المعنى }وفي نسختها} أي وفيما نسخ له منها من اللوح المحفوظ هدى. وقيل: المعنى وفيما كتب له فيها هدى ورحمة، فلا يحتاج إلى أصل ينقل عنه. وهذا كما يقال: انسخ ما يقول فلان، أي أثبته في كتابك.
قوله تعالى{للذين هم لربهم يرهبون} أي يخافون. وفي اللام ثلاثة أقوال: قول الكوفيين هي زائدة. قال الكسائي: حدثني من سمع الفرزدق يقول: نقدت لها مائة درهم، بمعنى نقدتها. وقيل: هي لام أجل؛ المعنى: والذين هم من أجل ربهم يرهبون لا رياء ولا سمعة؛ عن الأخفش. وقال محمد بن يزيد: هي متعلقة بمصدر؛ المعنى: للذين هم رهبتهم لربهم. وقيل: لما تقدم المفعول حسن دخول اللام؛ كقول{إن كنتم للرؤيا تعبرون}يوسف: 43]. فلما تقدم المعمول وهو المفعول ضعف عمل الفعل فصار بمنزلة ما لا يتعدى.
الآية رقم ( 155 )
{واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين}
قوله تعالى{واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا} مفعولان، أحدهما حذفت منه من؛ وأنشد سيبويه:
منا الذي اختير الرجال سماحة وبرا إذا هب الرياح الزعازع
وقال الراعي يمدح رجلا:
اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم واختل من كان يرجى عنده السول
يريد: اخترتك من الناس. وأصل اختار اختير؛ فلما تحركت الياء وقبلها فتحة قلبت ألفا، نحو قال وباع.
قوله تعالى{فلما أخذتهم الرجفة} أي ماتوا. والرجفة في اللغة الزلزلة الشديدة. ويروى أنهم زلزلوا حتى ماتوا. }قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} أي أمتهم؛ كما قال عز وجل{إن امرؤ هلك}النساء: 176]. }وإياي} عطف. والمعنى: لو شئت أمتنا من قبل أن نخرج إلى الميقات بمحضر بني إسرائيل حتى لا يتهموني. أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن سفيان عن أبي إسحاق عن عمارة بن عبد عن علي رضي الله عنه قال: انطلق موسى وهارون صلى الله عليهما وانطلق شبر وشبير - هما ابنا هارون - فانتهوا إلى جبل فيه سرير، فقام عليه هارون فقبض روحه. فرجع موسى إلى قومه، فقالوا: أنت قتلته، حسدتنا على لينه وعلى خلقه، أو كلمة نحوها، الشك من سفيان، فقال: كيف أقتله ومعي ابناه ! قال: فاختاروا من شئتم؛ فاختاروا من كل سبط عشرة. قال: فذلك قوله{واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا} فانتهوا إليه؛ فقالوا: من قتلك يا هارون؟ قال: ما قتلني أحد ولكن الله توفاني. قالوا: يا موسى، ما تعصى. فأخذتهم الرجفة، فجعلوا يترددون يمينا وشمالا، ويقول{أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك} قال: فدعا الله فأحياهم وجعلهم أنبياء كلهم. قيل: أخذتهم الرجفة لقولهم: أرنا الله جهرة كما قال الله تعالى{وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة}البقرة: 55]. وقال ابن عباس: إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم ينهوا من عبد العجل، ولم يرضوا عبادته. وقيل: هؤلاء السبعون غير من قالوا أرنا الله جهرة. وقال وهب: ما ماتوا، ولكن أخذتهم الرجفة من الهيبة حتى كادت أن تبين مفاصلهم، وخاف موسى عليهم الموت. وقد تقدم في }البقرة} عن وهب أنهم ماتوا يوما وليلة. وقيل غير هذا في معنى سبب أخذهم بالرجفة. والله أعلم بصحة ذلك. ومقصود الاستفهام في قوله{أتهلكنا} الجحد؛ أي لست تفعل ذلك. وهو كثير في كلام العرب. وإذا كان نفيا كان بمعنى الإيجاب؛ كما قال:
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
وقيل: معناه الدعاء والطلب، أي لا تهلكنا؛ وأضاف إلى نفسه. والمراد القوم الذين ماتوا من الرجفة. وقال المبرد: المراد بالاستفهام استفهام استعظام؛ كأنه يقول: لا تهلكنا، وقد علم موسى أن الله لا يهلك أحدا بذنب غيره؛ ولكنه كقول عيسى{إن تعذبهم فإنهم عبادك}المائدة: 118]. وقيل: المراد بالسفهاء السبعون. والمعنى: أتهلك بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء في قولهم }أرنا الله جهرة}. }إن هي إلا فتنتك} أي ما هذا إلا اختبارك وامتحانك. وأضاف الفتنة إلى الله عز وجل ولم يضفها إلى نفسه؛ كما قال إبراهيم{وإذا مرضت فهو يشفين}الشعراء: 80] فأضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى: وقال يوشع{وما أنسانيه إلا الشيطان}الكهف:63]. وإنما استفاد ذلك موسى عليه السلام من قوله تعالى له{فإنا قد فتنا قومك من بعدك}طه: 85]. فلما رجع إلى قومه ورأى العجل منصوبا للعبادة وله خوار قال }إن هي إلا فتنتك تضل بها} أي بالفتنة. }من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} وهذا رد على القدرية.
الآية رقم ( 156 )
{واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون}
قوله تعالى{واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة} أي وفقنا للأعمال الصالحة التي تكتب لنا بها الحسنات. }وفي الآخرة} أي جزاء عليها. }إنا هدنا إليك} أي تبنا؛ قاله مجاهد وأبو العالية وقتادة. والهود: التوبة؛ وقد تقدم في }البقرة}.
قوله تعالى{قال عذابي أصيب به من أشاء} أي المستحقين له، أي هذه الرجفة والصاعقة عذاب مني أصيب به من أشاء. وقيل: المعنى }من أشاء} أي من أشاء أن أضله.
قوله تعالى{ورحمتي وسعت كل شيء} عموم، أي لا نهاية لها، أي من دخل فيها لم تعجز عنه. وقيل: وسعت كل شيء من الخلق حتى إن البهيمة لها رحمة وعطف على ولدها. قال بعض المفسرين: طمع في هذه الآية كل شيء حتى إبليس، فقال: أنا شيء؛ فقال الله تعالى{فسأكتبها للذين يتقون} فقالت اليهود والنصارى: نحن متقون؛ فقال الله تعالى{الذين يتبعون الرسول النبي الأمي}الأعراف: 157] الآية. فخرجت الآية عن العموم، والحمد لله. روى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كتبها الله عز وجل لهذه الأمة.
الآية رقم ( 157 )
{الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}
روى يحيى بن أبي كثير عن نوف البكالي الحميري: لما اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات ربه قال الله تعالى لموسى: أن أجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا تصلون حيث أدركتكم الصلاة إلا عند مرحاض أو حمام أو قبر، وأجعل السكينة في قلوبكم، وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلوبكم، يقرأها الرجل منكم والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير. فقال ذلك موسى لقومه، فقالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس، ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا، ونريد أن تكون كما كانت في التابوت، ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهر قلوبنا، ولا نريد أن نقرأها إلا نظرا. فقال الله تعالى{فسأكتبها للذين يتقون - إلى قوله - المفلحون}. فجعلها لهذه الأمة. فقال موسى: يا رب، اجعلني نبيهم. فقال: نبيهم منهم. قال: رب اجعلني منهم. قال: إنك لن تدركهم. فقال موسى: يا رب، أتيتك بوفد بني إسرائيل، فجعلت وفادتنا لغيرنا. فأنزل الله عز وجل{ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}الأعراف: 159]. فرضي موسى. قال نوف: فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم. وذكر أبو نعيم أيضا هذه القصة من حديث الأوزاعي قال: حدثنا يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال حدثني نوف البكالي إذا افتتح موعظة قال: ألا تحمدون ربكم الذي حفظ غيبتكم وأخذ لكم بعد سهمكم وجعل وفادة القوم لكم. وذلك أن موسى عليه السلام وفد ببني إسرائيل فقال الله لهم: إني قد جعلت لكم الأرض مسجدا حيثما صليتم فيها تقبلت صلاتكم إلا في ثلاثة مواطن من صلى فيمن لم أقبل صلاته المقبرة والحمام والمرحاض. قالوا: لا، إلا في الكنيسة. قال: وجعلت لكم التراب طهورا إذا لم تجدوا الماء. قالوا: لا، إلا بالماء. قال: وجعلت لكم حيثما صلى الرجل فكان وحده تقبلت صلاته. قالوا: لا، إلا في جماعة.
قوله تعالى{الذين يتبعون الرسول النبي الأمي} هذه الألفاظ كما ذكرنا أخرجت اليهود والنصارى من الاشتراك الذي يظهر في، قوله{فسأكتبها للذين يتقون} وخلصت هذه العدة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن عباس وابن جبير وغيرهما. و}يتبعون} يعني في شرعه ودينه وما جاء به. والرسول والنبي صلى الله عليه وسلم اسمان لمعنيين؛ فإن الرسول أخص من النبي. وقدم الرسول اهتماما بمعنى الرسالة، وإلا فمعنى النبوة هو المتقدم؛ ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء حين قال: وبرسولك الذي أرسلت. فقال له: (قل آمنت بنبيك الذي أرسلت) خرجه في الصحيح. وأيضا فإن في قوله{وبرسولك الذي أرسلت} تكرير الرسالة؛ وهو معنى واحد فيكون كالحشو الذي لا فائدة فيه. بخلاف قوله{ونبيك الذي أرسلت} فإنهما لا تكرار فيهما. وعلى هذا فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا؛ لأن الرسول والنبي قد اشتركا في أمر عام وهو النبأ، وافترقا في أمر خاص وهي الرسالة. فإذا قلت: محمد رسول من عند الله تضمن ذلك أنه نبي ورسول الله. وكذلك غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
قوله تعالى{الأمي} هو منسوب إلى الأمة الأمية، التي هي على أصل ولادتها، لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها؛ قال ابن عزيز. وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان نبيكم صلى الله عليه وسلم أميا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب؛ قال الله تعالى{وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك}العنكبوت: 48]. وروي في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب). الحديث. وقيل: نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة أم القرى؛ ذكره النحاس.
قوله تعالى{الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} روى البخاري قال: حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا فليح قال حدثنا هلال عن عطاء بن يسار لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلقا. في غير البخاري قال عطاء: ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك فما اختلفا حرفا؛ إلا أن كعبا قال بلغته: قلوبا غلوفيا وآذانا صموميا وأعينا عموميا. قال ابن عطية: وأظن هذا وهما أو عجمة. وقد روي عن كعب أنه قالها: قلوبا غلوفا وآذانا صموما وأعينا عموميا. قال الطبري: هي لغة حميرية. وزاد كعب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم قال: مولده بمكة، وهجرته بطابة، وملكه بالشأم، وأمته الحامدون، يحمدون الله على كل حال وفي كل منزل، يوضؤون أطرافهم ويأتزرون إلى أنصاف ساقهم، رعاة الشمس، يصلون الصلوات حيثما أدركتهم ولو على ظهر الكناسة، صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة. ثم قرأ }إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص}الصف: 4].
قوله تعالى{يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} قال عطاء{يأمرهم بالمعروف} بخلع الأنداد، ومكارم الأخلاق، وصلة الأرحام. }وينهاهم عن المنكر} عبادة الأصنام، وقطع الأرحام.
قوله تعالى{ويحل لهم الطيبات} مذهب مالك أن الطيبات هي المحللات؛ فكأنه وصفها بالطيب؛ إذ هي لفظة تتضمن مدحا وتشريفا. وبحسب هذا نقول في الخبائث: إنها المحرمات؛ ولذلك قال ابن عباس: الخبائث هي لحم الخنزير والربا وغيره. وعلى هذا حلل مالك المتقذرات كالحيات والعقارب والخنافس ونحوها. ومذهب الشافعي رحمه الله أن الطيبات هي من جهة الطعم؛ إلا أن اللفظة عنده ليست على عمومها؛ لأن عمومها بهذا الوجه من الطعم يقتضي تحليل الخمر والخنزير، بل يراها مختصة فيما حلله الشرع. ويرى الخبائث لفظا عاما في المحرمات بالشرع وفي المتقذرات؛ فيحرم العقارب والخنافس والوزغ وما جرى هذا المجرى. والناس على هذين القولين.
قوله تعالى{ويضع عنهم إصرهم} الإصر: الثقل؛ قال مجاهد وقتادة وابن جبير. والإصر أيضا: العهد؛ قال ابن عباس والضحاك والحسن. وقد جمعت هذه الآية المعنيين، فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال؛ فوضع عنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال؛ كغسل البول، وتحليل الغنائم، ومجالسة الحائض ومؤاكلتها ومضاجعتها؛ فإنهم كانوا إذا أصاب ثوب أحدهم بول قرضه. وروي: جلد أحدهم. وإذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء فأكلتها، وإذا حاضت المرأة لم يقربوها، إلى غير ذلك مما ثبت في الحديث الصحيح وغيره.
قوله تعالى{والأغلال التي كانت عليهم} فالأغلال عبارة مستعارة لتلك الأثقال. ومن الأثقال ترك الاشتغال يوم السبت؛ فإنه يروى أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلا يحمل قصبا فضرب عنقه. هذا قول جمهور المفسرين. ولم يكن فيهم الدية، وإنما كان القصاص. وأمروا بقتل أنفسهم علامة لتوبتهم، إلى غير ذلك. فشبه ذلك بالأغلال؛ كما قال الشاعر:
فليس كعهد الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
عاد الفتى كالكهل ليس بقائل سوى العدل شيئا فاستراح العواذل
فشبه حدود الإسلام وموانعه عن التخطي إلى المحظورات بالسلاسل المحيطات بالرقاب. ومن هذا المعنى قول أبي أحمد بن جحش لأبي سفيان:
اذهب بها اذهب بها طوقتها طوق الحمامه
أي لزمك عارها. يقال: طوق فلان كذا إذا لزمه.
إن قيل: كيف عطف الأغلال وهو جمع على الإصر وهو مفرد؛ فالجواب أن الإصر مصدر يقع على الكثرة. وقرأ ابن عامر }آصارهم} بالجمع؛ مثل أعمالهم. فجمعه لاختلاف ضروب المآثم. والباقون بالتوحيد؛ لأنه مصدر يقع على القليل والكثير من جنسه مع إفراد لفظه. وقد أجمعوا على التوحيد في قوله{ولا تحمل علينا إصرا}البقرة: 286]. وهكذا كلما يرد عليك من هذا المعنى؛ مثل }وعلى سمعهم}البقرة: 7]. }لا يرتد إليهم طرفهم}إبراهيم: 43]. و}من طرف خفي}الشورى: 45]. كله بمعنى الجمع.
قوله تعالى{فالذين آمنوا به وعزروه} أي وقروه ونصروه. قال الأخفش: وقرأ الجحدري وعيسى }وعزروه} بالتخفيف. وكذا }وعزرتموهم}المائدة: 12]. يقال: عزره يعزره ويعزره. }واتبعوا النور الذي أنزل معه} القرآن }أولئك هم المفلحون} }الفلاح} الظفر بالمطلوب. وقد تقدم هذا.
الآية رقم ( 158 )
{قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون}
ذكر أن موسى بشر به، وأن عيسى بشر به. ثم أمره أن يقول بنفسه }إني رسول الله إليكم جميعا}. و}كلماته} كلمات الله تعالى كتبه من التوراة والإنجيل والقرآن.
الآية رقم ( 159 )
{ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}
أي يدعون الناس إلى الهداية. و}يعدلون} معناه في الحكم. وفي التفسير: إن هؤلاء قوم من وراء الصين، من وراء نهر الرمل، يعبدون الله بالحق والعدل، آمنوا بمحمد وتركوا السبت، يستقبلون قبلتنا، لا يصل إلينا منهم أحد، ولا منا إليهم أحد. فروي أنه لما وقع الاختلاف بعد موسى كانت منهم أمة يهدون بالحق، ولم يقدروا أن يكونوا بين ظهراني بني إسرائيل حتى أخرجهم الله إلى ناحية من أرضه في عزلة من الخلق، فصار لهم سرب في الأرض، فمشوا فيه سنة ونصف سنة حتى خرجوا وراء الصين؛ فهم على الحق إلى الآن. وبين الناس وبينهم بحر لا يوصل إليهم بسببه. ذهب جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم إليهم ليلة المعراج فآمنوا به وعلمهم سورا من القرآن وقال لهم: هل لكم مكيال وميزان؟ قالوا: لا، قال: فمن أين معاشكم؟ قالوا: نخرج إلى البرية فنزرع، فإذا حصدنا وضعناه هناك، فإذا احتاج أحدنا إليه يأخذ حاجته. قال: فأين نساؤكم؟ قالوا: في ناحية منا، فإذا احتاج أحدنا لزوجته صار إليها في وقت الحاجة. قال: فيكذب أحدكم في حديثه؟ قالوا: لو فعل ذلك أحدنا أخذته لظى، إن النار تنزل فتحرقه. قال: فما بال بيوتكم مستوية؟ قالوا لئلا يعلو بعضنا على بعض. قال: فما بال قبوركم على أبوابكم؟ قالوا: لئلا نغفل عن ذكر الموت. ثم لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا ليلة الإسراء أنزل عليه{وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}الأعراف: 181] يعني أمة محمد عليه السلام. يعلمه أن الذي أعطيت موسى في قومه أعطيتك في أمتك. وقيل: هم الذين آمنوا بنبينا محمد عليه السلام من أهل الكتاب. وقيل: هم قوم من بني إسرائيل تمسكوا بشرع موسى قبل نسخه، ولم يبدلوا ولم يقتلوا الأنبياء.
الآية رقم ( 160 : 162 )
{وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون}
قوله تعالى{وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما} عدد نعمه على بني إسرائيل، وجعلهم أسباطا ليكون أمر كل سبط معروفا من جهة رئيسهم؛ فيخف الأمر على موسى. وفي التنزيل{وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا}المائدة: 12] وقد تقدم. وقوله{اثنتي عشرة} والسبط مذكر لأن بعده }أمما} فذهب التأنيث إلى الأمم. ولو قال: اثني عشر لتذكير السبط جاز؛ عن الفراء. وقيل: أراد بالأسباط القبائل والفرق؛ فلذلك أنث العدد. قال الشاعر:
وإن قريشا كلها عشر أبطن وأنت بريء من قبائلها العشر
فذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة؛ فلذلك أنثها. والبطن مذكر؛ كما أن الأسباط جمع مذكر. الزجاج: المعنى قطعناهم اثنتي عشرة فرقة. }أسباطا} بدل من اثنتي عشرة }أمما} نعت للأسباط. وروى المفضل عن عاصم }وقطعناهم} مخففا. }أسباطا} الأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل عليهما السلام. والأسباط مأخوذ من السبط وهو شجر تعلفه الإبل. وقد مضى في (البقرة) مستوفى.
روى معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل{فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم} قالوا: حبة في شعرة. وقيل لهم{ادخلوا الباب سجدا} فدخلوا متوركين على أستاههم. }بما كانوا يظلموا} مرفوع؛ لأنه فعل مستقبل وموضعه نصب. و}ما} بمعنى المصدر، أي بظلمهم. وقد مضى في (البقرة) ما في هذه الآية من المعاني والأحكام. والحمد لله.
الآية رقم ( 163 : 164 )
{واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون، وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون}
قوله تعالى{واسألهم عن القرية} أي عن أهل القرية؛ فعبر عنهم بها لما كانت مستقرا لهم أو سبب اجتماعهم. نظيره }واسأل القرية التي كنا فيها}يوسف: 82]. وقوله عليه السلام: (اهتز العرش لموت سعد بن معاذ) يعني أهل العرش من الملائكة، فرحا واستبشارا بقدومه، رضي الله عنه. أي واسأل اليهود الذين هم جيرانك عن أخبار أسلافهم وما مسخ الله منهم قردة وخنازير. هذا سؤال تقرير وتوبيخ. وكان ذلك علامة لصدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ أطلعه الله على تلك الأمور من غير تعلم. وكانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، لأنا من سبط خليله إبراهيم، ومن سبط إسرائيل وهم بكر الله، ومن سبط موسى كليم الله؛ ومن سبط ولده عزير، فنحن من أولادهم. فقال الله عز وجل لنبيه: سلهم يا محمد عن القرية، أما عذبتهم بذنوبهم؛ وذلك بتغيير فرع من فروع الشريعة.
واختلف في تعيين هذه القرية؛ فقال ابن عباس وعكرمة والسدي: هي أيلة. وعن ابن عباس أيضا أنها مدين بين أيلة والطور. الزهري: طبرية. قتادة وزيد بن أسلم: هي ساحل من سواحل الشأم، بين مدين وعينون، يقال لها: مقناة. وكان اليهود يكتمون هذه القصة لما فيها من السبة عليهم. }التي كانت حاضرة البحر} أي كانت بقرب البحر؛ تقول: كنت بحضرة الدار أي بقربها. }إذ يعدون في السبت} أي يصيدون الحيتان، وقد نهوا عنه؛ يقال: سبت اليهود؛ تركوا العمل في سبتهم. وسبت الرجل للمفعول سباتا أخذه ذلك، مثل الخرس. وأسبت سكن فلم يتحرك. والقوم صاروا في السبت. واليهود دخلوا في السبت، وهو اليوم المعروف. وهو من الراحة والقطع. ويجمع أسبت وسبوت وأسبات. وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (من احتجم يوم السبت فأصابه برص فلا يلومن إلا نفسه). قال علماؤنا: وذلك لأن الدم يجمد يوم السبت، فإذا مددته لتستخرجه لم يجر وعاد برصا. وقراءة الجماعة }يعدون}. وقرأ أبو نهيك }يعدون} بضم الياء وكسر العين وشد الدال. الأولى من الاعتداء والثانية من الإعداد؛ أي يهيئون الآلة لأخذها. وقرأ ابن السميقع }في الأسبات} على جمع السبت. }إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم} وقرئ }أسباتهم}. }شرعا} أي شوارع ظاهرة على الماء كثيرة. وقال الليث: حيتان شرع رافعة رؤوسها. وقيل: معناه أن حيتان البحر كانت ترد يوم السبت عنقا من البحر فتزاحم أيلة. ألهمها الله تعالى أنها لا تصاد يوم السبت؛ لنهيه تعالى اليهود عن صيدها. وقيل: إنها كانت تشرع على أبوابهم؛ كالكباش البيض رافعة رؤوسها. حكاه بعض المتأخرين؛ فتعدوا فأخذوها في السبت؛ قاله الحسن. وقيل: يوم الأحد، وهو الأصح على ما يأتي بيانه. }ويوم لا يسبتون} أي لا يفعلون السبت؛ يقال: سبت يسبت إذا عظم السبت. وقرأ الحسن }يسبتون} بضم الياء، أي يدخلون في السبت؛ كما يقال: أجمعنا وأظهرنا وأشهرنا، أي دخلنا في الجمعة والظهر والشهر. }لا تأتيهم} أي حيتانهم. }كذلك نبلوهم} أي نشدد عليهم في العبادة ونختبرهم. والكاف في موضع نصب. }بما كانوا يفسقون} أي بفسقهم. وسئل الحسين بن الفضل: هل تجد في كتاب الله الحلال لا يأتيك إلا قوتا، والحرام يأتيك جزفا جزفا؟ قال: نعم، في قصة داود وأيلة }إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم}. وروي في قصص هذه الآية أنها كانت في زمن داود عليه السلام، وأن إبليس أوحى إليهم فقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت، فاتخذوا الحياض؛ فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة فتبقى فيها، فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء، فيأخذونها يوم الأحد. وروى أشهب عن مالك قال: زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل خيطا ويضع فيه وهقة، وألقاها في ذنب الحوت، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد وتركه كذلك إلى الأحد، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع هذا لا يبتلى حتى كثر صيد الحوت، ومشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده؛ فقامت فرقة من بني إسرائيل ونهت، وجاهرت بالنهي واعتزلت. وقيل: إن الناهين قالوا: لا نساكنكم؛ فقسموا القرية بجدار. فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس لشأنا؛ فعلوا على الجدار فنظروا فإذا هم قردة؛ ففتحوا الباب ودخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولم تعرف الإنس أنسابهم من القردة؛ فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي؛ فيقول: ألم ننهكم! فتقول برأسها نعم. قال قتادة: صار الشبان قردة والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم. فعلى هذا القول إن بني إسرائيل لم تفترق إلا فرقتين. ويكون المعنى في قوله تعالى{وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا} أي قال الفاعلون للواعظين حين وعظوهم: إذا علمتم أن الله مهلكنا فلم تعظوننا؟ فمسخهم الله قردة.
قوله تعالى{قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون} أي قال الواعظون: موعظتنا إياكم معذرة إلى ربكم؛ أي إنما يجب علينا أن نعظكم لعلكم تتقون. أسند هذا القول الطبري عن ابن الكلبي. وقال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق، وهو الظاهر من الضمائر في الآية. فرقة عصمت وصادت، وكانوا نحوا من سبعين ألفا. وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص، وإن هذه الطائفة قالت للناهية: لم تعظون قوما - تريد العاصية - الله مهلكهم أو معذبهم على غلبة الظن، وما عهد من فعل الله تعالى حينئذ بالأمم العاصية. فقالت الناهية: موعظتنا معذرة إلى الله لعلهم يتقون. ولو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية: ولعلكم تتقون، بالكاف. ثم اختلف بعد هذا؛ فقالت فرقة: إن الطائفة التي لم تنه ولم تعص هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي؛ قاله ابن عباس. وقال أيضا: ما أدري ما فعل بهم؛ وهو الظاهر من الآية. وقال عكرمة: قلت لابن عباس لما قال ما أدري ما فعل بهم: ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم فقالوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم؟ فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نحوا؛ فكساني حلة. وهذا مذهب الحسن. ومما يدل على أنه إنما هلكت الفرقة العادية لا غير قوله{وأخذنا الذين ظلموا}الأعراف: 165]. وقوله{ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت}البقرة: 65] الآية. وقرأ عيسى وطلحة }معذرة} بالنصب. ونصبه عند الكسائي من وجهين: أحدهما على المصدر. والثاني على تقدير فعلنا ذلك معذرة. وهي قراءة حفص عن عاصم. والباقون بالرفع: وهو الاختيار؛ لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا من أمر ليموا عليه، ولكنهم قيل لهم: لم تعظون؟ فقالوا: موعظتنا معذرة. ولو قال رجل لرجل: معذرة إلى الله وإليك من كذا، يريد اعتذارا؛ لنصب. هذا قول سيبويه. ودلت الآية على القول بسد الذرائع. وقد مضى في (البقرة). ومضى فيها الكلام في الممسوخ هل ينسل أم لا، مبينا. والحمد لله. ومضى في آل عمران والمائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومضى في (النساء) اعتزال أهل الفساد ومجانبتهم، وأن من جالسهم كان مثلهم؛ فلا معنى للإعادة.
الآية رقم ( 165 )
{فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون}
النسيان يطلق على الساهي. والعامد: التارك؛ لقوله تعالى{فلما نسوا ما ذكروا به} أي تركوه عن قصد؛ ومنه }نسوا الله فنسيهم}التوبة: 67]. ومعنى }بعذاب بئيس} أي شديد. وفيه إحدى عشرة قراءة: الأولى: قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي }بئيس} على وزن فعيل. الثانية: قراءة أهل مكة }بئيس} بكسر الباء والوزن واحد. والثالثة: قراءة أهل المدينة }بيس} الباء مكسورة بعدها ياء ساكنة بعدها سين مكسورة منونة، وفيها قولان. قال الكسائي: الأصل فيه }بييس} خفيفة الهمزة، فالتقت ياءان فحذفت إحداهما وكسر أوله: كما يقال: رغيف وشهيد. وقيل: أراد }بئس} على وزن فعل؛ فكسر أوله وخفف الهمزة وحذف الكسرة؛ كما يقال: رحم ورحم. الرابعة: قراءة الحسن، الباء مكسورة بعدها همزة ساكنة بعدها سين مفتوحة. الخامسة: قرأ أبو عبدالرحمن المقرئ }بئس} الباء مفتوحة والهمزة مكسورة والسين مكسورة منونة. السادسة: قال يعقوب القارئ: وجاء عن بعض القراء }بعذاب بئس} الباء مفتوحة والهمزة مكسورة والسين مفتوحة. السابعة: قراءة الأعمش }بيئس} على وزن فيعل. وروي عنه }بيأس} على وزن فيعل. وروي عنه }بئس} بباء مفتوحة وهمزة مشددة مكسورة، والسين في كله مكسورة منونة، أعني قراءة الأعمش. العاشرة: قراءة نصر بن عاصم }بعذاب بيس} الباء مفتوحة والياء مشددة بغير همز. قال يعقوب القارئ: وجاء عن بعض القراء }بئيس} الباء مكسورة بعدها همزة ساكنة بعدها ياء مفتوحة. فهذه إحدى عشرة قراءة ذكرها النحاس. قال علي بن سليمان: العرب تقول جاء ببنات بيس أي بشيء رديء. فمعنى }بعذاب بيس} بعذاب رديء. وأما قراءة الحسن فزعم أبو حاتم أنه لا وجه لها، قال: لأنه لا يقال مررت برجل بئس، حتى يقال: بئس الرجل، أو بئس رجلا. قال النحاس: وهذا مردود من كلام أبي حاتم؛ حكى النحويون: إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت. يريدون فيها ونعمت الخصلة. والتقدير على قراءة الحسن: بعذاب بئس العذاب.
الآية رقم ( 166 )
{فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين}
قوله تعالى{فلما عتوا عن ما نهوا} أي فلما تجاوزوا في معصية الله. }قلنا لهم كونوا قردة خاسئين} يقال: خسأته فخسأ؛ أي باعدته وطردته. ودل على أن المعاصي سبب النقمة: وهذا لا خفاء به. فقيل: قال لهم ذلك بكلام يسمع، فكانوا كذلك. وقيل: المعنى كوناهم قردة.
الآية رقم ( 167 )
{وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم}
أي أعلم أسلافهم أنهم إن غيروا ولم يؤمنوا بالنبي الأمي بعث الله عليهم من يعذبهم. وقال أبو علي{آذن} بالمد، أعلم. و}أذن} بالتشديد، نادى. وقال قوم: آذن وأذن بمعنى أعلم؛ كما يقال: أيقن وتيقن. قال زهير:
فقلت تعلم إن للصيد غرة فإلا تضعيها فإنك قاتلة
وقال آخر:
تعلم إن شر الناس حي ينادى في شعارهم يسار
أي اعلم. ومعنى }يسومهم} يذيقهم؛ وقد تقدم في }البقرة}. قيل: المراد بختنصر. وقيل: العرب. وقيل: أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو أظهر؛ فإنهم الباقون إلى يوم القيامة. والله أعلم. قال ابن عباس{سوء العذاب} هنا أخذ الجزية. فإن قيل: فقد مسخوا، فكيف تؤخذ منهم الجزية؟ فالجواب أنها تؤخذ من أبنائهم وأولادهم، وهم أذل قوم، وهم اليهود. وعن سعيد بن جبير }سوء العذاب} قال: الخراج، ولم يجب نبي قط الخراج، إلا موسى عليه السلام هو أول من وضع الخراج، فجباه ثلاث عشرة سنة، ثم أمسك، ونبينا عليه السلام.
{وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون}
قوله تعالى{وقطعناهم في الأرض أمما} أي فرقناهم في البلاد. أراد به تشتيت أمرهم، فلم تجمع لهم كلمة. }منهم الصالحون} رفع على الابتداء. والمراد من آمن بمحمد عليه السلام. ومن لم يبدل منهم ومات قبل نسخ شرع موسى. أو هم الذين وراء الصين؛ كما سبق. }ومنهم دون ذلك} منصوب على الظرف. قال النحاس: ولا نعلم أحدا رفعه. والمراد الكفار منهم. }وبلوناهم} أي اختبرناهم. }بالحسنات} أي بالخصب والعافية. }والسيئات} أي الجدب والشدائد. }لعلهم يرجعون} ليرجعوا عن كفرهم.
الآية رقم ( 169 )
{فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون}
قوله تعالى{فخلف من بعدهم خلف} يعني أولاد الذين فرقهم في الأرض. قال أبو حاتم{الخلف} بسكون اللام: الأولاد، الواحد والجميع فيه سواء. و}الخلف} بفتح اللام البدل، ولدا كان أو غريبا. وقال ابن الأعرابي{الخلف} بالفتح الصالح، وبالجزم الطالح. قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنه قيل للرديء من الكلام: خلف. ومنه المثل السائر }سكت ألفا ونطق خلفا}. فخلف في الذم بالإسكان، وخلف بالفتح في المدح. هذا هو المستعمل المشهور. قال صلى الله عليه وسلم{يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله}. وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. قال حسان بن ثابت:
لنا القدم الأولى إليك وخلقنا لأولنا في طاعة الله تابع
وقال آخر.
إنا وجدنا خلفا بئس الخلف أغلق عنا بابه ثم حلف
لا يدخل البواب إلا من عرف عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف
ويروى: خضف؛ أي ردم. والمقصود من الآية الذم. }ورثوا الكتاب} قال المفسرون: هم اليهود، ورثوا كتاب الله فقرؤوه وعلموه، وخالفوا حكمه وأتوا محارمه مع دراستهم له. فكان هذا توبيخا لهم وتقريعا. }يأخذون عرض هذا الأدنى} ثم أخبر عنهم أنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم ونهمهم. }ويقولون سيغفر لنا} وهم لا يتوبون. ودل على أنهم لا يتوبون.
قوله تعالى{وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} والعرض: متاع الدنيا؛ بفتح الراء. وبإسكانها ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير. والإشارة في هذه الآية إلى الرشا والمكاسب الخبيثة. ثم ذمهم باغترارهم في قولهم وأنهم بحال إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها، فقطعوا باغترارهم بالمغفرة وهم مصرون، وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم.
قلت: وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا. أسند الدارمي أبو محمد: حدثنا محمد بن المبارك حدثنا صدقة بن خالد عن ابن جابر عن شيخ يكنى أبا عمرو عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا سنبلغ، وإن أساؤوا قالوا سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئا. وقيل: إن الضمير في }يأتهم} ليهود المدينة؛ أي وإن يأت يهود يثرب الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عرض مثله يأخذوه كما أخذه أسلافهم.
قوله تعالى{ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب} يريد التوراة. وهذا تشديد في لزوم قول الحق في الشرع والأحكام، وألا يميل الحكام بالرشا إلى الباطل.
قلت: وهذا الذي لزم هؤلاء وأخذ عليهم به الميثاق في قول الحق، لازم لنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم وكتاب ربنا، ولا خلاف فيه في جميع الشرائع، والحمد لله.
قوله تعالى{ودرسوا ما فيه} أي قرؤوه، وهم قريبو عهد به. وقرأ أبو عبدالرحمن }وادارسوا ما فيه} فأدغم التاء في الدال. قال ابن زيد: كان يأتيهم المحق برشوة فيخرجون له كتاب الله فيحكمون له به، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له. وقال ابن عباس{ألا يقولوا على الله إلا الحق} وقد قالوا الباطل في غفران ذنوبهم الذي يوجبونه ويقطعون به. وقال ابن زيد: يعني في الأحكام التي يحكمون بها؛ كما ذكرنا. وقال بعض العلماء: إن معنى }ودرسوا ما فيه} أي محوه بترك العمل به والفهم له؛ من قولك: درست الريح الآثار، إذا محتها. وخط دارس وربع دارس، إذا امحى وعفا أثره. وهذا المعنى مواطئ - أي موافق - لقوله تعالى{نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم}البقرة: 101] الآية. وقوله{فنبذوه وراء ظهورهم}آل عمران: 187]. حسب ما تقدم بيانه.
الآية رقم ( 170 )
{والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين}
قوله تعالى{والذين يمسكون بالكتاب} أي بالتوراة، أي بالعمل بها؛ يقال: مسك به وتمسك به أي استمسك به. وقرأ أبو العالية وعاصم في رواية أبي بكر }يمسكون} بالتخفيف من أمسك يمسك. والقراءة الأولى أولى؛ لأن فيها معنى التكرير والتكثير للتمسك بكتاب الله تعالى وبدينه فبذلك يمدحون. فالتمسك بكتاب الله والدين يحتاج إلى الملازمة والتكرير لفعل ذلك. وقال كعب بن زهير:
فما تمسك بالعهد الذي زعمت إلا كما تمسك الماء الغرابيل
فجاء به على طبعه يذم بكثرة نقض العهد.
الآية رقم ( 171 : 172 )
{وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون}
قوله تعالى{وإذ نتقنا الجبل} }نتقنا} معناه رفعنا. }كأنه ظلة} أي كأنه لارتفاعه سحابة تظل. }خذوا ما آتيناكم بقوة} أي بجد. وقد تقدم.
الآية رقم ( 173 : 174 )
{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون، وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون}
قوله تعالى{وإذ أخذ ربك} أي واذكر لهم مع ما سبق من تذكير المواثيق في كتابهم ما أخذت من المواثيق من العباد يوم الذر. وهذه آية مشكلة، وقد تكلم العلماء في تأويلها وأحكامها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه فقال قوم: معنى الآية أن الله تعالى أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من بعض }أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم} دلهم بخلقه على توحيده؛ لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له ربا واحدا. }ألست بربكم} أي قال. فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم، والإقرار منهم؛ كما قال تعالى في السماوات والأرض{قالتا أتينا طائعين}فصلت: 11]. ذهب إلى هذا القفال وأطنب. وقيل: إنه سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها.
قلت: وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذين القولين، وأنه تعالى أخرج الأشباح فيها الأرواح من ظهر آدم عليه السلام. وروى مالك في موطئه أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه سئل عن هذه الآية }وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} فقال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم{إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون}. فقال رجل: ففيم العمل؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم{إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار}. قال أبو عمر: هذا حديث منقطع الإسناد؛ لأن مسلم بن يسار لم يلق عمر. وقال فيه يحيى بن معين: مسلم بن يسار لا يعرف، بينه وبين عمر نعيم بن ربيعة، ذكره النسائي، ونعيم غير معروف بحمل العلم. لكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبدالله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم. روى الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال{لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل رجل منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال يا رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال أي رب من هذا؟ فقال هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود فقال رب كم جعلت عمره قال ستين سنة قال أي رب زده من عمري أربعين سنة فلما انقضى عمر آدم عليه السلام جاءه ملك الموت فقال أو لم يبق من عمري أربعون سنة قال أو لم تعطها ابنك داود قال فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته}. في غير الترمذي: فحينئذ أمر بالكتاب والشهود. في رواية: فرأى فيهم الضعف والغني والفقير والذليل والمبتلى والصحيح. فقال له آدم: يا رب، ما هذا؟ ألا سويت بينهم! قال: أردت أن أشكر. وروى عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال{أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس}. وجعل الله لهم عقولا كنملة سليمان، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره. فأقروا بذلك والتزموه، وأعلمهم بأنه سيبعث إليهم الرسل؛ فشهد بعضهم على بعض. قال أبي بن كعب: وأشهد عليهم السماوات السبع، فليس من أحد يولد إلى يوم القيامة إلا وقد أخذ عليه العهد.
واختلف في الموضع الذي أخذ فيه الميثاق حين أخرجوا على أربعة أقوال؛ فقال ابن عباس: ببطن نعمان، واد إلى جنب عرفة. وروي عنه أن ذلك برهبا - أرض بالهند - الذي هبط فيه آدم عليه السلام. وقال يحيى بن سلام قال ابن عباس في هذه الآية: أهبط الله آدم بالهند، ثم مسح على ظهره فأخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم قال{ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} قال يحيى قال الحسن: ثم أعادهم في صلب آدم عليه السلام. وقال الكلبي: بين مكة والطائف. وقال السدي: في السماء الدنيا حين أهبط من الجنة إليها مسح على ظهره فأخرج من صفحة ظهره اليمنى ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ، فقال لهم ادخلوا الجنة برحمتي. وأخرج من صفحة ظهره اليسرى ذرية سوداء وقال لهم ادخلوا النار ولا أبالي. قال ابن جريج: خرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء، وكل نفس مخلوقة للنار سوداء.
قال ابن العربي رحمه الله{فإن قيل فكيف يجوز أن يعذب الخلق وهم لم يذنبوا، أو يعاقبهم على ما أراده منهم وكتبه عليهم وساقهم إليه، قلنا: ومن أين يمتنع ذلك، أعقلا أم شرعا؟ فإن قيل: لأن الرحيم الحكيم منا لا يجوز أن يفعل ذلك. قلنا: لأن فوقه آمرا يأمره وناهيا ينهاه، وربنا تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ولا يجوز أن يقاس الخلق بالخالق، ولا تحمل أفعال العباد على أفعال الإله، وبالحقيقة الأفعال كلها لله جل جلاله، والخلق بأجمعهم له، صرفهم كيف شاء، وحكم بينهم بما أراد، وهذا الذي يجده الآدمي إنما تبعث عليه رقة الجبلة وشفقة الجنسية وحب الثناء والمدح؛ لما يتوقع في ذلك من الانتفاع، والباري تعالى متقدس عن ذلك كله، فلا يجوز أن يعتبر به}.
واختلف في هذه الآية، هل هي خاصة أو عامة. فقيل: الآية خاصة؛ لأنه تعالى قال{من بني آدم من ظهورهم} فخرج من هذا الحديث من كان من ولد آدم لصلبه. وقال جل وعز{أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل} فخرج منها كل من لم يكن له آباء مشركون. وقيل: هي مخصوصة فيمن أخذ عليه العهد على ألسنة الأنبياء. وقيل: بل هي عامة لجميع الناس؛ لأن كل أحد يعلم أنه كان طفلا فغذي وربي، وأن له مدبرا وخالقا. فهذا معنى }وأشهدهم على أنفسهم}. ومعنى }قالوا بلى} أي إن ذلك واجب عليهم. فلما اعترف الخلق لله سبحانه بأنه الرب ثم ذهلوا عنه ذكرهم بأنبيائه وختم الذكر بأفضل أصفيائه لتقوم حجته عليهم فقال له{فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمصيطر}الغاشية:22]. ثم مكنه من الصيطرة، وأتاه السلطنة، ومكن له دينه في الأرض. قال الطرطوشي: إن هذا العهد يلزم البشر وإن كانوا لا يذكرونه في هذه الحياة، كما يلزم الطلاق من شهد عليه به وقد نسيه}.
وقد استدل بهذه الآية من قال: إن من مات صغيرا دخل الجنة لإقراره في، الميثاق الأول. ومن بلغ العقل لم يغنه الميثاق الأول. وهذا القائل يقول: أطفال المشركين في الجنة، وهو الصحيح في الباب. وهذه المسألة اختلف فيها لاختلاف الآثار، والصحيح ما ذكرناه. وسيأتي الكلام في هذا في }الروم} إن شاء الله. وقد أتينا عليها في كتاب }التذكرة} والحمد لله.
قوله تعالى{من ظهورهم} بدل اشتمال من قوله }من بني آدم}. وألفاظ الآية تقتضي أن الأخذ إنما كان من بني آدم، وليس لآدم في الآية ذكر بحسب اللفظ. ووجه النظم على هذا: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم. وإنما لم يذكر ظهر آدم لأن المعلوم أنهم كلهم بنوه. وأنهم أخرجوا يوم الميثاق من ظهره. فاستغنى عن ذكره لقوله{من بني آدم}. }ذريتهم} قرأ الكوفيون وابن كثير بالتوحيد وفتح التاء، وهي تقع للواحد والجمع؛ قال الله تعالى{هب لي من لدنك ذرية طيبة}آل عمران: 38] فهذا للواحد؛ لأنه إنما سأل هبة ولد فبشر بيحيى. وأجمع القراء على التوحيد في قوله{من ذرية آدم}مريم: 58] ولا شيء أكثر من ذرية آدم. وقال{وكنا ذرية من بعدهم} فهذا للجمع. وقرأ الباقون }ذرياتهم} بالجمع، لأن الذرية لما كانت تقع للواحد أتى بلفظ لا يقع للواحد فجمع لتخلص الكلمة إلى معناها المقصود إليه لا يشركها فيه شيء وهو الجمع؛ لأن ظهور بني آدم استخرج منها ذريات كثيرة متناسبة، أعقاب بعد أعقاب، لا يعلم عددهم إلا الله؛ فجمع لهذا المعنى.
قوله تعالى{بلى} تقدم القول فيها في }البقرة}. }أن يقولوا} }أو يقولوا} قرأ أبو عمرو بالياء فيهما. ردهما على لفظ الغيبة المتكرر قبله، وهو قوله{من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم}. وقوله{قالوا بلى} أيضا لفظ غيبة. وكذا }وكنا ذرية من بعدهم} }ولعلهم} فحمله على ما قبله وما بعده من لفظ الغيبة. وقرأ الباقون بالتاء فيهما؛ ردوه على لفظ الخطاب المتقدم في قوله{ألست بربكم قالوا بلى}. ويكون }شهدنا} من قول الملائكة. لما قالوا }بلى} قالت الملائكة{شهدنا أن تقولوا} }أو تقولوا} أي لئلا تقولوا. وقيل: معنى ذلك أنهم لما قالوا بلى، فأقروا له بالربوبية، قال الله تعالى للملائكة: اشهدوا قالوا شهدنا بإقراركم لئلا تقولوا أو تقولوا. وهذا قول مجاهد والضحاك والسدي. وقال ابن عباس وأبي بن كعب: قوله }شهدنا} هو من قول بني آدم، والمعنى: شهدنا أنك ربنا وإلهنا، وقال ابن عباس: أشهد بعضهم على بعض؛ فالمعنى على هذا قالوا بلى شهد بعضنا على بعض؛ فإذا كان ذلك من قول الملائكة فيوقف على }بلى} ولا يحسن الوقف عليه إذا كان من قول بني آدم؛ لأن }أن} متعلقة بما قبل بلى، من قوله{وأشهدهم على أنفسهم} لئلا يقولوا. وقد روى مجاهد عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم ألست بربكم قالوا بلى قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا}. أي شهدنا عليكم بالإقرار بالربوبية لئلا تقولوا. فهذا يدل على التاء. قال مكي: وهو الاختيار لصحة معناه، ولأن الجماعة عليه. وقد قيل: إن قوله }شهدنا} من قول الله تعالى والملائكة. والمعنى: فشهدنا على إقراركم؛ قاله أبو مالك، وروي عن السدي أيضا. }وكنا ذرية من بعدهم} أي اقتدينا بهم. }أفتهلكنا بما فعل المبطلون} بمعنى: لست تفعل هذا. ولا عذر للمقلد في التوحيد.
الآية رقم ( 175 )
{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين}
ذكر أهل الكتاب قصة عرفوها في التوراة. واختلف في تعيين الذي أوتي الآيات. فقال ابن مسعود وابن عباس: هو بلعام بن باعوراء، ويقال ناعم، من بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام، وكان بحيث إذا نظر رأى العرش. وهو المعني بقوله }واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا} ولم يقل آية، وكان في مجلسه اثنتا عشرة ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه. ثم صار بحيث أنه كان أول من صنف كتابا في أن }ليس للعالم صانع}. قال مالك بن دينار: بعث بلعام بن باعوراء إلى ملك مدين ليدعوه إلى الإيمان؛ فأعطاه وأقطعه فاتبع دينه وترك دين موسى؛ ففيه نزلت هذه الآيات. روى المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: كان بلعام قد أوتي النبوة، وكان مجاب الدعوة، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل يريد قتال الجبارين، سأل الجبارون بلعام بن باعوراء أن يدعو على موسى فقام ليدعو فتحول لسانه بالدعاء على أصحابه. فقيل له في ذلك؛ لا أقدر على أكثر مما تسمعون؛ واندلع لسانه على صدره. فقال: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة، وسأمكر لكم، فإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم فإن الله يبغض الزنى، فإن وقعوا فيه هلكوا؛ ففعلوا فوقع بنو إسرائيل في الزنى، فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا. وقد ذكر هذا الخبر بكماله الثعلبي وغيره. وروي أن بلعام بن باعوراء دعا ألا يدخل موسى مدينة الجبارين، فاستجيب له وبقي في التيه. فقال موسى: يا رب، بأي ذنب بقينا في التيه. فقال: بدعاء بلعام. قال: فكما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه. فدعا موسى أن ينزع الله عنه الاسم الأعظم؛ فسلخه الله ما كان عليه، وقال أبو حامد في آخر كتاب منهاج العارفين له: وسمعت بعض العارفين يقول إن بعض الأنبياء سأل الله تعالى عن أمر بلعام وطرده بعد تلك الآيات والكرامات، فقال الله تعالى: لم يشكرني يوما من الأيام على ما أعطيته، ولو شكرني على ذلك مرة لما سلبته. وقال عكرمة: كان بلعام نبيا وأوتي كتابا. وقال مجاهد: إنه أوتي النبوة؛ فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه. قال الماوردي: وهذا غير صحيح؛ لأن الله تعالى لا يصطفي لنبوته إلا من علم أنه لا يخرج عن طاعته إلى معصيته. وقال عبدالله بن عمرو بن العاص وزيد بن أسلم: نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت، وتمنى أن يكون هو ذلك الرسول، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به. وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم{آمن شعره وكفر قلبه}.
وقال سعيد بن المسيب: نزلت في أبي عامر بن صيفي، وكان يلبس المسوح في الجاهلية؛ فكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فقال: يا محمد، ما هذا الذي جئت به؟ قال{جئت بالحنيفية دين إبراهيم}. قال: فإني عليها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم{لست عليها لأنك أدخلت فيها ما ليس منها}. فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم{نعم أمات الله الكاذب منا كذلك} وإنما قال هذا يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث خرج من مكة. فخرج أبو عامر إلى الشأم ومر إلى قيصر وكتب إلى المنافقين: استعدوا فإني آتيكم من عند قيصر بجند لنخرج محمدا من المدينة؛ فمات بالشام وحيدا. وفيه نزل{وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل}التوبة: 107] وسيأتي في براءة. وقال ابن عباس في رواية: نزلت في رجل كان له ثلاث دعوات يستجاب له فيها، وكانت له امرأة يقال لها }البسوس} فكان له منها ولد؛ فقالت: اجعل لي منها دعوة واحدة. فقال: لك واحدة، فما تأمرين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل. فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه؛ فدعا الله عليها أن يجعلها كلبة نباحة. فذهب فيها دعوتان؛ فجاء بنوها وقالوا: لا صبر لنا عن هذا، وقد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها، فادع الله أن يردها كما كانت؛ فدعا فعادت إلى ما كانت، وذهبت الدعوات فيها. والقول الأول أشهر وعليه الأكثر. قال عبادة بن الصامت: نزلت في قريش، آتاهم الله آياته التي أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم فانسلخوا منها ولم يقبلوها. قال ابن عباس: كان بلعام من مدينة الجبارين. وقيل: كان من اليمن. }فانسلخ منها} أي من معرفة الله تعالى، أي نزع منه العلم الذي كان يعلمه. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (العلم علمان علم في القلب فذلك العلم النافع وعلم على اللسان فذلك حجة الله تعالى على ابن آدم). فهذا مثل علم بلعام وأشباهه، نعوذ بالله منه؛ ونسأل التوفيق والممات على التحقيق. والانسلاخ: الخروج؛ يقال: انسلخت الحية من جلدها أي خرجت منه. وقيل: هذا من المقلوب، أي انسلخت الآيات منه. }فاتبعه الشيطان} أي لحق به؛ يقال: أتبعت القوم أي لحقتهم. وقيل: نزلت في اليهود والنصارى، انتظروا خروج محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به.
الآية رقم ( 176 )
{ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون}
قوله تعالى{ولو شئنا لرفعناه بها} يريد بلعام. أي لو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة. }بها} أي بالعمل بها. }ولكنه أخلد إلى الأرض} أي ركن إليها؛ عن ابن جبير والسدي. مجاهد: سكن إليها؛ أي سكن إلى لذاتها. وأصل الإخلاد اللزوم. يقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ولزمه. قال زهير:
لمن الديار غشيتها بالغرقد كالوحي في حجر المسيل المخلد
يعني المقيم؛ فكأن المعنى لزم لذات الأرض فعبر عنها بالأرض، لأن متاع الدنيا على وجه الأرض. }واتبع هواه} أي ما زين له الشيطان. وقيل: كان هواه مع الكفار. وقيل: اتبع رضا زوجته، وكانت رغبت في أموال حتى حملته على الدعاء على موسى. }فمثله كمثل الكلب} ابتداء وخبر. }إن تحمل عليه يلهث} شرط وجوابه. وهو في موضع الحال، أي فمثله كمثل الكلب لاهثا. والمعنى: أنه على شيء واحد لا يرعوي عن المعصية؛ كمثل الكلب الذي هذه حالته. فالمعنى: أنه لاهث على كل حال، طردته أو لم تطرده. قال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث؛ كذلك الذي يترك الهدى لا فؤاد له، وإنما فؤاده منقطع. قال القتيبي: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال المرض وحال الصحة وحال الري وحال العطش. فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته فقال: إن وعظته ضل وإن تركته ضل؛ فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث؛ كقوله تعالى{وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون}الأعراف: 193]. قال الجوهري: لهث الكلب }بالفتح} يلهث لهثا ولهاثا }بالضم} إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش؛ وكذلك الرجل إذا أعيا.
وقوله تعالى }إن تحمل عليه يلهث} لأنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا، وإذا تركته شد عليك ونبح؛ فيتعب نفسه مقبلا عليك ومدبرا عنك فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان. قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: إنما شبهه بالكلب من بين السباع لأن الكلب ميت الفؤاد، وإنما لهاثه لموت فؤاده. وسائر السباع ليست كذلك فلذلك لا يلهثن. وإنما صار الكلب كذلك لأنه لما نزل آدم صلى الله عليه وسلم إلى الأرض شمت به العدو، فذهب إلى السباع فأشلاهم على آدم، فكان الكلب من أشدهم طلبا. فنزل جبريل بالعصا التي صرفت إلى موسى بمدين وجعلها آية له إلى فرعون وملئه، وجعل فيها سلطانا عظيما وكانت من آس الجنة؛ فأعطاها آدم صلى الله عليه وسلم يومئذ ليطرد بها السباع عن نفسه، وأمره فيما روي أن يدنو من الكلب ويضع يده على رأسه، فمن ذلك ألفه الكلب ومات الفؤاد منه لسلطان العصا، وألف به وبولده إلى يومنا هذا، لوضع يده على رأسه، وصار حارسا من حراس ولده. وإذا أدب وعلم الاصطياد تأدب وقبل التعليم؛ وذلك قوله{تعلمونهن مما علمكم الله}المائدة: 4]. السدي: كان بلعام بعد ذلك يلهث كما يلهث الكلب. وهذا المثل في قول كثير من أهل العلم بالتأويل عام في كل من أوتي القرآن فلم يعمل به. وقيل: هو في كل منافق. والأول أصح. قال مجاهد في قوله تعالى{فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} أي إن تحمل عليه بدابتك أو برجلك يلهث أو تتركه يلهث. وكذلك من يقرأ الكتاب ولا يعمل بما فيه. وقال غيره: هذا شر تمثيل؛ لأنه مثله في أنه قد غلب عليه هواه حتى صار لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا بكلب لاهث أبدا، حمل عليه أو لم يحمل عليه؛ فهو لا يملك لنفسه ترك اللهثان. وقيل: من أخلاق الكلب الوقوع بمن لم يخفه على جهة الابتداء بالجفاء، ثم تهدأ طائشته بنيل كل عوض خسيس. ضربه الله مثلا للذي قبل الرشوة في الدين حتى انسلخ من آيات ربه. فدلت الآية لمن تدبرها على ألا يغتر أحد بعمله ولا بعلمه؛ إذ لا يدري بما يختم له. ودلت على منع أخذ الرشوة لإبطال حق أو تغييره. وقد مضى بيانه في }المائدة}. ودلت أيضا على منع التقليد لعالم إلا بحجة يبينها؛ لأن الله تعالى أخبر أنه أعطى هذا آياته فانسلخ منها فوجب أن يخاف مثل هذا على غيره وألا يقبل منه إلا بحجة.
قوله تعالى{ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} أي هو مثل جميع الكفار.
الآية رقم ( 177 )
{ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون}
قوله تعالى{ساء مثلا القوم} يقال: ساء الشيء قبح، فهو لازم، وساء يسوء مساءة، فهو متعد، أي قبح مثلهم. وتقديره: ساء مثلا مثل القوم؛ فحذف المضاف، ونصب }مثلا} على التمييز. قال الأخفش: فجعل المثل القوم مجازا. والقوم مرفوع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ. التقدير: ساء المثل مثلا هو مثل القوم. وقدره أبو علي: ساء مثلا مثل القوم. وقرأ عاصم الجحدي والأعمش }ساء مثل القوم} رفع مثلا بساء.
الآية رقم ( 178 )
{من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون}
تقدم معناه في غير موضع. وهذه الآية ترد على القدرية كما سبق، وترد على من قال إن الله تعالى هدى جميع المكلفين ولا يجوز أن يضل أحدا.
الآية رقم ( 179 )
{ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}
أخبر تعالى أنه خلق للنار أهلا بعدله. ثم وصفهم فقال }لهم قلوب لا يفقهون بها} بمنزلة من لا يفقه؛ لأنهم لا ينتفعون بها، ولا يعقلون ثوابا ولا يخافون عقابا. و} أعين لا يبصرون بها} الهدى. و}آذان لا يسمعون بها} المواعظ. وليس الغرض نفي الإدراكات عن حواسهم جملة كما بيناه في }البقرة}. }أولئك كالأنعام بل هم أضل} لأنهم لا يهتدون إلى ثواب، فهم كالأنعام؛ أي همتهم الأكل والشرب، وهم أضل لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها وتتبع مالكها، وهم بخلاف ذلك. وقال عطاء: الأنعام تعرف الله، والكافر لا يعرفه. وقيل: الأنعام مطيعة لله تعالى، والكافر غير مطيع. و}أولئك هم الغافلون} أي تركوا التدبر وأعرضوا عن الجنة والنار.
الآية رقم ( 180 )
{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون}
قوله تعالى{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} أمر بإخلاص العبادة لله، ومجانبة المشركين والملحدين. قال مقاتل وغيره من المفسرين: نزلت الآية في رجل من المسلمين، كان يقول في صلاته: يا رحمن يا رحيم. فقال رجل من مشركي مكة: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}.
جاء في كتاب الترمذي وسنن ابن ماجة وغيرهما حديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نص فيه أن لله تسعة وتسعين اسما؛ في أحدهما ما ليس في الآخر. وقد بينا ذلك في (1). قال ابن عطية - وذكر حديث الترمذي - وذلك الحديث ليس بالمتواتر، وإن كان قد قال فيه أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح، وهو ثقة عند أهل الحديث. وإنما المتواتر منه قوله صلى الله عليه وسلم{إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة}. ومعنى }أحصاها} عدها وحفظها. وقيل غير هذا مما بيناه في كتابنا. وذكرنا هناك تصحيح حديث الترمذي، وذكرنا من الأسماء ما اجتمع عليه وما اختلف فيه مما وقفنا عليه في كتب أئمتنا ما ينيف على مائتي اسم. وذكرنا قبل تعيينها في مقدمة الكتاب اثنين وثلاثين فصلا فيما يتعلق بأحكامها، فمن أراده وقف عليه هناك وفي غيره من الكتب الموضوعة في هذا الباب. والله الموفق للصواب، لا رب سواه.
واختلف العلماء من هذا الباب في الاسم والمسمى، وقد ذكرنا ما للعلماء من ذلك في }الكتاب الأسنى}. قال ابن الحصار: وفي هذه الآية وقوع الاسم على المسمى ووقوعه على التسمية. فقوله{ولله} وقع على المسمى.، وقوله{الأسماء} وهو جمع اسم واقع على التسميات. يدل على صحة ما قلناه قوله{فادعوه بها}، والهاء في قوله{فادعوه} تعود على المسمى سبحانه وتعالى، فهو المدعو. والهاء في قوله }بها} تعود على الأسماء، وهي التسميات التي يدعى بها لا بغيرها. هذا الذي يقتضيه لسان العرب. ومثل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم{لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد} الحديث. وقد تقدم في }البقرة} شيء من هذا. والذي يذهب إليه أهل الحق أن الاسم هو المسمى، أو صفة له تتعلق به، وأنه غير التسمية. قال ابن العربي عند كلامه على قوله تعالى{ولله الأسماء الحسنى}: فيه ثلاثة أقوال. قال بعض علمائنا: في ذلك دليل على أن الاسم المسمى؛ لأنه لو كان غيره لوجب أن تكون الأسماء لغير الله تعالى. الثاني: قال آخرون: المراد به التسميات؛ لأنه سبحانه واحد والأسماء جمع.
قلت: ذكر ابن عطية في تفسيره أن الأسماء في الآية بمعنى التسميات إجماعا من المتأولين لا يجوز غيره. وقال القاضي أبو بكر في كتاب التمهيد: وتأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم{لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة} أي أن له تسعة وتسعين تسمية بلا خلاف، وهي عبارات عن كون الله تعالى على أوصاف شتى، منها ما يستحقه لنفسه ومنها ما يستحقه لصفة تتعلق به، وأسماؤه العائدة إلى نفسه هي هو، وما تعلق بصفة له فهي أسماء له. ومنها صفات لذاته. ومنها صفات أفعال. وهذا هو تأويل قوله تعالى{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} أي التسميات الحسنى. الثالث: قال آخرون منهم: ولله الصفات.
سمى الله سبحانه أسماءه بالحسنى لأنها حسنة في الأسماع والقلوب؛ فإنها تدل على توحيده وكرمه وجوده ورحمته وإفضاله. والحسنى مصدر وصف به. ويجوز أن يقدر }الحسنى} فعلى، مؤنث الأحسن؛ كالكبرى تأنيث الأكبر، والجمع الكبر والحسن.
وعلى الأول أفرد كما أفرد وصف ما لا يعقل؛ كما قال تعالى{مآرب أخرى}طه: 18] و}يا جبال أوبي معه}سبأ: 10].
قوله تعالى{فادعوه بها} أي اطلبوا منه بأسمائه؛ فيطلب بكل اسم ما يليق به، تقول: يا رحيم ارحمني، يا حكيم احكم لي، يا رازق ارزقني، يا هادي اهدني، يا فتاح افتح لي، يا تواب تب علي؛ هكذا. فإن دعوت باسم عام قلت: يا مالك ارحمني، يا عزيز احكم لي، يا لطيف ارزقني. وإن دعوت بالأعم الأعظم فقلت: يا الله؛ فهو متضمن لكل اسم. ولا تقول: يا رزاق اهدني؛ إلا أن تريد يا رزاق ارزقني الخير. قال ابن العربي: وهكذا، رتب دعاءك تكن من المخلصين. وقد تقدم في }البقرة} شرائط الدعاء، وفي هذه السورة أيضا. والحمد لله.
أدخل القاضي أبو بكر بن العربي عدة من الأسماء في أسمائه سبحانه، مثل متم نوره، وخير الوارثين، وخير الماكرين، ورابع ثلاثة، وسادس خمسة، والطيب، والمعلم؛ وأمثال ذلك. قال ابن الحصار: واقتدى في ذلك بابن برجان، إذ ذكر في الأسماء }النظيف} وغير ذلك مما لم يرد في كتاب ولا سنة.
قلت: أما ما ذكر من قوله{مما لم يرد في كتاب ولا سنة} فقد جاء في صحيح مسلم }الطيب}. وخرج الترمذي }النظيف}. وخرج عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه (رب اعني ولا تعن علي وانصرني ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر علي} الحديث. وقال فيه: حديث حسن صحيح. فعلى هذا جائز أن يقال: يا خير الماكرين امكر لي ولا تمكر علي. والله أعلم. وقد ذكرنا }الطيب، والنظيف} في كتابنا وغيره مما جاء ذكره في الأخبار، وعن السلف الأخيار، وما يجوز أن يسمى به ويدعى، وما يجوز أن يسمى به ولا يدعى، وما لا يجوز أن يسمى به ولا يدعى. حسب ما ذكره الشيخ أبو الحسن الأشعري. وهناك يتبين لك ذلك إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى{يلحدون} الإلحاد: الميل وترك القصد؛ يقال: ألحد الرجل في الدين. وألحد إذا مال. ومنه اللحد في القبر؛ لأنه في ناحيته. وقرئ }يلحدون} لغتان والإلحاد يكون بثلاثة أوجه
أحدها: بالتغيير فيها كما فعله المشركون، وذلك أنهم عدلوا بها عما هي عليه فسموا بها أوثانهم؛ فاشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: بالزيادة فيها. الثالث: بالنقصان منها؛ كما يفعله الجهال الذين يخترعون أدعية يسمون فيها الله تعالى بغير أسمائه، ويذكرون بغير ما يذكر من أفعاله؛ إلى غير ذلك مما لا يليق به. قال ابن العربي{فحذار منها، ولا يدعون أحدكم إلا بما في كتاب الله والكتب الخمسة؛ وهي البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي. فهذه الكتب التي يدور الإسلام عليها، وقد دخل فيها ما في الموطأ الذي هو أصل التصانيف، وذروا ما سواها، ولا يقولن أحدكم أختار دعاء كذا وكذا؛ فإن الله قد اختار له وأرسل بذلك إلى الخلق رسوله صلى الله عليه وسلم.
معنى الزيادة في الأسماء التشبيه، والنقصان التعطيل. فإن المشبهة وصفوه بما لم يأذن فيه، والمعطلة سلبوه ما اتصف به، ولذلك قال أهل الحق: إن ديننا طريق بين طريقين، لا بتشبيه ولا بتعطيل. وسئل الشيخ أبو الحسن البوشنجي عن التوحيد فقال: إثبات ذات غير مشبهة بالذوات، ولا معطلة من الصفات. وقد قيل في قوله تعالى{وذروا الذين يلحدون} معناه اتركوهم ولا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم. فالآية على هذا منسوخة بالقتال؛ قاله ابن زيد. وقيل: معناه الوعيد؛ كقوله تعالى{ذرني ومن خلقت وحيدا}المدثر: 11] وقوله{ذرهم يأكلوا ويتمتعوا}الحجر: 3]. وهو الظاهر من الآية؛ لقوله تعالى{سيجزون ما كانوا يعلمون}. والله أعلم.
الآية رقم ( 181 )
{وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}
في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هم هذه الأمة) وروي أنه قال: (هذه لكم وقد أعطى الله قوم موسى مثلها) وقرأ هذه الآية وقال: (إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم). فدلت الآية على أن الله عز وجل لا يخلي الدنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحق.
الآية رقم ( 182 )
{والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}
أخبر تعالى عمن كذب بآياته أنه سيستدرجهم. قال ابن عباس: هم أهل مكة. والاستدراج هو الأخذ بالتدريج، منزلة بعد منزلة. والدرج: لف الشيء؛ يقال: أدرجته ودرجته. ومنه أدرج الميت في أكفانه. وقيل: هو من الدرجة؛ فالاستدراج أن يحط درجة بعد درجة إلى المقصود. قال الضحاك: كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة. وقيل لذي النون: ما أقصى ما يخدع به العبد؟ قال: بالألطاف والكرامات؛ لذلك قال سبحانه وتعالى{سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر؛ وأنشدوا:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر
الآية رقم ( 183 )
{وأملي لهم إن كيدي متين}
قوله تعالى{وأملي لهم} أي أطيل لهم المدة وأمهلهم وأؤخر عقوبتهم. }إن كيدي} أي مكري. }متين} أي شديد قوي. وأصله من المتن، وهو اللحم الغليظ الذي عن جانب الصلب. قيل: نزلت في المستهزئين من قريش، قتلهم الله في ليلة واحدة بعد أن أمهلهم مدة. نظيره }حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة}الأنعام: 44].
الآية رقم ( 184 )
{أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين}
قوله تعالى{أولم يتفكروا} أي فيما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم. والوقف على }يتفكروا} حسن. ثم قال{ما بصاحبهم من جنة} رد لقولهم{يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون}الحجر: 6]. وقيل: نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة على الصفا يدعو قريشا، فخذا فخذا؛ فيقول{يا بني فلان}. يحذرهم بأس الله وعقابه. فقال قائلهم: إن صاحبهم هذا لمجنون، بات يصوت حتى الصباح.
الآية رقم ( 185 )
{أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون}
قوله تعالى{أو لم ينظروا} عجب من إعراضهم عن النظر في آياته؛ ليعرفوا كمال قدرته، حسب ما بيناه في سورة }البقرة}. والملكوت من أبنية المبالغة ومعناه الملك العظيم. وقد تقدم.
استدل بهذه الآية - وما كان مثلها من قوله تعالى{قل انظروا ماذا في السماوات والأرض}يونس: 101] وقوله تعالى{أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها}ق: 6] وقوله{أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت}الغاشية: 17] الآية. وقوله{وفي أنفسكم أفلا تبصرون}الذاريات: 21] - من قال بوجوب النظر في آياته والاعتبار بمخلوقاته. قالوا: وقد ذم الله تعالى من لم ينظر، وسلبهم الانتفاع بحواسهم فقال{لهم قلوب لا يفقهون بها}الأعراف: 179] الآية.
وقد اختلف العلماء في أول الواجبات، هل هو النظر والاستدلال، أو الإيمان الذي هو التصديق الحاصل في القلب الذي ليس من شرط صحته المعرفة. فذهب القاضي وغيره إلى أن أول الواجبات النظر والاستدلال؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يعلم ضرورة، وإنما يعلم بالنظر والاستدلال بالأدلة التي نصبها لمعرفته. وإلى هذا ذهب البخاري رحمه الله حيث بوب في كتابه }باب العلم قبل القول والعمل لقول الله عز وجل{فاعلم أنه لا إله إلا الله}محمد: 19]). قال القاضي: من لم يكن عالما بالله فهو جاهل، والجاهل به كافر. قال ابن رشد في مقدماته: وليس هذا بالبين؛ لأن الإيمان يصح باليقين الذي قد يحصل لمن هداه الله بالتقليد، وبأول وهلة من الاعتبار بما أرشد الله إلى الاعتبار به في غير ما آية. قال: وقد استدل الباجي على من قال إن النظر والاستدلال أول الواجبات بإجماع المسلمين في جميع الأعصار على تسمية العامة والمقلد مؤمنين. قال: فلو كان ما ذهبوا إليه صحيحا لما صح أن يسمى مؤمنا إلا من عنده علم بالنظر والاستدلال. قال: وأيضا فلو كان الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال لجاز للكفار إذا غلب عليهم المسلمون أن يقولوا لهم: لا يحل لكم قتلنا؛ لأن من دينكم أن الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال فأخرونا حتى ننظر ونستدل. قال: وهذا يؤدي إلى تركهم على كفرهم، وألا يقتلوا حتى ينظروا يستدلوا.
قلت: هذا هو الصحيح في الباب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله}. وترجم ابن المنذر في كتاب الأشراف (2) أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام - وهو بالغ صحيح العقل - أنه مسلم. وإن رجع بعد ذلك وأظهر الكفر كان مرتدا يجب عليه ما يجب على المرتد. وقال أبو حفص الزنجاني وكان شيخنا القاضي أبو جعفر أحمد بن محمد السمناني يقول: أول الواجبات الإيمان بالله وبرسوله وبجميع ما جاء به، ثم النظر والاستدلال المؤديان إلى معرفة الله تعالى؛ فيتقدم وجوب الإيمان بالله تعالى عنده على المعرفة بالله. قال: وهذا أقرب إلى الصواب وأرفق بالخلق؛ لأن أكثرهم لا يعرفون حقيقة المعرفة والنظر والاستدلال. فلو قلنا: إن أول الواجبات المعرفة بالله لأدى إلى تكفير الجم الغفير والعدد الكثير، وألا يدخل الجنة إلا آحاد الناس، وذلك بعيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قطع بأن أكثر أهل الجنة أمته، وأن أمم الأنبياء كلهم صف واحد وأمته ثمانون صفا. وهذا بين لا إشكال فيه. والحمد لله.
ذهب بعض المتأخرين والمتقدمين من المتكلمين إلى أن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرقوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه وهو كافر؛ فيلزم على هذا تكفير أكثر المسلمين، وأول من يبدأ بتكفيره آباؤه وأسلافه وجيرانه. وقد أورد على بعضهم هذا فقال: لا تشنع علي بكثرة أهل النار. أو كما قال.
قلت: وهذا القول لا يصدر إلا من جاهل بكتاب الله وسنة نبيه؛ لأنه ضيق رحمة الله الواسعة على شرذمة يسيرة من المتكلمين، واقتحموا في تكفير عامة المسلمين. أي هذا من قول الأعرابي الذي كشف عن فرجه ليبول، وانتهره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم{لقد حجرت واسعا}. خرجه البخاري والترمذي وغيرهما من الأئمة. أترى هذا الأعرابي عرف الله بالدليل والبرهان والحجة والبيان ؟ وأن رحمته وسعت كل شيء، وكم من مثله محكوم له بالإيمان. بل اكتفى صلى الله عليه وسلم من كثير ممن أسلم بالنطق بالشهادتين، وحتى إنه اكتفى بالإشارة في ذلك. ألا تراه لما قال للسوداء{أين الله} ؟ قالت: في السماء. قال{من أنا}؟ قالت: أنت رسول الله. قال{أعتقها فإنها مؤمنة}. ولم يكن هناك نظر ولا استدلال، بل حكم بإيمانهم من أول وهلة، وإن كان هناك عن النظر والمعرفة غفلة. والله أعلم.
ولا يكون النظر أيضا والاعتبار في الوجوه الحسان من المرد والنسوان. قال أبو الفرج الجوزي: قال أبو الطيب طاهر بن عبدالله الطبري بلغني عن هذه الطائفة التي تسمع السماع أنها تضيف إليه النظر إلى وجه الأمرد، وربما زينته بالحلي والمصبغات من الثياب، وتزعم أنها تقصد به الازدياد في الإيمان بالنظر والاعتبار والاستدلال بالصنعة على الصانع. وهذه النهاية في متابعة الهوى ومخادعة العقل ومخالفة العلم. قال أبو الفرج: وقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل لم يحل الله النظر إلا على صور لا ميل للنفس إليها، ولا حظ للهوى فيها؛ بل عبرة لا يمازجها شهوة، ولا يقارنها لذة. ولذلك ما بعث الله سبحانه امرأة بالرسالة، ولا جعلها قاضيا ولا إماما ولا مؤذنا؛ كل ذلك لأنها محل شهوة وفتنة. فمن قال: أنا أجد من الصور المستحسنة عبرا كذبناه. وكل من ميز نفسه بطبيعة تخرجه عن طباعنا كذبناه، وإنما هذه خدع الشيطان للمدعين. وقال بعض الحكماء: كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير، ولذلك قال تعالى{لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}التين: 4] وقال{وفي أنفسكم أفلا تبصرون}الذاريات: 21]. وقد بينا وجه التمثيل في أول }الأنعام}. فعلى العاقل أن ينظر إلى نفسه ومتفكر في خلقه من حين كونه ماء دافقا إلى كونه خلقا سويا، يعان بالأغذية ويربى بالرفق، ويحفظ باللين حتى يكتسب القوى، ويبلغ الأشد. وإذا هو قد قال: أنا، وأنا، ونسي حين أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، وسيعود مقبورا؛ فيا ويحه إن كان محسورا. قال الله تعالى{ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين} إلى قول }تبعثون}المؤمنون: 12،16] فينظر أنه عبد مربوب مكلف، مخوف بالعذاب إن قصر، مرتجيا بالثواب إن ائتمر، فيقبل على عبادة مولاه فإنه وإن كان لا يراه يراه ولا يخشى الناس والله أحق أن يخشاه، ولا يتكبر على أحد من عباد الله؛ فإنه مؤلف من أقذار، مشحون من أوضار، صائر إلى جنة إن أطاع أو إلى نار. وقال ابن العربي: وكان شيوخنا يستحبون أن ينظر المرء في الأبيات الحكمية التي جمعت هذه الأوصاف العلمية:
كيف يزهو من رجيعه أبد الدهر ضجيعه
فهو منه وإليه وأخوه ورضيعه
وهو يدعوه إلى الحش بصغر فيعطيه
قوله تعالى{وما خلق الله من شيء} معطوف على ما قبله؛ أي وفيما خلق الله من الأشياء. }وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم} أي وفي آجالهم التي عسى أن تكون قد قربت؛ فهو في موضع خفض معطوف على ما قبله. وقال ابن عباس: أراد باقتراب الأجل يوم بدر ويوم أحد. }فبأي حديث بعده يؤمنون} أي بأي قرآن غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يصدقون. وقيل: الهاء للأجل، على معنى بأي حديث بعد الأجل يؤمنون حين لا ينفع الإيمان؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف.
الآية رقم ( 186 )
{من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون}
قوله تعالى{من يضلل الله فلا هادي له} بين أن إعراضهم لأن الله أضلهم. وهذا رد على القدرية. }ويذرهم في طغيانهم} بالرفع على الاستئناف. وقرئ بالجزم حملا على موضع الفاء وما بعدها. }يعمهون} أي يتحيرون. وقيل: يترددون. وقد مضى في سورة }البقرة} مستوفى.
الآية رقم ( 187 )
{يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون}
قوله تعالى{يسألونك عن الساعة أيان مرساها} }أيان} سؤال عن الزمان؛ مثل متى. قال الراجز:
أيان تقضي حاجتي أيانا أما ترى لنجحها أوانا
وكانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت نبيا فأخبرنا عن الساعة متى تقوم. وروي أن المشركين قالوا ذلك لفرط الإنكار. و}مرساها} في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه، والخبر }أيان}. وهو ظرف مبني على الفتح، بني لأن فيه معنى الاستفهام. و}مرساها} بضم الميم، من أرساها الله، أي أثبتها، أي متى مثبتها، أي متى وقوعها. وبفتح الميم من رست، أي ثبتت ووقفت؛ ومنه }وقدور راسيات}سبأ: 13]. قال قتادة: أي ثابتات. }قل إنما علمها عند ربي} ابتداء وخبر، أي لم يبينها لأحد؛ حتى يكون العبد أبدا على حذر }لا يجليها} أي لا يظهرها. }لوقتها} أي في وقتها }إلا هو}. والتجلية: إظهار الشيء؛ يقال: جلا لي فلان الخبر إذا أظهره وأوضحه. ومعنى }ثقلت في السماوات والأرض} خفي علمها على أهل السماوات والأرض. وكل ما خفي، علمه فهو ثقيل على الفؤاد. وقيل: كبر مجيئها على أهل السماوات والأرض؛ عن الحسن وغيره. ابن جريج والسدي: عظم وصفها على أهل السماوات والأرض. وقال قتادة: وغيره: المعنى لا تطيقها السماوات والأرض لعظمها: لأن السماء تنشق والنجوم تتناثر والبحار تنضب. وقيل: المعنى ثقلت المسألة عنها. }لا تأتيكم إلا بغتة} أي فجأة، مصدر في موضع الحال }يسألونك كأنك حفي عنها} أي عالم بها كثير السؤال عنها. قال ابن فارس: الحفي العالم بالشيء. والحفي: المستقصي في السؤال. قال الأعشى:
فإن تسألي عني فيا رب سائل خفي عن الأعشى به حيث أصعدا
يقال: أحفى في المسألة وفي الطلب، فهو محف وحفي على التكثير، مثل مخصب وخصيب. قال محمد بن يزيد: المعنى يسألونك كأنك حفي بالمسألة عنها، أي ملح. يذهب إلى أنه ليس في الكلام تقديم وتأخير. وقال ابن عباس وغيره: هو على التقديم والتأخير، والمعنى: يسألونك عنها كأنك حفي بهم أي حفي ببرهم وفرح بسؤالهم. وذلك لأنهم قالوا: بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا بوقت الساعة. }قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون} ليس هذا تكريرا، ولكن أحد العلمين لوقوعها والآخر لكنهها.
الآية رقم ( 188 )
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}
قوله تعالى{قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا} أي لا أملك أن أجلب إلى نفسي خيرا ولا أدفع عنها شرا؛ فكيف أملك علم الساعة. وقيل: لا أملك لنفسي الهدى والضلال. }إلا ما شاء الله} في موضع نصب بالاستثناء. والمعنى: إلا ما شاء الله أن يملكني يمكنني منه. وأنشد سيبويه:
مهما شاء بالناس يفعل
قوله تعالى{ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير} المعنى لو كنت أعلم ما يريد الله عز وجل مني من قبل أن يعرفنيه لفعلته. وقيل: لو كنت أعلم متى يكون لي النصر في الحرب لقاتلت فلم أغلب. وقال ابن عباس: لو كنت أعلم سنة الجدب لهيأت لها في زمن الخصب ما يكفيني. وقيل: المعنى لو كنت أعلم التجارة التي تنفق لاشتريتها وقت كسادها. وقيل: المعنى لو كنت أعلم متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح؛ عن الحسن وابن جريج. وقيل: المعنى لو كنت أعلم الغيب لأجبت عن كل ما أسأل عنه. وكله مراد، والله أعلم. }وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} هذا استئناف كلام، أي ليس بي جنون، لأنهم نسبوه إلى الجنون. وقيل: هو متصل، والمعنى لو علمت الغيب لما مسني سوء ولحذرت، ودل على هذا قوله تعالى{إن أنا إلا نذير مبين}الشعراء: 115].
الآية رقم ( 189 : 190 )
{هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين، فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون}
قوله تعالى{هو الذي خلقكم من نفس واحدة} قال جمهور المفسرين: المراد بالنفس الواحدة آدم. }وجعل منها زوجها} يعني حواء. }ليسكن إليها} ليأنس بها ويطمئن، وكان هذا كله في الجنة. ثم ابتدأ بحالة أخرى هي في الدنيا بعد هبوطهما فقال{فلما تغشاها} كناية عن الوقاع. }حملت حملا خفيفا} كل ما كان في بطن أو على رأس شجرة فهو حمل بالفتح. وإذا كان على ظهر أو على رأس فهو حمل بالكسر. وقد حكى يعقوب في حمل النخلة الكسر. وقال أبو سعيد السيرافي: يقال في حمل المرأة حَمل وحِمل، يشبه مرة لاستبطانه بحمل المرأة، ومرة لبروزه وظهوره بحمل الدابة. والحمل أيضا مصدر حمل عليه يحمل حملا إذا صال. }فمرت به} يعني المني؛ أي استمرت بذلك الحمل الخفيف. يقول: تقوم وتقعد وتقلب، ولا تكترث بحمله إلى أن ثقل؛ عن الحسن ومجاهد وغيرهما. وقيل: المعنى فاستمر بها الحمل، فهو من المقلوب؛ كما تقول: أدخلت القلنسوة في رأسي. وقرأ عبدالله بن عمر }فمارت به} بألف والتخفيف؛ من مار يمور إذا ذهب وجاء وتصرف. وقرأ ابن عباس ويحيى بن يعمر }فمرت به} خفيفة من المرية، أي شكت فيما أصابها؛ هل هو حمل أو مرض، أو نحو ذلك.
قوله تعالى{فلما أثقلت} صارت ذات ثقل؛ كما تقول: أثمر النخل. وقيل: دخلت في الثقل؛ كما تقول: أصبح وأمسى. }دعوا الله ربهما} الضمير في }دعوا} عائد على آدم وحواء. وعلى هذا القول ما روي في قصص هذه الآية أن حواء لما حملت أول حمل لم تدر ما هو. وهذا يقوي قراءة من قرأ }فمرت به} بالتخفيف. فجزعت بذلك؛ فوجد إبليس السبيل إليها. قال الكلبي: إن إبليس أتى حواء في صورة رجل لما أثقلت في أول ما حملت فقال: ما هذا الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري ! قال: إني أخاف أن يكون بهيمة. فقالت ذلك لآدم عليه السلام. فلم يزالا في هم من ذلك. ثم عاد إليها فقال: هو من الله بمنزلة، فإن دعوت الله فولدت إنسانا أفتسمينه بي؟ قالت نعم. قال: فإني أدعو الله. فأتاها وقد ولدت فقال: سميه باسمي. فقالت: وما اسمك ؟ قال: الحارث - ولو سمى لها نفسه لعرفته - فسمته عبدالحارث. ونحو هذا مذكور من ضعيف الحديث، في الترمذي وغيره. وفي الإسرائيليات كثير ليس لها ثبات؛ فلا يعول عليها من لم قلب، فإن آدم وحواء عليهما السلام وإن غرهما بالله الغرور فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، على أنه قد سطر وكتب. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{خدعهما مرتين خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض}. وعضد هذا بقراءة السلمي }أتشركون} بالتاء. ومعنى }صالحا} يريد ولدا سويا.
اختلف العلماء في تأويل الشرك المضاف إلى آدم وحواء. قال المفسرون: كان شركا في التسمية والصفة، لا في العبادة والربوبية. وقال أهل المعاني: إنهما لم يذهبا إلى أن الحارث ربهما بتسميتهما ولدهما عبدالحارث، لكنهما قصدا إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد فسمياه به كما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه على جهة الخضوع له، لا على أن الضيف ربه؛ كما قال حاتم:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا وما في إلا تيك من شيمة العبد
وقال قوم: إن هذا راجع إلى جنس الآدميين والتبيين عن حال المشركين من ذرية آدم عليه السلام، وهو الذي يعول عليه. فقوله{جعلا له} يعني الذكر والأنثى الكافرين، ويعني به الجنسان. ودل على هذا }فتعالى الله عما يشركون} ولم يقل يشركان. وهذا قول حسن. وقيل: المعنى }هو الذي خلقكم من نفس واحدة} من هيئة واحدة وشكل واحد }وجعل منها زوجها} أي من جنسها }فلما تغشاها} يعني الجنسين. وعلى هذا القول لا يكون لآدم وحواء ذكر في الآية؛ فإذا آتاهما الولد صالحا سليما سويا كما أراداه صرفاه عن الفطرة إلى الشرك، فهذا فعل المشركين. قال صلى الله عليه وسلم }ما من مولود إلا يولد على الفطرة - في رواية على هذه الملة - أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه}. قال عكرمة: لم يخص بها آدم، ولكن جعلها عامة لجميع الخلق بعد آدم. وقال الحسين بن الفضل: وهذا أعجب إلى أهل النظر؛ لما في القول الأول من المضاف من العظائم بنبي الله آدم. وقرأ أهل المدينة وعاصم }شركا} على التوحيد. وأبو عمرو وسائر أهل الكوفة بالجمع، على مثل فعلاء، جمع شريك. وأنكر الأخفش سعيد القراءة الأولى، وهي صحيحة على حذف المضاف، أي جعلا له ذا شرك؛ مثل }واسأل القرية}يوسف: 82] فيرجع المعنى إلى أنهم جعلوا له شركاء.
ودلت الآية على أن الحمل مرض من الأمراض. روى ابن القاسم ويحيى عن مالك قال: أول الحمل يسر وسرور، وآخره مرض من الأمراض. وهذا الذي قاله مالك{إنه مرض من الأمراض} يعطيه ظاهر قوله{دعوا الله ربهما} وهذه الحالة مشاهدة في الحمال، ولأجل عظم الأمر وشدة الخطب جعل موتها شهادة؛ كما ورد في الحديث. وإذا ثبت هذا من ظاهر الآية فحال الحامل حال المريض في أفعاله. ولا خلاف بين علماء الأمصار أن فعل المريض فيما يهب ويحابي في ثلثه. وقال أبو حنيفة والشافعي: وإنما يكون ذلك في الحامل بحال الطلق، فأما قبل ذلك فلا. واحتجوا بأن الحمل عادة والغالب فيه السلامة. قلنا: كذلك أكثر الأمراض غالبه السلامة 0 وقد يموت من لم يمرض.
قال مالك: إذا مضت للحامل ستة أشهر من يوم حملت لم يجز لها قضاء في مالها إلا في الثلث. ومن طلق زوجته وهي حامل طلاقا بائنا فلما أتى عليها ستة أشهر فأراد ارتجاعها لم يكن له ذلك؛ لأنها مريضة ونكاح المريضة لا يصح.
قال يحيى: وسمعت مالكا يقول في الرجل يحضر القتال: إنه إذا زحف في الصف للقتال لم يجز له أن يقضي في ماله شيئا إلا في الثلث، وإنه بمنزلة الحامل والمريض المخوف عليه ما كان بتلك الحال. ويلتحق بهذا المحبوس للقتل في قصاص. وخالف في هذا أبو حنيفة والشافعي وغيرهما. قال ابن العربي: وإذا استوعبت النظر لم ترتب في أن المحبوس على القتل أشد حالا من المريض، وإنكار ذلك غفلة في النظر؛ فإن سبب الموت موجود عندهما، كما أن المرض سبب الموت، قال الله تعالى{ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون}آل عمران: 143]. وقال رويشد الطائي:
يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوت
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا قولا يبرئكم إني أنا الموت
ومما يدل على هذا قوله تعالى{إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر}الأحزاب: 10]. فكيف يقول الشافعي وأبو حنيفة: الحال الشديدة إنما هي المبارزة؛ وقد أخبر الله عز وجل عن مقاومة العدو وتداني الفريقين بهذه الحالة العظمى من بلوغ القلوب الحناجر، ومن سوء الظنون بالله، ومن زلزلة القلوب واضطرابها؛ هل هذه حالة ترى على المريض أم لا؟ هذا ما لا يشك فيه منصف، وهذا لمن ثبت في اعتقاده، وجاهد في الله حق جهاده، وشاهد الرسول وآياته؛ فكيف بنا؟
وقد اختلف علماؤنا في راكب البحر وقت الهول؛ هل حكمه حكم الصحيح أو الحامل. فقال ابن القاسم: حكمه حكم الصحيح. وقال ابن وهب وأشهب: حكمه حكم الحامل إذا بلغت ستة أشهر. قال القاضي أبو محمد: وقولهما أقيس؛ لأنها حالة خوف على النفس كإثقال الحمل. قال ابن العربي: وابن القاسم لم يركب البحر، ولا رأى دودا على عود. ومن أراد أن يوقن بالله أنه الفاعل وحده لا فاعل معه، وأن الأسباب ضعيفة لا تعلق لموقن بها، ويتحقق التوكل والتفويض فليركب البحر.
الآية رقم ( 191 : 192 )
{أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون، ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون}
قوله تعالى{أيشركون ما لا يخلق شيئا} أي أيعبدون ما لا يقدر على خلق شيء. }وهم يخلقون} أي الأصنام مخلوقة. وقال{يخلقون} بالواو والنون لأنهم اعتقدوا أن الأصنام تضر وتنفع، فأجريت مجرى الناس؛ كقوله{في فلك يسبحون}الأنبياء: 33] }يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم}النمل: 18]. }ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون} أي إن الأصنام، لا تنصر ولا تنتصر.
الآية رقم ( 193 )
{وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون}
قوله تعالى{وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم} قال الأخفش: أي وإن تدعو الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم. }سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون} قال أحمد بن يحيى: لأنه رأس آية. يريد أنه قال{أم أنتم صامتون} ولم يقل أم صمتم. وصامتون وصمتم عند سيبويه واحد. وقيل: المراد من سبق في علم الله أنه لا يؤمن. وقرئ }لا يتبعوكم} مشددا ومخففا} لغتان بمعنى. وقال بعض أهل اللغة{أتبعه} - مخففا - إذا مضى خلفه ولم يدركه. و}اتبعه} - مشددا - إذا مضى خلفه فأدركه.
الآية رقم ( 194: 195 )
{إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون}
قوله تعالى{إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} حاجهم في عبادة الأصنام. }تدعون} تعبدون. وقيل: تدعونها آلهة. }من دون الله} أي من غير الله. وسميت الأوثان عبادا لأنها مملوكة لله مسخرة. الحسن: المعنى أن الأصنام مخلوقة أمثالكم. ولما اعتقد المشركون أن الأصنام تضر وتنفع أجراها مجرى الناس فقال{فادعوهم} ولم يقل فادعوهن. وقال{عباد}، وقال{إن الذين} ولم يقل إن التي. ومعنى }فادعوهم} أي فاطلبوا منهم النفع والضر. }فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين} أن عبادة الأصنام تنفع. قال ابن عباس: معنى فادعوهم فاعبدوهم. ثم وبخهم الله تعالى وسفه عقولهم فقال{ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها} أي أنتم أفضل منهم فكيف تعبدونهم. والغرض بيان جهلهم؛ لأن المعبود يتصف بالجوارح. وقرأ سعيد بن جبير{إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم} بتخفيف }إن} وكسرها لالتقاء الساكنين، ونصب }عبادا} بالتنوين، }أمثالكم} بالنصب. والمعنى: ما الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم، أي هي حجارة وخشب؛ فأنتم تعبدون ما أنتم أشرف منه. قال النحاس: وهذه قراءة لا ينبغي أن يقرأ بها من ثلاث جهات: أحدها: أنها مخالفة للسواد. والثانية: أن سيبويه يختار الرفع في خبر إن إذا كانت بمعنى ما، فيقول: إن زيد منطلق؛ لأن عمل }ما} ضعيف، و}إن} بمعناها فهي أضعف منها. والثالثة: إن الكسائي زعم أن }إن} لا تكاد تأتي في كلام العرب بمعنى }ما}، إلا أن يكون بعدها إيجاب؛ كما قال عز وجل{إن الكافرون إلا في غرور}الملك: 20]. }فليستجيبوا لكم} الأصل أن تكون اللام مكسورة، فحذفت الكسرة لثقلها. ثم قيل: في الكلام حذف، المعنى: فادعوهم إلى أن يتبعوكم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين أنهم آلهة. وقرأ أبو جعفر وشيبة }أم لهم أيد يبطشون بها} بضم الطاء، وهي لغة. واليد والرجل والأذن مؤنثات يصغرن بالهاء. وتزاد في اليد ياء في التصغير، ترد إلى أصلها فيقال: يدية بالتشديد لاجتماع الياءين.
قوله تعالى{قل ادعوا شركاءكم} أي الأصنام. }ثم كيدون} أنتم وهي. }فلا تنظرون} أي فلا تؤخرون. والأصل }كيدوني} حذفت الياء لأن الكسرة تدل عليها. وكذا }فلا تنظرون}. والكيد المكر. والكيد الحرب؛ يقال: غزا فلم يلق كيدا.
الآية رقم ( 196 )
{إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين}
قوله تعالى{إن وليي الله الذي نزل الكتاب} أي الذي يتولى نصري وحفظي الله. وولي الشيء: الذي يحفظه ويمنع عنه الضرر. والكتاب: القرآن. }وهو يتولى الصالحين} أي يحفظهم. وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير مرة يقول{ألا إن آل أبي - يعني فلانا - ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين}. وقال الأخفش: وقرئ }إن ولي الله الذي نزل الكتاب} يعني جبريل. النحاس. هي قراءة عاصم الجحدي. والقراءة الأولى أبين؛ لقوله{وهو يتولى الصالحين}.
الآية رقم ( 197 : 198 )
{والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون، وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون}
قوله تعالى{والذين تدعون من دونه} كرره ليبين أن ما يعبدونه لا ينفع ولا يضر. }وإن تدعوهم إلى الهدى} شرط، والجواب }لا يسمعوا}. }وتراهم} مستأنف. }ينظرون إليك} في موضع الحال. يعني الأصنام. ومعنى النظر فتح العينين إلى المنظور إليه؛ وتراهم كالناظرين إليك. وخبر عنهم بالواو وهي جماد لا تبصر؛ لأن الخبر جرى على فعل من يعقل. وقيل: كانت لهم أعين من جواهر مصنوعة فلذلك قال }وتراهم ينظرون} وقيل: المراد بذلك المشركون، أخبر عنهم بأنهم لا يبصرون حين لم ينتفعوا بأبصارهم.
الآية رقم ( 199 )
{خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}
هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات. فقوله{خذ العفو} دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله{وأمر بالعرف} صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار. وفي قوله{وأعرض عن الجاهلين} الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة.
قلت: هذه الخصال تحتاج إلى بسط، وقد جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر بن سليم. قال جابر بن سليم أبو جري: ركبت قعودي ثم أتيت إلى مكة فطلبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنخت قعودي بباب المسجد، فدلوني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو جالس عليه برد من صوف فيه طرائق حمر؛ فقلت: السلام عليك يا رسول الله. فقال{وعليك السلام}. فقلت: إنا معشر أهل البادية، قوم فينا الجفاء؛ فعلمني كلمات ينفعني الله بها. قال{ادن} ثلاثا، فدنوت فقال{أعد علي} فأعدت عليه فقال: (اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئا وأن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي وإن امرؤ سبك بما لا يعلم منك فلا تسبه بما تعلم فيه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ولا تسبن شيئا مما خولك الله تعالى). قال أبو جري: فوالذي نفسي بيده، ما سببت بعده شاة ولا بعيرا. أخرجه أبو بكر البزار في مسنده بمعناه. وروى أبو سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال{إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق}. وقال ابن الزبير: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وروى البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبدالله بن الزبير في قوله{خذ العفو وأمر بالعرف} قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وروى سفيان بن عيينة عن الشعبي أنه قال: إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم{ما هذا يا جبريل}؟ فقال{لا أدري حتى أسأل العالم} في رواية }لا أدري حتى أسأل ربي} فذهب فمكث ساعة ثم رجع فقال{إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك}. فنظمه بعض الشعراء فقال:
مكارم الأخلاق في ثلاثة ممن كملت فيه فذلك الفتى
إعطاء من تحرمه ووصل من تقطعه والعفو عمن اعتدى
وقال جعفر الصادق: أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). وقال الشاعر:
كل الأمور تزول عنك وتنقضي إلا الثناء فإنه لك باقي
ولو أنني خيرت كل فضيلة ما اخترت غير مكارم الأخلاق
وقال سهل بن عبدالله: كلم الله موسى بطور سيناء. قيل له: بأي شيء أوصاك ؟ قال: بتسعة أشياء، الخشية في السر والعلانية، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغني، وأمرني أن أصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون نطقي ذكرا، وصمتي فكرا، ونظري عبرة.
قلت: وقد روي عن نبينا محمد أنه قال، (أمرني ربي بتسع الإخلاص في السر والعلانية والعدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر وأن أعفو عمن ظلمني وأصل من قطعني وأعطي من حرمني وأن يكون نطقي ذكرا وصمتي فكرا ونظري عبرة). وقيل: المراد بقوله{خذ العفو} أي الزكاة؛ لأنها يسير من كثير. وفيه بعد؛ لأنه من عفا إذا درس. وقد يقال: خذ العفو منه، أي لا تنقص عليه وسامحه. وسبب النزول يرده، والله أعلم. فإنه لما أمره بمحاجة المشركين دله على مكارم الأخلاق، فإنها سبب جر المشركين إلى الإيمان. أي اقبل من الناس ما عفا لك من أخلاقهم وتيسر؛ تقول: أخذت حقي عفوا صفوا، أي سهلا.
قوله تعالى{وأمر بالعرف} أي بالمعروف. وقرأ عيسى بن عمر }العرف} بضمتين؛ مثل الحلم؛ وهما لغتان. والعرف والمعروف والعارفة: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول، وتطمئن إليها النفوس. قال الشاعر:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
وقال عطاء{وأمر بالعرف} يعني بلا إله إلا الله.
قوله تعالى{وأعرض عن الجاهلين} أي إذا أقمت عليهم الحجة وأمرتهم بالمعروف فجهلوا عليك فأعرض عنهم؛ صيانة له عليهم ورفعا لقدره عن مجاوبتهم. وهذا وإن كان خطابا لنبيه عليه السلام فهو تأديب لجميع خلقه. وقال ابن زيد وعطاء: هي منسوخة بآية السيف. وقال مجاهد وقتادة: هي محكمة؛ وهو الصحيح لما رواه البخاري عن عبدالله بن عباس قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبانا. فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فتستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه؛ فاستأذن لعيينة. فلما دخل قال: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل ! قال: فغضب عمر حتى هم بأن يقع به. فقال الحر؛ يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه عليه السلام }خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} وإن هذا من الجاهلين. فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل. قلت: فاستعمال عمر رضي الله عنه لهذه الآية واستدلال الحر بها يدل على أنها محكمة لا. منسوخة. وكذلك استعملها الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ على ما يأتي بيانه. وإذا كان الجفاء على السلطان تعمدا واستخفافا بحقه فله تعزيره. وإذا كان غير ذلك فالإعراض والصفح والعفو؛ كما فعل الخليفة العدل.
{وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم}
لما نزل قوله تعالى{خذ العفو} قال عليه السلام{كيف يا رب والغضب} فنزلت{وإما ينزغنك} ونزغ الشيطان: وساوسه. وفيه لغتان: نزغ ونغز، يقال: إياك والنزاغ والنغاز، وهم المورشون. الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون، ومن الشيطان أدنى وسوسة. قال سعيد بن المسيب: شهدت عثمان وعليا وكان بينهما نزغ من الشيطان فما أبقى واحد منهما لصاحبه شيئا، ثم لم يبرحا حتى استغفر كل واحد منهما لصاحبه. ومعنى }ينزغنك}: يصيبنك ويعرض لك عند الغضب وسوسة بما لا يحل. }فاستعذ بالله} أي اطلب النجاة من ذلك بالله. فأمر تعالى أن يدفع الوسوسة بالالتجاء إليه والاستعاذة به؛ ولله المثل الأعلى. فلا يستعاذ من الكلاب إلا برب الكلاب. وقد حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: هذا يطول، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنع من العبور ما تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي. قال: هذا يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك.
النغز والنزغ والهمز والوسوسة سواء؛ قال الله تعالى{وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين}المؤمنون: 97] وقال{من شر الوسواس الخناس}الناس: 4]. وأصل النزغ الفساد؛ يقال: نزغ بيننا؛ أي أفسد. ومنه قوله{نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي}يوسف: 100] أي أفسد. وقيل: النزغ الإغواء والإغراء؛ والمعنى متقارب.
قلت: ونظير هذه الآية ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول له من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته). وفيه عن عبدالله قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال: (تلك محض الإيمان). وفي حديث أبي هريرة: (ذلك صريح الإيمان) والصريح الخالص. وهذا ليس على ظاهره؛ إذ لا يصح أن تكون الوسوسة نفسها هي الإيمان، لأن الإيمان اليقين، وإنما الإشارة إلى ما وجدوه من الخوف من الله تعالى أن يعاقبوا على ما وقع في أنفسهم. فكأنه قال جزعكم من هذا هو محض الإيمان وخالصه؛ لصحة إيمانكم، وعلمكم بفسادها. فسمى الوسوسة إيمانا لما كان دفعها والإعراض عنها والرد لها وعدم قبولها والجزع منها صادرا عن الإيمان. وأما أمره بالاستعاذة فلكون تلك الوساوس من آثار الشيطان. وأما الأمر بالانتهاء فعن الركون إليها والالتفات نحوها. فمن كان صحيح الإيمان واستعمل ما أمره به ربه ونبيه نفعه وانتفع به. وأما من خالجته الشبهة وغلب عليه الحس ولم يقدر على الانفكاك عنها فلا بد من مشافهته بالدليل العقلي؛ كما قال صلى الله عليه وسلم للذي خالطته شبهة الإبل الجرب حين قال النبي صلى الله عليه وسلم{لا عدوى}. وقال أعرابي: فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فإذا دخل فيها البعير الأجرب أجربها؟ فقال صلى الله عليه وسلم{فمن أعدى الأول} فاستأصل الشبهة من أصلها. فلما يئس الشيطان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالإغراء والإضلال أخذ يشوش عليهم أوقاتهم بتلك الألقيات. والوساوس: الترهات؛ فنفرت عنها قلوبهم وعظم عليهم وقوعها عندهم فجاؤوا - كما في الصحيح - فقالوا: يا رسول الله، إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال{أو قد وجدتموه}؟ قالوا: نعم. قال: (ذلك صريح الإيمان رغما للشيطان حسب ما نطق به القرآن في قوله{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}الحجر: 42]. فالخواطر التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها الشبهة فهي التي تدفع بالإعراض عنها؛ وعلى مثلها يطلق اسم الوسوسة. والله أعلم.
الآية رقم ( 201 : 202 )
{إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون}
قوله تعالى{إن الذين اتقوا} يريد الشرك والمعاصي. }إذا مسهم طيف من الشيطان} هذه قراءة أهل البصرة وأهل مكة. وقراءة أهل المدينة وأهل الكوفة }طائف}. وروي عن سعيد بن جبير }طيف} بتشديد الياء. قال النحاس: كلام العرب في مثل هذا }طيف} بالتخفيف؛ على أنه مصدر من طاف يطيف. قال الكسائي: هو مخفف من }طيف} مثل ميت وميت. قال النحاس: ومعنى }طيف} في اللغة ما يتخيل في القلب أو يرى في النوم؛ وكذا معنى طائف. وقال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن طيف؛ فقال: ليس في المصادر فيعل. قال النحاس: ليس هو بمصدر، ولكن يكون بمعنى طائف. والمعنى إن الذين اتقوا المعاصي إذا لحقهم شيء تفكروا في قدرة الله عز وجل وفي إنعامه عليهم فتركوا المعصية؛ وقيل: الطيف والطائف معنيان مختلفان فالأول: التخيل. والثاني: الشيطان نفسه. فالأول مصدر طاف الخيال يطوف طيفا؛ ولم يقولوا من هذا طائف في اسم الفاعل. قال السهيلي: لأنه تخيل لا حقيقة له. فأما قوله{فطاف عليها طائف من ربك}القلم: 19] فلا يقال فيه: طيف؛ لأنه اسم فاعل حقيقة، ويقال: إنه جبريل. قال الزجاج: طفت عليهم أطوف، وطاف الخيال يطيف. وقال حسان:
فدع هذا ولكن من لطيف يؤرقني إذا ذهب العشاء
مجاهد: الطيف الغضب. ويسمى الجنون والغضب والوسوسة طيفا؛ لأنه لمة من الشيطان تشبه بلمة الخيال. }فإذا هم مبصرون} أي منتهون. وقيل: فإذا هم على بصيرة. وقرأ سعيد بن جبير{تذكروا} بتشديد الذال. ولا وجه له في العربية؛ ذكره النحاس. الثانية: قال عصام بن المصطلق: دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي عليهما السلام، فأعجبني سمته وحسن ورائه؛ فأثار مني الحسد ما كان يجنه صدري لأبيه من البغض؛ فقلت: أنت ابن أبي طالب! قال نعم. فبالغت في شتمه وشتم أبيه؛ فنظر إلي نظرة عاطف رؤوف، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم }خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} فقرأ إلى قوله{فإذا هم مبصرون} ثم قال لي: خفض عليك، استغفر الله لي ولك إنك لو استعنتنا أعناك، ولو استرفدتنا أرفدناك، ولو استرشدتنا أرشدناك. فتوسم في الندم على ما فرط مني فقال{لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}يوسف: 92] أمن أهل الشأم أنت؟ قلت نعم. فقال:
شنشنة أعرفها من أخزم
حياك الله وبياك، وعافاك، وآداك؛ انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك، تجدنا عند أفضل ظنك، إن شاء الله. قال عصام: فضاقت علي الأرض بما رحبت، ووددت أنها ساخت بي؛ ثم تسللت منه لواذا، وما على وجه الأرض أحب إلي منه ومن أبيه.
قوله تعالى{وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} قيل: المعنى وإخوان الشياطين وهم الفجار من ضلال الإنس تمدهم الشياطين في الغي. وقيل للفجار إخوان الشياطين لأنهم يقبلون منهم. وقد سبق في هذه الآية ذكر الشيطان. هذا أحسن ما قيل فيه؛ وهو قول قتادة والحسن والضحاك. ومعنى }لا يقصرون} أي لا يتوبون ولا يرجعون. وقال الزجاج: في الكلام تقديم وتأخير؛ والمعنى: والذين تدعون من دونه لا يستطيعون لكم نصرا ولا أنفسهم ينصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغي؛ لأن الكفار إخوان الشياطين. ومعنى الآية: إن المؤمن إذا مسه طيف من الشيطان تنبه عن قرب؛ فأما المشركون فيمدهم الشيطان. و}لا يقصرون} قيل: يرجع إلى الكفار على القولين جميعا. وقيل: يجوز أن يرجع إلى الشيطان. قال قتادة: المعنى ثم لا يقصرون عنهم ولا يرحمونهم. والإقصار: الانتهاء عن الشيء، أي لا تقصر الشياطين في مدهم الكفار بالغي. وقوله{في الغي} يجوز أن يكون متصلا بقوله{يمدونهم} ويجوز أن يكون متصلا بالإخوان. والغي: الجهل. وقرأ نافع }يمدونهم} بضم الياء وكسر الميم. والباقون بفتح الياء وضم الميم. وهما لغتان مد وأمد. ومد أكثر، بغير الألف؛ قاله مكي. النحاس: وجماعة من أهل العربية ينكرون قراءة أهل المدينة؛ منهم أبو حاتم وأبو عبيد، قال أبو حاتم: لا أعرف لها وجها، إلا أن يكون المعنى يزيدونهم في الغي. وحكى جماعة من أهل اللغة منهم أبو عبيد أنه يقال إذا كثر شيء شيئا بنفسه مده، وإذا كثره بغيره قيل أمده؛ نحو }يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}آل عمران: 125]. وحكي عن محمد بن يزيد أنه احتج لقراءة أهل المدينة قال: يقال مددت له في كذا أي زينته له واستدعيته أن يفعله. وأمددته في كذا أي أعنته برأي أو غير ذلك. قال مكي: والاختيار الفتح؛ لأنه يقال: مددت في الشر، وأمددت في الخير؛ قال الله تعالى{ويمدهم في طغيانهم يعمهون}البقرة: 15]. فهذا يدل على قوة الفتح في هذا الحرف؛ لأنه في الشر، والغي هو الشر، ولأن الجماعة عليه. وقرأ عاصم الجحدي }يمادونهم في الغي}. وقرأ عيسى بن عمر }يقصرون} بفتح الياء وضم الصاد وتخفيف القاف. الباقون }يقصرون} بضمه، وهما لغتان. قال امرؤ القيس:
سما لك شوق بعد ما كان أقصرا
الآية رقم ( 203 )
{وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}
قوله تعالى{وإذا لم تأتهم بآية} أي تقرؤها عليهم. }قالوا لولا اجتبيتها} لولا بمعنى هلا، ولا يليها على هذا المعنى إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا. ومعنى }اجتبيتها} اختلقتها من نفسك. فأعلمهم أن الآيات من قبل الله عز وجل، وأنه لا يقرأ عليهم إلا ما أنزل عليه. يقال: اجتبيت الكلام أي ارتجلته واختلقته واخترعته إذا جئت به من عند نفسك. }قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي} أي من عند الله لا من عند نفسي. }هذا بصائر من ربكم} يعني القرآن، جمع بصيرة، هي الدلالة والعبرة. أي هذا الذي دللتكم به على أن الله عز وجل واحد. بصائر، أي يستبصر بها. وقال الزجاج{بصائر} أي طرق. والبصائر طرق الدين. قال الجعفي:
راحوا بصائرهم على أكتافهم وبصيرتي يعدو بها عتد وأى
}وهدى} رشد وبيان. }ورحمة} أي ونعمة.
الآية رقم ( 204 )
{وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}
قيل: إن هذا نزل في الصلاة، روي عن ابن مسعود وأبي هريرة وجابر والزهري وعبيدالله بن عمير وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب. قال سعيد: كان المشركون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى؛ فيقول بعضهم لبعض بمكة{لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه}فصلت: 26]. فأنزل الله جل وعز جوابا لهم }وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}. وقيل: إنها نزلت في الخطبة؛ قاله سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وزيد بن أسلم والقاسم بن مخيمرة ومسلم بن يسار وشهر بن حوشب وعبدالله بن المبارك. وهذا ضعيف؛ لأن القرآن فيها قليل، والإنصات يجب في جميعها؛ قاله ابن العربي. النقاش: والآية مكية، ولم يكن بمكة خطبة ولا جمعة. وذكر الطبري عن سعيد بن جبير أيضا أن هذا في الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة، وفيما يجهر به الإمام فهو عام. وهو الصحيح لأنه يجمع جميع ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات. قال النقاش: أجمع أهل التفسير أن هذا الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة. النحاس: وفي اللغة يجب أن يكون في كل شيء، إلا أن يدل دليل على اختصاص شيء. وقال الزجاج: يجوز أن يكون }فاستمعوا له وأنصتوا} اعملوا بما فيه ولا تجاوزوه. والإنصات: السكوت للاستماع والإصغاء والمراعاة. انصت ينصت إنصاتا؛ ونصت أيضا؛ قال الشاعر:
قال الإمام عليكم أمر سيدكم فلم نخالف وأنصتنا كما قالا
ويقال: أنصتوه وأنصتوا له؛ قال الشاعر:
إذا قالت حذام فأنصتوها فإن القول ما قالت حذام
وقال بعضهم في قوله }فاستمعوا له وأنصتوا}: كان هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصا ليعيه عنه أصحابه.
قلت: هذا فيه بعد، والصحيح القول بالعموم؛ لقوله{لعلكم ترحمون} والتخصيص يحتاج إلى دليل. وقال عبدالجبار بن أحمد في فوائد القرآن له: إن المشركين كانوا يكثرون اللغط والشغب تعنتا وعنادا؛ على ما حكاه الله عنهم{وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون}فصلت: 26]. فأمر الله المسلمين حالة أداء الوحي أن يكونوا على خلاف هذه الحالة وأن يستمعوا، ومدح الجن على ذلك فقال{وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن}الأحقاف: 29] الآية. وقال محمد بن كعب القرظي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ في الصلاة أجابه من وراءه؛ إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا مثل قوله، حتى يقضي فاتحة الكتاب والسورة. فلبث بذلك ما شاء الله أن يلبث؛ فنزل{وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}. وعن وأنصتوا لعلكم ترحمون} فأنصتوا. وهذا يدل على أن المعنى بالإنصات ترك الجهر على ما كانوا يفعلون من مجاوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة في هذه الآية: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم كم صليتم، كم بقي؛ فأنزل الله تعالى{وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}. وعن مجاهد هذا أيضا: كانوا يتكلمون في الصلاة بحاجتهم؛ فنزل قوله تعالى{لعلكم ترحمون}. وقد مضى في الفاتحة الاختلاف في قراءة المأموم خلف الإمام. ويأتي في }الجمعة} حكم الخطبة، إن شاء الله تعالى.
الآية رقم ( 205 )
{واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين}
قوله تعالى{واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة} نظيره }ادعوا ربكم تضرعا وخفية}الأعراف: 55] وقد تقدم. قال أبو جعفر النحاس: ولم يختلف في معنى }واذكر ربك في نفسك} أنه في الدعاء.
قلت: قد روي عن ابن عباس أنه يعني بالذكر القراءة في الصلاة. وقيل: المعنى اقرأ القرآن بتأمل وتدبر. }تضرعا} مصدر، وقد يكون في موضع الحال. }وخفية} معطوف عليه. وجمع خيفة خوف؛ لأنه بمعنى الخوف؛ ذكره النحاس. وأصل خيفة خوفة، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. خاف الرجل يخاف خوفا وخيفة ومخافة، فهو خائف، وقوم خوف على الأصل، وخيف على اللفظ. وحكى الفراء أنه يقال أيضا في جمع خيفة خيف. قال الجوهري: والجيفة الخوف، والجمع خيف، وأصله الواو. }ودون الجهر} أي دون الرفع في القول. أي أسمع نفسك؛ كما قال{وابتغ بين ذلك سبيلا}الإسراء: 110] أي بين الجهر والمخافتة. ودل هذا على أن رفع الصوت بالذكر ممنوع؛ على ما تقدم في غير موضع. }بالغدو والآصال} قال قتادة وابن زيد: الآصال العشيات. والغدو جمع غدوة. وقرأ أبو مجلز }بالغدو والإيصال} وهو مصدر آصلنا، أي دخلنا في العشي. والآصال جمع أصل؛ مثل طنب وأطناب؛ فهو جمع الجمع، والواحد أصيل، جميع على أصل؛ عن الزجاج. الأخفش: الآصال جمع أصيل؛ مثل يمين وأيمان. الفراء: أصل جمع أصيل، وقد يكون أصل واحدا، كما قال الشاعر:
ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
الجوهري: الأصيل الوقت بعد العصر إلى المغرب، وجمعه أصل وآصال وأصائل؛ كأنه جمع أصيلة؛ قال الشاعر:
لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل
ويجمع أيضا على أصلان؛ مثل بعير وبعران؛ ثم صغروا الجمع فقالوا أصيلان، ثم أبدلوا من النون لاما فقالوا أصيلال؛ ومنه قول النابغة:
وقفت فيها أصيلالا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد
وحكى اللحياني: لقيته أصيلالا. }ولا تكن من الغافلين} أي عن الذكر.
الآية رقم ( 207 )
{إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون}
قوله تعالى{إن الذين عند ربك} يعني الملائكة بإجماع. وقال{عند ربك} والله تعالى بكل مكان لأنهم قريبون من رحمته، وكل قريب من رحمة الله عز وجل فهو عنده؛ عن الزجاج. وقال غيره لأنهم في موضع لا ينفذ فيه إلا حكم الله. وقيل: لأنهم رسل الله؛ كما يقال: عند الخليفة جيش كثير. وقيل: هذا على جهة التشريف لهم، وأنهم بالمكان المكرم؛ فهو عبارة عن قربهم في الكرامة لا في المسافة. }ويسبحونه} أي ويعظمونه وينزهونه عن كل سوء. }وله يسجدون} قيل: يصلون. وقيل: يذلون، خلاف أهل المعاصي.
والجمهور من العلماء في أن هذا موضع سجود للقارئ. وقد اختلفوا في عدد سجود القرآن؛ فأقصى ما قيل: خمس عشرة. أولها خاتمة الأعراف، وآخرها خاتمة العلق. وهو قول ابن حبيب وابن وهب - في رواية - وإسحاق. ومن العلماء من زاد سجدة الحجر قوله تعالى{وكن من الساجدين}الحجر: 98] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فعلى هذا تكون ست عشرة. وقيل: أربع عشرة؛ قاله ابن وهب في الرواية الأخرى عنه. فأسقط ثانية الحج. وهو قول أصحاب الرأي والصحيح سقوطها؛ لأن الحديث لم يصح بثبوتها. ورواه ابن ماجة وأبو داود في سننهما عن عبدالله بن منين من بني عبد كلال عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن؛ منها ثلاث في المفصل، وفي الحج سجدتان. وعبدالله بن منين لا يحتج به؛ قاله أبو محمد عبدالحق. وذكر أبو داود أيضا من حديث عقبة بن عامر قال قلت: يا رسول الله، أفي سورة الحج سجدتان؟. قال{نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما}. في إسناده عبدالله بن لهيعة، وهو ضعيف جد. وأثبتهما الشافعي وأسقط سجدة ص. وقيل: إحدى عشرة سجدة، وأسقط آخرة الحج وثلاث المفصل. وهو مشهور مذهب مالك. وروي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهم. وفي سنن ابن ماجة عن أبي الدرداء قال: سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة والفرقان وسليمان سورة النمل والسجدة وص وسجدة الحواميم. وقيل: عشر، وأسقط آخرة الحج وص وثلاث المفصل؛ ذكر عن ابن عباس. وقيل: إنها أربع، سجدة آلم تنزيل وحم تنزيل والنجم والعلق. وسبب الخلاف اختلاف النقل في الأحاديث والعمل، واختلافهم في الأم المجرد بالسجود في القرآن، هل المراد به سجود التلاوة أو سجود الفرض في الصلاة؟
واختلفوا في وجوب سجود التلاوة؛ فقال مالك والشافعي: ليس بواجب. وقال أبو حنيفة: هو واجب. وتعلق بأن مطلق الأمر بالسجود على الوجوب، وبقوله عليه السلام{إذا قرأ ابن آدم سجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله}. وفي رواية أبي كريب }يا ويلي}، وبقوله عليه السلام إخبارا عن إبليس لعنه الله{أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار}. أخرجه مسلم. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليه. وعول علماؤنا على حديث عمر الثابت - خرجه البخاري - أنه قرأ آية سجدة على المنبر فنزل فسجد وسجد الناس معه، ثم قرأها في الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود، فقال{أيها الناس على رسلكم! إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء}. وذلك بمحضر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين من الأنصار والمهاجرين. فلم ينكر عليه أحد فثبت الإجماع به في ذلك. وأما قوله{أمر ابن آدم بالسجود} فإخبار عن السجود الواجب. ومواظبة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على الاستحباب! والله أعلم.
ولا خلاف في أن سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه الصلاة من طهارة حدث ونجس ونية واستقبال قبلة ووقت. إلا ما ذكر البخاري عن ابن عمر أنه كان يسجد على غير طهارة. وذكره ابن المنذر عن الشعبي. وعلى قول الجمهور هل يحتاج إلى تحريم ورفع يدين عنده وتكبير وتسليم؟ اختلفوا في ذلك؛ فذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه يكبر ويرفع للتكبير لها. وقد روي في الأثر عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد كبر، وكذلك إذا رفع كبر. ومشهور مذهب مالك أنه يكبر لها في الخفض والرفع في الصلاة. واختلف عنه في التكبير لها في غير الصلاة؛ وبالتكبير لذلك قال عامة الفقهاء، ولا سلام لها عند الجمهور. وذهب جماعة من السلف وإسحاق إلى أنه يسلم منها. وعلى هذا المذهب يتحقق أن التكبير في أولها للإحرام. وعلى قول من لا يسلم يكون للسجود فحسب. والأول أولى؛ لقوله عليه السلام{مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم} وهذه عبادة لها تكبير، فكان لها تحليل كصلاة الجنازة بل أولى، لأنها فعل وصلاة الجنازة قول. وهذا اختيار ابن العربي.
وأما وقته فقيل: يسجد في سائر الأوقات مطلقا؛ لأنها صلاة لسبب. وهو قول الشافعي وجماعة. وقيل: ما لم يسفر الصبح، أو ما لم تصفر الشمس بعد العصر. وقيل: لا يسجد بعد الصبح ولا بعد العصر. وقيل: يسجد بعد الصبح ولا يسجد بعد العصر. وهذه الثلاثة الأقوال في مذهبنا. وسبب الخلاف معارضة ما يقتضيه سبب قراءة السجدة من السجود المرتب عليها لعموم النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح. واختلافهم في المعنى الذي لأجله نهي عن الصلاة في هذين الوقتين، والله أعلم.
فإذا سجد يقول في سجوده: اللهم احطط عني بها وزرا، واكتب لي بها أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا. رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره ابن ماجة.
فإن قرأها في صلاة، فإن كان في نافلة سجد إن كان منفردا أو في جماعة وأمن التخليط فيها. وإن كان في جماعة لا يأمن ذلك فيها فالمنصوص جوازه. وقيل: لا يسجد. وأما في الفريضة فالمشهور عن مالك النهي عنه فيها، سواء كانت صلاة سر أو جهر، جماعة أو فرادى. وهو معلل بكونها زيادة في أعداد سجود الفريضة. وقيل: معلل بخوف التخليط على الجماعة؛ وهذا أشبه. وعلى هذا لا يمنع منه الفرادى ولا الجماعة التي يأمن فيها التخليط.
روى البخاري عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة، فقرأ }إذا السماء انشقت}الإنشقاق: 1] فسجد؛ فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. انفرد بإخراجه. وفيه{وقيل لعمران بن حصين: الرجل يسمع السجدة ولم يجلس لها؟ قال: أرأيت لو قعد لها! كأنه لا يوجبه عليه. وقال سلمان: ما لهذا غدونا. وقال عثمان: إنما السجدة على من استمعها. وقال الزهري: لا يسجد إلا أن يكون طاهرا، فإذا سجدت وأنت في حضر فاستقبل القبلة، فإن كنت راكبا فلا عليك، حيث كان وجهك. وكان السائب لا يسجد لسجود القاص} والله أعلم.
سورة الأنفال: مدنية بدرية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء. وقال ابن عباس: هي مدنية إلا سبع آيات، من قوله تعالى{وإذ يمكر بك الذين كفروا} إلى آخر السبع آيات.
الآية رقم ( 1 )
{يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين}
روى عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر فلقوا العدو؛ فلما هزمهم الله اتبعتهم طائفة من المسلمين يقتلونهم، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم، واستولت طائفة على العسكر والنهب؛ فلما نفى الله العدو ورجع الذين طلبوهم قالوا: لنا النفل، نحن الذين طلبنا العدو وبنا نفاهم الله وهزمهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنتم أحق به منا، بل هو لنا، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا ينال العدو منه غرة. وقال الذين استولوا على العسكر والنهب: ما أنتم بأحق منا، هو لنا، نحن حويناه واستولينا عليه؛ فأنزل الله عز وجل{يسألونك عن الأنفال. قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين}. فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فواق بينهم. قال أبو عمر: قال أهل العلم بلسان العرب: استلووا أطافوا وأحاطوا؛ يقال: الموت مستلو على العباد. وقوله{فقسمه عن فواق} يعني عن سرعة. قالوا: والفواق ما بين حلبتي الناقة. يقال: انتظره فواق ناقة، أي هذا المقدار. ويقولونها بالضم والفتح: فواق وفواق. وكان هذا قبل أن ينزل{واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه}الأنفال: 41] الآية. وكأن المعنى عند العلماء: أي إلى الله وإلى الرسول الحكم فيها والعمل بها بما يقرب من الله تعالى. وذكر محمد بن إسحاق قال: حدثني عبدالرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا عن سليمان بن موسى الأشدق عن مكحول عن أبي أمامة الباهلي قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى الرسول، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بواء. يقول: على السواء. فكان ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وصلاح ذات البين وروي في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: اغتنم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة، فإذا فيها سيف، فأخذته فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: نفلني هذا السيف، فأنا من قد علمت حاله. قال{رده من حيث أخذته} فانطلقت حتى أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه فقلت: أعطنيه. قال: فشد لي صوته (رده من حيث أخذته} فانطلقت حتى أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه فقلت: أعطنيه، قال: فشد لي صوته }رده من حيث أخذته} فأنزل الله }يسألونك عن الأنفال}. لفظ مسلم. والروايات كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية، والله الموفق للهداية.
الأنفال واحدها نفل بتحريك الفاء؛ قال:
إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثي والعجل
أي خير غنيمة. والنفل: اليمين؛ ومنه الحديث }فتبرئكم يهود بنفل خمسين منهم}. والنفل الانتفاء؛ ومنه الحديث }فانتفل من ولدها}. والنفل: نبت معروف. والنفل: الزيادة على الواجب، وهو التطوع. وولد الولد نافلة؛ لأنه زيادة على الولد. والغنيمة نافلة؛ لأنها زيادة فيما أحل الله لهذه الأمة مما كان محرما على غيرها. قال صلى الله عليه وسلم{فضلت على الأنبياء بست - وفيها - وأحلت لي الغنائم}. والأنفال: الغنائم أنفسها. قال عنترة:
إنا إذا احمر الوغى نروي القنا ونعف عند مقاسم الأنفال
أي الغنائم.
واختلف العلماء في محل الأنفال على أربعة أقوال: الأول: محلها فيما شد عن الكافرين إلى المسلمين أو أخذ بغير حرب. الثاني: محلها الخمس. الثالث: خمس الخمس. الرابع: رأس الغنيمة؛ حسب ما يراه الإمام. ومذهب مالك رحمه الله أن الأنفال مواهب الإمام من الخمس، على ما يرى من الاجتهاد، وليس في الأربعة الأخماس نفل، وإنما لم ير النفل من رأس الغنيمة لأن أهلها معينون وهم الموجفون، والخمس مردود قسمه إلى اجتهاد الإمام. وأهله غير معينين. قال صلى الله عليه وسلم{ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم}. فلم يمكن بعد هذا أن يكون النفل من حق أحد، وإنما يكون من حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخمس. هذا هو المعروف من مذهبه وقد روي عنه أن ذلك من خمس الخمس. وهو قول ابن المسيب والشافعي وأبي حنيفة. وسبب الخلاف حديث ابن عمر، رواه مالك قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة، وكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا؛ ونفلوا بعيرا بعيرا. هكذا رواه مالك على الشك في رواية يحيى عنه، وتابعه على ذلك جماعة رواة الموطأ إلا الوليد بن مسلم فإنه رواه عن مالك عن نافع عن ابن عمر، فقال فيه: فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا، ونفلوا بعيرا بعيرا. ولم يشك. وذكر الوليد بن مسلم والحكم بن نافع عن شعيب بن أبي حمزة عن نافع عن ابن عمر قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش قبل نجد - في رواية الوليد: أربعة آلاف - وانبعثت سرية من الجيش - في رواية الوليد: فكنت ممن خرج فيها - فكان سهمان الجيش اثني عشر بعيرا، اثني عشر بعيرا؛ ونقل أهل السرية بعيرا بعيرا؛ فكان سهمانهم ثلاثة عشر بعيرا؛ ذكره أبو داود. فاحتج بهذا من يقول: إن النفل إنما يكون من جملة الخمس. وبيانه أن هذه السرية لو نزلت على أن أهلها كانوا عشرة مثلا أصابوا في غنيمتهم مائة وخمسين، أخرج منها خمسها ثلاثين وصار لهم مائة وعشرون، قسمت على عشرة وجب لكل واحد اثنا عشر بعيرا، اثنا عشر بعيرا، ثم أعطي القوم من الخمس بعيرا بعيرا؛ لأن خمس الثلاثين لا يكون فيه عشرة أبعرة. فإذا عرفت ما للعشرة عرفت ما للمائة والألف وأزيد. واحتج من قال: إن ذلك كان من خمس الخمس بأن قال: جائز أن يكون هناك ثياب تباع ومتاع غير الإبل، فأعطى من لم يبلغه البعير قيمة البعير من تلك العروض. ومما يعضد هذا ما روى مسلم في بعض طرق هذا الحديث: فأصبنا إبلا وغنما؛ الحديث. وذكر محمد بن إسحاق في هذا الحديث أن الأمير نفلهم قبل القسم، وهذا يوجب أن يكون النفل من رأس الغنيمة، وهو خلاف قول مالك. وقول من روى خلافه أولى لأنهم حفاظ؛ قاله أبو عمر رحمه الله. وقال مكحول والأوزاعي: لا ينفل بأكثر من الثلث؛ وهو قول الجمهور من العلماء. قال الأوزاعي: فإن زادهم فليف لهم ويجعل ذلك من الخمس. وقال الشافعي: ليس في النفل حد لا يتجاوزه الإمام.
ودل حديث ابن عمر على ما ذكره الوليد والحكم عن شعيب عن نافع أن السرية إذا خرجت من العسكر فغنمت أن العسكر شركاؤهم. وهذه مسألة وحكم لم يذكره في الحديث غير شعيب عن نافع، ولم يختلف العلماء فيه، والحمد لله.
واختلف العلماء في الإمام يقول قبل القتال: من هدم كذا من الحصن فله كذا، ومن بلغ إلى موضع كذا فله كذا، ومن جاء برأس فله كذا، ومن جاء بأسير فله كذا؛ يضريهم. فروي عن مالك أنه كرهه. وقال: هو قتال على الدنيا. وكان لا يجيزه. قال الثوري: ذلك جائز ولا بأس به.
قلت: وقد جاء هذا المعنى مرفوعا من حديث ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم{من قتل قتيلا فله كذا ومن أسر أسيرا فله كذا}. الحديث بطوله. وفي رواية عكرمة عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم{من فعل كذا وكذا وأتى مكان كذا وكذا فله كذا}. فتسارع الشبان وثبت الشيوخ مع الرايات؛ فلما فتح لهم جاء الشبان يطلبون ما جعل لهم فقال لهم الأشياخ: لا تذهبون به دوننا، فقد كنا ردءا لكم؛ فأنزل الله تعالى{وأصلحوا ذات بينكم} ذكره إسماعيل بن إسحاق أيضا. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال لجرير بن عبدالله البجلي لما قدم عليه في قومه وهو يريد الشأم: هل لك أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس من كل أرض وسبي؟. وقال بهذا جماعة فقهاء الشأم: الأوزاعي ومكحول وابن حيوة وغيرهم. ورأوا الخمس من جملة الغنيمة، والنفل بعد الخمس ثم الغنيمة بين أهل العسكر؛ وبه قال إسحاق وأحمد وأبو عبيد. قال أبو عبيد: والناس اليوم على أن لا نفل من جهة الغنيمة حتى تخمس. وقال مالك: لا يجوز أن يقول الإمام لسرية: ما أخذتم فلكم ثلثه. قال سحنون: يريد ابتداء. فإن نزل مضى، ولهم أنصباؤهم في الباقي. وقال سحنون: إذا قال الإمام لسرية ما أخذتم فلا خمس عليكم فيه؛ فهذا لا يجوز، فإن نزل رددته؛ لأن هذا حكم شاذ لا يجوز ولا يمضى.
واستحب مالك رحمه الله ألا ينفل الإمام إلا ما يظهر كالعمامة والفرس والسيف. ومنع بعض العلماء أن ينفل الإمام ذهبا أو فضة أو لؤلؤا ونحوه. وقال بعضهم: النفل جائز من كل شيء. وهو الصحيح لقول عمر ومقتضى الآية، والله أعلم.
قوله تعالى{فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} أم بالتقوى والإصلاح، أي كونوا مجتمعين على أمر الله في الدعاء: اللهم أصلح ذات البين، أي الحال التي يقع بها الاجتماع. فدل هذا على التصريح بأنه شجر بينهم اختلاف، أو مالت النفوس إلى التشاح؛ كما هو منصوص في الحديث. وتقدم معنى التقوى، أي اتقوا الله في أقوالكم، وأفعالكم، وأصلحوا ذات بينكم. }وأطيعوا الله ورسوله} في الغنائم ونحوها. }إن كنتم مؤمنين} أي إن سبيل المؤمن أن يمتثل ما ذكرنا. وقيل{إن} بمعنى }إذ}.
الآية رقم ( 2 : 3 )
{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}
قال العلماء: هذه الآية تحريض على إلزام طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر به من قسمة تلك الغنيمة. والوجل: الخوف. وفي مستقبله أربع لغات: وجل يوجل وياجل وييجل وييجل، حكاه سيبويه. والمصدر وجل جلا وموجلا؛ بالفتح. وهذا موجله (بالكسر) للموضع والاسم. فمن قال: ياجل في المستقبل جعل الواو ألفا لفتحة ما قبلها. ولغة القرآن الواو }قالوا لا توجل}الحجر: 53]. ومن قال{ييجل} بكسر الياء فهي على لغة بني أسد، فإنهم يقولون: أنا إيجل، ونحن نيجل، وأنت تيجل؛ كلها بالكسر. ومن قال{ييجل} بناه على هذه اللغة، ولكنه فتح الياء كما فتحوها في يعلم، ولم تكسر الياء في يعلم لاستثقالهم الكسر على الياء. وكسرت في }ييجل} لتقوي إحدى الياءين بالأخرى. والأمر منه }إيجل} صارت الواو ياء الكسرة ما قبلها. وتقول: إني منه لأوجل. ولا يقال في المؤنث: وجلاء: ولكن وجلة. وروى سفيان عن السدي في قوله جل وعز{الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} قال: إذا أراد أن يظلم مظلمة قيل له: اتق الله، ووجل قلبه.
وصف الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بالخوف والوجل عند ذكره. وذلك لقوة إيمانهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه. ونظير هذه الآية }وبشر المخبتين. الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}الحج: 34، 35]. وقال{وتطمئن قلوبهم بذكر الله}الرعد: 28]. فهذا يرجع إلى كمال المعرفة وثقة القلب. والوجل: الفزع من عذاب الله؛ فلا تناقض. وقد جمع الله بين المعنيين في قوله }الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}الزمر: 23]. أي تسكن نفوسهم من حيث اليقين إلى الله وإن كانوا يخافون الله. فهذه حالة العارفين بالله، الخائفين من سطوته وعقوبته؛ لا كما يفعله جهال العوام والمبتدعة الطغام من الزعيق والزئير ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير. فيقال لمن تعاطى ذلك وزعم أن ذلك وجد وخشوع: لم تبلغ أن تساوي حال الرسول ولا حال أصحابه في المعرفة بالله، والخوف منه، والتعظيم لجلاله؛ ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله والبكاء خوفا من الله. ولذلك وصف الله أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه فقال{وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين}المائدة: 83]. فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم. ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم؛ فمن كان مستنا فليستن، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من أخسهم حالا؛ والجنون فنون. روى مسلم عن أنس بن مالك أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة، فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال{سلوني لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا}. فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر. قال أنس: فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فإذا كل إنسان لاف رأسه في ثوبه يبكي. وذكر الحديث. وروى الترمذي وصححه عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. الحديث. ولم يقل: زعقنا ولا رقصنا ولا زفنا ولا قمنا.
قوله تعالى{زادتهم إيمانا} أي تصديقا. فإن إيمان هذه الساعة زيادة على إيمان أمس؛ فمن صدق ثانيا وثالثا فهو زيادة تصديق بالنسبة إلى ما تقدم. وقيل: هو زيادة انشراح الصدر بكثرة الآيات والأدلة؛ وقد مضى هذا المعنى في }آل عمران}. }وعلى ربهم يتوكلون} تقدم معنى التوكل في }آل عمران} أيضا. }الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} تقدم في سورة }البقرة}.
الآية رقم ( 4 )
{أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم}
قوله تعالى{أولئك هم المؤمنون حقا} أي الذي استوى في الإيمان ظاهرهم وباطنهم. ودل هذا على أن لكل حق حقيقة؛ وقد قال عليه السلام لحارثة{إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك}؟ الحديث. وسأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد؛ أمؤمن أنت؟ فقال له: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا به مؤمن. وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم - إلى قوله - أولئك هم المؤمنون حقا} فوالله ما أدري أنا منهم أم لا. وقال أبو بكر الواسطي: من قال أنا مؤمن بالله حقا؛ قيل له: الحقيقة تشير إلى إشراف واطلاع وإحاطة؛ فمن فقده بطل دعواه فيها. يريد بذلك ما قاله أهل السنة: إن المؤمن الحقيقي من كان محكوما له بالجنة، فمن لم يعلم ذلك من سر حكمته تعالى فدعواه بأنه مؤمن حقا غير صحيح.
الآية رقم ( 5 )
{كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون}
قوله تعالى{كما أخرجك ربك من بيتك بالحق} قال الزجاج: الكاف في موضع نصب؛ أي الأنفال ثابتة لك كما أخرجك ربك من بيتك بالحق. أي مثل إخراجك ربك من بيتك بالحق. والمعنى: امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا؛ لأن بعض الصحابة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل لكل من أتى بأسير شيئا قال: يبقى أكثر الناس بغير شيء. فموضع الكاف في }كما} نصب كما ذكرنا. وقال الفراء أيضا. قال أبو عبيدة: هو قسم، أي والذي أخرجك؛ فالكاف بمعنى الواو، وما بمعنى الذي. وقال سعيد بن مسعدة: المعنى أولئك هم المؤمنون حقا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق. قال وقال بعض العلماء }كما أخرجك ربك من بيتك بالحق} فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم. وقال عكرمة: المعنى أطيعوا الله ورسوله كما أخرجك. وقيل{كما أخرجك} متعلق بقوله }لهم درجات} المعنى: لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم. أي هذا الوعد للمؤمنين حق في الآخرة كما أخرجك ربك من بيتك بالحق الواجب له؛ فأنجزك وعدك. وأظفرك بعدوك وأوفى لك؛ لأنه قال عز وجل{وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم}الأنفال: 7]. فكما أنجز هذا الوعد في الدنيا كذا ينجزكم ما وعدكم به في الآخرة. وهذا قول حسن ذكره النحاس واختاره. وقيل: الكاف في }كما} كاف التشبيه، ومخرجه على سبيل، المجازاة؛ كقول القائل لعبده: كما وجهتك إلى أعدائي فاستضعفوك وسألت مددا فأمددتك وقويتك وأزحت علتك، فخذهم الآن فعاقبهم بكذا. وكما كسوتك وأجريت عليك الرزق فاعمل كذا وكذا. وكما أحسنت إليك فاشكرني عليه. فقال: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وغشاكم النعاس أمنة منه - يعني به إياه ومن معه - وأنزل من السماء ماء ليطهركم به، وأنزل عليكم من السماء ملائكة مردفين؛ فاضربوا فوق الأعناق وأضربوا منهم كل بنان. كأنه يقول: قد أزحت عللكم، وأمددتكم} بالملائكة فاضربوا منهم هذه المواضع، وهو المقتل؛ لتبلغوا مراد الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل. والله أعلم. }وإن فريقا من المؤمنين لكارهون} أي لكارهون ترك مكة وترك أموالهم وديارهم.
الآية رقم ( 6 )
{يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون}
قوله تعالى{يجادلونك في الحق بعد ما تبين} مجادلتهم: قولهم لما ندبهم إلى العير وفات العير وأمرهم بالقتال ولم يكن معهم كبير أهبة شق ذلك عليهم وقالوا: لو أخبرتنا بالقتال لأخذنا العدة. ومعنى }في الحق} أي في القتال. }بعد ما تبين} لهم أنك لا تأمر بشيء إلا بإذن الله. وقيل: بعد ما تبين لهم أن الله وعدهم إما الظفر بالعير أو بأهل مكة، وإذ فات العير فلا بد من أهل مكة والظفر بهم. فمعنى الكلام الإنكار لمجادلتهم. }كأنما يساقون إلى الموت} كراهة للقاء القوم. }وهم ينظرون} أي يعلمون أن ذلك واقع بهم؛ قال الله تعالى{يوم ينظر المرء ما قدمت يداه}النبأ: 40] أي يعلم.
الآية رقم ( 7 : 8 )
{وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون}
قوله تعالى{وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} }إحدى} في موضع نصب مفعول ثان. }أنها لكم} في موضع نصب أيضا بدلا من }إحدى}. }وتودون} أي تحبون }أن غير ذات الشوكة تكون لكم} قال أبو عبيدة: أي غير ذات الحد. والشوكة: السلاح. والشوك: النبت الذي له حد؛ ومنه رجل شائك السلاح، أي حديد السلاح. ثم يقلب فيقال: شاكي السلاح. أي تودون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح ولا فيها حرب؛ عن الزجاج. }ويريد الله أن يحق الحق بكلماته} أي أن يظهر الإسلام. والحق حق أبدا، ولكن إظهاره تحقيق له من حيث إنه إذا لم يظهر أشبه الباطل. }بكلماته} أي بوعده؛ فإنه وعد نبيه ذلك في سورة }الدخان} فقال{يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون}الدخان: 16] أي من أبي جهل وأصحابه. وقال{ليظهره على الدين كله}. [التوبة: 33]. وقيل{بكلماته} أي بأمره؛ إياكم أن تجاهدوهم. }ويقطع دابر الكافرين} أي يستأصلهم بالهلاك. }ليحق الحق} أي يظهر دين الإسلام ويعزه. }ويبطل الباطل} أي الكفر. وإبطاله إعدامه؛ كما أن إحقاق الحق إظهاره }بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}الأنبياء: 18]. }ولو كره المجرمون}.
الآية رقم ( 9 : 10 )
{إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين، وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم}
قوله تعالى{إذ تستغيثون ربكم} الاستغاثة: طلب الغوث والنصر. غوث الرجل قال: واغوثاه. والاسم الغوث والغواث والغواث. واستغاثني فلان فأغثته؛ والاسم الغياث؛ عن الجوهري. وروى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا؛ فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: (اللهم أنجز لي ما وعدتني. اللهم ائتني ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض). فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى{وإذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} فأمده الله بالملائكة. وذكر الحديث. }مردفين} بفتح الدال قراءة نافع. والباقون بالكسر اسم فاعل، أي متتابعين، تأتي فرقة بعد فرقة، وذلك أهيب في العيون. و}مردفين} بفتح الدال على ما لم يسم فاعله؛ لأن الناس الذين قاتلوا يوم بدر أردفوا بألف من الملائكة، أي أنزلوا إليهم لمعونتهم على الكفار. فمردفين بفتح الدال نعت لألف. وقيل: هو حال من الضمير المنصوب في }ممدكم}. أي ممدكم في حال إردافكم بألف من الملائكة؛ وهذا مذهب مجاهد. وحكى أبو عبيدة أن ردفني وأردفني واحد. وأنكر أبو عبيد أن يكون أردف بمعنى ردف؛ قال لقول الله عز وجل{تتبعها الرادفة}النازعات: 7] ولم يقل المردفة. قال النحاس ومكي وغيرهما: وقراءة كسر الدال أولى؛ لأن أهل التأويل على هذه القراءة يفسرون. أي أردف بعضهم بعضا، ولأن فيها معنى الفتح على ما حكى أبو عبيدة، ولأن عليه أكثر القراء. قال سيبويه: وقرأ بعضهم }مردفين} بفتح الراء وشد الدال. وبعضهم }مردفين} بكسر الراء. وبعضهم }مردفين} بضم الراء. والدال مكسورة مشددة في القراءات الثلاث. فالقراءة الأولى تقديرها عند سيبويه مرتدفين، ثم أدغم التاء في الدال، وألقى حركتها على الراء لئلا يلتقي ساكنان. والثانية كسرت فيها الراء لالتقاء الساكنين. وضمت الراء في الثالثة إتباعا لضمة الميم؛ كما تقول: رد ورد ورد يا هذا. وقرأ جعفر بن محمد وعاصم الجحدري{بآلف} جمع ألف؛ مثل فلس وأفلس. وعنهما أيضا }بألف}. وقد مضى في }آل عمران} ذكر نزول الملائكة وسيماهم وقتالهم. وتقدم فيها القول في معنى قوله{وما جعله الله إلا بشرى}آل عمران: 126]. والمراد الإمداد. ويجوز أن يكون الإرداف. }وما النصر إلا من عند الله} نبه على أن النصر من عنده جل وعز لا من الملائكة؛ أي لولا نصره لما انتفع بكثرة العدد بالملائكة. والنصر من عند الله يكون بالسيف ويكون بالحجة.
الآية رقم ( 11 )
{إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام}
قوله تعالى{إذ يغشيكم النعاس} مفعولان. وهي قراءة أهل المدينة، وهي حسنة لإضافة الفعل إلى الله عز وجل لتقدم ذكره في قوله{وما النصر إلا من عند الله}. ولأن بعده }وينزل عليكم} فأضاف الفعل إلى الله عز وجل. فكذلك الإغشاء يضاف إلى الله عز وجل ليتشاكل الكلام. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو }يغشاكم النعاس} بإضافة الفعل إلى النعاس. دليله }أمنة نعاسا يغشى}آل عمران: 154] في قراءة من قرأ بالياء أو بالتاء؛ فأضاف الفعل إلى النعاس أو إلى الأمنة. والأمنة هي النعاس؛ فأخبر أن النعاس هو الذي يغشى القوم. وقرأ الباقون }يغشيكم} بفتح الغين وشد الشين. }النعاس} بالنصب على معنى قراءة نافع، لغتان بمعنى غشى وأغشى؛ قال الله تعالى{فأغشيناهم}يس: 9]. وقال{فغشاها ما غشى}النجم: 54]. وقال{كأنما أغشيت وجوههم}يونس: 27]. قال مكي: والاختيار ضم الياء والتشديد ونصب النعاس؛ لأن بعده }أمنة منه} والهاء في }منه} لله، فهو الذي يغشيهم النعاس، ولأن الأكثر عليه. وقيل: أمنة من العدو و}أمنة} مفعول من أجله أو مصدر؛ يقال: أمن أمنة وأمنا وأمانا؛ كلها سواء. والنعاس حالة الآمن الذي لا يخاف. وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها؛ فكان النوم عجيبا مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم، ولكن الله ربط جأشهم. وعن علي رضي الله عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح؛ ذكره البيهقي. الماوردي: وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان: أحدهما: أن قواهم بالاستراحة على القتال من الغد. الثاني: أن أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم؛ كما يقال: الأمن منيم، والخوف مسهر. وقيل: غشاهم في حال التقاء الصفين. وقد مضى مثل هذا في يوم أحد في }آل عمران}.
قوله تعالى{وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام} ظاهر القرآن يدل على أن النعاس كان قبل المطر. وقال ابن أبي نجيح: كان المطر قبل النعاس. وحكى الزجاج: أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه، وبقى المؤمنون لا ماء لهم، فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك؛ فقال بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم: نزعم أنا أولياء الله وفينا رسول وحالنا هذه والمشركون على الماء. فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان حتى سالت الأودية؛ فشربوا وتطهروا وسقوا الظهر وتلبدت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين وقت القتال. وقد قيل: إن هذه الأحوال كانت قبل وصولهم إلى بدر؛ وهو أصح، وهو الذي ذكره ابن إسحاق في سيرته وغيره. وهذا اختصاره: قال ابن عباس لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان أنه مقبل من الشأم ندب المسلمين إليهم وقال{هذه عير قريش فيها الأموال فأخرجوا إليهم لعل الله أن ينفلكموها} قال: فانبعث معه من خف؛ وثقل قوم وكرهوا الخروج، وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلوي على من تعذر، ولا ينتظر من غاب ظهره، فسار في ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه من مهاجري وأنصاري.
وفي البخاري عن البراء بن عازب قال: كان المهاجرون يوم بدر نيفا وثمانين، وكان الأنصار نيفا وأربعين ومائتين. وخرج أيضا عنه قال: كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، على عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جاوز معه إلا مؤمن. وذكر البيهقي عن أبي أيوب الأنصاري قال: فخرجنا - يعني إلى بدر - فلما سرنا يوما أو يومين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتعاد، ففعلنا فإذا نحن ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعدتنا، فسر بذلك وحمد الله وقال{عدة أصحاب طالوت }. قال ابن إسحاق: وقد ظن الناس بأجمعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى حربا فلم يكثر استعدادهم. وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أموال الناس، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استنفر لكم الناس؛ فحذر عند ذلك واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا يستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد عرض لها في أصحابه؛ ففعل ضمضم. فخرج أهل مكة في ألف رجل أو نحو ذلك، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه، وأتاه الخبر عن قريش بخروجهم ليمنعوا عيرهم؛ فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس، فقام أبو بكر فقال فأحسن، وقام عمر فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل }فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون}المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، والذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه؛ فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير. ثم قال{أشيروا علي أيها الناس} يريد الأنصار. وذلك أنهم عدد الناس، وكانوا حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذممنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى أن عليها نصرته إلا بالمدينة، وأنه ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو بغير بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه سعد بن معاذ - وقيل سعد بن عبادة، ويمكن أنهما تكلما جميعا في ذلك اليوم - فقال: يا رسول الله، كأنك تريدنا معشر الأنصار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجل) فقال: إنا قد آمنا بك واتبعناك، فامض لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم{امضوا على بركة الله فكأني أنظر إلى مصارع القوم}. فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبق قريشا إلى ماء بدر. ومنع قريشا من السبق إليه مطر عظيم أنزله الله عليهم، ولم يصب منه المسلمين إلا ما شد لهم دهس الوادي وأعانهم على المسير. والدهس: الرمل اللين الذي تسوخ فيه الأرجل. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة، فأشار عليه الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح بغير ذلك وقال له: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال عليه السلام{بل هو الرأي والحرب والمكيدة}. فقال: يا رسول الله، إن هذا ليس لك بمنزل، فانهض بنا إلى أدنى ماء من القوم فننزله ونعور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملأه فنشرب ولا يشربون. فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من رأيه، وفعله. ثم التقوا فنصر الله نبيه. والمسلمين، فقتل من المشركين سبعين وأسر منهم سبعين، وانتقم منهم للمؤمنين، وشفى الله صدر رسوله عليه السلام وصدور أصحابه من غيظهم. وفي ذلك يقول حسان:
عرفت ديار زينب بالكثيب كخط الوحي في الورق القشيب
تداولها الرياح وكل جون من الوسمي منهمر سكوب
فأمسى ربعها خلقا وأمست يبابا بعد ساكنها الحبيب
فدع عنك التذكر كل يوم ورد حرارة الصدر الكئيب
وخبر بالذي لا عيب فيه بصدق غير إخبار الكذوب
بما صنع الإله غداة بدر لنا في المشركين من النصيب
غداة كأن جمعهم حراء بدت أركانه جنح الغروب
فلاقيناهم منا بجمع كأسد الغاب مردان وشيب
أمام محمد قد وازروه على الأعداء في لفح الحروب
بأيديهم صوارم مرهفات وكل مجرب خاظي الكعوب
بنو الأوس الغطارف وازرتها بنو النجار في الدين الصليب
فغادرنا أبا جهل صريعا وعتبة قد تركنا بالجبوب
وشيبة قد تركنا في رجال ذوي نسب إذا نسبوا حسيب
يناديهم رسول الله لما قذفناهم كباكب في القليب
ألم تجدوا كلامي كان حقا وأمر الله يأخذ بالقلوب
فما نطقوا، ولو نطقوا لقالوا أصبت وكنت ذا رأي مصيب
وهنا ثلاث مسائل:
الأولى: قال مالك: بلغني أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (كيف أهل بدر فيكم)؟ قال{خيارنا} فقال{إنهم كذلك فينا}. فدل هذا على أن شرف المخلوقات ليس بالذوات، وإنما هو بالأفعال. فللملائكة أفعالها الشريفة من المواظبة على التسبيح الدائم. ولنا أفعالنا بالإخلاص بالطاعة. وتتفاضل الطاعات بتفضيل الشرع لها، وأفضلها الجهاد، وأفضل الجهاد يوم بدر؛ لأن بناء الإسلام كان عليه.
الثانية: ودل خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلقى العير على جواز النفير للغنيمة لأنها كسب حلال. وهو يرد ما كره مالك من ذلك؛ إذ قال: ذلك قتال على الدنيا، وما جاء أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله دون من يقاتل للغنيمة، يراد به إذا كان قصده وحده وليس للدين فيه حظ. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير، ليس دونها شيء. فناداه العباس وهو في الأسرى: لا يصلح هذا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ولم)؟ قال: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك الله ما وعدك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم{صدقت}. وعلم ذلك العباس بحديث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبما كان من شأن بدر، فسمع ذلك في أثناء الحديث.
الثالثة: روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا، ثم قام عليهم فناداهم فقال: (يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا}. فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يسمعون، وأنى يجيبون وقد جيفوا؟ قال: (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا). ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في القليب، قليب بدر. }جيفوا} بفتح الجيم والياء، ومعناه أنتنوا فصاروا جيفا. وقول عمر{يسمعون} استبعاد على ما جرت به حكم العادة. فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يسمعون كسمع الأحياء. وفي هذا ما يدل على أن الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم) الحديث. أخرجه الصحيح.
قوله تعالى{ويثبت به الأقدام} الضمير في }به} عائد على الماء الذي شد دهس الوادي، كما تقوم. وقيل: هو عائد على ربط القلوب؛ فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب.
الآية رقم ( 12 )
{إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان}
قوله تعالى{إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم} العامل في }إذ، يثبت} أي يثبت به الأقدام ذلك الوقت. وقيل: العامل }ليربط} أي وليربط إذ يوحي. وقد يكون التقدير: اذكر }إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم} في موضع نصب، والمعنى: بأني معكم، أي بالنصر والمعونة. }معكم} بفتح العين ظرف، ومن أسكنها فهي عنده حرف. }فثبتوا الذين آمنوا} أي بشروهم بالنصر أو القتال معهم أو الحضور معهم من غير قتال؛ فكان الملك يسير أمام الصف في، صورة الرجل ويقول: سيروا فإن الله ناصركم. ويظن المسلمون أنه منهم؛ وقد تقدم في }آل عمران} أن الملائكة قاتلت ذلك اليوم. فكانوا يرون رؤوسا تندر عن الأعناق من غير ضارب يرونه. وسمع بعضهم قائلا يسمع قوله ولا يرى شخصه: أقدم حيزوم. وقيل: كان هذا التثبيت ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين نزول الملائكة مددا.
قوله تعالى{سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} تقدم في آل عمران بيانه. }فاضربوا فوق الأعناق} هذا أمر للملائكة. وقيل: للمؤمنين، أي اضربوا الأعناق، و}فوق} زائدة؛ قاله الأخفش والضحاك وعطية. وقد روى المسعودي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله وإنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق). وقال محمد بن يزيد: هذا خطأ؛ لأن }فوق} تفيد معنى فلا يجوز زيادتها، ولكن المعنى أنهم أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها. وقال ابن عباس: كل هام وجمجمة. وقيل: أي ما فوق الأعناق، وهو الرؤوس؛ قال عكرمة. والضرب على الرأس أبلغ؛ لأن أدنى شيء يؤثر في الدماغ. وقد مضى شيء من هذا المعنى في }النساء} وأن }فوق} ليست بزائدة، عند قوله{فوق اثنتين}. }واضربوا منهم كل بنان} قال الزجاج: واحد البنان بنانة، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء. والبنان مشتق من قولهم: أبن الرجل بالمكان إذا أقام به. فالبنان يعتمل به ما يكون للإقامة والحياة. وقيل: المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرجلين. وهو عبارة عن الثبات في الحرب وموضع الضرب؛ فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء. قال عنترة:
وكان فتى الهيجاء يحمي ذمارها ويضرب عند الكرب كل بنان
ومما جاء أن البنان الأصابع قول عنترة أيضا:
وأن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندواني
وهو كثير في أشعار العرب، البنان: الأصابع. قال ابن فارس: البنان الأصابع، ويقال: الأطراف. وذكر بعضهم أنها سميت بنانا لأن بها صلاح الأحوال التي بها يستقر الإنسان ويبن. وقال الضحاك: البنان كل مفصل.
الآية رقم ( 13 : 14 )
{ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب، ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار}
قوله تعالى{ذلك} في موضع رفع على الابتداء، والتقدير: ذلك الأمر، أو الأمر ذلك. }شاقوا الله} أي أولياءه. والشقاق: أن يصير كل واحد في شق. وقد تقدم. }ذلكم} رفع بإضمار الأمر أو القصة، أي الأمر ذلكم فذوقوه. ويجوز أن يكون في موضع نصب بـ }ذوقوا} كقولك: زيدا فاضربه. ومعنى الكلام التوبيخ للكافرين. }وأن} في موضع رفع عطف على ذلكم. قال الفراء: ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى وبأن للكافرين. قال: ويجوز أن يضمر واعلموا أن. الزجاج: لو جاز إضمار واعلموا لجاز زيد منطلق وعمرا جالسا، بل كان يجوز في الابتداء زيدا منطلقا؛ لأن المخبر معلم، وهذا لا يقوله أحد من النحويين.
الآية رقم ( 15 : 16 )
{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير}
قوله تعالى{زحفا} الزحف الدنو قليلا قليلا. وأصله الاندفاع على الألية؛ ثم سمي كل ماش في الحرب إلى آخر زاحفا. والتزاحف: التداني والتقارب؛ يقال: زحف إلى العدو زحفا. وازحف القوم، أي مشى بعضهم إلى بعض. ومنه زحاف الشعر، وهو أن يسقط بين الحرفين حرف فيزحف أحدهما إلى الآخر. يقول: إذا تدانيتم وتعاينتم فلا تفروا عنهم ولا تعطوهم أدباركم. حرم الله ذلك على المؤمنين حين فرض عليهم الجهاد وقتال الكفار. قال ابن عطية: والأدبار جمع دبر. والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة؛ لأنها بشعة على الفار، ذامة له.
أمر الله عز وجل في هذه الآية ألا يولي المؤمنون أمام الكفار. وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين؛ فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنين من المشركين فالفرض ألا يفروا أمامهم. فمن فر من اثنين فهو فار من الزحف. ومن فر من ثلاثة فليس بفار من الزحف، ولا يتوجه عليه الوعيد. والفرار كبيرة موبقة بظاهر القرآن وإجماع الأكثر من الأئمة. وقالت فرقة منهم ابن الماجشون في الواضحة: إنه يراعى الضعف والقوة والعدة؛ فيجوز على قولهم أن يفر مائة فارس من مائة فارس إذا علموا أن ما عند المشركين من النجدة والبسالة ضعف ما عندهم. وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا مما زاد على، المائتين؛ فمهما كان في مقابلة مسلم أكثر من اثنين فيجوز الانهزام، والصبر أحسن. وقد وقف جيش مؤتة وهم ثلاثة آلاف في مقابلة مائتي ألف، منهم مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة من لخم وجذام.
قلت: ووقع في تاريخ فتح الأندلس، أن طارقا مولى موسى بن نصير سار في ألف وسبعمائة رجل إلى الأندلس، وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة؛ فالتقى وملك الأندلس لذريق وكان في سبعين ألف عنان؛ فزحف إليه طارق وصبر له فهزم الله الطاغية لذريق، وكان الفتح. قال ابن وهب: سمعت مالكا يسأل عن القوم يلقون العدو أو يكونون في محرس يحرسون فيأتيهم العدو وهم يسير، أيقاتلون أو ينصرفون فيؤذنون أصحابهم؟ قال: إن كانوا يقوون على قتالهم قاتلوهم، وإلا انصرفوا إلى أصحابهم فآذنوهم.
واختلف الناس هل الفرار يوم الزحف مخصوص بيوم بدر أم عام في الزحوف كلها إلى يوم القيامة؟ فروي عن أبي سعيد الخدري أن ذلك مخصوص بيوم بدر، وبه قال نافع والحسن وقتادة ويزيد بن أبي حبيب والضحاك، وبه قال أبو حنيفة. وأن ذلك خاص بأهل بدر فلم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا للمشركين، ولم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم، ولا للمسلمين فئة إلا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض. قال الكيا: وهذا فيه نظر؛ لأنه كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج ولم يكونوا يرون أنه قتال، وإنما ظنوا أنها العير؛ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف معه. ويروى عن ابن عباس وسائر العلماء أن الآية باقية إلى يوم القيامة. احتج الأولون بما ذكرنا، وبقوله تعالى{يومئذ} فقالوا: هو إشارة إلى يوم بدر، وأنه نسخ حكم الآية بآية الضعف. وبقي حكم الفرار من الزحف ليس بكبيرة. وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله عنهم، وقال الله فيهم يوم حنين }ثم وليتم مدبرين}التوبة: 25] ولم يقع على ذلك تعنيف. وقال الجمهور من العلماء: إنما ذلك إشارة إلى يوم الزحف الذي يتضمنه قوله تعالى{إذا لقيتم}. وحكم الآية باق إلى يوم القيامة بشرط الضعف الذي بينه الله تعالى في آية أخرى، وليس في الآية نسخ. والدليل عليه أن الآية نزلت بعد القتال وانقضاء الحرب وذهاب اليوم بما فيه. وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأكثر العلماء. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات - وفيه - والتولي يوم الزحف) وهذا نص في المسألة. وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من ضعفهم ومع ذلك عنفوا. وأما يوم حنين فكذلك من فر إنما انكشف عن الكثرة؛ على ما يأتي بيانه.
قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة من فر من الزحف، ولا يجوز لهم الفرار وإن فر إمامهم؛ لقوله عز وجل{ومن يولهم يومئذ دبره} الآية. قال: ويجوز الفرار من أكثر من ضعفهم، وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا؛ فإن بلغ اثني عشر ألفا لم يحل لهم الفرار وإن زاد عدد المشركين على الضعف؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم{ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة} فإن أكثر أهل العلم خصصوا هذا العدد بهذا الحديث من عموم الآية.
قلت: رواه أبو بشر وأبو سلمة العاملي، وهو الحكم بن عبدالله بن خطاف وهو متروك. قالا: حدثنا الزهري عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أكثم بن الجون اغز مع غير قومك يحسن خلقك وتكرم على رفقائك. يا أكثم بن الجون خير الرفقاء أربعة وخير الطلائع أربعون وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يؤتى اثنا عشر ألفا من قلة). وروي عن مالك ما يدل على ذلك من مذهبه وهو قوله للعمري العابد إذ سأله هل لك سعة في ترك مجاهدة من غير الأحكام وبدلها ؟ فقال: إن كان معك اثنا عشر ألفا فلا سعة لك في ذلك.
فإن فر فليستغفر الله عز وجل. روى الترمذي عن بلال بن يسار بن زيد قال: حدثني أبي عن جدي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول{من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر الله له وإن كان قد فر من الزحف}. قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
قوله تعالى{إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة} التحرف: الزوال عن جهة الاستواء. فالمتحرف من جانب إلى جانب لمكايد الحرب غير منهزم؛ وكذلك المتحيز إذا نوى التحيز إلى فئة من المسلمين ليستعين بهم فيرجع إلى القتال غير منهزم أيضا. روى أبو داود عن عبدالله بن عمر أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، قال: فلما برزنا قلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب. فقلنا: ندخل المدينة فنتثبت فيها ونذهب ولا يرانا أحد. قال: فدخلنا فقلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كانت لنا توبة أقمنا، وإن كان غير ذلك ذهبنا. قال: فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا إليه فقلنا، نحن الفرارون؛ فأقبل إلينا فقال{لا بل أنتم الكارون} قال: فدنونا فقبلنا يده. فقال: (أنا فئة المسلمين). قال ثعلب: العكارون هم العطافون. وقال غيره: يقال للرجل الذي يولي عند الحرب ثم يكر راجعا: عكر واعتكر. وروى جرير عن منصور عن إبراهيم قال: انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، هلكت! فررت من الزحف. فقال عمر: أنا فئتك. وقال محمد بن سيرين: لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر فقال: لو انحاز إلي لكنت له فئة، فأنا فئة كل مسلم. وعلى هذه الأحاديث لا يكون الفرار كبيرة؛ لأن الفئة هنا المدينة والإمام وجماعة المسلمين حيث كانوا. وعلى القول الآخر يكون كبيرة؛ لأن الفئة هناك الجماعة من الناس الحاضرة للحرب. هذا على قول الجمهور أن الفرار من الزحف كبيرة. قالوا: وإنما كان ذلك القول من النبي صلى الله عليه وسلم وعمر على جهة الحيطة على المؤمنين، إذ كانوا في ذلك الزمان يثبتون لأضعافهم مرارا. والله أعلم. وفي قوله{والتولي يوم الزحف} ما يكفي.
قوله تعالى{فقد باء بغضب من الله} أي استحق الغضب. وأصل }باء} رجع وقد تقدم. }ومأواه جهنم} أي مقامه. وهذا لا يدل على الخلود؛ كما تقدم في غير موضع. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم غفر له وإن كان قد فر من الزحف).
الآية رقم ( 17 : 18 )
{فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم، ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين}
قوله تعالى{فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} أي يوم بدر. روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم ما فعل: قتلت كذا، فعلت كذا؛ فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك. فنزلت الآية إعلاما بأن الله تعالى هو المميت والمقدر لجميع الأشياء، وأن العبد إنما يشارك بتكسبه وقصده. وهذه الآية ترد على من يقول بأن أفعال العباد خلق لهم. فقيل: المعنى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى أمكنكم منهم. وقيل: ولكن الله قتلهم بالملائكة الذين أمدكم بهم. }وما رميت إذ رميت} مثله. }ولكن الله رمى}. واختلف العلماء في هذا الرمي على أربعة أقوال:
الأول: إن هذا الرمي إنما كان في حصب رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؛ رواه ابن وهب عن مالك. قال مالك: ولم يبق في ذلك اليوم أحد إلا وقد أصابه ذلك. وكذلك روى عنه ابن القاسم أيضا.
الثاني: أن هذا كان يوم أحد حين رمى أبي بن خلف بالحربة في عنقه؛ فكر أبي منهزما. فقال له المشركون: والله ما بك من بأس. فقال: والله لو بصق علي لقتلني. أليس قد قال: بل أنا أقتله. وكان أوعد أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل بمكة؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم{بل أنا أقتلك} فمات عدو الله من ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرجعه إلى مكة، بموضع يقال له }سرف}. قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: لما كان يوم أحد أقبل أبي مقنعا في الحديد على فرسه يقول: لا نجوت إن نجا محمد؛ فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريه قتله. قال موسى بن عقبة قال سعيد بن المسيب: فاعترض له رجال من المؤمنين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلوا طريقه؛ فاستقبله مصعب بن عمير يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة البيضة والدرع؛ فطعنه بحربته فوقع أبي عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم. قال سعيد: فكسر ضلعا من أضلاعه؛ فقال: ففي ذلك نزل }وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}. وهذا ضعيف؛ لأن الآية نزلت عقيب بدر.
الثالث: أن المراد السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر، فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهو على فراشه. وهذا أيضا فاسد، وخيبر وفتحها أبعد من أحد بكثير. والصحيح في صورة قتل ابن أبي الحقيق غير هذا.
الرابع: أنها كانت يوم بدر؛ قال ابن إسحاق. وهو أصح؛ لأن السورة بدرية، وذلك أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (خذ قبضة من التراب) فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم فما من المشركين، من أحد إلا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة؛ وقاله ابن عباس؛ وسيأتي. قال ثعلب: المعنى }وما رميت} الفزع والرعب في قلوبهم }إذ رميت} بالحصباء فانهزموا }ولكن الله رمى} أي أعانك وأظفرك. والعرب تقول: رمى الله لك، أي أعانك وأظفرك وصنع لك. حكى هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز. وقال محمد بن يزيد: وما رميت بقوتك، إذ رميت، ولكنك بقوة الله رميت. }وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا} البلاء ههنا النعمة. واللام تتعلق بمحذوف؛ أي وليبلي المؤمنين فعل ذلك. }موَهِّن}
قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو. وقراءة أهل الكوفة }موهن كيد الكافرين}. وفي التشديد معنى المبالغة. وروي عن الحسن }موهن كيد الكافرين} بالإضافة والتخفيف. والمعنى: أن الله عز وجل يلقي في قلوبهم الرعب حتى يتشتتوا ويتفرق جمعهم فيضعفوا. والكيد: المكر. وقد تقدم.
الآية رقم ( 19 )
{إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين}
قوله تعالى{إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} شرطه وجوابه. وفيه ثلاثة أقوال: يكون خطابا للكفار؛ لأنهم استفتحوا فقالوا: اللهم أقطعنا للرحم وأظلمنا لصاحبه فانصره عليه؛ قاله الحسن ومجاهد وغيرهما. وكان هذا القول منهم وقت خروجهم لنصرة العير. وقيل: قاله أبو جهل وقت القتال. وقال النضر بن الحارث: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وهو ممن قتل ببدر. والاستفتاح: طلب النصر؛ أي قد جاءكم الفتح ولكنه كان للمسلمين عليكم. أي فقد جاءكم ما بان به الأمر، وانكشف لكم الحق. }وإن تنتهوا} أي عن الكفر }فهو خير لكم}. }وإن تعودوا} أي إلى هذا القول وقتال محمد. }نعد} إلى نصر المؤمنين. }ولن تغني عنكم فئتكم} أي عن جماعتكم }شيئا}. }ولو كثرت} أي في العدد.
الثاني: يكون خطابا للمؤمنين؛ أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر. وإن }تنتهوا} أي عن مثل ما فعلتموه من أخذ الغنائم والأسرى قبل الإذن؛ }فهو خير لكم}. و}وإن تعودوا} أي إلى مثل ذلك نعد إلى توبيخكم. كما قال{لولا كتاب من الله سبق}الأنفال: 68] الآية.
والقول الثالث: أن يكون }إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} خطابا للمؤمنين، وما بعده للكفار. أي وإن تعودوا إلى القتال نعد إلى مثل وقعة بدر. القشيري: والصحيح أنه خطاب للكفار؛ فإنهم لما نفروا إلى نصرة العير تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أهدى الطائفتين، وأفضل الدينين. المهدوي: وروي أن المشركين خرجوا معهم بأستار الكعبة يستفتحون بها، أي يستنصرون.
قلت: ولا تعارض لاحتمال أن يكونوا فعلوا الحالتين.
{وإن الله مع المؤمنين} بكسر الألف على الاستئناف، وبفتحها عطف على قوله{وأن الله موهن كيد الكافرين}. أو على قوله{أني معكم}. والمعنى: ولأن الله؛ والتقدير لكثرتها وأن الله. أي من كان الله في نصره لم تغلبه فئة وإن كثرت.
الآية رقم ( 20 )
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون}
قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله} الخطاب للمؤمنين المصدقين. أفردهم بالخطاب دون المنافقين إجلالا لهم. جدد الله عليهم الأمر بطاعة الله والرسول، ونهاهم عن التولي عنه. هذا قول الجمهور. وقالت فرقة: الخطاب بهذه الآية إنما للمنافقين. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم فقط. قال ابن عطية: وهذا وإن كان محتملا على بعد فهو ضعيف جدا؛ لأن الله تعالى وصف من خاطب في هذه الآية بالإيمان. والإيمان التصديق، والمنافقون لا يتصفون من التصديق بشيء. وأبعد من هذا من قال: إن الخطاب لبني إسرائيل، فإنه أجنبي من الآية.
قوله تعالى{ولا تولوا عنه} التولي الإعراض. وقال }عنه} ولم يقل عنهما لأن طاعة الرسول طاعته؛ وهو كقوله تعالى{والله ورسوله أحق أن يرضوه}التوبة: 62]. }وأنتم تسمعون} ابتداء وخبر في موضع الحال. والمعنى: وأنتم تسمعون ما يتلى عليكم من الحجج والبراهين في القرآن.
الآية رقم ( 21 : 22 )
{ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون}
قوله تعالى{ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا} أي كاليهود أو المنافقين أو المشركين. وهو من سماع الأذن. }وهم لا يسمعون} أي لا يتدبرون ما سمعوا، ولا يفكرون فيه، فهم بمنزلة من لم يسمع وأعرض عن الحق. نهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم. فدلت الآية على أن قول المؤمن: سمعت وأطعت، لا فائدة فيه ما لم يظهر أثر ذلك عليه بامتثال فعله. فإذا قصر في الأوامر فلم يأتها، واعتمد النواهي فاقتحمها فأي سمع عنده وأي طاعة! وإنما يكون حينئذ بمنزلة المنافقين الذي يظهر الإيمان، ويسر الكفر؛ وذلك هو المراد بقوله{ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون}. يعني بذلك المنافقين، أي اليهود أو المشركين، على مما تقدم. ثم أخبر تعالى أن الكفار شر ما دب على الأرض. وفي البخاري عن ابن عباس }إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} قال: هم نفر من بني عبدالدار. والأصل أشر، حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال. وكذا خير؛ الأصل أخير.
الآية رقم ( 23 )
{ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون}
قوله تعالى{ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} قيل: الحجج والبراهين؛ إسماع تفهم. ولكن سبق علمه بشقاوتهم }ولو أسمعهم} أي لو أفهمهم لما آمنوا بعد علمه الأزلي بكفرهم. وقيل: المعنى لأسمعهم كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم؛ لأنهم طلبوا إحياء قصي بن كلاب وغيره ليشهدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. الزجاج: لأسمعهم جواب كل ما سألوا عنه. }ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} إذ سبق في علمه أنهم لا يؤمنون.
الآية رقم ( 24 )
{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون}
قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول} هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف. والاستجابة: الإجابة. و}يحييكم} أصله يحييكم، حذفت الضمة من الياء لثقلها. ولا يجوز الإدغام. قال أبو عبيدة: معنى }استجيبوا} أجيبوا؛ ولكن عرف الكلام أن يتعدى استجاب بلام، ويتعدى أجاب دون لام. قال الله تعالى{يا قومنا أجيبوا داعي الله}الأحقاف: 31]. وقد يتعدى استجاب بغير لام؛ والشاهد له قول الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
تقول: أجابه وأجاب عن سؤاله. والمصدر الإجابة. والاسم الجابة؛ بمنزلة الطاقة والطاعة. تقول: أساء سمعا فأساء جابة. هكذا يتكلم بهذا الحرف. والمجاوبة والتجاوب: التحاور. وتقول: إنه لحسن الجيبة (بالكسر) أي الجواب. }لما يحييكم} متعلق بقوله{استجيبوا}. المعنى: استجيبوا لما يحييكم إذا دعاكم. وقيل: اللام بمعنى إلى، أي إلى ما يحييكم، أي يحيي دينكم ويعلمكم. وقيل: أي إلى ما يحيي به قلوبكم فتوحدوه، وهذا إحياء مستعار؛ لأنه من موت الكفر والجهل. وقال مجاهد والجمهور: المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي؛ ففيه الحياة الأبدية، والنعمة السرمدية، وقيل: المراد بقوله }لما يحييكم} الجهاد، فإنه سبب الحياة في الظاهر، لأن العدو إذا لم يغز غزا؛ وفي غزوه الموت، والموت في الجهاد الحياة الأبدية؛ قال الله عز وجل{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء}آل عمران: 169] والصحيح العموم كما قال الجمهور.
روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي. فقال{ألم يقل الله عز وجل }استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} وذكر الحديث. وقد تقدم في الفاتحة. وقال الشافعي رحمه الله: هذا دليل على أن الفعل الفرض أو القول الفرض إذا أتي به في الصلاة لا تبطل؛ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإجابة وإن كان في الصلاة.
قلت: وفيه حجة لقول الأوزاعي: لو أن رجلا يصلي فأبصر غلاما يريد أن يسقط في، بئر فصاح به وانصرف إليه وانتهره لم يكن بذلك بأس. والله أعلم.
قوله تعالى{واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} قيل: إنه يقتضي النص منه على خلقه تعالى الكفر والإيمان فيحول بين المرء الكافر وبين الإيمان الذي أمره به، فلا يكتسبه إذا لم يقدره عليه بل أقدره على ضده وهو الكفر. وهكذا المؤمن يحول بينه وبين الكفر. فبان بهذا النص أنه تعالى خالق لجميع اكتساب العباد خيرها وشرها. وهذا معنى قوله عليه السلام{لا، ومقلب القلوب}. وكان فعل الله تعالى ذلك عدلا فيمن أضله وخذله؛ إذ لم يمنعهم حقا وجب عليه فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم. قال السدي: يحول بين المرء وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن إلا بإذنه، ولا يكفر أيضا إلا بإذنه؛ أي بمشيئته. والقلب موضع الفكر. وقد تقدم في }البقرة} بيانه. وهو بيد الله، متى شاء حال بين العبد وبينه بمرض أو آفة كيلا يعقل. أي بادروا إلى الاستجابة قبل ألا تتمكنوا منها بزوال العقل. وقال مجاهد: المعنى يحول بين المرء وعقله حتى لا يدري ما يصنع. وفي التنزيل{إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب}ق: 37] أي عقل. وقيل: يحول بينه وبينه بالموت، فلا يمكنه استدراك ما فات. وقيل: خاف المسلمون يوم بدر كثرة العدو فأعلمهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدلهم بعد الخوف أمنا، ويبدل عدوهم من الأمن خوفا. وقيل: المعنى يقلب الأمور من حال إلى حال؛ وهذا جامع. واختيار الطبري أن يكون ذلك إخبارا من الله عز وجل بأنه أملك لقلوب العباد منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء؛ حتى لا يدرك الإنسان شيئا إلا بمشيئة الله عز وجل. }وأنه إليه تحشرون} عطف. قال الفراء: ولو استأنفت فكسرت، }وأنه} كان صوابا.
الآية رقم ( 25 )
{ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب}
قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب. وكذلك تأول فيها الزبير بن العوام فإنه قال يوم الجمل، وكان سنة ست وثلاثين: ما علمت أنا أردنا بهذه الآية إلا اليوم، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب ذلك الوقت. وكذلك تأول الحسن البصري والسدي وغيرهما. قال السدي: نزلت الآية في أهل بدر خاصة؛ فأصابتهم الفتنة يوم الجمل فاقتتلوا. وقال ابن عباس رضي الله عنه: نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقال: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر فيما بينهم فيعمهم الله بالعذاب. وعن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون بين ناس من أصحابي فتنة يغفرها الله لهم بصحبتهم إياي يستن بهم فيها ناس بعدهم يدخلهم الله بها الناس).
قلت: وهذه التأويلات هي التي تعضدها الأحاديث الصحيحة؛ ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث}. وفي صحيح الترمذي: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده) وقد تقدمت هذه الأحاديث. وفي صحيح البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال{مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا}. ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة. وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال علماؤنا: فالفتنة إذا عملت هلك الكل. وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها. وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم؛ كما في قصة السبت حين هجروا العاصين وقالوا لا نساكنكم. وبهذا قال السلف رضي الله عنهم. روى ابن وهب عن مالك أنه قال: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا ولا يستقر فيها. واحتج بصنيع أبي الدرداء في خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا، فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها. خرجه الصحيح. وروى البخاري عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم}. فهذا يدل على أن الهلاك العام منه ما يكون طهرة للمؤمنين ومنه ما يكون نقمة للفاسقين. وروى مسلم عن عبدالله بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت: عبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه، فقلت: يا رسول الله، صنعت شيئا في منامك لم تكن تفعله؟ فقال: (العجب، إن ناسا من أمتي يؤمون هذا البيت برجل من قريش قد لجأ بالبيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم}. فقلنا: يا رسول الله، إن الطريق قد يجمع الناس. قال{نعم، فيهم المستبصر والمحبور وابن السبيل يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى يبعثهم الله تعالى على نياتهم}. فإن قيل: فقد قال الله تعالى }ولا تزر وازرة وزر أخرى}الأنعام: 164]. }كل نفس بما كسبت رهينة}المدثر: 38]. }لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}البقرة: 286]. وهذا يوجب ألا يؤخذ أحد بذنب أحد، وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب. فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره؛ فإذا سكت عليه فكلهم عاص. هذا بفعله وهذا برضاه. وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل؛ فانتظم في العقوبة؛ قال ابن العربي. وهو مضمون الأحاديث كما ذكرنا. ومقصود الآية: واتقوا فتنة تتعدى الظالم، فتصيب الصالح والطالح.
واختلف النحاة في دخول النون في }لا تصيبن}. قال الفراء: هو بمنزلة قولك: انزل عن الدابة لا تطرحنك؛ فهو جواب الأمر بلفظ النهي؛ أي إن تنزل عنها لا تطرحنك. ومثله قوله تعالى{ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم}النمل: 18]. أي إن تدخلوا لا يحطمنكم؛ فدخلت النون لما فيه من معنى الجزاء. وقيل: لأنه خرج مخرج القسم، والنون لا تدخل إلا على فعل النهي أو جواب القسم. وقال أبو العباس المبرد: إنه نهي بعد أمر، والمعنى النهي للظالمين؛ أي لا تقربن الظلم. وحكى سيبويه: لا أرينك ههنا؛ أي لا تكن ههنا؛ فإنه من كان ههنا رأيته. وقال الجرجاني: المعنى اتقوا فتنة تصيب الذين ظلموا خاصة. فقوله }لا تصيبن} نهي في موضع وصف النكرة؛ وتأويله الإخبار بإصابتها الذين ظلموا. وقرأ علي وزيد بن ثابت وأبي وابن مسعود }لتصيبن} بلا ألف. قال المهدوي: من قرأ }لتصيبن} جاز أن يكون مقصورا من }لا تصيبن} حذفت الألف كما حذفت من }ما} وهي أخت }لا} في نحو أم والله لأفعلن، وشبهه. ويجوز أن تكون مخالفة لقراءة الجماعة؛ فيكون المعنى أنها تصيب الظالم خاصة.
الآية رقم ( 26 )
{واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون}
قوله تعالى{واذكروا إذ أنتم قليل} قال الكلبي: نزلت في المهاجرين؛ يعني وصف حالهم قبل الهجرة وفي ابتداء الإسلام. }مستضعفون} نعت. }في الأرض} أي أرض مكة. }تخافون} نعت. }أن يتخطفكم} في موضع نصب. والخطب: الأخذ بسرعة. }الناس} رفع على الفاعل. قتادة وعكرمة: هم مشركو قريش. وهب بن منبه: فارس والروم. }فآواكم} قال ابن عباس: إلى الأنصار. السدي: إلى المدينة؛ والمعنى واحد. أوى إليه (بالمد): ضم إليه. وأوى إليه (بالقصر): انضم إليه. }وأيدكم} قواكم. }بنصره} أي بعونه. وقيل: بالأنصار. وقيل: بالملائكة يوم بدر. }من الطيبات} أي الغنائم. }لعلكم تشكرون} قد تقدم معناه.
الآية رقم ( 27 )
{يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}
روي أنها نزلت في أبي لبابة بن عبدالمنذر حين أشار إلى بني قريظة بالذبح. قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله؛ فنزلت هذه الآية. فلما نزلت شد نفسه إلى سارية من سواري المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت، أو يتوب الله علي. الخبر مشهور. وعن عكرمة قال: لما كان شأن قريظة بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه فيمن كان عنده من الناس؛ فلما انتهى إليهم وقعوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء جبريل عليه السلام على فرس أبلق فقالت عائشة رضي الله عنها: فلكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه جبريل عليهما السلام؛ فقلت: هذا دحية يا رسول الله ؟ فقال{هذا جبريل عليه السلام}. قال{يا رسول الله ما يمنعك من بني قريظة أن تأتيهم)؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم{فكيف لي بحصنهم}؟ فقال جبريل{فإني أدخل فرسي هذا عليهم}. فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا معروريا؛ فلما رآه علي رضي الله عنه قال: يا رسول الله، لا عليك ألا تأتيهم، فإنهم يشتمونك. فقال{كلا إنها ستكون تحية}. فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا إخوة القردة والخنازير) فقالوا: يا أبا القاسم، ما كنت فحاشا! فقالوا: لا ننزل على حكم محمد، ولكنا ننزل على حكم سعد بن معاذ؛ فنزل. فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم{بذلك طرقني الملك سحرا}. فنزل فيهم }يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}. نزلت في أبي لبابة، أشار إلى بني قريظة حين قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، لا تفعلوا فإنه الذبح، وأشار إلى حلقه. وقيل: نزلت الآية في أنهم يسمعون الشيء من النبي صلى الله عليه وسلم فيلقونه إلى المشركين ويفشونه. وقيل: المعنى بغلول الغنائم. ونسبتها إلى الله؛ لأنه هو الذي أمر بقسمتها. وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه المؤدي عن الله عز وجل والقيم بها. والخيانة: الغدر وإخفاء الشيء؛ ومنه{يعلم خائنة الأعين}غافر: 19] وكان عليه السلام يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع ومن الخيانة فإنها بئست البطانة). خرجه النسائي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول؛ فذكره. }وتخونوا أماناتكم} في موضع جزم، نسقا على الأول. وقد يكون على الجواب؛ كما يقال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. والأمانات: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد. وسميت أمانة لأنها يؤمن معها من منع الحق؛ مأخوذة من الأمن. وقد تقدم في }النساء} القول في أداء الأمانات والودائع وغير ذلك. }وأنتم تعلمون} أي ما في الخيانة من القبح والعار. وقيل: تعلمون أنها أمانة.
الآية رقم ( 28 )
{واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم}
قوله تعالى{واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة} كان لأبي لبابة أموال وأولاد في بني قريظة: وهو الذي حمله على ملاينتهم؛ فهذا إشارة إلى ذلك. }فتنة} أي اختبار؛ امتحنهم بها. }وأن الله عنده أجر عظيم} فآثروا حقه على حقكم.
الآية رقم ( 29 )
{يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم}
قد تقدم معنى }التقوى}. وكان الله عالما بأنهم يتقون أم لا يتقون. فذكر بلفظ الشرط؛ لأنه خاطب العباد بما يخاطب بعضهم بعضا. فإذا اتقى العبد ربه - وذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه - وترك الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات، وشحن قلبه بالنية الخالصة، وجوارحه بالأعمال الصالحة، وتحفظ من شوائب الشرك الخفي والظاهر بمراعاة غير الله في الأعمال، والركون إلى الدنيا بالعفة عن المال، جعل له بين الحق والباطل فرقانا، ورزقه فيما يريد من الخير إمكانا. قال ابن وهب: سألت مالكا عن قوله سبحانه وتعالى{إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} قال: مخرجا، ثم قرأ }ومن يتق الله يجعل له مخرجا}الطلاق: 2]. وحكى ابن القاسم وأشهب عن مالك مثله سواء، وقاله مجاهد قبله. وقال الشاعر:
مالك من طول الأسى فرقان بعد قطين رحلوا وبانوا
وقال آخر:
وكيف أرجي الخلد والموت طالبي وما لي من كأس المنية فرقان
ابن إسحاق{فرقانا} فصلا بين الحق والباطل؛ وقال ابن زيد. السدي: نجاة. الفراء: فتحا ونصرا. وقيل: في الآخرة، فيدخلكم الجنة ويدخل الكفار النار.
الآية رقم ( 30 )
{وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}
هذا إخبار بما اجتمع عليه المشركون من المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة؛ فاجتمع رأيهم على قتله فبيتوه، ورصدوه على باب منزل طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله عز وجل أن يعمى عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم، فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض. فلما أصبحوا خرج عليهم علي فأخبرهم أن ليس في الدار أحد، فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا. الخبر مشهور في السيرة وغيرها. ومعنى }ليثبتوك} ليحبسوك؛ يقال: أثبته إذا حبسته. وقال قتادة{ليثبتوك} وثاقا. وعنه أيضا وعبدالله بن كثير: ليسجنوك. وقال أبان بن تغلب وأبو حاتم: ليثخنوك بالجراحات والضرب الشديد. قال الشاعر:
فقلت ويحكما ما في صحيفتكم قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا
{أو يقتلوك أو يخرجوك} عطف. }ويمكرون} مستأنف. والمكر: التدبير في الأمر في خفية. }والله خير الماكرين} خير} ابتداء وخبر. والمكر من الله هو جزاؤهم بالعذاب على مكرهم من حيث لا يشعرون.
الآية رقم ( 31 )
{وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين}
نزلت في النضر بن الحارث؛ كان خرج إلى الحيرة في التجارة فاشترى أحاديث كليلة ودمنة، وكسرى وقيصر؛ فلما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار من مضى قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا. وكان هذا وقاحة وكذبا. وقيل: إنهم توهموا أنهم يأتون بمثله، كما توهمت سحرة موسى، ثم راموا ذلك فعجزوا عنه وقالوا عنادا: إن هذا إلا أساطير الأولين. وقد تقدم.
الآية رقم ( 32 )
{وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}
القراء على نصب }الحق} على خبر (كان). ودخلت (هو) للفصل. ويجوز (هو الحق) بالرفع. }من عندك} قال الزجاج: ولا أعلم أحدا قرأ بها. ولا اختلاف بين النحويين في إجازتها ولكن القراءة سنة، لا يقرأ فيها إلا بقراءة مرضية. واختلف فيمن قال هذه المقالة؛ فقال مجاهد وابن جبير: قائل هذا هو النضر بن الحارث. أنس بن مالك: قائله أبو جهل؛ رواه البخاري ومسلم. ثم يجوز أن يقال: قالوه لشبهة كانت في صدورهم، أو على وجه العناد والإبهام على الناس أنهم على بصيرة، ثم حل بهم يوم بدر ما سألوا. حكي أن ابن عباس لقيه رجل من اليهود؛ فقال اليهودي: ممن أنت؟ قال: من قريش. فقال: أنت من القوم الذين قالوا{اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} الآية. فهلا عليهم أن يقولوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له! إن هؤلاء قوم يجهلون. قال ابن عباس: وأنت يا إسرائيلي، من القوم الذين لم تجف أرجلهم من بلل البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه، وأنجى موسى وقومه؛ حتى قالوا{اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}الأعراف: 138] فقال لهم موسى{إنكم قوم تجهلون}الأعراف: 138] فأطرق اليهودي مفحما. }فأمطر} أمطر في العذاب. ومطر في الرحمة؛ عن أبي عبيدة. وقد تقدم.
الآية رقم ( 33 )
{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}
لما قال أبو جهل{اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} الآية، نزلت }وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} كذا في صحيح مسلم. وقال ابن عباس: لم يعذب أهل قرية حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم منها والمؤمنون؛ يلحقوا بحيث أمروا. }وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} ابن عباس: كانوا يقولون في الطواف: غفرانك. والاستغفار وإن وقع من الفجار يدفع به ضرب من الشرور والإضرار. وقيل: إن الاستغفار راجع إلى المسلمين الذين هم بين أظهرهم. أي وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر من المسلمين؛ فلما خرجوا عذبهم الله يوم بدر وغيره؛. قاله الضحاك وغيره. وقيل: إن الاستغفار هنا يراد به الإسلام. أي }وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} أي يسلمون؛ قاله مجاهد وعكرمة. وقيل{وهم يستغفرون} أي في أصلابهم من يستغفر الله. روي عن مجاهد أيضا. وقيل: معنى }يستغفرون} لو استغفروا. أي لو استغفروا لم يعذبوا. استدعاهم إلى الاستغفار؛ قاله قتادة وابن زيد. وقال المدائني عن بعض العلماء قال: كان رجل من العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مسرفا على نفسه، لم يكن يتحرج؛ فلما أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم لبس الصوف ورجع عما كان عليه، وأظهر الدين والنسك. فقيل له: لو فعلت هذا والنبي صلى الله عليه وسلم حي لفرح بك. قال: كان لي أمانان، فمضى واحد وبقي الآخر؛ قال الله تبارك وتعالى{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} فهذا أمان. والثاني }وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}.
الآية رقم ( 34 )
{وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون}
قوله تعالى{وما لهم ألا يعذبهم الله} المعنى: وما يمنعهم من أن يعذبوا. أي إنهم مستحقون العذاب لما ارتكبوا من القبائح والأسباب، ولكن لكل أجل كتاب؛ فعذبهم الله بالسيف بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك نزلت{سأل سائل بعذاب واقع}المعارج: 1] وقال الأخفش: إن }أن} زائدة. قال النحاس: لو كان كما قال لرفع }يعذبهم}. }ولكن أكثرهم لا يعلمون} أي إن المتقين أولياؤه.
الآية رقم ( 35 )
{وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}
قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة، يصفقون ويصفرون؛ فكان ذلك عبادة في ظنهم والمكاء: الصفير. والتصدية: التصفيق؛ قاله مجاهد والسدي وابن عمر رضي الله عنهم. ومنه قول عنترة:
وحليل غانية تركت مجدلا تمكو فريصته كشدق الأعلم
أي تصوت. ومنه مكت أست الدابة إذا نفخت بالريح. قال السدي: المكاء الصفير، على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء. قال الشاعر:
إذا غرد المكاء في غير روضة فويل لأهل الشاء والحمرات
قتادة: المكاء ضرب بالأيدي، والتصدية صياح. وعلى التفسيرين ففيه رد على الجهال من الصوفية الذين يرقصون ويصفقون ويصعقون. وذلك كله منكر يتنزه عن مثله العقلاء، ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت. وروى ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: المكاء إدخالهم أصابعهم في أفواههم. والتصدية: الصفير، يريدون أن يشغلوا بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم عن الصلاة. قال النحاس: المعروف في اللغة ما روي عن ابن عمر. حكى أبو عبيد وغيره أنه يقال: مكا يمكو ومكاء إذا صفر. وصدى يصدي تصدية إذا صفق؛ ومنه قول عمرو بن الإطنابة:
وظلوا جميعا لهم ضجة مكاء لدى البيت بالتصدية
أي بالتصفيق. سعيد بن جبير وابن زيد: معنى التصدية صدهم عن البيت؛ فالأصل على هذا تصدده، فأبدل من أحد الدالين ياء.
الآية رقم ( 36 : 37 )
{إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون، ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون}
معنى }ليميز الله الخبيث من الطيب} أي المؤمن من الكافر. وقيل: هو عام في كل شيء، من الأعمال والنفقات وغير ذلك.
الآية رقم ( 38 )
{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين}
قوله تعالى{قل للذين كفروا} أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار هذا المعنى، وسواء قال بهذه العبارة أو غيرها. قال ابن عطية: ولو كان كما ذكر الكسائي أنه في مصحف عبدالله بن مسعود }قل للذين كفروا إن تنتهوا يغفر لكم} لما تأدت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها؛ هذا بحسب ما تقتضيه الألفاظ.
قوله تعالى{إن ينتهوا} يريد عن الكفر. قال ابن عطية: ولا بد؛ والحامل على ذلك جواب الشرط }يغفر لهم ما قد سلف} ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنته عن الكفر. ولقد أحسن القائل أبو سعيد أحمد بن محمد الزبيري:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف ثم انتهى عما أتاه واقترف
لقوله سبحانه في المعترف إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
روى مسلم عن أبي شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت يبكي طويلا. الحديث. وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم{أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله} الحديث. قال ابن العربي: هذه لطيفة من الله سبحانه من بها على الخلق؛ وذلك أن الكفار يقتحمون الكفر والجرائم، ويرتكبون المعاصي والمآثم؛ فلو كان ذلك يوجب مؤاخذة لهم لما استدركوا أبدا توبة ولا نالتهم مغفرة. فيسر الله تعالى عليهم قبول التوبة عند الإنابة، وبذل المغفرة بالإسلام، وهدم جميع ما تقدم؛ ليكون ذلك أقرب لدخولهم في الدين، وأدعى إلى قبولهم لكلمة المسلمين، ولو علموا أنهم يؤاخذون لما تابوا ولا أسلموا. وفي صحيح مسلم: أن رجلا فيمن كان قبلكم قتل تسعة وتسعين نفسا ثم سأل هل له من توبة فجاء عابدا فسأل هل له من توبة فقال: لا توبة لك فقتله فكمل به مائة؛ الحديث. فانظروا إلى قول العابد: لا توبة لك؛ فلما علم أنه قد أيأسه قتله، فعل الآيس من الرحمة. فالتنفير مفسدة للخليفة، والتيسير مصلحة لهم. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان إذا جاء إليه رجل لم يقتل فسأل: هل لقاتل من توبة؟ فيقول: لا توبة؛ تخويفا وتحذيرا. فإذا جاءه من قتل فسأله: هل لقاتل من توبة؟ قال له: لك توبة؛ تيسيرا وتأليفا. وقد تقدم.
قال ابن القاسم وابن وهب عن مالك فيمن طلق في الشرك ثم أسلم فلا طلاق له. وكذلك من حلف فأسلم فلا حنث عليه. وكذا من وجبت عليه هذه الأشياء؛ فذلك مغفور له. فأما من افترى على مسلم ثم أسلم أو سرق ثم أسلم أقيم عليه الحد للفرية والسرقة. ولو زنى وأسلم، أو اغتصب مسلمة سقط عنه الحد. وروى أشهب عن مالك أنه قال: إنما يعني الله عز وجل ما قد مضى قبل الإسلام، من مال أو دم أو شيء. قال ابن العربي: وهذا هو الصواب؛ لما قدمناه من عموم قوله تعالى{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}، وقوله: (الإسلام يهدم ما قبله}، وما بيناه من المعنى من التيسير وعدم التنفير.
قلت: أما الكافر الحربي فلا خلاف في إسقاط ما فعله في حال كفره في دار الحرب. وأما إن دخل إلينا بأمان فقذف مسلما فإنه يحد، وإن سرق قطع. وكذلك الذمي إذا قذف حد ثمانين، وإذا سرق قطع، وإن قتل قتل. ولا يسقط الإسلام ذلك عنه لنقضه العهد حال كفره؛ على رواية ابن القاسم وغيره. قال ابن المنذر: واختلفوا في النصراني يزني ثم يسلم، وقد شهدت عليه بينة من المسلمين؛ فحكي عن الشافعي رضي الله عنه إذ هو بالعراق لا حد عليه ولا تغريب؛ لقول الله عز وجل{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} قال ابن المنذر: وهذا موافق لما روي عن مالك. وقال أبو ثور: إذا أقر وهو مسلم أنه زنى وهو كافر أقيم عليه الحد. وحكي عن الكوفي أنه قال: لا يحد.
فأما المرتد إذا أسلم وقد فاتته صلوات، وأصاب جنايات وأتلف أموالا؛ فقيل: حكمه حكم الكافر الأصلي إذا أسلم؛ لا يؤخذ بشيء مما أحدثه في حال ارتداده. وقال الشافعي في أحد قوليه: يلزمه كل حق لله عز وجل وللآدمي؛ بدليل أن حقوق الآدميين تلزمه فوجب أن تلزمه حقوق الله تعالى. وقال أبو حنيفة: ما كان لله يسقط، وما كان للآدمي لا يسقط. قال ابن العربي: وهو قول علمائنا؛ لأن الله تعالى مستغن عن حقه، والآدمي مفتقر إليه. ألا ترى أن حقوق الله عز وجل لا تجب على الصبي وتلزمه حقوق الآدميين. قالوا: وقوله تعالى{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} عام في الحقوق لله تعالى.
قوله تعالى{وإن يعودوا} يريد إلى القتال؛ لأن لفظة }عاد} إذا جاءت مطلقة فإنما تتضمن الرجوع إلى حالة كان الإنسان عليها ثم انتقل عنها. قال ابن عطية: ولسنا نجد في هذه الآية لهؤلاء الكفار حالة تشبه ما ذكرنا إلا القتال. ولا يجوز أن يتأول إلى الكفر؛ لأنهم لم ينفصلوا عنه، وإنما قلنا ذلك في }عاد} إذا كانت مطلقة لأنها قد تجيء في كلام العرب داخلة على الابتداء والخبر، فيكون معناها معنى صار؛ كما تقول: عاد زيد ملكا؛ يريد صار. ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وهذه لا تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان العائد عليها قبل. فهي مقيدة بخبرها لا يجوز الاقتصار دونها؛ فحكمها حكم صار.
قوله تعالى{فقد مضت سنة الأولين} عبارة تجمع الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله.
الآية رقم ( 39 : 40 )
{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير، وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير}
قوله تعالى{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} أي كفر. إلى آخر الآية تقدم معناها وتفسير ألفاظها في }البقرة} وغيرها والحمد لله.
الآية رقم ( 41 )
{واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير}
قوله تعالى }واعلموا أنما غنمتم من شيء} الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي، ومن ذلك قول الشاعر:
وقد طوفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
وقال آخر:
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه أنى توجه والمحروم محروم
والمغنم والغنيمة بمعنى؛ يقال: غنم القوم غنما. وأعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله تعالى{غنمتم من شيء} مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر. ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بيناه، ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع. وسمى الشرع الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين: غنيمة وفيئا. فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف الخيل والركاب يسمى غنيمة. ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفا. والفيء مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع، وهو كل مال دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف. كخراج الأرضين وجزية الجماجم وخمس الغنائم. ونحو هذا قال سفيان الثوري وعطاء بن السائب. وقيل: إنهما واحد، وفيهما الخمس؛ قاله قتادة. وقيل: الفيء عبارة عن كل ما صار للمسلمين من الأموال بغير قهر. والمعنى متقارب.
هذه الآية ناسخة لأول السورة، عند الجمهور. وقد ادعى ابن عبدالبر الإجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله{يسألونك عن الأنفال}الأنفال: 1] وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين، على ما يأتي بيانه. وأن قوله{يسألونك عن الأنفال} نزلت في حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر، على ما تقدم أول السورة.
قلت: ومما يدل على صحة هذا ما ذكره إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان قال حدثني محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس قال: (لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلا فله كذا ومن أسر أسيرا فله كذا) وكانوا قتلوا سبعين، وأسروا سبعين، فجاء أبو اليسر بن عمرو بأسيرين، فقال: يا رسول الله إنك وعدتنا من قتل قتيلا فله كذا، وقد جئت بأسيرين. فقام سعد فقال: يا رسول الله، إنا لا يمنعنا زيادة في الأجر ولا جبن عن العدو ولكنا قمنا هذا المقام خشية أن يعطف المشركون، فإنك إن تعطي هؤلاء لا يبقى لأصحابك شيء. قال: وجعل هؤلاء يقولون وهؤلاء يقولون فنزلت }يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}الأنفال: 1] فسلموا الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم،) ثم نزلت }وأعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} الآية. وقد قيل: إنها محكمة غير منسوخة، وأن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست مقسومة بين الغانمين، وكذلك لمن بعده من الأئمة. كذا حكاه المازري عن كثير من أصحابنا، رضي الله عنهم، وأن للإمام أن يخرجها عنهم. واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين. وكان أبو عبيد يقول: افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة ومن على أهلها فردها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها عليهم فيئا. ورأى بعض الناس أن هذا جائز للأئمة بعده.
قلت: وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى{واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} والأربعة الأخماس للإمام، إن شاء حبسها وإن شاء قسمها بين الغانمين. وهذا ليس بشيء، لما ذكرناه، ولأن الله سبحانه أضاف الغنيمة للغانمين فقال{واعلموا أنما غنمتم من شيء} ثم عين الخمس لمن سمى في كتابه، وسكت عن الأربعة الأخماس، كما سكت عن الثلثين في قوله{وورثه أبواه فلأمه الثلث}النساء: 11] فكان للأب الثلثان اتفاقا. وكذا الأربعة الأخماس للغانمين إجماعا، على ما ذكره ابن المنذر وابن عبدالبر والداودي والمازري أيضا والقاضي عياض وابن العربي. والأخبار بهذا المعنى متظاهرة، وسيأتي بعضها. ويكون معنى قوله{يسألونك عن الأنفال} الآية، ما ينفله الإمام لمن شاء لما يراه من المصلحة قبل القسمة. وقال عطاء والحسن: هي مخصوصة بما شذ من المشركين إلى المسلمين، من عبد أو أمة أو دابة، يقضي فيها الإمام بما أحب. وقيل: المراد بها أنفال السرايا أي غنائما، إن شاء خمسها الإمام، وإن شاء نفلها كلها. وقال إبراهيم النخعي في الإمام يبعث السرية فيصيبون المغنم: إن شاء الإمام نفله كله، وإن شاء خمسه. وحكاه أبو عمر عن مكحول وعطاء. قال علي بن ثابت: سألت مكحول وعطاء عن الإمام ينفل القوم ما أصابوا، قال: ذلك لهم. قال أبو عمر : من ذهب إلى هذا تأول قول الله عز وجل{يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول}الأنفال: 1] أن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء. ولم ير أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى{واعلموا أنما غنمتم من شيء لله خمسه}. وقيل: غير هذا مما قد أتينا عليه في كتاب (1). ولم يقل أحد من العلماء فيما أعلم أن قوله تعالى }يسألونك عن الأنفال} الآية، ناسخ لقول{وأعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} بل قال الجمهور على ما ذكرنا: إن قوله{ما غنمتم} ناسخ، وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله تعالى. وأما قصة فتح مكة فلا حجة فيها لاختلاف العلماء في فتحها. وقد قال أبو عبيد: ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلدان من جهتين: إحداهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الله قد خصه من الأنفال والغنائم ما لم يجعله لغيره، وذلك لقوله{يسألونك عن الأنفال}الأنفال: 1] الآية، فنرى أن هذا كان خاصا له والجهة الأخرى أنه سن لمكة سننا ليست لشيء من البلاد. وأما قصة حنين فقد عوض الأنصار لما قالوا: يعطي الغنائم قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم! فقال لهم: (أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم). خرجه مسلم وغيره. وليس لغيره أن يقول هذا القول، مع أن ذلك خاص به على ما قاله بعض علمائنا. والله أعلم.
لم يختلف العلماء أن قوله{واعلموا أنما غنمتم من شيء} ليس على عمومه، وأنه يدخله الخصوص، فمما خصصوه بإجماع أن قالوا: سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمام. وكذلك الرقاب، أعني الأسارى، الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف، على ما يأتي بيانه. ومما خص به أيضا الأرض. والمعنى: ما غنمتم من ذهب وفضة وسائر الأمتعة والسبي. وأما الأرض فغير داخلة في عموم هذه الآية، لما روى أبو داود عن عمر بن الخطاب أنه قال: (لولا أخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر). ومما يصحح هذا المذهب ما رواه الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (منعت العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام مدها ودينارها) الحديث. قال الطحاوي{منعت} بمعنى ستمنع، فدل ذلك على أنها لا تكون للغانمين، لأن ما ملكه الغانمون لا يكون فيه قفيز ولا درهم، ولو كانت الأرض تقسم ما بقي لمن جاء بعد الغانمين شيء. والله تعالى يقول{والذين جاؤوا من بعدهم}الحشر: 10] بالعطف على قوله{للفقراء المهاجرين}الحشر:8]. قال: وإنما يقسم ما ينقل من موضع إلى موضع. وقال الشافعي: كل ما حصل من الغنائم من أهل دار الحرب من شيء قل أو كثر من دار أو أرض أو متاع أو غير ذلك قسم، إلا الرجال البالغين فإن الإمام فيهم مخير أن يمن أو يقتل أو يسبي. وسبيل ما أخذ منهم وسبي سبيل الغنيمة. واحتج بعموم الآية. قال: والأرض مغنومة لا محالة، فوجب أن تقسم كسائر الغنائم. وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أفتتح عنوة من خيبر. قالوا: ولو جاز أن يدعى الخصوص في الأرض جاز أن يدعى في غير الأرض فيبطل حكم الآية. وأما آية }الحشر} فلا حجة فيها، لأن ذلك إنما هو في الفيء لا في الغنيمة. وقول{والذين جاؤوا من بعدهم}الحشر: 10] استئناف كلام بالدعاء لمن سبقهم بالإيمان لا لغير ذلك. قالوا: وليس يخلو فعل عمر في توقيفه الأرض من أحد وجهين: إما أن تكون غنيمة استطاب أنفس أهلها، وطابت بذلك فوقفها. وكذلك روى جرير أن عمر استطاب أنفس أهلها. وكذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبي هوازن، لما أتوه استطاب أنفس أصحابه عما كان في أيديهم. وإما أن يكون ما وقفه عمر فيئا فلم يحتج إلى مراضاة أحد. وذهب الكوفيون إلى تخيير الإمام في، قسمها أو إقرارها وتوظيف الخراج عليها، وتصير ملكا لهم كأرض الصلح: قال شيخنا أبو العباس رضي الله عنه: وكأن هذا جمع بين الدليلين ووسط بين المذهبين، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه قطعا، ولذلك قال: لولا أخر الناس، فلم يخبر بنسخ فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا بتخصيصه بهم، غير أن الكوفيين زادوا على ما فعل عمر، فإن عمر إنما وقفها على مصالح المسلمين ولم يملكها لأهل الصلح، وهم الذين قالوا للإمام أن يملكها لأهل الصلح.
ذهب مالك وأبو حنيفة والثوري إلى أن السلب ليس للقاتل، وأن حكمه حكم الغنيمة، إلا أن يقول الأمير: من قتل قتيلا فله سلبه، فيكون حينئذ له. وقال الليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد والطبري وابن المنذر: السلب للقاتل على كل حال، قاله الإمام أو لم يقله. إلا أن الشافعي رضي الله عنه قال: إنما يكون السلب للقاتل إذا قتل قتيلا مقبلا عليه: وأما إذا قتله مدبرا عنه فلا. قال أبو العباس بن سريج من أصحاب الشافعي: ليس الحديث (من قتل قتيلا فله سلبه) على عمومه، لإجماع العلماء على أن من قتل أسيرا أو امرأة أو شيخا أنه ليس له سلب واحد منهم. وكذلك من ذفف على جريح، ومن قتل من قطعت يداه ورجلاه. قال: وكذلك المنهزم لا يمتنع في انهزامه، وهو كالمكتوف. قال: فعلم بذلك أن الحديث إنما جعل السلب لمن لقتله معنى زائد، أو لمن في قتله فضيلة، وهو القاتل في الإقبال، لما في ذلك من المؤنة. وأما من أثخن فلا. وقال الطبري: السلب للقاتل، مقبلا قتله أو مدبرا، هاربا أو مبارزا إذا كان في المعركة. وهذا يرده ما ذكره عبدالرزاق ومحمد بن بكر عن ابن جريج قال سمعت نافعا مولى ابن عمر يقول: لم نزل نسمع إذا التقى المسلمون والكفار فقتل رجل من المسلمين رجلا من الكفار فإن سلبه له إلا أن يكون في معمعة القتال، لأنه حينئذ لا يدري من قتل قتيلا. فظاهر هذا يرد قول الطبري لاشتراطه في السلب القتل في المعركة خاصة. وقال أبو ثور وابن المنذر: السلب للقاتل في معركة كان أو غير معركة، في الإقبال والإدبار والهروب والانتهار، على كل الوجوه، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلا فله سلبه).
قلت: روى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن فبينا نحن نتضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه، ثم انتزع طلقا من حقبه فقيد به الجمل، ثم تقدم يتغدى مع القوم، وجعل ينظر، وفينا ضعفة ورقة في الظهر، وبعضنا مشاة، إذ خرج يشتد، فأتى جمله فأطلق قيده ثم أناخه وقعد عليه فأثاره فاشتد به الجمل، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء. قال سلمة: وخرجت اشتد فكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل فندر، ثم جئت بالجمل أقوده، عليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقال: (من قتل الرجل) ؟ قالوا: ابن الأكوع. قال: (له سلبه أجمع). فهذا سلمة قتله هاربا غير مقبل، وأعطاه سلبه. وفيه حجة لمالك من أن السلب لا يستحقه القاتل إلا بإذن الإمام، إذ لو كان واجبا له بنفس القتل لما احتاج إلى تكرير هذا القول. ومن حجته أيضا ما ذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو الأحوص عن الأسود بن قيس عن بشر بن علقمة قال: بارزت رجلا يوم القادسية فقتلته وأخذت سلبه، فأتيت سعدا فخطب سعد أصحابه ثم قال: هذا سلب بشر بن علقمة، فهو خير من اثني عشر ألف درهم، وإنا قد نفلناه إياه. فلو كان السلب للقاتل قضاء من النبي صلى الله عليه وسلم ما احتاج الأمر أن يضيفوا ذلك إلى أنفسهم باجتهادهم، ولأخذه القاتل دون أمرهم. والله أعلم. وفي الصحيح أن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء ضربا أبا جهل بسيفيهما حتى قتلاه، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيكما قتله)؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. فنظر في السيفين فقال: (كلاكما قتله) وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، وهذا نص على أن السلب ليس للقاتل، إذ لو كان له لقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما. وفي الصحيح أيضا عن عوف بن مالك قال: خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، ورافقني مددي من اليمن. وساق الحديث، وفيه: فقال عوف: يا خالد، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته. وأخرجه أبو بكر البرقاني بإسناده الذي أخرجه به مسلم، وزاد فيه بيانا أن عوف بن مالك قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخمس السلب، وإن مدديا كان رفيقا لهم في غزوة مؤتة في طرف من الشام، قال: فجعل رومي منهم يشتد على المسلمين وهو على فرس أشقر وسرج مذهب ومنطقة ملطخة وسيف محلى بذهب. قال: فيغري بهم، قال: فتلطف له المددي حتى مر به فضرب عرقوب فرسه فوقع، وعلاه بالسيف فقتله وأخذ سلاحه. قال: فأعطاه خالد بن الوليد وحبس منه، قال عوف: فقلت له أعطه كله، أليس قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (السلب للقاتل)! قال: بلى، ولكني استكثرته. قال عوف: وكان بيني وبينه كلام، فقلت له: لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عوف: فلما اجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عوف ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لخالد: (لم لم تعطه)؟ قال فقال: استكثرته. قال: (فادفعه إليه) فقلت له: ألم أنجز لك ما وعدتك؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا خالد لا تدفعه إليه هل أنتم تاركون لي أمرائي). فهذا يدل دلالة واضحة على أن السلب لا يستحقه القاتل بنفس القتل بل برأي الإمام ونظره. وقال أحسد بن حنبل: لا يكون السلب للقاتل إلا في المبارزة خاصة.
اختلف العلماء في تخميس السلب، فقال الشافعي: لا يخمس. وقال إسحاق: إن كان السلب يسيرا فهو للقاتل، وإن كان كثيرا خمس. وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك حين بارز المرزبان فقتله، فكانت قيمة منطقته وسواريه ثلاثين ألفا فخمس ذلك. أنس عن البراء بن مالك أنه قتل من المشركين مائة رجل إلا رجلا مبارزة، وأنهم لما غزوا الزارة خرج دهقان الزارة فقال: رجل ورجل، فبرز البراء فاختلفا بسيفيهما ثم اعتنقا فتوركه البراء فقعد على كبده، ثم أخذ السيف فذبحه، وأخذ سلاحه ومنطقته وأتى به عمر، فنفله السلاح وقوم المنطقة بثلاثين ألفا فخمسها، وقال: إنها مال. وقال الأوزاعي ومكحول: السلب مغنم وفيه الخمس. وروي نحوه عن عمر بن الخطاب. والحجة للشافعي ما رواه أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل ولم يخمس السلب.
ذهب جمهور العلماء إلى أن السلب لا يعطى للقاتل إلا أن يقيم البينة على قتله. قال أكثرهم: ويجزئ شاهد واحد، على حديث أبي قتادة. وقيل: شاهدان أو شاهد ويمين. وقال الأوزاعي: يعطاه بمجرد دعواه، وليست البينة: شرطا في الاستحقاق، بل إن اتفق ذلك فهو الأولى دفعا للمنازعة. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا قتادة صلب مقتول من غير شهادة ولا يمين. ولا تكفي شهادة واحد، ولا يناط بها حكم بمجردها. وبه قال الليث بن سعد.
قلت: سمعت شيخنا الحافظ المنذري الشافعي أبا محمد عبدالعظيم يقول: إنما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم السلب بشهادة الأسود بن خزاعي وعبدالله بن أنيس. وعلى هذا يندفع النزاع ويزول الإشكال، ويطرد الحكم. وأما المالكية فيخرج على قولهم أنه لا يحتاج الإمام فيه إلى بينة، لأنه من الإمام ابتداء عطية، فإن شرط الشهادة كان له، وإن لم يشترط جاز أن يعطيه من غير شهادة.
واختلفوا في السلب ما هو، فأما السلاح وكل ما يحتاج للقتال فلا خلاف أنه من السلب، وفرسه إن قاتل عليه وصرع عنه. وقال أحمد في الفرس: ليس من السلب. وكذلك إن كان في هميانه وفي منطقته دنانير أو جواهر أو نحو هذا، فلا خلاف أنه ليس من السلب. واختلفوا فيما يتزين به للحرب، فقال الأوزاعي: ذلك كله من السلب. وقالت فرقة: ليس من السلب. وهذا مروي عن سحنون رحمه الله، إلا المنطقة فإنها عنده من السلب. وقال ابن حبيب في الواضحة: والسواران من السلب.
قوله تعالى{فأن لله خمسه} قال أبو عبيد: هذا ناسخ لقوله عز وجل في أول السورة }قل الأنفال لله والرسول}الأنفال:1] ولم يخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بدر، فنسخ حكمه في ترك التخميس بهذا. إلا أنه يظهر من قول علي رضي الله عنه في صحيح مسلم} كان لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا من الخمس يومئذ} الحديث - أنه خمس، فإنه كان هذا فقول أبي عبيد مردود. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الخمس الذي ذكر علي من إحدى الغزوات التي كانت بين بدر وأحد، فقد كانت غزوة بني سليم وغزوة بني المصطلق وغزوة ذي أمر وغزوة بحران، ولم يحفظ فيها قتال، ولكن يمكن أن غنمت غنائم. والله أعلم.
قلت: وهذا التأويل يرده قول علي يومئذ، وذلك إشارة إلى يوم قسم غنائم بدر، إلا أنه يحتمل أن يكون من الخمس إن كان لم يقع في بدر تخميس، من خمس سرية عبدالله بن جحش فإنها أول غنيمة غنمت في الإسلام، وأول خمس كان في الإسلام، ثم نزل القرآن }واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه}. وهذا أولى من التأويل الأول. والله أعلم.
{ما} في قوله{ما غنمتم} بمعنى الذي والهاء محذوفة، أي الذي غنمتموه. ودخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة. و}أن} الثانية توكيد للأولى، ويجوز كسرها، وروي عن أبي عمرو. قال الحسن: هذا مفتاح كلام، الدنيا والآخرة لله، ذكره النسائي. واستفتح عز وجل الكلام في الفيء والخمس بذكر نفسه، لأنهما أشرف الكسب، ولم ينسب الصدقة إليه لأنها أوساخ الناس.
واختلف العلماء في كيفية قسم الخمس على أقوال ستة:
الأول: قالت طائفة: يقسم الخمس على ستة، فيجعل السدس للكعبة، وهو الذي لله. والثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والثالث لذوي القربى. والرابع لليتامى. والخامس للمساكين، والسادس لابن السبيل. وقال بعض أصحاب هذا القول: يرد السهم الذي لله على ذوي الحاجة.
الثاني: قال أبو العالية والربيع: تقسم الغنيمة على خمسة، فيعزل منها سهم واحد، وتقسم الأربعة على الناس، ثم يضرب بيده على السهم الذي عزله فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة، ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة، سهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.
الثالث: قال المنهال بن عمرو: سألت عبدالله بن محمد بن علي وعلي بن الحسين عن الخمس فقال: هو لنا. قلت لعلي: إن الله تعالى يقول{واليتامى والمساكين وابن السبيل} فقال: أيتامنا ومساكيننا.
الرابع: قال الشافعي: يقسم على خمسة. ورأى أن سهم الله ورسوله واحد، وأنه يصرف في مصالح المؤمنين، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورين في الآية.
الخامس: قال أبو حنيفة: يقسم على ثلاثة: اليتامى والمساكين وابن السبيل. وارتفع عنده حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته، كما ارتفع حكم سهمه. قالوا: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة والجند، وروي نحو هذا عن الشافعي أيضا.
السادس: قال مالك: هو موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه من غير تقدير، ويعطي منه القرابة باجتهاد، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين. وبه قال الخلفاء الأربعة، وبه عملوا. وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: (ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم). فإنه لم يقسمه أخماسا ولا أثلاثا، وإنما ذكر في الآية من ذكر على وجه التنبيه عليهم، لأنهم من أهم من يدفع إليه. قال الزجاج محتجا لمالك: قال الله عز وجل{يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل}البقرة: 215] وللرجل جائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك. وذكر النسائي عن عطاء قال: خمس الله وخمس رسوله واحد، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل منه ويضعه حيث شاء ويصنع به ما شاء.
قوله تعالى{ولذي القربى} ليست اللام لبيان الاستحقاق والملك، وإنما هي لبيان المصرف والمحل. والدليل عليه ما رواه مسلم أن الفضل بن عباس وربيعة بن عبدالمطلب أتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فتكلم أحدهما فقال: يا رسول الله، أنت أبر الناس، وأوصل الناس، وقد بلغنا النكاح فجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات، فنؤدي إليك كما يؤدي الناس، ونصيب كما يصيبون. فسكت طويلا حتى أردنا أن نكلمه، قال: وجعلت زينب تلمع إلينا من وراء الحجاب ألا تكلماه، قال: ثم قال: (إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس ادعوا لي محمية - وكان على الخمس - ونوفل بن الحارث بن عبدالمطلب) قال: فجاءاه فقال لمحمية: (أنكح هذا الغلام ابنتك) - للفضل بن عباس - فأنكحه. وقال لنوفل بن الحارث: (أنكح هذا الغلام ابنتك) يعني ربيعة بن عبدالمطلب. وقال لمحمية: (أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا). وقال صلى الله عليه وسلم: (ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم). وقد أعطى جميعه وبعضه، وأعطى منه المؤلفة قلوبهم، وليس ممن ذكرهم الله في التقسيم، فدل على ما ذكرناه، والموفق الإله.
واختلف العلماء في ذوي القربى على ثلاثة أقوال: قريش كلها، قاله بعض السلف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد الصفا جعل يهتف: (يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبدالمطلب يا بني كعب يا بني مرة يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار) الحديث. وسيأتي في }الشعراء}. وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد: بنو هاشم وبنو عبدالمطلب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني عبدالمطلب قال: (إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد) وشبك بين أصابعه، أخرجه النسائي والبخاري. قال البخاري: قال الليث حدثني يونس، وزاد: ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئا. قال ابن إسحاق: وعبد شمس وهاشم والمطلب إخوة لأم، وأمهم عاتكة بنت مرة. وكان نوفل أخاهم لأبيهم. قال النسائي: وأسهم النبي صلى الله عليه وسلم لذوي القربى، وهم بنو هاشم وبنو المطلب، بينهم الغني والفقير. وقد قيل: إنه للفقير منهم دون الغني، كاليتامى وابن السبيل - وهو أشبه القولين بالصواب عندي. والله أعلم - والصغير والكبير والذكر والأنثى سواء، لأن الله تعالى جعل ذلك لهم، وقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم. وليس في الحديث أنه فضل بعضهم على بعض. الثالث: بنو هاشم خاصة، قاله مجاهد وعلي بن الحسين. وهو قول مالك والثوري والأوزاعي وغيرهم.
لما بين الله عز وجل حكم الخمس وسكت عن الأربعة الأخماس، دل ذلك على أنها ملك للغانمين. وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ورسول ثم هي لكم). وهذا ما لا خلاف فيه بين الأمة ولا بين الأئمة، على ما حكاه ابن العربي في (2) وغيره. بيد أن الإمام إن رأى أن يمن على الأسارى بالإطلاق فعل، وبطلت حقوق الغانمين فيهم، كما فعل النبي صلى بثمامة بن أثال وغيره، وقال: (لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى - يعني أسارى بدر - لتركته له) أخرجه البخاري. مكافأة له لقيامه في شأن نقض الصحيفة. وله أن يقتل جميعهم، وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط من بين الأسرى صبرا، وكذلك النضر بن الحارث قتله بالصفراء صبرا، وهذا ما لا خلاف فيه. وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم كسهم الغانمين، حضر أو غاب. وسهم الصفي، يصطفي سيفا أو سهما أو خادما أو دابة. وكانت صفية بنت حيي من الصفي من غنائم خيبر. وكذلك ذو الفقار كان من الصفي. وقد انقطع بموته، إلا عند أبي ثور فإنه رآه باقيا للإمام يجعله مجعل سهم النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت الحكمة في ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يرون للرئيس ربع الغنيمة. قال شاعرهم:
لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول
وقال آخر:
منا الذي ربع الجيوش، لصلبه عشرون وهو يعد في الأحياء
يقال: ربع الجيش يربعه رباعة إذا أخذ ربع الغنيمة. قال الأصمعي: ربع في الجاهلية وخمس في الإسلام، فكان يأخذ بغير شرع ولا دين الربع من الغنيمة، ويصطفي منها، ثم يتحكم بعد الصفي في أي شي أراد، وكان ما شذ منها وما فضل من خرثي ومتاع له. فأحكم الله سبحانه الدين بقوله{واعلموا أنما غنمتم من شي - فأن لله خمسه}. وأبقى سهم الصفي لنبيه صلى الله عليه وسلم وأسقط حكم الجاهلية. وقال عامر الشعبي: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا أو أمة أو فرسا يختاره قبل الخمس، أخرجه أبو داود. وفي حديث أبي هريرة قال: فيلقى العبد فيقول: (أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع) الحديث. أخرجه مسلم. }تربع} بالباء الموحدة من تحتها: تأخذ المرباع، أي الربع مما يحصل لقومك من الغنائم والكسب. وقد ذهب بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه إلى أن خمس الخمس كان النبي صلى الله عليه وسلم يصرفه في كفاية أولاده ونسائه، ويدخر من ذلك قوت سنته، ويصرف الباقي في الكراع والسلاح. وهذا يرده ما رواه عمر قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على نفسه منها قوت سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله. أخرجه مسلم. وقال: (والخمس مردود عليكم).
ليس في كتاب الله تعالى دلالة على تفضيل الفارس على الراجل، بل فيه أنهم سواء، لأن الله تعالى جعل الأربعة أخماس لهم ولم يخص راجلا من فارس. ولولا الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان الفارس كالراجل، والعبد كالحر، والصبي كالبالغ. وقد اختلف العلماء في قسمة الأربعة الأخماس، فالذي عليه عامة أهل العلم فيما ذكر ابن المنذر أنه يسهم للفارس سهمان، وللراجل سهم. وممن قال ذلك مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة. وكذلك قال الأوزاعي ومن وافقه من أهل الشام. وكذلك قال الثوري ومن وافقه من أهل العراق. وهو قول الليث بن سعد ومن تبعه من أهل مصر. وكذلك قال الشافعي رضي الله عنه وأصحابه. وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور ويعقوب ومحمد. قال بن المنذر: ولا نعلم أحدا خالف في ذلك إلا النعمان فإنه خالف فيه السنن وما عليه جل أهل العلم في القديم والحديث. قال: لا يسهم للفارس إلا سهم واحد.
قلت: ولعله شبه عليه بحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفارس سهمين، وللراجل سهما. خرجه الدارقطني وقال: قال الرمادي كذا يقول ابن نمير قال لنا النيسابوري: هذا عندي وهم من ابن أبي شيبة أو من الرمادي، لأن أحمد بن حنبل وعبدالرحمن بن بشر وغيرهما رووه عن ابن عمر رضي الله عنهما بخلاف هذا، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهما له وسهمين لفرسه، هكذا رواه عبدالرحمن بن بشر عن عبدالله بن نمير عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، وذكر الحديث. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما. وهذأ نص. وقد روى الدارقطني عن الزبير قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أسهم يوم بدر، سهمين لفرسي وسهما لي وسهما لأمي من ذوي القرابة. وفي رواية: وسهما لأمه سهم ذوي القربى. وخرج عن بشير بن عمرو بن محصن قال: أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرسي أربعة أسهم، ولي سهما، فأخذت خمسة أسهم. وقيل إن ذلك راجع إلى اجتهاد الإمام، فينفذ ما رأى. والله أعلم.
لا يفاضل بين الفارس والراجل بأكثر من فرس واحد، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يسهم لأكثر من فرس واحد، لأنه أكثر عنا وأعظم منفعة، وبه قال ابن الجهم من أصحابنا، ورواه سحنون عن ابن وهب. ودليلنا أنه لم ترد رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسهم لأكثر من فرس واحد، وكذلك الأئمة بعده، ولأن العدو لا يمكن أن يقاتل إلا على فرس واحد، وما زاد على ذلك فرفاهية وزيادة عدة، وذلك لا يؤثر في زيادة السهمان، كالذي معه زيادة سيوف أو رماح، واعتبارا بالثالث والرابع. وقد روي عن سليمان بن موسى أنه يسهم لمن كان عنده أفراس، لكل فرس سهم.
لا يسهم إلا للعتاق من الخيل، لما فيها من الكر والفر، وما كان من البراذين والهجن بمثابتها في ذلك. وما لم يكن كذلك لم يسهم له. وقيل: إن أجازهم الإمام أسهم لها، لأن الانتفاع بها يختلف بحسب الموضع، فالهجن والبراذين تصلح للمواضع المتوعرة كالشعاب والجبال، والعتاق تصلح للمواضع التي يتأتى فيها الكر والفر، فكان ذلك متعلقا برأي الإمام. والعتاق: خيل العرب. والهجن والبراذين: خيل الروم.
واختلف علماؤنا في الفرس الضعيف، فقال أشهب وابن نافع: لا يسهم له، لأنه لا يمكن القتال عليه فأشبه الكسير. وقيل: يسهم له لأنه يرجى برؤه. ولا يسهم للأعجف إذا كان في حيز ما لا ينتفع به، كما لا يسهم للكسير. فأما المريض مرضا خفيفا مثل الرهيص، وما يجري مجراه مما لا يمنعه المرض عن حصول المنفعة المقصودة منه فإنه يسهم له. ويعطى الفرس المستعار والمستأجر، وكذلك المغصوب، وسهمه لصاحبه. ويستحق السهم للخيل وإن كانت في السفن ووقعت الغنيمة في البحر، لأنها معدة لنزول إلى البر.
لا حق في الغنائم للحشوة كالأجراء والصناع الذين يصحبون الجيش للمعاش، لأنهم لم يقصدوا قتالا ولا خرجوا مجاهدين. وقيل: يسهم لهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الغنيمة لمن شهد الوقعة). أخرجه البخاري. وهذا لا حجة فيه لأنه جاء بيانا لن باشر الحرب وخرج إليه، وكفى ببيان الله عز وجل المقاتلين وأهل المعاش من المسلمين حيث جعلهم فرقتين متميزتين، لكل واحدة حالها في حكمها، فقال{علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله}المزمل: 20] إلا أن هؤلاء إذا قاتلوا لا يضرهم كونهم على معاشهم، لأن سبب الاستحقاق قد وجد منهم. وقال أشهب: لا يستحق أحد منهم وإن قاتل، وبه قال ابن القصار في الأجير: لا يسهم له وإن قاتل. وهذا يرده حديث سلمة بن الأكوع قال: كنت تبيعا لطلحة بن عبيدالله أسقي فرسه وأحسه وأخدمه وأكل من طعامه، الحديث. وفيه: ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين، سهم الفارس وسهم الراجل، فجمعهما لي. خرجه مسلم. واحتج ابن القصار ومن قال بقول بحديث عبدالرحمن بن عوف، ذكره عبدالرزاق، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن: (هذه الثلاثة الدنانير حظه ونصيبه من غزوته في أمر دنياه وآخرته).
فأما العبيد والنساء فمذهب الكتاب أنه لا يسهم لهم ولا يرضخ. وقيل: يرضخ لهم، وبه قال جمهور العلماء. وقال الأوزاعي: إن قاتلت المرأة أسهم لها. وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للنساء يوم خيبر. قال: وأخذ المسلمون بذلك عندنا. وإلى هذا القول مال ابن حبيب من أصحابنا. خرج مسلم عن ابن عباس أنه كان في كتابه إلى نجدة: تسألني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن. وأما الصبيان فإن كان مطيقا للقتال ففيه عندنا ثلاثة أقوال: الإسهام ونفيه حتى يبلغ، لحديث ابن عمر، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. والتفرقة بين أن يقاتل فيسهم له أو يقاتل فلا يسهم له. والصحيح الأول، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أن يقتل منهم من أنبت ويخلي منهم من لم ينبت. وهذه مراعاة لإطاقة القتال لا للبلوغ. وقد روى أبو عمر في الاستيعاب عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عليه الغلمان من الأنصار فيلحق من أدرك منهم، فعرضت عليه عاما فألحق غلاما وردني، فقلت: يا رسول الله، ألحقته ورددتني، ولو صارعني صرعته قال: فصارعني فصرعته فألحقني. وأما العبيد فلا يسهم لهم أيضا ويرضخ لهم.
الكافر إذا حضر بإذن الإمام وقاتل ففي الإسهام له عندنا ثلاثة أقوال: الإسهام ونفيه، وبه قال مالك وابن القاسم. زاد ابن حبيب: ولا نصيب لهم. ويفرق في الثالث - وهو لسحنون - بين أن يستقل المسلمون بأنفسهم فلا يسهم له، أو لا يستقلوا ويفتقروا إلى معونته فيسهم له. فإن لم يقاتل فلا يستحق شيئا. وكذلك العبيد مع الأحرار. وقال الثوري والأوزاعي: إذا استعين بأهل الذمة أسهم لهم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يسهم لهم، ولكن يرضخ لهم. وقال الشافعي رضي الله عنه: يستأجرهم الإمام من مال لا مالك له بعينه. فإن لم يفعل أعطاهم سهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال في موضع آخر: يرضخ للمشركين إذا قاتلوا مع المسلمين. قال أبو عمر: اتفق الجميع أن العبد، وهو ممن يجوز أمانه، إذا قاتل لم يسهم له ولكن يرضخ، فالكافر بذلك أولى ألا يسهم له.
لو خرج العبد وأهل الذمة لصوصا وأخذوا مال أهل الحرب فهو لهم ولا يخمس، لأنه لم يدخل في عموم قوله عز وجل{وأعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} أحد منهم ولا من النساء. فأما الكفار فلا مدخل لهم من غير خلاف. وقال سحنون. لا يخمس ما ينوب العبد. وقال ابن القاسم: يخمس، لأنه يجوز أن يأذن له سيده في القتال ويقاتل على الدين، بخلاف الكافر. وقال أشهب في كتاب محمد: إذا خرج العبد والذمي من الجيش وغنما فالغنيمة للجيش دونهم.
سبب استحقاق السهم شهود الوقعة لنصر المسلمين، على ما تقدم. فلو شهد آخر الوقعة استحق. ولو حضر بعد انقضاء القتال فلا. ولو غاب بانهزام فكذلك. فإن كان قصد التحيز إلى فئة فلا يسقط استحقاقه. روى البخاري وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبان بن سعيد على سرية من المدينة قبل نجد، فقدم أبان بن سعيد وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد أن فتحها، وإن حزم خيلهم ليف، فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله. قال أبو هريرة: فقلت لا تقسم لهم يا رسول الله. فقال أبان: أنت بها يا وبرا تحدر علينا من رأس ضال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجلس يا أبان) ولم يقسم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلف العلماء فيمن خرج لشهود الوقعة فمنعه العذر منه كمرض، ففي ثبوت الإسهام له ونفيه ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث، وهو المشهور، فيثبته إن كان الضلال قبل القتال وبعد الإدراب، وهو الأصح، قاله ابن العربي. وينفيه إن كان قبله. وكمن بعثه الأمير من الجيش في أمر من مصلحة الجيش فشغله ذلك عن شهود الوقعة فإنه يسهم له، قاله ابن المواز، ورواه ابن وهب وابن نافع عن مالك. وروي لا يسهم له بل يوضخ له لعدم السبب الذي يستحق به السهم، والله أعلم. وقال أشهب: يسهم للأسير وإن كان في الحديد. والصحيح أنه لا يسهم له، لأنه ملك مستحق بالقتال، فمن غاب أو حضر مريضا كمن لم يحضر.
الغائب المطلق لا يسهم له، ولم يسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لغائب قط إلا يوم خيبر، فإنه أسهم لأهل الحديبية من حضر منهم ومن غاب، لقول الله عز وجل{وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها}الفتح: 20]، قاله موسى بن عقبة. وروي ذلك عن جماعة من السلف. وقسم يوم بدر لعثمان ولسعيد بن زيد وطلحة، وكانوا غائبين، فهم كمن حضرها إن شاء الله تعالى. فأما عثمان فإنه تخلف على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره من أجل مرضها. فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، فكان كمن شهدها. وأما طلحة بن عبيدالله فكان بالشام في تجارة فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، فيعد لذلك في أهل بدر. وأما سعيد بن زيد فكان غائبا بالشام أيضا فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره. فهو معدود في البدريين. قال ابن العربي: أما أهل الحديبية فكان ميعادا من الله اختص به أولئك النفر فلا يشاركهم فيه غيرهم. وأما عثمان وسعيد وطلحة فيحتمل أن يكون أسهم لهم من الخمس، لأن الأمة مجمعة على أن من بقي لعذر فلا يسهم له.
قلت: الظاهر أن ذلك مخصوص بعثمان وطلحة وسعيد فلا يقاس عليهم غيرهم. وأن سهمهم كان من صلب الغنيمة كسائر من حضرها لا من الخمس. هذا الظاهر من الأحاديث والله أعلم. وقد روى البخاري عن ابن عمر قال: لما تغيب عثمان عن بدر فإنه كان تحته ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه).
قوله تعالى{إن كنتم آمنتم بالله} قال الزجاج عن فرقة: المعنى فأعلموا أن الله مولاكم إن كنتم، فـ (إن) متعلقة بهذا الوعد. وقالت فرقة: إن (إن) متعلقة بقوله }وأعلموا أنما غنمتم}. قال ابن عطية: وهذا هو الصحيح، لأن قوله }واعلموا} يتضمن الأمر بالانقياد والتسليم لأمر الله في الغنائم، فعلق (إن) بقوله{واعلموا} على هذا المعنى، أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا لأمر الله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة.
قوله تعالى{وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان} (ما) في موضع خفض عطف على اسم الله }يوم الفرقان} أي اليوم الذي فرقت فيه بين الحق والباطل، وهو يوم بدر. }يوم التقى الجمعان} حزب الله وحزب الشيطان.
{إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم}
قوله تعالى{إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى} أي أنزلنا إذ أنتم على هذه الصفة. أو يكون المعنى: واذكروا إذ أنتم. والعدوة: جانب الوادي. وقرئ بضم العين وكسرها، فعلى الضم يكون الجمع عدى، وعلى الكسر عدى، مثل لحية ولحى، وفرية وفرى. والدنيا: تأنيث الأدنى. والقصوى: تأنيث الأقصى. من دنا يدنو، وقصا يقصو. ويقال: القصيا، والأصل الواو، وهي لغة أهل الحجاز قصوى. فالدنيا كانت مما يلي المدينة، والقصوى مما يلي مكة. أي إذ أنتم نزول بشفير الوادي بالجانب الأدنى إلى المدينة، وعدوكم بالجانب الأقصى. }والركب أسفل منكم} يعني ركب أبي سفيان وغيره. كانوا في موضع أسفل منهم إلى ساحل البحر فيه الأمتعة. وقيل: هي الإبل التي كانت تحمل أمتعتهم، وكانت في موضع يأمنون عليها توفيقا من الله عز وجل لهم، فذكرهم نعمه عليهم. }الركب} ابتداء }أسفل منكم} ظرف في موضع الخبر. أي مكانا أسفل منكم. وأجاز الأخفش والكسائي والفراء }والركب أسفل منكم} أي أشد تسفلا منكم. والركب جمع راكب. ولا تقول العرب: ركب إلا للجماعة الراكبي الإبل. وحكى ابن السكيت وأكثر أهل اللغة أنه لا يقال راكب وركب إلا للذي على الإبل، ولا يقال لمن كان على فرس أو غيرها راكب. والركب والأركب والركبان والراكبون لا يكونون إلا على جمال، عن ابن فارس. }ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد} أي لم يكن يقع الاتفاق لكثرتهم وقلتكم، فإنكم لو عرفتم كثرتهم لتأخرتم فوفق الله عز وجل لكم. }ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك} من نصر المؤمنين وإظهار الدين. واللام في (ليقضي) متعلقة بمحذوف. والمعنى: جمعهم ليقضي الله، ثم كررها فقال{يهلك} أي جمعهم هنالك ليقضي أمرا. }من هلك }(من) في موضع رفع. (ويحيا) في موضع نصب عطف على ليهلك. والبينة إقامة الحجة والبرهان. أي ليموت من يموت عن بينة رآها وعبرة عاينها، فقامت عليه الحجة. وكذلك حياة من يحيا. وقال ابن إسحاق: ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه وقطعت عذره، ويؤمن من آمن على ذلك. وقرئ }من حيي} بياءين على الأصل. وبياء واحدة مشددة، الأولى قراءة أهل المدينة والبزي وأبي بكر. والثانية قراءة الباقين، وهي اختيار أبي عبيد، لأنها كذلك وقعت في المصحف.
الآية رقم ( 43 : 44 )
{إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور، وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور}
قوله تعالى{إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا} قال مجاهد: رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في منامه قليلا، فقص ذلك على أصحابه، فثبتهم الله بذلك. وقيل: عني بالمنام محل النوم وهو العين، أي في موضع منامك، فحذف، عن الحسن. قال الزجاج: وهذا مذهب حسن، ولكن الأولى أسوغ في العربية، لأنه قد جاء }وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم} فدل بهذا على أن هذه رؤية الالتقاء، وأن تلك رؤية النوم. ومعنى }لفشلتم} لجبنتم عن الحرب. }ولتنازعتم في الأمر} اختلفتم. }ولكن الله سلم} أي سلمكم من المخالفة. ابن عباس: من الفشل. ويحتمل منهما. وقيل: سلم أي أتم أمر المسلمين بالظفر.
قوله تعالى{وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا} هذا في اليقظة. يجوز حمل الأولى على اليقظة أيضا إذا قلت: المنام موضع النوم، وهو العين، فتكون الأولى على هذا خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه للجميع. قال ابن مسعود: قلت لإنسان كان بجانبي يوم بدر: أتراهم سبعين؟ فقال: هم نحو المائة. فأسرنا رجلا فقلنا: كم كنتم ؟ فقال: كنا ألفا. }ويقللكم في أعينهم} كان هذا في ابتداء القتال حتى قال أبو جهل في ذلك اليوم: إنما هم أكلة جزور، خذوهم أخذا واربطوهم بالحبال. فلما أخذوا في القتال عظم المسلمون في أعينهم فكثروا، كما قال{يرونهم مثليهم رأي العين}آل عمران: 13] بيانه. }ليقضي الله أمرا كان مفعولا} تكرر هذا، لأن المعنى في الأول من اللقاء، وفي الثاني من قتل المشركين وإعزاز الدين، وهو إتمام النعمة على المسلمين. }وإلى الله ترجع الأمور} أي مصيرها ومردها إليه.
الآية رقم ( 45 )
{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}
قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة} أي جماعة }فاثبتوا} أمر بالثبات عند قتال الكفار، كما في الآية قبلها النهي عن الفرار عنهم، فالتقى الأمر والنهي على سواء. وهذا تأكيد على الوقوف للعدو والتجلد له.
قوله تعالى{واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} للعلماء في هذا الذكر ثلاثة أقوال: الأول: اذكروا الله عند جزع قلوبكم، فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد. الثاني: اثبتوا بقلوبكم، واذكروه بألسنتكم، فإن القلب لا يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان، فأمر بالذكر حتى يثبت القلب على اليقين، ويثبت اللسان على الذكر، ويقول ما قاله أصحاب طالوت{ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين}البقرة: 250]. وهذه الحالة لا تكون إلا عن قوة المعرفة، واتقاد البصيرة، وهي الشجاعة المحمودة في الناس. الثالث: اذكروا ما عندكم من وعد الله لكم في ابتياعه أنفسكم ومثامنته لكم.
قلت: والأظهر أنه ذكر اللسان الموافق للجنان. قال محمد بن كعب القرظي: لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا، يقول الله عز وجل{ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا}آل عمران: 41]. ولرخص للرجل يكون في الحرب، يقول الله عز وجل{إذا لقيتم فئة فاثبوا واذكروا الله كثيرا}. وقال قتادة: افترض الله جل وعز ذكره على عباده، أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيوف. وحكم هذا الذكر أن يكون خفيا، لأن رفع الصوت في مواطن القتال رديء مكروه إذا كان الذاكر واحدا. فأما إذا كان من الجميع عند الحملة فحسن، لأنه يفت في أعضاد العدو. وروى أبو داود عن قيس بن عباد قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند القتال. وروى أبو بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. قال ابن عباس: يكره التلثم عند القتال. قال ابن عطية: وبهذا والله أعلم استن المرابطون بطرحه عند القتال على صيانتهم به.
الآية رقم ( 46 )
{وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}
قوله تعالى{وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا} هذا استمرار على الوصية لهم، والأخذ على أيديهم في اختلافهم في أم بدر وتنازعهم. }فتفشلوا} نصب بالفاء في جواب النهي. ولا يجيز سيبويه حذف الفاء والجزم وأجازه الكسائي. وقرئ }تفشلوا} بكسر الشين. وهو غير معروف. }وتذهب ريحكم} أي قوتكم ونصركم، كما تقول: الريح لفلان، إذا كان غالبا في الأمر قال الشاعر:
إذا هبت رياحك فاغتنم فإن لكل خافقة سكون
وقال قتادة وابن زيد: إنه لم يكن نصر قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار. ومنه قوله عليه السلام: (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور). قال الحكم{وتذهب ريحكم} يعني الصبا، إذ بها نصر محمد عليه الصلاة والسلام وأمته. وقال مجاهد: وذهبت ريح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نازعوه يوم أحد. }واصبروا إن الله مع الصابرين} أمر بالصبر، وهو محمود في كل المواطن وخاصة موطن الحرب، كما قال{إذا لقيتم فئة فاثبتوا}.
الآية رقم ( 47 )
{ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط}
يعني أبا جهل وأصحابه الخارجين يوم بدر لنصرة العير. خرجوا بالقيان والمغنيات والمعازف، فلما وردوا الجحفة بعث خفاف الكناني - وكان صديقا لأبي جهل - بهدايا إليه مع ابن له، وقال: إن شئت أمددتك بالرجال، وإن شئت أمددتك بنفسي مع من خف من قومي. فقال أبو جهل: إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد، فوالله ما لنا بالله من طاقة. وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة، والله لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، فإن بدرا موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم، حتى تسمع العرب بمخرجنا فتهابنا آخر الأبد. فوردوا بدرا ولكن جرى ما جرى من هلاكهم. والبطر في اللغة: التقوية بنعم الله عز وجل وما ألبسه من العافية على المعاصي. وهو مصدر في موضع الحال. أي خرجوا بطرين مرائين صادين. وصدهم إضلال الناس.
الآية رقم ( 48 )
{وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب}
قوله تعالى{وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون} روي أن الشيطان تمثل لهم يومئذ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم، لأنهم قتلوا رجلا منهم. فلما تمثل لهم قال ما أخبر الله به عنه. وقال الضحاك: جاءهم إبليس يوم بدر برايته وجنوده، وألقى في قلوبهم أنهم لن يهزموا وهم يقاتلون على دين آبائهم. وعن ابن عباس قال: أمد الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة. وجاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم. فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، فلما اصطف القوم قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فأنصره. ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: (يا رب إنك تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا). فقال جبريل: (خذ قبضة من التراب) فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه. فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس فلما رآه كانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرا وشيعته، فقال له الرجل: يا سراقة، ألم تزعم أنك لنا جار، قال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون. ذكره البيهقي وغيره. وفي موطأ مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيدالله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما رأى الشيطان نفسه يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر) قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال (أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة). ومعنى نكص: رجع بلغة سليم، عن مؤرج وغيره. وقال الشاعر:
ليس النكوص على الأدبار مكرمة إن المكارم إقدام على الأسل
وقال آخر:
وما ينفع المستأخرين نكوصهم ولا ضر أهل السابقات التقدم
وليس ههنا قهقرى بل هو فرار، كما قال: (إذا سمع الأذان أدبر وله ضراط). }إني أخاف الله} قيل: خاف إبليس أن يكون يوم بدر اليوم الذي أنظر إليه. وقيل: كذب إبليس في قوله{إني أخاف الله} ولكن علم أنه لا قوة له. ويجمع جار على أجوار وجيران، وفي القليل جيرة.
الآية رقم ( 49 )
{إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم}
قيل: المنافقون: الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر. والذين في قلوبهم مرض: الشاكون، وهم دون المنافقين، لأنهم حديثو عهد بالإسلام، وفيهم بعض ضعف نية. قالوا عند الخروج إلى القتال وعند التقاء الصفين: غر هؤلاء دينهم. وقيل: هما واحد، وهو أولى. ألا ترى إلى قوله عز وجل{الذين يؤمنون بالغيب}البقرة: 3] ثم قال }والذين يؤمنون بما أنزل إليك}البقرة: 4] وهما لواحد.
الآية رقم ( 50 : 51 )
{ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق، ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد}
قيل: أراد من بقي ولم يقتل يوم بدر. وقيل: هي فيمن قتل ببدر. وجواب }لو} محذوف، تقديره: لرأيت أمرا عظيما. }يضربون} في موضع الحال. }وجوههم وأدبارهم} أي أستاههم، كنى عنها بالأدبار، قاله مجاهد وسعيد بن جبير. الحسن: ظهورهم، وقال: إن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك؟ قال: (ذلك ضرب الملائكة). وقيل: هذا الضرب يكون عند الموت. وقد يكون يوم القيامة حين يصيرون بهم إلى النار. }وذوقوا عذاب الحريق} قال الفراء: المعنى ويقولون ذوقوا، فحذف. وقال الحسن: هذا يوم القيامة، تقول لهم خزنة جهنم: ذوقوا عذاب الحريق. وروي أن في بعض التفاسير أنه كان مع الملائكة مقامع من حديد، كلما ضربوا التهبت النار في الجراحات، فذلك قوله{وذوقوا عذاب الحريق}. والذوق يكون محسوسا ومعنى. وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار، تقول: اركب هذا الفرس فذقه. وأنظر فلانا فذق ما عنده. قال الشماخ يصف فرسا:
فذاق فأعطته من اللين جانبا كفى ولها أن يغرق السهم حاجز
وأصله من الذوق بالفم. }ذلك} في موضع رفع؛ أي الأمر ذلك. أو }ذلك} جزاؤكم. }بما قدمت أيديكم} أي اكتسبتم من الآثام. }وأن الله ليس بظلام للعبيد} إذ قد أوضح السبيل وبعث الرسل، فلم خالفتم؟. }وأن} في موضع خفض عطف على }ما} وإن شئت نصبت، بمعنى وبأن، وحذفت الباء. أو بمعنى: وذلك أن الله. ويجوز أن يكون في موضع رفع نسقا على ذلك.
الآية رقم ( 52 )
{كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب}
الدأب العادة. وقد تقدم في }آل عمران}. أي العادة في تعذيبهم عند قبض الأرواح وفي القبور كعادة آل فرعون. وقيل: المعنى جوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي آل فرعون بالغرق. أي دأبهم كدأب آل فرعون.
الآية رقم ( 53 )
{ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم}
تعليل. أي هذا العقاب، لأنهم غيروا وبدلوا، ونعمة الله على قريش الخصب والسعة، والأمن والعافية. }أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم}العنكبوت:67] الآية. وقال السدي: نعمة الله عليهم محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به، فنقل إلى المدينة وحل بالمشركين العقاب.
الآية رقم ( 54 )
{كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين}
ليس هذا بتكرير، لأن الأول للعادة في التكذيب، والثاني للعادة في التغيير، وباقي الآية بين.
الآية رقم ( 55 : 56 )
{إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون، الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون}
قوله تعالى{إن شر الدواب عند الله} أي من يدب على وجه الأرض في علم الله وحكمه.
قوله تعالى{الذين كفروا فهم لا يؤمنون} نظيره }الصم البكم الذين لا يعقلون}الأنفال: 22]. ثم وصفهم فقال{الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون} أي لا يخافون الانتقال. }ومن} في قوله }منهم} للتبعيض، لأن العهد إنما يجري مع أشرافهم ثم ينقصونه. والمعني بهم قريظة والنضير، في قول مجاهد وغيره. نقضوا العهد فأعانوا مشركي مكة بالسلاح، ثم اعتذروا فقالوا: نسينا، فعاهدهم عليه السلام ثانية فنقضوا يوم الخندق.
الآية رقم ( 57 )
{فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون}
قوله تعالى{فإما تثقفنهم في الحرب} شرط وجوابه. ودخلت النون توكيدا لما دخلت ما، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: تدخل النون الثقيلة والخفيفة مع }إما} في المجازاة للفرق بين المجازاة والتخيير. ومعنى }تثقفنهم} تأسرهم وتجعلهم في ثقاف، أو تلقاهم بحال ضعف، تقدر عليهم فيها وتغلبهم. وهذا لازم من اللفظ؛ لقول{في الحرب}. وقال بعض الناس: تصادفنهم وتلقاهم. يقال: ثقفته أثقفه ثقفا، أي وجدته. وفلان ثقف لقف أي سريع الوجود لما يحاوله ويطلبه. وثقف لقف. وامرأة ثقاف. والقول الأول أولى؛ لارتباطه بالآية كما بينا. والمصادف قد يغلب فيمكن التشريد به، وقد لا يغلب. والثقاف في اللغة: ما يشد به القناة ونحوها. ومنه قول النابغة:
تدعو قعينا وقد عض الحديد بها عض الثقاف على صم الأنابيب
قوله تعالى{فشرد بهم من خلفهم} قال سعيد بن جبير: المعنى أنذر بهم من خلفهم. قال أبو عبيد: هي لغة قريش، شرد بهم سمع بهم. وقال الضحاك: نكل بهم. الزجاج: افعل بهم فعلا من القتل تفرق به من خلفهم. والتشريد في اللغة: التبديد والتفريق، يقال: شردت بني فلان قلعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها. وكذلك الواحد، تقول: تركته شريدا عن وطنه وأهله. قال الشاعر من هذيل:
أطوف في الأباطح كل يوم مخافة أن يشرد بي حكيم
ومنه شرد البعير والدابة إذا فارق صاحبه. و}من} بمعنى الذي، قال الكسائي. وروي عن ابن مسعود }فشرذ} بالذال المعجمة، وهما لغتان. وقال قطرب: التشريذ (بالذال المعجمة) التنكيل. وبالدال المهملة التفريق، حكاه الثعلبي. وقال المهدوي: الذال لا وجه لها، إلا أن تكون بدلا من الدال المهملة لتقاربهما، ولا يعرف في اللغة }فشرذ}. وقرئ }من خلفهم} بكسر الميم والفاء. }لعلهم يذكرون} أي يتذكرون بوعدك إياهم. وقيل: هذا يرجع إلى من خلفهم، لأن من قتل لا يتذكر أي شرد بهم من خلفهم من عمل بمثل عملهم.
الآية رقم ( 58 )
{وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين}
قوله تعالى{وإما تخافن من قوم خيانة} أي غشا ونقضا للعهد. }فانبذ إليهم على سواء} وهذه الآية نزلت في بني قريظة وبني النضير. وحكاه الطبري عن مجاهد. قال ابن عطية: والذي يظهر في ألفاظ القرآن أن أم بني قريظة انقضى عند قول }فشرد بهم من خلفهم} ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية بأمره فيما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة، فتترتب فيهم هذه الآية. وبنو قريظة لم يكونوا في حد من تخاف خيانته، وإنما كانت خيانتهم ظاهرة مشهورة.
قال ابن العربي: فإن قيل كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة، والخوف ظن لا يقين معه، فكيف يسقط يقين العهد مع ظن الخيانة. فالجواب من وجهين: أحدهما - أن الخوف قد يأتي بمعنى اليقين، كما قد يأتي الرجاء بمعنى العلم، قال الله تعالى{ما لكم لا ترجون لله وقارا}نوح: 13]. الثاني - إذا ظهرت آثار الخيانة وثبتت دلائلها، وجب نبذ العهد لئلا يوقع التمادي عليه في الهلكة، وجاز إسقاط اليقين هنا ضرورة. وأما إذا علم اليقين فيستغنى عن نبذ العهد إليهم، وقد سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة عام الفتح، لما إذا اشتهر منهم نقض العهد من غير أن ينبذ إليهم عهدهم. والنبذ: الرمي والرفض. وقال الأزهري: معناه إذا عاهدت قوما فعلمت منهم النقض بالعهد فلا توقع بهم سابقا إلى النقض حتى تلقي إليهم أنك قد نقضت العهد والمواعدة، فيكونوا في علم النقض مستويين، ثم أوقع بهم. قال النحاس: هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه. والمعنى: وإما تخافن من قوم بينك وبينهم عهد خيانة فأنبذ إليهم العهد، أي قل لهم قد نبذت إليكم عهدكم، وأنا مقاتلكم، ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يثقون بك، فيكون ذلك خيانة وغدرا. ثم بين هذا بقوله{إن الله لا يحب الخائنين}.
قلت: ما ذكره الأزهري والنحاس من إنباذ العهد مع العلم بنقضه يرده فعل النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، فإنهم لما نقضوا لم يوجه إليهم بل قال: (اللهم اقطع خبري عنهم) وغزاهم. وهو أيضا معنى الآية، لأن في قطع العهد منهم ونكثه مع العلم به حصول نقض عهدهم والاستواء معهم. فأما مع غير العلم بنقض العهد منهم فلا يحل ولا يجوز. روى الترمذي وأبو داود عن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية والروم عهد وكان يسير نحو بلادهم ليقرب حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاءه رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا هو عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاوية فسأل فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء) فرجع معاوية بالناس. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. والسواء: المساواة والاعتدال. وقال الراجز
فاضرب وجوه الغدر الأعداء حتى يجيبوك إلى السواء
وقال الكسائي: السواء العدل. وقد يكون بمعنى الوسط، ومنه قوله تعالى{في سواء الجحيم}الصافات: 55]. ومنه قول حسان:
يا ويح أصحاب النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد
الفراء: ويقال }فانبذ إليهم على سواء} جهرا لا سرا.
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة). قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما كان الغدر في حق الإمام أعظم وأفحش منه في غيره لما في ذلك من المفسدة، فإنما إذا غدروا وعلم ذلك منهم ولم ينبذوا بالعهد لم يأمنهم العدو على عهد ولا صلح، فتشتد شوكته ويعظم ضرره، ويكون ذلك منفرا عن الدخول في الدين، وموجبا لذم أئمة المسلمين. فأما إذا لم يكن للعدو عهد فينبغي أن يتحيل عليه بكل حيلة، وتدار عليه كل خديعة. وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة). وقد اختلف العلماء هل يجاهد مع الإمام الغادر، على قولين. فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقاتل معه، بخلاف الخائن والفاسق. وذهب بعضهم إلى الجهاد معه. والقولان في مذهبنا.
الآية رقم ( 59 )
{ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون}
قوله تعالى{ولا يحسبن الذين كفروا} أي من أفلت من وقعة بدر سبق إلى الحياة. ثم استأنف فقال{إنهم لا يعجزون} أي في الدنيا حتى يظفرك الله بهم. وقيل: يعني في الآخرة. وهو قول الحسن. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة }يحسبن} بالياء والباقون بالتاء، على أن يكون في الفعل ضمير الفاعل. و}الذين كفروا} مفعول أول. و}سبقوا} مفعول ثان. وأما قراءة الياء فزعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم أن هذا لحن لا تحل القراءة به، ولا تسمع لمن عرف الإعراب أو عرفه. قال أبو حاتم: لأنه لم يأت لـ }يحسبن} بمفعول وهو يحتاج إلى مفعولين. قال النحاس: وهذا تحامل شديد، والقراءة تجوز ويكون المعنى: ولا يحسبن من خلفهم الذين كفروا سبقوا، فيكون الضمير يعود على ما تقدم، إلا أن القراءة بالتاء أبين. المهدوي: ومن قرأ بالياء احتمل أن يكون في الفعل ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون }الذين كفروا سبقوا} المفعولين. ويجوز أن يكون }الذين كفروا} فاعلا، والمفعول الأول محذوف، المعنى: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا. مكي: ويجوز أن يضمر مع سبقوا أن، فيسد مسد المفعولين والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، فهو مثل }أحسب الناس أن يتركوا}العنكبوت: 2] في سد أن مسد المفعولين. وقرأ ابن عامر }أنهم لا يعجزون} بفتح الهمزة. واستبعد هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد. قال أبو عبيد: وإنما يجوز على أن يكون المعنى: ولا تحسبن الذين كفروا أنهم لا يعجزون. قال النحاس: الذي ذكره أبو عبيد لا يجوز عند النحويين البصريين، لا يجوز حسبت زيدا أنه خارج، إلا بكسر الألف، وإنما لم يجز لأنه في موضع المبتدأ، كما تقول: حسبت زيدا أبوه خارج، ولو فتحت لصار المعنى حسبت زيدا خروجه. وهذا محال، وفيه أيضا من البعد أنه لا وجه لما قال يصح به معنى، إلا أن يجعل }لا} زائدة، ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله عز وجل إلى التطول بغير حجة يجب التسليم لها. والقراءة جيدة على أن يكون المعنى: لأنهم لا يعجزون. مكي: فالمعنى لا يحسبن الكفار أنفسهم فأتوا لأنهم لا يعجزون، أي لا يفوتون. فـ }أن} في موضع نصب بحذف اللام، أو في موضع خفض على إعمال اللام لكثرة حذفها مع }أن}، وهو يروى عن الخليل والكسائي. وقرأ الباقون بكسر }إن} على الاستئناف والقطع مما قبله، وهو الاختيار، لما فيه من معنى التأكيد، ولأن الجماعة عليه. وروي عن ابن محيصن أنه قرأ }لا يعجزون} بالتشديد وكسر النون. النحاس: وهذا خطأ من وجهين: أحدهما أن معنى عجزه ضعفه وضعف أمره. والآخر - أنه كان يجب أن يكون بنونين. ومعنى أعجزه سبقه وفاته حتى لم يقدر عليه.
الآية رقم ( 60 )
{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون}
قوله تعالى{وأعدوا لهم} أمر الله سبحانه المؤمنين بإعداد القوة للأعداء بعد أن أكد تقدمة التقوى. فإن الله سبحانه لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم وبحفنة من تراب، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنه أراد أن يبتلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ. وكلما تعده لصديقك من خير أو لعدوك من شر فهو داخل في عدتك. قال ابن عباس: القوة ههنا السلاح والقسي. وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي). وهذا نص رواه عن عقبة أبو علي ثمامة بن شفي الهمداني، وليس له في الصحيح غيره. وحديث آخر في الرمي عن عقبة أيضا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه). وقال صلى الله عليه وسلم: (كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنه من الحق). ومعنى هذا والله أعلم: أن كل ما يتلهى به الرجل مما لا يفيده في العاجل ولا في الآجل فائدة فهو باطل، والإعراض عنه أولى. وهذه الأمور الثلاثة فإنه وإن كان يفعلها على أنه يتلهى بها وينشط، فإنها حق لاتصالها بما قد يفيد، فإن الرمي بالقوس وتأديب الفرس جميعا من معاون القتال. وملاعبة الأهل قد تؤدي إلى ما يكون عنه ولد يوحد الله ويعبده، فلهذا كانت هذه الثلاثة من الحق. وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدخل ثلاثة نفر الجنة بسهم واحد صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي ومبله). وفضل الرمي عظيم ومنفعته عظيمة للمسلمين، ونكايته شديدة على الكافرين. قال صلى الله عليه وسلم: (يا بني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميا). وتعلم الفروسية واستعمال الأسلحة فرض كفاية. وقد يتعين. }ومن رباط الخيل} وقرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة }ومن ربط الخيل} بضم الراء والباء، جمع رباط، ككتاب وكتب قال أبو حاتم عن ابن زيد: الرباط من الخيل الخمس فما فوقها، وجماعته ربط. وهي التي ترتبط، يقال منه: ربط يربط ربطا. وارتبط يرتبط ارتباطا. ومربط الخيل ومرابطها وهي ارتباطها بإزاء العدو. قال الشاعر:
أمر الإله بربطها لعدوه في الحرب إن الله خير موفق
وقال مكحول بن عبدالله:
تلوم على ربط الجياد وحبسها وأوصى بها الله النبي محمدا
ورباط الخيل فضل عظيم ومنزلة شريفة. وكان لعروة البارقي سبعون فرسا معدة للجهاد. والمستحب منها الإناث، قال عكرمة وجماعة. وهو صحيح، فإن الأنثى بطنها كنز وظهرها عز. وفرس جبريل كان أنثى. وروى الأئمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وزر) الحديث. ولم يخص ذكرا من أنثى. وأجودها أعظمها أجرا وأكثرها نفعا. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الرقاب أفضل؟ فقال: (أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها). وروى النسائي عن أبي وهب الجشمي - وكانت له صحبة - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عز وجل عبدالله وعبدالرحمن وارتبطوا الخيل وامسحوا بنواصيها وأكفالها وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار وعليكم بكل كميت أغر محجل أو أشقر أغر محجل أو أدهم أغر محجل). وروى الترمذي عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم ثم الأقرح المحجل طلق اليمين فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الشية). ورواه الدارمي عن أبي قتادة أيضا، أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أريد أن أشتري فرسا، فأيها أشتري؟ قال: (اشتر أدهم أرثم محجلا طلق اليد اليمنى أو من الكميت على هذه الشية تغنم وتسلم). وكان صلى الله عليه وسلم يكره الشكال من الخيل. والشكال: أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض وفي يده اليسرى، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى. خرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. ويذكر أن الفرس الذي قتل عليه الحسين بن علي رضي الله عنهما كان أشكل.
فإن قيل: إن قوله }وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} كان يكفي، فلم خص الرمي والخيل بالذكر؟ قيل له: إن الخيل لما كانت أصل الحروب وأوزارها التي عقد الخير في نواصيها، وهي أقوى القوة وأشد العدة وحصون الفرسان، وبها يجال في الميدان، خصها بالذكر تشريفا، وأقسم بغبارها تكريما. فقال{والعاديات ضبحا}العاديات: 1] الآية. ولما كانت السهام من أنجع ما يتعاطى في الحروب والنكاية في العدو وأقربها تناولا للأرواح، خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر لها والتنبيه عليها. ونظير هذا في التنزيل، }وجبريل وميكال}البقرة: 98] ومثله كثير.
وقد استدل بعض علمائنا بهذه الآية على جواز وقف الخيل والسلاح، واتخاذ الخزائن والخزان لها عدة للأعداء. وقد اختلف العلماء في جواز وقف الحيوان كالخيل والإبل على قولين: المنع، وبه قال أبو حنيفة. والصحة، وبه قال الشافعي رضي الله عنه. وهو أصح، لهذه الآية، ولحديث ابن عمر في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله وقوله عليه السلام في حق خالد: (وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله) الحديث. وما روي أن امرأة جعلت بعيرا في سبيل الله، فأراد زوجها الحج، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ادفعيه إليه ليحج عليه فإن الحج من سبيل الله). ولأنه مال ينتفع به في وجه قربة، فجاز أن يوقف كالرباع. وقد ذكر السهيلي في هذه الآية تسمية خيل النبي صلى الإله عليه وسلم، وآلة حربه. من أرادها وجدها في كتاب الأعلام.
قوله تعالى{ترهبون به عدو الله وعدوكم} يعني تخيفون به عدو الله وعدوكم من اليهود وقريش وكفار العرب. }وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} يعني فارس والروم، قاله السدي. وقيل: الجن. وهو اختيار الطبري. وقيل: المراد بذلك كل من لا تعرف عداوته. قال السهيلي: قيل لهم قريظة. وقيل: هم من الجن. وقيل غير ذلك. ولا ينبغي أن يقال فيهم شيء، لأن الله سبحانه قال{وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم}، فكيف يدعي أحد علما بهم، إلا أن يصح حديث جاء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله في هذه الآية: (هم الجن). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان لا يخبل أحدا في دار فيها فرس عتيق) وإنما سمي عتيقا لأنه قد تخلص من الهجانة. وهذا الحديث أسنده الحارث بن أبي أسامة عن ابن المليكي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي: أن الجن لا تقرب دارا فيها فرس، وأنها تنفر من صهيل الخيل. }وما تنفقوا من شيء} أي تتصدقوا. وقيل: تنفقوه على أنفسكم أو خيلكم. }في سبيل الله يوف إليكم} في الآخرة، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. }وأنتم لا تظلمون}.
الآية رقم ( 61 )
{وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم}
قوله تعالى{وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} إنما قال }لها} لأن السلم مؤنثة. ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة. والجنوح الميل. يقول: إن مالوا - يعني الذين نبذ إليهم عهدهم - إلى المسالمة، أي الصلح، فمل إليها. وجنح الرجل إلى الآخر: مال إليه، ومنه قيل للأضلاع جوانح، لأنها مالت على الحشوة. وجنحت الإبل: إذا مالت أعناقها في السير. وقال ذو الرمة:
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه بذكراك والعيس المراسيل جنح
وقال النابغة:
جوانح قد أيقن أن قبيله إذا ما التقى الجمعان أول غالب
يعني الطير. وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه على الأرض. والسلم والسلام هو الصلح. وقرأ الأعمش وأبو بكر وابن محيصن والمفضل }للسلم} بكسر السين. الباقون بالفتح. وقد تقدم معنى ذلك في }البقرة} مستوفى. وقد يكون السلام من التسليم. وقرأ الجمهور }فاجنح} بفتح النون، وهي لغة تميم. وقرأ الأشهب العقيلي }فاجنح} بضم النون، وهي لغة قيس. قال ابن جني: وهذه اللغة هي القياس.
وقد اختلف في هذه الآية، هل هي منسوخة أم لا. فقال قتادة وعكرمة: نسخها }فاقتلوا المشركين حيث وجدتموه}التوبة: 5]. }وقاتلوا المشركين كافة}التوبة: 36] وقالا: نسخت براءة كل موادعة، حتى يقولوا لا إله إلا الله. ابن عباس: الناسخ لها }فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم}محمد: 35]. وقيل: ليست بمنسوخة، بل أراد قبول الجزية من أهل الجزية. وقد صالح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة كثيرا من بلاد العجم، على ما أخذوه منهم، وتركوهم على ما هم فيه، وهم قادرون على استئصالهم. وكذلك صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا من أهل البلاد على مال يؤدونه، من ذلك خيبر، رد أهلها إليها بعد الغلبة على أن يعملوا ويؤدوا النصف. قال ابن إسحاق: قال مجاهد عنى بهذه الآية قريظة، لأن الجزية تقبل منهم، فأما المشركون فلا يقبل منهم شيء. وقال السدي وابن زيد.: معنى الآية إن دعوك إلى الصلح فأجبهم. ولا نسخ فيها. قال ابن العربي: وبهذا يختلف الجواب عنه، وقد قال الله عز وجل{فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم}محمد: 35]. فإذا كان المسلمون على عزة وقوة ومنعة، وجماعة عديدة، وشدة شديدة فلا صلح، كما قال:
فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم
وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح، لنفع يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه. وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم. وقد صالح الضمري وأكيدر دومة وأهل نجران، وقد هادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده. وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكة، وبالوجوه التي شرحناها عاملة. قال القشيري: إذا كانت القوة للمسلمين فينبغي ألا تبلغ الهدنة سنة. وإذا كانت القوة للكفار جاز مهادنتهم عشر سنين، ولا تجوز الزيادة. وقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين. قال ابن المنذر: اختلف العلماء في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وبين أهل مكة عام الحديبية، فقال عروة: كانت أربع سنين. وقال ابن جريج: كانت ثلاث سنين. وقال ابن إسحاق: كانت عشر سنين. وقال الشافعي رحمه الله: لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين، على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهي منتقضة، لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وقال ابن حبيب عن مالك رضي الله عنه: تجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث، وإلى غير مدة. قال المهلب: إنما قاضاهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية التي ظاهرها الوهن على المسلمين، لسبب حبس الله ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة، حين توجه إليها فبركت. وقال: (حبسها حابس الفيل). على ما خرجه البخاري من حديث المسور بن مخرمة. ودل على جواز صلح المشركين ومهادنتهم دون مال يؤخذ منهم، إذا رأى ذلك الإمام وجها. ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو، لموادعة النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري، والحارث بن عوف المري يوم الأحزاب، على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة، وينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلا قريشا، ويرجعا بقومهما عنهم. وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقدا. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقالا: يا رسول الله، هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر تصنعه لنا؟ فقال: (بل أمر أصنعه لكم فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة)، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة، إلا شراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (أنتم وذاك). وقال لعيينة والحارث: (انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف). وتناول سعد الصحيفة، وليس فيها شهادة أن لا إله إلا الله فمحاها.
الآية رقم ( 62 : 63 )
{وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم}
قوله تعالى{وإن يريدوا أن يخدعوك} أي بأن يظهروا لك السلم، ويبطنوا الغدر والخيانة، فاجنح فما عليك من نياتهم الفاسدة. }فإن حسبك الله} كافيك الله، أي يتولى كفايتك وحياطتك. قال الشاعر:
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند
أي كافيك وكافي الضحاك سيف.
قوله تعالى{هو الذي أيدك بنصره} أي قواك بنصره. يريد يوم بدر. }وبالمؤمنين} قال النعمان بن بشير: نزلت في الأنصار. }وألف بين قلوبهم} أي جمع بين قلوب الأوس والخزرج. وكان تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عنها حتى يستقيدها. وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين. وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار. والمعنى متقارب.
الآية رقم ( 64 )
{يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين}
ليس هذا تكريرا، فإنه قال فيما سبق{وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله} وهذه كفاية خاصة. وفي قوله{يا أيها النبي حسبك الله} أراد التعميم، أي حسبك الله في كل حال وقال ابن عباس: نزلت في إسلام عمر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أسلم معه ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة، فأسلم عمر وصاروا أربعين. والآية مكية، كتبت بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة مدنية، ذكره القشيري.
قلت: ما ذكره من إسلام عمر رضي الله عنه عن ابن عباس، فقد وقع في السيرة خلافه. عن عبدالله بن مسعود قال: (ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه. وكان إسلام عمر بعه خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة.) قال ابن إسحاق: وكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا أو ولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا، إن كان عمار بن ياسر منهم. وهو يشك فيه. وقال الكلبي: نزلت الآية بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال.
قوله تعالى{ومن اتبعك من المؤمنين} قيل: المعنى حسبك الله، وحسبك المهاجرون والأنصار. وقيل: المعنى كافيك الله، وكافي من تبعك، قال الشعبي وابن زيد. والأول عن الحسن. واختاره النحاس وغيره. فـ }من} على القول الأول في موضع رفع، عطفا على اسم الله تعالى. على معنى: فإن حسبك الله وأتباعك من المؤمنين. وعلى الثاني على إضمار. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (يكفينيه الله وأبناء قيلة). وقيل: يجوز أن يكون المعنى }ومن اتبعك من المؤمنين} حسبهم الله، فيضمر الخبر. ويجوز أن يكون }من} في موضع نصب، على معنى: يكفيك الله ويكفي من اتبعك.
الآية رقم ( 65 : 66 )
{يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون، الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين}
قوله تعالى{يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال} أي حثهم وحضهم. يقال: حارض على الأمر وواظب وأكب بمعنى واحد. والحارض: الذي قد قارب الهلاك، ومنه قوله عز وجل{حتى تكون حرضا}يوسف: 85] أي تذوب غما، فتقارب الهلاك فتكون من الهالكين. }إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} لفظ خبر، ضمنه وعد بشرط، لأن معناه إن يصبر منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين. وعشرون وثلاثون وأربعون كل واحد منها اسم موضوع على صورة الجمع لهذا العدد. ويجري هذا الاسم مجرى فلسطين. فإن قال قائل: لم كسر أول عشرين وفتح أول ثلاثين وما بعده إلى الثمانين إلا ستين؟ فالجواب عند سيبويه أن عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد، فكسر أول عشرين كما كسر اثنان. والدليل على هذا قولهم: ستون وتسعون، كما قيل: ستة وتسعة. وروى أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت }إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} فشق ذلك على المسلمين، حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة، ثم إنه جاء التخفيف فقال{ألآن خفف الله عنكم} قرأ أبو توبة إلى قوله{مائة صابرة يغلبوا مائتين}. قال: فلما خفف الله تعالى عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم. وقال ابن العربي: قال قوم إن هذا كان يوم بدر ونسخ. وهذا خطأ من قائله. ولم ينقل قط أن المشركين صافوا المسلمين عليها، ولكن الباري جل وعز فرض ذلك عليهم أولا، وعلق ذلك بأنكم تفقهون ما تقاتلون عليه، وهو الثواب. وهم لا يعلمون ما يقاتلون عليه.
قلت: وحديث ابن عباس يدل على أن ذلك فرض. ثم لما شق ذلك عليهم حط الفرض إلى ثبوت الواحد للاثنين، فخفف عنهم وكتب عليهم ألا يفر مائة من مائتين، فهو على هذا القول تخفيف لا نسخ. وهذا حسن. وقد ذكر القاضي ابن الطيب أن الحكم إذا نسخ بعضه أو بعض أوصافه، أو غير عدده فجائز أن يقال إنه نسخ، لأنه حينئذ ليس بالأول، بل هو غيره. وذكر في ذلك خلافا.
الآية رقم ( 67 )
{ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم}
قوله تعالى{أسرى} جمع أسير، مثل قتيل وقتلى وجريح وجرحى. ويقال في جمع أسير أيضا: أسارى (بضم الهمزة) وأسارى (بفتحها) وليست بالعالية. وكانوا يشدون الأسير بالقد وهو الإسار، فسمي كل أخيذ وإن لم يؤسر أسيرا. قال الأعشى:
وقيدني الشعر في بيته كما قيد الآسرات الحمارا
وقد مضى هذا في سورة }البقرة}. وقال أبو عمر بن العلاء: الأسرى هم غير الموثقين عند ما يؤخذون، والأسارى هم الموثقون ربطا. وحكى أبو حاتم أنه سمع هذا من العرب.
هذه الآية نزلت يوم بدر، عتابا من الله عز وجل لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم. والمعنى: ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم أسرى قبل الإثخان. ولهم هذا الإخبار بقوله }تريدون عرض الدنيا}. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد قط عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب، فالتوبيخ والعتاب إنما كان متوجها بسبب من أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الفدية. هذا قول أكثر المفسرين، وهو الذي لا يصح غيره. وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية حين لم ينه عنه حين رآه من العريش وإذ كره سعد بن معاذ وعمر بن الخطاب وعبدالله بن رواحة، ولكنه عليه السلام شغله بغت الأمر ونزول النصر فترك النهي عن الاستبقاء، ولذلك بكى هو وأبو بكر حين نزلت الآيات. والله أعلم. روى مسلم من حديث عمر بن الخطاب، وقد تقدم أول في }آل عمران} وهذا تمامه. قال أبو زميل: قال ابن عباس فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: (ما ترون في هؤلاء الأسارى)؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ترى يا ابن الخطاب)؟ قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان (نسيبا لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة) (شجرة قريبة كانت من نبي الله صلى الله عليه وسلم) وأنزل الله عز وجل }ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} إلى قوله تعالى{فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا}الأنفال: 69] فأحل الله الغنيمة لهم.
وروى يزيد بن هارون قال: أخبرنا يحيى قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبدالله قال: لما كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ترون في هؤلاء الأسارى) فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدمهم فأضرب أعناقهم. وقال عبدالله بن رواحة: انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم. فقال العباس وهو يسمع: قطعت رحمك. قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا. فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر رضي الله عنه. وقال أناس: يأخذ بقول عمر. وقال أناس: يأخذ بقول عبدالله بن رواحة. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة.). مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال }فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم}إبراهيم: 36] ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى إذ قال }إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}المائدة: 118]. ومثلك يا عمر كمثل نوج عليه السلام إذ قال }رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا}نوح: 26]. ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال }ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم}يونس: 88] أنتم عالة فلا ينفلتن أحد إلا بفداء أو ضربة عنق). فقال عبدالله: إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما رأيتني أخوف أن تقع علي الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم. فأنزل الله عز وجل{ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} إلى آخر الآيتين. في رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن كاد ليصيبنا في خلاف ابن الخطاب عذاب ولو نزل عذاب ما أفلت إلا عمر). وروى أبو داود عن عمر قال: لما كان يوم بدر وأخذ - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - الفداء، أنزل الله عز وجل }ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} إلى قوله }لمسكم فيما أخذتم (1)- من الفداء - " عذاب عظيم}الأنفال:68]. ثم أحل الغنائم. وذكر القشيري أن سعد بن معاذ قال: يا رسول الله، إنه أول وقعة لنا مع المشركين فكان الإثخان أحب إلي. والإثخان: كثرة القتل، عن مجاهد وغيره. أي يبالغ في قتل المشركين. تقول العرب: أثخن فلان في هذا الأمر أي بالغ. وقال بعضهم: حتى يقهر ويقتل. وأنشد المفضل:
تصلي الضحى ما دهرها بتعبد وقد أثخنت فرعون في كفره كفرا
وقيل{حتى يثخن} يتمكن. وقيل: الإثخان القوة والشدة. فأعلم الله سبحانه وتعالى أن قتل الأسرى الذين فودوا ببدر كان أولى من فدائهم. وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله عز وجل بعد هذا في الأسارى{فإما منا بعد وإما فداء}محمد: 4] على ما يأتي بيانه في سورة }القتال} إن شاء الله تعالى. وقد قيل: إنما عوتبوا لأن قضية بدر كانت عظيمة الموقع والتصريف في صناديد قريش وأشرافهم وساداتهم وأموالهم بالقتل والاسترقاق والتملك. وذلك كله عظيم الموقع فكان حقهم أن ينتظروا الوحي ولا يستعجلوا، فلما استعجلوا ولم ينتظروا توجه عليهم ما توجه. والله أعلم.
أسند الطبري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: (إن شئتم أخذتم فداء الأسارى ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم وإن شئتم قتلوا وسلمتم). فقالوا: نأخذ الفداء ويستشهد منا سبعون. وذكر عبد بن حميد بسنده أن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير الناس هكذا. وقد مضى في }آل عمران} القول في هذا. وقال عبيدة السلماني: طلبوا الخيرتين كلتيهما، فقتل منهم يوم أحد سبعون. وينشأ هنا إشكال وهو أن يقال: إذا كان التخيير فكيف وقع التوبيخ بقوله }لمسكم}. فالجواب - أن التوبيخ وقع أولا لحرصهم على أخذ الفداء، ثم وقع التخيير بعد ذلك. ومما يدل على ذلك أن المقداد قال حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط: أسيري يا رسول الله. وقال مصعب بن عمير الذي أسر أخاه: شد عليه يدك، فإن له أما موسرة. إلى غير ذلك من قصصهم وحرصهم على أخذ الفداء. فلما تحصل الأسارى وسيقوا إلى المدينة وأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل في النضر وعقبة وغيرهما وجعل يرتئي في سائرهم نزل التخيير من الله عز وجل، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه حينئذ. فمر عمر على أول رأيه في القتل، ورأى أبو بكر المصلحة في قوه المسلمين بمال الفداء. ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر. وكلا الرأيين اجتهاد بعد تخيير. فلم ينزل بعد على هذا شيء من تعنيت. والله أعلم.
قال ابن وهب: قال مالك كان ببدر أسارى مشركون فأنزل الله }ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض}. وكانوا يومئذ مشركين وفادوا ورجعوا، ولو كانوا مسلمين لأقاموا ولم يرجعوا. وكان عدة من قتل منهم أربعة وأربعين رجلا، ومثلهم أسروا. وكان الشهداء قليلا. وقال أبو عمرو بن العلاء: إن القتلى كانوا سبعين، والأسرى كذلك. وكذلك قال ابن عباس وابن المسيب وغيرهم. وهو الصحيح كما في صحيح مسلم، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. وذكر البيهقي قالوا: فجيء بالأسارى وعليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم تسعة وأربعون رجلا الذين أحصوا، وهم سبعون في الأصل، مجتمع عليه لا شك فيه. قال ابن العربي: إنما قال مالك }وكانوا مشركين} لأن المفسرين رووا أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني مسلم. وفي رواية أن الأسارى قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: آمنا بك. وهذا كله ضعفه مالك، واحتج على إبطاله بما ذكر من رجوعهم وزيادة عليه أنهم غزوه في أحد. قال أبو عمر بن عبدالبر: اختلفوا في وقت إسلام العباس، فقيل: أسلم قبل يوم بدر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من لقي العباس فلا يقتله فإنما أخرج كرها). وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: (إن أناسا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري فلا يقتله ومن لقي العباس فلا يقتله فإنه إنما أخرج مستكرها) وذكر الحديث. وذكر أنه أسلم حين أسر يوم بدر. وذكر أنه أسلم عام خيبر، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين، وكان يحب أن يهاجر فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمكث بمكة فمقامك بها أنفع لنا).
الآية رقم ( 68 )
{لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم}
قوله تعالى{لولا كتاب من الله سبق} في أنه لا يعذب قوما حتى يبين لهم ما يتقون. واختلف الناس في كتاب الله السابق على أقوال، أصحها ما سبق من إحلال الغنائم، فإنها كانت محرمة على من قبلنا. فلما كان يوم بدر، أسرع الناس إلى الغنائم فأنزل الله عز وجل }لولا كتاب من الله سبق} أي بتحليل الغنائم. وروى أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا سلام عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: لما كان يوم بدر تعجل الناس إلى الغنائم فأصابوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغنيمة لا تحل لأحد سود الرؤوس غيركم). فكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا غنموا الغنيمة جمعوها ونزلت نار من السماء فأكلتها، فأنزل الله تعالى{لولا كتاب من الله سبق} إلى آخر الآيتين. وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وقال مجاهد والحسن. وعنهما أيضا وسعيد بن جبير: الكتاب السابق هو مغفرة الله لأهل بدر، ما تقدم أو تأخر من ذنوبهم. وقالت فرقة: الكتاب السابق هو عفو الله عنهم في هذا الذنب، معينا. والعموم أصح، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر في أهل بدر: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). خرجه مسلم. وقيل: الكتاب السابق هو ألا يعذبهم ومحمد عليه السلام فيهم. وقيل: الكتاب السابق هو ألا يعذب أحدا بذنب أتاه جاهلا حتى يتقدم إليه. وقالت فرقة: الكتاب السابق هو مما قضى الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر. وذهب الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ وأنه يعمها، ونكب عن تخصيص معنى دون معنى.
ابن العربي: وفي الآية دليل على أن العبد إذا اقتحم ما يعتقده حراما مما هو في علم الله حلال له لا عقوبة عليه، كالصائم إذا قال: هذا يوم نوبي فأفطر الآن. أو تقول المرأة: هذا يوم حيضتي فأفطر، ففعلا ذلك، وكان النوب والحيض الموجبان للفطر، ففي المشهور من المذهب فيه الكفارة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا كفارة عليه، وهي الرواية الأخرى. وجه الرواية الأولى أن طرو الإباحة لا يثبت عذرا في عقوبة التحريم عند الهتك، كما لو وطئ امرأة ثم نكحها. وجه الرواية الثانية أن حرمة اليوم ساقطة عند الله عز وجل فصادف الهتك محلا لا حرمة له في علم الله، فكان بمنزلة ما لو قصد وطء امرأة قد زفت إليه وهو يعتقدها أنها ليست بزوجته فإذا هي زوجته. وهذا أصح. والتعليل الأول لا يلزم، لأن علم الله سبحانه وتعالى مع علمنا قد استوى في مسألة التحريم، وفي مسألتنا اختلف فيها علمنا وعلم الله فكان المعول على علم الله. كما قال{لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم}.
الآية رقم ( 69 )
{فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم}
يقتضي ظاهره أن تكون الغنيمة كلها للغانمين، وأن يكونوا مشتركين فيها على السواء، إلا أن قوله تعالى{واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه}الأنفال: 41] بين وجوب إخراج الخمس منه وصرفه إلى الوجوه المذكورة. وقد تقدم القول في هذا مستوفى.
الآية رقم ( 70 : 71 )
{يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم، وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم}
قوله تعالى{يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى} قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقيل: له وحده. وقال ابن عباس رضي الله عنه: الأسرى في هذه الآية عباس وأصحابه. قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله، لننصحن لك على قومك، فنزلت هذه الآية. وقد تقدم بطلان هذا من قول مالك. وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة. وعن ابن إسحاق: بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا. وقال العباس: يا رسول الله، إني قد كنت مسلما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فالله يجزيك بذلك فأما ظاهر أمرك فكان علينا فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو أخا بني الحارث بن فهر). وقال: ما ذاك عندي يا رسول الله. قال: (فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل فقلت لها إن أصبت في سفري هذا فهذا المال لبني الفضل وعبدالله وقثم) ؟ فقال: يا رسول الله، إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا لشيء ما علمه غيري وغير أم الفضل، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ذاك شيء أعطانا الله منك). ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، وأنزل الله فيه{يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى} الآية. قال ابن إسحاق: وكان أكثر الأسارى فداء العباس بن عبدالمطلب، لأنه كان رجلا موسرا، فافتدى نفسه بمائة أوقية من ذهب. وفي البخاري: وقال موسى بن عقبة قال ابن شهاب: حدثني أنس بن مالك أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه. فقال: (لا والله لا تذرون درهما). وذكر النقاش وغيره أن فداء كل واحد من الأسارى كان أربعين أوقية، إلا العباس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أضعفوا الفداء على العباس) وكلفه أن يفدي ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فأدى عنهما ثمانين أوقية، وعن نفسه ثمانين أوقية وأخذ منه عشرون أوقية وقت الحرب. وذلك أنه كان أحد العشرة الذين ضمنوا الإطعام لأهل بدر، فبلغت النوبة إليه يوم بدر فاقتتلوا قبل أن يطعم، وبقيت العشرون معه فأخذت منه وقت الحرب، فأخذ منه يومئذ مائة أوقية وثمانون أوقية. فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد تركتني ما حييت أسأل قريشا بكفي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أين الذهب الذي تركته عند امرأتك أم الفضل)؟ فقال العباس: أي ذهب؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك قلت لها لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولولدك) فقال: يا ابن أخي، من أخبرك بهذا؟ قال: (الله أخبرني). قال العباس: أشهد أنك صادق، وما علمت أنك رسول الله قط إلا اليوم، وقد علمت أنه لم يطلعك عليه إلا عالم السرائر، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، وكفرت بما سواه. وأمر ابني أخويه فأسلما، ففيهما نزلت }يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى}. وكان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة، وكان رجلا قصيرا، وكان العباس ضخما طويلا، فلما جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لقد أعانك عليه ملك).
قوله تعالى{إن يعلم الله في قلوبكم خيرا} أي إسلاما. }يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم} أي من الفدية. قيل في الدنيا. وقيل في الآخرة. وفي صحيح مسلم أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مال من البحرين قال له العباس: إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذ) فبسط ثوبه وأخذ ما استطاع أن يحمله. مختصر. في غير الصحيح: فقال له العباس هذا خير مما أخذ مني، وأنا بعد أرجو أن يغفر الله لي. قال العباس: وأعطاني زمزم، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة. وأسند الطبري إلى العباس أنه قال: في نزلت حين أعلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي، وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقية التي أخذت مني قبل المفاداة فأبى. وقال: (ذلك فيء) فأبدلني الله من ذلك عشرين عبدا كلهم تاجر بمالي. وفي مصنف أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص. قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها)؟ فقالوا: نعم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليه أو وعده أن يخلي سبيل زينب إليه. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار فقال: (كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها). قال ابن إسحاق: وذلك بعد بدر بشهر. قال عبدالله بن أبي بكر: حدثت عن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت: لما قدم أبو العاص مكة قال لي: تجهزي، فالحقي بأبيك. قالت: فخرجت أتجهز فلقيتني هند بنت عتبة فقالت: يا بنت محمد، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك؟ فقلت لها: ما أردت ذلك. فقالت، أي بنت عم، لا تفعلي، إني امرأة موسرة وعندي سلع من حاجتك، فإن أردت سلعة بعتكها، أو قرضا من نفقة أقرضتك، فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال. قالت: فوالله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل، فخفتها فكتمتها وقلت: ما أريد ذلك. فلما فرغت زينب من جهازها ارتحلت وخرج بها حموها يقود بها نهارا كنانة بن الربيع. وتسامع بذلك أهل مكة، وخرج في طلبها هبار بن الأسود ونافع بن عبدالقيس الفهري، وكان أول من مبق إليها هبار فروعها بالرمح وهي في هودجها. وبرك كنانة ونثر نبله، ثم أخذ قوسه وقال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما. وأقبل أبو سفيان في أشراف قريش فقال: يا هذا، أمسك عنا نبلك حتى نكلمك، فوقف عليه أبو سفيان وقال: إنك لم تصنع شيئا، خرجت بالمرأة على رؤوس الناس، وقد عرفت مصيبتنا التي أصابتنا ببدر فتظن العرب وتتحدث أن هذا وهن منا وضعف خروجك إليه بابنته على رؤوس الناس من بين أظهرنا. أرجع بالمرأة فأقم بها أياما، ثم سلها سلا رفيقا في الليل فألحقها بأبيها، فلعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا في ذلك الآن من ثورة فيما أصاب منا، ففعل فلما مر به يومان أو ثلاثة سلها، فانطلقت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أنها قد كانت ألقت - للروعة التي أصابتها حين روعها هبار بن أم درهم - ما في بطنها.
قال ابن العربي{لما أسر من أسر من المشركين تكلم قوم منهم بالإسلام ولم يمضوا فيه عزيمة ولا اعترفوا به اعترافا جازما. ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين ولا يبعدوا من المشركين. قال علماؤنا: إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمنا. وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافرا، إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر على دفعها فإن الله قد عفا عنها وأسقطها. وقد بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الحقيقة فقال{إن يريدوا خيانتك} أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكرا }فقد خانوا الله من قبل} بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك. وإن كان هذا القول منهم خيرا ويعلمه الله فيقبل منهم ذلك ويعوضهم خيرا مما خرج عنهم ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم}. وجمع خيانة خيائن، وكان يجب أن يقال: خوائن لأنه من ذوات الواو، إلا أنهم فرقوا بينه وبين جمع خائنة. ويقال: خائن وخوان وخونة وخانة.
الآية رقم ( 72 )
{إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير}
قوله تعالى{إن الذين آمنوا} ختم السورة بذكر الموالاة ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به. وقد تقدم معنى الهجرة والجهاد لغة ومعنى. }والذين آووا ونصروا} معطوف عليه. وهم الأنصار الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم، وانضوى إليهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون. }أولئك} رفع بالابتداء. }بعضهم} ابتداء ثان }أولياء بعض} خبره، والجميع خبر }إن}. قال ابن عباس{أولياء بعض} في الميراث، فكانوا يتوارثون بالهجرة، وكان لا يرث من آمن ولم يهاجر من هاجر فنسخ الله ذلك بقول{وأولوا الأرحام} الآية. أخرجه أبو داود. وصار الميراث لذوي الأرحام من المؤمنين. ولا يتوارث أهل ملتين شيئا. ثم جاء قوله عليه السلام: (ألحقوا الفرائض بأهلها) على ما تقدم بيانه في آية المواريث. وقيل: ليس هنا نسخ، وإنما معناه في النصرة والمعونة، كما تقدم في }النساء}. }والذين آمنوا} ابتداء والخبر }ما لكم من ولايتهم من شيء} وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة }من ولايتهم} بكسر الواو. وقيل هي لغة. وقيل: هي من وليت الشيء، يقال: ولي بين الولاية. ووال بين الولاية. والفتح في هذا أبين وأحسن، لأنه بمعنى النصرة والنسب. وقد تطلق الولاية والولاية بمعنى الإمارة.
قوله تعالى{وإن استنصروكم في الدين} يريد إن دعوا هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم، فذلك فرض عليكم فلا تخذلوهم. إلا أن يستنصروكم على قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم عليه، ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدته. ابن العربي: إلا أن يكونوا أسراء مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة، حتى لا تبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم. كذلك قال مالك وجميع العلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون، على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال والقدرة والعدد والقوة والجلد. الزجاج: ويجوز }فعليكم النصر} بالنصب على الإغراء.
الآية رقم ( 73 )
{والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}
قوله تعالى{والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} قطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين، فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء بعض، يتناصرون بدينهم ويتعاملون باعتقادهم. قال علماؤنا في الكافرة يكون لها الأخ المسلم: لا يزوجها، إذ لا ولاية بينهما، ويزوجها أهل ملتها. فكما لا يزوج المسلمة إلا مسلم فكذلك الكافرة لا يزوجها إلا كافر قريب لها، أو أسقف، ولو من مسلم، إلا أن تكون معتقة، فإن عقد على غير المعتقة فسخ إن كان لمسلم، ولا يعرض للنصراني. وقال أصبغ: لا يفسخ، عقد المسلم أولى وأفضل.
قوله تعالى{إلا تفعلوه} الضمير عائد على الموارثة والتزامها. المعنى: إلا تتركوهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون، قاله ابن زيد. وقيل: هي عائدة على التناصر والمؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي. ابن جريج وغيره: وهذا إن لم يفعل تقع الفتنة عنه عن قريب، فهو أكد من الأول. وذكر الترمذي عن عبدالله بن مسلم بن هرمز عن محمد وسعد ابني عبيد عن أبي حاتم المزني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه؟ قال: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) ثلاث مرات. قال: حديث غريب. وقيل: يعود على حفظ العهد والميثاق الذي تضمنه قوله{إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق}. وهذا وإن لم يفعل فهو الفتنة نفسها. وقيل: يعود على النصر للمسلمين في الدين. وهو معنى القول الثاني. قال ابن إسحاق: جعل الله المهاجرين والأنصار أهل ولايته في الدين دون من سواهم، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض. ثم قال{إلا تفعلوه} وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمنين. }تكن فتنة} أي محنة بالحرب، وما أنجر معها من الغارات والجلاء والأسر. والفساد الكبير: ظهور الشرك. قال الكسائي: ويجوز النصب في قوله{تكن فتنة} على معنى تكن فعلتكم فتنة وفسادا كبيرا.
الآية رقم ( 74 : 75 )
{والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم، والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم}
قوله تعالى{حقا} مصدر، أي حققوا إيمانهم بالهجرة والنصرة. وحقق الله إيمانهم بالبشارة في قوله{لهم مغفرة ورزق كريم} أي ثواب عظيم في الجنة.
قوله تعالى{والذين آمنوا من بعد وهاجروا} يريد من بعد الحديبية وبيعة الرضوان. وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة الأولى. والهجرة الثانية هي التي وقع فيها الصالح، ووضعت الحرب أوزارها نحو عامين ثم كان فتح مكة. ولهذا قال عليه السلام: (لا هجرة بعد الفتح). فبين أن من آمن وهاجر من بعد يلتحق بهم. ومعنى }منكم} أي مثلكم في النصر والموالاة.
قوله تعالى{وأولوا الأرحام} ابتداء. والواحد ذو، والرحم مؤنثة، والجمع أرحام. والمراد بها ههنا العصبات دون المولود بالرحم. ومما يبين أن المراد بالرحم العصبات قول العرب: وصلتك رحم. لا يريدون قرابة الأم. قالت قتيلة بنت الحارث - أخت النضر بن الحارث - كذا قال ابن هشام. قال السهيلي: الصحيح أنها بنت النضر لا أخته، كذا وقع في كتاب الدلائل - ترثي أباها حين قتله النبي صلى الله عليه وسلم صبرا - بالصفراء:
يا راكبا إن الأثيل مظنة من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ بها ميتا بأن تحية ما إن تزال بها النجائب تخفق
مني إليك وعبرة مسفوحة جادت بواكفها وأخرى تخنق
هل يسمعني النضر إن ناديته أم كيف يسمع ميت لا ينطق
أمحمد يا خير ضنء كريمة في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيط المحنق
لو كنت قابل فدية لفديته بأعز ما يفدى به ما ينفق
فالنضر أقرب من أسرت قرابة وأحقهم إن كان عتق يعتق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تشقق
صبرا يقاد إلى المنية متعبا رسف المقيد وهو عان موثق
واختلف السلف ومن بعدهم في توريث ذوي الأرحام - وهو من لا سهم له في الكتاب - من قرابة الميت وليس بعصبة، كأولاد البنات، وأولاد الأخوات وبنات الأخ، والعمة والخالة، والعم أخ الأب للأم، والجد أبي الأم، والجدة أم الأم، ومن أدلى بهم. فقال قوم: لا يرث من لا فرض له من ذوي الأرحام. وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر، ورواية عن علي، وهو قول أهل المدينة، وروي عن مكحول والأوزاعي، وبه قال الشافعي رضي الله عنه. وقال بتوريثهم: عمر بن الخطاب وابن مسعود ومعاذ وأبو الدرداء وعائشة وعلي في رواية عنه، وهو قول الكوفيين وأحمد وإسحاق. واحتجوا بالآية، وقالوا: وقد اجتمع في ذوي الأرحام سببان القرابة والإسلام، فهم أولى ممن له سبب واحد وهو الإسلام. أجاب الأولون فقالوا: هذه آية مجملة جامعة، والظاهر بكل رحم قرب أو بعد، وآيات المواريث مفسرة والمفسر قاض على المجمل ومبين. قالوا: وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الولاء سببا ثابتا، أقام المولى فيه مقام العصبة فقال: (الولاء لمن أعتق). ونهى عن بيع الولاء وعن هبته. احتج الآخرون بما روى أبو داود والدارقطني عن المقدام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك كلا فإلي - وربما قال فإلى الله وإلى رسوله - ومن ترك مالا فلورثته فأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه والخال وأرث من لا وارث له يعقل عنه. ويرثه). وروى الدارقطني عن طاوس قال قالت عائشة رضي الله عنها: (الله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له). موقوف. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الخال وارث). وروي عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميراث العمة والخالة فقال (لا أدري حتى يأتيني جبريل) ثم قال: (أين السائل عن ميراث العمة والخالة)؟ قال: فأتى الرجل فقال: (سارني جبريل أنه لا شيء لهما). قال الدارقطني: لم يسنده غير مسعدة عن محمد بن عمرو وهو ضعيف، والصواب مرسل. وروي عن الشعبي قال قال زياد بن أبي سفيان لجليسه: هل تدري كيف قضى عمر في العمة والخالة؟ قال لا. قال: إني لأعلم خلق الله كيف قضى فيهما عمر، جعل الخالة بمنزلة الأم، والعمة بمنزلة الأب
في أسمائها. قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس رضي الله عنه عن سورة براءة فقال: تلك الفاضحة ما زال ينزل: ومنهم ومنهم حتى خفنا ألا تدع أحدا. قال القشيري أبو نصر عبدالحميد: هذه السورة نزلت في غزوة تبوك ونزلت بعدها. وفي أولها نبذ عهود الكفار إليهم. وفي السورة كشف أسرار المنافقين. وتسمى الفاضحة والبحوث، لأنها تبحث عن أسرار المنافقين وتسمى المبعثرة والبعثرة: البحث.
واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أول هذه السورة على أقوال خمسة: [الأول] أنه قيل كان من شأن العرب في زمانها في الجاهلية إذا كان بينهم وبين قوم عهد فإذا أرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه بسملة فلما نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقرأها عليهم في الموسم ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادتهم في نقض العهد من ترك البسملة. وقول ثان: روى النسائي قال حدثنا أحمد قال حدثنا محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد قال حدثنا عوف قال حدثنا يزيد الرقاشي قال قال لنا ابن عباس: قلت لعثمان ما حملكم إلى أن عمدتم إلى [الأنفال] وهي من المثاني وإلى [براءة] وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطول فما حملكم على ذلك؟ قال عثمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: (ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا). وتنزل عليه الآيات فيقول: (ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا). وكانت (1) من أوائل ما أنزلو (2) من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنه منها فظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم. وخرجه أبو عيسى الترمذي وقال: هدا حديث حسن. وقول ثالث: روي عن عثمان أيضا. وقال مالك فيما رواه ابن وهب وابن القاسم وابن عبدالحكم: إنه لما سقط أولها سقط بسم الله الرحمن الرحيم معه. وروي ذلك عن ابن عجلان أنه بلغه أن سورة [براءة] كانت تعدل البقرة أو قربها فذهب منها فلذلك لم يكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم. وقال سعيد بن جبير: كانت مثل سورة البقرة. وقول رابع: قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما. قالوا: لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: براءة والأنفال سورة واحدة. وقال بعضهم: هما سورتان. فتركت بينهما فرجة لقول من قال أنهما سورتان وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة فرضي الفريقان معا وثبتت حجتاهما في المصحف. وقول خامس: قال عبدالله بن عباس: سألت علي بن أبي طالب لم لم يكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان. وروي معناه عن المبرد قال: ولذلك لم يجمع بينهما فإن بسم الله الرحمن الرحيم رحمة وبراءة نزلت سخطة. ومثله عن سفيان. قال سفيان بن عيينة: إنما لم تكتب في صدر هذه السورة بسم الله الرحمن الرحيم لأن التسمية رحمة والرحمة أمان وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف ولا أمان للمنافقين. والصحيح أن التسمية لم تكتب لأن جبريل عليه السلام ما نزل بها في هذه السورة قاله القشيري. وفي قول عثمان: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه وأن براءة وحدها ضمت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صلى الله عليه وسلم لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك. وكانتا تدعيان القرينتين فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى للوصف الذي لزمهما من الاقتران ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي.
قال ابن العربي: هذا دليل على أن القياس أصل في الدين ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجؤوا إلى قياس الشبه عند عدم النص ورأوا أن قصة [براءة] شبيهة بقصة [الأنفال] فألحقوها بها؟ فإذا كان الله تعالى قد بين دخول القياس في تأليف القرآن فما ظنك بسائر الأحكام.
الآية رقم ( 1 )
{براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين}
قوله تعالى{براءة} تقول: برئت من الشيء أبرأ براءة فأنا منه بريء إذا أزلته عن نفسك وقطعت سبب ما بينك وبينه. و}براءة} رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذه براءة. ويصح أن ترفع بالابتداء. والخبر في قوله{إلى الذين}. وجاز الابتداء بالنكرة لأنها موصوفة فتعرفت تعريفا ما وجاز الإخبار عنها. وقرأ عيسى بن عمر }براءة} بالنصب على تقدير التزموا براءة ففيها معنى الإغراء. وهي مصدر على فعالة كالشناءة والدناءة.
قوله تعالى{إلى الذين عاهدتم من المشركين} يعني إلى الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان المتولي للعقود وأصحابه بذلك كلهم راضون فكأنهم عاقدوا وعاهدوا فنسب العقد إليهم. وكذلك ما عقده أئمة الكفر على قومهم منسوب إليهم محسوب عليهم يؤاخذون به إذ لا يمكن غير ذلك فإن تحصيل الرضا من الجميع متعذر فإذا عقد الإمام لما يراه من المصلحة أمرا لزم جميع الرعايا.
الآية رقم ( 2 )
{فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين}
قوله تعالى{فسيحوا} رجع من الخبر إلى الخطاب أي قل لهم سيحوا أي سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين آمنين غير خائفين أحدا من المسلمين بحرب ولا سلب ولا قتل ولا أسر. يقال ساح فلان في الأرض يسيح سياحة وسيوحا وسيحانا ومنه السيح في الماء الجاري المنبسط ومنه قول طرفة بن العبد:
لو خفت هذا منك ما نلتني حتى ترى خيلا أمامي تسيح
واختلف العلماء في كيفية هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ الله منهم ورسوله. فقال محمد بن إسحاق وغيره: هما صنفان من المشركين أحدهما كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر فأمهل تمام أربعة أشهر والآخر كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه. ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيث ما أدرك ويؤسر إلا أن يتوب وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من شهر ربيع الآخر فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأربعة الأشهر الحرم وذلك خمسون يوما: عشرون من ذي الحجة والمحرم. وقال الكلبي: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون أربعة أشهر ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله }فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم}التوبة: 4] وهذا اختيار الطبري وغيره. وذكر محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما: أن هذه الآية نزلت في أهل مكة. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح قريشا عام الحديبية، على أن يضعوا الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل بنو بكر في عهد قريش، فعدت بنو بكر على خزاعة ونقضوا عهدهم. وكان سبب ذلك دما كان لبني بكر عند خزاعة قبل الإسلام بمدة، فلما كانت الهدنة المنعقدة يوم الحديبية، أمن الناس بعضهم بعضا، فاغتنم بنو الديل من بني بكر - وهم الذين كان الدم لهم - تلك الفرصة وغفلة خزاعة، وأرادوا إدراك ثأر بني الأسود بن رزن، الذين قتلهم خزاعة، فخرج نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة، حتى بيتوا خزاعة واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقوم من قريش أعانوهم بأنفسهم، فانهزمت خزاعة إلى الحرم على ما هو مشهور مسطور، فكان ذلك نقضا للصلح الواقع يوم الحديبية، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي وبديل بن ورقاء الخزاعي وقوم من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغيثين فيما أصابهم به بنو بكر وقريش، وأنشد عمرو بن سالم فقال:
يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه ألا تلدا
كنت لنا أبا وكنا ولدا ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا عتدا وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل الشمس ينمو صعدا
إن سيم خسفا وجهه تربدا في فليق كالبحر يجري مربدا
إن قريش أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نصرت إن لم أنصر كعب). ثم نظر إلى سحابة فقال: (إنها لتستهل لنصر بني كعب) يعني خزاعة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبديل بن ورقاء ومن معه: (إن أبا سفيان سيأتي ليشد العقد ويزيد في الصلح وسينصرف بغير حاجة). فندمت قريش على ما فعلت، فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليستديم العقد ويزيد في الصلح، فرجع بغير حاجة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما هو معروف من خبره. وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ففتحها الله، وذلك في سنة ثمان من الهجرة. فلما بلغ هوازن فتح مكة جمعهم مالك بن عوف النصري، على ما هو معروف مشهور من غزاة حنين. وسيأتي بعضها. وكان الظفر والنصر للمسلمين على الكافرين. وكانت وقعة هوازن يوم حنين في أول شوال من السنة الثامنة من الهجرة. وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم من الأموال والنساء، فلم يقسمها حتى أتى الطائف، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وعشرين ليلة. وقيل غير ذلك. ونصب عليهم المنجنيق ورماهم به، على ما هو معروف من تلك الغزاة. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، وقسم غنائم حنين، على ما هو مشهور من أمرها وخبرها. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا، وأقام الحج للناس عتاب بن أسيد في تلك السنة. وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام. وحج المشركون على مشاعرهم. وكان عتاب بن أسيد خيرا فاضلا ورعا. وقدم كعب بن زهير بن أبي سلمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتدحه، وأقام على رأسه بقصيدته التي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
وأنشدها إلى آخرها، وذكر فيها المهاجرين فأثنى عليهم - وكان قبل دلك قد حفظ له هجاء في النبي صلى الله عليه وسلم - فعاب عليه الأنصار إذ لم يذكرهم، فغدا على النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة يمتدح فيها الأنصار فقال:
من سره كرم الحياة فلا يزل في مقنب من صالحي الأنصار
ورثوا المكارم كابرا عن كابر إن الخيار هم بنو الأخيار
المكرهين السمهري بأذرع كسوافل الهندي غير قصار
والناظرين بأعين محمرة كالجمر غير كليلة الأبصار
والبائعين نفوسهم لنبيهم للموت يوم تعانق وكرار
يتطهرون يرونه نسكا لهم بدماء من علقوا من الكفار
دربوا كما دربت ببطن خفية غلب الرقاب من الأسود ضوار
وإذا حللت ليمنعوك إليهم أصبحت عند معاقل الأغفار
ضربوا عليا يوم بدر ضربة دانت لوقعتها جميع نزار
لو يعلم الأقوام علمي كله فيهم لصدقني الذين أماري
قوم إذا خوت النجوم فإنهم للطارقين النازلين مقاري
ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد انصرافه من الطائف ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الأول وجمادى الآخر، وخرج في رجب من سنة تسع بالمسلمين إلى غزوة الروم غزوة تبوك. وهي شخر غزوة غزاها. قال ابن جريج عن مجاهد: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك أراد الحج ثم قال: (إنه يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك). فأرسل أبا بكر أميرا على الحج، وبعث معه بأربعين آية من صدر [براءة] ليقرأها على أهل الموسم. فلما خرج دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليا وقال: (أخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا). فخرج عليٌ على ناقة النبي صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر الصديق رضي الله عنهما بذي الحليفة. فقال له أبو بكر لما رآه: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور ثم نهضا، فأقام أبو بكر للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية. في كتاب النسائي عن جابر وأن عليا قرأ على الناس [براءة] حتى ختمها قبل يوم التروية بيوم. وفي يوم عرفة وفي يوم النحر عند انقضاء خطبة أبي بكر في الثلاثة الأيام. فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس، فحدثهم كيف ينفرون وكيف يرمون، يعلمهم مناسكهم. فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس [براءة] حتى ختمها. وقال سليمان بن موسى: لما خطب أبو بكر بعرفة قال قم يا علي فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام علي ففعل. قال: ثم وقع في نفسي أن جميع الناس لم يشاهدوا خطبة أبي بكر، فجعلت أتتبع الفساطيط يوم النحر. وروى الترمذي عن زيد بن يثيع قال: سألت عليا بأي شيء بعثت في الحج؟ قال: بعثت بأربع: ألا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا. قال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي وقال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي. قال أبو عمر: بعث علي لينبذ إلى كل ذي عهد عهده، ويعهد إليهم ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وأقام الحج في ذلك العام سنة تسع أبو بكر. ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قابل حجته التي لم يحج غيرها من المدينة، فوقعت حجته في ذي الحجة فقال: (إن الزمان قد استدار...) الحديث، على ما يأتي في آية النسيء بيانه. وثبت الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة. وذكر مجاهد: أن أبا بكر حج في ذي القعدة من سنة تسع. ابن العربي: وكانت الحكمة في إعطاء [براءة] لعلي أن براءة تضمنت نقض العهد الذي كان عقده النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت سيرة العرب ألا يحل العقد إلا الذي عقده أو رجل من أهل بيته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع ألسنة العرب بالحجة، ويرسل ابن عمه الهاشمي من بيته ينقض العهد، حتى لا يبقى لهم متكلم. قال معناه الزجاج.
قال العلماء: وتضمنت الآية جواز قطع العهد بيننا وبين المشركين. ولذلك حالتان: حالة تنقضي المدة بيننا وبينهم فنؤذنهم بالحرب. والإيذان اختيار. والثانية: أن نخاف منهم غدرا، فننبذ إليهم عهدهم كما سبق. ابن عباس: والآية منسوخة فإن النبي صلى الله عليه وسلم عاهد ثم نبذ العهد لما أمر بالقتال.
الآية رقم ( 3 )
{وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم}
قوله تعالى{وأذان} الأذان: الإعلام لغة من غير خلاف. وهو عطف على }براءة}. }إلى الناس} الناس هنا جميع الخلق. }يوم الحج الأكبر} ظرف، والعامل فيه }أذان}. وإن كان قد وصف بقوله{من الله}، فإن رائحة الفعل فيه باقية، وهي عاملة في الظروف. وقيل: العامل فيه }مخزي} ولا يصح عمل }أذان}، لأنه قد وصف فخرج عن حكم الفعل.
واختلف العلماء في الحج الأكبر، فقيل: يوم عرفة. روي عن عمر وعثمان وابن عباس وطاوس ومجاهد. وهو مذهب أبي حنيفة، وبه قال الشافعي. وعن علي وابن عباس أيضا وابن مسعود وابن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة أنه يوم النحر. واختاره الطبري. وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر في الحجة التي حج فيها فقال: (أي يوم هذا) فقالوا: يوم النحر فقال: (هذا يوم الحج الأكبر). أخرجه أبو داود. وخرج البخاري عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه فيمن يؤذن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. ويوم الحج الأكبر يوم النحر. وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس: الحج الأصغر. فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم مشرك. وقال ابن أبي أوفى: يوم النحر يوم الحج الأكبر، يهراق فيه الدم، ويوضع فيه الشعر، ويلقى فيه التفث، وتحل فيه الحرم. وهذا مذهب مالك، لأن يوم النحر فيه كالحج كله، لأن الوقوف إنما هو ليلته، والرمي والنحر والحلق والطواف في صبيحته. احتج الأولون بحديث مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوم الحج الأكبر يوم عرفة). رواه إسماعيل القاضي. وقال الثوري وابن جريج: الحج الأكبر أيام منى كلها. وهذا كما يقال: يوم صفين ويم الجمل ويوم بعاث، فيراد به الحين والزمان لا نفس اليوم. وروي عن مجاهد: الحج الأكبر القران، والأصغر الإفراد. وهذا ليس من الآية في شيء. وعنه وعن عطاء: الحج الأكبر الذي فيه الوقوف بعرفة، والأصغر العمرة. وعن مجاهد أيضا: أيام الحج كلها. وقال الحسن وعبدالله بن الحارث بن نوفل: إنما سمي يوم الحج الأكبر لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون، واتفقت فيه يومئذ أعياد الملل: اليهود والنصارى والمجوس. قال ابن عطية: هذا ضعيف أن يصفه الله عز وجل في كتابه بالأكبر لهذا. وعن الحسن أيضا: إنما سمي الأكبر لأنه حج فيه أبو بكر ونبذت فيه العهود. وهذا الذي يشبه نظر الحسن. وقال ابن سيرين: يوم الحج الأكبر العام الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وحجت معه فيه الأمم.
قوله تعالى{أن الله بريء من المشركين ورسوله} }أن} بالفتح في موضع نصب. والتقدير بأن الله. ومن قرأ بالكسر قدره بمعنى قال إن الله }بريء} خبر أن. }ورسوله} عطف على الموضع، وإن شئت على المضمر المرفوع في }بريء}. كلاهما حسن؛ لأنه قد طال الكلام. وإن شئت على الابتداء والخبر محذوف؛ التقدير: ورسوله بريء منهم. ومن قرأ }ورسوله} بالنصب - وهو الحسن وغيره - عطفه على اسم الله عز وجل على اللفظ. وفي الشواذ }رسوله} بالخفض على القسم، أي وحق رسوله؛ ورويت عن الحسن. وقد تقدمت قصة عمر فيها أول الكتاب. }فإن تبتم} أي عن الشرك. }فهو خير لكم} أي أنفع لكم. }وإن توليتم} أي عن الإيمان. }فاعلموا أنكم غير معجزي الله} أي فائتيه؛ محيط بكم ومنزل عقابه عليكم.
الآية رقم ( 4 )
{إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين}
قوله تعالى{إلا الذين عاهدتم من المشركين} في موضع نصب بالاستثناء المتصل، المعنى: أن الله بريء من المشركين إلا من المعاهدين في مدة عهدهم. وقيل: الاستثناء منقطع، أي أن الله بريء منهم ولكن الذين عاهدتم فثبتوا على العهد فأتموا إليهم عهدهم. وقوله{ثم لم ينقصوكم} يدل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده ومنهم من ثبت على الوفاء، فأذن الله سبحانه لنبييه صلى الله عليه وسلم في نقض عهد من خاس، وأمر بالوفاء لمن بقي على عهده إلى مدته. ومعنى }لم ينقصوكم} أي من شروط العهد شيئا. }ولم يظاهروا} لم يعاونوا. وقرأ عكرمة وعطاء بن يسار }ثم لم ينقضوكم} بالضاد معجمة على حذف مضاف، التقدير ثم لم ينقضوا عهدهم. يقال: إن هذا مخصوص يراد به بنو ضمرة خاصة. ثم قال{فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} أي وإن كانت أكثر من أربعة أشهر.
الآية رقم ( 5 )
{فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم}
قوله تعالى{فإذا انسلخ الأشهر الحرم} أي خرج. وسلخت الشهر إذا صرت في أواخر أيامه، تسلخه سلخا وسلوخا بمعنى خرجت منه. وقال الشاعر:
إذا ما سلخت الشهر أهللت قبله كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي
وانسلخ الشهر وانسلخ النهار من الليل المقبل. وسلخت المرأة درعها نزعته وفي التنزيل{وآية لهم الليل نسلخ منه النهار}يس: 37]. ونخلة مسلاخ، وهي التي ينتثر بسرها أخضر.
والأشهر الحرم فيها للعلماء قولان: قيل هي الأشهر المعروفة، ثلاثة سرد وواحد فرد. قال الأصم: أريد به من لا عقد له من المشركين، فأوجب أن يمسك عن قتالهم حتى ينسلخ الحرم، وهو مدة خمسين يوما على ما ذكره ابن عباس، لأن النداء كان بذلك يوم النحر. وقد تقدم هذا. وقيل: شهور العهد أربعة، قاله مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمرو بن شعيب. وقيل لها حرم لأن الله حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين والتعرض لهم إلا على سبيل الخير.
قوله تعالى{فاقتلوا المشركين} عام في كل مشرك، لكن السنة خصت منه ما تقدم بيانه في سورة }البقرة} من امرأة وراهب وصبي وغيرهم. وقال الله تعالى في أهل الكتاب{حتى يعطوا الجزية}. إلا أنه يجوز أن يكون لفظ المشركين لا يتناول أهل الكتاب، ويقتضي ذلك منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان وغيرهم، على ما يأتي بيانه. واعلم أن مطلق قوله{اقتلوا المشركين} يقتضي جواز قتلهم بأي وجه كان، إلا أن الأخبار وردت بالنهي عن المثلة. ومع هذا فيجوز أن يكون الصديق رضي الله عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق بالنار، وبالحجارة وبالرمي من رؤوس الجبال، والتنكيس في الآبار، تعلق بعموم الآية. وكذلك إحراق علي رضي الله عنه قوما من أهل الردة يجوز أن يكون ميلا إلى هذا المذهب، واعتمادا على عموم اللفظ. والله أعلم.
قوله تعالى{حيث وجدتموهم} عام في كل موضع. وخص أبو حنيفة رضي الله عنه المسجد الحرام، كما سبق في سورة }البقرة} ثم اختلفوا، فقال الحسين بن الفضل: نسخت هذه كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء. وقال الضحاك والسدي وعطاء: هي منسوخة بقوله{فإما منا بعد وإما فداء}محمد: 4]. وأنه لا يقتل أسير صبرا، إما أن يمن عليه وإما أن يفادى. وقال مجاهد وقتادة: بل هي ناسخة لقوله تعالى{فإما منا بعد وإما فداء} وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل. وقال ابن زيد: الآيتان محكمتان. وهو الصحيح، لأن المن والقتل والفداء لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب حاربهم، وهو يوم بدر كما سبق. وقوله{وخذوهم} يدل عليه. والأخذ هو الأسر. والأسر إنما يكون للقتل أو الفداء أو المن على ما يراه الإمام. ومعنى{احصروهم} يريد عن التصرف إلى بلادكم والدخول إليكم، إلا أن تأذنوا لهم فيدخلوا إليكم بأمان.
قوله تعالى{واقعدوا لهم كل مرصد} المرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، يقال: رصدت فلانا أرصده، أي رقبته. أي اقعدوا لهم في مواضع الغرة حيث يرصدون. قال عامر بن الطفيل:
ولقد علمت وما إخالك ناسيا أن المنية للفتى بالمرصد
وقال عدي:
أعاذل إن الجاهل من لذة الفتى وإن المنايا للنفوس بمرصد
وفي هذا دليل على جواز اغتيالهم قبل الدعوة. ونصب }كل} على الظرف، وهو اختيار الزجاج، ويقال: ذهبت طريقا وذهبت كل طريق. أو بإسقاط الخافض، التقدير: في كل مرصد وعلى كل مرصد، فيجعل المرصد اسما للطريق. وخطأ أبو علي الزجاج في جعله الطريق ظرفا وقال: الطريق مكان مخصوص كالبيت والمسجد، فلا يجوز حذف حرف الجر منه إلا فيما ورد فيه الحذف سماعا، كما حكى سيبويه: دخلت الشام ودخلت البيت، وكما قيل:
كما عسل الطريق الثعلب
قوله تعالى{فإن تابوا} أي من الشرك. }وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} هذه الآية فيها تأمل، وذلك أن الله تعالى علق القتل على الشرك، ثم قال{فإن تابوا}. والأصل أن القتل متى كان الشرك يزول بزواله، ودلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة، من غير اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة والزكاة. وهذا بين في هدا المعنى، غير أن الله تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين، فلا سبيل إلى إلغائهما. نظيره قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله). وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:(والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال) وقال ابن عباس: رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه. وقال ابن العربي: فانتظم القرآن والسنة واطردا. ولا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلا كفر، ومن ترك السنن متهاونا فسق، ومن ترك النوافل لم يحرج، إلا أن يجحد فضلها فيكفر، لأنه يصير رادا على الرسول عليه السلام ما جاء به وأخبر عنه. واختلفوا فيمن ترك الصلاة من غير جحد لها ولا استحلال، فروى يونس بن عبدالأعلى قال: سمعت ابن وهب يقول قال مالك: من آمن بالله وصدق المرسلين وأبى أن يصلي قتل، وبه قال أبو ثور وجميع أصحاب الشافعي. وهو قول حماد بن زيد ومكحول ووكيع. وقال أبو حنيفة: يسجن ويضرب ولا يقتل، وهو قول ابن شهاب وبه يقول داود بن علي. ومن حجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها). وقالوا: حقها الثلاث التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس). وذهبت جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن من ترك صلاة واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها لغير عذر، وأبى من أدائها وقضائها وقال لا أصلي فإنه كافر، ودمه وماله حلالان، ولا يرثه ورثته من المسلمين، ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وحكم ماله كحكم مال المرتد، وهو قول إسحاق. قال إسحاق: وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا. وقال ابن خويز منداد: واختلف أصحابنا متى يقتل تارك الصلاة، فقال بعضهم في آخر الوقت المختار، وقال بعضهم آخر وقت الضرورة، وهو الصحيح من ذلك. وذلك أن يبقى من وقت العصر أربع ركعات إلى مغيب الشمس، ومن الليل أربع ركعات لوقت العشاء، ومن الصبح ركعتان قبل طلوع الشمس. وقال إسحاق: وذهاب الوقت أن يؤخر الظهر إلى غروب الشمس والمغرب إلى طلوع الفجر.
هذه الآية دالة على أن من قال: قد تبت أنه لا يجتزأ بقوله حتى ينضاف إلى ذلك أفعاله المحققة للتوبة، لأن الله عز وجل شرط هنا مع التوبة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليحقق بهما التوبة. وقال في آية الربا }وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم}البقرة:279]. وقال{إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا}البقرة: 160] وقد تقدم معنى هذا في سورة البقرة.
الآية رقم ( 6 )
{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون}
قوله تعالى{وإن أحد من المشركين} أي من الذين أمرتك بقتالهم. }استجارك} أي سأل جوارك، أي أمانك وذمامك، فأعطه إياه ليسمع القرآن، أي يفهم أحكامه وأوامره ونواهيه. فإن قبل أمرا فحسن، وإن أبى فرده إلى مأمنه. وهذا ما لا خلاف فيه. والله أعلم. قال مالك: إذا وجد الحربي في طريق بلاد المسلمين فقال: جئت أطلب الأمان. قال مالك: هذه أمور مشتبهة، وأرى أن يرد إلى مأمنه. قال ابن قاسم: وكذلك الذي يوجد وقد نزل تاجرا بساحلنا فيقول: ظننت ألا تعرضوا لمن جاء تاجرا حتى يبيع. وظاهر الآية إنما هي فيمن يريد سماع القرآن والنظر في الإسلام، فأما الإجارة لغير ذلك فإنما هي لمصلحة المسلمين والنظر فيما تعود عليهم به منفعته.
ولا خلاف بين كافة العلماء أن أمان السلطان جائز، لأنه مقدم للنظر والمصلحة، نائب عن الجميع في جلب المنافع ودفع المضار. واختلفوا في أمان غير الخليفة، فالحر يمضي أمانه عند كافة العلماء. إلا أن ابن حبيب قال: ينظر الإمام فيه. وأما العبد فله الأمان في مشهور المذهب، وبه قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق والأوزاعي والثوري وأبو ثور وداود ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة: لا أمان له، وهو القول الثاني لعلمائنا. والأول أصح، لقوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم). قالوا: فلما قال (أدناهم) جاز أمان العبد، وكانت المرأة الحرة أحرى بذلك، ولا اعتبار بعلة (لا يسهم له). وقال عبدالملك بن الماجشون: لا يجوز أمان المرأة إلا أن يجيزه الإمام، فشذ بقوله عن الجمهور. وأما الصبي فإذا أطاق القتال جاز أمانه، لأنه من جملة المقاتلة، ودخل في الفئة الحامية. وقد ذهب الضحاك والسدي إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله{فاقتلوا المشركين}. وقال الحسن: هي محكمة سنة إلى يوم القيامة، وقاله مجاهد. وقيل: هذه الآية إنما كان حكمها باقيا مدة الأربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلا، وليس بشيء. وقال سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الأربعة الأشهر فيسمع كلام الله ويأتيه بحاجة قتل فقال علي بن أبي طالب: لا، لأن الله تبارك وتعالى يقول{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله}. وهذا صحيح. والآية محكمة.
قوله تعالى{وإن أحد} }أحد} مرفوع بإضمار فعل كالذي بعده. وهذا حسن في }إن} وقبيح في أخواتها. ومذهب سيبويه في الفرق بين }إن} وأخواتها، أنها لما كانت أم حروف الشرط خصت بهذا، ولأنها لا تكون في غيره. وقال محمد بن يزيد: أما قوله - لأنها لا تكون في غيره - فغلط، لأنها تكون بمعنى - ما - ومخففة من الثقيلة ولكنها مبهمة، وليس كذا غيرها. وأنشد سيبويه:
لا تجرعي إن منفسا أهلكته وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
قال العلماء في قوله تعالى{حتى يسمع كلام الله} دليل على أن كلام الله عز وجل مسموع عند قراءة القارئ، قاله الشيخ أبو الحسن والقاضي أبو بكر وأبو العباس القلانسي وابن مجاهد وأبو إسحاق الإسفراييني وغيرهم، لقوله تعالى{حتى يسمع كلام الله} فنص على أن كلامه مسموع عند قراءة القارئ لكلامه. ويدل عليه إجماع المسلمين على أن القارئ إذا قرأ فاتحة الكتاب أو سورة قالوا: سمعنا كلام الله. وفرقوا بين أن يقرأ كلام الله تعالى وبين أن يقرأ شعر امرئ القيس. وقد مضى في سورة }البقرة} معنى كلام الله تعالى، وأنه ليس بحرف ولا صوت، والحمد لله.
الآية رقم ( 7 )
{كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين}
قوله تعالى{كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام} كيف هنا للتعجب، كما تقول: كيف يسبقني فلان أي لا ينبغي أن يسبقني. و}عهد} اسم يكون. وفي الآية إضمار، أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر، كما قال:
وخبرتماني إنما الموت بالقرى فكيف وهاتا هضبة وكثيب
التقدير: فكيف مات، عن الزجاج. وقيل: المعنى كيف يكون للمشركين عهد عند الله يأمنون به عذابه غدا، وكيف يكون لهم عند رسوله عهد يأمنون به عذاب الدنيا. ثم استثنى فقال{إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام}. قال محمد بن إسحاق: هم بنو بكر، أي ليس العهد إلا لهؤلاء الذين لم ينقضوا ولم ينكثوا. }فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين
أي فما أقاموا على الوفاء بعهدكم فأقيموا لهم على مثل ذلك ابن زيد: فلم يستقيموا فضرب لهم أجلا أربعة أشهر فأما من لا عهد له فقاتلوه حيث وجدتموه إلا أن يتوب.
الآية رقم ( 8 )
{كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون}
قوله تعالى{كيف وإن يظهروا عليكم} أعاد التعجب من أن يكون لهم عهد مع خبث أعمالهم، أي كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة. يقال: ظهرت على فلان أي غلبته، وظهرت البيت علوته، ومنه }فما استطاعوا أن يظهروه}الكهف: 97] أي يعلوا عليه.
قوله تعالى{لا يرقبوا فيكم} }يرقبوا} يحافظوا. والرقيب الحافظ. وقد تقدم. }إلا} عهدا، عن مجاهد وابن زيد. وعن مجاهد أيضا: هو اسم من أسماء الله عز وجل. ابن عباس والضحاك: قرابة. الحسن: جوارا. قتادة: حلفا، و}ذمة} عهدا. أبو عبيدة: يمينا. وعنه أيضا: إلا العهد، والذمة التذمم. الأزهري: اسم الله بالعبرانية، وأصله من الأليل وهو البريق، يقال أل لونه يؤل ألا، أي صفا ولمع. وقيل: أصله من الحدة، ومنه الألة للحربة، ومنه أذن مؤللة أي محددة. ومنه قول طرفة بن العبد يصف أذني ناقته بالحدة والانتصاب.
مؤللتان تعرف العتق فيهما كسامعتي شاة بحومل مفرد
فإذا قيل للعهد والجوار والقرابة }إل} فمعناه أن الأذن تصرف إلى تلك الجهة، أي تحدد لها. والعهد يسمى }إلا} لصفائه وظهوره. ويجمع في القلة آلال. وفي الكثرة إلال. وقال الجوهري وغيره: الإل بالكسر هو الله عز وجل، والإل أيضا العهد والقرابة. قال حسان:
لعمرك إن إلك من قريش كإل السقب من رأل النعام
قوله تعالى{ولا ذمة} أي عهدا. وهي كل حرمة يلزمك إذا ضيعتها ذنب. قال ابن عباس والضحاك وابن زيد: الذمة العهد. ومن جعل الإل العهد فالتكرير لاختلاف اللفظين. وقال أبو عبيدة معمر: الذمة التذمم. وقال أبو عبيد: الذمة الأمان في قوله عليه السلام: (ويسعى بذمتهم أدناهم). وجمع ذمة ذمم. وبئر ذمة - بفتح الذال - قليلة الماء، وجمعها ذمام. قال ذو الرمة:
على حميريات كأن عيونها ذمام الركايا أنكزتها المواتح
أنكزتها أذهبت ماءها. وأهل الذمة أهل العقد.
قوله تعالى{يرضونكم بأفواههم} أي يقولون بألسنتهم ما يرضي ظاهره. }وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون} أي ناقضون العهد. وكل كافر فاسق، ولكنه أراد ههنا المجاهرين بالقبائح ونقض العهد.
الآية رقم ( 9 )
{اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون}
يعني المشركين في نقضهم العهود بأكلة أطعمهم إياها أبو سفيان، قاله مجاهد. وقيل: إنهم استبدلوا بالقرآن متاع الدنيا. }فصدوا عن سبيله} أي أعرضوا، من الصدود أو منعوا عن سبيل الله، من الصد.
الآية رقم ( 10 )
{لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون}
قال النحاس: ليس هذا تكريرا، ولكن الأول لجميع المشركين والثاني لليهود خاصة. والدليل على هذا }اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا} يعني اليهود، باعوا حجج الله عز وجل وبيانه بطلب الرياسة وطمع في شيء. }وأولئك هم المعتدون} أي المجاوزون الحلال إلى الحرام بنقض العهد.
الآية رقم ( 11 )
{فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون}
قوله تعالى{فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة} أي عن الشرك والتزموا أحكام الإسلام. }فإخوانكم} أي فهم إخوانكم }في الدين}. قال ابن عباس: حرمت هذه دماء أهل القبلة. وقد تقدم هذا المعنى. وقال ابن زيد: افترض الله الصلاة والزكاة وأبى أن يفرق بينهما وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال ابن مسعود: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له. وفي حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فرق بين ثلاث فرق الله بينه وبين رحمته يوم القيامة من قال أطيع الله ولا أطيع الرسول والله تعالى يقول لك }أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}النساء: 59] ومن قال أقيم الصلاة ولا أوتي الزكاة والله تعالى يقول{وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}البقرة: 43] ومن فرق بين شكر الله وشكر والديه والله عز وجل يقول{أن اشكر لي ولوالديك}لقمان: 14]).
قوله تعالى{ونفصل الآيات} أي نبينها. }لقوم يعلمون} خصهم لأنهم هم المنتفعون بها. والله أعلم.
الآية رقم ( 12 )
{وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون}
قوله تعالى{وإن نكثوا أيمانهم} النكث النقض، وأصله في كل ما قتل ثم حل. فهي في الأيمان والعهود مستعارة. قال:
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها فليس لمخضوب البنان يمين
أي عهد. }وطعنوا في دينكم} أي بالاستنقاض والحرب وغير ذلك مما يفعله المشرك. يقال: طعنه بالرمح وطعن بالقول السيء فيه يطعن، بضم العين فيهما. وقيل: يطعن بالرمح - بالضم - ويطعن بالقول - بالفتح - . وهي هنا استعارة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم حين أمر أسامة: (إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل وايم الله إن كان لخليقا للإمارة). خرجه الصحيح.
استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدين، إذ هو كافر. والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين، لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه. وقال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم عليه القتل. وممن قال ذلك مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي. وقد حكي عن النعمان أنه قال: لا يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة، على ما يأتي. وروي أن رجلا قال في مجلس علي: ما قتل كعب بن الأشرف إلا غدرا، فأمر علي بضرب عنقه. وقال آخر في مجلس معاوية فقام محمد بن مسلمة فقال: أيقال هذا في مجلسك وتسكت والله لا أساكنك تحت سقف أبدا، ولئن خلوت به لأقتلنه. قال علماؤنا: هذا يقتل ولا يستتاب إن نسب الغدر للنبي صلى الله عليه وسلم. وهو الذي فهمه علي ومحمد بن مسلمة رضوان الله عليهما من قائل ذلك، لأن ذلك زندقة. فأما إن نسبه للمباشرين لقتله بحيث يقول: إنهم أمنوه ثم غدروه لكانت هذه النسبة كذبا محضا، فإنه ليس في كلامهم معه ما يدل على أنهم أمنوه ولا صرحوا له بذلك، ولو فعلوا ذلك لما كان أمانا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما وجههم لقتله لا لتأمينه، وأذن لمحمد بن مسلمة في أن يقول. وعلى هذا فيكون في قتل من نسب ذلك لهم نظر وتردد. وسببه هل يلزم من نسبة الغدر لهم نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه قد صوب فعلهم ورضي به فيلزم منه أنه قد رضي بالغدر ومن صرح بذلك قتل، أولا يلزم من نسبة الغدر لهم نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يقتل. وإذا قلنا لا يقتل، فلا بد من تنكيل ذلك القائل وعقوبته بالسجن، والضرب الشديد والإهانة العظيمة.
فأما الذمي إذا طعن في الدين انتقض عهده في المشهور من مذهب مالك، لقوله{وإن نكثوا أيمانهم} الآية. فأمر بقتلهم وقتالهم. وهو مذهب الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة في هذا: إنه يستتاب، وإن مجرد الطعن لا ينقض به العهد إلا مع وجود النكث، لأن الله عز وجل إنما أمر بقتلهم بشرطين: أحدهما نقضهم العهد، والثاني طعنهم في الدين.
قلنا: إن عملوا بما يخالف العهد انتقض عهدهم، وذكر الأمرين لا يقتضي توقف قتاله على وجودهما، فإن النكث يبيح لهم ذلك بانفراده عقلا وشرعا. وتقدير الآية عندنا: فإن نكثوا عهدهم حل قتالهم، وإن لم ينكثوا بل طعنوا في الدين مع الوفاء بالعهد حل قتالهم. وقد روي أن عمر رفع إليه ذمي نخس دابة عليها امرأة مسلمة فرمحت فأسقطتها فانكشفت بعض عورتها، فأمر بصلبه في الموضع.
إذا حارب الذمي نقض عهده وكان ماله وولده فيئا معه. وقال محمد بن مسلمة: لا يؤاخذ ولده به، لأنه نقض وحده. وقال: أما ماله فيؤخذ. وهذا تعارض لا يشبه منصب محمد بن مسلمة، لأن عهده هو الذي حمى ماله وولده، فإذا ذهب عنه ماله ذهب عنه ولده. وقال أشهب: إذا نقض الذمي العهد فهو على عهده ولا يعود في الرق أبدا. وهذا من العجب، وكأنه رأى العهد معنى محسوسا. وإنما العهد حكم اقتضاه النظر، والتزمه المسلمون له، فإذا نقضه انتقض كسائر العقود.
أكثر العلماء على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة أو عرض أو استخف بقدره أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به فإنه يقتل، فإنا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا. إلا أبا حنيفة والثوري وأتباعهما من أهل الكوفة فإنهم قالوا: لا يقتل، ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدب ويعزر. والحجة عليه قوله تعالى{وإن نكثوا} الآية. واستدل عليه بعضهم بأمره صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف وكان معاهدا. وتغيظ أبو بكر على رجل من أصحابه فقال أبو برزة: ألا أضرب عنقه فقال: ما كانت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى الدارقطني عن ابن عباس: أن رجلا أعمى كانت له أم ولد، له منها ابنان مثل اللؤلؤتين، فكانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلم تنته، ويزجرها فلم تنزجر، فلما كان ذات ليلة ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم فما صبر سيدها أن قام إلى معول فوضعه في بطنها، ثم اتكأ عليها حتى أنفذه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا اشهدوا إن دمها هدر). وفي رواية عن ابن عباس: فقتلها، فلما أصبح قيل، ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقام الأعمى فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فقتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا اشهدوا إن دمها هدر).
واختلفوا إذا سبه ثم أسلم تقية من القتل، فقيل يسقط إسلامه قتله، وهو المشهور من المذهب، لأن الإسلام يجب ما قبله. بخلاف المسلم إذا سبه ثم تاب قال الله عز وجل{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}الأنفال:38]. وقيل: لا يسقط الإسلام قتله، قاله في العتبية لأنه حق للنبي صلى الله عليه وسلم وجب لانتهاكه حرمته وقصده إلحاق النقيصة والمعرة به، فلم يكن رجوعه إلى الإسلام بالذي يسقطه، ولا يكون أحسن حالا من المسلم.
قوله تعالى{فقاتلوا أئمة الكفر} }أئمة} جمع إمام، والمراد صناديد قريش - في قول بعض العلماء - كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف. وهذا بعيد، فإن الآية في سورة }براءة} وحين نزلت وقرئت على الناس كان الله قد استأصل شأفة قريش فلم يبق إلا مسلم أو مسالم، فيحتمل أن يكون المراد }فقاتلوا أئمة الكفر}. أي من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين يكون أصلا ورأسا في الكفر، فهو من أئمة الكفر على هذا. ويحتمل أن يعنى به المتقدمون والرؤساء منهم، وأن قتالهم قتال لأتباعهم وأنهم لا حرمة لهم. والأصل أأممة كمثال وأمثلة، ثم أدغمت الميم في الميم وقلبت الحركة على الهمزة فاجتمعت همزتان، فأبدلت من الثانية ياء. وزعم الأخفش أنك تقول: هذا أيم من هذا، بالياء. وقال المازني: أوم من هذا، بالواو. وقرأ حمزة }أئمة}. وأكثر النحويين يذهب إلى أن هذا لحن، لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة. }إنهم لا أيمان لهم} أي لا عهود لهم، أي ليست عهودهم صادقة يوفون بها. وقرأ ابن عامر }لا إيمان لهم} بكسر الهمزة من الإيمان، أي لا إسلام لهم. ويحتمل أن يكون مصدر آمنته إيمانا، من الأمن الذي ضده الخوف، أي لا يؤمنون، من آمنته إيمانا أي أجرته، فلهذا قال{فقاتلوا أئمة الكفر}. }لعلهم ينتهون} أي عن الشرك. قال الكلبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم وادع أهل مكة سنة وهو بالحديبية فحبسوه عن البيت، ثم صالحوه على أن يرجع فمكثوا ما شاء الله، ثم قاتل حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة حلفاء بني أمية من كنانة، فأمدت بنو أمية حلفاءهم بالسلاح والطعام، فاستعانت خزاعة برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعين حلفاءه كما سبق. وفى البخاري عن زيد بن وهب قال: كنا عند حذيفة فقال ما بقي من أصحاب هذه الآية - يعني }فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم} - إلا ثلاثة، ولا بقي من المنافقين إلا أربعة. فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمد تخبرون أخبارا لا ندري ما هي تزعمون ألا منافق إلا أربعة، فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون أعلافنا قال: أولئك الفساق أجل لم يبق منهم إلا أربعة، أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده. }لعلهم ينتهون} أي عن كفرهم وباطلهم وأذيتهم للمسلمين. وذلك يقتضي أن يكون الغرض من قتالهم دفع ضررهم لينتهوا عن مقاتلتنا ويدخلوا في ديننا.
الآية رقم ( 13 )
{ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين}
قوله تعالى{ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم} توبيخ وفيه معنى التحضيض نزلت في كفار مكة كما ذكرنا آنفا. }وهموا بإخراج الرسول} أي كان منهم سبب الخروج، فأضيف الإخراج إليهم. وقيل: أخرجوا الرسول عليه السلام من المدينة لقتال أهل مكة للنكث الذي كان منهم: عن الحسن. }وهم بدؤوكم} بالقتال. }أول مرة} أي نقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة. وقيل: بدؤوكم بالقتال يوم بدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج للعير ولما أحرزوا عيرهم كان يمكنهم الانصراف، فأبوا إلا الوصول إلى بدر وشرب الخمر بها؛ كما تقدم. }فالله أحق أن تخشوه} أي تخافوا عقابه في ترك قتالهم من أن تخافوا أن ينالكم في قتالهم مكروه. وقيل: إخراجهم الرسول منعهم إياه من الحج والعمرة والطواف، وهو ابتداؤهم. والله أعلم.
الآية رقم ( 14 : 15 )
{قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم}
قوله تعالى{قاتلوهم} أمر. }يعذبهم الله} جوابه. وهو جزم بمعنى المجازاة: والتقدير: إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين. }ويذهب غيظ قلوبهم} دليل على أن غيظهم كان قد اشتد. وقال مجاهد: يعني خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكله عطف، ويجوز فيه كله الرفع على القطع من الأول. ويجوز النصب على إضمار (أن) وهو الصرف عند الكوفيين، كما قال:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الناس والشهر الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سنام
وإن شئت رفعت (ونأخذ) وإن شئت نصبته. والمراد بقوله{ويشف صدور قوم مؤمنين} بنو خزاعة، على ما ذكرنا عن مجاهد. فإن قريشا أعانت بني بكر عليهم، وكانت خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم. فأنشد رجل من بني بكر هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض خزاعة: لئن أعدته لأكسرن فمك، فأعاده فكسر فاه وثار بينهم قتال، فقتلوا من الخزاعيين أقواما، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي في نفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره به، فدخل منزل ميمونة وقال: (اسكبوا إلي ماء) فجعل يغتسل وهو يقول: (لا نصرت إن لم أنصر بني كعب). ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتجهز والخروج إلى مكة فكان الفتح.
قوله تعالى{ويتوب الله على من يشاء} القراءة بالرفع على الاستئناف لأنه ليس من جنس الأول ولهذا لم يقل (ويتب) بالجزم لأن القتال غير موجب لهم التوبة من الله جل وعز وهو موجب لهم العذاب والخزي وشفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم ونظيره{فإن يشأ الله يختم على قلبك}الشورى: 24] تم الكلام. ثم قال{ويمح الله الباطل}الشورى: 24]. والذين تاب الله عليهم مثل أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسليم بن أبي عمرو، فإنهم أسلموا. وقرأ ابن أبي إسحاق }ويتوب} بالنصب. وكذا روي عن عيسى الثقفي والأعرج، وعليه فتكون التوبة داخلة في جواب الشرط، لأن المعنى: إن تقاتلوهم يعذبهم الله. وكذلك ما عطف عليه. ثم قال{ويتوب الله} أي إن تقاتلوهم. فجمع بين تعذيبهم بأيديكم وشفاء صدوركم وإذهاب غيظ قلوبكم والتوبة عليكم. والرفع أحسن، لأن التوبة لا يكون سببها القتال، إذ قد توجد بغير قتال لمن شاء الله أن يتوب عليه في كل حال.
الآية رقم ( 16 )
{أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون}
قوله تعالى{أم حسبتم} خروج من شيء إلى شيء. }أن تتركوا} في موضع المفعولين على قول سيبويه. وعند المبرد أنه قد حذف الثاني. ومعنى الكلام: أم حسبتم أن تتركوا من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن والمنافق الظهور الذي يستحق به الثواب والعقاب. وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع. }ولما يعلم} جزم بلما وإن كانت ما زائدة، فإنها تكون عند سيبويه جوابا لقولك: قد فعل كما تقدم. وكسرت الميم لالتقاء الساكنين. }وليجة} بطانة ومداخلة من الولوج وهو الدخول ومنه سمي الكناس الذي تلج فيه الوحوش تولجا ولج يلج ولوجا إذا دخل والمعنى: دخيلة مودة من دون الله ورسوله وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة وقال ابن زيد: الوليجة الدخيلة والولجاء الدخلاء فوليجة الرجل من يختص بدُخلة أمره دون الناس. تقول: هو وليجتي وهم وليجتي الواحد والجمع فيه سواء قال أبان بن تغلب رحمه الله:
فبئس الوليجة للهاربين والمعتدين وأهل الريب
وقيل: وليجة بطانة، والمعنى واحد، نظيره }لا تتخذوا بطانة من دونكم}آل عمران: 118]. وقال الفراء: وليجة بطانة من المشركين يتخذونهم ويفشون إليهم أسرارهم ويعلمونهم أمورهم.
الآية رقم ( 17 )
{ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون}
قوله تعالى{ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} الجملة من }أن يعمروا} في موضع رفع اسم كان. }شاهدين} على الحال. واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: أراد ليس لهم الحج بعد ما نودي فيهم بالمنع عن المسجد الحرام، وكانت أمور البيت كالسدانة والسقاية والرفادة إلى المشركين، فبين أنهم ليسوا أهلا لذلك، بل أهله المؤمنون. وقيل: إن العباس لما أسر وعير بالكفر وقطيعة الرحم قال: تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا. فقال علي: ألكم محاسن؟ قال: نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني، فنزلت هذه الآية ردا عليه. فيجب إذا على المسلمين تولي أحكام المساجد ومنع المشركين من دخولها. وقراءة العامة }يعمر} بفتح الياء وضم الميم، من عمر يعمر. وقرأ ابن السميقع بضم الياء وكسر الميم أي يجعلوه عامرا أو يعينوا على عمارته. وقرئ }مسجد الله} على التوحيد أي المسجد الحرام. وهي قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن كثير وأبي عمرو وابن محيصن ويعقوب. والباقون }مساجد} على التعميم. وهو اختيار أبي عبيد، لأنه أعم والخاص به يدخل تحت العام. وقد يحتمل أن يراد بقراءة الجمع المسجد الحرام خاصة. وهذا جائز فيما كان من أسماء الجنس، كما يقال: فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرسا. والقراءة }مساجد} أصوب، لأنه يحتمل المعنى. وقد أجمعوا على قراءة قوله{إنما يعمر مساجد الله} على الجمع، قاله النحاس. وقال الحسن: إنما قال مساجد وهو المسجد الحرام، لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها.
قوله تعالى{شاهدين} قيل: أراد وهم شاهدون فلما طرح }وهم} نصب. قال ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم لأصنامهم، وإقرارهم أنها مخلوقة. وقال السدي: شهادتهم بالكفر هو أن النصراني تقول له. ما دينك؟ فيقول نصراني، واليهودي فيقول يهودي والصابئ فيقول صابئ. ويقال للمشرك ما دينك فيقول مشرك. }أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون} تقدم معناه.
الآية رقم ( 18 )
{إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}
قوله تعالى{إنما يعمر مساجد الله} دليل على أن الشهادة لعمار المساجد بالإيمان صحيحة لأن الله سبحانه ربطه بها وأخبر عنه بملازمتها. وقد قال بعض السلف: إذا رأيتم الرجل يعمر المسجد فحسنوا به الظن. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان) قال الله تعالى{إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر}. وفي رواية: (يتعاهد المسجد). قال: حديث حسن غريب. قال ابن العربي: وهذا في ظاهر الصلاح ليس في مقاطع الشهادات، فإن الشهادات لها أحوال عند العارفين بها فإن منهم الذكي الفطن المحصل لما يعلم اعتقادا وإخبارا ومنهم المغفل، وكل واحد ينزل على منزلته ويقدر على صفته. }ولم يخش إلا الله} إن قيل: ما من مؤمن إلا وقد خشي غير الله، وما زال المؤمنون والأنبياء يخشون الأعداء من غيرهم. قيل له: المعنى ولم يخش إلا الله مما يعبد: فإن المشركين كانوا يعبدون الأوثان ويخشونها ويرجونها. جواب ثان - أي لم يخف في باب الدين إلا الله.
فإن قيل: فقد أثبت الإيمان في الآية لمن عمر المساجد بالصلاة فيها، وتنظيفها وإصلاح ما وهى منها، وآمن بالله. ولم يذكر الإيمان بالرسول فيها ولا إيمان لمن لم يؤمن بالرسول. قيل له: دل على الرسول ما ذكر من إقامة الصلاة وغيرها لأنه مما جاء به، فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إنما يصح من المؤمن بالرسول، فلهذا لم يفرده بالذكر. و}عسى} من الله واجبة، عن ابن عباس وغيره. وقيل: عسى بمعنى خليق أي فخليق} أن يكونوا من المهتدين}.
الآية رقم ( 19 )
{أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين}
قوله تعالى{أجعلتم سقاية الحاج} التقدير في العربية: أجعلتم أصحاب سقاية الحاج أو أهل سقاية الحاج مثل من آمن بالله وجاهد في سبيله. ويصح أن يقدر الحذف في }من آمن} أي أجعلتم عمل سقي الحاج كعمل من آمن. وقيل: التقدير كإيمان من آمن. والسقاية مصدر كالسعاية والحماية. فجعل الاسم بموضع المصدر إذ علم معناه، مثل إنما السخاء حاتم، وإنما الشعر زهير. وعمارة المسجد الحرام مثل }واسأل القرية}يوسف: 82]. وقرأ أبو وجزة }أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام} سقاة جمع ساق والأصل سقية على فعلة، كذا يجمع المعتل من هذا، نحو قاض وقضاة وناس ونساة. فإن لم يكن معتلا جمع على فعلة، نحو ناسئ ونسأة، للذين كانوا ينسؤون الشهور. وكذا قرأ ابن الزبير وسعيد بن جبير }سقاة وعمرة} إلا أن ابن جبير نصب }المسجد} على إرادة التنوين في }عمرة} وقال الضحاك: سقاية بضم السين، وهي لغة. والحاج اسم جنس الحجاج. وعمارة المسجد الحرام: معاهدته والقيام بمصالحه. وظاهر هذه الآية أنها مبطلة قول من افتخر من المشركين بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كما ذكره السدي. قال: افتخر عباس بالسقاية، وشيبة بالعمارة، وعلي بالإسلام والجهاد، فصدق الله عليا وكذبهما، وأخبر أن العمارة لا تكون بالكفر، وإنما تكون بالإيمان والعبادة وأداء الطاعة. وهذا بين لا غبار عليه. ويقال: إن المشركين سألوا اليهود وقالوا: نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود عنادا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم أفضل. وقد اعترض هنا إشكال وهو ما جاء في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يوم الجمعة - ولكن إذا صليت الجمعة دخلت واستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عز وجل{أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر} إلى آخر الآية. وهذا المساق يقتضي أنها إنما نزلت عند اختلاف المسلمين في الأفضل من هذه الأعمال. وحينئذ لا يليق أن يقال لهم في آخر الآية{والله لا يهدي القوم الظالمين} فتعين الإشكال. وإزالته بأن يقال: إن بعض الرواة تسامح في قوله، فأنزل الله الآية. وإنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم الآية على عمر حين سأله فظن الراوي أنها نزلت حينئذ. واستدل بها النبي صلى الله عليه وسلم على أن الجهاد أفضل مما قال أولئك الذين سمعهم عمر، فاستفتى لهم فتلا عليه ما قد كان أنزل عليه، لا أنها نزلت في هؤلاء. والله أعلم.
فإن قيل: فعلى هذا يجوز الاستدلال على المسلمين بما أنزل في الكافرين، ومعلوم أن أحكامهم مختلفة. قيل له: لا يستبعد أن ينتزع مما أنزل الله في المشركين أحكام تليق بالمسلمين. وقد قال عمر: إنا لو شئنا لاتخذنا سلائق وشواء وتوضع صحفة وترفع أخرى ولكنا سمعنا قول الله تعالى{أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها}الأحقاف: 20]. وهذه الآية نص في الكفار، ومع ذلك ففهم منها عمر الزجر عما يناسب أحوالهم بعض المناسبة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة. فيمكن أن تكون هذه الآية من هذا النوع. وهذا نفيس وبه يزول الإشكال ويرتفع الإبهام، والله أعلم.
الآية رقم ( 20 )
{ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون}
قوله تعالى{الذين آمنوا} في موضع رفع بالابتداء. وخبره }أعظم درجة عند الله}. و}درجة} نصب على البيان، أي من الذين افتخروا بالسقي والعمارة. وليس للكافرين درجة عند الله حتى يقال: المؤمن أعظم درجة. والمراد أنهم قدروا لأنفسهم الدرجة بالعمارة والسقي فخاطبهم على ما قدروه في أنفسهم وإن كان التقدير خطأ كقوله تعالى{أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا}الفرقان: 24]. وقيل{أعظم درجة} من كل ذي درجة، أي لهم المزية والمرتبة العلية. }وأولئك هم الفائزون} بذلك.
الآية رقم ( 21 )
{يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم}
قوله تعالى{يبشرهم ربهم} أي يعلمهم في الدنيا ما لهم في الآخرة من الثواب الجزيل والنعيم المقيم. والنعيم: لين العيش ورغده.
الآية رقم ( 22 )
{خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم}
قوله تعالى{خالدين} نصب على الحال. والخلود الإقامة. }إن الله عنده أجر عظيم} أي أعد لهم في دار كرامته ذلك الثواب.
الآية رقم ( 23 )
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون}
ظاهر هذه الآية أنها خطاب لجميع المؤمنين كافة، وهي باقية الحكم إلى يوم القيامة في قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين. وروت فرقة أن هذه الآية إنما نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفرة. فالمخاطبة على هذا إنما هي للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها من بلاد العرب، خوطبوا بألا يوالوا الآباء والإخوة فيكونوا لهم تبعا في سكنى بلاد الكفر. }إن استحبوا} أي أحبوا، كما يقال: استجاب بمعنى أجاب. أي لا تطيعوهم ولا تخصوهم. وخص الله سبحانه الآباء والإخوة إذ لا قرابة أقرب منها. فنفى الموالاة بينهم كما نفاها بين الناس بقوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء}المائدة: 51] ليبين أن القرب قرب الأديان لا قرب الأبدان. وفي مثله تنشد الصوفية:
يقولون لي دار الأحبة قد دنت وأنت كئيب إن ذا لعجيب
فقلت وما تغني ديار قريبة إذا لم يكن بين القلوب قريب
فكم من بعيد الدار نال مراده وآخر جار الجنب مات كئيب
ولم يذكر الأبناء في هذه الآية إذ الأغلب من البشر أن الأبناء هم التبع للآباء. والإحسان والهبة مستثناة من الولاية. قالت أسماء: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي راغبة وهي مشركة أفأصلها؟ قال: (صلي أمك) خرجه البخاري. }ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون} قال ابن عباس: هو مشرك مثلهم لأن من رضي بالشرك فهو مشرك.
الآية رقم ( 24 )
{قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}
لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه والأب لابنه والأخ لأخيه والرجل لزوجته: إنا قد أمرنا بالهجرة، فمنهم من تسارع لذلك، ومنهم من أبى أن يهاجر، فيقول: والله لئن لم تخرجوا إلى دار الهجرة لا أنفعكم ولا أنفق عليكم شيئا أبدا. ومنهم من تتعلق به امرأته وولده ويقولون له: أنشدك بالله ألا تخرج فنضيع بعدك، فمنهم من يرق فيدع الهجرة ويقيم معهم، فنزلت }يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان}. يقول: إن اختاروا الإقامة على الكفر بمكة على الإيمان بالله والهجرة إلى المدينة. }ومن يتولهم منكم} بعد نزول الآية }فأولئك هم الظالمون}. ثم نزل في الذين تخلفوا ولم يهاجروا{قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم} وهي الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد كعقد العشرة فما زاد، ومنه المعاشرة وهي الاجتماع على الشيء. }وأموال اقترفتموها} يقول: اكتسبتموها بمكة. وأصل الاقتراف اقتطاع الشيء من مكانه إلى غيره. }وتجارة تخشون كسادها} قال ابن المبارك: هي البنات والأخوات إذا كسدن في البيت لا يجدن لهن خاطبا. قال الشاعر:
كسدن من الفقر في قومهن وقد زادهن مقامي كسودا
{ومساكن ترضونها} يقول: ومنازل تعجبكم الإقامة فيها. }أحب إليكم من الله ورسوله
من أن تهاجروا إلى الله ورسوله بالمدينة. }وأحب} خبر كان. ويجوز في غير القرآن رفع }أحب} على الابتداء والخبر، واسم كان مضمر فيها. وأنشد سيبويه:
إذا مت كان الناس صنفان: شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع
وأنشد:
هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها وليس منها شفاء الداء مبذول
وفي الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب. وقد مضى في }آل عمران} معنى محبة الله تعالى ومحبة رسوله. }وجهاد في سبيله فتربصوا} صيغته صيغة أمر ومعناه التهديد. يقول: انتظروا. وفي قوله{وجهاد في سبيله} دليل على فضل الجهاد، وإيثاره على راحة النفس وعلائقها بالأهل والمال. وسيأتي فضل الجهاد في آخر السورة. وقد مضى من أحكام الهجرة في }النساء} ما فيه كفاية، والحمد لله. وفي الحديث الصحيح (إن الشيطان قعد لابن آدم ثلاث مقاعد قعد له في طريق الإسلام فقال لم تذر دينك ودين آبائك فخالفه وأسلم وقعد له في طريق الهجرة فقال له أتذر مالك وأهلك فخالفه وهاجر ثم قعد في طريق الجهاد فقال له تجاهد فتقتل فينكح أهلك ويقسم مالك فخالفه وجاهد فحق على الله أن يدخله الجنة). وأخرجه النسائي من حديث سبرة بن أبي فاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان...) فذكره. قال البخاري: (ابن الفاكه) ولم يذكر فيها اختلافا. وقال ابن أبي عدي: يقال ابن الفاكه وابن أبي الفاكه. انتهى.