تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن"

الآية رقم ‏(‏ 25 ‏)‏

‏{‏لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏لقد نصركم الله في مواطن كثيرة‏}‏ لما بلغ هوازن فتح مكة جمعهم مالك بن عوف النصري من بنى نصر بن مالك، وكانت الرياسة في جميع العسكر إليه، وساق مع الكفار أموالهم ومواشيهم ونساءهم وأولادهم، وزعم أن ذلك يحمي به نفوسهم وتشتد في القتال عند ذلك شوكتهم‏.‏ وكانوا ثمانية آلاف في قول الحسن ومجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ أربعة آلاف، من هوازن وثقيف‏.‏ وعلى هوازن مالك بن عوف، وعلى ثقيف كنانة بن عبد، فنزلوا بأوطاس‏.‏ وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي عينا، فأتاه وأخبره بما شاهد منهم، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قصدهم، واستعار من صفوان بن أمية بن خلف الجمحي دروعا‏.‏ قيل‏:‏ مائة درع‏.‏ وقيل‏:‏ أربعمائة درع‏.‏ واستسلف من ربيعة المخزومي ثلاثين ألفا أو أربعين ألفا، فلما قدم قضاه إياها‏.‏ ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بارك الله لك في أهلك ومالك إنما جزاء السلف الوفاء والحمد‏)‏ خرجه ابن ماجة في السنن‏.‏ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المسلمين، منهم عشرة آلاف صحبوه من المدينة وألفان من مسلمة الفتح وهم الطلقاء إلى من انضاف إليه من الأعراب من سُليم وبني كلاب وعبس وذبيان‏.‏ واستعمل على مكة عتاب بن أسيد‏.‏ وفي مخرجه هذا رأى جهال الأعراب شجرة خضراء وكان لهم في الجاهلية شجرة معروفة تسمى ذات أنواط يخرج إليها الكفار يوما معلوما في السنة يعظمونها، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى ‏}‏اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون‏}‏ لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى أنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه‏)‏‏.‏ فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى وادي حنين، وهو من أودية تهامة، وكانت هوازن قد كمنت في جنبتي الوادي وذلك في غبش الصبح فحملت على المسلمين حملة رجل واحد، فانهزم جمهور المسلمين ولم يلو أحد على أحد، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت معه أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب وابنه جعفر، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد وهو أيمن بن أم أيمن قتل يومئذ بحنين - وربيعة بن الحارث، والفضل بن عباس، وقيل في موضع جعفر بن أبي سفيان‏:‏ قثم بن العباس‏.‏ فهؤلاء عشرة رجال، ولهذا قال العباس‏:‏

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وقد فر من قد فر عنه وأقشعوا

وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه بما مسه في الله لا يتوجع

وثبتت أم سليم في جملة من ثبت محتزمة ممسكة بعيرا لأبي طلحة وفي يدها خنجر‏.‏ ولم ينهزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء واسمها دلدل‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أنس قال عباس‏:‏ وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة ألا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أي عباس ناد أصحاب السمرة‏)‏‏.‏ فقال عباس - وكان رجلا صيتا‏.‏ ويروى من شدة صوته أنه أغير يوما على مكة فنادى واصباحاه فأسقطت كل حامل سمعت صوته جنينها - ‏:‏ فقلت بأعلى صوتي‏:‏ أين أصحاب السمرة‏؟‏ قال‏:‏ فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها‏.‏ فقالوا‏:‏ يا لبيك يا لبيك‏.‏ قال‏:‏ فاقتتلوا والكفار‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وفيه‏:‏ ‏(‏قال ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار‏)‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏انهزموا ورب محمد‏)‏‏.‏ قال فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى‏.‏ قال‏:‏ فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ روينا من وجوه عن بعض من أسلم من المشركين ممن شهد حنينا أنه قال - وقد سئل عن يوم حنين - ‏:‏ لقينا المسلمين فما لبثنا أن هزمناهم وأتبعناهم حتى انتهينا إلى رجل راكب على بغلة بيضاء، فلما رآنا زجرنا زجرة وانتهرنا، وأخذ بكفه حصى وترابا فرمى به وقال‏:‏ ‏(‏شاهت الوجوه‏)‏ فلم تبق عين إلا دخلها من ذلك، وما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ حدثنا رجل من المشركين، يوم حنين قال‏:‏ لما التقينا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقفوا لنا حلب شاة، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - تلقانا رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا‏:‏ شاهت الوجوه، ارجعوا، فرجعنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها‏.‏ يعني الملائكة‏.‏

قلت‏:‏ ولا تعارض فإنه يحتمل أن يكون شاهت الوجوه من قوله صلى الله عليه وسلم ومن قول الملائكة معا ويدل على أن الملائكة قاتلت يوم حنين‏.‏ فالله أعلم‏.‏ وقتل علي رضي الله عنه يوم حنين أربعين رجلا بيده‏.‏ وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف رأس‏.‏ وقيل‏:‏ ستة آلاف، واثني عشر ألف ناق سوى ما لا يعلم من الغنائم‏.‏

قال العلماء في هذه الغزاة‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه‏)‏‏.‏ وقد مضى في ‏}‏الأنفال‏}‏ بيانه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ ولهذه النكتة وغيرها أدخل الأحكاميون هذه الآية في الأحكام‏.‏

قلت‏:‏ وفيه أيضا جواز استعارة السلاح وجواز الاستمتاع بما استعير إذا كان على المعهود مما يستعار له مثله، وجواز استلاف الإمام المال عند الحاجة إلى ذلك ورده إلى صاحبه‏.‏ وحديث صفوان أصل في هذا الباب‏.‏ وفي هذه الغزاة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏ألا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة‏)‏‏.‏ وهو يدل على أن السبي يقطع العصمة‏.‏ وقد مضى بيانه في سورة ‏}‏النساء‏}‏ مستوفى‏.‏ وفي حديث مالك أن صفوان خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر، فشهد حنينا والطائف وامرأته مسلمة‏.‏ الحديث‏.‏ قال مالك‏:‏ ولم يكن ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرى أن يستعان بالمشركين على المشركين إلا أن يكونوا خدما أو نواتية‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي‏:‏ لا بأس بذلك إذا كان حكم الإسلام هو الغالب، وإنما تكره الاستعانة بهم إذا كان حكم الشرك هو الظاهر‏.‏ وقد مضى القول في الإسهام لهم في ‏}‏الأنفال‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويوم حنين‏}‏ حنين واد بين مكة والطائف، وانصرف لأنه اسم مذكر، وهي لغة القرآن‏.‏ ومن العرب من لا يصرفه، يجعله اسما للبقعة‏.‏ وأنشد‏:‏

نصروا نبيهم وشدوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطال

‏{‏ويوم‏}‏ ظرف، وانتصب هنا على معنى‏:‏ ونصركم يوم حنين‏.‏ وقال الفراء‏:‏ لم تنصرف ‏}‏مواطن‏}‏ لأنه ليس لها نظير في المفرد وليس لها جماع، إلا أن الشاعر ربما اضطر فجمع، وليس يجوز في الكلام كل ما يجوز في الشعر‏.‏ وأنشد‏:‏

فهن يعلكن حدائداتها

وقال النحاس‏:‏ رأيت أبا إسحاق يتعجب من هذا قال‏:‏ أخذ قول الخليل وأخطأ فيه، لأن الخليل يقول فيه‏:‏ لم ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد، ولا يجمع جمع التكسير، وأما بالألف والتاء فلا يمتنع‏.‏

قوله تعالى‏{‏إذ أعجبتكم كثرتكم‏}‏ قيل‏:‏ كانوا اثني عشر ألفا‏.‏ وقيل‏:‏ أحد عشر ألفا وخمسمائة‏.‏ وقيل‏:‏ ستة عشر ألفا‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ لن نغلب اليوم عن قلة‏.‏ فوكلوا إلى هذه الكلمة، فكان ما ذكرناه من الهزيمة في الابتداء إلى أن تراجعوا، فكان النصر والظفر للمسلمين ببركة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم‏.‏ فبين الله عز وجل في هذه الآية أن الغلبة إنما تكون بنصر الله لا بالكثرة وقد قال‏{‏وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده‏}‏آل عمران‏:‏ 160‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وضاقت عليكم الأرض بما رحبت‏}‏ أي من الخوف، كما قال‏:‏

كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المطلوب كفة حابل

والرحب - بضم الراء - السعة‏.‏ تقول منه‏:‏ فلان رحب الصدر‏.‏ والرحب - بالفتح - ‏:‏ الواسع‏.‏ تقول منه‏:‏ بلد رحب، وأرض رحبة‏.‏ وقد رحبت ترحب رحبا ورحابة‏.‏ وقيل‏:‏ الباء بمعنى مع أي مع رحبها‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى على، أي على رحبها‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى برحبها، فـ ‏}‏ما‏}‏ مصدرية‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم وليتم مدبرين‏}‏ روى مسلم عن أبي إسحاق قال‏:‏ جاء رجل إلى البراء فقال‏:‏ أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة‏.‏ فقال‏:‏ أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى، ولكنه انطلق أخِفّاءُ من الناس، وحسر إلى هذا الحي من هوازن‏.‏ وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول‏:‏ ‏(‏أنا النبي لا كذب‏.‏ أنا ابن عبدالمطلب‏.‏ اللهم نزل نصرك‏)‏‏.‏ قال البراء‏:‏ كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 26 ‏:‏ 27 ‏)‏

‏{‏ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين، ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين‏}‏ أي أنزل عليهم ما يسكنهم ويذهب خوفهم، حتى اجترؤوا على قتال المشركين بعد أن ولوا‏.‏ ‏}‏وأنزل جنودا لم تروها‏}‏ وهم الملائكة، يقوون المؤمنين بما يلقون في قلوبهم من الخواطر والتثبيت، ويضعفون الكافرين بالتجبين لهم من حيث لا يرونهم ومن غير قتال، لأن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر‏.‏ وروي أن رجلا من بني نصر قال للمؤمنين بعد القتال‏:‏ أين الخيل البلق، والرجال الذين كانوا عليها بيض، ما كنا فيهم إلا كهيئة الشامة، وما كان قتلنا إلا بأيديهم‏.‏ أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال‏:‏ ‏(‏تلك الملائكة‏)‏‏.‏ ‏}‏وعذب الذين كفروا‏}‏ أي بأسيافكم‏.‏ ‏}‏وذلك جزاء الكافرين، ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء‏}‏ أي على من انهزم فيهديه إلى الإسلام‏.‏ كمالك بن عوف النصري رئيس حنين ومن أسلم معه من قومه‏.‏

ولما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين بالجعرانة، أتاه وفد هوازن مسلمين راغبين في العطف عليهم والإحسان إليهم، وقالوا‏:‏ يا رسول الله، إنك خير الناس وأبر الناس، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا‏.‏ فقال لهم‏:‏ ‏(‏إني قد كنت استأنيت بكم وقد وقعت المقاسم وعندي من ترون وإن خير القول أصدقه فاختاروا إما ذراريكم وإما أموالكم‏)‏‏.‏ فقالوا‏:‏ لا نعدل بالأنساب شيئا‏.‏ فقام خطيبا وقال‏:‏ ‏(‏هؤلاء جاؤونا مسلمين وقد خيرناهم فلم يعدلوا بالأنساب فرضوا برد الذرية وما كان لي ولبني عبدالمطلب وبني هاشم فهو لهم‏)‏‏.‏ وقال المهاجرون والأنصار‏:‏ أما ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وامتنع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن في قومهما من أن يردوا عليهم شيئا مما وقع لهم في سهامهم‏.‏ وامتنع العباس بن مرداس السلمي كذلك، وطمع أن يساعده قومه كما ساعد الأقرع وعيينة قومهما‏.‏ فأبت بنو سليم وقالوا‏:‏ بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من ضن منكم بما في يديه فإنا نعوضه منه‏)‏‏.‏ فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وأولادهم، وعوض من لم تطب نفسه بترك نصيبه أعواضا رضوا بها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن ظئر النبي صلى الله عليه وسلم التي أرضعته من بني سعد أتته يوم حنين فسألته سبايا حنين فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني لا أملك إلا ما يصيبني منهم ولكن ايتيني غدا فاسأليني والناس عندي فإذا أعطيتك حصتي أعطاك الناس‏)‏‏.‏ فجاءت الغد فبسط لها ثوبه فأقعدها عليه‏.‏ ثم سألته فأعطاها نصيبه فلما رأى ذلك الناس أعطوها أنصباءهم‏.‏ وكان عدد سبي هوازن في قول سعيد بن المسيب ستة آلاف رأس‏.‏ وقيل‏:‏ أربعة آلاف‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ فيهن الشيماء أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وهي بنت الحارث بن عبدالعزى من بنى سعد بن بكر وبنت حليمة السعدية، فأكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها وأحسن إليها، ورجعت مسرورة إلى بلادها بدينها وبما أفاء الله عليها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أوطاس امرأة تعدو وتصيح ولا تستقر، فسأل عنها فقيل‏:‏ فقدت بنيا لها‏.‏ ثم رآها وقد وجدت ابنها وهي تقبله وتدنيه، فدعاها وقال لأصحابه‏:‏ ‏(‏أطارحة هذه ولدها في النار‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لم‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ لشفقتها‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏الله أرحم بكم منها‏)‏‏.‏ وخرجه مسلم بمعناه والحمد لله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 28 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ واختلف العلماء في معنى وصف المشرك بالنجس، فقال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما‏:‏ لأنه جنب إذ غسله من الجنابة ليس بغسل‏.‏ وقال ابن عباس وغيره‏:‏ بل معنى الشرك هو الذي نجسه‏.‏ قال الحسن البصري من صافح مشركا فليتوضأ‏.‏ والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم إلا ابن عبدالحكم فإنه قال‏:‏ ليس بواجب، لأن الإسلام يهدم ما كان قبله‏.‏ وبوجوب الغسل عليه قال أبو ثور وأحمد‏.‏ وأسقطه الشافعي وقال‏:‏ أحب إلي أن يغتسل‏.‏ ونحوه لابن القاسم‏.‏ ولمالك قول‏:‏ إنه لا يعرف الغسل، رواه عنه ابن وهب وابن أبي أويس‏.‏ وحديث ثمامة وقيس بن عاصم يرد هذه الأقوال‏.‏ رواهما أبو حاتم البستي في صحيح مسنده‏.‏ وأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بثمامة يوما فأسلم فبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلى ركعتين‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقد حسن إسلام صاحبكم‏)‏ وأخرجه مسلم بمعناه‏.‏ وفيه‏:‏ أن ثمامة لما من عليه النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل‏.‏ وأمر قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر‏.‏ فإن كان إسلامه قبيل احتلامه فغسله مستحب‏.‏ ومتى أسلم بعد بلوغه لزمه أن ينوي بغسله الجنابة‏.‏ هذا قول علمائنا، وهو تحصيل المذهب‏.‏ وقد أجاز ابن القاسم للكافر أن يغتسل قبل إظهاره للشهادة بلسانه إذا اعتقد الإسلام بقلبه وهو قول ضعيف في النظر مخالف للأثر‏.‏ وذلك أن أحدا لا يكون بالنية مسلما دون القول‏.‏ هذا قول جماعة أهل السنة في الإيمان‏:‏ إنه قول باللسان وتصديق بالقلب، ويزكو بالعمل‏.‏ قال الله تعالى‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه‏}‏فاطر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلا يقربوا المسجد الحرام‏}‏ ‏}‏فلا يقربوا‏}‏ نهي، ولذلك حذفت منه النون‏.‏ ‏}‏المسجد الحرام‏}‏ هذا اللفظ يطلق على جميع الحرم، وهو مذهب عطاء فإذا يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع‏.‏ فإذا جاءنا رسول منهم خرج الإمام إلى الحل ليسمع ما يقول‏.‏ ولو دخل مشرك الحرم مستورا ومات نبش قبره وأخرجت عظامه‏.‏ فليس لهم الاستيطان ولا الاجتياز‏.‏ وأما جزيرة العرب، وهي مكة والمدينة واليمامة واليمن ومخاليفها، فقال مالك‏:‏ يخرج من هذه المواضع كل من كان على غير الإسلام، ولا يمنعون من التردد بها مسافرين‏.‏ وكذلك قال الشافعي رحمه الله، غير أنه استثنى من ذلك اليمن‏.‏ ويضرب لهم أجل ثلاثة أيام كما ضربه لهم عمر رضي الله عنه حين أجلاهم‏.‏ ولا يدفنون فيها ويلجؤون إلى الحل‏.‏

واختلف العلماء في دخول الكفار المساجد والمسجد الحرام على خمسة أقوال، فقال أهل المدينة الآية عامة في سائر المشركين وسائر المساجد‏.‏ وبذلك كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عماله ونزع في كتابه بهذه الآية‏.‏ ويؤيد ذلك قوله تعالى‏{‏في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه‏}‏النور‏:‏ 36‏]‏‏.‏ ودخول الكفار فيها مناقض لترفيعها‏.‏ وفي صحيح مسلم وغيره‏:‏ ‏(‏إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ والكافر لا يخلو عن ذلك‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب‏)‏ والكافر جنب وقوله تعالى‏{‏إنما المشركون نجس‏}‏ فسماه الله تعالى نجسا‏.‏ فلا يخلو أن يكون نجس العين أو مبعدا من طريق الحكم‏.‏ وأي ذلك كان فمنعه من المسجد واجب لأن العلة وهي النجاسة موجودة فيهم، والحرمة موجودة في المسجد‏.‏ يقال‏:‏ رجل نجس، وامرأة نجس، ورجلان نجس، وامرأتان نجس، ورجال نجس، ونساء نجس، لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر‏.‏ فأما النجس - بكسر النون وجزم الجيم - فلا يقال إلا إذا قيل معه رجس‏.‏ فإذا أفرد قيل نجس - بفتح النون وكسر الجيم - ونجس - بضم الجيم - ‏.‏ وقال الشافعي رحمه الله‏:‏ الآية عامة في سائر المشركين، خاصة في المسجد الحرام، ولا يمنعون من دخول غيره، فأباح دخول اليهودي والنصراني في سائر المساجد‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا جمود منه على الظاهر، لأن قوله عز وجل‏{‏إنما المشركون نجس‏}‏ تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة‏.‏ فإن قيل‏:‏ فقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة في المسجد وهو مشرك‏.‏ قيل له‏:‏ أجاب علماؤنا عن هذا الحديث - وإن كان صحيحا - بأجوبة‏:‏ أحدها‏:‏ أنه كان متقدما على نزول الآية‏.‏ الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علم بإسلامه فلذلك ربطه‏.‏ الثالث أن ذلك قضية في عين فلا ينبغي أن تدفع بها الأدلة التي ذكرناها، لكونها مقيدة حكم القاعدة الكلية‏.‏ وقد يمكن أن يقال‏:‏ إنما ربطه في المسجد لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها، وحسن آدابهم في جلوسهم في المسجد، فيستأنس بذلك ويسلم، وكذلك كان‏.‏ ويمكن أن يقال‏:‏ إنهم لم يكن لهم موضع يربطونه فيه إلا في المسجد، والله أعلم‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام ولا غيره، ولا يمنع دخول المسجد الحرام إلا المشركون وأهل الأوثان‏.‏ وهذا قول يرده كل ما ذكرناه من الآية وغيرها‏.‏ قال الكيا الطبري‏:‏ ويجوز للذمي دخول سائر المساجد عند أبي حنيفة من غير حاجة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ تعتبر الحاجة، ومع الحاجة لا يجوز دخول المسجد الحرام‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ الحرم كله قبلة ومسجد، فينبغي أن يمنعوا من دخول الحرم، لقوله تعالى‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام‏}‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وإنما رفع من بيت أم هانئ‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب جزية أو عبدا كافرا لمسلم‏.‏ وروى إسماعيل بن إسحاق حدثنا يحيى بن عبدالحميد قال حدثنا شريك عن أشعث عن الحسن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يقرب المسجد مشرك إلا أن يكون عبدا أو أمة فيدخله لحاجة‏)‏‏.‏ وبهذا قال جابر بن عبدالله فإنه قال‏:‏ العموم يمنع المشرك عن قربان المسجد الحرام، وهو مخصوص في العبد والأمة‏.‏

قوله تعالى‏{‏بعد عامهم هذا‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما - أنه سنة تسع التي حج فيها أبو بكر‏.‏ الثاني سنة عشر قاله قتادة‏.‏ ابن العربي‏:‏ وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ وإن من العجب أن يقال‏:‏ إنه سنة تسع وهو العام الذي وقع فيه الأذان‏.‏ ولو دخل غلام رجل داره يوما فقال له مولاه‏:‏ لا تدخل هذه الدار بعد يومك لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن خفتم عيلة‏}‏ قال عمرو بن فائد‏:‏ المعنى وإذ خفتم‏.‏ وهذه عجمة، والمعنى بارع بـ ‏}‏إن‏}‏‏.‏ وكان المسلمون لما منعوا المشركين من الموسم وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارات، قذف الشيطان في قلوبهم الخوف من الفقر وقالوا‏:‏ من أين نعيش‏.‏ فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله‏.‏ قال الضحاك‏:‏ ففتح الله عليهم باب الجزية من أهل الذمة بقوله عز وجل‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏التوبة‏:‏ 29‏]‏ الآية‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ أغناهم الله بإدرار المطر والنبات وخصب الأرض فأخصبت تبالة وجرش وحملوا إلى مكة الطعام والودك وكثر الخير وأسلمت العرب‏:‏ أهل نجد وصنعاء وغيرهم فتمادى حجهم وتجرهم وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم‏.‏ والعيلة‏:‏ الفقر‏.‏ يقال‏:‏ عال الرجل يعيل إذا افتقر‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل

وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود ‏}‏عائلة‏}‏ وهو مصدر كالقائلة من قال يقيل‏.‏ وكالعافية‏.‏ ويحتمل أن يكون نعتا لمحذوف تقديره‏:‏ حالا عائلة، ومعناه خصلة شاقة‏.‏ يقال منه‏:‏ عالني الأمر يعولني‏:‏ أي شق علي واشتد‏.‏ وحكى الطبري أنه يقال‏:‏ عال يعول إذا افتقر‏.‏

في هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بالأسباب في الرزق جائز وليس ذلك بمناف للتوكل وإن كان الرزق مقدرا وأمر الله وقسمه مفعولا ولكنه علقه بالأسباب حكمة ليعلم القلوب التي تتعلق بالأسباب من القلوب التي تتوكل على رب الأرباب‏.‏ وقد تقدم أن السبب لا ينافي التوكل قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا‏)‏‏.‏ أخرجه البخاري‏.‏ فأخبر أن التوكل الحقيقي لا يضاده الغدو والرواح في طلب الرزق‏.‏ ابن العربي‏:‏ ولكن شيوخ الصوفية قالوا‏:‏ إنما يغدو ويروح في الطاعات فهو السبب الذي يجلب الرزق‏.‏ قالوا‏:‏ والدليل عليه أمران‏:‏ أحدهما‏:‏ قوله تعالى‏{‏وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك‏}‏طه‏:‏ 132‏]‏ الثاني‏:‏ قوله تعالى‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح برفعه‏}‏فاطر‏:‏ 10‏]‏ فليس ينزل الرزق من محله، وهو السماء، إلا ما يصعد وهو الذكر الطيب والعمل الصالح وليس بالسعي في الأرض فإنه ليس فيها رزق‏.‏ والصحيح ما أحكمته السنة عند فقهاء الظاهر وهو العمل بالأسباب الدنيوية من الحرث والتجارة في الأسواق والعمارة للأموال وغرس الثمار‏.‏ وقد كانت الصحابة تفعل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم‏.‏ قال أبو الحسن بن بطال‏:‏ أمر الله سبحانه عباده بالإنفاق من طيبات ما كسبوا إلى غير ذلك من الآي‏.‏ وقال‏{‏فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه‏}‏البقرة‏:‏ 173‏]‏‏.‏ فأحل للمضطر ما كان حرم عليه عند عدمه للغذاء الذي أمره باكتسابه والاغتذاء به، ولم يأمره بانتظار طعام ينزل عليه من السماء، ولو ترك السعي في ترك ما يتغذى به لكان لنفسه قاتلا‏.‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوى من الجوع ما يجد ما يأكله، ولم ينزل عليه طعام من السماء، وكان يدخر لأهله قوت سنته حتى فتح الله عليه الفتوح‏.‏ وقد روى أنس بن مالك أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ببعير فقال‏:‏ يا رسول الله، أعقله وأتوكل أو أطلقه وأتوكل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏اعقله وتوكل‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ولا حجة لهم في أهل الصفة، فإنهم كانوا فقراء يقعدون في المسجد ما يحرثون ولا يتجرون، ليس لهم كسب ولا مال، إنما هم أضياف الإسلام عند ضيق البلدان، ومع ذلك فإنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويسرقون الماء إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرؤون القرآن بالليل ويصلون‏.‏ هكذا وصفهم البخاري وغيره‏.‏ فكانوا يتسببون‏.‏ وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءته هدية أكلها معهم، وإن كانت صدقة خصهم بها، فلما كثر الفتح وانتشر الإسلام خرجوا وتأمروا - كأبي هريرة وغيره - وما قعدوا‏.‏ ثم قيل‏:‏ الأسباب التي يطلب بها الرزق ستة أنواع‏:‏

أعلاها‏:‏ كسب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏(‏جعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري‏)‏‏.‏ خرجه الترمذي وصححه‏.‏ فجعل الله رزق نبيه صلى الله عليه وسلم في كسبه لفضله، وخصه بأفضل أنواع الكسب، وهو أخذ الغلبة والقهر لشرفه‏.‏

الثاني‏:‏ أكل الرجل من عمل يده، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أطيب ما أكل الرجل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده‏)‏ خرجه البخاري‏.‏ وفي التنزيل ‏}‏وعلمناه صنعة لبوس لكم‏}‏الأنبياء‏:‏ 80‏]‏، وروي أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه‏.‏

الثالث‏:‏ التجارة، وهي كانت عمل جل الصحابة رضوان الله عليهم، وخاصة المهاجرين، وقد دل عليها التنزيل في غير موضع‏.‏

الرابع‏:‏ الحرث والغرس‏.‏ وقد بيناه في سورة ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏

الخامس‏:‏ إقراء القرآن وتعليمه والرقية، وقد مضى في الفاتحة

السادس‏:‏ يأخذ بنية الأداء إذا احتاج، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله‏)‏‏.‏ خرجه البخاري‏.‏ رواه أبو هريرة رضي الله عنه‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن شاء‏}‏ دليل على أن الرزق ليس بالاجتهاد، وإنما هو من فضل الله تولى قسمته بين عباده وذلك بين في قوله تعالى‏{‏نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا‏}‏الزخرف‏:‏ 32‏]‏ الآية‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 29 ‏)‏

‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏ لما حرم الله تعالى على الكفار أن يقربوا المسجد الحرام، وجد المسلمون في أنفسهم بما قطع عنهم من التجارة التي كان المشركون يوافون بها، قال الله عز وجل‏{‏وإن خفتم عيلة‏}‏التوبة‏:‏28‏]‏ الآية‏.‏ على ما تقدم‏.‏ ثم أحل في هذه الآية الجزية وكانت لم تؤخذ قبل ذلك، فجعلها عوضا مما منعهم من موافاة المشركين بتجارتهم‏.‏ فقال الله عز وجل‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏ الآية‏.‏ فأمر سبحانه وتعالى بمقاتلة جميع الكفار لإصفاقهم على هذا الوصف، وخص أهل الكتاب بالذكر إكراما لكتابهم، ولكونهم عالمين بالتوحيد والرسل والشرائع والملل، وخصوصا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وملته وأمته‏.‏ فلما أنكروه تأكدت عليهم الحجة وعظمت منهم الجريمة، فنبه على محلهم ثم جعل للقتال غاية وهي إعطاء الجزية بدلا عن القتل‏.‏ وهو الصحيح‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ سمعت أبا الوفاء علي بن عقيل في مجلس النظر يتلوها ويحتج بها‏.‏ فقال‏{‏قاتلوا‏}‏ وذلك أمر بالعقوبة‏.‏ ثم قال‏{‏الذين لا يؤمنون‏}‏ وذلك بيان للذنب الذي أوجب العقوبة‏.‏ وقوله‏{‏ولا باليوم الآخر‏}‏ تأكيد للذنب في جانب الاعتقاد‏.‏ ثم قال‏{‏ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله‏}‏ زيادة للذنب في مخالفة الأعمال‏.‏ ثم قال‏{‏ولا يدينون دين الحق‏}‏ إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والأنفة عن الاستسلام‏.‏ ثم قال‏{‏من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ تأكيد للحجة، لأنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل‏.‏ ثم قال‏{‏حتى يعطوا الجزية عن يد‏}‏ فبين الغاية التي تمتد إليها العقوبة وعين البدل الذي ترتفع به‏.‏

وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية، قال الشافعي رحمه الله‏:‏ لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصة عربا كانوا أو عجما لهذه الآية، فإنهم هم الذين خصوا بالذكر فتوجه الحكم إليهم دون من سواهم لقوله عز وجل‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏التوبة‏:‏5‏]‏‏.‏ ولم يقل‏:‏ حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب‏.‏ وقال‏:‏ وتقبل من المجوس بالسنة وبه قال أحمد وأبو ثور‏.‏ وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب‏.‏ وكذلك مذهب مالك، فإنه رأى الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد، عربيا أو عجميا، تغلبيا أو قرشيا، كائنا من كان، إلا المرتد‏.‏ وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون‏:‏ تؤخذ الجزية من مجوس العرب والأمم كلها‏.‏ وأما عبدة الأوثان من العرب فلم يستن الله فيهم جزية، ولا يبقى على الأرض منهم أحد، وإنما لهم القتال أو الإسلام‏.‏ ويوجد لابن القاسم‏:‏ أن الجزية تؤخذ منهم، كما يقول مالك‏.‏ وذلك في التفريع لابن الجلاب وهو احتمال لا نص‏.‏ وقال ابن وهب‏:‏ لا تقبل الجزية من مجوس العرب وتقبل من غيرهم‏.‏ قال‏:‏ لأنه ليس في العرب مجوسي إلا وجميعهم أسلم، فمن وجد منهم بخلاف الإسلام فهو مرتد يقتل بكل حال إن لم يسلم ولا تقبل منهم جزية‏.‏ وقال ابن الجهم‏:‏ تقبل الجزية من كل من دان بغير الإسلام إلا ما أجمع عليه من كفار قريش‏.‏ وذكر في تعليل ذلك أنه إكرام لهم عن الذلة والصغار، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال غيره‏:‏ إنما ذلك لأن جميعهم أسلم يوم فتح مكة‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأما المجوس فقال ابن المنذر‏:‏ لا أعلم خلافا أن الجزية تؤخذ منهم‏.‏ وفي الموطأ‏:‏ مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر أمر المجوس فقال‏:‏ ما أدري كيف أصنع في أمرهم‏.‏ فقال عبدالرحمن بن عوف‏:‏ أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏)‏‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ يعني في الجزية خاصة‏.‏ وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏)‏ دليل على أنهم ليسوا أهل كتاب‏.‏ وعلى هذا جمهور الفقهاء‏.‏ وقد روي عن الشافعي أنهم كانوا أهل كتاب فبدلوا‏.‏ وأظنه ذهب في ذلك إلى شيء روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من وجه فيه ضعف، يدور على أبي سعيد البقال، ذكره عبدالرزاق وغيره‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وروي أنه قد كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت‏.‏ والله أعلم‏.‏

لم يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه مقدارا للجزية المأخوذة منهم‏.‏ وقد اختلف العلماء في مقدار الجزية المأخوذة منهم، فقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ لا توقيت فيها، وإنما هو على ما صولحوا عليه‏.‏ وكذلك قال يحيى بن آدم وأبو عبيد والطبري، إلا أن الطبري قال‏:‏ أقله دينار وأكثره لا حد له‏.‏ واحتجوا بما رواه أهل الصحيح عن عمرو بن عوف‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين على الجزية‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء واحتج بما رواه أبو داود وغيره عن معاذ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا في الجزية‏.‏ قال الشافعي‏:‏ وهو المبين عن الله تعالى مراده‏.‏ وهو قول أبي ثور‏.‏ قال الشافعي‏:‏ وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز، وإن زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم‏.‏ وإن صولحوا على ضيافة ثلاثة أيام جاز، إذا كانت الضيافة معلومة في الخبز والشعير والتبن والإدام، وذكر ما على الوسط من ذلك وما على الموسر وذكر موضع النزول والكنِّ من البرد والحر‏.‏ وقال مالك فيما رواه عنه ابن القاسم وأشهب ومحمد بن الحارث بن زنجويه‏:‏ إنها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق، الغني والفقير سواء ولو كان مجوسيا‏.‏ لا يزاد ولا ينقص على ما فرض عمر لا يؤخذ منهم غيره‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الضعيف يخفف عنه بقدر ما يراه الإمام‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ لا ينقص من فرض عمر لعسر ولا يزاد عليه لغنى‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ويؤخذ من فقرائهم بقدر ما يحتملون ولو درهما‏.‏ وإلى هذا رجع مالك‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل‏:‏ اثنا عشر، وأربعة وعشرون، وأربعون‏.‏ قال الثوري‏:‏ جاء عن عمر بن الخطاب في ذلك ضرائب مختلفة، فللوالي أن يأخذ بأيها شاء، إذا كانوا أهل ذمة‏.‏ وأما أهل الصلح فما صولحوا عليه لا غير‏.‏

قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ والذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين، لأنه تعالى قال‏{‏قاتلوا الذين‏}‏ إلى قوله‏{‏حتى يعطوا الجزية‏}‏ فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل‏.‏ ويدل على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتلا، لأنه لا مال له، ولأنه تعالى قال‏{‏حتى يعطوا‏}‏‏.‏ ولا يقال لمن لا يملك حتى يعطي‏.‏ وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني‏.‏ واختلف في الرهبان، فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تؤخذ منهم‏.‏ قال مطرف وابن الماجشون‏:‏ هذا إذا لم يترهب بعد فرضها فإن فرضت ثم ترهب لم يسقطها ترهبه‏.‏

إذا أعطى أهل الجزية الجزية لم يؤخذ منهم شيء من ثمارهم ولا تجارتهم ولا زروعهم إلا أن يتجروا في بلاد غير بلادهم التي أقروا فيها وصولحوا عليها‏.‏ فإن خرجوا تجارا عن بلادهم التي أقروا فيها إلى غيرها أخذ منهم العشر إذا باعوا ونض ثمن ذلك بأيديهم ولو كان ذلك في السنة مرارا إلا في حملهم الطعام الحنطة والزيت إلى المدينة ومكة خاصة، فإنه يؤخذ منهم نصف العشر على ما فعل عمر‏.‏ ومن أهل المدينة من لا يرى أن يؤخذ من أهل الذمة العشر في تجارتهم إلا مرة في الحول، مثل ما يؤخذ من المسلمين‏.‏ وهو مذهب عمر بن عبدالعزيز وجماعة من أئمة الفقهاء‏.‏ والأول قول مالك وأصحابه‏.‏

إذا أدى أهل الجزية جزيتهم التي ضربت عليهم أو صولحوا عليها خلي بينهم وبين أموالهم كلها، وبين كرومهم وعصرها ما ستروا خمورهم ولم يعلنوا بيعها من مسلم ومنعوا من إظهار الخمر والخنزير في أسواق المسلمين، فإن أظهروا شيئا من ذلك أريقت الخمر عليهم، وأدب من أظهر الخنزير‏.‏ وإن أراقها مسلم من غير إظهارها فقد تعدى، ويجب عليه الضمان‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجب ولو غصبها وجب عليه ردها‏.‏ ولا يعترض لهم في أحكامهم ولا متاجرتهم فيما بينهم بالربا‏.‏ فإن تحاكموا إلينا فالحاكم مخير، إن شاء حكم بينهم بما أنزل الله وإن شاء أعرض‏.‏ وقيل‏:‏ يحكم بينهم في المظالم على كل حال، ويؤخذ من قويهم لضعيفهم، لأنه من باب الدفع عنهم وعلى الإمام أن يقاتل عنهم عدوهم ويستعين بهم في قتالهم‏.‏ ولا حظ لهم في الفيء، وما صولحوا عليه من الكنائس لم يزيدوا عليها، ولم يمنعوا من إصلاح ما وهى منها، ولا سبيل لهم إلى إحداث غيرها‏.‏ ويأخذون من اللباس والهيئة بما يبينون به من المسلمين، ويمنعون من التشبه بأهل الإسلام‏.‏ ولا بأس باشتراء أولاد العدو منهم إذا لم تكن لهم ذمة‏.‏ ومن لد في أداء جزيته أدب على لدده وأخذت منه صاغرا‏.‏

اختلف العلماء فيما وجبت الجزية عنه، فقال علماء المالكية‏:‏ وجبت بدلا عن القتل بسبب الكفر‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ وجبت بدلا عن الدم وسكنى الدار‏.‏ وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا وجبت بدلا عن القتل فأسلم سقطت عنه الجزية لما مضى، ولو أسلم قبل تمام الحول بيوم أو بعده عند مالك‏.‏ وعند الشافعي أنها دين مستقر في الذمة فلا يسقطه الإسلام كأجرة الدار‏.‏ وقال بعض الحنفية بقولنا‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إنما وجبت بدلا عن النصر والجهاد‏.‏ واختاره القاضي أبو زيد وزعم أنه سر الله في المسألة‏.‏ وقول مالك أصح، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس على مسلم جزية‏)‏‏.‏ قال سفيان‏:‏ معناه إذا أسلم الذمي بعد ما وجبت الجزية عليه بطلت عنه‏.‏ أخرجه الترمذي وأبو داود‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وعليه يدل قوله تعالى‏{‏حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏ لأن بالإسلام يزول هذا المعنى‏.‏ ولا خلاف أنهم إذا أسلموا فلا يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون‏.‏ والشافعي لا يأخذ بعد الإسلام على الوجه الذي قاله الله تعالى‏.‏ وإنما يقول‏:‏ إن الجزية دين، وجبت عليه بسبب سابق وهو السكنى أو توقي شر القتل، فصارت كالديون كلها‏.‏

لو عاهد الإمام أهل بلد أو حصن ثم نقضوا عهدهم وامتنعوا من أداء ما يلزمهم من الجزية وغيرها وامتنعوا من حكم الإسلام من غير أن يظلموا وكان الإمام غير جائر عليهم وجب على المسلمين غزوهم وقتالهم مع إمامهم‏.‏ فإن قاتلوا وغلبوا حكم فيهم بالحكم في دار الحرب سواء‏.‏ وقد قيل‏:‏ هم ونساؤهم فيء ولا خمس فيهم، وهو مذهب‏.‏

فإن خرجوا متلصصين قاطعين الطريق فهم بمنزلة المحاربين المسلمين إذا لم يمنعوا الجزية‏.‏ ولو خرجوا متظلمين نظر في أمرهم وردوا إلى الذمة وأنصفوا من ظالمهم ولا يسترق منهم أحد وهم أحرار‏.‏ فإن نقض بعضهم دون بعض فمن لم ينقض على عهده، ولا يؤخذ بنقض غيره وتعرف إقامتهم على العهد بإنكارهم على الناقضين‏.‏

الجزية وزنها فعلة، من جزى يجزي إذا كافأ عما أسدي إليه، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن، وهي كالقعدة والجلسة‏.‏ ومن هذا المعنى قول الشاعر‏:‏

يجزيك أو يثني عليك وإن من أثنى عليك بما فعلت كمن جزى

روى مسلم عن هشام بن حكيم بن حزام ومر على ناس من الأنباط بالشأم قد أقيموا في الشمس - في رواية‏:‏ وصب على رؤوسهم الزيت - فقال‏:‏ ما شأنهم‏؟‏ فقال يحبسون في الجزية‏.‏ فقال هشام‏:‏ أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا‏)‏‏.‏ في رواية‏:‏ وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه فحدثه فأمر بهم فخلوا‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ أما عقوبتهم إذا امتنعوا من أدائها مع التمكين فجائز، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم، لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه‏.‏ ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء‏.‏ وروى أبو داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏عن يد‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يدفعها بنفسه غير مستنيب فيها أحدا روى أبو البختري عن سلمان قال‏:‏ مذمومين‏.‏ وروى معمر عن قتادة قال‏:‏ عن قهر وقيل‏{‏عن يد‏}‏ عن إنعام منكم عليهم، لأنهم إذا أخذت منهم الجزية فقد أنعم عليهم بذلك‏.‏ عكرمة‏:‏ يدفعها وهو قائم والآخذ جالس وقال سعيد بن جبير‏.‏ ابن العربي‏:‏ وهذا ليس من قوله‏{‏عن يد‏}‏ وإنما هو من قوله‏{‏وهم صاغرون‏}‏‏.‏

روى الأئمة عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة‏)‏ وروى‏:‏ ‏(‏واليد العليا هي المعطية‏)‏‏.‏ فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى‏.‏ ويد الآخذ عليا؛ ذلك بأنه الرافع الخافض، يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، لا إله غيره‏.‏

عن حبيب بن أبي ثابت قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عباس فقال‏:‏ إن أرض الخراج يعجز عنها أهلها أفأعمرها وأزرعها وأؤدي خراجها‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ وجاءه آخر فقال له ذلك فقال‏:‏ لا وتلا قوله تعالى‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏ إلى قوله‏{‏وهم صاغرون‏}‏ أيعمد أحدكم إلى الصغار في عنق أحدهم فينتزعه فيجعله في عنقه وقال كليب بن وائل‏:‏ قلت لابن عمر اشتريت أرضا قال الشراء حسن‏.‏ قلت‏:‏ فإني أعطي عن كل جريب أرض درهما وقفيز طعام‏.‏ قال‏:‏ لا تجعل في عنقك صغارا‏.‏ وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ ما يسرني أن لي الأرض كلها بجزية خمسة دراهم أمر فيها بالصغار على نفسي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 30 ‏)‏

‏{‏وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون‏}‏قرأ عاصم والكسائي ‏}‏عزير ابن الله‏}‏ بتنوين عزير‏.‏ والمعنى أن ‏}‏ابنا‏}‏ على هذا خبر ابتداء عن عزير و‏}‏عزير‏}‏ ينصرف عجميا كان أو عربيا‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ‏}‏عزير ابن‏}‏ بترك التنوين لاجتماع الساكنين، ومنه قراءة من قرأ ‏}‏قل هو الله أحد الله الصمد‏}‏الإخلاص‏:‏1 - 2‏]‏‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وهو كثير في الشعر‏.‏ وأنشد الطبري في ذلك‏:‏

لتجدني بالأمير برا وبالقناة مدعسا مكرا

إذا غطيفُ السُّلَميُّ فرا

قوله تعالى‏{‏وقالت اليهود‏}‏ هذا لفظ خرج على العموم ومعناه الخصوص، لأن ليس كل اليهود قالوا ذلك‏.‏ وهذا مثل قوله تعالى‏{‏الذين قال لهم الناس‏}‏آل عمران‏:‏173‏]‏ ولم يقل ذلك كل الناس‏.‏ وقيل‏:‏ إن قائل ما حكى عن اليهود سلام بن مشكم ونعمان بن أبي أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، قالوه للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال النقاش‏:‏ لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا فإذا قالها واحد فيتوجه أن تلزم الجماعة شنعة المقالة، لأجل نباهة القائل فيهم‏.‏ وأقوال النبهاء أبدا مشهورة في الناس يحتج بها‏.‏ فمن ههنا صح أن تقول الجماعة قول نبيهها‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقد روي أن سبب ذلك القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فخرج عزير يسيح في الأرض، فأتاه جبريل فقال‏:‏ ‏(‏أين تذهب‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ أطلب العلم، فعلمه التوراة كلها فجاء عزير بالتوراة إلى بني إسرائيل فعلمهم‏.‏ وقيل‏:‏ بل حفظها الله عزيرا كرامة منه له، فقال لبني إسرائيل‏:‏ إن الله قد حفظني التوراة، فجعلوا يدرسونها من عنده‏.‏ وكانت التوراة مدفونة، كان دفنها علماؤهم حين أصابهم من الفتن والجلاء والمرض ما أصاب وقتل بختنصر إياهم‏.‏ ثم إن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي متساوية لما كان عزير يدرس فضلوا عند ذلك وقالوا‏:‏ إن هذا لم يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله حكاه الطبري‏.‏ وظاهر قول النصارى أن المسيح ابن الله، إنما أرادوا بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة‏.‏ وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما‏.‏ وهذا أشنع الكفر‏.‏ قال أبو المعالي‏:‏ أطبقت النصارى على أن المسيح إله وإنه ابن إله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويقال إن بعضهم يعتقدها بنوة حنو ورحمة‏.‏ وهذا المعنى أيضا لا يحل أن تطلق البنوة عليه وهو كفر‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ في هذا دليل من قول ربنا تبارك وتعالى على أن من أخبر عن كفر غيره الذي لا يجوز لأحد أن يبتدئ به لا حرج عليه، لأنه إنما ينطق به على معنى الاستعظام له والرد عليه ولو شاء ربنا ما تكلم به أحد، فإذا مكن من إطلاق الألسن به فقد أذن بالإخبار عنه على معنى إنكاره بالقلب واللسان والرد عليه بالحجة والبرهان‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك قولهم بأفواههم‏}‏ قيل‏:‏ معناه التأكيد، كما قال تعالى‏{‏يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏البقرة‏:‏ 79‏]‏ وقوله‏{‏ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏الأنعام‏:‏38‏]‏ وقوله‏{‏فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة‏}‏الحاقة‏:‏13‏]‏ ومثله كثير‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنه لما كان قول ساذج ليس فيه بيان ولا برهان، وإنما هو قول بالفم مجرد نفس دعوى لا معنى تحته صحيح لأنهم معترفون بأن الله سبحانه لم يتخذ صاحبة فكيف يزعمون أن له ولدا، فهو كذب وقول لساني فقط بخلاف الأقوال الصحيحة التي تعضدها الأدلة ويقوم عليها البرهان‏.‏ قال أهل المعاني‏:‏ إن الله سبحانه لم يذكر قولا مقرونا بذكر الأفواه والألسن إلا وكان قولا زورا، كقوله‏{‏يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم‏}‏آل عمران‏:‏ 167‏]‏ و‏}‏كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا‏}‏الكهف‏:‏ 5‏]‏ و‏}‏يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم‏}‏الفتح‏:‏ 11‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏يضاهئون قول الذين كفروا من قبل‏}‏ ‏}‏يضاهئون‏}‏ يشابهون، ومنه قول العرب‏:‏ امرأة ضهيأ للتي لا تحيض أو التي لا ثدي لها، كأنها أشبهت الرجال‏.‏ وللعلماء في ‏}‏قول الذين كفروا‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏‏[‏الأول‏]‏ قول عبدة الأوثان‏:‏ اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى‏.‏ الثاني‏:‏ قول الكفرة‏:‏ الملائكة بنات الله‏.‏ الثالث‏:‏ قول أسلافهم، فقلدوهم في الباطل واتبعوهم على الكفر، كما أخبر عنهم بقوله تعالى‏{‏إنا وجدنا آباءنا على أمة‏}‏الزخرف‏:‏ 23‏]‏‏.‏

اختلف العلماء في ‏}‏ضهيأ‏}‏ هل يمد أو لا، فقال ابن ولاد‏:‏ امرأة ضهيأ، وهي التي لا تحيض، مهموز غير ممدود‏.‏ ومنهم من يمد وهو سيبويه فيجعلها على فعلاء بالمد، والهمزة فيها زائدة لأنهم يقولون نساء ضهي فيحذفون الهمزة‏.‏ قال أبو الحسن قال لي النجيرمي‏:‏ ضهيأة بالمد والهاء‏.‏ جمع بين علامتي تأنيث، حكاه عن أبي عمرو الشيباني في النوادر‏.‏ وأنشد‏:‏

ضهيأة أو عاقر جماد

ابن عطية‏:‏ من قال ‏}‏يضاهئون‏}‏ مأخوذ من قولهم‏:‏ امرأة ضهياء فقوله خطأ، قاله أبو علي، لأن الهمزة في ‏(‏ضاهأ‏)‏ أصلية، وفي ‏(‏ضهياء‏)‏ زائدة كحمراء‏.‏

قوله تعالى‏{‏قاتلهم الله أنى يؤفكون‏}‏ أي لعنهم الله، يعني اليهود والنصارى، لأن الملعون كالمقتول‏.‏ قال ابن جريج‏{‏قاتلهم الله‏}‏ هو بمعنى التعجب‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كل شيء في القرآن قتل فهو لعن، ومنه قول أبان ابن تغلب‏:‏

قاتلها الله تلحاني وقد علمت أني لنفسي إفسادي وإصلاحي

وحكى النقاش أن أصل ‏}‏قاتل الله‏}‏ الدعاء، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر، وهم لا يريدون الدعاء‏.‏ وأنشد الأصمعي‏:‏

يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني وأخبر الناس أني لا أباليها

الآية رقم ‏(‏ 31 ‏)‏

‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون‏}‏

قوله تعالى‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم‏}‏ الأحبار جمع حبر، وهو الذي يحسن القول وينظمه ويتقنه بحسن البيان عنه‏.‏ ومنه ثوب محبر أي جمع الزينة‏.‏ وقد قيل في واحد الأحبار‏:‏ حبر بكسر الحاء، والدليل على ذلك أنهم قالوا‏:‏ مداد حبر يريدون مداد عالم، ثم كثر الاستعمال حتى قالوا للمداد حبر‏.‏ قال الفراء‏:‏ الكسر والفتح لغتان‏.‏ وقال ابن السكيت‏:‏ الحبر بالكسر المداد، والحبر بالفتح العالم‏.‏ والرهبان جمع راهب مأخوذ من الرهبة، وهو الذي حمله خوف الله تعالى على أن يخلص له النية دون الناس، ويجعل زمانه له وعمله معه وأنسه به‏.‏

قوله تعالى‏{‏أربابا من دون الله‏}‏ قال أهل المعاني‏:‏ جعلوا أحبارهم ورهبانهم كالأرباب حيث أطاعوهم في كل شيء ومنه قوله تعالى‏{‏قال انفخوا حتى إذا جعله نارا‏}‏الكهف‏:‏ 96‏]‏ أي كالنار‏.‏ قال عبدالله بن المبارك‏:‏

وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها

روى الأعمش وسفيان عن حبيب بن أبى ثابت عن أبى البختري قال‏:‏ سئل حذيفة عن قول الله عز وجل‏{‏أتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله‏}‏ هل عبدوهم‏؟‏ فقال لا، ولكن أحلوا لهم الحرام فاستحلوه، وحرموا عليهم الحلال فحرموه‏.‏ وروى الترمذي عن عدي بن حاتم قال‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ما هذا يا عدي اطرح عنك هذا الوثن‏)‏ وسمعته يقرأ في سورة ‏[‏براءة}‏ ‏}‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه‏)‏‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث غريب لا يعرف إلا من حديث عبدالسلام بن حرب‏.‏ وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث‏.‏

قوله تعالى‏{‏والمسيح ابن مريم‏}‏ مضى الكلام في اشتقاقه في ‏}‏آل عمران‏}‏ والمسيح‏:‏ العرق يسيل من الجبين‏.‏ ولقد أحسن بعض المتأخرين فقال‏:‏

افرح فسوف تألف الأحزانا إذا شهدت الحشر والميزانا

وسال من جبينك المسيح كأنه جداول تسيح

ومضى في ‏}‏النساء‏}‏ معنى إضافته إلى مريم أمه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 32 ‏)‏

‏{‏يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يريدون أن يطفئوا نور الله‏}‏ أي دلالته وحججه على توحيده‏.‏ جعل البراهين بمنزلة النور لما فيها من البيان‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى نور الإسلام، أي أن يخمدوا دين الله بتكذيبهم‏.‏ ‏}‏بأفواههم‏}‏ جمع فوه على الأصل، لأن الأصل في فم فوه، مثل حوض وأحواض‏.‏ ‏}‏ويأبى الله إلا أن يتم نوره‏}‏ يقال‏:‏ كيف دخلت ‏}‏إلا‏}‏ وليس في الكلام حرف نفي، ولا يجوز ضربت إلا زيدا‏.‏ فزعم الفراء أن ‏}‏إلا‏}‏ إنما دخلت لأن في الكلام طرفا من الجحد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الجحد والتحقيق ليسا بذوي أطراف‏.‏ وأدوات الجحد‏:‏ ما، ولا، وإن، وليس‏:‏ وهذه لا أطراف لها ينطق بها ولو كان الأمر كما أراد لجاز كرهت إلا زيدا، ولكن الجواب أن العرب تحذف مع أبى‏.‏ والتقدير‏:‏ ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره‏.‏ وقال علي بن سليمان‏:‏ إنما جاز هذا في ‏}‏أبى‏}‏ لأنها منع أو امتناع فضارعت النفي‏.‏ قال النحاس‏:‏ فهذا حسن، كما قال الشاعر‏:‏

وهل لي أم غيرها إن تركتها أبى الله إلا أن أكون لها ابنما

الآية رقم ‏(‏ 33 ‏)‏

‏{‏هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون‏}‏

قوله تعالى‏{‏هو الذي أرسل رسوله‏}‏ يريد محمدا صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏بالهدى‏}‏ أي بالفرقان‏.‏ ‏}‏ودين الحق ليظهره على الدين كله‏}‏ أي بالحجة والبراهين‏.‏ وقد أظهره على شرائع الدين حتى لا يخفى عليه شيء منها، عن ابن عباس وغيره‏.‏ وقيل‏{‏ليظهره‏}‏ أي ليظهر الدين دين الإسلام على كل دين‏.‏ قال أبو هريرة والضحاك‏:‏ هذا عند نزول عيسى عليه السلام‏.‏ وقال السدي‏:‏ ذاك عند خروج المهدي، لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدى الجزية‏.‏ وقيل‏:‏ المهدي هو عيسى فقط وهو غير صحيح لأن الأخبار الصحاح قد تواترت على أن المهدي من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز حمله على عيسى‏.‏ والحديث الذي ورد في أنه ‏(‏لا مهدي إلا عيسى‏)‏ غير صحيح‏.‏ قال البيهقي في كتاب البعث والنشور‏:‏ لأن راويه محمد بن خالد الجندي وهو مجهول، يروي عن أبان بن أبي عياش - وهو متروك - عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو منقطع‏.‏ والأحاديث التي قبله في التنصيص على خروج المهدي، وفيها بيان كون المهدي من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح إسنادا‏.‏

قلت‏:‏ قد ذكرنا هذا وزدناه بيانا في كتابنا كتاب التذكرة وذكرنا أخبار المهدي مستوفاة والحمد لله‏.‏ وقيل‏:‏ أراد ‏}‏ليظهره على الدين كله‏}‏ في جزيرة العرب، وقد فعل‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 34 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ليأكلون أموال الناس بالباطل‏}‏ دخلت اللام على يفعل، ولا تدخل على فعل لمضارعة يفعل الأسماء‏.‏ والأحبار علماء اليهود‏.‏ والرهبان مجتهدو النصارى في العبادة‏.‏ ‏}‏بالباطل‏}‏ قيل‏:‏ إنهم كانوا يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس والبيع وغير ذلك، مما يوهمونهم أن النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله تعالى، وهم خلال ذلك يحجبون تلك الأموال، كالذي ذكره سلمان الفارسي عن الراهب الذي استخرج كنزه، ذكره ابن إسحاق في السير‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يأخذون من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يرتشون في الأحكام، كما يفعله اليوم كثير من الولاة والحكام‏.‏ وقوله‏{‏بالباطل‏}‏ يجمع ذلك كله‏.‏ ‏}‏ويصدون عن سبيل الله‏}‏ أي يمنعون أهل دينهم عن الدخول في دين الإسلام، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏والذين يكنزون الذهب والفضة‏}‏ الكنز أصله في اللغة الضم والجمع ولا يختص ذلك بالذهب والفضة‏.‏ ألا ترى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء المرأة الصالحة‏)‏‏.‏ أي يضمه لنفسه ويجمعه‏.‏ قال‏:‏

ولم تزود من جميع الكنز غير خيوط ورثيث بز

وقال آخر‏:‏

لا درَّ درّي إن أطعمت جائعهم قِرْف الحتيِّ وعندي البر مكنوز

قرف الحتي هو سويق المقل‏.‏ يقول‏:‏ إنه نزل بقوم فكان قراه عندهم سويق المقل، وهو الحتي، فلما نزلوا به قال هو‏:‏ لا در دري‏.‏‏.‏‏.‏ البيت‏.‏ وخص الذهب والفضة بالذكر لأنه مما لا يطلع عليه، بخلاف سائر الأموال‏.‏ قال الطبري‏:‏ الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض، في بطن الأرض كان أو على ظهرها‏.‏ وسمي الذهب ذهبا لأنه يذهب، والفضة لأنها تنفض فتتفرق، ومنه قوله تعالى‏{‏انفضوا إليها‏}‏الجمعة‏:‏ 11‏]‏ - ‏}‏لانفضوا من حولك‏}‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏ وقد مضى هذا المعنى في ‏}‏آل عمران‏}‏‏.‏

واختلف الصحابة في المراد بهذه الآية، فذهب معاوية إلى أن المراد بها أهل الكتاب وإليه ذهب الأصم لأن قوله‏{‏والذين يكنزون‏}‏ مذكور بعد قوله‏{‏إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال لناس بالباطل‏}‏‏.‏ وقال أبو ذر وغيره‏:‏ المراد بها أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين‏.‏ وهو الصحيح، لأنه لو أراد أهل الكتاب خاصة لقال‏:‏ ويكنزون، بغير والذين‏.‏ فلما قال‏{‏والذين‏}‏ فقد استأنف معنى آخر يبين أنه عطف جملة على جملة‏.‏ فالذين يكنزون كلام مستأنف، وهو رفع على الابتداء‏.‏ قال السدي‏:‏ عنى أهل القبلة‏.‏ فهذه ثلاثة أقوال‏.‏ وعلى قول الصحابة فيه دليل على أن الكفار عندهم مخاطبون بفروع الشريعة‏.‏ روى البخاري عن زيد بن وهب قال‏:‏ مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر فقلت له‏:‏ ما أنزلك منزلك هذا‏؟‏ قال‏:‏ كنت بالشأم فاختلفت أنا ومعاوية في ‏}‏الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله‏}‏، فقال معاوية‏:‏ نزلت في أهل الكتاب‏.‏ فقلت‏:‏ نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينه في ذلك‏.‏ فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان فقال‏:‏ إن شئت تنحيت فكنت قريبا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمروا علي حبشيا لسمعت وأطعت‏.‏

قال ابن خويز منداد‏:‏ تضمنت هذه الآية زكاة العين، وهي تجب بأربعة شروط‏:‏ حرية، وإسلام، وحول، ونصاب سليم من الدين‏.‏ والنصاب مائتا درهم أو عشرون دينارا‏.‏ أو يكمل نصاب أحدهما من الآخر وأخرج ربع العشر من هذا وربع العشر من هذا‏.‏ وإنما قلنا إن الحرية شرط، فلأن العبد ناقص الملك‏.‏ وإنما قلنا إن الإسلام شرط، فلأن الزكاة طهرة والكافر لا تلحقه طهرة، ولأن الله تعالى قال‏{‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏البقرة‏:‏43‏]‏ فخوطب بالزكاة من خوطب بالصلاة‏.‏ وإنما قلنا إن الحول شرط، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول‏)‏‏.‏ وإنما قلنا إن النصاب شرط، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليس في أقل من مائتي درهم زكاة وليس في أقل من عشرين دينارا زكاة‏)‏‏.‏ ولا يراعى كمال النصاب في أول الحول، وإنما يراعى عند آخر الحول، لاتفاقهم أن الربح في حكم الأصل‏.‏ يدل على هذا أن من كانت معه مائتا درهم فتجر فيها فصارت آخر الحول ألفا أنه يؤدي زكاة الألف، ولا يستأنف للربح حولا‏.‏ فإذا كان كذلك لم يختلف حكم الربح، كان صادرا عن نصاب أو دونه‏.‏ وكذلك اتفقوا أنه لو كان له أربعون من الغنم، فتوالدت له رأس الحول ثم ماتت الأمهات إلا واحدة منها، وكانت السخال تتمة النصاب فإن الزكاة تخرج عنها‏.‏

واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا أم لا‏؟‏ فقال قوم‏:‏ نعم‏.‏ ورواه أبو الضحاك عن جعدة بن هبيرة عن علي رضي الله عنه، قال علي‏:‏ أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما كثر فهو كنز وإن أديت زكاته، ولا يصح‏.‏ وقال قوم‏:‏ ما أديت زكاته منه أو من غيره عنه فليس بكنز‏.‏ قال ابن عمر‏:‏ ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض‏.‏ ومثله عن جابر، وهو الصحيح‏.‏ وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول أنا مالك أنا كنزك - ثم تلا - ‏}‏ولا يحسبن الذين يبخلون‏}‏آل عمران‏:‏ 180‏]‏ الآية‏.‏ وفيه أيضا عن أبي ذر، قال‏:‏ انتهيت إليه - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده - أو والذي لا إله غيره أو كما حلف - ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس‏)‏‏.‏ فدل دليل خطاب هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا‏.‏ وقد بين ابن عمر في صحيح البخاري هذا المعنى، قال له أعرابي‏:‏ أخبرني عن قول الله تعالى‏{‏والذين يكنزون الذهب والفضة‏}‏ قال ابن عمر‏:‏ من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال‏.‏ وقيل‏:‏ الكنز ما فضل عن الحاجة‏.‏ روى عن أبي ذر، وهو مما نقل من مذهبه، وهو من شدائده ومما انفرد به رضي الله عنه‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون مجمل ما روي عن أبي ذر في هذا، ما روي أن الآية نزلت في وقت شدة الحاجة وضعف المهاجرين وقصر يد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كفايتهم، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم، وكانت السنون الجوائح هاجمة عليهم، فنهوا عن إمساك شيء من المال إلا على قدر الحاجة ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في مثل ذلك الوقت‏.‏ فلما فتح الله على المسلمين ووسع عليهم أوجب صلى الله عليه وسلم في مائتي درهم خمسة دراهم وفي عشرين دينارا نصف دينار ولم يوجب الكل واعتبر مدة الاستنماء، فكان ذلك منه بيانا صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ الكنز ما لم تؤد منه الحقوق العارضة، كفك الأسير وإطعام الجائع وغير ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ الكنز لغة المجموع من النقدين، وغيرهما من المال محمول عليهما بالقياس‏.‏ وقيل‏:‏ المجموع منهما ما لم يكن حليا، لأن الحلي مأذون في اتخاذه ولا حق فيه‏.‏ والصحيح ما بدأنا بذكره، وأن ذلك كله يسمى كنزا لغة وشرعا‏.‏ والله أعلم‏.‏

واختلف العلماء في زكاة الحلي، فذهب مالك وأصحابه وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد إلى أن لا زكاة فيه‏.‏ وهو قول الشافعي بالعراق، ووقف فيه بعد ذلك بمصر وقال‏:‏ أستخير الله فيه‏.‏ وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي‏:‏ في ذلك كله الزكاة‏.‏ احتج الأولون فقالوا‏:‏ قصد النماء يوجب الزكاة في العروض وهي ليست بمحل لإيجاب الزكاة، كذلك قطع النماء في الذهب والفضة باتخاذهما حليا للقنية يسقط الزكاة‏.‏ احتج أبو حنيفة بعموم الألفاظ في إيجاب الزكاة في النقدين ولم يفرق بين حلي وغيره‏.‏ وفرق الليث بن سعد فأوجب الزكاة فيما صنع حليا ليفر به من الزكاة وأسقطها فيما كان منه يلبس ويعار وفي المذهب في الحلي تفصيل بيانه في كتب الفروع‏.‏

روى أبو داود عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏}‏والذين يكنزون الذهب والفضة‏}‏ قال‏:‏ كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر‏:‏ أنا أفرج عنكم فانطلق فقال‏:‏ يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث - وذكر كلمة - لتكون لمن بعدكم‏)‏ قال‏:‏ فكبر عمر‏.‏ ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته‏)‏‏.‏ وروى الترمذي وغيره عن ثوبان أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ قد ذم الله سبحانه الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير حتى نكسبه‏.‏ فقال عمر‏:‏ أنا أسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال‏:‏ ‏(‏لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة تعين المرء على دينه‏)‏‏.‏ قال حديث حسن‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا ينفقونها في سبيل الله‏}‏ ولم يقل ينفقونهما، ففيه أجوبة ستة‏:‏ الأول‏:‏ قال ابن الأنباري‏:‏ قصد الأغلب والأعم وهي الفضة، ومثله قوله‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة‏}‏البقرة‏:‏ 45‏]‏ رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم‏.‏ ومثله ‏}‏وإذا رأوا تجارة أو لهوا انقضوا إليها‏}‏الجمعة‏:‏ 11‏]‏ فأعاد الهاء إلى التجارة لأنها الأهم وترك اللهو قاله كثير من المفسرين‏.‏ وأباه بعضهم وقال‏:‏ لا يشبهها، لأن ‏}‏أو‏}‏ قد فصلت التجارة من اللهو فحسن عود الضمير على أحدهما‏.‏ الثاني‏:‏ العكس وهو أن يكون ‏}‏ينفقونها‏}‏ للذهب والثاني معطوفا عليه‏.‏ والذهب تؤنثه العرب تقول‏:‏ هي الذهب الحمراء‏.‏ وقد تذكر والتأنيث أشهر‏.‏ الثالث‏:‏ أن يكون الضمير للكنوز‏.‏ الرابع‏:‏ للأموال المكنوزة‏.‏ الخامس‏:‏ للزكاة التقدير ولا ينفقون زكاة الأموال المكنوزة‏.‏ السادس‏:‏ الاكتفاء بضمير الواحد عن ضمير الآخر إذا فهم المعنى، وهذا كثير في كلام العرب‏.‏ أنشد سيبويه‏:‏

نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف

ولم يقل راضون‏.‏ وقال آخر‏.‏

رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني

ولم يقل بريئين‏.‏ ونحوه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه‏:‏

إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنونا

ولم يقل يعاصيا‏.‏

إن قيل‏:‏ من لم يكنز ولم ينفق في سبيل الله وأنفق في المعاصي، هل يكون حكمه في الوعيد حكم من كنز ولم ينفق في سبيل الله‏.‏ قيل له‏:‏ إن ذلك أشد، فإن من بذر ماله في المعاصي عصى من جهتين‏:‏ بالإنفاق والتناول، كشراء الخمر وشربها‏.‏ بل من جهات إذا كانت المعصية مما تتعدى، كمن أعان على ظلم مسلم من قتله أو أخذ ماله إلى غير ذلك‏.‏ والكانز عصى من جهتين، وهما منع الزكاة وحبس المال لا غير‏.‏ وقد لا يراعى حبس المال، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ قد تقدم معناه‏.‏ وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا العذاب بقوله‏:‏ ‏(‏بشر الكنازين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم‏)‏ الحديث‏.‏ أخرجه مسلم‏.‏ رواه أبو ذر في رواية‏:‏ ‏(‏بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه فيتزلزل‏)‏ الحديث‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ فخروج الرضف من حلمة ثديه إلى نغض كتفه لتعذيب قلبه وباطنه حين امتلأ بالفرج بالكثرة في المال والسرور في الدنيا، فعوقب في الآخرة بالهم والعذاب‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ ظاهر الآية تعليق الوعيد على من كنز ولا ينفق في سبيل الله ويتعرض للواجب وغيره، غير أن صفة الكنز لا ينبغي أن تكون معتبرة، فإن من لم يكنز ومنع الإنفاق في سبيل الله فلا بد وأن يكون كذلك، إلا أن الذي يخبأ تحت الأرض هو الذي يمنع إنفاقه في الواجبات عرفا، فلذلك خص الوعيد به‏.‏ والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 35 ‏)‏

‏{‏يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يوم يحمى عليها في نار جهنم‏}‏ ‏}‏يوم‏}‏ ظرف، والتقدير يعذبون يوم يحمى‏.‏ ولا يصح أن يكون على تقدير‏:‏ فبشرهم يوم يحمى عليها، لأن البشارة لا تكون حينئذ‏.‏ يقال‏:‏ أحميت الحديدة في النار، أي أوقدت عليها‏.‏ ويقال‏:‏ أحميته، ولا يقال‏:‏ أحميت عليه‏.‏ وههنا قال عليها، لأنه جعل ‏}‏على‏}‏ من صلة معنى الإحماء، ومعنى الإحماء الإيقاد‏.‏ أي يوقد عليها فتكوى‏.‏ الكي‏:‏ إلصاق الحار من الحديد والنار بالعضو حتى يحترق الجلد‏.‏ والجباه جمع الجبهة، وهو مستوى ما بين الحاجب إلى الناصية‏.‏ وجبهت فلانا بكذا، أي استقبلته به وضربت جبهته‏.‏ والجنوب جمع الجنب‏.‏ والكي في الوجه أشهر وأشنع، وفي الجنب والظهر آلم وأوجع، فلذلك خصها بالذكر من بين سائر الأعضاء‏.‏ وقال علماء الصوفية‏:‏ لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كويت جنوبهم، ولما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقة بها واعتمادا عليها كويت ظهورهم‏.‏ وقال علماء الظاهر‏:‏ إنما خص هذه الأعضاء لأن الغني إذا رأى الفقير زوى ما بين عينيه وقبض وجهه‏.‏ كما قال‏:‏

يزيد يغض الطرف عني كأنما زوى بين عينيه علي المحاجم

فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ولا تلقني إلا وأنفك راغم

وإذا سأله طوى كشحه، وإذا زاده في السؤال وأكثر عليه ولاه ظهره‏.‏ فرتب الله العقوبة على حال المعصية‏.‏

واختلفت الآثار في كيفية الكي بذلك، ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذر ما ذكرنا من ذكر الرضف‏.‏ وفيه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏ الحديث‏.‏ وفي البخاري‏:‏ أنه يمثل له كنزه شجاعا أقرع‏.‏ وقد تقدم في غير الصحيح عن عبدالله بن مسعود أنه قال‏:‏‏(‏من كان له مال فلم يؤد زكاته طوقه يوم القيامة شجاعا أقرع ينفر رأسه‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏

قلت‏:‏ ولعل هذا يكون في مواطن‏:‏ موطن يمثل المال فيه ثعبانا، وموطن يكون صفائح وموطن يكون رضفا‏.‏ فتتغير الصفات والجسمية واحدة، فالشجاع جسم والمال جسم‏.‏ وهذا التمثيل حقيقة، بخلاف قوله‏:‏ ‏(‏يؤتى بالموت كأنه كبش أملح‏)‏ فإن تلك طريقة أخرى، ولله سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء‏.‏ وخص الشجاع بالذكر لأنه العدو الثاني للخلق‏.‏ والشجاع من الحيات هو الحية الذكر الذي يواثب الفارس والراجل، ويقوم على ذنبه وربما بلغ الفارس، ويكون في الصحارى‏.‏ وقيل‏:‏ هو الثعبان‏.‏ قال اللحياني‏:‏ يقال للحية شجاع، وثلاثة أشجعة، ثم شجعان‏.‏ والأقرع من الحيات هو الذي تمعط رأسه وابيض من السم‏.‏ في الموطأ‏:‏ له زبيبتان، أي نقطتان منتفختان في شدقيه كالرغوتين‏.‏ ويكون ذلك في شدقي الإنسان إذا غضب وأكثر من الكلام‏.‏ قالت أم غيلان بنت جرير ربما أنشدت أبي حتى يتزبب شدقاي‏.‏ ضرب مثلا للشجاع الذي كثر سمه فيمثل المال بهذا الحيوان فيلقى صاحبه غضبان‏.‏ وقال ابن دريد‏:‏ نقطتان سوداوان فوق عينيه‏.‏ في رواية‏:‏ مثل له شجاع يتبعه فيضطره فيعطيه يده فيقضمها كما يقضم الفحل‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏‏(‏والله لا يعذب الله أحدا بكنز فيمس درهم درهما ولا دينار دينارا، ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل درهم ودينار على حدته‏)‏ وهذا إنما يصح في الكافر - كما ورد في الحديث - لا في المؤمن‏.‏ والله أعلم‏.‏

أسند الطبري إلى أبي أمامة الباهلي قال‏:‏ مات رجل من أهل الصفة فوجد في بردته دينار‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كية‏)‏‏.‏ ثم مات آخر فوجد له ديناران‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏كيتان‏)‏‏.‏ وهذا إما لأنهما كانا يعيشان من الصدقة وعندهما البر، وإما لأن هذا كان في صدر الإسلام، ثم قرر الشرع ضبط المال وأداء حقه‏.‏ ولو كان ضبط المال ممنوعا لكان حقه أن يخرج كله، وليس في الأمة من يلزم هذا‏.‏ وحسبك حال الصحابة وأموالهم رضوان الله عليهم‏.‏ وأما ما ذكر عن أبي ذر فهو مذهب له، رضي الله عنه‏.‏ وقد روى موسى بن عبيدة عن عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من جمع دينارا أو درهما أو تبرا أو فضة ولا يعده لغريم ولا ينفقه في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ هذا الذي يليق بأبي ذر رضي الله عنه أن يقول به، وأن ما فضل عن الحاجة فليس بكنز إذا كان معدا لسبيل الله‏.‏ وقال أبو أمامة‏:‏ من خلف بيضا أوصفرا كوي بها مغفورا له أو غير مغفور له، ألا إن حلية السيف من ذلك‏.‏ وروى ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض إلا جعل الله له بكل قيراط صفيحة يكوى بها من فرقه إلى قدمه مغفورا له بعد ذلك أو معذبا‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا محمول على ما لم تؤد زكاته بدليل ما ذكرنا في الآية قبل هذا‏.‏ فيكون التقدير‏:‏ وعنده أحمر أو أبيض لم يؤد زكاته‏.‏ وكذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ من ترك عشرة آلاف جعلت صفائح يعذب بها صاحبها يوم القيامة‏.‏ أي إن لم يؤد زكاتها، لئلا تتناقض الأحاديث‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏هذا ما كنزتم لأنفسكم‏}‏ أي يقال لهم هذا ما كنزتم، فحذف‏.‏ ‏}‏فذوقوا ما كنتم تكنزون‏}‏ أي عذاب ما كنتم تكنزون‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 36 ‏)‏

‏{‏إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن عدة الشهور‏}‏ جمع شهر‏.‏ فإذا قال الرجل لأخيه‏:‏ لا أكلمك الشهور، وحلف على ذلك فلا يكلمه حولا، قاله بعض العلماء‏.‏ وقيل‏:‏ لا يكلمه أبدا‏.‏ ابن العربي‏:‏ وأرى إن لم تكن له نية أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر لأنه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة فعول في جمع فعل‏.‏ ‏}‏عند الله‏}‏ أي في حكم الله وفيما كتب في اللوح المحفوظ‏.‏ ‏}‏اثنا عشر شهرا‏}‏ أعربت ‏}‏اثنا عشر شهرا‏}‏ دون نظائرها، لأن فيها حرف الإعراب ودليله‏.‏ وقرأ العامة ‏}‏عشر‏}‏ بفتح العين والشين‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏}‏عشر‏}‏ بجزم الشين‏.‏ ‏}‏في كتاب الله‏}‏ يريد اللوح المحفوظ‏.‏ وأعاده بعد أن قال ‏}‏عند الله‏}‏ لأن كثيرا من الأشياء يوصف بأنه عند الله، ولا يقال إنه مكتوب في كتاب الله، كقوله‏{‏إن الله عنده علم الساعة‏}‏لقمان‏:‏ 34‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏يوم خلق السماوات والأرض‏}‏ إنما قال ‏}‏يوم خلق السموات والأرض‏}‏ ليبين أن قضاءه وقدره كان قبل ذلك، وأنه سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة‏.‏ وهو معنى قوله تعالى‏{‏إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا‏}‏‏.‏ وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها، وتقديم المقدم في الاسم منها‏.‏ والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليه، ولذلك قال عليه السلام في خطبته في حجة الوداع‏:‏ ‏(‏أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ على ما يأتي بيانه‏.‏ وأن الذي فعل أهل الجاهلية من جعل المحرم صفرا وصفر محرما ليس يتغير به ما وصفه الله تعالى‏.‏ والعامل في ‏}‏يوم‏}‏ المصدر الذي هو ‏}‏في كتاب الله‏}‏ وليس يعنى به واحد الكتب، لأن الأعيان لا تعمل في الظروف‏.‏ والتقدير‏:‏ فيما كتب الله يوم خلق السموات والأرض‏.‏ و‏}‏عند‏}‏ متعلق بالمصدر الذي هو العدة، وهو العامل فيه‏.‏ و‏}‏في‏}‏ من قوله‏{‏في كتاب الله‏}‏ متعلقة بمحذوف، هو صفة لقوله‏{‏اثنا عشر‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ اثنا عشر شهرا معدودة أو مكتوبة في كتاب الله‏.‏ ولا يجوز أن تتعلق بعدة لما فيه من التفرقة بين الصلة والموصول بخبر إن‏.‏

هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب، دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهرا، لأنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس يتعين له شهر، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج‏.‏

قوله تعالى‏{‏منها أربعة حرم‏}‏ الأشهر الحرم المذكورة في هذه الآية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى الآخرة وشعبان، وهو رجب مضر، وقيل له رجب مضر لأن ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجبا‏.‏ وكانت مضر تحرم رجبا نفسه، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه‏:‏ ‏(‏الذي بين جمادى وشعبان‏)‏ ورفع ما وقع في اسمه من الاختلال بالبيان‏.‏ وكانت العرب أيضا تسميه منصل الأسنة، روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي - واسمه عمران بن ملحان وقيل عمران بن تيم - قال‏:‏ كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاء فحلبنا عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا منصل الأسنة، فلم ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناها فألقيناه‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏ أي الحساب الصحيح والعدد المستوفى‏.‏ وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏{‏ذلك الدين‏}‏ أي ذلك القضاء‏.‏ مقاتل‏:‏ الحق‏.‏ ابن عطية‏:‏ والأصوب عندي أن يكون الدين ههنا على أشهر وجوهه، أي ذلك الشرع والطاعة‏.‏ ‏}‏القيم‏}‏ أي القائم المستقيم، من قام يقوم‏.‏ بمنزلة سيد، من ساد يسود‏.‏ أصله قيوم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلا تظلموا فيهن أنفسكم‏}‏ على قول ابن عباس راجع إلى جميع الشهور‏.‏ وعلى قول بعضهم إلى الأشهر الحرم خاصة، لأنه إليها أقرب ولها مزية في تعظيم الظلم، لقوله تعالى‏{‏فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج‏}‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ لا أن الظلم في غير هذه الأيام جائز على ما نبينه‏.‏ ثم قيل‏:‏ في الظلم قولان‏:‏ أحدهما لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتال، ثم نسخ بإباحة القتال في جميع الشهور، قال قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها، وما نسخت‏.‏ والصحيح الأول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في البقرة‏.‏ الثاني - لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئا من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح‏.‏ فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام‏.‏ ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال‏.‏ وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله تعالى‏{‏يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين‏}‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وقد اختلف العلماء من هذا المعنى فيمن قتل في الشهر الحرام خطأ، هل تغلظ عليه الدية أم لا، فقال الأوزاعي‏:‏ القتل في الشهر الحرام تغلظ فيه الدية فيما بلغنا وفي الحرم فتجعل دية وثلثا‏.‏ ويزاد في شبه العمد في أسنان الإبل‏.‏ قال الشافعي‏:‏ تغلظ الدية في النفس وفي الجراح في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وذوي الرحم‏.‏ وروي عن القاسم بن محمد وسالم بن عبدالله وابن شهاب وأبان بن عثمان‏:‏ من قتل في الشهر الحرام أو في الحرم زيد على ديته مثل ثلثها‏.‏ وروي ذلك عن عثمان بن عفان أيضا‏.‏ وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وابن أبي ليلى‏:‏ القتل في الحل والحرم سواء، وفي الشهر الحرام وغيره سواء، وهو قول جماعة من التابعين‏.‏ وهو الصحيح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن الديات ولم يذكر فيها الحرم ولا الشهر الحرام‏.‏ وأجمعوا أن الكفارة على من قتل خطأ في الشهر الحرام وغيره سواء‏.‏ فالقياس أن تكون الدية كذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

خص الله تعالى الأربعة الأشهر الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفا لها وإن كان منهيا عنه في كل الزمان‏.‏ كما قال‏{‏فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج‏}‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ على هذا أكثر أهل التأويل‏.‏ أي لا تظلموا في الأربعة الأشهر أنفسكم‏.‏ وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال‏{‏فلا تظلموا فيهن أنفسكم‏}‏ في الاثني عشر‏.‏ وروى قيس بن مسلم عن الحسن عن محمد بن الحنفية قال‏:‏ فيهن كلهن‏.‏ فإن قيل على القول الأول‏:‏ لم قال فيهن ولم يقل فيها‏؟‏ وذلك أن العرب يقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة‏:‏ هن وهؤلاء فإذا جاوزوا العشرة قالوا‏:‏ هي وهذه، إرادة أن تعرف تسمية القليل من الكثير‏.‏ وروي عن الكسائي أنه قال‏:‏ إني لأتعجب من فعل العرب هذا‏.‏ وكذلك يقولون فيما دون العشرة من الليالي‏:‏ خلون‏.‏ وفيما فوقها خلت‏.‏ لا يقال‏:‏ كيف جعل بعض الأزمنة أعظم حرمة من بعض، فإنا نقول‏:‏ للبارئ تعالى أن يفعل ما يشاء، ويخص بالفضيلة ما يشاء، ليس لعمله علة ولا عليه حجر، بل يفعل ما يريد بحكمته، وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى‏.‏

قوله تعالى‏{‏قاتلوا‏}‏ أمر بالقتال‏.‏ و‏}‏كافة‏}‏ معناه جميعا، وهو مصدر في موضع الحال‏.‏ أي محيطين بهم ومجتمعين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ مثل هذا من المصادر عافاه الله عافية وعاقبه عاقبة‏.‏ ولا يثنى ولا يجمع، وكذا عامة وخاصة‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ كان الغرض بهذه الآية قد توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك وجعل فرض كفاية‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا الذي قال لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم أنه ألزم الأمة جميعا النفر، وإنما معنى هذه الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة‏.‏ ثم قيدها بقول‏{‏كما يقاتلونكم كافة‏}‏ فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم‏.‏ والله أعلم‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 37 ‏)‏

‏{‏إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنما النسيء زيادة في الكفر‏}‏ هكذا يقرأ أكثر الأئمة‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولم يرو أحد عن نافع فيما علمناه ‏}‏إنما النَسِيُّ‏}‏ بلا همز إلا ورش وحده‏.‏ وهو مشتق من نسأه وأنسأه إذا أخره، حكى اللغتين الكسائي‏.‏ الجوهري‏:‏ النسيء فعيل بمعنى مفعول، من قولك‏:‏ نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته‏.‏ ثم يحول منسوء إلى نسيء كما يحول مقتول إلى قتيل‏.‏ ورجل ناسئ وقوم نسأة، مثل فاسق وفسقة‏.‏ قال الطبري‏:‏ النسيء بالهمزة معناه الزيادة نسأ ينسأ إذا زاد‏.‏ قال‏:‏ ولا يكون بترك الهمز إلا من النسيان، كما قال تعالى‏{‏نسوا الله فنسيهم‏}‏التوبة‏:‏ 67‏]‏، ورد على نافع قراءته، واحتج بأن قال‏:‏ إنه يتعدى بحرف الجر يقال‏:‏ نسأ الله في أجلك كما تقول زاد الله في أجلك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه‏)‏‏.‏ قال الأزهري‏:‏ أنسأت الشيء إنساء ونسيئا اسم وضع موضع المصدر الحقيقي‏.‏ وكانوا يحرمون القتال في المحرم فإذا احتاجوا إلى ذلك حرموا صفرا بدله وقاتلوا في المحرم‏.‏ وسبب ذلك أن العرب كانت أصحاب حروب وغارات فكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها، وقالوا‏:‏ لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نصيب فيها شيئا لنهلكن‏.‏ فكانوا إذا صدروا عن منى يقوم من بني كنانة، ثم من بني فقيم منهم رجل يقال له القلمس، فيقول أنا الذي لا يرد لي قضاء‏.‏ فيقولون‏:‏ أنسئنا شهرا، أي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم‏.‏ فكانوا كذلك شهرا فشهرا حتى استدار التحريم على السنة كلها‏.‏ فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله فيه‏.‏ وهذا معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض‏)‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كان المشركون يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور كلها حتى وافقت حجة أبي بكر التي حجها قبل حجة الوداع ذا القعدة من السنة التاسعة‏.‏ ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع فوافقت ذا الحجة، فذلك قوله في خطبته‏:‏ ‏(‏إن الزمان قد استدار‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ أراد بذلك أن أشهر الحج رجعت إلى مواضعها، وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء‏.‏ وقول ثالث‏.‏ قال إياس بن معاوية‏:‏ كان المشركون يحسبون السنة اثني عشر شهرا وخمسة عشر يوما، فكان الحج يكون في رمضان وفي ذي القعدة، وفي كل شهر من السنة بحكم استدارة الشهر بزيادة الخمسة عشر يوما فحج أبو بكر سنة تسع في ذي القعدة بحكم الاستدارة، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان في العام المقبل وافق الحج ذا الحجة في العشر، ووافق ذلك الأهلة‏.‏ وهذا القول أشبه بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الزمان قد استدار‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ أي زمان الحج عاد إلى وقته الأصلي الذي عينه الله يوم خلق السموات والأرض بأصل المشروعية التي سبق بها علمه، ونفذ بها حكمه‏.‏ ثم قال‏:‏ السنة اثنا عشر شهرا‏.‏ ينفي بذلك الزيادة التي زادوها في السنة - وهي الخمسة عشر يوما - بتحكمهم، فتعين الوقت الأصلي وبطل التحكم الجهلي‏.‏

وحكى الإمام المازري عن الخوارزمي أنه قال‏:‏ أول ما خلق الله الشمس أجراها في برج الحمل، وكان الزمان الذي أشار به النبي صلى الله عليه وسلم صادف حلول الشمس برج الحمل‏.‏ وهذا يحتاج إلى توقيف، فإنه لا يتوصل إليه إلا بالنقل عن الأنبياء، ولا نقل صحيحا عنهم بذلك، ومن ادعاه فليسنده‏.‏ ثم إن العقل يجوز خلاف ما قال، وهو أن يخلق الله الشمس قبل البروج، ويجوز أن يخلق ذلك كله دفعة واحدة‏.‏ ثم إن علماء التعديل قد اختبروا ذلك فوجدوا الشمس في برج الحوت وقت قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الزمان قد استدار‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ بينها وبين الحمل عشرون درجة‏.‏ ومنهم من قال عشر درجات‏.‏ والله أعلم‏.‏ واختلف أهل التأويل في أول من نسأ، فقال ابن عباس وقتادة والضحاك‏:‏ بنو مالك بن كنانة، وكانوا ثلاثة‏.‏ وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أول من فعل ذلك عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة، ثم كان بعده رجل يقال له‏:‏ جنادة بن عوف، وهو الذي أدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الزهري‏:‏ حي من بني كنانة ثم من بني فقيم منهم رجل يقال له القلمس واسمه حذيفة بن عبيد‏.‏ وفي رواية‏:‏ مالك بن كنانة‏.‏ وكان الذي يلي النسيء يظفر بالرياسة لتريس العرب إياه‏.‏ وفي ذلك يقول شاعرهم‏:‏

ومنا ناسئ الشهر القلمَّس

وقال الكميت‏:‏

ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما

قوله تعالى‏{‏زيادة في الكفر‏}‏ بيان لما فعلته العرب من جمعها من أنواع الكفر فإنها أنكرت وجود البارئ تعالى فقالت‏{‏وما الرحمن‏}‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏ في أصح الوجوه‏.‏ وأنكرت البعث فقالت‏{‏قال من يحيي العظام وهي رميم‏}‏يس‏:‏ 78‏]‏‏.‏ وأنكرت بعثة الرسل فقالوا‏{‏أبشرا منا واحدا نتبعه‏}‏القمر‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وزعمت أن التحليل والتحريم إليها، فابتدعته من ذاتها مقتفية لشهواتها فأحلت ما حرم الله‏.‏ ولا مبدل لكلماته ولو كره المشركون‏.‏

قوله تعالى‏{‏يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏ فيه ثلاث قراءات‏.‏ قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو ‏}‏يَضِل‏}‏ وقرأ الكوفيون ‏}‏يُضَل‏}‏ على الفعل المجهول‏.‏ وقرأ الحسن وأبو رجاء ‏}‏يُضِل‏}‏ والقراءات الثلاث كل واحدة منها تؤدي عن معنى، إلا أن القراءة الثالثة حذف منها المفعول‏.‏ والتقدير‏:‏ ويضل به الذين كفروا من يقبل منهم‏.‏ و‏}‏الذين‏}‏ في محل رفع‏.‏ ويجوز أن يكون الضمير راجعا إلى الله عز وجل‏.‏ التقدير‏:‏ يضل الله به الذين كفروا، كقوله تعالى‏{‏يضل من يشاء‏}‏الرعد‏:‏ 27‏]‏، وكقوله في آخر الآية‏{‏والله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏‏.‏ والقراءة الثانية ‏}‏يضل به الذين كفروا‏}‏ يعني المحسوب لهم، واختار هذه القراءة أبو عبيد، لقوله تعالى‏{‏زين لهم سوء أعمالهم‏}‏‏.‏ والقراءة الأولى اختارها أبو حاتم؛ لأنهم كانوا ضالين به أي بالنسيء لأنهم كانوا يحسبونه فيضلون به‏.‏ والهاء في ‏}‏يحلونه‏}‏ ترجع إلى النسيء‏.‏ وروي عن أبي رجاء ‏}‏يضل‏}‏ بفتح الياء والضاد‏.‏ وهي لغة، يقال‏:‏ ضللت أضل، وضللت أضل‏.‏ ‏}‏ليواطئوا‏}‏ نصب بلام كي أي ليوافقوا‏.‏ تواطأ القوم على كذا أي اجتمعوا عليه، أي لم يحلوا شهرا إلا حرموا شهرا لتبقى الأشهر الحرم أربعة‏.‏ وهذا هو الصحيح، لا ما يذكر أنهم جعلوا الأشهر خمسة‏.‏ قال قتادة‏:‏ إنهم عمدوا إلى صفر فزادوه في الأشهر الحرم، وقرنوه بالمحرم في التحريم، وقاله عنه قطرب والطبري‏.‏ وعليه يكون النسيء بمعنى الزيادة‏.‏ والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 38 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل‏}‏

قوله تعالى‏{‏ما لكم‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ حرف استفهام معناه التقرير والتوبيخ التقدير‏:‏ أي شيء يمنعكم عن كذا كما تقول‏:‏ مالك عن فلان معرضا‏.‏ ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتابا على تتخلف من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام، وسيأتي ذكرها في آخر السورة إن شاء الله‏.‏ والنفر‏:‏ هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث، يقال في ابن آدم‏:‏ نفر إلى الأم يفر نفورا‏.‏ وقوم نفور، ومنه قوله تعالى‏{‏ولوا على أدبارهم نفورا‏}‏الإسراء‏:‏ 46‏]‏‏.‏ ويقال في الدابة‏:‏ نفرت تنفر - بضم الفاء وكسرها - نفارا ونفورا‏.‏ يقال‏:‏ في الدابة نفار، وهو اسم مثل الحران‏.‏ ونفر الحاج من منى نفرا‏.‏

قوله تعالى‏{‏اثاقلتم إلى الأرض‏}‏ قال المفسرون‏:‏ معناه أثاقلتم إلى نعيم الأرض، أو إلى الإقامة بالأرض‏.‏ وهو توبيخ على ترك الجهاد وعتاب على التقاعد عن المبادرة إلى الخروج، وهو نحو من أخلد إلى الأرض‏.‏ وأصله تثاقلتم، أدغمت التاء في الثاء لقربها منها، واحتاجت إلى ألف الوصل لتصل إلى النطق بالساكن، ومثله ‏}‏اداركوا‏}‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ و‏}‏ادارأتم‏}‏البقرة‏:‏ 72‏]‏ و‏}‏اطيرنا‏}‏النمل‏:‏ 47‏]‏ و‏}‏ازينت‏}‏يونس‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وأنشد الكسائي‏:‏

تولي الضجيع إذا ما استافها خصرا عذب المذاق إذا ما أتابع القبل

وقرأ الأعمش ‏}‏تثاقلتم‏}‏ على الأصل‏.‏ حكاه المهدوي‏.‏ وكانت تبوك - ودعا الناس إليها - في حرارة القيظ وطيب الثمار وبرد الظلال - كما جاء في الحديث الصحيح على ما يأتي - فاستولى على الناس الكسل فتقاعدوا وتثاقلوا فوبخهم الله بقوله هذا وعاب عليهم الإيثار للدنيا على الآخرة‏.‏ ومعنى‏{‏أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة‏}‏ أي بدلا، التقدير‏:‏ أرضيتم بنعيم الدنيا بدلا من نعيم الآخرة ‏}‏فمن‏}‏ تتضمن معنى البدل، كقوله تعالى‏{‏ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون‏}‏الزخرف‏:‏ 60‏]‏ أي بدلا منكم‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طَهيان

ويروى من ماء حمنان‏.‏ أراد‏:‏ ليت لنا بدلا من ماء زمزم شربة مبردة‏.‏ والطهيان‏:‏ عود ينصب في ناحية الدار للهواء، يعلق عليه الماء حتى يبرد‏.‏ عاتبهم الله على إيثار الراحة في الدنيا على الراحة في الآخرة، إذ لا تنال راحة الآخرة إلا بنصب الدنيا‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد طافت راكبة‏:‏ ‏(‏أجْرُك على قدر نَصَبِك‏)‏‏.‏ خرجه البخاري‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

‏{‏إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير‏}‏

قوله تعالى‏{‏إلا تنفروا يعذبكم‏}‏ ‏}‏إلا تنفروا‏}‏ شرط، فلذلك حذفت منه النون‏.‏ والجواب ‏}‏يعذبكم‏}‏، ‏}‏ويستبدل قوما غيركم‏}‏ وهذا تهديد شديد ووعيد مؤكد في ترك النفير‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ ومن محققات الأصول أن الأمر إذا ورد فليس في وروده أكثر من اقتضاء الفعل‏.‏ فأما العقاب عند الترك فلا يؤخذ من نفس الأمر ولا يقتضيه الاقتضاء، وإنما يكون العقاب بالخبر عنه، كقوله‏:‏ إن لم تفعل كذا عذبتك بكذا، كما ورد في هذه الآية‏.‏ فوجب بمقتضاها النفير للجهاد والخروج إلى الكفار لمقاتلتهم على أن تكون كلمة الله هي العليا‏.‏ وروى أبو داود عن ابن عباس قال‏{‏إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما‏}‏ و‏}‏ما كان لأهل المدينة - إلى قوله - يعملون‏}‏التوبة‏:‏ 120‏]‏ نسختها الآية التي تليها‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏التوبة‏:‏122‏]‏‏.‏ وهو قول الضحاك والحسن وعكرمة‏.‏ ‏}‏يعذبكم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو حبس المطر عنهم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ فإن صح ذلك عنه فهو أعلم من أين قال، وإلا فالعذاب الأليم هو في الدنيا باستيلاء العدو وبالنار في الآخرة‏.‏

قلت‏:‏ قول ابن عباس خرجه الإمام أبو داود في سننه عن ابن نفيع قال‏:‏ سألت ابن عباس عن هذه الآية ‏}‏إن تنفروا يعذبكم عذابا أليما‏}‏ قال‏:‏ فأمسك عنهم المطر فكان عذابهم‏.‏ وذكره الإمام أبو محمد بن عطية مرفوعا عن ابن عباس قال‏:‏ استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة من القبائل فقعدت، فأمسك الله عنهم المطر وعذبها به‏.‏ و‏}‏أليما‏}‏ بمعنى مؤلم، أي موجع‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏ويستبدل قوما غيركم‏}‏ توعد بأن يبدل لرسوله قوما لا يقعدون عند استنفاره إياهم‏.‏ قيل‏:‏ أبناء فارس‏.‏ وقيل‏:‏ أهل اليمن‏.‏ ‏}‏ولا تضروه شيئا‏}‏ عطف‏.‏ والهاء قيل لله تعالى، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والتثاقل عن الجهاد مع إظهار الكراهة حرام على كل أحد‏.‏ فأما من غير كراهة فمن عينه النبي صلى الله عليه وسلم حرم عليه التثاقل وإن أمن منهما فالفرض فرض كفاية، ذكره القشيري‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن المراد بهذه الآية وجوب النفير عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم‏.‏ وظاهر الآية يدل على أن ذلك على وجه الاستدعاء فعلى هذا لا يتجه الحمل على وقت ظهور المشركين فإن وجوب ذلك لا يختص بالاستدعاء، لأنه متعين‏.‏ وإذا ثبت ذلك فالاستدعاء والاستنفار يبعد أن يكون موجبا شيئا لم يجب من قبل إلا أن الإمام إذا عين قوما وندبهم إلى الجهاد لم يكن لهم أن يتثاقلوا عند التعيين ويصير بتعيينه فرضا على من عينه لا لمكان الجهاد ولكن لطاعة الإمام‏.‏ والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 40 ‏)‏

‏{‏إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إلا تنصروه فقد نصره الله‏}‏ يقول‏:‏ تعينوه بالنفر معه في غزوة تبول‏.‏ عاتبهم الله بعد انصراف نبيه عليه السلام من تبوك‏.‏ قال النقاش‏:‏ هذه أول آية نزلت من سورة ‏[‏براءة‏]‏ والمعنى‏:‏ إن تركتم نصره فالله يتكفل به، إذ قد نصره الله في مواطن القلة وأظهره على عدوه بالغلبة والعزة‏.‏ وقيل‏:‏ فقد نصره الله بصاحبه في الغار بتأنيسه له وحمله على عنقه، وبوفاته ووقايته له بنفسه ومواساته له بماله‏.‏ قال الليث بن سعد‏:‏ ما صحب الأنبياء عليهم السلام مثل أبي بكر الصديق‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏.‏ خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله‏{‏إلا تنصروه‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏إذ أخرجه الذين كفروا‏}‏ وهو خرج بنفسه فارا، لكن بإلجائهم إلى ذلك حتى فعله، فنسب الفعل إليهم ورتب الحكم فيه عليهم، فلهذا يقتل المكره على القتل ويضمن المال المتلف بالإكراه، لإلجائه القاتل والمتلف إلى القتل والإتلاف‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثاني اثنين‏}‏ أي أحد اثنين‏.‏ وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة‏.‏ فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة وخامس أربعة، فالمعنى صير الثلاثة أربعة بنفسه والأربعة خمسة‏.‏ وهو منصوب على الحال، أي أخرجوه منفردا من جميع الناس إلا من أبي بكر‏.‏ والعامل فيها ‏}‏نصره الله‏}‏ أي نصره منفردا ونصره أحد اثنين‏.‏ وقال علي بن سليمان‏:‏ التقدير فخرج ثاني اثنين، مثل ‏}‏والله أنبتكم من الأرض نباتا‏}‏نوح‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقرأ جمهور الناس ‏}‏ثاني‏}‏ بنصب الياء‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ لا يعرف غير هذا‏.‏ وقرأت فرقة ‏}‏ثاني‏}‏ بسكون الياء‏.‏ قال ابن جني‏:‏ حكاها أبو عمرو بن العلاء ووجهه أنه سكن الياء تشبيها لها بالألف‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فهي كقراءة الحسن ‏}‏ما بقي من الربا‏}‏ وكقول جرير‏:‏

هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ماضي العزيمة ما في حكمه جنف

قوله تعالى‏{‏إذ هما في الغار‏}‏ الغار‏:‏ ثقب في الجبل، يعني غار ثور‏.‏ ولما رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة قالوا‏:‏ هذا شر شاغل لا يطاق، فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيتوه ورصدوه على باب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله أن يعمي عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض فلما أصبحوا خرج عليهم علي رضي الله عنه وأخبرهم أن ليس في الدار أحد فعملوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا وتواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق للهجرة، فدفعا راحلتيهما إلى عبدالله بن أرقط‏.‏ ويقال ابن أريقط، وكان كافرا لكنهما وثقا به، وكان دليلا بالطرق فاستأجراه ليدل بهما إلى المدينة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خوخة في ظهر دار أبي بكر التي في بني جمح ونهضا نحو الغار في جبل ثور، وأمر أبو بكر ابنه عبدالله أن يستمع ما يقول الناس، وأمر مولاه عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه ويريحها عليهما ليلا فيأخذ منها حاجتهما‏.‏ ثم نهضا فدخلا الغار‏.‏ وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق تأتيهما بالطعام ويأتيهما عبدالله بن أبي بكر بالأخبار، ثم يتلوهما عامر بن فهيرة بالغنم فيعفي آثارهما‏.‏ فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف بقفاء الأثر، حتى وقف على الغار فقال‏:‏ هنا انقطع الأثر‏.‏ فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله فلما رأوا نسج العنكبوت أيقنوا أن لا أحد فيه فرجعوا وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة لمن رده عليهم الخبر مشهور، وقصة سراقة بن مالك بن جعشم في ذلك مذكورة‏.‏ وقد روي من حديث أبي الدرداء وثوبان رضي الله عنهما‏:‏ أن الله عز وجل أمر حمامة فباضت على نسج العنكبوت، وجعلت ترقد على بيضها، فلما نظر الكفار إليها ردهم ذلك عن الغار‏.‏

روى البخاري عن عائشة قالت‏:‏ استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث فارتحلا وارتحل معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم طريق الساحل‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه من الفقه ائتمان أهل الشرك على السر والمال إذا علم منهم وفاء ومروءة كما ائتمن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المشرك على سره في الخروج من مكة وعلى الناقتين‏.‏ وقال ابن المنذر‏:‏ فيه استئجار المسلمين الكفار على هداية الطريق‏.‏ وقال البخاري في ترجمته‏:‏ (1)‏ قال ابن بطال‏:‏ إنما قال البخاري في ترجمته (2) من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عامل أهل خيبر على العمل في أرضها إذ لم يوجد من المسلمين من ينوب منابهم في عمل الأرض، حتى قوي الإسلام واستغني عنهم أجلاهم عمر‏.‏ وعامة الفقهاء يجيزون استئجارهم عند الضرورة وغيرها‏.‏ وفيه‏:‏ استئجار الرجلين الرجل الواحد على عمل واحد لهما‏.‏ وفيه‏:‏ دليل على جواز الفرار بالدين خوفا من العدو، والاستخفاء في الغيران وغيرها ألا يلقي الإنسان بيده إلى العدو توكلا على الله واستسلاما له‏.‏ ولو شاء ربكم لعصمه مع كونه معهم ولكنها سنة الله في الأنبياء وغيرهم، ولن تجد لسنة الله تبديلا‏.‏ وهذا أدل دليل على فساد من منع ذلك وقال‏:‏ من خاف مع الله سواه كان ذلك نقصا في توكله، ولم يؤمن بالقدر‏.‏ وهذا كله في معنى الآية، ولله الحمد والهداية

قوله تعالى‏{‏إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا‏}‏ هذه الآية تضمنت فضائل الصديق رضي الله عنه‏.‏ روى أصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم عن مالك ‏}‏ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا‏}‏ هو الصديق‏.‏ فحقق الله تعالى قوله له بكلامه ووصف الصحبة في كتابه‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ من أنكر أن يكون عمر وعثمان أو أحد من الصحابة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كذاب مبتدع‏.‏ ومن أنكر أن يكون أبو بكر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر، لأنه رد نص القرآن‏.‏ ومعنى ‏}‏إن الله معنا‏}‏ أي بالنصر والرعاية والحفظ والكلاءة‏.‏ روى الترمذي والحارث بن أبي أسامة قالا‏:‏ حدثنا عفان قال حدثنا همام قال أخبرنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال‏:‏ قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار‏:‏ لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما‏)‏‏.‏ قال المحاسبي‏:‏ يعني معهما بالنصر والدفاع، لا على معنى ما عم به الخلائق، فقال‏{‏ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم‏}‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ فمعناه العموم أنه يسمع ويرى من الكفار والمؤمنين‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ قالت الإمامية قبحها الله‏:‏ حزن أبي بكر في الغار دليل على جهله ونقصه وضعف قلبه وخرقه‏.‏ وأجاب علماؤنا عن ذلك بأن إضافة الحزن إليه ليس بنقص، كما لم ينقص إبراهيم حين قال عنه‏{‏نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف‏}‏هود‏:‏ 70‏]‏‏.‏ ولم ينقص موسى قوله‏{‏فأوجس في نفسه خيفة موسى‏.‏ قلنا لا تخف‏}‏طه 67،68‏]‏‏.‏ وفى لوط‏{‏ولا تحزن إنا منجوك وأهلك‏}‏العنكبوت‏:‏ 33‏]‏‏.‏ فهؤلاء العظماء صلوات الله عليهم قد وجدت عندهم التقية نصا ولم يكن ذلك طعنا عليهم ووصفا لهم بالنقص، وكذلك في أبي بكر‏.‏ ثم هي عند الصديق احتمال، فإنه قال‏:‏ لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا‏.‏ جواب ثان - إن حزن الصديق إنما كان خوفا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل إليه ضرر، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت معصوما وإنما نزل عليه ‏}‏والله يعصمك من الناس‏}‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ بالمدينة‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ قال لنا أبو الفضائل العدل قال لنا جمال الإسلام أبو القاسم قال موسى صلى الله عليه وسلم‏{‏كلا إن معي ربي سيهدين‏}‏الشعراء‏:‏ 62‏]‏ وقال في محمد صلى الله عليه وسلم‏{‏لا تحزن إن الله معنا‏}‏ لا جرم لما كان الله مع موسى وحده ارتد أصحابه بعده، فرجع من عند ربه ووجدهم يعبدون العجل‏.‏ ولما قال في محمد صلى الله عليه وسلم ‏}‏لا تحزن إن الله معنا‏}‏ بقي أبو بكر مهتديا موحدا عالما جازما قائما بالأمر ولم يتطرق إليه اختلال‏.‏

خرج الترمذي من حديث نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد - له صحبة - قال‏:‏ أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏‏.‏‏.‏، الحديث‏.‏ وفيه‏:‏ واجتمع المهاجرون يتشاورون فقالوا‏:‏ انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار ندخلهم معنا في هذا الأمر‏.‏ فقالت الأنصار‏:‏ منا أمير ومنكم أمير‏.‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ من له مثل هذه الثلاث ‏}‏ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا‏}‏ من هما‏؟‏ قال‏:‏ ثم بسط يده فبايعه وبايعه الناس بيعة حسنة جميلة‏.‏

قلت‏:‏ ولهذا قال بعض العلماء‏:‏ في قوله تعالى‏{‏ثاني اثنين إذ هما في الغار‏}‏ ما يدل على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لأن الخليفة لا يكون أبدا إلا ثانيا‏.‏ وسمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر يقول‏:‏ إنما استحق الصديق أن يقال له ثاني اثنين لقيامه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر، كقيام النبي صلى الله عليه وسلم به أولا‏.‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتدت العرب كلها، ولم يبق الإسلام إلا بالمدينة ومكة وجواثا، فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ويقاتلهم على الدخول في الدين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه ثاني اثنين‏.‏

قلت‏:‏ وقد جاء في السنة أحاديث صحيحة، يدل ظاهرها على أنه الخليفة بعده، وقد انعقد الإجماع على ذلك ولم يبق منهم مخالف‏.‏ والقادح في خلافته مقطوع بخطئه وتفسيقه‏.‏ وهل يكفر أم لا، يختلف فيه، والأظهر تكفيره‏.‏ وسيأتي لهذا المعنى مزيد بيان في سورة ‏[‏الفتح‏]‏ إن شاء الله‏.‏ والذي يقطع به من الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة ويجب أن تؤمن به القلوب والأفئدة فضل الصديق على جميع الصحابة‏.‏ ولا مبالاة بأقوال أهل الشيع ولا أهل البدع، فإنهم بين مكفر تضرب رقبته، وبين مبتدع مفسق لا تقبل كلمته‏.‏ ثم بعد الصديق عمر الفاروق، ثم بعده عثمان‏.‏ روى البخاري عن ابن عمر قال‏:‏ كنا نخير بين الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان‏.‏ واختلف أئمة أهل السلف في عثمان وعلي، فالجمهور منهم على تقديم عثمان‏.‏ وروي عن مالك أنه توقف في ذلك‏.‏ وروي عنه أيضا أنه رجع إلى ما عليه الجمهور‏.‏ وهو الأصح إن شاء الله‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأنزل الله سكينته عليه‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والثاني‏:‏ على أبي بكر‏.‏ ابن العربي‏:‏ قال علماؤنا وهو الأقوى، لأنه خاف على النبي صلى الله عليه وسلم من القوم فأنزل الله سكينته عليه بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم، فسكن جأشه وذهب روعه وحصل الأمن وأنبت الله سبحانه ثمامة، وألهم الوكر هناك حمامة وأرسل العنكبوت فنسجت بيتا عليه‏.‏ فما أضعف هذه الجنود في ظاهر الحس وما أقواها في باطن المعنى ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر حين تغامر مع الصديق‏:‏ ‏(‏هل أنتم تاركو لي صاحبي إن الناس كلهم قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت‏)‏ رواه أبو الدرداء‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأيده بجنود لم تروها‏}‏ أي من الملائكة‏.‏ والكناية في قوله ‏}‏وأيده‏}‏ ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والضميران يختلفان، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب‏.‏ ‏}‏وجعل كلمة الذين كفروا السفلى‏}‏ أي كلمة الشرك‏.‏ ‏}‏وكلمة الله هي العليا‏}‏ قيل‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ وقيل‏:‏ وعد النصر‏.‏ وقرأ الأعمش ويعقوب ‏}‏وكلمة الله‏}‏ بالنصب حملا على ‏}‏جعل‏}‏ والباقون بالرفع على الاستئناف‏.‏ وزعم الفراء أن قراءة النصب بعيدة، قال‏:‏ لأنك تقول أعتق فلان غلام أبيه، ولا تقول غلام أبي فلان‏.‏ وقال أبو حاتم نحوا من هذا‏.‏ قال‏:‏ كان يجب أن يقال وكلمته هي العليا‏.‏ قال النحاس‏:‏ الذي ذكره الفراء لا يشبه الآية، ولكن يشبهها ما أنشد سيبويه‏:‏

لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

فهذا حسن جيد لا إشكال فيه، بل يقول النحويون الحذاق‏:‏ في إعادة الذكر في مثل هذا فائدة وهي أن فيه معنى التعظيم، قال الله تعالى‏{‏إذا زلزلت الأرض زلزالها‏.‏ وأخرجت الأرض أثقالها‏}‏الزلزلة‏:‏1،2‏]‏ فهذا لا إشكال فيه‏.‏ وجمع الكلمة كلم‏.‏ وتميم تقول‏:‏ هي كلمة بكسر الكاف‏.‏ وحكى الفراء فيها ثلاث لغات‏:‏ كلمة وكلمة وكلمة مصل كبد وكبد وكبد، وورق وورق وورق‏.‏ والكلمة أيضا القصيدة بطولها، قاله الجوهري‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 41 ‏)‏

‏{‏انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون‏}‏

روى سفيان عن حصين بن عبدالرحمن عن أبي مالك الغفاري قال‏:‏ أول ما نزل من سورة براءة ‏}‏انفروا خفافا وثقالا‏}‏‏.‏ وقال أبو الضحاك كذلك أيضا‏.‏ قال‏:‏ ثم نزل أولها وآخرها‏.‏

قوله تعالى‏{‏انفروا خفافا وثقالا‏}‏ نصب على الحال، وفيه عشرة أقوال‏:‏

الأول‏:‏ يذكر عن ابن عباس ‏}‏انفروا ثبات‏}‏النساء‏:‏ 71‏:‏‏:‏ سرايا متفرقين‏.‏ الثاني‏:‏ روي عن ابن عباس أيضا وقتادة‏:‏ نشاطا وغير نشاط‏.‏ الثالث‏:‏ الخفيف‏:‏ الغني، والثقيل‏:‏ الفقير، قاله مجاهد‏.‏ الرابع‏:‏ الخفيف‏:‏ الشاب، والثقيل‏:‏ الشيخ، قاله الحسن‏.‏ الخامس‏:‏ مشاغيل وغير مشاغيل، قاله زيد بن علي والحكم بن عتبة‏.‏ السادس‏:‏ الثقيل‏:‏ الذي له عيال، والخفيف‏:‏ الذي لا عيال له، قاله زيد بن أسلم‏.‏ السابع‏:‏ الثقيل‏:‏ الذي له ضيعة يكره أن يدعها، والخفيف‏:‏ الذي لا ضيعة له، قاله ابن زيد‏.‏ الثامن‏:‏ الخفاف‏:‏ الرجال، والثقال‏:‏ الفرسان، قاله الأوزاعي‏.‏ التاسع‏:‏ الخفاف‏:‏ الذين يسبقون إلى الحرب كالطليعة وهو مقدم الجيش والثقال‏:‏ الجيش بأثره‏.‏ العاشر‏:‏ الخفيف‏:‏ الشجاع، والثقيل‏:‏ الجبان، حكاه النقاش‏.‏ والصحيح في معنى الآية أن الناس أمروا جملة أي انفروا خفت عليكم الحركة أو ثقلت‏.‏ وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له‏:‏ أعلي أن أنفر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ حتى أنزل الله تعالى ‏}‏ليس على الأعمى حرج‏}‏النور‏:‏ 61‏]‏‏.‏ وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة‏.‏

واختلف في هذه الآية، فقيل إنها منسوخة بقوله تعالى‏{‏ليس على الضعفاء ولا على المرضى‏}‏التوبة‏:‏ 91‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ الناسخ لها قوله‏{‏فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة‏}‏التوبة‏:‏ 122‏]‏‏.‏ والصحيح أنها ليست بمنسوخة‏.‏ روى ابن عباس عن أبي طلحة في قوله تعالى‏{‏انفروا خفافا وثقالا‏}‏ قال شبانا وكهولا، ما سمع الله عذر أحد‏.‏ فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات رضي الله عنه‏.‏ وروى حماد عن ثابت وعلي بن زيد عن أنس أن أبا طلحة قرأ سورة ‏[‏براءة‏]‏ فأتى على هذه الآية ‏}‏انفروا خفافا وثقالا‏}‏ فقال‏:‏ أي بني جهزوني جهزوني فقال بنوه‏:‏ يرحمك الله لقد غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات ومع أبي بكر حتى مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك‏.‏ قال‏.‏ لا، جهزوني‏.‏ فغزا في البحر فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها، ولم يتغير رضي الله عنه‏.‏ وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود بحمص على تابوت صراف، وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو‏.‏ فقيل له‏:‏ لقد عذرك الله‏.‏ فقال‏:‏ أتت علينا سورة البعوث ‏}‏انقروا خفافا وثقالا‏}‏‏.‏ وقال الزهري‏:‏ خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه‏.‏ فقيل له‏:‏ إنك عليل‏.‏ فقال‏:‏ استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع‏.‏ وروي أن بعض الناس رأى في غزوات الشأم رجلا قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له‏:‏ يا عم إن الله قد عذرك فقال‏:‏ يا ابن أخي، قد أمرنا بالنفر خفافا وثقالا‏.‏ ولقد قال ابن أم مكتوم رضي الله عنه - واسمه عمرو - يوم أحد‏:‏ أنا رجل أعمى، فسلموا لي اللواء، فإنه إذا انهزم حامل اللواء انهزم الجيش، وأنا ما أدري من يقصدني بسيفه فما أبرح فأخذ اللواء يومئذ مصعب بن عمير على ما تقدم في ‏}‏آل عمران‏}‏ بيانه‏.‏ فلهذا وما كان مثله مما روي عن الصحابة والتابعين، قلنا‏:‏ إن النسخ لا يصح‏.‏ وقد تكون حالة يجب فيها نفير الكل وذلك إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار، أو بحلوله بالعقر، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافا وثقالا، شبابا وشيوخا، كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه ومن لا أب له، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج، من مقاتل أو مكثر‏.‏ فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم‏.‏ وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضا الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين‏.‏ ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضا الخروج إليه، حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة ويخزى العدو‏.‏ ولا خلاف في هذا‏.‏

وقسم ثان من واجب الجهاد - فرض أيضا على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو كل سنة مرة يخرج معهم بنفسه أو يخرج من يثق به ليدعوهم إلى الإسلام ويرغبهم، ويكف أذاهم ويظهر دين الله عليهم حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد‏.‏

ومن الجهاد أيضا ما هو نافلة وهو إخراج الإمام طائفة بعد طائفة وبعث السرايا في أوقات الغرة وعند إمكان الفرصة والإرصاد لهم بالرباط في موضع الخوف وإظهار القوة‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف يصنع الواحد إذا قصر الجميع، قيل له‏:‏ يعمد إلى أسير واحد فيفديه، فإنه إذا فدى الواحد فقد أدى في الواحد أكثر مما كان يلزمه في الجماعة، فإن الأغنياء لو اقتسموا فداء الأسارى ما أدى كل واحد منهم إلا أقل من درهم‏.‏ ويغزو بنفسه إن قدر وإلا جهز غازيا‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا‏)‏ أخرجه الصحيح‏.‏ وذلك لأن مكانه لا يغني وماله لا يكفي‏.‏

روي أن بعض الملوك عاهد كفارا على ألا يحبسوا أسيرا، فدخل رجل من المسلمين جهة بلادهم فمر على بيت مغلق، فنادته امرأة إني أسيرة فأبلغ صاحبك خبري فلما اجتمع به واستطعمه عنده وتجاذبا ذيل الحديث انتهى الخبر إلى هذه المعذبة فما أكمل حديثه حتى قام الأمير على قدميه وخرج غازيا من فوره ومشى إلى الثغر حتى أخرج الأسيرة واستولى على الموضع رضي الله عنه‏.‏ ذكره ابن العربي وقال‏:‏ ولقد نزل بنا العدو - قصمه الله - سنة سبع وعشرين وخمسمائة فجاس ديارنا وأسر خيرتنا وتوسط بلادنا في عدد هال الناس عدده وكان كثيرا وإن لم يبلغ ما حددوه‏.‏ فقلت للوالي والمولى عليه‏:‏ هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة فلتكن عندكم بركة، ولتظهر منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط به فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له فغلبت الذنوب ورجفت القلوب بالمعاصي وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوي إلى وجاره وإن رأى المكيدة بجاره‏.‏ فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ وحسبنا الله ونعم الوكيل‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وجاهدوا‏}‏ أمر بالجهاد، وهو مشتق من الجهد ‏}‏بأموالكم وأنفسكم‏}‏ روى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم‏)‏‏.‏ وهذا وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفعه عند الله تعالى‏.‏ فحض على كمال الأوصاف، وقدم الأموال في الذكر إذ هي أول مصرف وقت التجهيز‏.‏ فرتب الأمر كما هو نفسه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 42 ‏)‏

‏{‏لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون‏}‏

لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أظهر الله نفاق قوم‏.‏ والعرض‏:‏ ما يعرض من منافع الدنيا‏.‏ والمعنى‏:‏ غنيمة قريبة‏.‏ أخبر عنهم أنهم لو دعوا إلى غنيمة لاتبعوه‏.‏ ‏}‏عرضا‏}‏ خبر كان‏.‏ ‏}‏قريبا‏}‏ نعته‏.‏ ‏}‏وسفرا قاصدا‏}‏ عطف عليه‏.‏ وحذف اسم كان لدلالة الكلام عليه‏.‏ التقدير‏:‏ لو كان المدعو إليه عرضا قريبا وسفرا قاصدا - أي سهلا معلوم الطرق - لاتبعوك‏.‏ وهذه الكناية للمنافقين كما ذكرنا، لأنهم داخلون في جملة من خوطب بالنفير‏.‏ وهذا موجود في كلام العرب يذكرون الجملة ثم يأتون بالإضمار عائدا على بعضها، كما قيل في قوله تعالى‏{‏وإن منكم إلا واردها‏}‏مريم‏:‏ 71‏]‏ أنها القيامة‏.‏ ثم قال جل وعز‏{‏ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا‏}‏مريم‏:‏72‏]‏ يعني جل وعز جهنم‏.‏ ونظير هذه الآية من السنة في المعنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء‏)‏‏.‏ يقول‏:‏ لو علم أحدهم أنه يجد شيئا حاضرا معجلا يأخذه لأتى المسجد من أجله‏.‏ ‏}‏ولكن بعدت عليهم الشقة‏}‏ حكى أبو عبيدة وغيره أن الشقة السفر إلى أرض بعيدة‏.‏ يقال‏:‏ منه شقة شاقة‏.‏ والمراد بذلك كله غزوة تبوك‏.‏ وحكى الكسائي أنه يقال‏:‏ شُقة وشِقة‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الشقة بالضم من الثياب، والشقة أيضا السفر البعيد وربما قالوه بالكسر‏.‏ والشقة شظية تشظى من لوح أو خشبة‏.‏ يقال للغضبان‏:‏ احتد فطارت منه شقة، بالكسر‏.‏ ‏}‏وسيحلفون بالله لو استطعنا‏}‏ أي لو كان لنا سعة في الظهر والمال‏.‏ ‏}‏لخرجنا معكم‏}‏ نظيره ‏}‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏}‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ فسرها النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏زاد وراحلة‏)‏ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏يهلكون أنفسهم‏}‏ أي بالكذب والنفاق‏.‏ ‏}‏والله يعلم إنهم لكاذبون‏}‏ في الاعتلال‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 43 ‏)‏

‏{‏عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏عفا الله عنك لم أذنت لهم‏}‏ قيل‏:‏ هو افتتاح كلام، كما تقول‏:‏ أصلحك الله وأعزك ورحمك كان كذا وكذا‏.‏ وعلى هذا التأويل يحسن الوقف على قوله‏{‏عفا الله عنك‏}‏، حكاه مكي والمهدوي والنحاس‏.‏ وأخبره بالعفو قبل الذنب لئلا يطير قلبه فرقا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى عفا الله عنك ما كان من ذنبك في أن أذنت لهم، فلا يحسن الوقف على قوله‏{‏عفا الله عنك‏}‏ على هذا التقدير، حكاه المهدوي واختاره النحاس‏.‏ ثم قيل‏:‏ في الإذن قولان‏:‏ الأول‏{‏لم أذنت لهم‏}‏ في الخروج معك، وفي خروجهم بلا عدة ونية صادقة فساد‏.‏ الثاني - ‏}‏لم أذنت لهم‏}‏ في القعود لما اعتلوا بأعذار، ذكرها القشيري قال‏:‏ وهذا عتاب تلطف إذ قال‏{‏عفا الله عنك‏}‏‏.‏ وكان عليه السلام أذن من غير وحي نزل فيه‏.‏ قال قتادة وعمرو بن ميمون‏:‏ اثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما‏:‏ إذنه لطائفة من المنافقين في التخلف عنه ولم يكن له أن يمضي شيئا إلا بوحي وأخذه من الأسارى الفدية فعاتبه الله كما تسمعون‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ إنما بدر منه ترك الأولى فقدم الله العفو على الخطاب الذي هو في صورة العتاب‏.‏

قوله تعالى‏{‏حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين‏}‏ أي ليتبين لك من صدق ممن نافق‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يومئذ يعرف المنافقين وإنما عرفهم بعد نزول سورة ‏[‏التوبة‏]‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هؤلاء قوم قالوا‏:‏ نستأذن في الجلوس فإن أذن لنا جلسنا وإن لم يؤذن لنا جلسنا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ نسخ هذه الآية بقوله في سورة ‏}‏النور‏}‏‏{‏فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم‏}‏النور‏:‏ 62‏]‏‏.‏ ذكره النحاس في معاني القرآن له‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 44 ‏:‏ 45 ‏)‏

‏{‏لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين، إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون‏}‏

قوله تعالى‏{‏لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر‏}‏ أي في القعود ولا في الخروج، بل إذا أمرت بشيء ابتدروه، فكان الاستئذان في ذلك الوقت من علامات النفاق لغير عذر، ولذلك قال‏{‏إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون‏}‏‏.‏ روى أبو داود عن ابن عباس قال‏{‏لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله‏}‏ نسختها التي في ‏}‏النور‏]‏ ‏}‏إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله - إلى قوله - غفور رحيم‏}‏النور‏:‏ 62‏]‏ ‏}‏أن يجاهدوا‏}‏ في موضع نصب بإضمار في، عن الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير كراهية أن يجاهدوا، كقوله‏{‏يبين الله لكم أن تضلوا‏}‏النساء‏:‏ 176‏]‏‏.‏ ‏}‏وارتابت قلوبهم‏}‏ شكت في الدين‏.‏ ‏}‏فهم في ريبهم يترددون‏}‏ أي في شكهم يذهبون ويرجعون‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 46 ‏)‏

‏{‏ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة‏}‏ أي لو أرادوا الجهاد لتأهبوا أهبة السفر‏.‏ فتركهم الاستعداد دليل على إرادتهم التخلف‏.‏ ‏}‏ولكن كره الله انبعاثهم‏}‏ أي خروجهم معك‏.‏ ‏}‏فثبطهم‏}‏ أي حبسهم عنك وخذلهم، لأنهم قالوا‏:‏ إن لم يؤذن لنا في الجلوس أفسدنا وحرضنا على المؤمنين‏.‏ ويدل على هذا أن بعده ‏}‏لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا‏}‏‏.‏ ‏}‏وقيل اقعدوا

قيل‏:‏ هو من قول بعضهم لبعض‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون هذا هو الإذن الذي تقدم ذكره‏.‏ قيل‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم غضبا فأخذوا بظاهر لفظه وقالوا قد أذن لنا‏.‏ وقيل‏:‏ هو عبارة عن الخذلان، أي أوقع الله في قلوبهم القعود‏.‏ ومعنى ‏}‏مع القاعدين‏}‏ أي مع أولي الضرر والعميان والزمنى والنسوان والصبيان‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 47 ‏)‏

‏{‏لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا‏}‏ هو تسلية للمؤمنين في تخلف المنافقين عنهم‏.‏ والخبال‏:‏ الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف‏.‏ وهذا استثناء منقطع، أي ما زادوكم قوة ولكن طلبوا الخبال‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا يزيدونكم فيما يترددون فيه من الرأي إلا خبالا، فلا يكون الاستثناء منقطعا‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولأوضعوا خلالكم‏}‏ المعنى لأسرعوا فيما بينكم بالإفساد‏.‏ والإيضاع، سرعة السير‏.‏ وقال الراجز‏:‏

يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع

يقال‏:‏ وضع البعير إذا عدا، يضع وضعا ووضوعا إذا أسرع السير‏.‏ وأوضعته حملته على العدو‏.‏ وقيل‏:‏ الإيضاع سير مثل الخبب‏.‏ والخلل الفرجة بين الشيئين، والجمع الخلال، أي الفرج التي تكون بين الصفوف‏.‏ أي لأوضعوا خلالكم بالنميمة وإفساد ذات البين‏.‏ ‏}‏يبغونكم الفتنة‏}‏ مفعول ثان‏.‏ والمعنى يطلبون لكم الفتنة، أي الإفساد والتحريض‏.‏ ويقال‏:‏ أبغيته كذا أعنته على طلبه، وبغيته كذا طلبته له‏.‏ وقيل‏:‏ الفتنة هنا الشرك‏.‏ ‏}‏وفيكم سماعون لهم‏}‏ أي عيون لهم ينقلون إليهم الأخبار منكم‏.‏ قتادة‏:‏ وفيكم من يقبل منهم قولهم ويطيعهم‏.‏ النحاس‏:‏ القول الأول أولى، لأنه الأغلب من معنييه أن معنى سماع يسمع الكلام‏:‏ ومثله ‏}‏سماعون للكذب‏}‏المائدة‏:‏ 41‏]‏‏.‏ والقول الثاني‏:‏ لا يكاد يقال فيه إلا سامع، مثل قائل‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 48 ‏)‏

‏{‏لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون‏}‏

قوله تعالى‏{‏لقد ابتغوا الفتنة من قبل‏}‏ أي لقد طلبوا الإفساد والخبال من قبل أن يظهر أمرهم، وينزل الوحي بما أسروه وبما سيفعلونه‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ أراد اثني عشر رجلا من المنافقين، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏وقلبوا لك الأمور‏}‏ أي صرفوها وأجالوا الرأي في إبطال ما جئت به‏.‏ ‏}‏حتى جاء الحق وظهر أمر الله‏}‏ أي دينه ‏}‏وهم كارهون‏}‏

الآية رقم ‏(‏ 49 ‏:‏ 50 ‏)‏

‏{‏ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين، إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومنهم من يقول ائذن لي‏}‏ من أذن يأذن‏.‏ وإذا أمرت زدت همزة مكسورة وبعدها همزة هي فاء الفعل، ولا يجتمع همزتان، فأبدلت من الثانية ياء لكسرة ما قبلها فقلت ايذن‏.‏ فإذا وصلت زالت العلة في الجمع بين همزتين، ثم همزت فقلت‏{‏ومنهم من يقول ائذن لي‏}‏ وروى ورش عن نافع ‏}‏ومنهم من يقول اوذن لي‏}‏ خفف الهمزة‏.‏ قال النحاس‏:‏ يقال إيذن لفلان ثم إيذن له هجاء الأولى والثانية واحد بألف وياء قبل الذال في الخط‏.‏ فإن قلت‏:‏ ايذن لفلان وأذن لغيره كان الثاني بغير ياء وكذا الفاء‏.‏ والفرق بين ثم والواو أن ثم يوقف عليها وتنفصل والواو والفاء لا يوقف عليهما ولا ينفصلان‏.‏ قال محمد بن إسحاق‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجد بن قيس أخي بني سلمة لما أراد الخروج إلى تبوك‏:‏ ‏(‏يا جد، هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم سراري ووصفاء‏)‏ فقال الجد‏:‏ قد عرف قومي أني مغرم بالنساء، وإني أخشى إن رأيت بني الأصفر ألا أصبر عنهن فلا تفتني وأذن لي في القعود وأعينك بمالي فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏قد أذنت لك‏)‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ أي لا تفتني بصباحة وجوههم، ولم يكن به علة إلا النفاق‏.‏ قال المهدوي‏:‏ والأصفر رجل من الحبشة كانت له بنات لم يكن في وقتهن أجمل منهن وكان ببلاد الروم‏.‏ وقيل‏:‏ سموا بذلك لأن الحبشة غلبت على الروم، وولدت لهم بنات فأخذن من بياض الروم وسواد الحبشة، فكن صفرا لعسا‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ في قول ابن أبي إسحاق فتور‏.‏ وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اغزوا تغنموا بنات الأصفر‏)‏ فقال له الجد‏:‏ ايذن لنا ولا تفتنا بالنساء‏.‏ وهذا منزع غير الأول، وهو أشبه بالنفاق والمحادة‏.‏ ولما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة - وكان الجد بن قيس منهم‏:‏ ‏(‏من سيدكم يا بني سلمة‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ جد بن قيس، غير أنه بخيل جبان‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وأي داء أدوى من البخل بل سيدكم الفتى الأبيض بشر بن البراء بن معرور‏)‏‏.‏ فقال حسان بن ثابت الأنصاري فيه‏:‏

وسود بشر بن البراء لجوده وحق لبشر بن البرا أن يسودا

إذا ما أتاه الوفد أذهب ماله وقال خذوه إنني عائد غدا

قوله تعالى‏{‏ألا في الفتنة سقطوا‏}‏ أي في الإثم والمعصية وقعوا‏.‏ وهي النفاق والتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏وإن جهنم لمحيطة بالكافرين‏}‏ أي مسيرهم إلى النار، فهي تحدق بهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن تصبك حسنة تسؤهم‏}‏ شرط ومجازاة، وكذا ‏}‏وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل‏}‏ عطف عليه‏.‏ والحسنة‏:‏ الغنيمة والظفر‏.‏ والمصيبة الانهزام‏.‏ ومعنى قوله‏{‏أخذنا أمرنا من قبل‏}‏ أي احتطنا لأنفسنا، وأخذنا بالحزم فلم نخرج إلى القتال‏.‏ ‏}‏ويتولوا‏}‏ أي عن الإيمان‏.‏ ‏}‏وهم فرحون‏}‏ أي معجبون بذلك‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 51 ‏)‏

‏{‏قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا‏}‏ قيل‏:‏ في اللوح المحفوظ‏.‏ وقيل‏:‏ ما أخبرنا به في كتابه من أنا إما أن نظفر فيكون الظفر حسنى لنا، وإما أن نقتل فتكون الشهادة أعظم حسنى لنا‏.‏ والمعنى كل شيء بقضاء وقدر‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏الأعراف‏}‏ أن العلم والقدر والكتاب سواء‏.‏ ‏}‏هو مولانا‏}‏ أي ناصرنا‏.‏ والتوكل تفويض الأمر إليه‏.‏ وقراءة الجمهور ‏}‏يصيبنا‏}‏ نصب بلن‏.‏ وحكى أبو عبيدة أن من العرب من يجزم بها‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف ‏}‏هل يصيبنا‏}‏ وحكي عن أعين قاضي الري أنه قرأ ‏(‏قل لن يصيبنا‏)‏ بنون مشددة‏.‏ وهذا لحن، لا يؤكد بالنون ما كان خبرا، ولو كان هذا في قراءة طلحة لجاز‏.‏ قال الله تعالى‏{‏هل يذهبن كيده ما يغيظ‏}‏الحج‏:‏ 15‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏

‏{‏قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل هل تربصون بنا‏}‏ والكوفيون يدغمون اللام في التاء‏.‏ فأما لام المعرفة فلا يجوز إلا الإدغام، كما قال جل وعز‏{‏التائبون‏}‏التوبة‏:‏ 112‏]‏ لكثرة لام المعرفة في كلامهم ولا يجوز الإدغام في قوله‏{‏قل تعالوا‏}‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ لأن ‏}‏قل‏}‏ معتل، فلم يجمعوا عليه علتين‏.‏ والتربص الانتظار‏.‏ يقال‏:‏ تربص بالطعام أي انتظر به إلى حين الغلاء‏.‏ والحسنى تأنيث الأحسن‏.‏ وواحد الحسنيين حسنى، والجمع الحسنى‏.‏ ولا يجوز أن ينطق به إلا معرفا‏.‏ لا يقال‏:‏ رأيت امرأة حسنى‏.‏ والمراد بالحسنيين الغنيمة والشهادة، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما‏.‏ واللفظ استفهام والمعنى توبيخ‏.‏ ‏}‏ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده‏}‏ أي عقوبة تهلككم كما أصاب الأمم الخالية من قبلكم‏.‏ ‏}‏أو بأيدينا‏}‏ أي يؤذن لنا في قتالكم‏.‏ ‏}‏فتربصوا‏}‏ تهديد ووعيد‏.‏ أي انتظروا مواعد الشيطان إنا منتظرون مواعد الله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏

‏{‏قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ نزلت في الجد بن قيس إذ قال ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به‏.‏ ولفظ ‏}‏أنفقوا‏}‏ أمر، ومعناه الشرط والجزاء‏.‏ وهكذا تستعمل العرب في مثل هذا تأتي بأو كما قال الشاعر‏:‏

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت

والمعنى إن أسأت أو أحسنت فنحن على ما تعرفين‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل منكم‏.‏ ثم بين جل وعز لم لا يقبل منهم فقال‏{‏وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله‏}‏التوبة‏:‏ 54‏]‏ فكان في هذا أدل دليل على أن أفعال الكافر إذا كانت برا كصلة القرابة وجبر الكسير وإغاثة الملهوف لا يثاب عليها ولا ينتفع بها في الآخرة، بيد أنه يطعم بها في الدنيا‏.‏ دليله ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ قلت يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا ينفعه، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين‏)‏‏.‏ وروي عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها‏)‏‏.‏ وهذا نص‏.‏ ثم قيل‏:‏ هل بحكم هذا الوعد الصادق لا بد أن يطعم الكافر ويعطى بحسناته في الدنيا أو ذلك مقيد بمشيئة الله المذكورة في قوله‏{‏عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد‏}‏الإسراء‏:‏ 18‏]‏ وهذا هو الصحيح من القولين، والله أعلم‏.‏ وتسمية ما يصدر عن الكافر حسنة إنما هو بحسب ظن الكافر، وإلا فلا يصح منه قربة، لعدم شرطها المصحح لها وهو الإيمان‏.‏ أو سميت حسنة لأنها تشبه صورة حسنة المؤمن ظاهرا‏.‏ قولان أيضا‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد روى مسلم عن حكيم بن حزام أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي رسول الله، أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أسلمت على ما أسلفت من خير‏)‏ قلنا قوله‏:‏ ‏(‏أسلمت على ما أسلفت من خير‏)‏ مخالف ظاهره للأصول، لأن الكافر لا يصح منه التقرب لله تعالى فيكون مثابا على طاعته، لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بالمتقرب إليه، فإذا عدم الشرط انتفى صحة المشروط‏.‏ فكان المعنى في الحديث‏:‏ إنك اكتسبت طباعا جميلة في الجاهلية أكسبتك عادة جميلة في الإسلام‏.‏ وذلك أن حكيما رضي الله عنه عاش مائة وعشرين سنة، ستين في الإسلام وستين في الجاهلية، فأعتق في الجاهلية مائة رقبة وحمل على مائة بعير‏؟‏ وكذلك فعل في الإسلام‏.‏ وهذا واضح‏.‏ وقد قيل‏:‏ لا يبعد في كرم الله أن يثيبه على فعله ذلك بالإسلام، كما يسقط عنه ما ارتكبه في حال كفره من الآثام‏.‏ وإنما لا يثاب من لم يسلم ولا تاب، ومات كافرا‏.‏ وهذا ظاهر الحديث‏.‏ وهو الصحيح إن شاء الله‏.‏ وليس عدم شرط الإيمان في عدم ثواب ما يفعله من الخير ثم أسلم ومات مسلما بشرط عقلي لا يتبدل، والله أكرم من أن يضيع عمله إذا حسن إسلامه‏.‏ وقد تأول الحربي الحديث على هذا المعنى فقال‏:‏ ‏(‏أسلمت على ما أسلفت‏)‏، أي ما تقدم لك من خير عملته فذلك لك‏.‏ كما تقول‏:‏ أسلمت على ألف درهم، أي على أن أحرزها لنفسه‏.‏ والله أعلم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد روى مسلم عن العباس قال‏:‏ قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح‏)‏‏.‏ قيل له‏:‏ لا يبعد أن يخفف عن الكافر بعض العذاب بما عمل من الخير، لكن مع انضمام شفاعة، كما جاء في أبي طالب‏.‏ فأما غيره فقد أخبر التنزيل بقوله‏{‏فما تنفعهم شفاعة الشافعين‏}‏المدثر‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وقال مخبرا عن الكافرين‏{‏فما لنا من شافعين‏.‏ ولا صديق حميم‏}‏الشعراء‏:‏ 100، 101‏]‏‏.‏ وقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال‏:‏ ‏(‏لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه‏)‏‏.‏ من حديث العباس رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار‏)‏‏.‏ ‏}‏إنكم كنتم قوما فاسقين‏}‏ أي كافرين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏

‏{‏وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ الأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع‏.‏ والمعنى‏:‏ وما منعهم من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا كفرهم وقرأ الكوفيون ‏}‏أن يقبل منهم‏}‏ بالياء، لأن النفقات والإنفاق واحد‏.‏ ‏}‏ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إن كان في جماعة صلى وإن انفرد لم يصل، وهو الذي لا يرجو على الصلاة ثوابا ولا يخشى في تركها عقابا‏.‏ فالنفاق يورث الكسل في العبادة لا محالة‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏النساء‏}‏ القول في هذا كله‏.‏ وقد ذكرنا هناك حديث العلاء موعبا‏.‏ والحمد لله‏.‏ ‏}‏ولا ينفقون إلا وهم كارهون‏}‏ لأنهم يعدونها مغرما ومنعها مغنما وإذا كان الأمر كذلك فهي غير متقبلة ولا مثاب عليها حسب ما تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 55 ‏)‏

‏{‏فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون‏}‏

أي لا تستحسن ما أعطيناهم ولا تمل إليه فإنه استدراج ‏}‏إنما يريد الله ليعذبهم بها‏}‏ قال الحسن‏:‏ المعنى بإخراج الزكاة والإنفاق في سبيل الله‏.‏ وهذا اختيار الطبري‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما بريد الله ليعذبهم بها في الآخرة‏.‏ وهذا قول أكثر أهل العربية، ذكره النحاس‏.‏ وقيل‏:‏ يعذبهم بالتعب في الجمع‏.‏ وعلى هذا التأويل وقول الحسن لا تقديم فيه ولا تأخير، وهو حسن‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا لأنهم منافقون، فهم ينفقون كارهين فيعذبون بما ينفقون‏.‏ ‏}‏وتزهق أنفسهم وهم كافرون‏}‏ نص في أن الله يريد أن يموتوا كافرين، سبق بذلك القضاء‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 56 ‏)‏

‏{‏ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون‏}‏

بين أن من أخلاق المنافقين الحلف بأنهم مؤمنون‏.‏ نظيره ‏}‏إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله‏}‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏ الآية‏.‏ والفرق الخوف، أي يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 57 ‏)‏

‏{‏لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون‏}‏

قوله تعالى‏{‏لو يجدون ملجأ‏}‏ كذا الوقف عليه‏.‏ وفي الخط بألفين‏:‏ الأولى همزة، والثانية عوض من التنوين، وكذا رأيت جزءا‏.‏ والملجأ الحصن، عن قتادة وغيره‏.‏ ابن عباس‏:‏ الحرز، وهما سواء‏.‏ يقال‏:‏ لجأت إليه لجأ بالتحريك وملجأ والتجأت إليه بمعنى‏.‏ والموضع أيضا لجأ وملجأ‏.‏ والتلجئة الإكراه‏.‏ وألجأته إلى الشيء اضطررته إليه‏.‏ وألجأت أمري إلى الله أسندته‏.‏ وعمرو بن لجأ التميمي الشاعر عن الجوهري‏.‏ ‏}‏أو مغارات‏}‏ جمع مغارة، من غار يغير‏.‏ قال الأخفش‏:‏ ويجوز أن يكون من أغار يغير، كما قال الشاعر‏:‏

الحمد لله ممسانا ومصبحنا

قال ابن عباس‏:‏ المغارات الغيران والسراديب، وهي المواضع التي يستتر فيها، ومنه غار الماء وغارت العين‏.‏ ‏}‏أو مدخلا‏}‏ مفتعل من الدخول، أي مسلكا نختفي بالدخول فيه، وأعاده لاختلاف اللفظ‏.‏ قال النحاس‏:‏ الأصل فيه مدتخل، قلبت التاء دالا، لأن الدال مجهورة والتاء مهموسة وهما من مخرج واحد‏.‏ وقيل‏:‏ الأصل فيه متدخل على متفعل، كما في قراءة أبي‏{‏أو متدخلا‏}‏ ومعناه دخول بعد دخول، أي قوما يدخلون معهم‏.‏ المهدوي‏:‏ متدخلا من تدخل مثل تفعل إذا تكلف الدخول‏.‏ وعن أبي أيضا‏:‏ مندخلا من اندخل، وهو شاذ، لأن ثلاثيه غير متعد عند سيبويه وأصحابه‏.‏ وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن‏{‏أو مدخلا‏}‏ بفتح الميم وإسكان الدال‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويقرأ ‏}‏أو مدخلا‏}‏ بضم الميم وإسكان الدال‏.‏ الأول من دخل يدخل‏.‏ والثاني من أدخل يدخل‏.‏ كذا المصدر والمكان والزمان كما أنشد سيبويه‏:‏

مغار ابن همام على حي خثعما

وروي عن قتادة وعيسى والأعمش ‏}‏أو مدخلا‏}‏ بتشديد الدال والخاء‏.‏ والجمهور بتشديد الدال وحدها، أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم‏.‏ فهذه ست قراءات‏.‏ ‏}‏لولوا إليه‏}‏ أي لرجعوا إليه‏.‏ ‏}‏وهم يجمحون‏}‏ أي يسرعون، لا يرد وجوههم شيء‏.‏ من جمح الفرس إذا لم يرده اللجام‏.‏ قال الشاعر‏:‏

سبوحا جموحا وإحضارها كمعمعة السعف الموقد

والمعنى‏:‏ لو وجدوا شيئا من هذه الأشياء المذكورة لولوا إليه مسرعين هربا من المسلمين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 58 ‏)‏

‏{‏ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومنهم من يلزمك في الصدقات‏}‏ أي يطعن عليك، عن قتادة‏.‏ الحسن‏:‏ يعيبك‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أي يروزك ويسألك‏.‏ النحاس‏:‏ والقول عند أهل اللغة قول قتادة والحسن‏.‏ يقال‏:‏ لمزه يلمزه إذا عابه‏.‏ واللمز في اللغة العيب في السر‏.‏ قال الجوهري‏:‏ اللمز العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها، وقد لمزه يلمزه ويلمز وقرئ بهما ‏}‏ومنهم من يلمزك في الصدقات‏}‏‏.‏ ورجل لماز ولمزة أي عياب‏.‏ ويقال أيضا‏:‏ لمزه يلمزه إذا دفعه وضربه‏.‏ والهمز مثل اللمز‏.‏ والهامز والهماز العياب، والهمزة مثله‏.‏ يقال‏:‏ رجل همزة وامرأة همزة أيضا‏.‏ وهمزه أي دفعه وضربه‏.‏ ثم قيل‏:‏ اللمز في الوجه، والهمز بظهر الغيب‏.‏ وصف الله قوما من المنافقين بأنهم عابوا النبي صلى الله عليه وسلم في تفريق الصدقات، وزعموا أنهم فقراء ليعطيهم‏.‏ قال أبو سعيد الخدري‏:‏ بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مالا إذ جاءه حرقوص بن زهير أصل الخوارج، ويقال له ذو الخويصرة التميمي، فقال‏:‏ اعدل يا رسول الله‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل‏)‏ فنزلت الآية‏.‏ حديث صحيح أخرجه مسلم بمعناه‏.‏ وعندها قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 59 ‏)‏

‏{‏ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله‏}‏ جواب ‏}‏لو‏}‏ محذوف، التقدير لكان خيرا لهم‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 60 ‏)‏

‏{‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنما الصدقات للفقراء‏}‏ خص الله سبحانه بعض الناس بالأموال دون بعض نعمة منه عليهم، وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم يؤدونه إلى من لا مال له، نيابة عنه سبحانه فيما ضمنه بقوله‏{‏وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها‏}‏هود‏:‏ 6‏]‏‏.‏ ‏}‏للفقراء‏}‏ تبيين لمصارف الصدقات والمحل، حتى لا تخرج عنهم‏.‏ ثم الاختيار إلى من يقسم، هذا قول مالك وأبي حنيفة وأصحابهما‏.‏ كما يقال‏:‏ السرج للدابة والباب للدار‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ اللام لام التمليك، كقولك‏:‏ المال لزيد وعمرو وبكر، فلا بد من التسوية بين المذكورين‏.‏ قال الشافعي وأصحابه‏:‏ وهذا كما لو أوصى لأصناف معينين أو لقوم معينين‏.‏ واحتجوا بلفظة ‏}‏إنما‏}‏ وأنها تقتضي الحصر في وقوف الصدقات على الثمانية الأصناف وعضدوا هذا بحديث زياد بن الحارث الصدائي قال‏:‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبعث إلى قومي جيشا فقلت‏:‏ يا رسول الله احبس جيشك فأنا لك بإسلامهم وطاعتهم، وكتبت إلى قومي فجاء إسلامهم وطاعتهم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا أخا صداء المطاع في قومه‏)‏‏.‏ قال‏:‏ قلت بل من الله عليهم وهداهم، قال‏:‏ ثم جاءه رجل يسأل عن الصدقات، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى جزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من أهل تلك الأجزاء أعطيتك‏)‏ رواه أبو داود والدارقطني‏.‏ واللفظ للدارقطني‏.‏ وحكي عن زين العابدين أنه قال‏:‏ إنه تعالى علم قدر ما يدفع من الزكاة وما تقع به الكفاية لهذه الأصناف، وجعله حقا لجميعهم، فمن منعهم ذلك فهو الظالم لهم رزقهم‏.‏ وتمسك علماؤنا بقوله تعالى‏{‏إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم‏}‏البقرة‏:‏ 271‏]‏‏.‏ والصدقة متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم‏)‏‏.‏ وهذا نص في ذكر أحد الأصناف الثمانية قرآنا وسنة، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس وحذيفة‏.‏ وقال به من التابعين جماعة‏.‏ قالوا‏:‏ جائز أن يدفعها إلى الأصناف الثمانية، وإلى أي صنف منها دفعت جاز‏.‏ روى المنهال بن عمرو عن زر بن حبيش عن حذيفة في قوله‏{‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين‏}‏ قال‏:‏ إنما ذكر الله هذه الصدقات لتعرف وأي صنف منها أعطيت أجزأك‏.‏ وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس ‏}‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين ‏}‏قال‏:‏ في أيها وضعت أجزأ عنك‏.‏ وهو قول الحسن وإبراهيم وغيرهما‏.‏ قال الكيا الطبري‏:‏ حتى ادعى مالك الإجماع على ذلك‏.‏

قلت‏:‏ يريد إجماع الصحابة، فإنه لا يعلم لهم مخالف منهم على ما قال أبو عمر، والله أعلم‏.‏ ابن العربي‏:‏ والذي جعلناه فيصلا بيننا وبينهم أن الأمة اتفقت على أنه لو أعطي كل صنف حظه لم يجب تعميمه، فكذلك تعميم الأصناف مثله‏.‏ والله أعلم‏.‏

واختلف علماء اللغة وأهل الفقه في الفرق بين الفقير والمسكين على تسعة أقوال‏:‏ فذهب يعقوب بن السكيت والقتبي ويونس بن حبيب إلى أن الفقير أحسن حالا من المسكين‏.‏ قالوا‏:‏ الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه، والمسكين الذي لا شيء له، واحتجوا بقول الراعي‏:‏

أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد

وذهب إلى هذا قوم من أهل اللغة والحديث منهم أبو حنيفة والقاضي عبدالوهاب، والوفق من الموافقة بين الشيئين كالالتحام، يقال‏:‏ حلوبته وفق عيال أي لها لبن قدر كفايتهم لا فضل فيه، عن الجوهري‏.‏ وقال آخرون بالعكس، فجعلوا المسكين أحسن حالا من الفقير‏.‏ واحتجوا بقوله تعالى‏{‏أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر‏}‏الكهف‏:‏ 79‏]‏‏.‏ فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر‏.‏ وربما ساوت جملة من المال‏.‏ وعضدوه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعوذ من الفقر‏.‏ وروي عنه أنه قال‏{‏اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا‏}‏‏.‏ فلو كان المسكين أسوأ حالا من الفقير لتناقض الخبران، إذ يستحيل أن يتعوذ من الفقر ثم يسأل ما هو أسوأ حالا منه، وقد استجاب الله دعاءه وقبضه وله مما أفاء الله عليه، ولكن لم يكن معه تمام الكفاية، ولذلك رهن درعه‏.‏ قالوا‏:‏ وأما بيت الراعي فلا حجة فيه، لأنه إنما ذكر أن الفقير كانت له حلوبة في حال‏.‏ قالوا‏:‏ والفقير معناه في كلام العرب المفقور الذي نُزعِت فقرة من ظهره من شدة الفقر فلا حال أشد من هذه‏.‏ وقد أخبر الله عنهم بقوله ‏}‏لا يستطيعون ضربا في الأرض‏}‏البقرة‏:‏ 273‏]‏‏.‏ واستشهدوا بقول الشاعر‏:‏

لما رأى لبد النسور تطايرت رفع القوادم كالفقير الأعزل

أي لم يطق الطيران فصار بمنزلة من انقطع صلبه ولصق بالأرض‏.‏ ذهب إلى هذا الأصمعي وغيره، وحكاه الطحاوي عن الكوفيين‏.‏ وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه‏.‏ وللشافعي قول آخر‏:‏ أن الفقير والمسكين سواء، لا فرق بينهما في المعنى وإن افترقا في الاسم، وهو القول الثالث‏.‏ وإلى هذا ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك، وبه قال أبو يوسف‏.‏

قلت‏:‏ ظاهر اللفظ يدل على أن المسكين غير الفقير، وأنهما صنفان، إلا أن أحد الصنفين أشد حاجة من الآخر، فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما صنفا واحدا، والله أعلم‏.‏ ولا حجة في قول من احتج بقوله تعالى‏{‏أما السفينة فكانت لمساكين‏}‏الكهف‏:‏ 79‏]‏ لأنه يحتمل أن تكون مستأجرة لهم، كما يقال‏:‏ هذه دار فلان إذا كان ساكنها وإن كانت لغيره‏.‏ وقد قال تعالى في وصف أهل النار‏{‏ولهم مقامع من حديد‏}‏الحج‏:‏ 21‏]‏ فأضافها إليهم‏.‏ وقال تعالى‏{‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم‏}‏النساء‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من باع عبدا وله مال‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وهو كثير جدا يضاف الشيء إليه وليس له‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ باب الدار‏.‏ وجل الدابة، وسرج الفرس، وشبهه‏.‏ ويجوز أن يسموا مساكين على جهة الرحمة والاستعطاف، كما يقال لمن امتحن بنكبة أو دفع إلى بلية مسكين‏.‏ وفي الحديث ‏(‏مساكين أهل النار‏)‏ وقال الشاعر‏:‏

مساكين أهل الحب حتى قبورهم عليها تراب الذل بين المقابر

وأما ما تأولوه من قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏اللهم أحيني مسكينا‏)‏ الحديث‏.‏ رواه أنس، فليس كذلك، وإنما المعنى ههنا‏:‏ التواضع لله الذي لا جبروت فيه ولا نخوة، ولا كبر ولا بطر، ولا تكبر ولا أشر‏.‏ ولقد أحسن، أبو العتاهية حيث قال‏:‏

إذا أردت شريف القوم كلهم فانظر إلى ملك في زي مسكين

ذاك الذي عظمت في الله رغبته وذاك يصلح للدنيا وللدين

وليس بالسائل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كره السؤال ونهى عنه، وقال في امرأة سوداء أبت أن تزول له عن الطريق‏:‏ ‏(‏دعوها فإنها جبارة‏)‏ وأما قوله تعالى‏{‏للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض‏}‏البقرة‏:‏ 273‏]‏ فلا يمتنع أن يكون لهم شيء‏.‏ والله أعلم‏.‏ وما ذهب إليه أصحاب مالك والشافعي في أنهما سواء حسن‏.‏ ويقرب منه ما قاله مالك في كتاب ابن سحنون، قال‏:‏ الفقير المحتاج المتعفف، والمسكين السائل، وروي عن ابن عباس وقاله الزهري، واختاره ابن شعبان وهو القول الرابع‏.‏ وقول خامس‏:‏ قال محمد بن مسلمة‏:‏ الفقير الذي له المسكن والخادم إلى من هو أسفل من ذلك‏.‏ والمسكين الذي لا مال له‏.‏

قلت‏:‏ وهذا القول عكس ما ثبت في صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو، وسأله رجل فقال‏:‏ ألسنا من فقراء المهاجرين ‏؟‏ فقال له عبدالله‏:‏ ألك امرأة تأوي إليها‏؟‏ قال نعم‏.‏ قال‏:‏ ألك مسكن تسكنه‏؟‏ قال نعم‏.‏ قال‏:‏ فأنت من الأغنياء‏.‏ قال‏:‏ فإن لي خادما قال‏:‏ فأنت من الملوك‏.‏ وقول سادس‏:‏ روي عن ابن عباس قال‏:‏ الفقراء من المهاجرين، والمساكين من الأعراب الذين لم يهاجروا وقال الضحاك‏.‏ وقول سابع‏:‏ وهو أن المسكين الذي يخشع ويستكن وإن لم يسأل‏.‏ والفقير الذي يتحمل ويقبل الشيء سرا ولا يخشع، قاله عبيدالله بن الحسن‏.‏ وقول ثامن قاله مجاهد وعكرمة والزهري - المساكين الطوافون، والفقراء فقراء المسلمين‏.‏ وقول تاسع قاله عكرمة أيضا - أن الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب‏.‏ وسيأتي‏.‏

وهي فائدة الخلاف في الفقراء والمساكين، هل هما صنف واحد أو أكثر تظهر فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين، فمن قال هما صنف واحد قال‏:‏ يكون لفلان نصف الثلث وللفقراء والمساكين نصف الثلث الثاني‏.‏ ومن قال هما صنفان يقسم الثلث بينهم أثلاثا‏.‏

وقد اختلف العلماء في حد الفقر الذي يجوز معه الأخذ - بعد إجماع أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم - أن من له دارا وخادما لا يستغني عنهما أن له أن يأخذ من الزكاة، وللمعطي أن يعطيه‏.‏ وكان مالك يقول‏:‏ إن لم يكن في ثمن الدار والخادم فضلة عما يحتاج إليه منهما جاز له الأخذ وإلا لم يجز، ذكره ابن المنذر‏.‏ وبقول مالك قال النخعي والثوري‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ من معه عشرون دينارا أو مائتا درهم فلا يأخذ من الزكاة‏.‏ فاعتبر النصاب لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم‏)‏‏.‏ وهذا واضح، ورواه المغيرة عن مالك‏.‏ وقال الثوري وأحمد وإسحاق وغيرهم‏:‏ لا يأخذ من له خمسون درهما أو قدرها من الذهب، ولا يعطي منها أكثر من خمسين درهما إلا أن يكون غارما، قال أحمد وإسحاق‏.‏ وحجة هذا القول ما رواه الدارقطني عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لرجل له خمسون درهما‏)‏‏.‏ في إسناده عبدالرحمن بن إسحاق ضعيف، وعنه بكر بن خنيس ضعيف أيضا‏.‏ ورواه حكيم بن جبير عن محمد بن عبدالرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقال‏:‏‏(‏خمسون درهما‏)‏ وحكيم بن جبير ضعيف تركه شعبة وغيره، قال الدارقطني رحمه الله‏.‏ وقال أبو عمر‏:‏ هذا الحديث يدور على حكيم بن جبير وهو متروك‏.‏ وعن علي وعبدالله قالا‏:‏ لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما أو قيمتها من الذهب، ذكره الدارقطني وقال الحسن البصري‏:‏ لا يأخذ من له أربعون درهما‏.‏ ورواه الواقدي عن مالك‏.‏ وحجة هذا القول ما رواه الدارقطني عن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من سأل الناس وهو غني جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح وخدوش‏)‏‏.‏ فقيل‏:‏ يا رسول الله وما غناؤه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أربعون درهما‏)‏‏.‏ وفي حديث مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏{‏من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا والأوقية أربعون درهما‏)‏‏.‏ والمشهور عن مالك ما رواه ابن القاسم عنه أنه سئل‏:‏ هل يعطى من الزكاة من له أربعون درهما‏؟‏ قال نعم‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ يحتمل أن يكون الأول قويا على الاكتساب حسن التصرف‏.‏ والثاني ضعيفا عن الاكتساب، أو من له عيال‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال الشافعي وأبو ثور‏.‏ من كان قويا على الكسب والتحرف مع قوة البدن وحسن التصرف حتى يغنيه ذلك عن الناس فالصدقة عليه حرام‏.‏ واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا تحل الصدقة لغنى ولا لذي مرة سوي‏)‏ رواه عبدالله بن عمر، وأخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني‏.‏ وروى جابر قال‏:‏ جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة فركبه الناس، فقال‏:‏ ‏(‏إنها لا تصلح لغني ولا لصحيح ولا لعامل‏)‏ أخرجه الدارقطني‏.‏

وروى أبو داود عن عبيدالله بن عدي بن الخيار قال‏:‏ أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها، فرفع فينا النظر وخفضه، فرآنا جلدين فقال‏:‏ ‏(‏إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب‏)‏‏.‏ ولأنه قد صار غنيا بكسبه كغنى غيره بمال فصار كل واحد منهما غنيا عن المسألة‏.‏ وقال ابن خويز منداد، وحكاه عن المذهب‏.‏ وهذا لا ينبغي أن يعول عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيها الفقراء ووقوفها على الزمن باطل‏.‏ قال أبو عيسى الترمذي في جامعه‏:‏ إذا كان الرجل قويا محتاجا ولم يكن عنده شيء فتصدق عليه أجزأ عن المتصدق عند أهل العلم‏.‏ ووجه الحديث عند بعض أهل العلم على المسألة‏.‏ وقال الكيا الطبري‏:‏ والظاهر يقتضي جواز ذلك، لأنه فقير مع قوته وصحة بدنه‏.‏ وبه قال أبو حنيفة وأصحابه‏.‏ وقال عبيدالله بن الحسن‏:‏ من لا يكون له ما يكفيه ويقيمه سنة فإنه يعطى الزكاة‏.‏ وحجته ما رواه ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخر مما أفاء الله عليه قوت سنة، ثم يجعل ما سوى ذلك في الكراع والسلاح مع قوله تعالى‏{‏ووجدك عائلا فأغنى‏}‏الضحى‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقال بعض أهل العلم‏:‏ لكل واحد أن يأخذ من الصدقة فيما لا بد له منه‏.‏ وقال قوم‏:‏ من عنده عشاء ليلة فهو غني وروي عن علي‏.‏ واحتجوا بحديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من سأل مسألة عن ظهر غنى استكثر بها من رضف جهنم‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، وما ظهر الغنى‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏عشاء ليلة‏)‏ أخرجه الدارقطني وقال‏:‏ في إسناده عمرو بن خالد وهو متروك‏.‏ وأخرجه أبو داود عن سهل بن الحنظلية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه‏:‏ ‏(‏من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار‏)‏‏.‏ وقال النفيلي في موضع آخر ‏(‏من جمر جهنم‏)‏‏.‏ فقالوا‏:‏ يا رسول الله وما يغنيه‏؟‏ وقال النفيلي في موضع آخر‏:‏ وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قدر ما يغديه ويعشيه‏)‏‏.‏ وقال النفيلي في موضع آخر‏:‏ ‏(‏أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ فهذا ما جاء في بيان الفقر الذي يجوز معه الأخذ‏.‏ ومطلق لفظ الفقراء لا يقتضي الاختصاص بالمسلمين دون أهل الذمة، ولكن تظاهرت الأخبار في أن الصدقات تؤخذ من أغنياء المسلمين فترد في فقرائهم‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب‏.‏ وقال أبو بكر العبسي‏:‏ رأى عمر بن الخطاب ذميا مكفوفا مطروحا على باب المدينة فقال له عمر‏:‏ مالك‏؟‏ قال‏:‏ استكروني في هذه الجزية، حتى إذا كف بصري تركوني وليس لي أحد يعود علي شيء‏.‏ فقال عمر‏:‏ ما أنصفت إذا، فأمر له بقوته وما يصلحه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏هذا من الذين قال الله تعالى فيهم‏{‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين‏}‏ الآية‏.‏ وهم زمنى أهل الكتاب‏)‏ ولما قال تعالى‏{‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين‏}‏ الآية، وقابل الجملة بالجملة وهي جملة الصدقة بجملة المصرف بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال لمعاذ حين أرسله إلى اليمن‏:‏ ‏(‏أخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم‏)‏‏.‏ فاختص أهل كل بلد بزكاة بلده‏.‏ وروى أبو داود أن زيادا أو بعض الأمراء بعث عمران بن حصين على الصدقة، فلما رجع قال لعمران‏:‏ أين المال‏؟‏ قال‏:‏ وللمال أرسلتني أخذناها من حيث كنا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروى الدارقطني والترمذي عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال‏:‏ قدم علينا مصدق النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا فكنت غلاما يتيما فأعطاني منها قلوصا‏.‏ قال الترمذي‏:‏ وفي الباب عن ابن عباس حديث ابن أبي جحيفة حديث حسن‏.‏

وقد اختلفت العلماء في نقل الزكاة عن موضعها على ثلاثة أقوال‏:‏ لا تنقل، قاله سحنون وابن القاسم، وهو الصحيح لما ذكرناه‏.‏ قال ابن القاسم أيضا‏:‏ وإن نقل بعضها لضرورة رأيته صوابا‏.‏ وروي عن سحنون أنه قال‏:‏ ولو بلغ الإمام أن ببعض البلاد حاجة شديدة جاز له نقل بعض الصدقة المستحقة لغيره إليه، فإن الحاجة إذا نزلت وجب تقديمها على من ليس بمحتاج ‏(‏والمسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه‏)‏‏.‏ والقول الثاني تنقل‏.‏ وقاله مالك أيضا‏.‏ وحجة هذا القول ما روي أن معاذا قال لأهل اليمن‏:‏ ايتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الذرة والشعير في الصدقة فإنه أيسر عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة‏.‏ أخرجه الدارقطني وغيره‏.‏ والخميس لفظ مشترك، وهو هنا الثوب طوله خمس أذرع‏.‏ ويقال‏:‏ سمي بذلك لأن أول من عمله الخمس ملك من ملوك اليمن، ذكره ابن فارس في المجمل والجوهري أيضا‏.‏ وفي هذا الحديث دليلان‏:‏ أحدهما‏:‏ ما ذكرناه من نقل الزكاة من اليمن إلى المدينة، فيتولى النبي صلى الله عليه وسلم قسمتها‏.‏ ويعضد هذا قوله تعالى‏{‏إنما الصدقات للفقراء‏}‏ ولم يفصل بين فقير بلد وفقير آخر‏.‏ والله أعلم‏.‏ الثاني‏:‏ أخذ القيمة في الزكاة‏.‏ وقد اختلفت الرواية عن مالك في إخراج القيم في الزكاة، فأجاز ذلك مرة ومنع منه أخرى، فوجه الجواز - وهو قول أبي حنيفة - هذا الحديث‏.‏ وثبت في صحيح البخاري من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنه تؤخذ منه وما استيسرنا من شاتين أو عشرين درهما‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏ الحديث‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اغنوهم عن سؤال هذا اليوم‏)‏ يعني يوم الفطر‏.‏ وإنما أراد أن يغنوا بما يسد حاجتهم، فأي شيء سد حاجتهم جاز‏.‏ وقد قال تعالى‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ ولم يخص شيئا من شيء‏.‏ ولا يدفع عند أبي حنيفة سكنى دار بدل الزكاة، مثل أن يجب عليه خمسة دراهم فأسكن فيها فقيرا شهرا فإنه لا يجوز‏.‏ قال‏:‏ لأن السكنى ليس بمال‏.‏ ووجه قوله‏:‏ لا تجزي القيم - وهو ظاهر المذهب - فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏في خمس من الإبل شاة وفي أربعين شاة شاة‏)‏ فنص على الشاة، فإذا لم يأت بها لم يأت بمأمور به، وإذا لم يأت بالمأمور به فالأمر باق عليه‏.‏ القول الثالث وهو أن سهم الفقراء والمساكين يقسم في الموضع، وسائر السهام تنقل باجتهاد الإمام‏.‏ والقول الأول أصح‏.‏ والله أعلم‏.‏

وهل المعتبر مكان المال وقت تمام الحول فتفرق الصدقة فيه، أو مكان المالك إذ هو المخاطب، قولان‏.‏ واختار الثاني أبو عبدالله محمد بن خويز منداد في أحكامه قال‏:‏ لأن الإنسان هو المخاطب بإخراجها فصار المال تبعا له، فيجب أن يكون الحكم فيه بحيث المخاطب‏.‏ كابن السبيل فإنه يكون غنيا في بلده فقيرا في بلد آخر، فيكون الحكم له حيث هو‏.‏

مسألة‏:‏

واختلفت الرواية عن مالك فيمن أعطى فقيرا مسلما فانكشف في ثاني حال أنه أعطى عبدا أو كافرا أو غنيا، فقال مرة‏:‏ تجزيه ومرة لا تجزيه‏.‏ وجه الجواز - وهو الأصح - ما رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية قال اللهم لك الحمد على زانية لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني قال اللهم لك الحمد على غني لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق فقال اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق فأتي فقيل له أما صدقتك فقد قبلت أما الزانية فلعلها تستعف بها عن زناها ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله ولعل السارق يستعف بها عن سرقته‏)‏‏.‏ وروي أن رجلا أخرج زكاة ماله فأعطاها أباه، فلما أصبح علم بذلك، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ ‏(‏قد كتب لك أجر زكاتك وأجر صلة الرحم فلك أجران‏)‏‏.‏ ومن جهة المعنى أنه سوغ له الاجتهاد في المعطى، فإذا اجتهد وأعطى من يظنه من أهلها فقد أتى بالواجب عليه‏.‏ ووجه قوله‏:‏ لا يجزي‏.‏ أنه لم يضعها في مستحقها، فأشبه العمد، ولأن العمد والخطأ في ضمان الأموال واحد فوجب أن يضمن ما أتلف، على المساكين حتى يوصله إليهم‏.‏

فإن أخرج الزكاة عند محلها فهلكت من غير تفريط لم يضمن، لأنه وكيل للفقراء‏.‏ فإن أخرجها بعد ذلك بمدة فهلكت ضمن، لتأخيرها عن محلها فتعلقت بذمته فلذلك ضمن والله أعلم‏.‏

وإذا كان الإمام يعدل في الأخذ والصرف لم يسغ للمالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناضّ ولا في غيره‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن زكاة الناض على أربابه‏.‏ وقال ابن الماجشون‏:‏ ذلك إذا كان الصرف للفقراء والمساكين خاصة، فإن احتيج إلى صرفها لغيرهما من الأصناف فلا يفرق عليهم إلا الإمام‏.‏ وفروع هذا الباب كثيرة، هذه أمهاتا‏.‏

قوله تعالى‏{‏والعاملين عليها‏}‏ يعني السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة بالتوكيل على ذلك‏.‏ روى البخاري عن أبي حميد الساعدي قال‏:‏ استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأسد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه‏.‏ واختلف العلماء في المقدار الذي يأخذونه على ثلاثة أقوال‏:‏ قال مجاهد والشافعي‏:‏ هو الثمن‏.‏ ابن عمر ومالك‏:‏ يعطون قدر عملهم من الأجرة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه‏.‏ قالوا‏:‏ لأنه عطل نفسه لمصلحة الفقراء، فكانت كفايته وكفاية أعوانه في مالهم، كالمرأة لما عطلت نفسها لحق الزوج كانت نفقتها ونفقة أتباعها من خادم أو خادمين على زوجها‏.‏ ولا تقدر بالثمن، بل تعتبر الكفاية ثمنا كان أو أكثر، كرزق القاضي‏.‏ ولا تعتبر كفاية الأعوان في زماننا لأنه إسراف محض‏.‏ القول الثالث - يعطون من بيت المال‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا قول صحيح عن مالك بن أنس من رواية ابن أبي أويس وداود بن سعيد بن زنبوعة، وهو ضعيف دليلا، فإن الله سبحانه قد أخبر بسهمهم فيها نصا فكيف يخلفون عنه استقراء وسبرا‏.‏ والصحيح الاجتهاد في قدر الأجرة، لأن البيان في تعديد الأصناف إنما كان للمحل لا للمستحق، على ما تقدم‏.‏

واختلفوا في العامل إذا كان هاشميا، فمنعه أبو حنيفة لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس‏)‏‏.‏ وهذه صدقة من وجه، لأنها جزء من الصدقة فتلحق بالصدقة من كل وجه كرامة وتنزيها لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غسالة الناس‏.‏ وأجاز عمله مالك والشافعي، ويعطى أجر عمالته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب مصدقا، وبعثه عاملا إلى اليمن على الزكاة، وولى جماعة من بني هاشم وولى الخلفاء بعده كذلك‏.‏ ولأنه أجير على عمل مباح فوجب أن يستوي فيه الهاشمي وغيره اعتبارا بسائر الصناعات‏.‏ قالت الحنفية‏:‏ حديث علي ليس فيه أنه فرض له من الصدقة، فإن فرض له من غيرها جاز‏.‏ وروي عن مالك‏.‏

ودل قوله تعالى‏{‏والعاملين عليها‏}‏ على أن كل ما كان من فروض الكفايات كالساعي والكاتب والقسام والعاشر وغيرهم فالقائم به يجوز له أخذ الأجرة عليه‏.‏ ومن ذلك الإمامة، فإن الصلاة وإن كانت متوجهة على جميع الخلق فإن تقدم بعضهم بهم من فروض الكفايات، فلا جرم يجوز أخذ الأجرة عليها‏.‏ وهذا أصل الباب، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة‏)‏قاله ابن العربي‏.‏

قوله تعالى‏{‏والمؤلفة قلوبهم‏}‏ لا ذكر للمؤلفة قلوبهم في التنزيل في غير قسم الصدقات، وهم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يظهر الإسلام، يتألفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم‏.‏ قال الزهري‏:‏ المؤلفة من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنيا‏.‏ وقال بعض المتأخرين‏:‏ اختلف في صفتهم، فقيل‏:‏ هم صنف من الكفار يعطون ليتألفوا على الإسلام، وكانوا لا يسلمون بالقهر والسيف، ولكن يسلمون بالعطاء والإحسان‏.‏ وقيل‏:‏ هم قوم أسلموا في الظاهر ولم تستيقن قلوبهم، فيعطون ليتمكن الإسلام في صدورهم‏.‏ وقيل‏:‏ هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع يعطون ليتألفوا أتباعهم على الإسلام‏.‏ قال‏:‏ وهذه الأقوال متقاربة والقصد بجميعها الإعطاء لمن لا يتمكن إسلامه حقيقة إلا بالعطاء، فكأنه ضرب من الجهاد‏.‏

والمشركون ثلاثة أصناف‏:‏ صنف يرجع بإقامة البرهان‏.‏ وصنف بالقهر‏.‏ وصنف بالإحسان‏.‏ والإمام الناظر للمسلمين يستعمل مع كل صنف ما يراه سببا لنجاته وتخليصه من الكفر‏.‏ وفي صحيح مسلم من حديث أنس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعني للأنصار - ‏:‏ ‏(‏فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ أعطاهم يتألفهم ويتألف بهم قومهم‏.‏ وكانوا أشرافا، فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير، وأعطى ابنه مائة بعير، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير، وأعطى الحارث بن هشام مائة بعير، وأعطى سهيل بن عمرو مائة بعير، وأعطى حويطب بن عبدالعزى مائة بعير، وأعطى صفوان بن أمية مائة بعير‏.‏ وكذلك أعطى مالك بن عوف والعلاء بن جارية‏.‏ قال‏:‏ فهؤلاء أصحاب المئين‏.‏ وأعطى رجالا من قريش دون المائة منهم مخرمة بن نوفل الزهري وعمير بن وهب الجمحي، وهشام بن عمرو العامري‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ فهؤلاء لا أعرف ما أعطاهم‏.‏ وأعطى سعيد بن يربوع خمسين بعيرا، وأعطى عباس بن مرداس السلمي أباعر قليلة فسخطها‏.‏ فقال في ذلك‏:‏

كانت نهابا تلافيتها بكري على المهر في الأجرع

وإيقاظي القوم أن يرقدوا إذا هجع الناس لم أهجع

فأصبح نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع

وقد كنت في الحرب ذا تدرأ فلم أعط شيئا ولم أمنع

إلا أفائل أعطيتها عديد قوائمه الأربع

وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع

وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اذهبوا فاقطعوا عني لسانه‏)‏ فأعطوه حتى رضي، فكان ذلك قطع لسانه‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وقد ذكر في المؤلفة قلوبهم النضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة، أخو النضر بن الحارث المقتول ببدر صبرا‏.‏ وذكر آخرون أنه فيمن هاجر إلى الحبشة، فإن كان منهم فمحال أن يكون من المؤلفة قلوبهم، ومن هاجر إلى أرض، الحبشة فهو من المهاجرين الأولين ممن رسخ الإيمان في قلبه وقاتل دونه، وليس ممن يؤلف عليه‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن عوف بن سعد بن يربوع النصري على من أسلم من قومه من قبائل قيس، وأمره بمغاورة ثقيف ففعل وضيق عليهم، وحسن إسلامه وإسلام المؤلفة قلوبهم، حاشا عيينة بن حصن فلم يزل مغمورا عليه‏.‏ وسائر المؤلفة متفاضلون، منهم الخير الفاضل المجتمع على فضله، كالحارث بن هشام، وحكيم بن حزام، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، ومنهم دون هؤلاء‏.‏ وقد فضل الله النبيين وسائر عباده المؤمنين بعضهم على بعض وهو أعلم بهم‏.‏ قال مالك‏:‏ بلغني أن حكيم بن حزام أخرج ما كان أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم في المؤلفة قلوبهم فتصدق به بعد ذلك‏.‏

قلت‏:‏ حكيم بن حزام وحويطب بن عبدالعزى عاش كل واحد منهما مائة وعشرين سنة ستين في الإسلام وستين في الجاهلية‏.‏ وسمعت الإمام شيخنا الحافظ أبا محمد عبدالعظيم يقول‏:‏ شخصان من الصحابة عاشا في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين سنة، وماتا بالمدينة سنة أربع وخمسين، أحدهما حكيم بن حزام، وكان مولده في جوف الكعبة قبل عام الفيل بثلاث عشرة سنة‏.‏ والثاني حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام الأنصاري‏.‏ وذكر هذا أيضا أبو عمر وعثمان الشهرزوري في كتاب معرفة أنواع علم الحديث له، ولم يذكرا غيرهما‏.‏ وحويطب ذكره أبو الفرج الجوزي في كتاب الوفا في شرف المصطفى‏.‏ وذكره أبو عمر في كتاب الصحابة أنه أدرك الإسلام وهو ابن ستين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة‏.‏ وذكر أيضا حمنن بن عوف أخو عبدالرحمن بن عوف، أنه عاش في الإسلام ستين سنة وفي الجاهلية ستين سنة‏.‏ وقد عد في المؤلفة قلوبهم معاوية وأبوه أبو سفيان بن حرب‏.‏ أما معاوية فبعيد أن يكون منهم، فكيف يكون منهم وقد ائتمنه النبي صلى الله عليه وسلم على وحي الله وقراءته وخلطه بنفسه‏.‏ وأما حاله في أيام أبي بكر فأشهر من هذا وأظهر‏.‏ وأما أبوه فلا كلام فيه أنه كان منهم‏.‏ وفي عددهم اختلاف، وبالجملة فكلهم مؤمن ولم يكن فيهم كافر على ما تقدم، والله أعلم وأحكم‏.‏

واختلف العلماء في بقائهم، فقال عمر والحسن والشعبي وغيرهم‏:‏ انقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره‏.‏ وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي‏.‏ قال بعض علماء الحنفية‏:‏ لما أعز الله الإسلام وأهله وقطع دابر الكافرين - لعنهم الله - اجتمعت الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على سقوط سهمهم‏.‏ وقال جماعة من العلماء‏:‏ هم باقون لأن الإمام ربما أحتاج أن يستألف على الإسلام‏.‏ وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين‏.‏ قال يونس‏:‏ سألت الزهري عنهم فقال‏:‏ لا أعلم نسخا في ذلك‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ فعلى هذا الحكم فيهم ثابت، فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة أو يرجى أن يحسن إسلامه بعد دفع إليه‏.‏ قال القاضي عبدالوهاب‏:‏ إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة‏.‏ وقال القاضي ابن العربي‏:‏ الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم، فإن في الصحيح‏:‏ ‏(‏بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ‏)‏‏.‏

فإذا فرّعنا على أنه لا يرد إليهم سهمهم فإنه يرجع إلى سائر الأصناف أو ما يراه الإمام‏.‏ وقال الزهري‏:‏ يعطى نصف سهمهم لعمار المساجد‏.‏ وهذا مما يدلك على أن الأصناف الثمانية محل لا مستحقون تسوية، ولو كانوا مستحقين لسقط سهمهم بسقوطهم ولم يرجع إلى غيرهم، كما لو أوصى لقوم معينين فمات أحدهم لم يرجع نصيبه إلى من بقي منهم‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وفي الرقاب‏}‏ أي في فك الرقاب، قاله ابن عباس وابن عمر، وهو مذهب مالك وغيره‏.‏ فيجوز للإمام أن يشتري رقابا من مال الصدقة يعتقها عن المسلمين، ويكون ولاؤهم لجماعة المسلمين‏.‏ وإن اشتراهم صاحب الزكاة وأعتقهم جاز‏.‏ هذا تحصيل مذهب مالك، وروي عن ابن عباس والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو عبيد‏.‏ وقال أبو ثور‏:‏ لا يبتاع منها صاحب الزكاة نسمة يعتقها بجَرّ ولاء‏.‏ وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي ورواية عن مالك‏.‏ والصحيح الأول، لأن الله عز وجل قال‏{‏وفي الرقاب‏}‏ فإذا كان للرقاب سهم من الصدقات كان له أن يشتري رقبة فيعتقها‏.‏ ولا خلاف بين أهل العلم أن للرجل أن يشتري الفرس فيحمل عليه في سبيل الله‏.‏ فإذا كان له أن يشتري فرسا بالكمال من الزكاة جاز أن يشتري رقبة بالكمال، لا فرق بين ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وفي الرقاب‏}‏ الأصل في الولاء، قال مالك‏:‏ هي الرقبة تعتق وولاؤها للمسلمين، وكذلك إن أعتقها الإمام‏.‏ وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب‏)‏‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏الولاء لمن أعتق‏)‏‏.‏ ولا ترث النساء من الولاء شيئا، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا ترث النساء من الولاء شيئا إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن‏)‏ وقد ورث النبي صلى الله عليه وسلم ابنة حمزة من مولى لها النصف ولابنته النصف‏.‏ فإذا ترك المعتق أولادا ذكورا وإناثا فالولاء للذكور من ولده دون الإناث‏.‏ وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم‏.‏ والولاء إنما يورث بالتعصيب المحض، والنساء لا تعصيب فيهن فلم يرثن من الولاء شيئا‏.‏ فافهم تصب‏.‏

واختلف هل يعان منها المكاتب، فقيل لا‏.‏ روي ذلك عن مالك، لأن الله عز وجل ذكر الرقبة دل على أنه أراد العتق الكامل، وأما المكاتب فإنما هو داخل في كلمة الغارمين بما عليه من دين الكتابة، فلا يدخل في الرقاب‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقد روي عن مالك من رواية المدنيين وزياد عنه‏:‏ أنه يعان منها المكاتب في آخر كتابته بما يعتق‏.‏ وعلى هذا جمهور العلماء في تأويل قول الله تعالى‏{‏وفي الرقاب‏}‏‏.‏ وبه قال ابن وهب والشافعي والليث والنخعي وغيره وحكى علي بن موسى القمي الحنفي في أحكامه‏:‏ أنهم أجمعوا على أن المكاتب مراد‏.‏ واختلفوا في عتق الرقاب، قال الكيا الطبري‏:‏ وذكر وجها بينه في منع ذلك فقال‏:‏ إن العتق إبطال ملك وليس بتمليك، وما يدفع إلى المكاتب تمليك، ومن حق الصدقة ألا تجزي إلا إذا جرى فيها التمليك‏.‏ وقوى ذلك بأنه لو دفع من الزكاة عن الغارم في دينه بغير أمره لم يجزه من حيث لم يملك فلأن لا يجزي ذلك في العتق أولى‏.‏ وذكر أن في العتق جر الولاء إلى نفسه وذلك لا يحصل في دفعه للمكاتب‏.‏ وذكر أن ثمن العبد إذا دفعه إلى العبد لم يملكه العبد، وإن دفعه إلى سيده فقد ملّكه العتق‏.‏ وإن دفعه بعد الشراء والعتق فهو قاضٍ ديناً وذلك لا يجزي في الزكاة‏.‏

قلت‏:‏ قد ورد حديث ينص على معنى ما ذكرنا من جواز عتق الرقبة وإعانة المكاتب معا أخرجه الدارقطني عن البراء قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النسمة وفك الرقبة‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، أو ليستا واحدا ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏

واختلفوا في فك الأسارى منها، فقال أصبغ‏:‏ لا يجوز‏.‏ وهو قول ابن قاسم‏.‏ وقال ابن حبيب‏:‏ يجوز، لأنها رقبة ملكت بملك الرق فهي تخرج من رق إلى عتق، وكان ذلك أحق وأولى من فكاك الرقاب الذي بأيدينا، لأنه إذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادة وجائزا من الصدقة، فأحرى وأولى أن يكون ذلك في فك المسلم عن رق الكافر وذله‏.‏

قوله تعالى‏{‏والغارمين‏}‏ هم الذين ركبهم الدين ولا وفاء عندهم به، ولا خلاف فيه‏.‏ اللهم إلا من ادّان في سفاهة فإنه لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب‏.‏ ويعطى منها من له مال وعليه دين محيط به ما يقضي به دينه، فإن لم يكن له مال وعليه دين فهو فقير وغارم فيعطى بالوصفين‏.‏ روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تصدقوا عليه‏)‏‏.‏ فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه‏:‏ ‏(‏خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك‏)‏‏.‏

ويجوز للمتحمل في صلاح وبر أن يُعطى من الصدقة ما يؤدي ما تحمل به إذا وجب عليه وإن كان غنيا، إذا كان ذلك يجحف بماله كالغريم‏.‏ وهو قول الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وغيرهم‏.‏ واحتج من ذهب هذا المذهب بحديث قبيصة بن مخارق قال‏:‏ تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال‏:‏ ‏(‏أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها - ثم قال - يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال سدادا من عيش - ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجَا من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال سدادا من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا‏)‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏(‏ثم يمسك‏)‏ دليل على أنه غني، لأن الفقير ليس عليه أن يمسك‏.‏ والله أعلم‏.‏ وروي عنه عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع‏)‏‏.‏ وروي عنه عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وسيأتي‏.‏

واختلفوا، هل يقضى منها دين الميت أم لا، فقال أبو حنيفة‏:‏ لا يؤدى من الصدقة دين ميت‏.‏ وهو قول ابن المواز‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ ولا يعطى منها من عليه كفارة ونحو ذلك من حقوق الله تعالى، وإنما الغارم من عليه دين يسجن فيه‏.‏ وقال علماؤنا وغيرهم‏:‏ يقضى منها دين الميت لأنه من الغارمين، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وفي سبيل الله‏}‏ وهم الغزاة وموضع الرباط، يعطون ما ينفقون في غزوهم كانوا أغنياء أو فقراء‏.‏ وهذا قول أكثر العلماء، وهو تحصيل مذهب مالك رحمه الله‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ الحجاج والعمار‏.‏ ويؤثر عن أحمد وإسحاق رحمهما الله أنهما قالا‏:‏ سبيل الله الحج‏.‏ وفي البخاري‏:‏ ويذكر عن أبي لاس‏:‏ حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج، ويذكر عن ابن عباس‏:‏ يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج‏.‏ خرج أبو محمد عبدالغني الحافظ حدثنا محمد بن محمد الخياش حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبدالرحمن بن أبي نُعم ويكنى أبا الحكم قال‏:‏ كنت جالسا مع عبدالله بن عمر فأتته امرأة فقالت له‏:‏ يا أبا عبدالرحمن، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله‏.‏ قال ابن عمر‏:‏ فهو كما قال في سبيل الله‏.‏ فقلت له‏:‏ ما زدتها فيما سألت عنه إلا غما‏.‏ قال‏:‏ فما تأمرني يا ابن أبي نُعم، آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون فيفسدون في الأرض ويقطعون السبيل، قال‏:‏ قلت فما تأمرها‏.‏ قال‏:‏ آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين، إلى حجاج بيت الله الحرام، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، ليسوا كوفد الشيطان، ثلاثا يقولها‏.‏ قلت‏:‏ يا أبا عبدالرحمن، وما وفد الشيطان‏؟‏ قال‏:‏ قوم يدخلون على هؤلاء الأمراء فيُنِمُون إليهم الحديث، ويسعون في المسلمين بالكذب، فيجازون الجوائز ويعطون عليه العطايا‏.‏ وقال محمد بن عبدالحكم‏:‏ ويعطى من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب، وكف العدو عن الحوزة، لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته‏.‏ وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة في نازلة سهل بن أبي حثمة إطفاء للثائرة‏.‏

قلت‏:‏ أخرج هذا الحديث أبو داود عن بشير بن يسار، أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وداه مائة من إبل الصدقة، يعني دية الأنصاري الذي قتل بخيبر، وقال عيسى بن دينار‏:‏ تحل الصدقة لغاز في سبيل الله، قد احتاج في غزوته وغاب عنه غناؤه ووفره‏.‏ قال‏:‏ ولا تحل لمن كان معه ماله من الغزاة، إنما تحل لمن كان ماله غائبا عنه منهم‏.‏ وهذا مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور أهل العلم‏.‏ وقال أبو حنيفة وصاحباه‏:‏ لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا منقطعا به‏.‏ وهذه زيادة على النص، والزيادة عنده على النص نسخ، والنسخ لا يكون إلا بقرآن أو خبر متواتر، وذلك معدوم هنا، بل في صحيح السنة خلاف ذلك من قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني‏)‏‏.‏ رواه مالك مرسلا عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار‏.‏ ورفعه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان هذا الحديث مفسرا لمعنى الآية، وأنه يجوز لبعض الأغنياء أخذها، ومفسرا لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي‏)‏ لأن قوله هذا مجمل ليس على عمومه بدليل الخمسة الأغنياء المذكورين‏.‏ وكان ابن القاسم يقول‏:‏ لا يجوز لغني أن يأخذ من الصدقة ما يستعين به على الجهاد وينفقه في سبيل الله، وإنما يجوز ذلك لفقير‏.‏ قال‏:‏ وكذلك الغارم لا يجوز له أن يأخذ من الصدقة ما يقي به ماله ويؤدي منها دينه وهو عنها غني‏.‏ قال‏:‏ وإذا احتاج الغازي في غزوته وهو غني له مال غاب عنه لم يأخذ من الصدقة شيئا يستقرض، فإذا بلغ بلده أدى ذلك من ماله‏.‏ هذا كله ذكره ابن حبيب عن ابن القاسم، وزعم أن ابن نافع وغيره خالفوه في ذلك‏.‏ وروى أبو زيد وغيره عن ابن القاسم أنه قال‏:‏ يعطى من الزكاة الغازي وإن كان معه في غزاته ما يكفيه من ماله وهو غني في بلده‏.‏ وهذا هو الصحيح، لظاهر الحديث‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏ وروى ابن وهب عن مالك أنه يعطى منها الغزاة ومواضع الرباط فقراء كانوا أو أغنياء‏.‏

قوله تعالى‏{‏وابن السبيل‏}‏ السبيل الطريق، ونسب المسافر إليها لملازمته إياها ومروره عليها، كما قال الشاعر‏:‏

إن تسألوني عن الهوى فأنا الهوى وابن الهوى وأخو الهوى وأبوه

والمراد الذي انقطعت به الأسباب في سفره عن بلده ومستقره وماله، فإنه يعطى منها وإن كان غنيا في بلده، ولا يلزمه أن يشغل ذمته بالسلف‏.‏ وقال مالك في كتاب ابن سحنون‏:‏ إذا وجد من يسلفه فلا يعطى‏.‏ والأول أصح، فإنه لا يلزمه أن يدخل تحت منة أحد وقد وجد منة الله تعالى‏.‏ فإن كان له ما يغنيه ففي جواز الأخذ له لكونه ابن السبيل روايتان‏:‏ المشهور أنه لا يعطى، فإن أخذ فلا يلزمه رده إذا صار إلى بلده ولا إخراجه‏.‏

فإن جاء وادعى وصفا من الأوصاف، هل يقبل قوله أم لا ويقال له أثبت ما تقول‏.‏ فأما الدين فلا بد أن يثبته، وأما سائر الصفات فظاهر الحال يشهد له ويكتفى به فيها‏.‏ والدليل على ذلك حديثان صحيحان أخرجهما أهل الصحيح، وهو ظاهر القرآن‏.‏ روى مسلم عن جرير عن أبيه قال‏:‏ كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال‏:‏ فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى، ثم خطب فقال‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم - الآية إلى قوله - رقيبا‏}‏النساء‏:‏ 1‏]‏ والآية التي في الحشر ‏}‏ولتنظر نفس ما قدمت لغد‏}‏الحشر‏:‏ 18‏]‏ تصدق رجل من ديناره من ثوبه من صاع بره - حتى قال - ولو بشق تمرة‏.‏ قال‏:‏ فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، قال‏:‏ ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء‏)‏‏.‏ فاكتفى صلى الله عليه وسلم بظاهر حالهم وحث على الصدقة، ولم يطلب منهم بينة، ولا استقصى هل عندهم مال أم لا‏.‏ ومثله حديث أبرص وأقرع وأعمى أخرجه مسلم وغيره‏.‏ وهذا لفظه‏:‏ عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال أي شيء أحب إليك فقال لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس قال فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا قال فأي المال أحب إليك قال الإبل - أو قال البقر، شك إسحاق، إلا أن الأبرص أو الأقرع قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر - قال فأعطي ناقة عشراء قال بارك الله لك فيها قال فأتى الأقرع فقال أي شيء أحب إليك قال شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قد قذرني الناس قال فمسحه فذهب عنه قال فأعطي شعرا حسنا قال فأي المال أحب إليك قال البقر فأعطي بقرة حاملا قال بارك الله لك فيها قال فأتى الأعمى فقال أي شيء أحب إليك قال أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس قال فمسحه فرد الله إليه بصره قال فأي المال أحب إليك قال الغنم فأعطي شاة والدا فأنتج هذان وولد هذا قال فكان لهذا واد من الإبل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم قال ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله وبك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري فقال له الحقوق كثيرة فقال له كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله فقال إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت فقال وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا ورد عليه مثل ما رد على هذا فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت قال وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري فقال قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم شيئا أخذته لله فقال أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك‏)‏‏.‏

وفي هذا أدل دليل على أن من ادعى زيادة على فقره من عيال أو غيره لا يكشف عنه خلافا لمن قال يكشف عنه إن قدر، فإن في الحديث ‏(‏فقال رجل مسكين وابن سبيل أسألك شاة‏)‏ ولم يكلفه إثبات السفر‏.‏ فأما المكاتب فإنه يكلف إثبات الكتابة لأن الرق هو الأصل حتى تثبت الحرية‏.‏

ولا يجوز أن يعطي من الزكاة من تلزمه نفقته وهم الوالدان والولد والزوجة‏.‏ وإن أعطى الإمام صدقة الرجل لولده ووالده وزوجته جاز‏.‏ وأما أن يتناول ذلك هو نفسه فلا، لأنه يسقط بها عن نفسه فرضا‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ ولا يعطى منها ولد ابنه ولا ولد ابنته، ولا يعطي منها مكاتبه ولا مدبره ولا أم ولده ولا عبدا أعتق نصفه، لأنه مأمور بالإيتاء والإخراج إلى الله تعالى بواسطة كف الفقير، ومنافع الأملاك مشتركة بينه وبين هؤلاء، ولهذا لا تقبل شهادة بعضهم لبعض‏.‏ قال‏:‏ والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم وربما يعجز فيصير الكسب له‏.‏ ومعتق البعض عند أبي حنيفة بمنزلة المكاتب‏.‏ وعند صاحبيه أبي يوسف ومحمد بمنزلة حر عليه دين فيجوز أداؤها إليه‏.‏

فإن أعطاها لمن لا تلزمه نفقتهم فقد اختلف فيه، فمنهم من جوزه ومنهم من كرهه‏.‏ قال مالك‏:‏ خوف المحمدة‏.‏ وحكى مطرف أنه قال‏:‏ رأيت مالكا يعطي زكاته لأقاربه‏.‏ وقال الواقدي قال مالك‏:‏ أفضل من وضعت فيه زكاتك قرابتك الذين لا تعول‏.‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم لزوجة عبدالله بن مسعود‏:‏ ‏(‏لك أجران أجر القرابة وأجر الصدقة‏)‏‏.‏ واختلفوا في إعطاء المرأة زكاتها لزوجها، فذكر عن ابن حبيب أنه كان يستعين بالنفقة عليها بما تعطيه‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز، وخالفه صاحباه فقالا‏:‏ يجوز‏.‏ وهو الأصح لما ثبت أن زينب امرأة عبدالله أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إني أريد أن أتصدق على زوجي أيجزيني ‏؟‏ فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏نعم لك أجران أجر الصدقة وأجر القرابة‏)‏‏.‏ والصدقة المطلقة هي الزكاة، ولأنه لا نفقة للزوج عليها، فكان بمنزلة الأجنبي‏.‏ اعتل أبو حنيفة فقال‏:‏ منافع الأملاك بينهما مشتركة، حتى لا تقبل شهادة أحدهما لصاحبه‏.‏ والحديث محمول على التطوع‏.‏ وذهب الشافعي وأبو ثور وأشهب إلى إجازة ذلك، إذا لم يصرفه إليها فيما يلزمه لها، وإنما يصرف ما يأخذه منها في نفقته وكسوته على نفسه وينفق عليها من ماله‏.‏

واختلفوا أيضا في قدر المعطى، فالغارم يعطى قدر دينه، والفقير والمسكين يعطيان كفايتهما وكفاية عيالهما‏.‏ وفي جواز إعطاء النصاب أو أقل منه خلاف ينبني على الخلاف المتقدم في حد الفقر الذي يجوز معه الأخذ‏.‏ وروى علي بن زياد وابن نافع‏:‏ ليس في ذلك حد وإنما هو على اجتهاد الوالي‏.‏ وقد تقل المساكين وتكثر الصدقة فيعطى الفقير قوت سنة‏.‏ وروى المغيرة‏:‏ يعطى دون النصاب ولا يبلغه‏.‏ وقال بعض المتأخرين‏:‏ إن كان في البلد زكاتان نقد وحرث أخذ ما يبلغه إلى الأخرى‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ الذي أراه أن يعطى نصابا، وإن كان في البلد زكاتان أو أكثر، فإن الغرض إغناء الفقير حتى يصير غنيا‏.‏ فإذا أخذ ذلك فإن حضرت الزكاة الأخرى وعنده ما يكفيه أخذها غيره‏.‏

قلت‏:‏ هذا مذهب أصحاب الرأي في إعطاء النصاب‏.‏ وقد كره ذلك أبو حنيفة مع الجواز، وأجازه أبو يوسف، قال‏:‏ لأن بعضه لحاجته مشغول للحال، فكان الفاضل عن حاجته للحال دون المائتين، وإذا أعطاه أكثر من مائتي درهم جملة كان الفاضل عن حاجته للحال قدر المائتين فلا يجوز‏.‏ ومن متأخري الحنفية من قال‏:‏ هذا إذا لم يكن له عيال ولم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين فلا بأس أن يعطيه مائتي درهم أو أكثر، مقدار ما لو قضى به دينه يبقى له دون المائتين‏.‏ وإن كان معيلا لا بأس بأن يعطيه مقدار ما لو وزع على عيال أصاب كل واحد منهم دون المائتين، لأن التصدق عليه في المعنى تصدق عليه وعلى عياله‏.‏ وهذا قول حسن‏.‏

اعلم أن قوله تعالى‏{‏للفقراء‏}‏ مطلق ليس فيه شرط وتقييد، بل فيه دلالة على جواز الصرف إلى جملة الفقراء كانوا من بني هاشم أو غيرهم، إلا أن السنة وردت باعتبار شروط‏:‏ منها ألا يكونوا من بني هاشم وألا يكونوا ممن تلزم المتصدق نفقته‏.‏ وهذا لا خلاف فيه‏.‏ وشرط ثالث ألا يكون قويا على الاكتساب، لأنه عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي‏)‏‏.‏ وقد تقدم القول فيه‏.‏ ولا خلاف بين علماء المسلمين أن الصدقة المفروضة لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لبني هاشم ولا لمواليهم‏.‏ وقد روي عن أبي يوسف جواز صرف صدقة الهاشمي للهاشمي، حكاه الكيا الطبري‏.‏ وشذ بعض أهل العلم فقال‏:‏ إن موالي بني هاشم لا يحرم عليهم شيء من الصدقات‏.‏ وهذا خلاف الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال لأبي رافع مولاه‏:‏ ‏(‏وإن مولى القوم منهم‏)‏

واختلفوا في جواز صدقة التطوع لبني هاشم، فالذي عليه جمهور أهل العلم - وهو الصحيح - أن صدقة التطوع لا بأس بها لبني هاشم ومواليهم، لأن عليا والعباس وفاطمة رضوان الله عليهم تصدقوا وأوقفوا أوقافا على جماعة من بني هاشم، وصدقاتهم الموقوفة معروفة مشهورة‏.‏ وقال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ وابن حبيب‏:‏ لا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة ولا من التطوع‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ يعطى بنو هاشم من صدقة التطوع‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ والحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لآل محمد‏)‏ إنما ذلك في الزكاة لا في التطوع‏.‏ واختار هذا القول ابن خويز منداد، وبه قال أبو يوسف ومحمد‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ ويعطى مواليهم من الصدقتين‏.‏ وقال مالك في الواضحة‏:‏ لا يعطى لآل محمد من التطوع‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ - قيل له يعني مالكا - فمواليهم‏؟‏ قال‏:‏ لا أدري ما الموالي‏.‏ فاحتججت عليه بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏مولى القوم منهم‏)‏‏.‏ فقال قد قال‏:‏ ‏(‏ابن أخت القوم منهم‏)‏‏.‏ قال أصبغ‏:‏ وذلك في البر والحرمة‏.‏

قوله تعالى‏{‏فريضة من الله‏}‏ بالنصب على المصدر عند سيبويه‏.‏ أي فرض الله الصدقات فريضة‏.‏ ويجوز الرفع على القطع في قول الكسائي، أي هن فريضة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ولا أعلم أنه قرئ به‏.‏

قلت‏:‏ قرأ بها إبراهيم بن أبي عبلة، جعلها خبرا، كما تقول‏:‏ إنما زيد خارج‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 61 ‏)‏

‏{‏ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم‏}‏

بين تعالى أن في المنافقين من كان يبسط لسانه بالوقيعة في أذية النبي صلى الله عليه وسلم ويقول‏:‏ إن عاتبني حلفت له بأني ما قلت هذا فيقبله، فإنه أذن سامعة‏.‏ قال الجوهري‏:‏ يقال رجل أذن إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع‏.‏ وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى‏{‏هو أذن‏}‏ قال‏:‏ مستمع وقابل‏.‏ وهذه الآية نزلت في عتاب بن قشير، قال‏:‏ إنما محمد أذن يقبل كل ما قيل له‏.‏ وقيل‏:‏ هو نبتل بن الحارث، قال ابن إسحاق‏.‏ وكان نبتل رجلا جسيما ثائر شعر الرأس واللحية، آدم أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلقة، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث‏)‏‏.‏ السفعة بالضم‏:‏ سواد مشرب بحمرة‏.‏ والرجل أسفع، عند الجوهري‏.‏ وقرئ ‏}‏أذن‏}‏ بضم الذال وسكونها‏.‏ ‏}‏قل أذن خير لكم‏}‏ أي هو أذن خير لا أذن شر، أي يسمع الخير ولا يسمع الشر‏.‏ وقرأ ‏}‏قل أذن خير لكم‏}‏ بالرفع والتنوين، الحسن وعاصم في رواية أبي بكر‏.‏ والباقون بالإضافة، وقرأ حمزة ‏}‏ورحمة‏}‏ بالخفض‏.‏ والباقون بالرفع عطف على ‏}‏أذن‏}‏، والتقدير‏:‏ قل هو أذن خير وهو رحمة، أي هو مستمع خير لا مستمع شر، أي هو مستمع ما يحب استماعه، وهو رحمة‏.‏ ومن خفض فعلى العطف على ‏}‏خير‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا عند أهل العربية بعيد، لأنه قد تباعد ما بين الاسمين، وهذا يقبح في المخفوض‏.‏ المهدوي‏:‏ ومن جر الرحمة فعلى العطف على ‏}‏خير‏}‏ والمعنى مستمع خير ومستمع رحمة، لأن الرحمة من الخير‏.‏ ولا يصح عطف الرحمة على المؤمنين، لأن المعنى يصدق بالله ويصدق المؤمنين؛ فاللام زائدة في قول الكوفيين‏.‏ ومثله ‏}‏لربهم يرهبون‏}‏الأعراف‏:‏ 154‏]‏ أي يرهبون ربهم‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ كقوله ‏}‏ردف لكم‏}‏النمل‏:‏ 72‏]‏ وهي عند المبرد متعلقة بمصدر دل عليه الفعل، التقدير‏:‏ إيمانه للمؤمنين، أي تصديقه للمؤمنين لا للكفار‏.‏ أو يكون محمولا على المعنى، فإن معنى يؤمن يصدق، فعدي باللام كما عدي في قوله تعالى‏{‏مصدقا لما بين يديه‏}‏المائدة‏:‏ 46‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 62 ‏)‏

‏{‏يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين‏}‏

روي أن قوما من المنافقين اجتمعوا، فيهم الجلاس بن سويد ووديعة بن ثابت، وفيهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس، فحقروه فتكلموا وقالوا‏:‏ إن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير‏.‏ فغضب الغلام وقال‏:‏ والله إن ما يقول حق وأنتم شر من الحمير، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم، فحلفوا أن عامرا كاذب، فقال عامر‏:‏ هم الكذبة، وحلف على ذلك وقال‏:‏ اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب‏.‏ فأنزل الله هذه الآية وفيها ‏}‏يحلفون بالله لكم ليرضوكم‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏والله ورسوله أحق أن يرضوه‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ ومذهب سيبويه أن التقدير‏:‏ والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه، ثم حذف، كما قال بعضهم‏:‏ نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف وقال محمد بن يزيد‏:‏ ليس في الكلام محذوف، والتقدير، والله أحق أن يرضوه ورسوله، على التقديم والتأخير‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المعنى ورسوله أحق أن يرضوه، والله افتتاح كلام، كما تقول‏:‏ ما شاء الله وشئت‏.‏ قال النحاس‏:‏ قول سيبويه أولاها، لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن أن يقال‏:‏ ما شاء الله وشئت، ولا يقدر في شيء تقديم ولا تأخير، ومعناه صحيح‏.‏

قلت‏:‏ وقيل إن الله سبحانه جعل رضاه في رضاه، ألا ترى أنه قال‏{‏من يطع الرسول فقد أطاع الله‏}‏النساء 80‏]‏‏.‏ وكان الربيع بن خثيم إذا مر بهذه الآية وقف، ثم يقول‏:‏ حرف وأيما حرف فُوض إليه فلا يأمرنا إلا بخير‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ تضمنت هذه الآية قبول يمين الحالف وإن لم يلزم المحلوف له الرضا‏.‏ واليمين حق للمدعي‏.‏ وتضمنت أن يكون اليمين بالله عز وجل حسب ما تقدم‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف فليحلف بالله أو ليصمت ومن حلف له فليصدق‏)‏‏.‏ وقد مضى القول في الأيمان والاستثناء فيها مستوفى في المائدة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 63 ‏)‏

‏{‏ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم يعلموا‏}‏ يعني المنافقين‏.‏ وقرأ ابن هرمز والحسن ‏}‏تعلموا‏}‏ بالتاء على الخطاب‏.‏ ‏}‏أنه‏}‏ في موضع نصب بـ ‏}‏يعلموا‏}‏، والهاء كناية عن الحديث‏.‏ ‏}‏من يحادد الله‏}‏ في موضع رفع بالابتداء‏.‏ والمحادة‏:‏ وقوع هذا في حد وذاك في حد، كالمشاقة‏.‏ يقال‏:‏ حاد فلان فلانا أي صار في حد غير حده‏.‏ ‏}‏فأن له نار جهنم‏}‏ يقال‏:‏ ما بعد الفاء في الشرط مبتدأ، فكان يجب أن يكون ‏}‏فإن‏}‏ بكسر الهمزة‏.‏ وقد أجاز الخليل وسيبويه ‏}‏فإن له نار جهنم‏}‏ بالكسر‏.‏ قال سيبويه‏:‏ وهو جيد وأنشد‏:‏

وعلمي بأسدام المياه فلم تزل قلائص تخدي في طريق طلائح

وأني إذا ملت ركابي مناخها فإني على حظي من الأمر جامح

إلا أن قراءة العامة ‏}‏فأن‏}‏ بفتح الهمزة‏.‏ فقال الخليل أيضا وسيبويه‏:‏ إن ‏}‏أن‏}‏ الثانية مبدلة من الأولى‏.‏ وزعم المبرد أن هذا القول مردود، وأن الصحيح ما قاله الجرمي، قال‏:‏ إن الثانية مكررة للتوكيد لما طال الكلام، ونظيره ‏}‏وهم في الآخرة هم الأخسرون‏}‏النمل‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وكذا ‏}‏فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها‏}‏الحشر‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ المعنى فوجوب النار له‏.‏ وأنكره المبرد وقال‏:‏ هذا خطأ من أجل إن ‏}‏أن‏}‏ المفتوحة المشددة لا يبتدأ بها ويضمر الخبر‏.‏ وقال علي بن سليمان‏:‏ المعنى فالواجب أن له نار جهنم، فإن الثانية خبر ابتداء محذوف‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير فله أن له نار جهنم‏.‏ فإن مرفوعة بالاستقرار عاف إضمار المجرور بين الفاء وأن‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 64 ‏)‏

‏{‏يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يحذر المنافقون‏}‏ خبر وليس بأمر‏.‏ ويدل على أنه خبر أن ما بعده ‏}‏إن الله مخرج ما تحذرون‏}‏ لأنهم كفروا عنادا‏.‏ وقال السدي‏:‏ قال بعض المنافقين والله وددت لو أني قدمت فجلدت مائة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فنزلت الآية‏.‏ ‏}‏يحذر‏}‏ أي يتحرز‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه ليحذر، فهو أمر، كما يقال‏:‏ يفعل ذلك‏.‏ ‏}‏أن تنزل عليهم‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ في موضع نصب، أي من أن تنزل‏.‏ ويجوز على قول سيبويه أن تكون في موضع خفض على حذف من‏.‏ ويجوز أن تكون في موضع نصب مفعولة ليحذر، لأن سيبويه أجاز‏:‏ حذرت زيدا، وأنشد‏:‏

حذر أمورا لا تضير وآم ما ليس منجيه من الأقدار

لم يجزه المبرد، لأن الحذر شيء في الهيئة‏.‏ ومعنى ‏}‏عليهم‏}‏ أي على المؤمنين ‏}‏سورة‏}‏ في شأن المنافقين تخبرهم بمخازيهم ومساويهم ومثالبهم، ولهذا سميت الفاضحة والمثيرة والمبعثرة، كما تقدم أول السورة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كان المسلمون يسمون هذه السورة الحفارة لأنها حفرت ما في قلوب المنافقين فأظهرته‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل استهزئوا‏}‏ هذا أمر وعيد وتهديد‏.‏ ‏}‏إن الله مخرج‏}‏ أي مظهر ‏}‏ما تحذرون‏}‏ ظهوره‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أنزل الله أسماء المنافقين وكانوا سبعين رجلا، ثم نسخ تلك الأسماء من القرآن رأفة منه ورحمة، لأن أولادهم كانوا مسلمين والناس يعير بعضهم بعضا‏.‏ فعلى هذا قد أنجز الله وعده بإظهاره ذلك إذ قال‏{‏إن الله مخرج ما تحذرون‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إخراج الله أنه عرف نبيه عليه السلام أحوالهم وأسماءهم لا أنها نزلت في القرآن، ولقد قال الله تعالى‏{‏ولتعرفنهم في لحن القول‏}‏محمد‏:‏ 30‏]‏ وهو نوع إلهام‏.‏ وكان من المنافقين من يتردد ولا يقطع بتكذيب محمد عليه السلام ولا بصدقه‏.‏ وكان فيهم من يعرف صدقه ومعاند‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 65 ‏)‏

‏{‏ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون‏}‏

هذه الآية نزلت في غزوة تبوك‏.‏ قال الطبري وغيره عن قتادة‏:‏ بينا النبي صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا‏:‏ انظروا، هذا يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بني الأصفر‏!‏ فأطلعه الله سبحانه على ما في قلوبهم وما يتحدثون به، فقال‏:‏ ‏(‏احبسوا علي الركب - ثم أتاهم فقال - قلتم كذا وكذا‏)‏ فحلفوا‏:‏ ما كنا إلا نخوض ونلعب، يريدون كنا غير مجدين‏.‏ وذكر الطبري عن عبدالله بن عمر قال‏:‏ رأيت قائل هذه المقالة وديعة بن ثابت متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول‏:‏ إنما كنا نخوض ونلعب‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول‏{‏أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون‏}‏‏.‏ وذكر النقاش أن هذا المتعلق كان عبدالله بن أبي بن سلول‏.‏ وكذا ذكر القشيري عن ابن عمر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذلك خطأ، لأنه لم يشهد تبوك‏.‏ قال القشيري‏:‏ وقيل إنما قال عليه السلام هذا لوديعة بن ثابت وكان من المنافقين وكان في غزوة تبوك‏.‏ والخوض‏:‏ الدخول في الماء، ثم استعمل في كل دخول فيه تلويث وأذى‏.‏

قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا، وهو كيفما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة‏.‏ فإن التحقيق أخو العلم والحق، والهزل أخو الباطل والجهل‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ انظر إلى قوله‏{‏أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏البقرة‏:‏ 67‏]‏‏.‏

واختلف العلماء في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق على ثلاثة أقوال‏:‏ لا يلزم مطلقا‏.‏ يلزم مطلقا‏.‏ التفرقة بين البيع وغيره‏.‏ فيلزم في النكاح والطلاق، وهو قول الشافعي في الطلاق قولا واحدا‏.‏ ولا يلزم في البيع‏.‏ قال مالك في كتاب محمد‏:‏ يلزم نكاح الهازل‏.‏ وقال أبو زيد عن ابن القاسم في العتبية‏:‏ لا يلزم‏.‏ وقال علي بن زياد‏:‏ يفسخ قبل وبعد‏.‏ وللشافعي في بيع الهازل قولان‏.‏ وكذلك يخرج من قول علمائنا القولان‏.‏ وحكى ابن المنذر الإجماع في أن جد الطلاق وهزله سواء‏.‏ وقال بعض المتأخرين من أصحابنا‏:‏ إن اتفقا على الهزل في النكاح والبيع لم يلزم، وإن اختلفا غلب الجد الهزل‏.‏ وروى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة‏)‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم‏.‏

قلت‏:‏ كذا في الحديث ‏(‏والرجعة‏)‏ وفي موطأ مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ ثلاث ليس فيهم لعب النكاح والطلاق والعتق‏.‏ وكذا روي عن علي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وأبي الدرداء، كلهم قال‏:‏‏(‏ثلاث لا لعب فيهن ولا رجوع فيهن واللاعب فيهن جاد النكاح والطلاق والعتق‏)‏ وعن سعيد بن المسيب عن عمر قال‏:‏‏(‏أربع جائزات على كل أحد العتق والطلاق والنكاح والنذور‏)‏ وعن الضحاك قال‏:‏ ثلاث لا لعب، فيهن النكاح والطلاق والنذور‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 66 ‏)‏

‏{‏لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم‏}‏ على جهة التوبيخ، كأنه يقول‏:‏ لا تفعلوا ما لا ينفع، ثم حكم عليهم بالكفر وعدم الاعتذار من الذنب‏.‏ واعتذر بمعنى أعذر، أي صار ذا عذر‏.‏ قال لبيد‏:‏

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

والاعتذار‏:‏ محو أثر الموجدة، يقال‏:‏ اعتذرت المنازل درست‏.‏ والاعتذار الدروس‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أم كنت تعرف آيات فقد جعلت أطلال إلفك بالودكاء تعتذر

وقال ابن الأعرابي‏:‏ أصله القطع‏.‏ واعتذرت إليه قطعت ما في قلبه من الموجدة‏.‏ ومنه عذرة الغلام وهو ما يقطع منه عند الختان‏.‏ ومنه عذرة الجارية لأنه يقطع خاتم عذرتها‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين‏}‏ قيل‏:‏ كانوا ثلاثة نفر، هزئ اثنان وضحك واحد، فالمعفو عنه هو الذي ضحك ولم يتكلم‏.‏ والطائفة الجماعة، ومقال للواحد على معنى نفس طائفة‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ يطلق لفظ الجمع على الواحد، كقولك‏:‏ خرج فلان على البغال‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن تكون الطائفة إذا أريد بها الواحد طائفا، والهاء للمبالغة‏.‏ واختلف في اسم هذا الرجل الذي عفي عنه على أقوال‏.‏ فقيل‏:‏ مخشي بن حمير، قاله ابن إسحاق‏.‏ وقال ابن هشام‏:‏ ويقال فيه ابن مخشي‏.‏ وقال خليفة بن خياط في تاريخه‏:‏ اسمه مخاشن بن حمير‏.‏ وذكر ابن عبدالبر مخاشن الحميري وذكر السهيلي مخشن بن خمير‏.‏ وذكر جميعهم أنه استشهد باليمامة، وكان تاب وسمي عبدالرحمن، فدعا الله أن يقتل شهيدا ولا يعلم بقبره‏.‏ واختلف هل كان منافقا أو مسلما‏.‏ فقيل‏:‏ كان منافقا ثم تاب توبة نصوحا‏.‏ وقيل‏:‏ كان مسلما، إلا أنه سمع المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 67 ‏)‏

‏{‏المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏المنافقون والمنافقات‏}‏ ابتداء‏.‏ ‏}‏بعضهم‏}‏ ابتداء ثان‏.‏ ويجوز أن يكون بدلا، ويكون الخبر ‏}‏من بعض‏}‏‏.‏ ومعنى ‏}‏بعضهم من بعض‏}‏ أي هم كالشيء الواحد في الخروج عن الدين‏.‏ وقال الزجاج، هذا متصل بقوله‏{‏يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم‏}‏التوبة‏:‏ 56‏]‏ أي ليسوا من المؤمنين، ولكن بعضهم من بعض، أي متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف‏.‏ وقبض أيديهم عبارة عن ترك الجهاد، وفيما يجب عليهم من حق‏.‏ والنسيان‏:‏ الترك هنا، أي تركوا ما أمرهم الله به فتركهم في الشك‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم تركوا أمره حتى صار كالمنسي قصيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه‏.‏ وقال قتادة‏{‏نسيهم‏}‏ أي من الخير، فأما من الشر فلم ينسهم‏.‏ والفسق‏:‏ الخروج عن الطاعة والدين‏.‏ وقد تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 68 ‏)‏

‏{‏وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وعد الله المنافقين‏}‏ يقال‏:‏ وعد الله بالخير وعدا‏.‏ ووعد بالشر وعيدا ‏}‏خالدين‏}‏ نصب على الحال والعامل محذوف، أي يصلونها خالدين‏.‏ ‏}‏هي حسبهم‏}‏ ابتداء وخبر، أي هي كفاية ووفاء لجزاء أعمالهم‏.‏ واللعن‏:‏ البعد، أي من رحمة الله، وقد تقدم‏.‏ ‏}‏ولهم عذاب مقيم‏}‏ أي واصب دائم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 69 ‏)‏

‏{‏كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏كالذين من قبلكم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ الكاف في موضع نصب، أي وعد الله الكفار نار جهنم وعدا كما وعد الذين من قبلهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، فحذف المضاف‏.‏ وقيل‏:‏ أي أنتم كالذين من قبلكم، فالكاف في محل رفع لأنه خبر ابتداء محذوف‏.‏ ولم ينصرف ‏}‏أشد‏}‏ لأنه أفعل صفة‏.‏ والأصل فيه أشدد، أي كانوا أشد منكم قوة فلم يتهيأ لهم ولا أمكنهم رفع عذاب الله عز وجل‏.‏

روى سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏تأخذون كما أخذت الأمم قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه‏)‏‏.‏ قال أبو هريرة‏:‏ وإن شئتم فاقرؤوا القرآن‏{‏كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم‏}‏ قال أبو هريرة‏:‏ والخلاق، الدين ‏}‏فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم‏}‏ حتى فرغ من الآية‏.‏ قالوا‏:‏ يا نبي الله، فما صنعت اليهود والنصارى‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏وما الناس إلا هم‏)‏‏.‏ وفي الصحيح عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، اليهود والنصارى‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فمن‏)‏‏؟‏ وقال ابن عباس‏:‏ ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم‏.‏ ونحوه عن ابن مسعود‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاستمتعوا بخلاقهم‏}‏ أي انتفعوا بنصيبهم من الدين كما فعل الذين من قبلهم‏.‏ ‏}‏وخضتم‏}‏ خروج من الغيبة إلى الخطاب‏.‏ ‏}‏كالذي خاضوا‏}‏ أي كخوضهم‏.‏ فالكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، أي وخضتم خوضا كالذين خاضوا‏.‏ و‏}‏الذي‏}‏ اسم ناقص مثل من، يعبر به عن الواحد والجمع‏.‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ ويقال‏:‏ خضت الماء أخوضه خوضا وخياضا‏.‏ والموضع مخاضة، وهو ما جاز الناس فيها مشاة وركبانا‏.‏ وجمعها المخاض والمخاوض أيضا، عن أبي زيد‏.‏ وأخضت دابتي في الماء‏.‏ وأخاض القوم، أي خاضت خيلهم‏.‏ وخضت الغمرات‏:‏ اقتحمتها‏.‏ ويقال‏:‏ خاضه بالسيف، أي حرك سيفه في المضروب‏.‏ وخوض في نجيعه شدد للمبالغة‏.‏ والمخوض للشراب كالمجدع للسويق، يقال منه‏:‏ خضت، الشراب‏.‏ وخاض القوم في الحديث وتخاوضوا أي تفاوضوا فيه، فالمعنى‏:‏ خضتم في أسباب الدنيا باللهو واللعب‏.‏ وقيل‏:‏ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب‏.‏ ‏}‏أولئك حبطت‏}‏ بطلت‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏أعمالهم‏}‏ حسناتهم‏.‏ ‏}‏وأولئك هم الخاسرون‏}‏ وقد تقدم أيضا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 70 ‏)‏

‏{‏ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم يأتهم نبأ‏}‏ أي خبر ‏}‏الذين من قبلهم‏}‏ الألف لمعنى التقرير والتحذير، أي ألم يسمعوا إهلاكنا الكفار من قبل‏.‏ ‏}‏قوم نوح وعاد وثمود‏}‏ بدل من الذين‏.‏ ‏}‏وقوم إبراهيم‏}‏ أي نمرود بن كنعان وقومه‏.‏ ‏}‏وأصحاب مدين‏}‏ مدين اسم للبلد الذي كان فيه شعيب، أهلكوا بعذاب يوم الظلة‏.‏ ‏}‏والمؤتفكات‏}‏ قيل‏:‏ يراد به قوم لوط، لأن أرضهم ائتفكت بهم، أي انقلبت، قاله قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ المؤتفكات كل من أهلك، كما يقال‏:‏ انقلبت عليهم الدنيا‏.‏ ‏}‏أتتهم رسلهم بالبينات‏}‏ يعني جميع الأنبياء‏.‏ وقيل‏:‏ أتت أصحاب المؤتفكات رسلهم، فعلى هذا رسولهم لوط وحده، ولكنه بعث في كل قرية رسولا، وكانت ثلاث قريات، وقيل أربع‏.‏ وقوله تعالى في موضع آخر‏{‏والمؤتفكة‏}‏النجم‏:‏ 53‏]‏ على طريق الجنس‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالرسل الواحد، كقوله ‏}‏يا أيها الرسل كلوا من الطيبات‏}‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏ ولم يكن في عصره غيره‏.‏

قلت‏:‏ وهذا فيه نظر، للحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله خاطب المؤمنين بما أمر به المرسلين‏)‏ الحديث‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ والمراد جميع الرسل، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فما كان الله ليظلمهم‏}‏ أي ليهلكهم حتى يبعث إليهم الأنبياء‏.‏ ‏}‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏ ولكن ظلموا أنفسهم بعد قيام الحجة عليهم‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 71 ‏)‏

‏{‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏بعضهم أولياء بعض‏}‏ أي قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف‏.‏ وقال في المنافقين ‏}‏بعضهم من بعض‏}‏ لأن قلوبهم مختلفة ولكن يقسم بعضهم إلى بعض في الحكم‏.‏

قوله تعالى‏{‏يأمرون بالمعروف‏}‏ أي بعبادة الله تعالى وتوحيده، وكل ما أتبع ذلك‏.‏ ‏}‏وينهون عن المنكر‏}‏ عن عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك‏.‏ وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال‏:‏ كل ما ذكر الله في القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين‏.‏ وقد مضى القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سورة ‏}‏المائدة‏}‏ و‏}‏آل عمران‏}‏ والحمد لله‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويقيمون الصلاة‏}‏ تقدم في أول ‏}‏البقرة‏}‏ القول فيه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هي الصلوات الخمس، وبحسب هذا تكون الزكاة هنا المفروضة‏.‏ ابن عطية‏:‏ والمدح عندي بالنوافل أبلغ؛ إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرائض‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويطيعون الله‏}‏ في الفرائض ‏}‏ورسوله‏}‏ فيما سن لهم‏.‏ والسين في قوله‏{‏سيرحمهم الله‏}‏ مدخلة في الوعد مهلة لتكون النفوس تتنعم برجائه؛ وفضله تعالى زعيم بالإنجاز‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 72 ‏)‏

‏{‏وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات‏}‏ أي بساتين ‏}‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي من تحت أشجارها وغرفها الأنهار‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ أنها تجري منضبطة بالقدرة في غير أخدود‏.‏ ‏}‏خالدين فيها ومساكن طيبة‏}‏ قصور من الزبرجد والدر والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام‏.‏ ‏}‏في جنات عدن‏}‏ أي في دار إقامة‏.‏ يقال‏:‏ عدن بالمكان إذا أقام به؛ ومنه المعدن‏.‏ وقال عطاء الخراساني‏{‏جنات عدن‏}‏ هي قصبة الجنة، وسقفها عرش الرحمن جل وعز‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ هي بطنان الجنة، أي وسطها‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هي قصر من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل؛ ونحوه عن الضحاك‏.‏ وقال مقاتل والكلبي‏:‏ عدن أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محفوفة بها، وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله‏.‏ ‏}‏ورضوان من الله أكبر‏}‏ أي أكبر من ذلك‏.‏ ‏}‏ذلك هو الفوز العظيم‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 73 ‏)‏

‏{‏يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها النبي جاهد الكفار‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتدخل فيه أمته من بعده‏.‏ قيل‏:‏ المراد جاهد بالمؤمنين الكفار‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف، ومع المنافقين باللسان وشدة الزجر والتغليظ‏.‏ وروي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ جاهد المنافقين بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ جاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم وباللسان - واختار قتادة - وكانوا أكثر من يصيب الحدود‏.‏ ابن العربي‏:‏ أما إقامة الحجة باللسان فكانت دائمة وأما بالحدود لأن أكثر إصابة الحدود كانت عندهم فدعوى لا برهان عليها وليس العاصي بمنافق إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين‏.‏

قوله تعالى‏{‏واغلظ عليهم‏}‏ الغلظ‏:‏ نقيض الرأفة، وهي شدة القلب على إحلال الأمر بصاحبه‏.‏ وليس ذلك في اللسان؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏{‏إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها‏)‏‏.‏ ومنه قوله تعالى‏{‏ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك‏}‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏‏.‏ ومنه قول النسوة لعمر‏:‏ أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى الغلظ خشونة الجانب‏.‏ فهي ضد قوله تعالى‏{‏واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين‏}‏الشعراء‏:‏ 215‏]‏‏.‏ ‏}‏واخفض لهما جناح الذل من الرحمة‏}‏الإسراء‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 74 ‏)‏

‏{‏يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏يحلفون بالله ما قالوا‏}‏ روي أن هذه الآية نزلت في الجُلاس بن سويد بن الصامت، ووديعة بن ثابت؛ وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ والله لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير‏.‏ فقال له عامر بن قيس‏:‏ أجل والله إن محمدا لصادق مصدق؛ وإنك لشر من حمار‏.‏ وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وجاء الجلاس فحلف بالله عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم إن عامرا لكاذب‏.‏ وحلف عامر لقد قال، وقال‏:‏ اللهم أنزل على نبيك الصادق شيئا، فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذي سمعه عاصم بن عدي‏.‏ وقيل حذيفة‏.‏ وقيل‏:‏ بل سمعه ولد امرأته واسمه عمير بن سعد؛ فيما قال ابن إسحاق‏.‏ وقال غيره‏:‏ اسمه مصعب‏.‏ فهم الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره؛ ففيه نزل‏{‏وهموا بما لم ينالوا‏}‏‏.‏ قال مجاهد‏:‏ وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولك هم بقتله، ثم لم يفعل، عجز عن ذلك‏.‏ قال، ذلك هي الإشارة بقوله، ‏}‏وهموا بما لم ينالوا‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إنها نزلت في عبدالله بن أبي، رأى رجلا من غفار يتقاتل مع رجل من جهينة، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، فعلا الغفاري الجهني‏.‏ فقال ابن أبي‏:‏ يا بني الأوس والخزرج، انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل‏:‏ سمن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل‏.‏ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاءه عبدالله بن أبي فحلف أنه لم يقله؛ قال قتادة‏.‏ وقول ثالث أنه قول جميع المنافقين؛ قال الحسن‏.‏ ابن العربي‏:‏ وهو الصحيح؛ لعموم القول ووجود المعنى فيه وفيهم، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبي‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولقد قالوا كلمة الكفر‏}‏ قال النقاش‏:‏ تكذيبهم بما وعد الله من الفتح‏.‏ وقيل‏{‏كلمة الكفر‏}‏ قول الجلاس‏:‏ إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشر من الحمير‏.‏ وقول عبدالله بن أبي‏:‏ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل‏.‏ قال القشيري‏:‏ كلمة الكفر سب النبي صلى الله عليه وسلم والطعن في الإسلام‏.‏ ‏}‏وكفروا بعد إسلامهم‏}‏ أي بعد الحكم بإسلامهم‏.‏ فدل هذا على أن المنافقين كفار، وفي قوله تعالى‏{‏ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا‏}‏المنافقون‏:‏ 3‏]‏ دليل قاطع‏.‏ ودلت الآية أيضا على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق والمعرفة؛ وإن كان الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله دون غيره من الأقوال والأفعال إلا في الصلاة‏.‏ قال إسحاق بن راهويه‏:‏ ولقد أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع؛ لأنهم بأجمعهم قالوا‏:‏ من عُرف بالكفر ثم رأوه يصلي الصلاة في وقتها حتى صلى صلوات كثيرة‏.‏ ولم يعلموا منه إقرارا باللسان أنه يحكم له بالإيمان، ولم يحكموا له في الصوم والزكاة بمثل دلك‏.‏

قوله تعالى‏{‏وهموا بما لم ينالوا‏}‏ يعني المنافقين من قتل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك، وكانوا اثني عشر رجلا‏.‏ قال حذيفة‏:‏ سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عدهم ولهم‏.‏ فقلت‏:‏ ألا تبعث إليهم فتقتلهم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيهم الله بالدبيلة‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ يا رسول الله وما الدبيلة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏شهاب من جهنم يجعله على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه‏)‏‏.‏ فكان كذلك‏.‏ خرجه مسلم بمعناه‏.‏ وقيل هموا بعقد التاج على رأس ابن أبي ليجتمعوا عليه‏.‏ وقد تقدم قول مجاهد في هذا‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله‏}‏ أي ليس ينقمون شيئا؛ كما قال النابغة‏:‏

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

ويقال‏:‏ نقَم ينقِم، ونقِم ينقَم؛ قال الشاعر في الكسر‏:‏

ما نقِموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا

وقال زهير‏:‏

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقَم

ينشد بكسر القاف وفتحها‏.‏ قال الشعبي‏:‏ كانوا يطلبون دية فيقضي لهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغنوا‏.‏ ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفا‏.‏ ويقال‏:‏ إن القتيل كان مولى الجلاس‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم‏.‏ وهذا المثل مشهور‏:‏ اتق شر من أحسنت إليه‏.‏ قال القشيري أبو نصر‏:‏ قيل للبجلي أتجد في كتاب الله تعالى اتق شر من أحسنت إليه‏؟‏ قال نعم، ‏}‏وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإن يتوبوا يكن خيرا لهم‏}‏ روي أن الجلاس قام حين نزلت الآية فاستغفر وتاب‏.‏ فدل هذا على توبة الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان؛ وهو الذي يسميه الفقهاء الزنديق‏.‏ وقد اختلف في ذلك العلماء؛ فقال الشافعي‏:‏ تقبل توبته‏.‏ وقال مالك‏:‏ توبة الزنديق لا تعرف؛ لأنه كان يظهر الإيمان ويسر الكفر، ولا يعلم إيمانه إلا بقوله‏.‏ وكذلك يفعل الآن في كل حين، يقول‏:‏ أنا مؤمن وهو يضمر خلاف ما يظهر؛ فإذا عثر عليه وقال‏:‏ تبت، لم يتغير حاله عما كان عليه‏.‏ فإذا جاءنا تائبا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته؛ وهو المراد بالآية‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن يتولوا‏}‏ أي يعرضوا عن الإيمان والتوبة ‏}‏يعذبهم الله عذابا أليما‏}‏ في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار‏.‏ ‏}‏وما لهم في الأرض من ولي‏}‏ أي مانع يمنعهم ‏}‏ولا نصير‏}‏ أي معين‏.‏ وقد تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 75 ‏:‏ 76 ‏)‏

‏{‏ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومنهم من عاهد الله‏}‏ قال قتادة‏:‏ هذا رجل من الأنصار قال‏:‏ لئن رزقني الله شيئا لأؤدين فيه حقه ولأتصدقن؛ فلما آتاه الله ذلك فعل ما نُص عليكم، فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور‏.‏ وروى علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري ‏(‏فسماه‏)‏ قال للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يرزقني مالا‏.‏ فقال عليه السلام ‏(‏ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه‏)‏ ثم عاود ثانيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما ترضى أن تكون مثل نبي الله لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا لسارت‏)‏ فقال‏:‏ والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه‏.‏ فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاتخذ غنما فنمت كما تنمي الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، وترك ما سواهما‏.‏ ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمي حتى ترك الجمعة أيضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا ويح ثعلبة‏)‏ ثلاثا‏.‏ ثم نزل ‏}‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏ فبعث صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة، وقال لهما‏:‏ ‏(‏مرا بثعلبة وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما‏)‏ فأتيا ثعلبة وأقرأه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا‏.‏ الحديث، وهو مشهور‏.‏ وقيل‏:‏ سبب غناء ثعلبة أنه ورث ابن عم له‏.‏ قاله ابن عبدالبر‏:‏ قيل إن ثعلبة بن حاطب هو الذي نزل فيه ‏}‏ومنهم من عاهد الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية؛ إذ منع الزكاة، فالله أعلم‏.‏ وما جاء فيمن شاهد بدرا يعارضه قوله تعالى في الآية‏{‏فأعقبهم نفاقا في قلوبهم‏}‏ الآية‏.‏

قلت‏:‏ وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشام فحلف في مجلس من مجالس الأنصار‏:‏ إن سلم ذلك لأتصدقن منه ولأصلن منه‏.‏ فلما سلم بخل بذلك فنزلت‏.‏

قلت‏:‏ وثعلبة بدري أنصاري وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان؛ حسب ما يأتي بيانه في أول الممتحنة فما روي عنه غير صحيح‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ولعل قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح، والله أعلم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إن الآية نزلت في رجال من المنافقين نبتل بن الحارث وجد بن قيس ومعتب بن قشير‏.‏

قلت‏:‏ وهذا أشبه بنزول الآية فيهم؛ إلا أن قوله ‏}‏فأعقبهم نفاقا‏}‏ يدل على أن الذي عاهد الله لم يكن منافقا من قبل، إلا أن يكون المعنى‏:‏ زادهم نفاقا ثبتوا عليه إلى الممات، وهو قوله تعالى‏{‏إلى يوم يلقونه‏}‏ على ما يأتي‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ لما قال الله تعالى‏{‏ومنهم من عاهد الله‏}‏ احتمل أن يكون عاهد الله بلسانه ولم يعتقده بقلبه‏.‏ واحتمل أن يكون عاهد الله بهما ثم أدركته سوء الخاتمة؛ فإن الأعمال بخواتيمها والأيام بعواقبها‏.‏ و‏}‏من‏}‏ رفع بالابتداء والخبر في المجرور‏.‏ ولفظ اليمين ورد في الحديث وليس في ظاهر القرآن يمين إلا بمجرد الارتباط والالتزام، أما إنه في صيغة القسم في المعنى فإن اللام تدل عليه، وقد أتى بلامين الأولى للقسم والثانية لام الجواب، وكلاهما للتأكيد‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ إنهما لا ما القسم؛ والأول أظهر، والله أعلم‏.‏

العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر إلى غيره فيه فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده وإن لم يلفظ به؛ قاله علماؤنا‏.‏ وقال الشافعي وأبو حنيفة‏:‏ لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به وهو القول الآخر لعلمائنا‏.‏ ابن العربي‏:‏ والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما رواه أشهب عن مالك، وقد سئل‏:‏ إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه فقال‏:‏ يلزمه؛ كما يكون مؤمنا بقلبه، وكافرا بقلبه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا أصل بديع، وتحريره أن يقال‏:‏ عقد لا يفتقر فيه المرء إلى غيره في التزامه فانعقد عليه بنية‏.‏ أصله الإيمان والكفر‏.‏

قلت‏:‏ وحجة القول الثاني ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به‏)‏ رواه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيئا حتى يتكلم به‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ومن اعتقد بقلبه الطلاق ولم ينطق به لسانه فليس بشيء‏.‏ هذا هو الأشهر عن مالك‏.‏ وقد روي عنه أنه يلزمه الطلاق إذا نواه بقلبه؛ كما يكفر بقلبه وإن لم ينطق به لسانه‏.‏ والأول أصح في النظر وطريق الأثر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تجاوز الله لأمتي عما وسوست به نفوسها ما لم ينطق به لسان أو تعلمه يد‏)‏‏.‏

إن كان نذرا فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف وتركه معصية‏.‏ وإن كانت يمينا فليس الوفاء باليمين واجبا باتفاق‏.‏ بيد أن المعنى فيه إن كان الرجل فقيرا لا يتعين عليه فرض الزكاة؛ فسأل الله مالا تلزمه فيه الزكاة ويؤدي ما تعين عليه من فرضه، فلما آتاه الله ما شاء من ذلك ترك ما التزم مما كان يلزمه في أصل الدين لو لم يلتزمه، لكن التعاطي بطلب المال لأداء الحقوق هو الذي أورطه إذ كان طلبه من الله تعالى بغير نية خالصة، أو نية لكن سبقت فيه البداية المكتوب عليه فيها الشقاوة‏.‏ نعوذ بالله من ذلك‏.‏

قلت‏:‏ ومن هذا المعنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما كتب له في غيب الله عز وجل من أمنيته‏)‏ أي من عاقبتها، فرب أمنية يفتتن بها أو يطغي فتكون سببا للهلاك دنيا وأخرى، لأن أمور الدنيا مبهمة عواقبها خطرة غائلتها‏.‏ وأما تمني أمور الدين والأخرى فتمنيها محمود العاقبة محضوض عليها مندوب إليها‏.‏

قوله تعالى‏{‏لئن آتانا من فضله لنصدقن‏}‏ دليل على أن من قال‏:‏ إن ملكت كذا وكذا فهو صدقة فإنه يلزمه؛ وبه قال أبو حنيفة‏:‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يلزمه‏.‏ والخلاف في الطلاق مثله، وكذلك في العتق‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ يلزمه ذلك في العتق ولا يلزمه في الطلاق؛ لأن العتق قربة وهي تثبت في الذمة بالنذر؛ بخلاف الطلاق فإنه تصرف في محل، وهو لا يثبت في الذمة‏.‏ احتج الشافعي بما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك‏)‏ لفظ الترمذي‏.‏ وقال‏:‏ وفي الباب عن علي ومعاذ وجابر وابن عباس وعائشة حديث عبدالله بن عمرو حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب‏.‏ وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم‏.‏ ابن العربي‏:‏ وسرد أصحاب الشافعي في هذا الباب أحاديث كثيرة لم يصح منها شيء فلا يعول عليها، ولم يبق إلا ظاهر الآية‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلما آتاهم من فضله‏}‏ أي أعطاهم‏.‏ ‏}‏بخلوا به‏}‏ أي بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير، وبالوفاء بما ضمنوا والتزموا‏.‏ وقد مضى البخل في ‏}‏آل عمران‏}‏‏.‏ ‏}‏وتولوا‏}‏ أي عن طاعة الله‏.‏ ‏}‏وهم معرضون‏}‏ أي عن الإسلام، أي مظهرون للإعراض عنه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 77 ‏:‏ 78 ‏)‏

‏{‏فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون، ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب‏}‏

قوله تعالى‏{‏فأعقبهم نفاقا‏}‏ مفعولان أي أعقبهم الله تعالى نفاقا في قلوبهم‏.‏ وقيل‏:‏ أي أعقبهم البخل نفاقا؛ ولهذا قال‏{‏بخلوا به‏}‏‏.‏ ‏}‏إلى يوم يلقونه‏}‏ في موضع خفض؛ أي يلقون بخلهم، أي جزاء بخلهم؛ كما يقال‏:‏ أنت تلقي غدا عملك‏.‏ وقيل‏{‏إلى يوم يلقونه‏}‏ أي يلقون الله‏.‏ وفي هذا دليل على أنه مات منافقا‏.‏ وهو يبعد أن يكون المنزل فيه ثعلبة أو حاطب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر‏:‏ ‏(‏وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏)‏ وثعلبة وحاطب ممن حضر بدرا وشهدها‏.‏ ‏}‏بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون‏}‏ كذبهم نقضهم العهد وتركهم الوفاء بما التزموه من ذلك‏.‏

قوله تعالى‏{‏نفاقا‏}‏ النفاق إذا كان في القلب فهو الكفر‏.‏ فأما إذا كان في الأعمال فهو معصية‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها‏.‏ إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر‏)‏ خرجه البخاري‏.‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ اشتقاق هذه الكلمة، فلا معنى لإعادتها‏.‏ واختلف الناس في تأويل هذا الحديث؛ فقالت طائفة‏:‏ إنما ذلك لمن يحدث بحديث يعلم أنه كذب، ويعهد عهدا لا يعتقد الوفاء به، وينتظر الأمانة للخيانة فيها‏.‏ وتعلقوا بحديث ضعيف الإسناد، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لقي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما خارجين من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما ثقيلان فقال علي‏:‏ مالي أراكما ثقيلين‏؟‏ قالا حديثا سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال المنافقين ‏(‏إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف‏)‏ فقال علي‏:‏ أفلا سألتماه‏؟‏ فقالا‏:‏ هبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لكني سأسأله؛ فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، خرج أبو بكر وعمر وهما ثقيلان، ثم ذكر ما قالاه، فقال‏:‏ ‏(‏قد حدثتهما ولم أضعه على الوضع الذي وضعاه ولكن المنافق إذا حدث وهو يحدث نفسه أنه يكذب وإذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف وإذا اؤتمن وهو يحدث نفسه أنه يخون‏)‏ ابن العربي‏:‏ قد قام الدليل الواضح على أن متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا، وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود إلى الجهل بالله وصفاته أو تكذيب له تعالى الله وتقدس عن اعتقاد الجاهلين وعن زيغ الزائغين‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ ذلك مخصوص بالمنافقين زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وتعلقوا بما رواه مقاتل بن حيان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر وابن عباس قالا‏:‏ أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه فقلنا‏:‏ يا رسول الله، إنك قلت ‏(‏ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلي وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ومن كانت فيه خصلة منهن ففيه ثلث النفاق‏)‏ فظننا أنا لم نسلم منهن أو من بعضهن ولم يسلم منهن كثير من الناس؛ قال‏:‏ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏مالكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين كما خصهم الله في كتابه أما قولي إذا حدث كذب فذلك قوله عز وجل ‏}‏إذا جاءك المنافقون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏ - الآية - ‏(‏أفأنتم كذلك‏)‏‏؟‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي إذا وعد أخلف فذلك فيما أنزل الله علي ‏}‏ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله‏}‏ - الآيات الثلاث - ‏(‏أفأنتم كذلك‏)‏ ‏؟‏ قلنا لا، والله لو عاهدنا الله على شيء أوفينا به‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي وإذا اؤتمن خان فذلك فيما أنزل الله علي ‏}‏إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏ - الآية - ‏(‏فكل إنسان مؤتمن على دينه فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية والمنافق لا يفعل ذلك إلا في العلانية أفأنتم كذلك‏)‏‏؟‏ قلنا لا قال‏:‏ ‏(‏لا عليكم أنتم من ذلك براء‏)‏‏.‏ وإلى هذا صار كثير من التابعين والأئمة‏.‏ قالت طائفة‏:‏ هذا فيمن كان الغالب عليه هذه الخصال‏.‏ ويظهر من مذهب البخاري وغيره من أهل العلم أن هذه الخلال الذميمة منافق من اتصف بها إلى يوم القيامة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والذي عندي أنه لو غلبت عليه المعاصي ما كان بها كافرا ما لم يؤثر في الاعتقاد‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ إن إخوة يوسف عليه السلام عاهدوا أباهم فأخلفوه، وحدثوه فكذبوه، وائتمنهم على يوسف فخانوه وما كانوا منافقين‏.‏ قال عطاء بن أبي رباح‏:‏ قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء‏.‏ وقال الحسن بن أبي الحسن البصري‏:‏ النفاق نفاقان، نفاق الكذب ونفاق العمل؛ فأما نفاق الكذب فكان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما نفاق العمل فلا ينقطع إلى يوم القيامة‏.‏ وروى البخاري عن حذيفة أن النفاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان‏.‏

قوله تعالى‏{‏ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم‏}‏ هذا توبيخ، وإذا كان عالما فإنه سيجازيهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 79 ‏)‏

‏{‏الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات‏}‏ هذا أيضا من صفات المنافقين‏.‏ قال قتادة‏{‏يلمزون‏}‏ يعيبون‏.‏ قال‏:‏ وذلك أن عبدالرحمن بن عوف تصدق بنصف ماله، وكان ماله ثمانية آلاف فتصدق منها بأربعة آلاف‏.‏ فقال قوم‏:‏ ما أعظم رياءه؛ فأنزل الله‏{‏الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات‏}‏‏.‏ وجاء رجل من الأنصار بنصف صبرة من تمره فقالوا‏:‏ ما أغنى الله عن هذا؛ فأنزل الله عز وجل ‏}‏والذين لا يجدون إلا جهدهم‏}‏ الآية‏.‏ وخرج مسلم عن أبي مسعود قال‏:‏ أمرنا بالصدقة - قال‏:‏ كنا نحامل، في رواية‏:‏ على ظهورنا - قال‏:‏ فتصدق أبو عقيل بنصف صاع‏.‏ قال‏:‏ وجاء إنسان بشيء أكثر منه فقال المنافقون‏:‏ إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء‏:‏ فنزلت ‏}‏الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم‏}‏‏.‏ يعني أبا عقيل، واسمه الحبحاب‏.‏ والجهد‏:‏ شيء قليل يعيش به المقل‏.‏ والجُهد والجَهد بمعنى واحد‏.‏ وقد تقدم‏.‏ و‏}‏يلمزون‏}‏ يعيبون‏.‏ وقد تقدم‏.‏ و‏}‏المطوعين‏}‏ أصله المتطوعين أدغمت التاء في الطاء؛ وهم الذين يفعلون الشيء تبرعا من غير أن يجب عليهم‏.‏ ‏}‏والذين‏}‏ في موضع خفض عطف على ‏}‏المؤمنين‏}‏‏.‏ ولا يجوز أن يكون عطفا على الاسم قبل تمامه‏.‏ ‏}‏فيسخرون‏}‏ عطف على ‏}‏يلمزون‏}‏‏.‏ ‏}‏سخر الله منهم‏}‏ خبر الابتداء، وهو دعاء عليهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو خبر؛ أي سخر منهم حيث صاروا إلى النار‏.‏ ومعنى سخر الله مجازاتهم على سخريتهم‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 80 ‏)‏

‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏استغفر لهم‏}‏ يأتي بيانه عند قوله تعالى‏{‏ولاتصل على أحد منهم مات أبدا‏}‏التوبة‏:‏ 84‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 81 ‏)‏

‏{‏فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فرح المخلفون بمقعدهم‏}‏ أي بقعودهم‏.‏ قعد قعودا ومقعدا؛ أي جلس‏.‏ وأقعده غيره؛ عن الجوهري‏.‏ والمخلف المتروك؛ أي خلفهم الله وثبطهم، أو خلفهم رسول الله والمؤمنون لما علموا تثاقلهم عن الجهاد؛ قولان، وكان هذا في غزوة تبوك‏.‏ ‏}‏خلاف رسول الله‏}‏ مفعول من أجله، وإن شئت كان مصدرا‏.‏ والخلاف المخالفة‏.‏ ومن قرأ ‏}‏خلف رسول الله‏}‏ أراد التأخر عن الجهاد‏.‏ ‏}‏وقالوا لا تنفروا في الحر‏}‏ أي قال بعضهم لبعض ذلك‏.‏ ‏}‏قل نار جهنم‏}‏ قل لهم يا محمد نار جهنم‏.‏ ‏}‏أشد حرا لو كانوا يفقهون‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ ‏}‏حرا‏}‏ نصب على البيان؛ أي من ترك أمر الله تعرض لتلك النار‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 82 ‏)‏

‏{‏فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فليضحكوا قليلا‏}‏ أمر، معناه معنى التهديد وليس أمرا والأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها‏.‏ قال الحسن‏{‏فليضحكوا قليلا‏}‏ في الدنيا ‏}‏وليبكوا كثيرا‏}‏ في جهنم‏.‏ وقيل‏:‏ هو أمر بمعنى الخبر‏.‏ أي إنهم سيضحكون قليلا ويبكون كثيرا‏.‏ ‏}‏جزاء‏}‏ مفعول من أجله؛ أي للجزاء‏.‏

من الناس من كان لا يضحك اهتماما بنفسه وفساد حاله في اعتقاده من شدة الخوف، وإن كان عبدا صالحا‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى لوددت أني كنت شجرة تعضد‏)‏ خرجه الترمذي‏.‏ وكان الحسن البصري رضي الله عنه ممن قد غلب عليه الحزن فكان لا يضحك‏.‏ وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول‏:‏ الله أضحك وأبكى‏.‏ وكان الصحابة يضحكون؛ إلا أن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه، وهو من فعل السفهاء والبطالة‏.‏ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏أن كثرته تميت القلب‏)‏ وأما البكاء من خوف الله وعذابه وشدة عقابه فمحمود؛ قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت‏)‏ خرجه ابن المبارك من حديث أنس وابن ماجة أيضا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 83 ‏)‏

‏{‏فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإن رجعك الله إلى طائفة منهم‏}‏ أي المنافقين‏.‏ وإنما قال‏{‏إلى طائفة‏}‏ لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين، بل كان فيهم معذورون ومن لا عذر له، ثم عفا وتاب عليهم؛ كالثلاثة الذين خلفوا‏.‏ وسيأتي‏.‏ ‏}‏فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا‏}‏ أي عاقبهم بألا تصحبهم أبدا‏.‏ وهو كما قال في ‏}‏سورة الفتح‏}‏‏{‏قل لن تتبعونا‏}‏الفتح‏:‏ 15‏]‏‏.‏ و‏}‏الخالفين‏}‏ جمع خالف؛ كأنهم خلقوا الخارجين‏.‏ قال ابن عباس‏{‏الخالفين‏}‏ من تخلف من المنافقين‏.‏ وقال الحسن‏:‏ مع النساء والضعفاء من الرجال، فغلب المذكر‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى فأقعدوا مع الفاسدين؛ من قولهم فلان خالفة أهل بيته إذا كان فاسدا فيهم؛ من خلوف فم الصائم‏.‏ ومن قولك‏:‏ خلف اللبن؛ أي فسد بطول المكث في السقاء؛ فعلى هذا يعني فاقعدوا مع الفاسدين‏.‏ وهذا يدل على أن استصحاب المخذل في الغزوات لا يجوز‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 84 ‏)‏

‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون‏}‏

روي أن هذه الآية نزلت في شأن عبدالله بن أبي سلول وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه‏.‏ ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما‏.‏ وتظاهرت الروايات بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وأن الآية نزلت بعد ذلك‏.‏ وروي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجبذ ثوبه وتلا عليه ‏}‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا‏}‏ الآية؛ فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه‏.‏ والروايات الثابتة على خلاف هذا، ففي البخاري عن ابن عباس قال‏:‏ فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف؛ فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من ‏[‏براءة‏]‏ ‏}‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا‏}‏ ونحوه عن ابن عمر؛ خرجه مسلم‏.‏ قال ابن عمر‏:‏ لما توفي عبدالله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبدالله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر وأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما خيرني الله تعالى فقال‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة‏}‏التوبة‏:‏ 80‏]‏ وسأزيد على سبعين‏)‏ قال‏:‏ إنه منافق‏.‏ فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل ‏}‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره‏}‏ فترك الصلاة عليهم‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ إنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبدالله بن أبي بناء على الظاهر من لفظ إسلامه‏.‏ ثم لم يكن يفعل ذلك لما نهي عنه‏.‏

إن قال قائل فكيف قال عمر‏:‏ أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؛ ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم‏.‏ قيل له‏:‏ يحتمل أن يكون ذلك وقع له في خاطره، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان القرآن ينزل على مراده، كما قال‏:‏ وافقت ربي في ثلاث‏.‏ وجاء‏:‏ في أربع‏.‏ وقد تقدم في البقرة‏.‏ فيكون هذا من ذلك‏.‏ ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله تعالى‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم‏}‏التوبة‏:‏ 80‏]‏ الآية‏.‏ لا أنه كان تقدم نهي على ما دل عليه حديث البخاري ومسلم‏.‏ والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون فهمه من قوله تعالى‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏}‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ لأنها نزلت بمكة‏.‏ وسيأتي القول فيها‏.‏

قوله تعالى‏{‏استغفر لهم‏}‏ الآية‏.‏ بين تعالى أنه وإن استغفر لهم لم ينفعهم ذلك وإن أكثر من الاستغفار‏.‏ قال القشيري‏:‏ ولم يثبت ما يروي أنه قال‏:‏ ‏(‏لأزيدن على السبعين‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا خلاف ما يثبت في حديث ابن عمر ‏(‏وسأزيد على سبعين‏)‏ وفي حديث ابن عباس ‏(‏لو أعلم أني زدت على السبعين يغفر لهم لزدت عليها‏]‏‏.‏ قال فصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ خرجه البخاري‏.‏

واختلف العلماء في تأويل قوله‏{‏استغفر لهم‏}‏ هل هو إياس أو تخيير، فقالت طائفة‏:‏ المقصود به اليأس بدليل قوله تعالى‏{‏فلن يغفر الله لهم‏}‏التوبة‏:‏ 80‏]‏‏.‏ وذكر السبعين وفاق جرى، أو هو عادتهم في العبارة عن الكثرة والإغياء فإذا قال قائلهم‏:‏ لا أكلمه سبعين سنة صار عندهم بمنزلة قوله‏.‏ لا أكلمه أبدا‏.‏ ومثله في الإغياء قوله تعالى‏{‏في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا‏}‏الحاقة‏:‏32‏]‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا‏)‏‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ هو تخيير - منهم الحسن وقتاده وعروة - إن شئت استغفر لهم وإن شئت لا تستغفر‏.‏ ولهذا لما أراد أن يصلي على ابن أبي قال عمر‏:‏ أتصلي على عدو الله، القائل يوم كذا كذا وكذا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إني خيرت فاخترت‏)‏‏.‏ قالوا ثم نسخ هذا لما نزل ‏}‏سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم‏}‏المنافقون‏:‏ 6‏]‏ ‏}‏ذلك بأنهم كفروا‏}‏التوبة‏:‏ 80‏]‏أي لا يغفر الله لهم لكفرهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏}‏التوبة‏:‏113‏]‏ الآية‏.‏ وهذه الآية نزلت بمكة عند موت أبي طالب، على ما يأتي بيانه‏.‏ وهذا يفهم منه النهي عن الاستغفار لمن مات كافرا‏.‏ وهو متقدم على هذه الآية التي فهم منها التخيير بقوله‏:‏ ‏(‏إنما خيرني الله‏)‏ وهذا مشكل‏.‏ فقيل‏:‏ إن استغفاره لعمه إنما كان مقصوده استغفارا مرجو الإجابة حتى تحصل له المغفرة‏.‏ وفي هذا الاستغفار استأذن عليه السلام ربه في أن يأذن له فيه لأمه فلم يأذن له فيه‏.‏ وأما الاستغفار للمنافقين الذي خير فيه فهو استغفار لساني لا ينفع، وغايته تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر له‏.‏ والله أعلم‏.‏

واختلف في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبدالله؛ فقيل‏:‏ إنما أعطاه لأن عبدالله كان قد أعطى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصه يوم بدر‏.‏ وذلك أن العباس لما أسر يوم بدر - على ما تقدم - وسلب ثوبه رآه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فأشفق عليه، فطلب له قميصا فما وجد له قميص يقادره إلا قميص عبدالله، لتقاربهما في طول القامة؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء القميص أن يرفع اليد عنه في الدنيا، حتى لا يلقاه في الآخرة وله عليه يد يكافئه بها، وقيل‏:‏ إنما أعطاه القميص إكراما لابنه وإسعافا له في طلبته وتطييبا لقلبه‏.‏ والأول أصح؛ خرجه البخاري عن جابر بن عبدالله قال‏:‏ لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب؛ فطلب النبي صلى الله عليه وسلم له قميصا فوجدوا قميص عبدالله بن أبي يقدر عليه، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه؛ فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه‏.‏ وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا وإني لأرجو أن يسلم بفعلي هذا ألف رجل من قومي‏]‏ كذا في بعض الروايات ‏(‏من قومي‏)‏ يريد من منافقي العرب‏.‏ والصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏رجال من قومه‏)‏‏.‏ ووقع في مغازي ابن إسحاق وفي بعض كتب التفسير‏:‏ فأسلم وتاب لهذه الفعلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف رجل من الخزرج‏.‏

لما قال تعالى‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا‏}‏ قال علماؤنا‏:‏ هذا نص في الامتناع من الصلاة على الكفار، وليس فيه دليل على الصلاة على المؤمنين‏.‏ واختلف هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين على قولين‏.‏ يؤخذ لأنه علل المنع من الصلاة على الكفار لكفرهم لقوله تعالى‏{‏إنهم كفروا بالله ورسوله‏}‏ فإذا زال الكفر وجبت الصلاة‏.‏ ويكون هذا نحو قوله تعالى‏{‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏}‏المطففين‏:‏ 15‏]‏ يعني الكفار؛ فدل على أن غير الكفار يرونه وهم المؤمنون؛ فذلك مثله‏.‏ والله أعلم‏.‏ أو تؤخذ الصلاة من دليل خارج عن الآية، وهي الأحاديث الواردة في الباب، والإجماع‏.‏ ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطاب وتركه‏.‏ روى مسلم عن جابر بن عبدالله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أخا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه‏)‏ قال‏:‏ فقمنا فصففنا صفين؛ يعني النجاشي‏.‏ وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فخرج بهم إلى المصلي وكبر أربع تكبيرات‏.‏ وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على جنائز المسلمين، من أهل الكبائر كانوا أو صالحين، وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم قولا وعملا‏.‏ والحمد لله‏.‏ وأتفق العلماء على ذلك إلا في الشهيد كما تقدم؛ وإلا في أهل البدع والبغاة‏.‏

والجمهور من العلماء على أن التكبير أربع‏.‏ قال ابن سيرين‏:‏ كان التكبير ثلاثا فزادوا واحدة‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ يكبر خمسا؛ وروي عن ابن مسعود وزيد بن أرقم‏.‏ وعن علي‏:‏ ست تكبيرات‏.‏ وعن ابن عباس وأنس بن مالك وجابر بن زيد‏:‏ ثلاث تكبيرات والمعول عليه أربع‏.‏ روى الدارقطني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الملائكة صلت على آدم فكبرت عليه أربعا وقالوا هذه سنتكم يا بني آدم‏)‏‏.‏

ولا قراءة في هذه الصلاة في المشهور من مذهب مالك، وكذلك أبو حنيفة والثوري؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء‏)‏ رواه أبو داود من حديث أبي هريرة‏.‏ وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن مسلمة وأشهب من علمائنا وداود إلى أنه يقرأ بالفاتحة؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب‏)‏ حملا له على عمومه‏.‏ وبما خرجه البخاري عن ابن عباس وصلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال‏:‏ لتعلموا أنها سنة‏.‏ وخرج النسائي من حديث أبي أمامة قال‏:‏ السنة في الصلاة على الجنائز أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة، ثم يكبر ثلاثا، والتسليم عند الآخرة‏.‏ وذكر محمد بن نصر المروزي عن أبي أمامة أيضا قال‏:‏ السنة في الصلاة على الجنائز أن تكبر، ثم تقرأ بأم القرآن، ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تخلص الدعاء للميت‏.‏ ولا يقرأ إلا في التكبيرة الأولى ثم يسلم‏.‏ قال شيخنا أبو العباس‏:‏ وهذان الحديثان صحيحان، وهما ملحقان عند الأصوليين بالمسند‏.‏ والعمل على حديث أبي أمامة أولى؛ إذ فيه جمع بين قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا صلاة‏)‏ وبين إخلاص الدعاء للميت‏.‏ وقراءة الفاتحة فيها إنما هي استفتاح للدعاء‏.‏ والله أعلم‏.‏

وسنة الإمام أن يقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة، لما رواه أبو داود عن أنس وصلى على جنازة فقال له العلاء بن زياد‏:‏ يا أبا حمزة، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك يكبر أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ ورواه مسلم عن سمرة بن جندب قال‏:‏ صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على أم كعب ماتت وهي نفساء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليها وسطها‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تقم على قبره‏}‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له بالتثبيت، على ما بيناه (1)‏ والحمد لله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 85 ‏)‏

‏{‏ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون‏}‏

كرره تأكيدا‏.‏ وقد تقدم الكلام فيه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 86 ‏)‏

‏{‏وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين‏}‏

انتدب المؤمنون إلى الإجابة وتعلل المنافقون‏.‏ فالأمر للمؤمنين باستدامة الإيمان وللمنافقين بابتداء الإيمان‏.‏ و‏}‏أن‏}‏ في موضع نصب؛ أي بأن آمنوا‏.‏ و‏}‏الطول‏}‏ الغني؛ وقد تقدم‏.‏ وخصهم بالذكر لأن من لا طول له لا يحتاج إلى إذن لأنه معذور‏.‏ ‏}‏وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين‏}‏ أي العاجزين عن الخروج‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 87 ‏:‏ 89 ‏)‏

‏{‏رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون، لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون، أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏رضوا بأن يكونوا مع الخوالف‏}‏ ‏}‏الخوالف‏}‏ جمع خالفة؛ أي مع النساء والصبيان وأصحاب الأعذار من الرجال‏.‏ وقد يقال للرجل‏:‏ خالفة وخالف أيضا إذا كان غير نجيب؛ على ما تقدم‏.‏ يقال‏:‏ فلان خالفة أهله إذا كان دونهم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأصله من خلف اللبن يخلف إذا حمض من طول مكثه‏.‏ وخلف فم الصائم إذا تغير ريحه؛ ومنه فلان خلف سوء؛ إلا أن فواعل جمع فاعله ولا يجمع فاعل صفة على فواعل إلا في الشعر؛ إلا في حرفين، وهما فارس وهالك‏.‏ وقوله تعالى في وصف المجاهدين‏{‏وأولئك لهم الخيرات‏}‏ قيل‏:‏ النساء الحسان؛ عن الحسن‏.‏ دليله قوله عز وجل‏{‏فيهن خيرات حسان‏}‏الرحمن‏:‏ 70‏]‏‏.‏ ويقال‏:‏ هي خيرة النساء‏.‏ والأصل خيرة فخفف؛ مثل هينة وهينة‏.‏ وقيل‏:‏ جمع خير‏.‏ فالمعنى لهم منافع الدارين‏.‏ وقد تقدم معنى الفلاح‏.‏ والجنات‏:‏ والبساتين‏.‏ وقد تقدم أيضا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 90 ‏)‏

‏{‏وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وجاء المعذرون من الأعراب‏}‏ قرأ الأعرج والضحاك ‏}‏المعْذِرون‏}‏ مخففا‏.‏ ورواها أبو كريب عن أبي بكر عن عاصم، ورواها أصحاب القراءات عن ابن عباس‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وكان ابن عباس يقرأ ‏}‏وجاء المعْذرون‏}‏ مخففة، من أعذر‏.‏ ويقول‏:‏ والله لهكذا أنزلت‏.‏ قال النحاس‏:‏ إلا أن مدارها عن الكلبي، وهي من أعذر؛ ومنه قد أعذر من أنذر؛ أي قد بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك‏.‏ وأما ‏}‏المعذرون‏}‏ بالتشديد ففيه قولان‏:‏ أحدهما أنه يكون المحق؛ فهو في المعنى المعتذر، لأن له عذرا‏.‏ فيكون ‏}‏المعذرون‏}‏ على هذه أصله المعتذرون، ولكن التاء قلبت ذالا فأدغمت فيها وجعلت حركتها على العين؛ كما قرئ ‏}‏يخصمون‏}‏يس‏:‏ 49‏]‏ بفتح الخاء‏.‏ ويجوز ‏}‏المعذرون‏}‏ بكسر العين لاجتماع الساكنين‏.‏ ويجوز ضمها اتباعا للميم‏.‏ ذكره الجوهري والنحاس‏.‏ إلا أن النحاس حكاه عن الأخفش والفراء وأبي حاتم وأبي عبيد‏.‏ ويجوز أن يكون الأصل المعتذرون، ثم أدغمت التاء في الذال؛ ويكونون الذين لهم عذر‏.‏ قال لبيد‏:‏

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

والقول الآخر أن المعذر قد يكون غير محق، وهو الذي يعتذر ولا عذر له‏.‏ قال الجوهري‏:‏ فهو المعذر على جهة المفعل؛ لأنه الممرض والمقصر يعتذر بغير عذر‏.‏ قال غيره‏:‏ يقال عذر فلان في أمر كذا تعذيرا؛ أي قصر ولم يبالغ فيه‏.‏ والمعنى أنهم اعتذروا بالكذب‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وكان ابن عباس يقول‏:‏ لعن الله المعذرين‏.‏ كأن الأمر عنده أن المعذر بالتشديد هو المظهر للعذر، اعتلالا من غير حقيقة له في العذر‏.‏ النحاس‏:‏ قال أبو العباس محمد بن يزيد ولا يجوز أن يكون الأصل فيه المعتذرين، ولا يجوز الإدغام فيقع اللبس‏.‏ ذكر إسماعيل بن إسحاق أن الإدغام مجتنب على قول الخليل وسيبويه، بعد أن كان سياق الكلام يدل على أنهم مذمومون لا عذر لهم، قال‏:‏ لأنهم جاؤوا ليؤذن لهم ولو كانوا من الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأصل المعذرة والإعذار والتعذير من شيء واحد وهو مما يصعب ويتعذر‏.‏ وقول العرب‏:‏ من عذيري من فلان، معناه قد أتى أمرا عظيما يستحق أن أعاقبه عليه ولم يعلم الناس به؛ فمن يعذرني إن عاقبته‏.‏ فعلى قراءة التخفيف قال ابن عباس‏:‏ هم الذين تخلفوا بعذر فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ هم رهط عامر بن الطفيل قالوا‏:‏ يا رسول الله، لو غزونا معك أغارت أعراب طيء على حلائلنا وأولادنا ومواشينا؛ فعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وعلى قراءة التشديد في القول الثاني، هم قوم من غفار اعتذروا فلم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلمه أنهم غير محقين، والله أعلم‏.‏ وقعد قوم بغير عذر أظهروه جرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين أخبر الله تعالى عنهم فقال‏{‏وقعد الذين كذبوا الله ورسوله‏}‏ والمراد بكذبهم قولهم‏:‏ إنا مؤمنون‏.‏ و‏}‏ليؤذن‏}‏ نصب بلام كي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 91 ‏)‏

‏{‏ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ليس على الضعفاء‏}‏ الآية‏.‏ أصل في سقوط التكليف عن العاجز؛ فكل من عجز عن شيء سقط عنه، فتارة إلى بدل هو فعل، وتارة إلى بدل هو غرم، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال؛ ونظير هذه الآية قوله تعالى‏{‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏}‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ وقوله‏{‏ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج‏}‏النور‏:‏ 61‏]‏‏.‏ وروى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏حبسهم العذر‏)‏‏.‏ فبينت هذه الآية مع ما ذكرنا من نظائرها أنه لا حرج على المعذورين، وهم قوم عرف عذرهم كأرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون؛ فقال‏:‏ ليس على هؤلاء حرج‏.‏ ‏}‏إذا نصحوا لله ورسوله‏}‏ إذا عرفوا الحق وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه قال العلماء‏:‏ فعذر الحق سبحانه أصحاب الأعذار، وما صبرت القلوب؛ فخرج ابن أم مكتوم إلى أحد وطلب أن يعطي اللواء فأخذه مصعب بن عمير، فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها، فأمسكه باليد الأخرى فضرب اليد الأخرى فأمسكه بصدره وقرأ ‏}‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل‏}‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏‏.‏ هذه عزائم القوم‏.‏ والحق يقول‏{‏ليس على الأعمى حرج‏}‏النور‏:‏ 61‏]‏ وهو في الأول‏.‏ ‏}‏ولا على الأعرج حرج‏}‏النور‏:‏61‏]‏ وعمرو بن الجموح من نقباء الأنصار أعرج وهو في أول الجيش‏.‏ قال له الرسول عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الله قد عذرك‏)‏ فقال‏:‏ والله لأحفرن بعرجتي هذه في الجنة؛ إلى أمثالهم حسب ما تقدم في هذه السورة من ذكرهم رضي الله عنهم‏.‏ وقال عبدالله بن مسعود‏:‏ ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف‏.‏

قوله تعالى‏{‏إذا نصحوا‏}‏ النصح إخلاص العمل من الغش‏.‏ ومنه التوبة النصوح‏.‏ قال نفطويه‏:‏ نصح الشيء إذا خلص‏.‏ ونصح له القول أي أخلصه له‏.‏ وفي صحيح مسلم عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الدين النصيحة‏)‏ ثلاثا‏.‏ قلنا لمن‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم‏)‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ النصيحة لله إخلاص الاعتقاد في الوحدانية، ووصفه بصفات الألوهية، وتنزيهه عن النقائص والرغبة في محابّه والبعد من مساخطه‏.‏ والنصيحة لرسوله‏:‏ التصديق بنبوته، والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبته ومحبة آل بيته، وتعظيمه وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها، والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها، والتخلق بأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكذا النصح لكتاب الله‏:‏ قراءته والتفقه فيه، والذب عنه وتعليمه وإكرامه والتخلق به‏.‏ والنصح لأئمة المسلمين‏:‏ ترك الخروج عليهم، إرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغفلوه من أمور المسلمين، ولزوم طاعتهم والقيام بواجب حقهم‏.‏ والنصح للعامة‏:‏ ترك معاداتهم، وإرشادهم وحب الصالحين منهم، والدعاء لجميعهم وإرادة الخير لكافتهم‏.‏ وفي الحديث الصحيح ‏(‏مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ما على المحسنين من سبيل‏}‏ ‏}‏من سبيل‏}‏ في موضع رفع اسم ‏}‏ما‏}‏ أي من طريق إلى العقوبة‏.‏ وهذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن‏.‏ ولهذا قال علماؤنا في الذي يقتص من قاطع يده فيفضي ذلك في السراية إلى إتلاف نفسه‏:‏ إنه لا دية له؛ لأنه محسن في اقتصاصه من المعتدي عليه‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ تلزمه الدية‏.‏ وكذلك إذا صال فحل على رجل فقتله في دفعه عن نفسه فلا ضمان عليه؛ وبه قال الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ تلزمه لمالكه القيمة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وكذلك القول في مسائل الشريعة كلها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 92 ‏)‏

‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم‏}‏ روي أن الآية نزلت في عرباض بن سارية‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في عائذ بن عمرو‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في بني مقرن - وعلى هذا جمهور المفسرين - وكانوا سبعة إخوة، كلهم صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في الصحابة سبعة إخوة غيرهم، وهم النعمان ومعقل وعقيل وسويد وسنان وسابع لم يسم‏.‏ بنو مقرن المزنيون سبعة إخوة هاجروا وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشاركهم - فيما ذكره ابن عبدالبر وجماعة - في هذه المكرمة غيرهم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنهم شهدوا الخندق كلهم‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في سبعة نفر من بطون شتى، وهم البكاؤون أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ليحملهم، فلم يجد ما يحملهم عليه؛ فـ ‏}‏تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون‏}‏ فسموا البكائين‏.‏ وهم سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف وعلبة بن زيد أخو بني حارثة‏.‏ وأبو ليلى عبدالرحمن بن كعب من بني مازن بن النجار‏.‏ وعمرو بن الحمام من بني سلمة‏.‏ وعبدالله بن المغفل المزني، وقيل‏:‏ بل هو عبدالله بن عمرو المزني‏.‏ وهرمي بن عبدالله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري، هكذا سماهم أبو عمر في كتاب الدرر له‏.‏ وفيهم اختلاف‏.‏ قال القشيري‏:‏ معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبدالله بن كعب الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة، وعبدالله بن مغفل وآخر‏.‏ قالوا‏:‏ يا نبي الله، قد ندبتنا للخروج معك، فاحملنا على الخفاف المرفوعة والنعال المخصوفة نغز معك‏.‏ فقال‏{‏لا أجد ما أحملكم عليه‏}‏ فتولوا وهم يبكون‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ سألوه أن يحملهم على الدواب، وكان الرجل يحتاج إلى بعيرين، بعير يركبه وبعير يحمل ماءه وزاده لبعد الطريق‏.‏ وقال الحسن‏:‏ نزلت في أبي موسى وأصحابه أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ليستحملوه، ووافق ذلك منه غضبا فقال‏{‏والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه فتولوا يبكون؛ فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاهم ذودا‏.‏ فقال أبو موسى‏:‏ ألست حلفت يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم بلفظه ومعناه‏.‏ وفي مسلم‏:‏ فدعا بنا فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏ وفي آخره‏:‏ ‏(‏فانطلقوا فإنما حملكم الله‏)‏‏.‏ وقال الحسن أيضا وبكر بن عبدالله‏:‏ نزلت في عبدالله بن مغفل المزني، أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله‏.‏ قال الجرجاني‏:‏ التقدير أي ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم وقلت لا أجد‏.‏ فهو مبتدأ معطوف على ما قبله بغير واو، والجواب ‏}‏تولوا‏}‏‏.‏ ‏}‏وأعينهم تفيض من الدمع‏}‏ الجملة في موضع نصب على الحال‏.‏ ‏}‏حزنا‏}‏ مصدر‏.‏ ‏}‏ألا يجدوا‏}‏ نصب بأن‏.‏ وقال النحاس‏:‏ قال الفراء يجوز أن لا يجدون؛ يجعل لا بمعنى ليس‏.‏ وهو عند البصريين بمعنى أنهم لا يجدون‏.‏

والجمهور من العلماء على أن من لا يجد ما ينفقه في غزوه أنه لا يجب عليه‏.‏ وقال علماؤنا‏:‏ إذا كانت عادته المسألة لزمه كالحج وخرج على العادة لأن حاله إذا لم تتغير يتوجه الفرض عليه كتوجهه على الواجد‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأعينهم تفيض من الدمع‏}‏ ما يستدل به على قرائن الأحوال‏.‏ ثم منها ما يفيد العلم الضروري، ومنها ما يحتمل الترديد‏.‏ فالأول كمن يمر على دار قد علا فيها النعي وخمشت الخدود وحلقت الشعور وسلقت الأصوات وخرقت الجيوب ونادوا على صاحب الدار بالثبور؛ فيعلم أنه قد مات‏.‏ وأما الثاني فكدموع الأيتام على أبواب الحكام؛ قال الله تعالى مخبرا عن إخوة يوسف عليه السلام‏{‏وجاؤوا أباهم عشاء يبكون‏}‏يوسف‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وهم الكاذبون؛ قال الله تعالى مخبرا عنهم‏{‏وجاؤوا على قميصه بدم كذب‏}‏يوسف‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ومع هذا فإنها قرائن يستدل بها في الغالب فتبني عليها الشهادات بناء على ظواهر الأحوال وغالبها‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكي

وسيأتي هذا المعنى في ‏}‏يوسف‏}‏ مستوفى إن شاء الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 93 ‏)‏

‏{‏إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنما السبيل‏}‏ أي العقوبة والمأثم‏.‏ ‏}‏على الذين يستأذنونك وهم أغنياء‏}‏ والمراد المنافقون‏.‏ كرر ذكرهم للتأكيد في التحذير من سوء أفعالهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 94 ‏)‏

‏{‏يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يعتذرون إليكم‏}‏ يعني المنافقين‏.‏ ‏}‏لن نؤمن لكم‏}‏ أي لن نصدقكم‏.‏ ‏}‏قد نبأنا الله من أخباركم‏}‏ أي أخبرنا بسرائركم‏.‏ ‏}‏وسيرى الله عملكم‏}‏ فيما تستأنفون‏.‏ ‏}‏ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏ أي يجازيكم بعملكم‏.‏ وقد مضى هذا كله مستوفى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 95 ‏)‏

‏{‏سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم‏}‏ أي من تبوك‏.‏ والمحلوف عليه محذوف؛ أي يحلفون أنهم ما قدروا على الخروج‏.‏ ‏}‏لتعرضوا عنهم‏}‏ أي لتصفحوا عن لومهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أي لا تكلموهم‏.‏ وفي الخبر أنه قال عليه السلام لما قدم من تبوك‏:‏ ‏(‏ولا تجالسوهم ولا تكلموهم‏)‏‏.‏ ‏}‏إنهم رجس‏}‏ أي عملهم رجس؛ والتقدير‏:‏ إنهم ذوو رجس؛ أي عملهم قبيح‏.‏ ‏}‏ومأواهم جهنم‏}‏ أي منزلهم ومكانهم‏.‏ قال الجوهري‏:‏ المأوى كل مكان يأوي إليه شيء ليلا أو نهارا‏.‏ وقد أوى فلان إلى منزله يأوي أويا، على فعول، وإواء‏.‏ ومنه قوله تعالى‏{‏سآوي إلى جبل يعصمني من الماء‏}‏هود‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وآويته أنا إيواء‏.‏ وأويته إذا أنزلته بك؛ فعلت وأفعلت، بمعنى؛ عن أبى زيد‏.‏ ومأوي الإبل ‏}‏بكسر الواو‏}‏ لغة في مأوى الإبل خاصة، وهو شاذ‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 96 ‏)‏

‏{‏يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين‏}‏

حلف عبدالله بن أبي ألا يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وطلب أن يرضى عنه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 97 ‏)‏

‏{‏الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم‏}‏

لما ذكر جل وعز أحوال المنافقين بالمدينة ذكر من كان خارجا منها ونائيا من الأعراب؛ فقال كفرهم أشد‏.‏ قال قتادة‏:‏ لأنهم أبعد عن معرفة السنن‏.‏ وقيل‏:‏ لأنهم أقسى قلبا وأجفى قولا وأغلظ طبعا وأبعد عن سماع التنزيل؛ ولذلك قال الله تعالى في حقهم‏{‏وأجدر‏}‏ أي أخلق‏.‏ ‏}‏ألا يعلموا‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ في موضع نصب بحذف الباء؛ تقول‏:‏ أنت جدير بأن تفعل وأن تفعل؛ فإذا حذفت الباء لم يصلح إلا بـ ‏}‏أن‏}‏ وإن أتيت بالباء صلح بـ ‏}‏أن‏}‏ وغيره؛ تقول‏:‏ أنت جدير أن تقوم، وجدير بالقيام‏.‏ ولو قلت‏:‏ أنت جدير القيام كان خطأ‏.‏ وإنما صلح مع ‏}‏أن‏}‏ لأن أن يدل على الاستقبال فكأنها عوض من المحذوف‏.‏ ‏}‏حدود ما أنزل الله‏}‏ أي فرائض الشرع‏.‏ وقيل‏:‏ حجج الله في الربوبية وبعثة الرسل لقلة نظرهم‏.‏

ولما كان ذلك ودل على نقصهم وحطهم عن المرتبة الكاملة عن سواهم ترتبت على ذلك أحكام ثلاثة‏:‏

أولها‏:‏ لا حق لهم في الفيء والغنيمة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث بريدة، وفيه‏:‏ ‏(‏ثم أدعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا عنها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين‏)‏‏.‏

وثانيها‏:‏ إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة؛ لما في ذلك من تحقق التهمة‏.‏ وأجازها أبو حنيفة قال‏:‏ لأنها لا تراعي كل تهمة، والمسلمون كلهم عنده على العدالة‏.‏ وأجازها الشافعي إذا كان عدلا مرضيا؛ وهو الصحيح لما بيناه في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ وقد وصف الله تعالى الأعراب هنا أوصافا ثلاثة‏:‏ أحدها‏:‏ بالكفر والنفاق‏.‏ والثاني‏:‏ بأنه يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر‏.‏ والثالث‏:‏ بالإيمان بالله وباليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول؛ فمن كانت هذه صفته فبعيد ألا تقبل شهادته فيلحق بالثاني والأول، وذلك باطل‏.‏ وقد مضى الكلام في هذا في ‏}‏النساء‏}‏‏.‏

وثالثها‏:‏ أن إمامتهم بأهل الحاضرة ممنوعة لجهلهم بالسنة وتركهم الجمعة‏.‏ وكره أبو مجلز إمامة الأعرابي‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا يؤم وإن كان أقرأهم‏.‏ وقال سفيان الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي‏:‏ الصلاة خلف الأعرابي جائزة‏.‏ واختاره ابن المنذر إذا أقام حدود الصلاة‏.‏

قوله تعالى‏{‏أشد‏}‏ أصله أشدد؛ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏كفرا‏}‏ نصب على البيان‏.‏ ‏}‏ونفاقا‏}‏ عطف عليه‏.‏ ‏}‏وأجدر‏}‏ عطف على أشد، ومعناه أخلق؛ يقال‏:‏ فلان جدير بكذا أي خليق به، وأنت جدير أن تفعل كذا، والجمع جدراء وجديرون‏.‏ وأصله من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء‏.‏ فقوله‏:‏ هو أجدر بكذا أي أقرب إليه وأحق به‏.‏ ‏}‏ألا يعلموا‏}‏ أي بألا يعلموا‏.‏ والعرب‏:‏ جيل من الناس، والنسبة إليهم عربي بين العروبة، وهم أهل الأمصار‏.‏ والأعراب منهم سكان البادية خاصة‏.‏ وجاء في الشعر الفصيح أعاريب‏.‏ والنسبة إلى الأعراب أعرابي لأنه لا واحد له، وليس الأعراب جمعا للعرب كما كان الأنباط جمعا لنبط؛ وإنما العرب اسم جنس‏.‏ والعرب العاربة هم الخلص منهم، وأخذ من لفظه وأكد به؛ كقولك‏:‏ ليل لائل‏.‏ وربما قالوا‏:‏ العرب العرباء‏.‏ وتعرب أي تشبه بالعرب‏.‏ وتعرب بعد هجرته أي صار أعرابيا‏.‏ والعرب المستعربة هم الذين ليسوا بخلص، وكذلك المتعربة، والعربية هي هذه اللغة‏.‏ ويعرب بن قحطان أول من تكلم بالعربية، وهو أبو اليمن كلهم‏.‏ والعُرب والعَرب واحد؛ مثل العجم والعجم‏.‏ والعريب تصغير العرب؛ قال الشاعر‏:‏

ومكن الضباب طعام العريب ولا تشتهيه نفوس العجم

إنما صغرهم تعظيما؛ كما قال‏:‏ أنا جذيلها المحك، وعذيقها المرجب كله عن الجوهري‏.‏ وحكى القشيري وجمع العربي العرب، وجمع الأعرابي أعراب وأعاريب‏.‏ والأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب‏.‏ والمهاجرون والأنصار عرب لا أعراب‏.‏ وسميت العرب عربا لأن ولد إسماعيل نشؤوا من عربة وهي من تهامة فنسبوا إليها‏.‏ وأقامت قريش بعربة وهي مكة، وانتشر سائر العرب في جزيرتها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 98 ‏)‏

‏{‏ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن الأعراب من يتخذ‏}‏ ‏}‏من‏}‏ في موضع رفع بالابتداء‏.‏ ‏}‏ما ينفق مغرما‏}‏ مفعولان؛ والتقدير ينفقه، فحذفت الهاء لطول الاسم‏.‏ ‏}‏مغرما‏}‏ معناه غرما وخسرانا؛ وأصله لزوم الشيء؛ ومنه‏{‏إن عذابها كان غراما‏}‏الفرقان‏:‏ 65‏]‏ أي لازما، أي يرون ما ينفقونه في جهاد وصدقة غرما ولا يرجون عليه ثوابا‏.‏ ‏}‏ويتربص بكم الدوائر‏}‏ التربص الانتظار؛ وقد تقدم‏.‏ والدوائر جمع دائرة، وهي الحالة المنقلبة عن النعمة إلى البلية، أي يجمعون إلى الجهل بالإنفاق سوء الدخلة وخبث القلب‏.‏ ‏}‏عليهم دائرة السوء‏}‏ قرأه ابن كثير وأبو عمرو بضم السين هنا وفي الفتح، وفتحها الباقون‏.‏ وأجمعوا على فتح السين في قوله‏{‏ما كان أبوك امرأ سوء‏}‏مريم‏:‏ 28‏]‏‏.‏ والفرق بينهما أن السُوء بالضم المكروه‏.‏ قال الأخفش‏:‏ أي عليهم دائرة الهزيمة والشر‏.‏ وقال الفراء‏:‏ أي عليهم دائرة العذاب والبلاء‏.‏ قالا‏:‏ ولا يجوز امرأ سُوء بالضم؛ كما لا يقال‏:‏ هو امرؤ عذاب ولا شر‏.‏ وحكي عن محمد بن يزيد قال‏:‏ السَوء بالفتح الرداءة‏.‏ قال سيبوبه‏:‏ مررت برجل صدق، ومعناه برجل صلاح‏.‏ وليس من صدق اللسان، ولو كان من صدق اللسان لما قلت‏:‏ مررت بثوب صدق‏.‏ ومررت برجل سوء ليس هو من سُؤته، وإنما معناه مررت برجل فساد‏.‏ وقال الفراء‏:‏ السوء بالفتح مصدر سؤته سوءا ومساءة وسوائية‏.‏ قال غيره‏:‏ والفعل منه ساء يسوء‏.‏ والسوء بالضم اسم لا مصدر؛ وهو كقولك‏:‏ عليهم دائرة البلاء والمكروه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 99 ‏)‏

‏{‏ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن الأعراب من يؤمن بالله‏}‏ أي صدق‏.‏ والمراد بنو مقرن من مزينة؛ ذكره المهدوي‏.‏ ‏}‏قربات‏}‏ جمع قربة، وهي ما يتقرب به إلى الله تعالى؛ والجمع قرب وقربات وقربات وقربات؛ حكاه النحاس‏.‏ والقربات بالضم ما تقرب به إلى الله تعالى؛ تقول منه‏:‏ قربت لله قربانا‏.‏ والقربة بكسر القاف ما يستقي فيه الماء؛ والجمع في أدنى العدد قِرْبات وقِرِبات وقِرَبات، وللكثير قرب‏.‏ وكذلك جمع كل ما كان على فعلة؛ مثل سدرة وفقرة، لك أن تفتح العين وتكسر وتسكن؛ حكاه الجوهري‏.‏ وقرأ نافع في رواية ورش ‏}‏قربة‏}‏ بضم الراء وهي الأصل‏.‏ والباقون بسكونها تخفيفا؛ مثل كتب ورسل، ولا خلاف في قربات‏.‏ وحكى ابن سعدان أن يزيد بن القعقاع قرأ ‏}‏ألا إنها قربة لهم‏}‏‏.‏ ومعنى ‏}‏وصلوات الرسول‏}‏ استغفاره ودعاؤه‏.‏ والصلاة تقع على ضروب؛ فالصلاة من الله جل وعز الرحمة والخير والبركة؛ قال الله تعالى‏{‏هو الذي يصلي عليكم وملائكته‏}‏الأحزاب‏:‏43‏]‏ والصلاة من الملائكة الدعاء، وكذلك هي من النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال‏{‏وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم‏}‏التوبة‏:‏103‏]‏ أي دعاؤك تثبيت لهم وطمأنينة‏.‏ ‏}‏ألا إنها قربة لهم‏}‏ أي تقربهم من رحمة الله، يعني نفقاتهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 100 ‏)‏

‏{‏والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم‏}‏

لما ذكر جل وعز أصناف الأعراب ذكر المهاجرين والأنصار، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة وأن منهم التابعين، وأثنى عليهم‏.‏ وقد اختلف في عدد طبقاتهم وأصنافهم‏.‏ ونحن نذكر من ذلك طرفا نبين الغرض فيه إن شاء الله تعالى‏.‏ وروى عمر بن الخطاب أنه قرأ ‏}‏والأنصار‏}‏ رفعا عطفا على السابقين‏.‏ قال الأخفش‏:‏ الخفض في الأنصار الوجه؛ لأن السابقين منهما‏.‏ والأنصار اسم إسلامي‏.‏ قيل لأنس بن مالك‏:‏ أرأيت قول الناس لكم‏:‏ الأنصار، اسم سماكم الله به أم كنتم تدعون به في الجاهلية‏؟‏ قال‏:‏ بل اسم سمانا الله به في القرآن؛ ذكره أبو عمر في الاستذكار‏.‏

نص القرآن على تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم الذين صلوا إلى القبلتين؛ في قول سعيد بن المسيب وطائفة‏.‏ وفي قول أصحاب الشافعي هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية، وقال الشعبي‏.‏ وعن محمد بن كعب وعطاء بن يسار‏:‏ هم أهل بدر‏.‏ واتفقوا على أن من هاجر قبل تحويل القبلة فهو من المهاجرين الأولين من غير خلاف بينهم‏.‏

وأما أفضلهم فقال أبو منصور البغدادي التميمي‏:‏ أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، ثم البدريون ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية‏.‏

وأما أولهم إسلاما فروى مجالد عن الشعبي قال‏:‏ سألت ابن عباس من أول الناس إسلاما‏؟‏ قال أبو بكر، أو ما سمعت قول حسان‏:‏

إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية أتقاها وأعدلها بعد النبي وأوفاها بما حملا

الثاني التالي المحمود مشهده وأول الناس منهم صدق الرسلا

وذكر أبو الفرج الجوزي عن يوسف بن يعقوب بن الماجشون أنه قال‏:‏ أدركت أبي وشيخنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبدالرحمن وصالح بن كيسان وسعد بن إبراهيم وعثمان بن محمد الأخنسي وهم لا يشكون أن أول القوم إسلاما أبو بكر؛ وهو قول ابن عباس وحسان وأسماء بنت أبي بكر، وبه قال إبراهيم النخعي‏.‏ وقيل‏:‏ أول من أسلم علي؛ روي ذلك عن زيد بن أرقم وأبي ذر والمقداد وغيرهم‏.‏ قال الحاكم أبو عبدالله‏:‏ لا أعلم خلافا بين أصحاب التواريخ أن عليا أولهم إسلاما‏.‏ وقيل‏:‏ أول من أسلم زيد بن حارثة‏.‏ وذكر معمر نحو ذلك عن الزهري‏.‏ وهو قول سليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس‏.‏ وقيل‏:‏ أول من أسلم خديجة أم المؤمنين؛ روي ذلك من وجوه عن الزهري، وهو قول قتادة ومحمد بن إسحاق بن يسار وجماعة، وروي أيضا عن ابن عباس‏.‏ وأدعى الثعلبي المفسر اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فيمن أسلم بعدها‏.‏ وكان إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الحنظلي يجمع بين هذه الأخبار، فكان يقول‏:‏ أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال‏.‏ والله أعلم‏.‏ وذكر محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرني مصعب بن ثابت قال حدثني أبو الأسود محمد بن عبدالرحمن بن نوفل قال‏:‏ كان إسلام الزبير بعد أبي بكر وكان رابعا أو خامسا‏.‏ قال الليث بن سعد وحدثني أبو الأسود قال‏:‏ أسلم الزبير وهو ابن ثمان سنين‏.‏ وروي إن عليا أسلم ابن سبع سنين‏.‏ وقيل‏:‏ ابن عشر‏.‏

والمعروف عن طريقة أهل الحديث أن كل مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من أصحابه‏.‏ قال البخاري في صحيحه‏:‏ من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه‏.‏ وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين‏.‏ وهذا القول إن صح عن سعيد بن المسيب يوجب ألا يعد من الصحابة جرير بن عبدالله البجلي أو من شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا نعرف خلافا في عده من الصحابة‏.‏

لا خلاف أن أول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصديق‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ السبق يكون بثلاثة أشياء‏:‏ الصفة وهو الإيمان، والزمان، والمكان‏.‏ وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات؛ والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح‏:‏ ‏(‏نحن الآخرون الأولون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فاليهود غدا والنصارى بعد غد‏)‏‏.‏ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من سبقنا من الأمم بالزمان سبقناهم بالإيمان والامتثال لأمر الله تعالى والانقياد إليه، والاستسلام لأمره والرضا بتكليفه والاحتمال لوظائفه، لا نعترض عليه ولا نختار معه، ولا نبدل بالرأي شريعته كما فعل أهل الكتاب؛ وذلك بتوفيق الله لما قضاه، وبتيسيره لما يرضاه؛ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله‏.‏

قال ابن خويز منداد‏:‏ تضمنت هذه الآية تفضيل السابقين إلى كل منقبة من مناقب الشريعة، في علم أو دين أو شجاعة أو غير ذلك، من العطاء في المال والرتبة في الإكرام‏.‏ وفي هذه المسألة خلاف بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما‏.‏ واختلف العلماء في تفضيل السابقين بالعطاء على غيرهم؛ فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان لا يفضل بين الناس في العطاء بعضهم على بعض بحسب السابقة‏.‏ وكان عمر يقول له‏:‏ أتجعل ذا السابقة كمن لا سابقة له‏؟‏ فقال أبو بكر‏:‏ إنما عملوا لله وأجرهم عليه‏.‏ وكان عمر يفضل في خلافته؛ ثم قال عند وفاته‏:‏ لئن عشت إلى غد لألحقن أسفل الناس بأعلاهم؛ فمات من ليلته‏.‏ والخلافة إلى يومنا هذا على هذا الخلاف‏.‏

قرأ عمر ‏}‏والأنصارُ‏}‏ رفعا‏.‏ ‏}‏الذين‏}‏ بإسقاط الواو نعتا للأنصار؛ فراجعه زيد بن ثابت، فسأل عمر أبي بن كعب فصدق زيدا؛ فرجع إليه عمر وقال‏:‏ ما كنا نرى إلا أنا رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد‏.‏ فقال أبي‏:‏ إني أجد مصداق ذلك في كتاب الله في أول سورة الجمعة‏{‏وآخرين منهم لما يلحقوا بهم‏}‏الجمعة‏:‏ 3‏]‏ وفي سورة الحشر‏{‏والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان‏}‏الحشر‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وفي سورة الأنفال بقوله‏{‏والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم‏}‏الأنفال‏:‏ 74‏]‏‏.‏ فثبتت القراءة بالواو‏.‏ وبين تعالى بقوله‏{‏بإحسان‏}‏ ما يتبعون فيه من أفعالهم وأقوالهم، لا فيما صدر عنهم من الهفوات والزلات؛ إذ لم يكونوا معصومين رضي الله عنهم‏.‏

واختلف العلماء في التابعين ومراتبهم؛ فقال الخطيب الحافظ‏:‏ التابعي من صحب الصحابي؛ ويقال للواحد منهم‏:‏ تابع وتابعي‏.‏ وكلام الحاكم أبي عبدالله وغيره مشعر بأنه يكفي فيه أن يسمع من الصحابي أو يلقاه وإن لم توجد الصحبة العرفية‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن اسم التابعين ينطلق على من أسلم بعد الحديبية؛ كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومن داناهم من مسلمة الفتح؛ لما ثبت أن عبدالرحمن بن عوف شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد‏:‏ ‏(‏دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه‏)‏‏.‏ ومن العجب عد الحاكم أبو عبدالله النعمان وسويدا ابني مقرن المزني في التابعين عندما ذكر الإخوة من التابعين، وهما صحابيان معروفان مذكوران في الصحابة، وقد شهدا الخندق كما تقدم‏.‏ والله أعلم‏.‏ وأكبر التابعين الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وهم سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد؛ وعروة بن الزبير، وخارجه بن زيد، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وعبدالله بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار‏.‏ وقد نظمهم بعض الأجلة في بيت واحد فقال‏:‏

فخذهم عبيدالله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجه

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ أفضل التابعين سعيد بن المسيب؛ فقيل له‏:‏ فعلقمة والأسود‏.‏ فقال‏:‏ سعيد بن المسيب وعلقمة والأسود‏.‏ وعنه أيضا أنه قال‏:‏ أفضل التابعين قيس وأبو عثمان وعلقمة ومسروق؛ هؤلاء كانوا فاضلين ومن علية التابعين‏.‏ وقال أيضا‏:‏ كان عطاء مفتي مكة والحسن مفتي البصرة فهذان أكثر الناس عنهم؛ وأبهم‏.‏ وروي عن أبي بكر بن أبي داود قال‏:‏ سيدتا التابعين من النساء حفصة بنت سيرين وعمرة بنت عبدالرحمن، وثالثهما - وليست كهما - أم الدرداء‏.‏ وروي عن الحاكم أبي عبدالله قال‏:‏ طبقة تعد في التابعين ولم يصح سماع أحد منهم من الصحابة؛ منهم إبراهيم بن سويد النخعي وليس بإبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه‏.‏ وبكير بن أبي السميط، وبكير بن عبدالله الأشج‏.‏ وذكر غيرهم قال‏:‏ وطبقة عدادهم عند الناس في أتباع التابعين‏.‏ وقد لقوا الصحابة منهم أبو الزناد عبدالله بن ذكوان، لقي عبدالله بن عمر وأنسا‏.‏ وهشام بن عروة، وقد أدخل على عبدالله بن عمر، وجابر بن عبدالله وموسى بن عقبة، وقد أدرك أنس بن مالك‏.‏ وأم خالد بنت خالد بن سعيد‏.‏ وفي التابعين طبقة تسمى بالمخضرمين، وهم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولا صحبة لهم‏.‏ واحدهم مخضرم بفتح الراء كأنه خضرم، أي قطع عن نظرائه الذين أدركوا الصحبة وغيرها‏.‏ وذكرهم مسلم فبلغ بهم عشرين نفسا، منهم أبو عمرو الشيباني، وسويد بن غفلة الكندي، وعمرو بن ميمون الأودي، وأبو عثمان النهدي وعبد خير بن يزيد الخيراني بفتح الخاء، بطن من همدان، وعبدالرحمن بن مل‏.‏ وأبو الحلال العتكي ربيعة بن زرارة‏.‏ وممن لم يذكره مسلم؛ منهم أبو مسلم الخولاني عبدالله بن ثوب، والأحنف بن قيس‏.‏ فهذه نبذة من معرفة الصحابة والتابعين الذين نطق بفضلهم القرآن الكريم، رضوان الله عليهم أجمعين‏.‏ وكفانا نحن قوله جل وعز‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ على ما تقدم، وقوله عز وجل‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا‏}‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ الآية‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وددت أنا لو رأينا إخواننا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏ الحديث‏.‏ فجعلنا إخوانه؛ إن اتقينا الله واقتفينا آثاره حشرنا الله في زمرته ولا حاد بنا عن طريقته وملته بحق محمد وآله‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 101 ‏)‏

‏{‏وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وممن حولكم من الأعراب منافقون‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ أي قوم منافقون؛ يعني مزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع‏.‏ ‏}‏ومن أهل المدينة مردوا على النفاق‏}‏ أي قوم مردوا على النفاق‏.‏ وقيل‏{‏مردوا‏}‏ من نعت المنافقين؛ فيكون في الكلام تقديم وتأخير، المعنى‏.‏ ومن حولكم من الأعراب منافقون مردوا على النفاق، ومن أهل المدينة مثل ذلك‏.‏ ومعنى‏{‏مردوا‏}‏ أقاموا ولم يتوبوا؛ عن ابن زيد‏.‏ وقال غيره‏:‏ لجوا فيه وأبوا غيره؛ والمعنى متقارب‏.‏ وأصل الكلمة من اللين والملامسة والتجرد‏.‏ فكأنهم تجردوا للنفاق‏.‏ ومنه رملة مرداء لا نبت فيها‏.‏ وغصن أمرد لا ورق عليه‏.‏ وفرس أمرد لا شعر على ثنته‏.‏ وغلام أمرد بين المرد؛ ولا يقال‏:‏ جارية مرداء‏.‏ وتمريد البناء تمليسه؛ ومنه قوله‏{‏صرح ممرد‏}‏النمل‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وتمريد الغصن تجريده من الورق؛ يقال‏:‏ مرد يمرد مرودا ومرادة‏.‏ ‏}‏لا تعلمهم نحن نعلمهم‏}‏ هو مثل قوله‏{‏لا تعلمونهم الله يعلمهم‏}‏الأنفال‏:‏ 60‏]‏ على ما تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا تعلم يا محمد عاقبة أمورهم وإنما نختص نحن بعلمها؛ وهذا يمنع أن يحكم على أحد بجنة أو نار‏.‏

قوله تعالى‏{‏سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بالأمراض في الدنيا وعذاب الآخرة‏.‏ فمرض المؤمن كفارة، ومرض الكافر عقوبة‏.‏ وقيل‏:‏ العذاب الأول الفضيحة بإطلاع النبي صلى الله عليه وسلم عليهم؛ على ما يأتي بيانه في المنافقين‏.‏ والعذاب الثاني عذاب القبر‏.‏ الحسن وقتادة‏:‏ عذاب الدنيا وعذاب القبر‏.‏ ابن زيد‏:‏ الأول بالمصائب في أموالهم وأولادهم، والثاني عذاب القبر‏.‏ مجاهد‏:‏ الجوع والقتل‏.‏ الفراء‏:‏ القتل وعذاب القبر‏.‏ وقيل‏:‏ السباء والقتل‏.‏ وقيل‏:‏ الأول أخذ الزكاة من أموالهم وإجراء الحدود عليهم، والثاني عذاب القبر‏.‏ وقيل‏:‏ أحد العذابين ما قال تعالى‏{‏فلا تعجبك أموالهم - إلى قول - إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا‏}‏التوبة‏:‏ 55‏]‏‏.‏ والغرض من الآية اتباع العذاب، أو تضعيف العذاب عليهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 102 ‏)‏

‏{‏وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم‏}‏

أي ومن أهل المدينة وممن حولكم قوم أقروا بذنوبهم، وآخرون مرجون لأمر الله يحكم فيهم بما يريد‏.‏ فالصنف الأول يحتمل أنهم كانوا منافقين وما مردوا على النفاق، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في عشرة تخلفوا عن غزوة تبوك فأوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد‏.‏ وقال بنحوه قتادة وقال‏:‏ وفيهم نزل ‏}‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏التوبة‏:‏ 103‏]‏؛ ذكره المهدوي‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ كانوا ثمانية‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا ستة‏.‏ وقيل‏:‏ خمسة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ نزلت الآية في أبي لبابة الأنصاري خاصة في شأنه مع بني قريظة؛ وذلك أنهم كلموه في النزول على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأشار لهم إلى حلقه‏.‏ يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم يذبحهم إن نزلوا، فلما افتضح تاب وندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وأقسم ألا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت؛ فمكث كذلك حتى عفا الله عنه، ونزلت هذه الآية، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحله؛ ذكره الطبري عن مجاهد، وذكره ابن إسحاق في السيرة أوعب من هذا‏.‏ وقال أشهب، عن مالك‏:‏ نزلت ‏}‏وآخرون‏}‏ في شأن أبي لبابة وأصحابه، وقال حين أصاب الذنب‏:‏ يا رسول الله، أجاورك وأنخلع من مالي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏يجزيك من ذلك الثلث وقد قال تعالى‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها‏}‏التوبة 103‏]‏ ورواه ابن القاسم وابن وهب عن مالك‏.‏ والجمهور أن الآية نزلت في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك، وكانوا ربطوا أنفسهم كما فعل أبو لبابة، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي يطلقهم ويرضى عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين‏)‏ فأنزل الله هذه الآية؛ فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم‏.‏ فلما أطلقوا قالوا‏:‏ يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك، فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا‏)‏ فأنزل الله تعالى‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ الآية‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا عشرة أنفس منهم أبو لبابة؛ فأخذ ثلث أموالهم وكانت كفارة الذنوب التي أصابوها‏.‏ فكان عملهم السيئ التخلف بإجماع من أهل هذه المقالة‏.‏ واختلفوا في الصالح؛ فقال الطبري وغيره‏:‏ الاعتراف والندم‏.‏ وقيل‏:‏ عملهم الصالح الذي عملوه أنهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وربطوا أنفسهم بسواري المسجد وقالوا‏:‏ لا نقرب أهلا ولا ولدا حتى ينزل الله عذرنا‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ بل العمل الصالح غزوهم فيما سلف من غزو النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذه الآية وإن كانت نزلت في أعراب فهي عامة إلى يوم القيامة فيمن له أعمال صالحة وسيئة؛ فهي ترجى‏.‏ ذكر الطبري عن حجاج بن أبي زينب قال‏:‏ سمعت أبا عثمان يقول‏:‏ ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله تعالى‏{‏وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا‏}‏‏.‏

وفي البخاري عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا‏:‏ ‏(‏أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم‏:‏ أذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قالا لي هذه جنة عدن وهذاك منزلك قالا‏:‏ أما القوم الذي كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم‏)‏‏.‏ وذكر البيهقي من حديث الربيع بن أنس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الإسراء وفيه قال‏:‏ ‏(‏ثم صعد بي إلى السماء‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ ثم ذكر الحديث إلى أن ذكر صعوده إلى السماء السابعة فقالوا‏:‏ ‏(‏حياه الله من أخ وخليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء فإذا برجل أشمط جالس على كرسي عند باب الجنة وعنده قوم بيض الوجوه وقوم سود الوجوه وفي ألوانهم شيء فأتوا نهرا فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء ثم إنهم أتوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء ثم دخلوا النهر الثالث فخرجوا منه وقد خلصت ألوانهم مثل ألوان أصحابهم فجلسوا إلى أصحابهم فقال يا جبريل من هؤلاء بيض الوجوه وهؤلاء الذين في ألوانهم شيء فدخلوا النهر وقد خلصت ألوانهم فقال هذا أبوك إبراهيم هو أول رجل شمط على وجه الأرض وهؤلاء بيض الوجوه قوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم - قال - وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا فتاب الله عليهم‏.‏ فأما النهر الأول فرحمة الله وأما النهر الثاني فنعمة الله‏.‏ وأما النهر الثالث فسقاهم ربهم شرابا طهورا‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ والواو في قوله‏{‏وآخر سيئا‏}‏ قيل‏:‏ هي بمعنى الباء، وقيل‏:‏ بمعنى مع؛ كقولك استوى الماء والخشبة‏.‏ وأنكر ذلك الكوفيون وقالوا‏:‏ لأن الخشبة لا يجوز تقديمها على الماء، و‏}‏آخر‏}‏ في الآية يجوز تقديمه على الأول؛ فهو بمنزلة خلطت الماء باللبن‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 103 ‏)‏

‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ اختلف في هذه الصدقة المأمور بها؛ فقيل‏:‏ هي صدقة الفرض؛ قال جويبر عن ابن عباس، وهو قول عكرمة فيما ذكر القشيري‏.‏ وقيل‏:‏ هو مخصوص بمن نزلت فيه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم ثلث أموالهم، وليس هذا من الزكاة المفروضة في شيء؛ ولهذا قال مالك‏:‏ إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث؛ متمسكا بحديث أبي لبابة‏.‏ وعلى القول الأول فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي بظاهره اقتصاره عليه فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه وزوالها بموته‏.‏ وبهذا تعلق مانعو الزكاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقالوا‏:‏ إنه كان يعطينا عوضا منها التطهير والتزكية والصلاة علينا وقد عدمناها من غيره‏.‏ ونظم في ذلك شاعرهم فقال‏:‏

أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر

وإن الذي سألوكم فمنعتم لكالتمر أو أحلى لديهم من التمر

سنمنعهم ما دام فينا بقية كرام على الضراء في العسر واليسر

وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة، وفي حقهم قال أبو بكر‏:‏‏(‏والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة‏)‏‏.‏ ابن العربي‏:‏ أما قولهم إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتحق به غيره فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة متلاعب بالدين؛ فإن الخطاب في القرآن لم يرد بابا واحدا ولكن اختلفت موارده على وجوه، فمنها خطاب توجه إلى جميع الأمة كقوله‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة‏}‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏{‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام‏}‏البقرة‏:‏ 183‏]‏ ونحوه‏.‏ ومنها خطاب خص به ولم يشركه فيه غيره لفظا ولا معنى كقوله‏{‏ومن الليل فتهجد به نافلة لك‏}‏الإسراء‏:‏ 79‏]‏ وقوله‏{‏خالصة لك‏}‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏‏.‏ ومنها خطاب خص به لفظا وشركه جميع الأمة معنى وفعلا؛ كقوله ‏}‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏}‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏ الآية‏.‏ وقوله‏{‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله‏}‏النحل‏:‏ 98‏]‏ وقوله‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏النساء‏:‏ 102‏]‏ فكل من دلكت عليه الشمس مخاطب بالصلاة‏.‏ وكذلك كل من قرأ القرآن مخاطب بالاستعاذة‏.‏ وكذلك كل من خاف يقيم الصلاة بتلك الصفة‏.‏ ومن هذا القبيل قوله تعالى‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها‏}‏‏.‏ وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى‏{‏يا أيها النبي اتق الله‏}‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ و‏}‏يا أيها النبي إذا طلقتم النساء‏}‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏من أموالهم‏}‏ ذهب بعض العرب وهم دوس‏:‏ إلى أن المال الثياب والمتاع والعروض‏.‏ ولا تسمي العين مالا‏.‏ وقد جاء هذا المعنى في السنة من رواية مالك عن ثور بن زيد الديلي عن أبي الغيث سالم مولى ابن مطيع عن أبي هريرة قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إلا الأموال الثياب والمتاع‏.‏ الحديث‏.‏ وذهب غيرهم إلى أن المال الصامت من الذهب والورق‏.‏ وقيل‏:‏ الإبل خاصة؛ ومنه قولهم‏:‏ المال الإبل‏.‏ وقيل‏:‏ جميع الماشية‏.‏ وذكر ابن الأنباري عن أحمد بن يحيى ثعلب النحوي قال‏:‏ ما قصر عن بلوغ ما تجب فيه الزكاة من الذهب والورق فليس بمال؛ وأنشد‏:‏

والله ما بلغت لي قط ماشية حد الزكاة ولا إبل ولا مال

قال أبو عمر‏:‏ والمعروف من كلام العرب أن كل ما تمول وتملك هو مال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول ابن آدم مالي مالي وإنما له من ماله ما أكل فأفنى أو لبس فأبلي أو تصدق فأمضي‏)‏‏.‏ وقال أبو قتادة‏:‏ فأعطاني الدرع فابتعث به مخرفا في بني سلمة؛ فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام‏.‏ فمن حلف بصدقة ماله كله فذلك على كل نوع من ماله، سواء كان مما تجب فيه الزكاة أو لم يكن؛ إلا أن ينوي شيئا بعينه فيكون على ما نواه‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ذلك على أموال الزكاة‏.‏ والعلم محيط واللسان شاهد بأن ما تملك يسمى مالا‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ مطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ والمأخوذ منه، ولا تبيين مقدار المأخوذ ولا المأخوذ منه‏.‏ وإنما بيان ذلك في السنة والإجماع‏.‏ حسب ما نذكره فتؤخذ الزكاة من جميع الأموال‏.‏ وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة في المواشي والحبوب والعين، وهذا ما لا خلاف فيه‏.‏ واختلفوا فيما سوى ذلك كالخيل وسائر العروض‏.‏ وسيأتي ذكر الخيل والعسل في ‏}‏النحل‏}‏ إن شاء الله‏.‏ روى الأئمة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة‏)‏‏.‏ وقد مضى الكلام في ‏}‏الأنعام‏}‏ في زكاة الحبوب وما تنبته الأرض مستوفى‏.‏ وفي المعادن في ‏}‏البقرة‏}‏ وفي الحلي في هذه السورة‏.‏ وأجمع العلماء على أن الأوقية أربعون درهما؛ فإذا ملك الحر المسلم مائتي درهم من فضة مضروبة - وهي الخمس أواق المنصوصة في الحديث - حولا كاملا فقد وجبت عليه صدقتها، وذلك ربع عشرها خمسة دراهم‏.‏ وإنما اشترط الحول لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول‏)‏‏.‏ أخرجه الترمذي‏.‏ وما زاد على المائتي درهم من الورق فبحساب ذلك من كل شيء منه ربع عشره قل أو كثر؛ هذا قول مالك والليث والشافعي وأكثر أصحاب أبي حنيفة وابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق وأبي عبيد‏.‏ وروي ذلك عن علي وابن عمر‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ لا شيء فيما زاد على مائتي درهم حتى تبلغ الزيادة أربعين درهما؛ فإذا بلغتها كان فيها درهم وذلك ربع عشرها‏.‏ هذا قول سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وطاوس والشعبي والزهري ومكحول وعمرو بن دينار وأبي حنيفة‏.‏

وأما زكاة الذهب فالجمهور من العلماء على أن الذهب إذا كان عشرين دينارا قيمتها مائتا درهم فما زاد أن الزكاة فيها واجبة؛ على حديث علي، أخرجه الترمذي عن ضمرة والحارث عن علي‏.‏ قال الترمذي‏:‏ سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال كلاهما عندي صحيح عن أبي إسحاق، يحتمل أن يكون عنهما جميعا‏.‏ وقال الباجي في المنتقى‏:‏ وهذا الحديث ليس إسناده هناك، غير أن اتفاق العلماء على الأخذ به دليل على صحة حكمه، والله أعلم‏.‏ وروي عن الحسن والثوري، وإليه مال بعض أصحاب داود بن علي على أن الذهب لا زكاة فيه حتى يبلغ أربعين دينارا‏.‏ وهذا يرده حديث علي وحديث ابن عمر وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارا نصف دينار، ومن الأربعين دينارا دينارا؛ على هذا جماعة أهل العلم إلا من ذكر‏.‏

اتفقت الأمة على أن ما كان دون خمس ذَود من الإبل فلا زكاة فيه‏.‏ فإذا بلغت خمسا ففيها شاة‏.‏ والشاة تقع على واحدة من الغنم، والغنم الضأن والمعز جميعا‏.‏ وهذا أيضا اتفاق من العلماء أنه ليس في خمس إلا شاة واحدة؛ وهي فريضتها‏.‏ وصدقة المواشي مبينة في الكتاب الذي كتبه الصديق لأنس لما وجهه إلى البحرين؛ أخرجه البخاري وأبو داود والدارقطني والنسائي وابن ماجة وغيرهم، وكله متفق عليه‏.‏ والخلاف فيه في موضعين أحدهما في زكاة الإبل، وهي إذا بلغت إحدى وعشرين ومائة فقال مالك‏:‏ المصدق بالخيار إن شاء أخذ ثلاث بنات لبون، وإن شاء أخذ حقتين‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ وقال ابن شهاب‏:‏ فيها ثلاث بنات لبون إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة فتكون فيها حقة وابنتا لبون‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ ورأيي على قول ابن شهاب‏.‏ وذكر ابن حبيب أن عبدالعزيز بن أبي سلمة وعبدالعزيز بن ابن حازم وابن دينار يقولون بقول مالك‏.‏ وأما الموضع الثاني فهو في صدقة الغنم، وهي إذا زادت على ثلاثمائة شاة وشاة؛ فإن الحسن بن صالح بن حي قال‏:‏ فيها أربع شياه‏.‏ وإذا كانت أربعمائة شاة وشاة ففيها خمس شياه؛ وهكذا كلما زادت، في كل مائة شاة‏.‏ وروي عن إبراهيم النخعي مثله‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ في مائتي شاة وشاة ثلاث شياه، ثم لا شيء فيها إلى أربعمائة فيكون فيها أربع شياه؛ ثم كلما زادت مائة ففيها شاة؛ إجماعا واتفاقا‏.‏ قال ابن عبدالبر‏:‏ وهذه مسألة وهم فيها ابن المنذر، وحكى فيها عن العلماء الخطأ، وخلط وأكثر الغلط‏.‏

لم يذكر البخاري ولا مسلم في صحيحهما تفصيل زكاة البقر‏.‏ وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني ومالك في موطئه وهي مرسلة ومقطوعة وموقوفة‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وقد رواه قوم عن طاوس عن معاذ، إلا أن الذين أرسلوه أثبت من الذين أسندوه‏.‏ وممن أسنده بقية عن المسعودي عن الحكم عن طاوس‏.‏ وقد اختلفوا فيما ينفرد به بقية عن الثقات‏.‏ ورواه الحسن بن عمارة عن الحكم كما رواه بقية عن المسعودي عن الحكم، والحسن مجتمع على ضعفه‏.‏ وقد روي هذا الخبر بإسناد متصل صحيح ثابت من غير رواية طاوس؛ ذكره عبدالرزاق قال‏:‏ أخبرنا معمر والثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل قال‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة، ومن أربعين مسنة، ومن كل حالم دينارا أو عدله معافر؛ ذكره الدارقطني وأبو عيسى الترمذي وصححه‏.‏ قال أبو عمر‏.‏ ولا خلاف بين العلماء أن الزكاة في زكاة البقر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما قال معاذ بن جبل‏:‏ في ثلاثين بقرة تبيع، وفي أربعين مسنة إلا شيء روي عن سعيد بن المسيب وأبي قلابة والزهري وقتادة؛ فإنهم يوجبون في كل خمس من البقر شاة إلى ثلاثين‏.‏ فهذه جملة من تفصيل الزكاة بأصولها وفروعها في كتب الفقه‏.‏ ويأتي ذكر الخلطة في سورة ‏[‏ص‏]‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏صدقة‏}‏ مأخوذ من الصدق؛ إذ هي دليل على صحة إيمانه، وصدق باطنه مع ظاهره، وأنه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات‏.‏ ‏}‏تطهرهم وتزكيهم بها‏}‏ حالين للمخاطب؛ التقدير‏:‏ خذها مطهرا لهم ومزكيا لهم بها‏.‏ ويجوز أن يجعلهما صفتين للصدقة؛ أي صدقة مطهرة لهم مزكية، ويكون فاعل تزكيهم المخاطب، ويعود الضمير الذي في ‏}‏بها‏}‏ على الموصوف المنكر‏.‏ وحكى النحاس ومكي أن ‏}‏تطهرهم‏}‏ من صفة الصدقة ‏}‏وتزكيهم بها‏}‏ حال من الضمير في ‏}‏خذ‏}‏ وهو النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويحتمل أن تكون حالا من الصدقة، وذلك ضعيف لأنها حال من نكرة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ والأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي فإنك تطهرهم وتزكيهم بها، على القطع والاستئناف‏.‏ ويجوز الجزم على جواب الأمر، والمعنى‏:‏ إن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم؛ ومنه قول امرئ القيس‏:‏

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

وقرأ الحسن تطهرهم ‏}‏بسكون الطاء‏}‏ وهو منقول بالهمزة من طهر وأطهرته، مثل ظهر وأظهرته‏.‏

قوله تعالى‏{‏وصل عليهم‏}‏ أصلٌ في فعل كل إمام يأخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق بالبركة‏.‏ روى مسلم عن عبدالله بن أبي أوفى قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال‏:‏ ‏(‏اللهم صل عليهم‏)‏ فأتاه ابن أبي أوفى بصدقته فقال‏:‏ ‏(‏اللهم صل على آل أبي أوفى‏)‏‏.‏ ذهب قوم إلى هذا، وذهب آخرون إلى أن هذا منسوخ بقوله تعالى‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا‏}‏التوبة‏:‏ 84‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ فلا يجوز أن يُصلى على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده خاصة؛ لأنه خص بذلك‏.‏ واستدلوا بقوله تعالى‏{‏لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا‏}‏النور‏:‏ 63‏]‏ الآية‏.‏ وبأن عبدالله بن عباس كان يقول‏:‏ لا يُصلى على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والأول أصح؛ فإن الخطاب ليس مقصورا عليه كما تقدم؛ ويأتي في الآية بعد هذا‏.‏ فيجب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والتأسي به؛ لأنه كان يمتثل قوله‏{‏وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم‏}‏ أي إذا دعوت لهم حين يأتون بصدقاتهم سكن ذلك قلوبهم وفرحوا به‏.‏ وقد روى جابر بن عبدالله قال‏:‏ أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لامرأتي‏:‏ لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا؛ فقالت‏:‏ يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندنا ولا نسأله شيئا‏!‏ فقالت‏:‏ يا رسول الله؛ صل على زوجي‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلى الله عليك وعلى زوجك‏)‏‏.‏ والصلاة هنا الرحمة والترحم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وحكى أهل اللغة جميعا فيما علمناه أن الصلاة في كلام العرب الدعاء؛ ومنه الصلاة على الجنائز‏.‏ وقرأ حفص وحمزة والكسائي‏{‏إن صلاتك‏}‏ بالتوحيد‏.‏ وجمع الباقون‏.‏ وكذلك الاختلاف في ‏}‏أصلاتك تأمرك‏}‏هود‏:‏ 87‏]‏ وقرئ ‏}‏سكن‏}‏ بسكون الكاف‏.‏ قال قتادة‏:‏ معناه وقار لهم‏.‏ والسكن‏:‏ ما تسكن به النفوس وتطمئن به القلوب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 104 ‏)‏

‏{‏ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم‏}‏

قيل‏:‏ قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين‏:‏ هؤلاء كانوا معنا بالأمس، لا يكلمون ولا يجالسون، فما لهم الآن‏؟‏ وما هذه الخاصة التي خصوا بها دوننا؛ فنزلت‏{‏ألم يعلموا‏}‏ فالضمير في ‏}‏يعلموا‏}‏ عائد إلى الذين لم يتوبوا من المتخلفين‏.‏ قال معناه ابن زيد‏.‏ ويحتمل أن يعود إلى الذين تابوا وربطوا أنفسهم‏.‏ وقوله تعالى‏{‏هو‏}‏ تأكيد لانفراد الله سبحانه وتعالى بهذه الأمور‏.‏ وتحقيق ذلك أنه لو قال‏:‏ إن الله يقبل التوبة لاحتمل أن يكون قبول رسوله قبولا منه؛ فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويأخذ الصدقات‏}‏ هذا نص صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثيب عليها وأن الحق له جل وعز، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة، فإن توفي فعامله هو الواسطة بعده، والله عز وجل حي لا يموت‏.‏ وهذا يبين أن قوله سبحانه وتعالى‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ ليس مقصورا على النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ روى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد وتصديق ذلك في كتاب الله ‏}‏وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات‏}‏ ‏}‏ويمحق الله الربا ويربي الصدقات‏}‏‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه - في رواية - فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل‏)‏ الحديث‏.‏ وروي ‏(‏إن الصدقة لتقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف السائل فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله والله يضاعف لمن يشاء‏)‏‏.‏ قال علماؤنا رحمة الله عليهم في تأويل هذه الأحاديث‏:‏ إن هذا كناية عن القبول والجزاء عليها؛ كما كنى بنفسه الكريمة المقدسة عن المريض تعطفا عليه بقوله‏:‏ ‏(‏يا ابن آدم مرضت فلم تعدني‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ وخص اليمين والكف بالذكر إذ كل قابل لشيء إنما يأخذه بكفه وبيمينه أو يوضع له فيه؛ فخرج على ما يعرفونه، والله جل وعز منزه عن الجارحة‏.‏ وقد جاءت اليمين في كلام العرب بغير معنى الجارحة؛ كما قال الشاعر‏:‏

إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

أي هو مؤهل للمجد والشرف، ولم يرد بها يمين الجارحة، لأن المجد معنى فاليمين التي تتلقى به رايته معنى‏.‏ وكذلك اليمين في حق الله تعالى‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن معنى ‏(‏تربو في كف الرحمن‏)‏ عبارة عن كفة الميزان التي توزن فيها الأعمال، فيكون من باب حذف المضاف؛ كأنه قال‏.‏ فتربو كفة ميزان الرحمن‏.‏ وروي عن مالك والثوري وابن المبارك أنهم قالوا في تأويل هذه الأحاديث وما شابهها‏:‏ أمِرّوها بلا كيف؛ قال الترمذي وغيره‏.‏ وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 105 ‏)‏

‏{‏وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقل اعملوا‏}‏ خطاب للجميع‏.‏ ‏}‏فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون‏}‏ أي بإطلاعه إياهم على أعمالكم‏.‏ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏لو أن رجلا عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 106 ‏)‏

‏{‏وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم‏}‏

نزلت في الثلاثة الذين تيب عليهم‏:‏ كعب بن مالك وهلال بن أمية من بنى واقف ومرارة بن الربيع؛ وقيل‏:‏ ابن ربعي العمري؛ ذكره المهدوي‏.‏ كانوا قد تخلفوا عن تبوك وكانوا مياسر؛ على ما يأتي من ذكرهم‏.‏ والتقدير‏:‏ ومنهم آخرون مرجون؛ من أرجأته أي أخرته‏.‏ ومنه قيل‏:‏ مرجئة؛ لأنهم أخروا العمل‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏}‏مرجون‏}‏ بغير همزة؛ فقيل‏:‏ هو من أرجيته أي أخرته‏.‏ وقال المبرد‏:‏ لا يقال أرجيته بمعنى أخرته، ولكن يكون من الرجاء‏.‏ ‏}‏إما يعذبهم وإما يتوب عليهم‏}‏ ‏}‏إما‏}‏ في العربية لأحد أمرين، والله عز وجل عالم بمصير الأشياء، ولكن المخاطبة للعباد على ما يعرفون؛ أي ليكن أمرهم عندكم على الرجاء لأنه ليس للعباد أكثر من هذا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 107 ‏)‏

‏{‏والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏والذين اتخذوا مسجدا‏}‏ معطوف، أي ومنهم الذين اتخذوا مسجدا، عطف جملة على جملة‏.‏ ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء والخبر محذوف كأنهم ‏}‏يعذبون‏}‏ أو نحوه‏.‏ ومن قرأ ‏}‏الذين‏}‏ بغير واو وهي قراءة المدنيين فهي عنده رفع بالابتداء، والخبر ‏}‏لا تقم‏}‏ التقدير‏:‏ الذين اتخذوا مسجدا لا تقم فيه أبدا؛ أي لا تقم في مسجدهم؛ قاله الكسائي‏.‏ وقال النحاس‏:‏ يكون خبر الابتداء ‏}‏لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم‏}‏التوبة‏:‏ 110‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ الخبر ‏}‏يعذبون‏}‏ كما تقدم‏.‏ ونزلت الآية فيما روي في أبو عامر الراهب؛ لأنه كان خرج إلى قيصر وتنصر ووعدهم قيصر أنه سيأتيهم، فبنوا مسجد الضرار يرصدون مجيئه فيه؛ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم، وقد تقدمت قصته في الأعراف وقال أهل التفسير‏:‏ إن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء وبعثوا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه؛ فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا‏:‏ نبني مسجدا ونبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا فيصلي لنا كما صلى في مسجد إخواننا، ويصلي فيه أبو عامر إذا قدم من الشام؛ فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا‏:‏ يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة، والعلة والليلة المطيرة، ونحب أن تصلي لنا فيه وتدعو بالبركة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏إني على سفر وحال شغل فلو قدمنا لأتيناكم وصلينا لكم فيه‏)‏ فلما أنصرف النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك أتوه وقد فرغوا منه وصلوا فيه الجمعة والسبت والأحد، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن بخبر مسجد الضرار؛ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا قاتل حمزة، فقال‏:‏ ‏(‏انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه‏)‏ فخرجوا مسرعين، وأخرج مالك بن الدخشم من منزله شعلة نار، ونهضوا فأحرقوا المسجد وهدموه، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا‏:‏ خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الضرار، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعباد بن الأزعر، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف‏.‏ وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد ابنا جارية، ونبتل بن الحارث، وبحزج، وبجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت، وثعلبة بن حاطب مذكور فيهم‏.‏ قال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ وفيه نظر؛ لأنه شهد بدرا‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ سأل عمر بن الخطاب رجلا منهم بماذا أعنت في هذا المسجد‏؟‏ فقال‏:‏ أعنت فيه بسارية‏.‏ فقال‏:‏ أبشر بها سارية في عنقك من نار جهنم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ضرارا‏}‏ مصدر مفعول من أجله‏.‏ ‏}‏وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا‏}‏ عطف كله‏.‏ وقال أهل التأويل‏:‏ ضرارا بالمسجد، وليس للمسجد ضرار، إنما هو لأهله‏.‏ وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا ضرر ولا ضرار من ضار ضار الله به ومن شاق الله عليه‏)‏‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ الضرر‏:‏ الذي لك به منفعة وعلى جارك فيه مضرة‏.‏ والضرار‏:‏ الذي ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه المضرة‏.‏ وقد قيل‏:‏ هما بمعنى واحد، تكلم بهما جميعا على جهة التأكيد‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ لا يجوز أن يبني مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه؛ والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغرا، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبنى حينئذ‏.‏ وكذلك قالوا‏.‏ لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه‏.‏ وقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه‏.‏ وأسند الطبري عن شقيق أنه جاء ليصلي في مسجد بني غاضرة فوجد الصلاة قد فاتته، فقيل له‏:‏ إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد؛ فقال‏:‏ لا أحب أن أصلي فيه؛ لأنه بني على ضرار‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه‏.‏ وقال النقاش‏:‏ يلزم من هذا ألا يصلي في كنيسة ونحوها؛ لأنها بنيت على شر‏.‏

قلت‏:‏ هذا لا يلزم؛ لأن الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شر، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعا يتعبدون فيه بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا‏.‏ وقد أجمع العلماء على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة‏.‏ وقد ذكر البخاري أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل‏.‏ وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم‏.‏

قال العلماء‏:‏ إن من كان إماما لظالم لا يصلي وراءه إلا أن يظهر عذره أو يتوب فإن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن جارية أن يصلي بهم في مسجدهم؛ فقال‏:‏ لا ولا نعمة عين أليس بإمام مسجد الضرار فقال له مجمع‏:‏ يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي فوالله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما قد أضمروا عليه ولو علمت ما صليت بهم فيه كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا قد عاشوا على جاهليتهم وكانوا لا يقرؤون من القرآن شيئا فصليت ولا أحسب ما صنعت إثما ولا أعلم بما في أنفسهم فعذره عمر رضي الله عنهما وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء‏.‏

قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه فقال‏:‏ ‏(‏من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة‏)‏ يهدم وينزع إذا كان فيه ضرر بغيره، فما ظنك بسواه بل هو أحرى أن يزال ويهدم حتى لا يدخل ضرر على الأقدم‏.‏ وذلك كمن بنى فرنا أو رحى أو حفر بئرا أو غير ذلك مما يدخل به الضرر على الغير‏.‏ وضابط هذا الباب‏:‏ أن من أدخل على أخيه ضررا منع‏.‏ فإن أدخل على أخيه ضررا بفعل ما كان له فعله في ماله فأضر ذلك بجاره أو غير جاره نظر إلى ذلك الفعل؛ فإن كان تركه أكبر ضررا من الضرر الداخل على الفاعل قطع أكبر الضررين وأعظمهما حرمة في الأصول‏.‏ مثال ذلك‏:‏ رجل فتح كوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهل، ومن شأن النساء في بيوتهن إلقاء بعض ثيابهن والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أن الإطلاع على العورات محرم وقد ورد النهي فيه فلحرمه الاطلاع على العورات رأى العلماء أن يغلقوا على فاتح الباب والكوة ما فتح مما له فيه منفعة وراحة وفي غلقه عليه ضرر لأنهم قصدوا إلى قطع أعظم الضررين، إذ لم يكن بد من قطع أحدهما وهكذا الحكم في هذا الباب، خلافا للشافعي ومن قال بقوله‏.‏ قال أصحاب الشافعي‏:‏ لو حفر رجل في ملكه بئرا وحفر آخر في ملكه بئرا يسرق منها ماء البئر الأولة جاز؛ لأن كل واحد منهما حفر في ملكه فلا يمنع من ذلك‏.‏ ومثله عندهم‏:‏ لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفا يفسده عليه لم يكن له منعه؛ لأنه تصرف في ملكه‏.‏ والقرآن والسنة يردان هذا القول‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

ومن هذا الباب وجه آخر من الضرر منع العلماء منه، كدخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدود المتولد من الزبل المبسوط في الرحاب، وما كان مثل هذا فإنه يقطع منه ما بان ضرره وخشي تماديه‏.‏ وأما ما كان ساعة خفيفة مثل نفض الثياب والحصر عند الأبواب؛ فإن هذا مما لا غنى بالناس عنه، وليس مما يستحق به شيء؛ فنفي الضرر في منع مثل هذا أعظم وأكبر من الصبر على ذلك ساعة خفيفة‏.‏ وللجار على جاره في أدب السنة أن يصبر على أذاه على ما يقدر كما عليه ألا يؤذيه وأن يحسن إليه‏.‏

ومما يدخل في هذا الباب مسألة ذكرها إسماعيل بن أبي أويس عن مالك أنه سئل عن امرأة عرض لها، يعني مسا من الجن، فكانت إذا أصابها زوجها وأجنبت أودنا منها يشتد ذلك بها‏.‏ فقال مالك‏:‏ لا أرى أن يقربها، وأرى للسلطان أن يحول بينه وبينها‏.‏

قوله تعالى‏{‏وكفرا‏}‏ لما كان اعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم كفروا بهذا الاعتقاد؛ قاله ابن العربي‏.‏ وقيل‏{‏وكفرا‏}‏ أي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به؛ قاله القشيري وغيره‏.‏

قوله تعالى‏{‏وتفريقا بين المؤمنين‏}‏ أي يفرقون به جماعتهم ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا يدلك على أن المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة، وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة حتى يقع الأنس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد‏.‏

تفطن مالك رحمه الله من هذه الآية فقال‏:‏ لا تصلي جماعتان في مسجد واحد بإمامين؛ خلافا لسائر العلماء‏.‏ وقد روي عن الشافعي المنع؛ حيث كان تشتيتا للكلمة وإبطالا لهذه الحكمة وذريعة إلى أن نقول‏:‏ من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر فيقيم جماعته ويقدم إمامته فيقع الخلاف ويبطل النظام، وخفي ذلك عليهم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا كان شأنه معهم، وهو أثبت قدما منهم في الحكمة وأعلم بمقاطع الشريعة‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإرصادا لمن حارب الله ورسوله‏}‏ يعني أبا عامر الراهب؛ وسمي بذلك لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم فمات كافرا بقنسرين بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم؛ فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين‏.‏ فلما انهزمت هوازن خرج إلى الورم يستنصر، وأرسل إلى المنافقين وقال‏:‏ استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجند من الروم لأخرج محمدا من المدينة؛ فبنوا مسجد الضرار‏.‏ وأبو عامر هذا هو والد حنظلة غسيل الملائكة‏.‏ والإرصاد‏:‏ الانتظار؛ تقول‏:‏ أرصدت كذا إذا أعددته مرتقبا له به‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ يقال رصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشر‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ لا يقال إلا أرصدت، ومعناه ارتقبت‏.‏ وقوله تعالى‏{‏من قبل‏}‏ أي من قبل بناء مسجد الضرار‏.‏ ‏}‏وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى‏}‏ أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسني، وهي الرفق بالمسلمين كما ذكروا لذي العلة والحاجة‏.‏ وهذا يدل على أن الأفعال تختلف بالمقصود والإرادات؛ ولذلك قال‏{‏وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى‏}‏‏.‏ ‏}‏والله يشهد إنهم لكاذبون‏}‏ أي يعلم خبث ضمائرهم وكذبهم فيما يحلفون عليه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 108 ‏)‏

‏{‏لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏لا تقم فيه أبدا‏}‏ يعني مسجد الضرار؛ أي لا تقم فيه للصلاة‏.‏ وقد يعبر عن الصلاة بالقيام؛ يقال‏:‏ فلان يقوم الليل أي يصلي؛ ومنه الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏‏.‏ أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏.‏‏.‏‏.‏، فذكره‏.‏ وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية كان لا يمر بالطريق التي فيها المسجد، وأمر بموضعه أن يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف والأقذار والقمامات‏.‏

قوله تعالى‏{‏أبدا‏}‏ ‏}‏أبدا‏}‏ ظرف زمان‏.‏ وظرف الزمان على قسمين‏:‏ ظرف مقدر كاليوم، وظرف مبهم كالحين والوقت؛ والأبد من هذا القسم، وكذلك الدهر‏.‏

وتنشأ هنا مسألة أصولية، وهي أن ‏}‏أبدا‏}‏ وإن كانت ظرفا مبهما لا عموم فيه ولكنه إذا اتصل بلا النافية أفاد العموم، فلو قال‏:‏ لا تقم، لكفي في الانكفاف المطلق‏.‏ فإذا قال‏{‏أبدا‏}‏ فكأنه قال في وقت من الأوقات ولا في حين من الأحيان‏.‏ فأما النكرة في الإثبات إذا كانت خبرا عن واقع لم تعم، وقد فهم ذلك أهل اللسان وقضى به فقهاء الإسلام فقالوا‏:‏ لو قال رجل لامرأته أنت طالق أبدا طلقت طلقة واحدة‏.‏

قوله تعالى‏{‏لمسجد أسس على التقوى‏}‏ أي بنيت جدره ورفعت قواعده‏.‏ والأسس أصل البناء؛ وكذلك الأساس‏.‏ والأسس مقصور منه‏.‏ وجمع الأس إساس؛ مثل عس وعساس‏.‏ وجمع الأساس أسس؛ مثل قذال وقذل‏.‏ وجمع الأسس أساس؛ مثل سبب وأسباب‏.‏ وقد أسست البناء تأسيسا‏.‏ وقولهم‏:‏ كان ذلك على أس الدهر، وأس الدهر، وإس الدهر؛ ثلاث لغات؛ أي على قدم الدهر ووجه الدهر‏.‏ واللام في قوله ‏}‏لمسجد‏}‏ لام قسم‏.‏ وقيل لام الابتداء؛ كما تقول‏:‏ لزيد أحسن الناس فعلا؛ وهي مقتضية تأكيدا‏.‏ ‏}‏أسس على التقوى‏}‏ نعت لمسجد‏.‏ ‏}‏أحق‏}‏ خبر الابتداء الذي هو ‏}‏لمسجد‏}‏ ومعنى التقوى هنا الخصال التي تتقى بها العقوبة، وهي فعلى من وقيت، وقد تقدم‏.‏

واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى؛ فقالت طائفة‏:‏ هو مسجد قباء؛ يروى عن ابن عباس والضحاك والحسن‏.‏ وتعلقوا بقول‏{‏من أول يوم‏}‏، ومسجد قباء كان أسس بالمدينة أول يوم؛ فإنه بني قبل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاله ابن عمر وابن المسيب، ومالك فيما رواه عنه ابن وهب وأشهب وابن القاسم‏.‏ وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري‏:‏ قال تماري رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم؛ فقال رجل هو مسجد قباء، وقال آخر هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هو مسجدي هذا‏)‏‏.‏ قال حديث صحيح‏.‏ والقول الأول أليق بالقصة؛ لقوله‏{‏فيه‏}‏ وضمير الظرف يقتضي الرجال المتطهرين؛ فهو مسجد قباء‏.‏ والدليل على ذلك حديث أبي هريرة قال‏:‏ نزلت هذه الآية في أهل قباء ‏}‏فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين‏}‏ قال‏:‏ كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية‏.‏ قال الشعبي‏:‏ هم أهل مسجد قباء، أنزل الله فيهم هذا‏.‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء‏:‏ ‏(‏إن الله سبحانه قد أحسن عليكم الثناء في التطهر فما تصنعون‏)‏ ‏؟‏ قالوا‏:‏ إنا نغسل أثر الغائط والبول بالماء؛ رواه أبو داود‏.‏ وروى الدارقطني عن طلحة بن نافع قال‏:‏ حدثني أبو أيوب وجابر بن عبدالله وأنس بن مالك الأنصاريون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ‏}‏فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين‏}‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم هذا‏)‏ ‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فهل مع ذلك من غيره‏)‏ ‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا غير، إن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏هو ذاك فعليكموه‏)‏‏.‏ وهذا الحديث يقتضي أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء، إلا أن حديث أبي سعيد الخدري نص فيه النبي صلى الله عليه وسلم على أنه مسجده فلا نظر معه‏.‏ وقد روى أبو كريب قال‏:‏ حدثنا أبو أسامة قال حدثنا صالح بن حيان قال حدثنا عبدالله بن بريدة في قوله عز وجل‏{‏في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه‏}‏النور‏:‏ 36‏]‏ قال‏:‏ إنما هي أربعة مساجد لم يبنهن إلا نبي‏:‏ الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وبيت أريحا بيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام، ومسجد المدينة ومسجد قباء اللذين أسسا على التقوى، بناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏من أول يوم‏}‏ ‏}‏من‏}‏ عند النحويين مقابلة منذ؛ فمنذ في الزمان بمنزلة من في المكان‏.‏ فقيل‏:‏ إن معناه هنا معنى منذ؛ والتقدير‏:‏ منذ أول يوم ابتدئ بنيانه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى من تأسيس أول الأيام، فدخلت على مصدر الفعل الذي هو أسس؛ كما قال‏:‏

لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج ومن دهر

أي من مر حجج ومن مر دهر‏.‏ وإنما دعا إلى هذا أن من أصول النحويين أن ‏}‏من‏}‏ لا يجر بها الأزمان، وإنما تجر الأزمان بمنذ، تقول ما رأيته منذ شهر أوسنة أو يوم، ولا تقول‏:‏ من شهر ولا من سنة ولا من يوم‏.‏ فإذا وقعت في الكلام وهي يليها زمن فيقدر مضمر يليق أن يجر بمن؛ كما ذكرنا في تقدير البيت‏.‏ ابن عطية‏.‏ ويحسن عندي أن يستغنى في هذه الآية عن تقدير، وأن تكون ‏}‏من‏}‏ تجر لفظة ‏}‏أول‏}‏ لأنها بمعنى البداءة؛ كأنه قال‏:‏ من مبتدأ الأيام‏.‏

قوله تعالى‏{‏أحق أن تقوم فيه‏}‏ أي بأن تقوم؛ فهو في موضع نصب‏.‏ و‏}‏أحق‏}‏ هو أفعل من الحق، وأفعل لا يدخل إلا بين شيئين مشتركين، لأحدهما في المعنى الذي اشتركا فيه مزية‏.‏ على الآخر؛ فمسجد الضرار وإن كان باطلا لاحق فيه، فقد اشتركا في الحق من جهة اعتقاد بانيه، أو من جهة اعتقاد من كان يظن أن القيام فيه جائز للمسجدية؛ لكن أحد الاعتقادين باطل باطنا عند الله، والآخر حق باطنا وظاهرا؛ ومثل هذا قوله تعالى‏{‏أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا‏}‏الفرقان‏:‏ 24‏]‏ ومعلوم أن الخيرية من النار مبعودة، ولكنه جرى على اعتقاد كل فرقة أنها على خير وأن مصيرها إليه خير؛ إذ كل حزب بما لديهم فرحون‏.‏ وليس هذا من قبيل‏:‏ العسل أحلى من الخل؛ فإن العسل وإن كان حلوا فكل شيء ملائم فهو حلو؛ ألا ترى أن من الناس من يقدم الخل على العسل مفردا بمفرد ومضافا إلى غيره بمضاف‏.‏

قوله تعالى‏{‏فيه‏}‏ من قال‏:‏ إن المسجد يراد به مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فالهاء في ‏}‏أحق أن تقوم فيه‏}‏ عائد إليه‏.‏ و‏}‏فيه رجال‏}‏ له أيضا‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه مسجد قباء، فالضمير في ‏}‏فيه‏}‏ عائد إليه على الخلاف المتقدم‏.‏

أثنى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على من أحب الطهارة وآثر النظافة، وهي مروءة آدمية ووظيفة شرعية؛ وفى الترمذي عن عائشة رضوان الله عليها أنها قالت‏:‏‏(‏مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم‏)‏‏.‏ قال‏:‏ حديث صحيح‏.‏ وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏كان يحمل الماء معه في الاستنجاء؛ فكان يستعمل الحجارة تخفيفا‏)‏ الماء تطهيرا‏.‏ ابن العربي‏:‏ وقد كان علماء القيروان يتخذون في متوضآتهم أحجارا في تراب ينقون بها ثم يستنجون بالماء‏.‏

اللازم من نجاسة المخرج التخفيف، وفي نجاسة سائر البدن والثوب التطهير‏.‏ وذلك رخصة من الله لعباده في حالتي وجود الماء وعدمه؛ وبه قال عامة العلماء‏.‏ وشذ ابن حبيب فقال‏:‏ لا يستجمر بالأحجار إلا عند عدم الماء‏.‏ والأخبار الثابتة في الاستجمار بالأحجار مع وجود الماء ترده‏.‏

واختلف العلماء من هذا الباب في إزالة النجاسة من الأبدان والثياب، بعد إجماعهم على التجاوز والعفو عن دم البراغيث ما لم يتفاحش على ثلاثة أقوال‏:‏ الأول‏:‏ أنه واجب فرض، ولا تجوز صلاة من صلى بثوب نجس عالما كان بذلك أو ساهيا؛ روي عن ابن عباس والحسن وابن سيرين، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور، ورواه ابن وهب عن مالك، وهو قول أبي الفرج المالكي والطبري؛ إلا أن الطبري قال‏:‏ إن كانت النجاسة قدر الدرهم أعاد الصلاة‏.‏ وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف في مراعاة قدر الدرهم قياسا على حلقة الدبر‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إزالة النجاسة واجبة بالسنة من الثياب والأبدان، وجوب سنة وليس بفرض‏.‏ قالوا‏:‏ ومن صلى بثوب نجس أعاد الصلاة في الوقت فإن خرج الوقت فلا شيء عليه؛ هذا قول مالك وأصحابه إلا أبا الفرج، ورواية ابن وهب عنه‏.‏ وقال مالك في يسير الدم‏:‏ لا تعاد منه الصلاة في الوقت ولا بعده، وتعاد من يسير البول والغائط؛ ونحو هذا كله من مذهب مالك قول الليث‏.‏ وقال ابن القاسم عنه‏:‏ تجب إزالتها في حالة الذكر دون النسيان؛ وهي من مفرداته‏.‏ والقول الأول أصح إن شاء الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال‏:‏‏(‏إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏ الحديث، خرجه البخاري ومسلم، وحسبك‏.‏ وسيأتي في سورة ‏[‏سبحان‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ ولا يعذب الإنسان إلا على ترك واجب؛ وهذا ظاهر‏.‏ وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أكثر عذاب القبر من البول‏)‏‏.‏ احتج الآخرون‏(‏بخلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه في الصلاة لما أعلمه جبريل عليه السلام أن فيهما قذرا وأذى‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ خرجه أبو داود وغيره من حديث أبي سعيد الخدري، وسيأتي في سورة ‏[‏طه‏]‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ قالوا‏:‏ ولما لم يعد ما صلى دل على أن إزالتها سنة وصلاته صحيحة، ويعيد ما دام في الوقت طلبا للكمال‏.‏ والله أعلم‏.‏

قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ وأما الفرق بين القليل والكثير بقدر الدرهم البغلي؛ يعني كبار الدراهم التي هي على قدر استدارة الدينار قياسا على المسربة ففاسد من وجهين؛ أحدهما‏:‏ أن المقدرات لا تثبت قياسا فلا يقبل هذا التقدير‏.‏ الثاني‏:‏ أن هذا الذي خفف عنه في المسربة رخصة للضرورة، والحاجة والرخص لا يقاس عليها؛ لأنها خارجة عن القياس فلا ترد إليه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 109 ‏)‏

‏{‏أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏أفمن أسس‏}‏ أي أصل، وهو استفهام معناه التقرير‏.‏ و‏}‏من‏}‏ بمعنى الذي، وهي في موضع رفع بالابتداء، وخبره ‏}‏خير‏}‏‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وجماعة ‏}‏أسس بنيانه‏}‏ على بناء أسس للمفعول ورفع بنيان فيهما‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وجماعة ‏}‏أسس بنيانه‏}‏ على بناء الفعل للفاعل ونصب بنيانه فيهما‏.‏ وهي اختيار أبي عبيد لكثرة من قرأ به، وأن الفاعل سمي فيه‏.‏ وقرأ نصر بن عاصم بن علي ‏}‏أفمن أسس‏}‏ بالرفع ‏}‏بنيانه‏}‏ بالخفض‏.‏ وعنه أيضا ‏}‏أساس بنيانه‏}‏ وعنه أيضا ‏}‏أس بنيانه‏}‏ بالخفض‏.‏ والمراد أصول البناء كما تقدم‏.‏ وحكى أبو حاتم قراءة سادسة وهي ‏}‏أفمن أساس بنيانه‏}‏ قال النحاس‏:‏ وهذا جمع أس؛ كما يقال‏:‏ خف وأخفاف، والكثير ‏}‏إساس‏}‏ مثل خفاف‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أصبح الملك ثابت الأساس في البهاليل من بني العباس

قوله تعالى‏{‏على تقوى من الله‏}‏ قراءة عيسى بن عمر - فيما حكى سيبويه - بالتنوين، والألف ألف إلحاق كألف تترى فيما نون، وقال الشاعر‏:‏

يستن في علقي وفي مكور

وأنكر سيبويه التنوين، وقال‏:‏ لا أدري ما وجهه‏.‏ ‏}‏على شفا‏}‏ الشفا‏:‏ الحرف والحد، وقد مضى في ‏(‏آل عمران‏)‏ مستوفى‏.‏ و‏}‏جرف‏}‏ قرئ برفع الراء، وأبو بكر وحمزة بإسكانها؛ مثل الشغل والشغل، والرسل والرسل، يعني جرفا ليس له أصل‏.‏ والجرف‏:‏ ما يتجرف بالسيول من الأودية، وهو جوانبه التي تنحفر بالماء، وأصله من الجرف والاجتراف؛ وهو اقتلاع الشيء من أصله‏.‏ ‏}‏هار‏}‏ ساقط؛ يقال‏.‏ تهور البناء إذا سقط، وأصله هائر، فهو من المقلوب يقلب وتؤخر ياؤها، فيقال‏:‏ هار وهائر، قال الزجاج‏.‏ ومثله لاث الشيء به إذا دار؛ فهو لاث أي لائث‏.‏ وكما قالوا‏:‏ شاكي السلاح وشائك السلاح‏.‏ قال العجاج‏:‏

لاث به الأشاء والعبري

الأشاء النخل، والعبري السدر الذي على شاطئ الأنهار‏.‏ ومعنى لاث به مطيف به‏.‏ وزعم أبو حاتم أن الأصل فيه هاور، ثم يقال هائر مثل صائم، ثم يقلب فيقال هار‏.‏ وزعم الكسائي أنه من ذوات الواو ومن ذوات الياء، وأنه يقال‏:‏ تهور وتهير‏.‏

قلت‏:‏ ولهذا يمال ومفتح‏.‏

قوله تعالى‏{‏فانهار به في نار جهنم‏}‏ فاعل انهار الجرف؛ كأنه قال‏:‏ فانهار الجرف بالبنيان في النار؛ لأن الجرف مذكر‏.‏ ويجوز أن يكون الضمير في به يعود على ‏}‏من‏}‏ وهو الباني؛ والتقدير‏:‏ فانهار من أسس بنيانه على غير تقوى‏.‏ وهذه الآية ضرب مثل لهم، أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق‏.‏ وبين أن بناء الكافر كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها‏.‏ والشفا‏:‏ الشفير‏.‏ وأشفى على كذا أي دنا منه‏.‏

في هذه الآية دليل على أن كل شيء ابتدئ بنية تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم فهو الذي يبقى ويسعد به صاحبه ويصعد إلى الله ويرفع إليه، ويخبر عنه بقوله‏{‏ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏}‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏ على أحد الوجهين‏.‏ ويخبر عنه أيضا بقوله‏{‏والباقيات الصالحات‏}‏الكهف‏:‏ 46‏]‏ على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

واختلف العلماء في قوله تعالى‏{‏فانهار به في نار جهنم‏}‏ هل ذلك حقيقة أو مجاز على قولين؛ ‏[‏الأول‏]‏ أن ذلك حقيقة وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أَرسل إليه فهُدم رئي الدخان يخرج منه؛ من رواية سعيد بن جبير‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة‏.‏ وذكر أهل التفسير أنه كان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان‏.‏ وروى عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ جهنم في الأرض، ثم تلا ‏}‏فانهار به في نار جهنم‏}‏‏.‏ وقال جابر بن عبدالله‏:‏ أنا رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏[‏والثاني‏]‏ أن ذلك مجاز، والمعنى‏:‏ صار البناء في نار جهنم، فكأنه انهار إليه وهوى فيه؛ وهذا كقوله تعالى‏{‏فأمه هاوية‏}‏القارعة‏:‏ 9‏]‏‏.‏ والظاهر الأول، إذ لا إحالة في ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 110 ‏)‏

‏{‏لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏لا يزال بنيانهم الذي بنوا‏}‏ يعني مسجد الضرار‏.‏ ‏}‏ريبة‏}‏ أي شكا في قلوبهم ونفاقا؛ قاله ابن عباس وقتادة والضحاك‏.‏ وقال النابغة‏:‏

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب

وقال الكلبي‏:‏ حسرة وندامة؛ لأنهم ندموا على بنيانه‏.‏ وقال السدي وحبيب والمبرد‏{‏ريبة‏}‏ أي حزازة وغيظا‏.‏ ‏}‏إلا أن تقطع قلوبهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي تنصدع قلوبهم فيموتوا؛ كقوله‏{‏لقطعنا منه الوتين‏}‏الحاقة‏:‏ 46‏]‏ لأن الحياة تنقطع بانقطاع الوتين؛ وقاله قتادة والضحاك ومجاهد‏.‏ وقال سفيان‏:‏ إلا أن يتوبوا‏.‏ عكرمة‏:‏ إلا أن تقطع قلوبهم في قبورهم، وكان أصحاب عبدالله بن مسعود يقرؤونها‏{‏ريبة في قلوبهم ولو تقطعت قلوبهم‏}‏‏.‏ وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم ‏}‏إلى أن تقطع‏}‏ على الغاية، أي لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبينوا‏.‏ واختلف القراء في قوله ‏}‏تقطع‏}‏ فالجمهور ‏}‏تقطع‏}‏ بضم التاء وفتح القاف وشد الطاء على الفعل المجهول‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب كذلك إلا أنهم فتحوا التاء‏.‏ وروي عن يعقوب وأبي عبدالرحمن ‏}‏تقطع‏}‏ على الفعل المجهول مخفف القاف‏.‏ وروي عن شبل وابن كثير ‏}‏تقطع‏}‏ خفيفة القاف ‏}‏قلوبهم‏}‏ نصبا، أي أنت تفعل ذلك بهم‏.‏ وقد ذكرنا قراءة أصحاب عبدالله‏.‏ ‏}‏والله عليم حكيم‏}‏ تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 111 ‏)‏

‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم‏}‏ قيل‏:‏ هذا تمثيل؛ مثل قوله تعالى‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏البقرة‏:‏ 16‏]‏‏.‏ ونزلت الآية في البيعة الثانية، وهي بيعة العقبة الكبرى، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين، وكان أصغرهم سنا عقبة بن عمرو؛ وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة، فقال عبدالله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اشترط لربك ولنفسك ما شئت؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فإذا فعلنا ذلك فما لنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الجنة‏)‏ قالوا‏:‏ ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل؛ فنزلت‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة‏}‏ الآية‏.‏ ثم هي بعد ذلك عامة في كل مجاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة‏.‏

هذه الآية دليل على جواز معاملة السيد مع عبده، وإن كان الكل للسيد لكن إذا ملكه عامله فيما جعل إليه‏.‏ وجائز بين السيد وعبده ما لا يجوز بينه وبين غيره؛ لأن ماله له وله انتزاعه‏.‏

أصل الشراء بين الخلق أن يعوضوا عما خرج من أيديهم ما كان أنفع لهم أو مثل ما خرج عنهم في النفع؛ فاشترى الله سبحانه من العباد إتلاف أنفسهم وأموالهم في طاعته، وإهلاكها في مرضاته، وأعطاهم سبحانه الجنة عوضا عنها إذا فعلوا ذلك‏.‏ وهو عوض عظيم لا يدانيه المعوض ولا يقاس به، فأجرى ذلك على مجاز ما يتعارفونه في البيع والشراء فمن العبد تسليم النفس والمال، ومن الله الثواب والنوال فسمي هذا شراء‏.‏ وروى الحسن قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن فوق كل بِرٍّ بِرٌّ حتى يبذل العبد دمه فإذا فعل ذلك فلا بر فوق ذلك‏)‏‏.‏ وقال الشاعر في معنى البر‏:‏

الجود بالماء جود فيه مكرمة والجود بالنفس أقصى غاية الجود

وأنشد الأصمعي لجعفر الصادق رضي الله عنه‏:‏

أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن

بها تشتري الجنات إن أنا بعتها بشيء سواها إن ذلكم غبن

لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن

قال الحسن‏:‏ ومر أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم‏}‏ فقال‏:‏ كلام من هذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏كلام الله‏)‏ قال‏:‏ بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله‏.‏ فخرج إلى الغزو واستشهد‏.‏

قال العلماء‏:‏ كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلفين كذلك اشترى من الأطفال فآلمهم وأسقمهم؛ لما في ذلك من المصلحة وما فيه من الاعتبار للبالغين، فإنهم لا يكونون عند شيء أكثر صلاحا وأقل فسادا منهم عند ألم الأطفال، وما يحصل للوالدين الكافلين من الثواب فيما ينالهم من الهم ويتعلق بهم من التربية والكفالة‏.‏ ثم هو عز وجل يعوض هؤلاء الأطفال عوضا إذا صاروا إليه‏.‏ ونظير هذا في الشاهد أنك تكتري الأجير ليبني وينقل التراب وفي كل ذلك له ألم وأذى، ولكن ذلك جائز لما في عمله من المصلحة ولما يصل إليه من الأجر‏.‏

قوله تعالى‏{‏يقاتلون في سبيل الله‏}‏ بيان لما يقاتل له وعليه؛ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏فيقتلون ويقتلون‏}‏ قرأ النخعي والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل؛ ومنه قول امرئ القيس‏:‏

فإن تقتلونا نقتلكم‏.‏‏.‏‏.‏

أي إن تقتلوا بعضنا يقتلكم بعضنا‏.‏ وقرأ الباقون بتقديم الفاعل على المفعول‏.‏

قوله تعالى‏{‏وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن‏}‏ إخبار من الله تعالى أن هذا كان في هذه الكتب، وأن الجهاد ومقاومة الأعداء أصله من عهد موسى عليه السلام‏.‏ و‏}‏وعدا‏}‏ و‏}‏حقا‏}‏ مصدران موكدان‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن أوفى بعهده من الله‏}‏ أي لا أحد أو في بعهده من الله‏.‏ وهو يتضمن الوفاء بالوعد والوعيد، ولا يتضمن وفاء البارئ بالكل؛ فأما وعده فللجميع، وأما وعيده فمخصوص ببعض المذنبين وببعض الذنوب وفي بعض الأحوال‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى مستوفى‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به‏}‏ أي أظهروا السرور بذلك‏.‏ والبشارة إظهار السرور في البشرة‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ والله ما على الأرض مؤمن إلا يدخل في هذه البيعة‏.‏ ‏}‏وذلك هو الفوز العظيم‏}‏ أي الظفر بالجنة والخلود فيها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 112 ‏)‏

‏{‏التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏التائبون العابدون‏}‏ التائبون هم الراجعون عن الحالة المذمومة في معصية الله إلى الحالة المحمودة في طاعة الله‏.‏ والتائب هو الراجع‏.‏ والراجع إلى الطاعة هو أفضل من الراجع عن المعصية لجمعه بين الأمرين‏.‏ ‏}‏العابدون‏}‏ أي المطيعون الذين قصدوا بطاعتهم الله سبحانه‏.‏ ‏}‏الحامدون‏}‏ أي الراضون بقضائه المصرفون نعمته في طاعته، الذين يحمدون الله على كل حال‏.‏ ‏}‏السائحون‏}‏ الصائمون؛ عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما‏.‏ ومنه قوله تعالى‏{‏عابدات سائحات‏}‏التحريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ إنما قيل للصائم سائح لأنه يترك اللذات كلها من المطعم والمشرب والمنكح‏.‏ وقال أبو طالب‏:‏

وبالسائحين لا يذوقون قطرة لربهم والذاكرات العوامل

وقال آخر‏:‏

برا يصلي ليله ونهاره يظل كثير الذكر لله سائحا

وروي عن عائشة أنها قالت‏:‏ سياحة هذه الأمة الصيام؛ أسنده الطبري‏.‏ ورواه أبو هريرة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏سياحة أمتي الصيام‏)‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومذهب الحسن أنهم الذين يصومون القرض‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنهم الذين يديمون الصيام‏.‏ وقال عطاء‏:‏ السائحون المجاهدون‏.‏ وروى أبو أمامة أن رجلا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال‏:‏ ‏(‏إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله‏)‏‏.‏ صححه أبو محمد عبدالحق‏.‏ وقيل‏:‏ السائحون المهاجرون قاله عبدالرحمن بن زيد‏.‏ وقيل‏:‏ هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم؛ قال عكرمة‏.‏ وقيل‏:‏ هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته وما خلق من العبر والعلامات الدالة على توحيده وتعظيمه حكاه النقاش وحكي أن بعض العباد أخذ القدح ليتوضأ لصلاة الليل فأدخل أصبعه في أذن القدح وقعد يتفكر حتى طلع الفجر فقيل له في ذلك فقال‏:‏ أدخلت أصبعي في أذن القدح فتذكرت قول الله تعالى‏{‏إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل‏}‏غافر‏:‏ 71‏]‏ وذكرت كيف أتلقى الغل وبقيت ليلي في ذلك أجمع‏.‏

قلت‏:‏ لفظ ‏}‏س ي ح‏}‏ يدل على صحة هذه الأقوال فإن السياحة أصلها الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء؛ فالصائم مستمر على الطاعة في ترك ما يتركه من الطعام وغيره فهو بمنزلة السائح‏.‏ والمتفكرون تجول قلوبهم فيما ذكروا‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغونني صلاة أمتي‏)‏ ويروى ‏}‏صياحين‏}‏ بالصاد، من الصياح‏.‏ ‏}‏الراكعون الساجدون‏}‏ يعني في الصلاة المكتوبة وغيرها‏.‏ ‏}‏الآمرون بالمعروف‏}‏ أي بالسنة، وقيل‏:‏ بالإيمان‏.‏ ‏}‏والناهون عن المنكر‏}‏ قيل‏:‏ عن البدعة‏.‏ وقيل‏:‏ عن الكفر‏.‏ وقيل‏:‏ هو عموم في كل معروف ومنكر‏.‏ ‏}‏والحافظون لحدود الله‏}‏ أي القائمون بما أمر به والمنتهون عما نهى عنه‏.‏

واختلف أهل التأويل في هذه الآية هل هي متصلة بما قبل أو منفصلة فقال جماعة‏:‏ الآية الأولى مستقلة بنفسها يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية الثانية أو بأكثرها‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هذه الأوصاف جاءت على جهة الشرط والآيتان مرتبطتان فلا يدخل تحت المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف ويبذلون أنفسهم في سبيل الله قاله الضحاك‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا القول تحريج وتضييق ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى مرتبة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الذي عندي أن قوله‏{‏التائبون العابدون‏}‏ رفع بالابتداء وخبره مضمر؛ أي التائبون العابدون - إلى آخر الآية - لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا إذ لم يكن منهم عناد وقصد إلى ترك الجهاد لأن بعض المسلمين يجزي عن بعض في الجهاد‏.‏ واختار هذا القول القشيري وقال‏:‏ وهذا حسن إذ لو كان صفة للمؤمنين المذكورين في قوله‏{‏اشترى من المؤمنين‏}‏ لكان الوعد خاصا للمجاهدين‏.‏ وفي مصحف عبدالله ‏}‏التائبين العابدين‏}‏ إلى آخرها؛ ولذلك وجهان‏:‏ أحدهما الصفة للمؤمنين على الإتباع‏.‏ والثاني النصب على المدح‏.‏

واختلف العلماء في الواو في قوله‏{‏والناهون عن المنكر‏}‏ فقيل‏:‏ دخلت في صفة الناهين كما دخلت في قوله تعالى‏{‏حم‏.‏ تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم‏.‏ غافر الذنب‏.‏ وقابل التوب‏}‏غافر‏:‏ 1، 2، 3‏]‏ فذكر بعضها بالواو والبعض بغيرها‏.‏ وهذا سائغ معتاد في الكلام ولا يطلب لمثله حكمة ولا علة‏.‏ وقيل‏:‏ دخلت لمصاحبة الناهي عن المنكر الآمر بالمعروف فلا يكاد يذكر واحد منها مفردا‏.‏ وكذلك قوله‏{‏ثيبات وأبكارا‏}‏التحريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ودخلت في قوله‏{‏والحافظون‏}‏ لقربه من المعطوف‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنها زائدة، وهذا ضعيف لا معنى له‏.‏ وقيل‏:‏ هي واو الثمانية لأن السبعة عند العرب عدد كامل صحيح‏.‏ وكذلك قالوا في قوله‏{‏ثيبات وأبكارا‏}‏التحريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقول في أبواب الجنة‏{‏وفتحت أبوابها‏}‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ وقوله‏{‏ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم‏}‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ وقد ذكرها ابن خالويه في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله‏{‏وفتحت أبوابها‏}‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ وأنكرها أبو علي‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وحدثني أبي رضي الله عنه عن الأستاذ النحوي أبي عبدالله الكفيف المالقي، وكان ممن استوطن غرناطة وأقرأ فيها في مدة ابن حبوس أنه قال‏:‏ هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدوا‏:‏ واحد اثنان ثلاثة أربعة خمس ستة سبعة وثمانية تسعة عشرة وهكذا هي لغتهم‏.‏ ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو‏.‏ قلت‏:‏ هي لغة قريش‏.‏ وسيأتي بيانه ونقضه في سورة ‏[‏الكهف‏]‏ إن شاء الله تعالى وفي ‏}‏الزمر‏]‏ أيضا بحول الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 113 ‏)‏

‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم‏}‏

روى مسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال‏:‏ لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله‏)‏ فقال أبو جهل وعبدالله بن أمية‏:‏ يا أبا طالب أترغب عن ملة عبدالمطلب‏.‏ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم‏:‏ هو على ملة عبدالمطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك‏)‏ فأنزل الله عز وجل‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم‏}‏ وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏{‏إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين‏}‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏ فالآية على هذا ناسخة لاستغفار النبي صلى الله عليه سلم لعمه فإنه استغفر له بعد موته على ما روي في غير الصحيح‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ وهذا بعيد لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة‏.‏

هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز‏.‏ فإن قيل‏:‏ فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد حين كسروا رباعيته وشجوا وجهه‏:‏ ‏(‏اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏)‏ فكيف يجتمع هذا مع منع الله تعالى رسوله والمؤمنين من طلب المغفرة للمشركين‏.‏ قيل له‏:‏ إن ذلك القول من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء والدليل عليه ما رواه مسلم عن عبدالله قال‏:‏ كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول‏:‏ ‏(‏رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏)‏‏.‏ وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر نبيا قبله شجه قومه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنه بأنه قال‏:‏ ‏(‏اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا صريح في الحكاية عمن قبله، لا أنه قاله ابتداء عن نفسه كما ظنه بعضهم‏.‏ والله أعلم‏.‏ والنبي الذي حكاه هو نوح عليه السلام؛ على ما يأتي بيانه في سورة ‏[‏هود‏]‏ إن شاء الله‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد بالاستغفار في الآية الصلاة‏.‏ قال بعضهم‏:‏ ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ولو كانت حبشية حبلى من الزنى لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين بقوله‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏}‏ الآية‏.‏ قال عطاء بن أبي رباح‏:‏ الآية في النهي عن الصلاة على المشركين والاستغفار هنا يراد به الصلاة‏.‏ جواب ثالث‏:‏ وهو أن الاستغفار للأحياء جائز لأنه مرجو إيمانهم ويمكن تألفهم بالقول الجميل وترغيبهم في الدين‏.‏ وقد قال كثير من العلماء‏:‏ لا بأس أن يدعو الرجل لأبويه الكافرين ويستغفر لهما ما داما حيين‏.‏ فأما من مات فقد انقطع عنه الرجاء فلا يدعي له‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا يستغفرون لموتاهم فنزلت فأمسكوا عن الاستغفار ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا‏.‏

قال أهل المعاني‏{‏ما كان‏}‏ في القرآن يأتي على وجهين‏:‏ على النفي نحو قوله‏{‏ما كان لكم أن تنبتوا شجرها‏}‏النمل‏:‏ 60‏]‏، ‏}‏وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله‏}‏آل عمران‏:‏ 145‏]‏‏.‏ والآخر بمعنى النهي كقوله‏{‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله‏}‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏، و‏}‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 114 ‏)‏

‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم‏}‏

روى النسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت‏:‏ أتستغفر لهما وهما مشركان‏؟‏ فقال‏:‏ أو لم يستغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه‏.‏ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فنزلت‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه فإن ذلك لم يكن إلا عن عدة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم الخليل أن يؤمن بالله ويخلع الأنداد فلما مات على الكفر علم أنه عدو الله فترك الدعاء له فالكناية في قوله‏{‏إياه‏}‏ ترجع إلى إبراهيم والواعد أبوه‏.‏ وقيل‏:‏ الواعد إبراهيم أي وعد إبراهيم أباه أن يستغفر له فلما مات مشركا تبرأ منه‏.‏ ودل على هذا الوعد قوله‏{‏سأستغفر لك ربي‏}‏مريم‏:‏ 47‏]‏‏.‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ تعلق النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأبي طالب بقوله تعالى‏{‏سأستغفر لك ربي‏}‏مريم‏:‏ 47‏]‏ فأخبره الله تعالى أن استغفار إبراهيم لأبيه كان وعدا قبل أن يتبين الكفر منه فلما تبين له الكفر منه تبرأ منه فكيف تستغفر أنت لعمك يا محمد وقد شاهدت موته كافرا‏.‏

ظاهر حالة المرء عند الموت يحكم عليه بها فإن مات على الإيمان حكم له به وإن مات على الكفر حكم له به وربك أعلم بباطن حاله بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له العباس‏:‏ يا رسول الله هل نفعت عمك بشيء‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ وهذه شفاعة في تخفيف العذاب لا في الخروج من النار على ما بيناه في كتاب ‏}‏التذكرة‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن إبراهيم لأواه حليم‏}‏ اختلف العلماء في الأواه على خمسة عشر قولا‏:‏

‏[‏الأول‏]‏ أنه الدَّعّاء الذي يكثر الدُّعاء؛ قاله ابن مسعود وعبيد بن عمير‏.‏ الثاني‏:‏ أنه الرحيم بعباد الله قاله الحسن وقتادة، وروي عن ابن مسعود‏.‏ والأول أصح إسنادا عن ابن مسعود قاله النحاس‏.‏ الثالث‏:‏ إنه الموقن قاله عطاء وعكرمة ورواه أبو ظبيان عن ابن عباس‏.‏ الرابع‏:‏ أنه المؤمن بلغة الحبشة قاله ابن عباس أيضا‏.‏ ‏[‏الخامس‏]‏ أنه المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة؛ قاله الكلبي وسعيد بن المسيب‏.‏ ‏[‏السادس‏]‏ أنه الكثير الذكر لله تعالى قاله عقبة بن عامر وذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل يكثر ذكر الله ويسبح فقال‏:‏ ‏(‏إنه لأواه‏)‏‏.‏

‏[‏السابع‏]‏ أنه الذي يكثر تلاوة القرآن‏.‏ وهذا مروي عن ابن عباس‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الأقوال متداخلة وتلاوة القرآن يجمعها‏.‏

‏[‏الثامن‏]‏ أنه المتأوه؛ قاله أبو ذر وكان إبراهيم عليه السلام يقول‏:‏ ‏(‏آه من النار قبل ألا تنفع آه‏)‏‏.‏ وقال أبو ذر‏:‏ كان رجل يكثر الطواف بالبيت ويقول في دعائه‏:‏ أوه أوه؛ فشكاه أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏دعه فإنه أواه‏)‏ فخرجت ذات ليلة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح‏.‏ ‏[‏التاسع‏]‏ أنه الفقيه قاله مجاهد والنخعي‏.‏ ‏[‏العاشر‏]‏ أنه المتضرع الخاشع رواه عبدالله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال أنس‏:‏ تكلمت امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم بشيء كرهه فنهاها عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دعوها فإنها أواهة‏)‏ قيل‏:‏ يا رسول الله، وما الأواهة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الخاشعة‏)‏‏.‏ ‏[‏الحادي عشر‏]‏ أنه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها قاله أبو أيوب‏.‏ ‏[‏الثاني عشر‏]‏ أنه الكثير التأوه من الذنوب قال الفراء‏.‏ ‏[‏الثالث عشر‏]‏ أنه المعلم للخير قاله سعيد بن جبير‏.‏ ‏[‏الرابع عشر‏]‏ أنه الشفيق قاله عبدالعزيز بن يحيى‏.‏ وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يسمى الأواه لشفقته ورأفته‏.‏ ‏[‏الخامس عشر‏]‏ أنه الراجع عن كل ما يكره الله تعالى قاله عطاء وأصله من التأوه، وهو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء‏.‏ قال كعب‏:‏ كان إبراهيم عليه السلام إذا ذكر النار تأوه‏.‏ قال الجوهري‏:‏ قولهم عند الشكاية أوه من كذا ساكنة الواو إنما هو توجع‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها ومن ب عد أرض بيننا وسماء

وربما قلبوا الواو ألفا فقالوا‏:‏ آه من كذا‏.‏ وربما شددوا الواو وكسروها وسكنوا الهاء فقالوا‏:‏ أوه من كذا‏.‏ وربما حذفوا مع التشديد الهاء فقالوا‏:‏ أو من كذا بلا مد‏.‏ وبعضهم يقول‏:‏ آوه بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاء لتطويل الصوت بالشكاية‏.‏ وربما أدخلوا فيها التاء فقالوا‏:‏ أوتاه يمد ولا يمد‏.‏ وقد أوه الرجل تأويها وتأوه تأوها إذا قال أوه، والاسم منه الآهة بالمد‏.‏ قال المثقب العبدي‏:‏

إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين

والحليم‏:‏ الكثير الحلم وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الأذى‏.‏ وقيل‏:‏ الذي لم يعاقب أحدا قط إلا في الله ولم ينتصر لأحد إلا لله‏.‏ وكان إبراهيم عليه السلام كذلك وكان إذا قام يصلي سمع وجيب قلبه على ميلين‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 115 ‏)‏

‏{‏وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم‏}‏ أي ما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى حتى يبين لهم ما يتقون فلا يتقوه فعند ذلك يستحقون الإضلال‏.‏

قلت‏:‏ ففي هذا أدل دليل على أن المعاصي إذا ارتكب وانتهك حجابها كانت سببا إلى الضلالة والردى وسلما إلى ترك الرشاد والهدى‏.‏ نسأل الله السداد والتوفيق والرشاد بمنه‏.‏ وقال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله في قوله‏{‏حتى يبين لهم‏}‏ أي حتى يحتج عليهم بأمره؛ كما قال‏{‏وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها‏}‏الإسراء‏:‏ 16‏]‏ وقال مجاهد‏{‏حتى يبين لهم‏}‏ أي أمر إبراهيم ألا يستغفروا للمشركين خاصة ويبين لهم الطاعة والمعصية عامة‏.‏ وروي انه لما نزل تحريم الخمر وشدد فيها سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عمن مات وهو يشربها فأنزل الله تعالى‏{‏وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون‏}‏ وهذه الآية رد على المعتزلة وغيرهم الذين يقولون بخلق هداهم وإيمانهم كما تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 116 ‏)‏

‏{‏إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير‏}‏

تقدم معناه غير مرة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 117 ‏)‏

‏{‏لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم‏}‏

روى الترمذي‏:‏ حدثنا عبد بن حميد حدثنا عبدالرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال‏:‏ لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك إلا بدرا ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحدا تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغوثين لعيرهم فالتقوا عن غير موعد كما قال الله تعالى ولعمري إن أشرف مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لبدر وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ثم لم أتخلف بعد عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها وآذن النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل فذكر الحديث بطول قال‏:‏‏(‏فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر وكان إذا سر بالأمر استنار فجئت فجلست بين يديه فقال‏:‏ ‏(‏أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم أتي عليك منذ ولدتك أمك‏)‏ فقلت‏:‏ يا نبي الله أمن عند الله أم من عندك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بل من عند الله - ثم تلا هذه الآية - ‏}‏لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة - حتى بلغ - إن الله هو التواب الرحيم‏}‏ قال‏:‏ وفينا أنزلت أيضا ‏}‏اتقوا الله وكونوا مع الصادقين‏}‏التوبة‏:‏ 119‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ وسيأتي بكمال من صحيح مسلم في قصة الثلاثة إن شاء الله تعالى‏.‏

واختلف العلماء في هذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار على أقوال فقال ابن عباس‏:‏ كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود دليله قوله‏{‏عفا الله عنك لم أذنت لهم‏}‏التوبة‏:‏ 43‏]‏ وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه‏.‏ وقيل‏:‏ توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة‏.‏ وقيل‏:‏ خلاصهم من نكاية العدو، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه وهو الرجوع إلى الحال الأولى‏.‏ وقال أهل المعاني‏:‏ إنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في التوبة لأنه لما كان سبب توبتهم ذكر معهم كقوله‏{‏فأن لله خمسه وللرسول‏}‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏الذين اتبعوه في ساعة العسرة‏}‏ أي في وقت العسرة، والمراد جميع أوقات تلك الغزاة ولم يرد ساعة بعينها‏.‏ وقيل‏:‏ ساعة العسرة أشد الساعات التي مرت بهم في تلك الغزاة‏.‏ والعسرة صعوبة الأمر‏.‏ قال جابر‏:‏ اجتمع عليهم عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء‏.‏ قال الحسن‏:‏ كانت العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم وكان زادهم التمر المتسوس والشعير المتغير والإهالة المنتنة وكان النفر يخرجون ما معهم - إلا التمرات - بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه حتى يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى تأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم‏.‏ وقال عمر رضي الله عنه وقد سئل عن ساعة العسرة‏:‏‏(‏خرجنا في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع من العطش، وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أتحب ذلك‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى أظلت السماء ثم سكبت فملؤوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر‏)‏‏.‏ وروى أبو هريرة وأبو سعيد قالا‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأصاب الناس مجاعة وقالوا‏:‏ يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وأدهنا‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏افعلوا‏)‏ فجاء عمر وقال‏:‏ يا رسول الله إن فعلوا قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم فادع الله عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك البركة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ ثم دعا بنطع فبسط ثم دعا بفضل الأزواد فجعل الرجل يجيء بكف ذرة ويجيء الآخر بكف تمر ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير‏.‏ قال أبو هريرة‏:‏ فحزرته فإذا هو قدر ربضة العنز فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏خذوا في أوعيتكم‏)‏ فأخذوا في أوعيتهم حتى - والذي لا إله إلا هو - ما بقي في العسكر وعاء إلا ملؤوه، وأكل القوم حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقي الله بهما عبد شاك فيهما فيحجب عن الجنة‏)‏‏.‏ خرجه مسلم في صحيحه بلفظه ومعناه، والحمد لله‏.‏

وقال ابن عرفة‏:‏ سمي جيش تبوك جيش العسرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى الغزو في حمارة القيظ، فغلظ عليهم وعسر، وكان إبان ابتياع الثمرة‏.‏ قال‏:‏ وإنما ضرب المثل بجيش العسرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغز قبله في عدد مثله لأن أصحابه يوم بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ويوم أحد سبعمائة ويوم خيبر ألفا وخمسمائة ويوم الفتح عشرة آلاف ويوم حنين اثني عشر ألفا وكان جيشه في غزوة تبوك ثلاثين ألفا وزيادة، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب وأقام بتبوك شعبان وأياما من رمضان وبث سراياه وصالح أقواما على الجزية‏.‏ وفي هذه الغزاة خلف عليا على المدينة فقال المنافقون‏:‏ خلفه بغضا له؛ فخرج خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى‏)‏ وبين أن قعوده بأمره عليه السلام يوازي في الأجر خروجه معه لأن المدار على أمر الشارع‏.‏ وإنما قيل لها‏:‏ غزوة تبوك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما من أصحابه يبوكون حسي تبوك أي يدخلون فيه القدح ويحركونه ليخرج الماء، فقال‏:‏ ‏(‏ما زلتم تبوكونها بوكا‏)‏ فسميت تلك الغزوة غزوة تبوك‏.‏ الحسي بالكسر ما تنشفه الأرض من الرمل فإذا صار إلى صلابة أمسكته فتحفر عنه الرمل فتستخرجه وهو الاحتساء قاله الجوهري‏.‏

قوله تعالى‏{‏من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم‏}‏ ‏}‏قلوب‏}‏ رفع بـ ‏}‏تزيغ‏}‏ عند سيبويه‏.‏ ويضمر في ‏}‏كاد‏}‏ الحديث تشبيها بكان؛ لأن الخبر يلزمها كما يلزم كان‏.‏ وإن شئت رفعتها بكاد، ويكون التقدير‏:‏ من بعد ما كان قلوب فريق منهم تزيغ‏.‏ وقرأ الأعمش وحمزة وحفص ‏}‏يزيغ‏}‏ بالياء، وزعم أبو حاتم أن من قرأ ‏}‏يزيغ‏}‏ بالياء فلا يجوز له أن يرفع القلوب بكاد‏.‏ قال النحاس‏:‏ والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجميع‏.‏ حكى الفراء رحب البلاد وأرحبت، ورحبت لغة أهل الحجاز واختلف في معنى تزيغ، فقيل‏:‏ تتلف بالجهد والمشقة والشدة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ تعدل - أي تميل - عن الحق في الممانعة والنصرة‏.‏ وقيل‏:‏ من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به وقيل‏:‏ هموا بالقفول فتاب الله عليهم وأمرهم به‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم تاب عليهم‏}‏ قيل‏:‏ توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم‏.‏ وينشد‏:‏

منك أرجو ولست أعرف ربا يرتجى منه بعض ما منك أرجو

وإذا اشتدت الشدائد في الأرض على الخلق فاستغاثوا وعجوا

وابتليت العباد بالخوف والجوع وصروا على الذنوب ولجوا

لم يكن لي سواك ربي ملاذ فتيقنت أنني بك أنجو

وقال في حق الثلاثة‏{‏ثم تاب عليهم ليتوبوا‏}‏ فقيل‏:‏ معنى ‏}‏ثم تاب عليهم‏}‏ أي وفقهم للتوبة ليتوبوا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى تاب عليهم؛ أي فسح لهم ولم يعجل عقابهم ليتوبوا‏.‏ وقيل‏:‏ تاب عليهم ليثبتوا على التوبة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى تاب عليهم ليرجعوا إلى حال الرضا عنهم‏.‏ وبالجملة فلولا ما سبق لهم في علمه أنه قضى لهم بالتوبة ما تابوا؛ دليله قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 118 ‏)‏

‏{‏وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وعلى الثلاثة الذين خلفوا‏}‏ قيل‏:‏ عن التوبة عن مجاهد وأبي مالك‏.‏ وقال قتادة‏:‏ عن غزوة تبوك‏.‏ وحكي عن محمد بن زيد معنى ‏}‏خلفوا‏}‏ تركوا؛ لأن معنى خلفت فلانا تركته وفارقته قاعدا عما نهضت فيه‏.‏ وقرأ عكرمة بن خالد ‏}‏خلفوا‏}‏ أي أقاموا بعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروي عن جعفر بن محمد أنه قرأ ‏}‏خالفوا‏}‏‏.‏ وقيل‏{‏خلفوا‏}‏ أي أرجئوا وأخروا عن المنافقين فلم يقض فيهم بشيء‏.‏ وذلك أن المنافقين لم تقبل توبتهم، واعتذر أقوام فقبل عذرهم، وأخر النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الثلاثة حتى نزل فيهم القرآن‏.‏ وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم والبخاري وغيرهما‏.‏ واللفظ لمسلم قال كعب‏:‏ كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه؛ فبذلك قال الله عز وجل‏{‏وعلى الثلاثة الذين خلقوا‏}‏ وليس الذي ذكر الله مما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه‏.‏ وهذا الحديث فيه طول، هذا آخره‏.‏

والثلاثة الذين خلفوا هم‏:‏ كعب بن مالك ومرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي وكلهم من الأنصار‏.‏ وقد خرج البخاري ومسلم حديثهم، فقال مسلم عن كعب بن مالك قال‏:‏ لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنه إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك‏:‏ أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل عدوا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد بذلك الديوان - قال كعب‏:‏ فقل رجل يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله تعالى وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا وأقول في نفسي‏:‏ أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل كذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أترحل فأدركهم فيا ليتني فعلت ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك‏:‏ ‏(‏ما فعل كعب بن مالك‏)‏‏؟‏ فقال رجل من بني سلمة‏:‏ يا رسول الله، حبسه برداه والنظر في عطفيه‏.‏ فقال له معاذ بن جبل‏:‏ بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا‏.‏ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيضا يزول به السراب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كن أبا خيثمة‏)‏ فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري وهو الذي تصدق بصاع التمر حتى لمزه المنافقون‏.‏ فقال كعب بن مالك‏:‏ فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي فطفقت أتذكر الكذب وأقول‏:‏ بم أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي فلما قيل لي‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه، وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال‏:‏ ‏(‏تعال‏)‏ فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي‏:‏ ‏(‏ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك‏)‏‏.‏ فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي‏:‏ والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا لقد عجزت في ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المتخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك قال‏:‏ فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي‏.‏ قال‏:‏ ثم قلت لهم هل لقي هذا معي من أحد‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك‏.‏ قال قلت‏:‏ من هما‏؟‏ قالوا‏:‏ مرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي‏.‏ قال‏:‏ فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة؛ قال‏:‏ فمضيت حين ذكروهما لي‏.‏

قال‏:‏ ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه‏.‏ قال‏:‏ فاجتنبنا الناس‏.‏ وقال‏:‏ وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة؛ فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي‏:‏ هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت له‏:‏ يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمن أني أحب الله ورسوله‏؟‏ قال‏:‏ فسكت فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال‏:‏ الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطيٌ من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول‏:‏ من يدل على كعب بن مالك‏؟‏ قال‏:‏ فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه‏:‏ أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك‏.‏ قال فقلت، حين قرأتها‏:‏ وهذه أيضا من البلاء فتياممت بها التنور فسجرته بها حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك‏.‏ قال فقلت‏:‏ أطلقها أم ماذا أفعل‏؟‏ قال‏:‏ لا بل اعتزلها فلا تقربنها‏.‏ قال‏:‏ فأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك‏.‏ قال فقلت لامرأتي‏:‏ الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر‏.‏ قال‏:‏ فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له‏:‏ يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا ولكن لا يقربنك‏)‏ فقالت‏:‏ إنه والله ما به حركة إلى شيء ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا‏.‏ قال‏:‏ فقال بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه‏.‏ قال فقلت‏:‏ لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب قال‏:‏ فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا‏.‏

قال‏:‏ ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته‏:‏ يا كعب بن مالك أبشر‏.‏ قال‏:‏ فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج‏.‏ قال‏:‏ فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إلي فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ويقولون‏:‏ لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيدالله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام رجل من المهاجرين غيره‏.‏ قال‏:‏ فكان كعب لا ينساها لطلحة‏.‏ قال كعب‏:‏ فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور ويقول‏:‏ ‏(‏أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فقلت أمن عند الله يا رسول الله أم من عندك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا بل من عند الله‏)‏‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر‏.‏ قال‏:‏ وكنا نعرف ذلك‏.‏ قال‏:‏ فلما جلست بين يديه قلت‏:‏ يا رسول الله، إن من توبة الله علي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك‏)‏‏.‏ قال فقلت‏:‏ فإني أمسك سهمي الذي بخيبر‏.‏ قال وقلت‏:‏ يا رسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت‏.‏ قال‏:‏ فوالله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا وإني لأرجو الله أن يحفظني فيما بقي فأنزل الله عز وجل‏{‏لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين أتبعوه في ساعة العسرة - حتى بلغ - إنه بهم رؤوف رحيم‏.‏ وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم - حتى بلغ - اتقوا الله وكونوا مع الصادقين‏}‏‏.‏ قال كعب‏:‏ والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، وقال الله تعالى‏{‏سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنه فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون‏.‏ يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين‏}‏التوبة‏:‏ 95 - 96‏]‏‏.‏ قال كعب‏:‏ كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل‏{‏وعلى الثلاثة‏}‏ وليس الذي ذكر الله مما خُلفنا تَخَلُفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه‏.‏

قوله تعالى‏{‏حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت‏}‏ أي بما اتسعت يقال‏:‏ منزل رجب ورحيب ورحاب‏.‏ و‏}‏ما‏}‏ مصدرية؛ أي ضاقت عليهم الأرض برحبها، لأنهم كانوا مهجورين لا يعاملون ولا يكلمون‏.‏ وفي هذا دليل على هجران أهل المعاصي حتى يتوبوا‏.‏ ‏}‏وضاقت عليهم أنفسهم‏}‏ أي ضاقت صدورهم بالهم والوحشة، ‏}‏وبما لقوه من الصحابة من الجفوة‏.‏ ‏}‏وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه‏}‏ أي تيقنوا أن لا ملجأ يلجؤون إليه في الصفح عنهم وقبول التوبة منهم إلا إليه‏.‏ قال أبو بكر الوراق‏.‏ التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه؛ كتوبة كعب وصاحبيه‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم‏}‏ فبدأ بالتوبة منه‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ غلطت في أربعة أشياء‏:‏ في الابتداء مع الله تعالى، ظننت أني أحبه فإذا هو أحبني؛ قال الله تعالى‏{‏يحبهم ويحبونه‏}‏المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وظننت أني أرضى عنه فإذا هو قد رضي عني؛ قال الله تعالى‏{‏رضي الله عنهم ورضوا عنه‏}‏المائدة‏:‏ 119‏]‏‏.‏ وظننت أني أذكره فإذا هو يذكرني؛ قال الله تعالى‏{‏ولذكر الله أكبر‏}‏‏.‏ وظننت أني أتوب فإذا هو قد تاب على؛ قال الله تعالى‏{‏ثم تاب عليهم ليتوبوا‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ثم تاب عليهم ليثبتوا على التوبة؛ كما قال تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا آمنوا‏}‏النساء‏:‏ 136‏]‏ وقيل‏:‏ أي فسح لهم ولم يعجل عقابهم كما فعل بغيرهم؛ قال جل وعز‏{‏فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم‏}‏النساء‏:‏ 160‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 119 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكونوا مع الصادقين‏}‏ هذا الأمر بالكون مع أهل الصدق حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين‏.‏ قال مطرف‏:‏ سمعت مالك بن أنس يقول‏:‏ قلما كان رجل صادقا لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف‏.‏

واختلف في المراد هنا بالمؤمنين والصادقين على أقوال؛ فقيل‏:‏ هو خطاب لمن آمن من أهل الكتاب‏.‏ وقيل‏:‏ هو خطاب لجميع المؤمنين؛ أي اتقوا مخالفة أمر الله ‏}‏وكونوا مع الصادقين‏}‏ أي مع الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا مع المنافقين‏.‏ أي كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم‏.‏ وقيل‏:‏ هم الأنبياء؛ أي كونوا معهم بالأعمال الصالحة في الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ هم المراد بقوله‏{‏ليس البر أن تولوا وجوهكم - الآية إلى قوله - أولئك الذين صدقوا‏}‏البقرة‏:‏ 177‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ هم الموفون بما عاهدوا؛ وذلك لقوله تعالى‏{‏رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه‏}‏ وقيل‏:‏ هم المهاجرون؛ لقول أبي بكر يوم السقيفة إن الله سمانا الصادقين فقال‏{‏للفقراء المهاجرين‏}‏الحشر‏:‏ 8‏]‏ الآية، ثم سماكم بالمفلحين فقال‏{‏والذين تبوؤوا الدار والإيمان‏}‏الحشر‏:‏ 9‏]‏ الآية‏.‏ وقيل‏:‏ هم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا القول هو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى فإن هذه الصفة يرتفع بها النفاق في العقيدة والمخالفة في الفعل، وصاحبها يقال له الصديق كأبي بكر وعمر وعثمان ومن دونهم على منازلهم وأزمانهم‏.‏ وأما من قال‏:‏ إنهم المراد بآية البقرة فهو معظم الصدق ومتبعه الأقل وهو معنى آية الأحزاب‏.‏ وأما تفسير أبي بكر الصديق فهو الذي يعم الأقوال كلها فإن جميع الصفات فيهم موجودة‏.‏

حق من فهم عن الله وعقل عنه أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء، في الأحوال، فمن كان كذلك لحق بالأبرار ووصل إلى رضا الغفار؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا‏)‏‏.‏ والكذب على الضد من ذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا‏)‏ خرجه مسلم‏.‏ فالكذب عار وأهله مسلوبو الشهادة، وقد رد صلى الله عليه وسلم شهادة رجل في كذبة كذبها‏.‏ قال معمر‏:‏ لا أدري أكذب على الله أو كذب على رسوله أو كذب على أحد من الناس‏.‏ وسئل شريك بن عبدالله فقيل له‏:‏ يا أبا عبدالله، رجل سمعته يكذب متعمدا أأصلي خلفه‏؟‏ قال لا‏.‏ وعن ابن مسعود قال‏:‏ إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم شيئا ثم لا ينجزه، أقرؤوا إن شئتم ‏}‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين‏}‏ هل ترون في الكذب رخصة‏؟‏ وقال مالك‏:‏ لا يقبل خبر الكاذب في حديث الناس وإن صدق في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال غيره‏:‏ يقبل حديثه‏.‏ والصحيح أن الكاذب لا تقبل شهادته ولا خبره لما ذكرناه؛ فإن القبول مرتبة عظيمة وولاية شريفة لا تكون إلا لمن كملت خصاله ولا خصلة هي أشر من الكذب فهي تعزل الولايات وتبطل الشهادات‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 120 ‏:‏ 121 ‏)‏

‏{‏ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله‏}‏ ظاهره خبر ومعناه أمر؛ كقوله‏{‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله‏}‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏أن يتخلفوا‏}‏ في موضع رفع اسم كان‏.‏ وهذه معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها؛ كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم على التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك‏.‏ والمعنى‏:‏ ما كان لهؤلاء المذكورين أن يتخلفوا؛ فإن النفير كان فيهم، بخلاف غيرهم فإنهم لن يستنفروا؛ في قول بعضهم‏.‏ ويحتمل أن يكون الاستنفار في كل مسلم، وخصى هؤلاء بالعتاب لقربهم وجوارهم، وأنهم أحق بذلك من غيرهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه‏}‏ أي لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المشقة‏.‏ يقال‏:‏ رغبت عن كذا أي ترفعت عنه‏.‏ ‏}‏ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ‏}‏ أي عطش‏.‏ وقرأ عبيد بن عمير ‏}‏ظماء‏}‏ بالمد‏.‏ وهما لغتان مثل خطأ وخطاء‏.‏ ‏}‏ولا نصب‏}‏ عطف، أي تعب، ولا زائدة للتوكيد‏.‏ وكذا ‏}‏ولا مخمصة‏}‏ أي مجاعة‏.‏ وأصله ضمور البطن؛ ومنه رجل خميص وامرأة خمصانة‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏في سبيل الله‏}‏ أي في طاعته‏.‏ ‏}‏ولا يطؤون موطئا‏}‏ أي أرضا‏.‏ ‏}‏يغيظ الكفار‏}‏ أي بوطئهم إياها، وهو في موضع نصب لأنه نعت للموطئ، أي غائظا‏.‏ ‏}‏ولا ينالون من عدو نيلا‏}‏ أي قتلا وهزيمة‏.‏ وأصله من نلت الشيء أنال أي أصبت‏.‏ قال الكسائي‏:‏ هو من قولهم أمر منيل منه؛ وليس هو من التناول، إنما التناول من نلته العطية‏.‏ قال غيره‏:‏ نلت أنول من العطية، من الواو والنيل من الياء، تقول‏:‏ نلته فأنا نائل، أي أدركته‏.‏ ‏}‏ولا يقطعون وادي‏}‏ العرب تقول‏:‏ واد وأودية، على غير قياس‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولا يعرف فيما علمت فاعل وأفعلة سواه، والقياس أن يجمع ووادي؛ فاستثقلوا الجمع بين واوين وهم قد يستثقلون واحدة، حتى قالوا‏:‏ أقتت في وقتت‏.‏ وحكى الخليل وسيبويه في تصغير واصل اسم رجل أو يصل فلا يقولون غيره‏.‏ وحكى الفراء في جمع واد أوداء‏.‏ قلت‏:‏ وقد جمع أوداه؛ قال جرير‏:‏

عرفت ببرقة الأوداه رسما محيلا طال عهدك من رسوم

‏{‏إلا كتب لهم به عمل صالح‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعون ألف حسنة‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏الخيل ثلاثة‏.‏‏.‏‏.‏ - وفيه - وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج أو روضة فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏ الحديث‏.‏ هذا وهي في مواضعها فكيف إذا أدرب بها‏.‏

استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الغنيمة تستحق بالإدراب والكون في بلاد العدو، فإن مات بعد ذلك فله سهمه؛ وهو قول أشهب وعبدالملك، وأحد قولي الشافعي‏.‏ وقال مالك وابن القاسم‏:‏ لا شيء له؛ لأن الله عز وجل إنما ذكر في هذه الآية الأجر ولم يذكر السهم‏.‏

قلت‏:‏ الأول أصح لأن الله تعالى‏:‏ جعل وطء ديار الكفار بمثابة النيل من أموالهم وإخراجهم من ديارهم، وهو الذي يغيظهم ويدخل الذل عليهم، فهو بمنزلة نيل الغنيمة والقتل والأسر؛ وإذا كان كذلك فالغنيمة تستحق بالإدراب لا بالحيازة، ولذلك قال علي رضي الله عنه‏:‏ ما وطئ قوم في عقر دارهم إلا ذلوا‏.‏ والله أعلم‏.‏

هذه الآية منسوخة بقوله تعالى‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏التوبة‏:‏ 122‏]‏ وأن حكمها كان حين كان المسلمون في قلة، فلما كثروا نسخت وأباح الله التخلف لمن شاء؛ قاله ابن زيد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ بعث صلى الله عليه وسلم قوما إلى البوادي ليعلموا الناس فلما نزلت هذه الآية خافوا ورجعوا؛ فأنزل الله‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر؛ فأما غيره من الأئمة الولاة فلمن شاء أن يتخلف خلفه من المسلمين إذا لم يكن بالناس حاجة إليه ولا ضرورة‏.‏ وقول ثالث‏:‏ أنها محكمة؛ قال الوليد بن مسلم‏:‏ سمعت الأوزاعي وابن المبارك والفزاري والسبيعي وسعيد بن عبدالعزيز يقولون في هذه الآية إنها لأول هذه الأمة وآخرها‏.‏

قلت‏:‏ قول قتادة حسن؛ بدليل غزاة تبوك، والله أعلم‏.‏

روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة‏.‏‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏حبسهم العذر‏)‏‏.‏ خرجه مسلم من حديث جابر قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال‏:‏ ‏(‏إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض‏)‏‏.‏ فأعطى صلى الله عليه وسلم للمعذور من الأجر مثل ما أعطى للقوي العامل‏.‏ وقد قال بعض الناس‏:‏ إنما يكون الأجر للمعذور غير مضاعف، ويضاعف للعامل المباشر‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا تحكم على الله تعالى وتضييق لسعة رحمته، وقد عاب بعض الناس فقال‏:‏ إنهم يعطون الثواب مضاعفا قطعا، ونحن لا نقطع بالتضعيف في موضع فإنه مبني على مقدار النيات، وهذا أمر مغيب، والذي يقطع به أن هناك تضعيفا وربك أعلم بمن يستحقه‏.‏

قلت‏:‏ الظاهر من الأحاديث والآي المساواة في الأجر؛ منها قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من دل على خير فله مثل أجر فاعله‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏من توضأ وخرج إلى الصلاة فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها‏)‏‏.‏ وهو ظاهر قوله تعالى‏{‏ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله‏}‏النساء‏:‏100‏]‏ وبدليل أن النية الصادقة هي أصل الأعمال، فإذا صحت في فعل طاعة فعجز عنها صاحبها لمانع منع منها فلا بعد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر الفاعل ويزيد عليه؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏نية المؤمن خير من عمله‏)‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 122 ‏)‏

‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما كان المؤمنون‏}‏ وهي أن الجهاد ليس على الأعيان وأنه فرض كفاية كما تقدم؛ إذ لو نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال، فليخرج فريق منهم للجهاد وليقم فريق يتفقهون في الدين ويحفظون الحريم، حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع، وما تجدد نزول على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى‏{‏إلا تنفروا‏}‏التوبة‏:‏ 39‏]‏ وللآية التي قبلها؛ على قول مجاهد وابن زيد‏.‏ هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم؛ لأن المعنى‏:‏ وما كان المؤمنون لينفروا كافة والنبي صلى الله عليه وسلم مقيم لا ينفر فيتركوه وحده‏.‏ ‏}‏فلو لا نفر‏}‏ بعد ما علموا أن النفير لا يسع جميعهم‏.‏ ‏}‏من كل فرقة منهم طائفة‏}‏ وتبقى بقيتها مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا؛ فإذا رجع النافرون إليهم أخبروهم بما سمعوا وعلموه‏.‏ وفى هذا إيجاب التفقه في الكتاب والسنة، وأنه على الكفاية دون الأعيان‏.‏ ويدل عليه أيضا قوله تعالى‏{‏فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون‏}‏النحل‏:‏ 43‏]‏‏.‏ فدخل في هذا من لا يعلم الكتاب والسنن‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلولا نفر‏}‏ قال الأخفش‏:‏ أي فهلا نفر‏.‏ ‏}‏من كل فرقة منهم طائفة‏}‏ الطائفة في اللغة الجماعة، وقد تقع على أقل من ذلك حتى تبلغ الرجلين، وللواحد على معنى نفس طائفة‏.‏ وقد تقدم أن المراد بقوله تعالى‏{‏إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة‏}‏التوبة‏:‏ 66‏]‏ رجل واحد‏.‏ ولا شك أن المراد هنا جماعة لوجهين؛ أحدهما عقلا، والآخر لغة‏.‏ أما العقل فلأن العلم لا يتحصل بواحد في الغالب، وأما اللغة فقوله‏{‏ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم‏}‏ فجاء بضمير الجماعة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والقاضي أبو بكر والشيخ أبو الحسن قبله يرون أن الطائفة ههنا واحد، ويعتضون فيه بالدليل على وجوب العمل بخبر الواحد، وهو صحيح لا من جهة‏.‏ أن الطائفة تنطلق على الواحد ولكن من جهة أن خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد، وأن مقابله وهو التواتر لا ينحصر‏.‏

قلت‏:‏ أنص ما يستدل به على أن الواحد يقال له طائفة قوله تعالى‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا‏}‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ يعني نفسين‏.‏ دليله قوله تعالى‏{‏فأصلحوا بين أخويكم‏}‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ فجاء بلفظ التثنية، والضمير في ‏}‏اقتتلوا‏}‏ وإن كان ضمير جماعة فأقل الجماعة اثنان في أحد القولين للعلماء‏.‏

قوله تعالى‏{‏ليتفقهوا‏}‏ الضمير في ‏}‏ليتفقهوا ، ولينذروا‏}‏ للمقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاله قتادة ومجاهد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هما للفرقة النافرة؛ واختاره الطبري‏.‏ ومعنى ‏}‏ليتفقهوا في الدين‏}‏ أي يتبصروا ويتيقنوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين‏.‏ ‏}‏ولينذروا قومهم‏}‏ من الكفار‏.‏ ‏}‏إذا رجعوا إليهم‏}‏ من الجهاد فيخبرونهم بنصرة الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأنهم لا يدان لهم بقتالهم وقتال النبي صلى الله عليه وسلم؛ فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار‏.‏

قلت‏:‏ قول مجاهد وقتادة أبين، أي لتتفقه الطائفة المتأخرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفور في السرايا‏.‏ وهذا يقتضي الحث على طلب العلم والندب إليه دون الوجوب والإلزام؛ إذ ليس ذلك في قوة الكلام، وإنما لزم طلب العلم بأدلته؛ قاله أبو بكر بن العربي‏.‏

طلب العلم ينقسم قسمين‏:‏ فرض على الأعيان؛ كالصلاة والزكاة والصيام‏.‏

قلت‏:‏ وفي هذا المعنى جاء الحديث المروي ‏(‏إن طلب العلم فريضة‏)‏‏.‏ روى عبدالقدوس بن حبيب‏:‏ أبو سعيد الوحاظي عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال سمعت أنس بن مالك يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏طلب العلم فريضة على كل مسلم‏)‏‏.‏ قال إبراهيم‏:‏ لم أسمع من أنس بن مالك إلا هذا الحديث‏.‏

وفرض على الكفاية؛ كتحصيل الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم ونحوه؛ إذ لا يصلح أن يتعلمه جميع الناس فتضيع أحوالهم وأحوال سراياهم وتنقص أو تبطل معايشهم؛ فتعين بين الحالين أن يقوم به البعض من غير تعيين، وذلك بحسب ما يسره الله لعباده وقسمه بينهم من رحمته وحكمته بسابق قدرته وكلمته‏.‏

طلب العلم فضيلة عظيمة ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل؛ روى الترمذي من حديث أبي الدرداء قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر‏)‏‏.‏ وروى الدارمي أبو محمد في مسنده قال‏:‏ حدثنا أبو المغيرة حدثنا الأوزاعي عن الحسن قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلين كانا في بني إسرائيل، أحدهما كان عالما يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير‏.‏ والآخر يصوم النهار ويقوم الليل، أيهما أفضل‏؟‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فضل هذا العالم الذي يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير على العابد الذي يصوم النهار ويقوم الليل كفضلي على أدناكم‏)‏‏.‏ أسنده أبو عمر في كتاب بيان العلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي‏)‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أفضل الجهاد من بنى مسجدا يعلم فيه القرآن والفقه والسنة‏.‏ رواه شريك عن ليث بن أبي سليم عن يحيى بن أبي كثير عن علي الأزدي قال‏:‏ أردت الجهاد فقال لي ابن عباس ألا أدلك على ما هو خير لك من الجهاد، تأتي مسجدا فتقرئ فيه القرآن وتعلم فيه الفقه‏.‏ وقال الربيع سمعت الشافعي يقول‏:‏ طلب العلم أوجب من الصلاة النافلة‏.‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الملائكة لتضع أجنحتها‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها تعطف عليه وترحمه؛ كما قال الله تعالى فيما وصى به الأولاد من الإحسان إلى الوالدين بقوله‏{‏واخفض لهما جناح الذل من الرحمة‏}‏الإسراء‏:‏ 24‏]‏ أي تواضع لهما‏.‏ والوجه الآخر‏:‏ أن يكون المراد بوضع الأجنحة فرشها؛ لأن في بعض الروايات ‏(‏وإن الملائكة تفرش أجنحتها‏)‏ أي إن الملائكة إذا رأت طالب العلم يطلبه من وجهه ابتغاء مرضات الله وكانت سائر أحواله مشاكلة لطلب العلم فرشت له أجنحتها في رحلته وحملته عليها؛ فمن هناك يسلم فلا يحفى إن كان ماشيا ولا يعيا، وتقرب عليه الطريق البعيدة ولا يصيبه ما يصيب المسافر من أنواع الضرر كالمرض وذهاب المال وضلال الطريق‏.‏ وقد مضى شيء من هذا المعنى في ‏}‏آل عمران‏}‏ عند قوله تعالى‏{‏شهد الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ روى عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة‏)‏‏.‏ قال يزيد بن هارون‏:‏ إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم‏؟‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا قول عبدالرزاق في تأويل الآية، إنهم أصحاب الحديث؛ ذكره الثعلبي‏.‏ سمعت شيخنا الأستاذ المقرئ النحوي المحدث أبا جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بابن أبي حجة رحمه الله يقول في تأويل قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة‏)‏ إنهم العلماء؛ قال‏:‏ وذلك أن الغرب لفظ مشترك يطلق على الدلو الكبيرة وعلى مغرب الشمس، ويطلق على فيضة من الدمع‏.‏ فمعنى ‏(‏لا يزال أهل الغرب‏)‏ أي لا يزال أهل فيض الدمع من خشية الله عن علم به وبأحكامه ظاهرين؛ الحديث‏.‏ قال الله تعالى‏{‏إنما يخشى الله من عباده العلماء‏}‏فاطر‏:‏ 28‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا التأويل يعضده قوله عليه السلام في صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏ وظاهر هذا المساق أن أوله مرتبط بآخره‏.‏ والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 123 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏

فيه مسألة واحدة‏:‏ وهو أنه سبحانه عرفهم كيفية الجهاد وأن الابتداء بالأقرب فالأقرب من العدو ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرب، فلما فرغ قصد الروم وكانوا بالشام‏.‏ وقال الحسن‏:‏ نزلت قبل أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين؛ فهي من التدريج الذي كان قبل الإسلام‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله‏}‏التوبة‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقد روي عن ابن عمر أن المراد بذلك الديلم‏.‏ وروي عنه أنه سئل بمن يبدأ بالروم أو بالديلم‏؟‏ فقال بالروم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو قتال الديلم والترك والروم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الآية على العموم في قتال الأقرب فالأقرب، والأدنى فالأدنى‏.‏

قلت‏:‏ قول قتادة هو ظاهر الآية، واختار ابن العربي أن يبدأ بالروم قبل الديلم؛ على ما قاله ابن عمر لثلاثة أوجه‏.‏ ‏[‏أحدها‏]‏ أنهم أهل كتاب، فالحجة عليهم أكثر وأكد‏.‏ الثاني‏:‏ أنهم إلينا أقرب أعني أهل المدينة‏.‏ الثالث‏:‏ أن بلاد الأنبياء في بلادهم أكثر فاستنقاذها منهم أوجب‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وليجدوا فيكم غلظة‏}‏ أي شدة وقوة وحمية‏.‏ وروى الفضل عن الأعمش وعاصم ‏}‏غَلظة‏}‏ بفتح الغين وإسكان اللام‏.‏ قال الفراء‏:‏ لغة أهل الحجاز وبني أسد بكسر الغين، ولغة بني تميم ‏}‏غُلظة‏}‏ بضم الغين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 124 ‏)‏

‏{‏وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون‏}‏

‏{‏ما‏}‏ صلة، والمراد المنافقون‏.‏ ‏}‏أيكم زادته هذه إيمانا‏}‏ قد تقدم القول في زيادة الإيمان ونقصانه في سورة ‏}‏آل عمران‏}‏‏.‏ وقد تقدم معنى السورة في مقدمة الكتاب، فلا معنى للإعادة‏.‏ وكتب الحسن إلى عمر بن عبدالعزيز ‏(‏إن للإيمان سننا وفرائض من استكملها فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان‏)‏ قال عمر بن عبدالعزيز‏:‏ ‏(‏فإن أعش فسأبينها لكم وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص‏)‏‏.‏ ذكره البخاري‏.‏ وقال ابن المبارك لم أجد بدا من أن أقول بزيادة الإيمان وإلا رددت القرآن‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 125 ‏)‏

‏{‏وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأما الذين في قلوبهم مرض‏}‏ أي شك وريب ونفاق‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏فزادتهم رجسا إلى رجسهم‏}‏ أي شكا إلى شكهم وكفرا إلى كفرهم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ إثما إلى إثمهم؛ والمعنى متقارب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 126 ‏)‏

‏{‏أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين‏}‏ قراءة العامة بالياء، خبرا عن المنافقين‏.‏ وقرأ حمزة ويعقوب بالتاء خبرا عنهم وخطابا للمؤمنين‏.‏ وقرأ الأعمش ‏}‏أو لم يروا‏}‏‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف ‏}‏أولا ترى‏}‏ وهي قراءة ابن مسعود، خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ و‏}‏يفتنون‏}‏ قال الطبري‏:‏ يختبرون‏.‏ قال مجاهد‏:‏ بالقحط والشدة‏.‏ وقال عطية‏:‏ بالأمراض والأوجاع؛ وهي روائد الموت‏.‏ وقال قتادة والحسن ومجاهد‏:‏ بالغزو والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويرون ما وعد الله من النصر ‏}‏ثم لا يتوبون‏}‏ لذلك ‏}‏ولا هم يذكرون‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 127 ‏)‏

‏{‏وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ صلة، والمراد المنافقون؛ أي إذا حضروا الرسول وهو يتلو قرآنا أنزل فيه فضيحتهم أو فضيحة أحد منهم جعل ينظر بعضهم إلى بعض نظر الرعب على جهة التقرير؛ يقول‏:‏ هل يراكم من أحد إذا تكلمتم بهذا فينقله إلى محمد؛ وذلك جهل منهم بنبوته عليه السلام، وأن الله يطلعه على ما يشاء من غيبه‏.‏ وقيل إن ‏}‏نظر‏}‏ في هذه الآية بمعنى أنبأ‏.‏ وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال‏{‏نظر‏}‏ في هذه الآية موضع قال‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم انصرفوا‏}‏ أي انصرفوا عن طريق الاهتداء‏.‏ وذلك أنهم حينما بين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة لإيمانهم؛ فهم إذ يصممون على الكفر ويرتبكون فيه كأنهم انصرفوا عن تلك الحال التي كانت مظنة النظر الصحيح والاهتداء، ولم يسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سماع من يتدبره وينظر في آياته؛ ‏}‏إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون‏}‏الأنفال‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ‏}‏أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها‏}‏محمد‏:‏ 24‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏صرف الله قلوبهم‏}‏ دعاء عليهم؛ أي قولوا لهم هذا‏.‏ ويجوز أن يكون خبرا عن صرفها عن الخير مجازاة على فعلهم‏.‏ وهي كلمة يدعي بها؛ كقوله‏{‏قاتلهم الله‏}‏التوبة‏:‏ 30‏]‏ والباء في قوله‏{‏بأنهم‏}‏ صلة لـ ‏}‏صرف‏}‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يكره أن يقال انصرفنا من الصلاة؛ لأن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا قضينا الصلاة؛ أسنده البري عنه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا فيه نظر وما أظنه بصحيح فإن نظام الكلام أن يقال‏:‏ لا يقل أحد انصرفنا من الصلاة؛ فإن قوما قيل فيهم‏{‏ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم‏}‏‏.‏ أخبرنا محمد بن عبدالملك القيسي الواعظ حدثنا أبو الفضل الجوهري سماعا منه يقول‏:‏ كنا في جنازة فقال المنذر بها‏:‏ انصرفوا رحمكم الله فقال‏:‏ لا يقل أحد انصرفوا فإن الله تعالى قال في قوم ذمهم‏{‏ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم‏}‏ ولكن قولوا‏:‏ انقلبوا رحمكم الله فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم‏{‏فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء‏}‏آل عمران‏:‏ 174‏]‏‏.‏

أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه صارف القلوب ومصرفها وقالبها ومقلبها؛ ردا على القدرية في اعتقادهم أن قلوب الخلق بأيديهم وجوارحهم بحكمهم، يتصرفون بمشيئتهم ويحكمون بإراداتهم واختيارهم؛ ولذلك قال مالك فيما رواه عنه أشهب‏:‏ ما أبين هذا في الرد على القدرية ‏}‏لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم‏}‏التوبة‏:‏ 110‏]‏‏.‏ وقوله عز وجل لنوح‏{‏أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏}‏هود‏:‏ 36‏]‏ فهذا لا يكون أبدا ولا يرجع ولا يزول‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 128 ‏:‏ 129 ‏)‏

‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم‏}‏

هاتان الآيتان في قول أُبي أقرب القرآن بالسماء عهدا‏.‏ وفي قول سعيد بن جبير‏:‏ آخر ما نزل من القرآن ‏}‏واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله‏}‏البقرة‏:‏ 281‏]‏ على ما تقدم‏.‏ فيحتمل أن يكون قول أُبيّ‏:‏ أقرب القرآن بالسماء عهدا بعد قوله‏{‏واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله‏}‏‏.‏ والله أعلم والخطاب للعرب في قول الجمهور، وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم في ذلك؛ إذ جاء بلسانهم وبما يفهمونه، وشرفوا به غابر الأيام‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هي مخاطبة لجميع العالم والمعنى‏:‏ لقد جاءكم رسول من البشر؛ والأول أصوب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ما من قبيلة من العرب إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قال‏:‏ يا معشر العرب لقد جاءكم رسول من بني إسماعيل‏.‏ والقول الثاني أوكد للحجة أي هو بشر مثلكم لتفهموا عنه وتأتموا به‏.‏

قوله تعالى‏{‏من أنفسكم‏}‏ يقتضي مدحا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وخالصها‏.‏ وفي صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم‏)‏‏.‏ وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إني من نكاح ولست من سفاح‏)‏‏.‏ معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنى‏.‏ وقرأ عبدالله بن قُسيط المكي من ‏}‏أنْفَسِكم‏}‏ بفتح الفاء من النفاسة؛ ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن فاطمة رضي الله عنها أي جاءكم رسول من أشرفكم وأفضلكم من قولك‏:‏ شيء نفيس إذا كان مرغوبا فيه‏.‏ وقيل‏:‏ من أنفسكم أي أكثركم طاعة‏.‏

قوله تعالى‏{‏عزيز عليه ما عنتم‏}‏ أي يعز عليه مشقتكم‏.‏ والعنت‏:‏ المشقة؛ من قولهم‏:‏ أكمة عنوت إذا كانت شاقة مهلكة‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ أصل التعنت التشديد؛ فإذا قالت العرب‏:‏ فلان يتعنت فلانا ويعنته فمرادهم يشدد عليه ويلزمه بما يصعب عليه أداؤه‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ ‏}‏وما‏}‏ في ‏}‏ما عنتم‏}‏ مصدرية، وهي ابتداء و‏}‏عزيز‏}‏ خبر مقدم‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏ما عنتم‏}‏ فاعلا بعزيز، و‏}‏عزيز‏}‏ صفة للرسول، وهو أصوب‏.‏ وكذا ‏}‏حريص عليكم‏}‏ وكذا ‏}‏رؤوف رحيم‏}‏ رفع على الصفة‏.‏ قال الفراء‏:‏ ولو قرئ عزيزا عليه، ما عنتم حريصا رؤوفا رحيما، نصبا على الحال جاز‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ وأحسن ما قيل في معناه مما يوافق كلام العرب ما حدثنا أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا عبدالله بن محمد الخزاعي قال سمعت عمرو بن علي يقول‏:‏ سمعت عبدالله بن داود الخريبي يقول في قوله عز وجل‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم‏}‏ قال‏:‏ أن تدخلوا النار، ‏}‏حريص عليكم‏}‏ أن تدخلوا الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ حريص عليكم أن تؤمنوا‏.‏ وقال‏:‏ الفراء‏:‏ شحيح بأن تدخلوا النار‏.‏ والحرص على الشيء‏:‏ الشح عليه أن يضيع ويتلف‏.‏ ‏}‏بالمؤمنين رؤوف رحيم‏}‏ الرؤوف‏:‏ المبالغ في الرأفة والشفقة‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ معنى ‏}‏رؤوف رحيم‏}‏ مستوفى‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قال‏{‏بالمؤمنين رؤوف رحيم‏}‏ وقال‏{‏إن الله بالناس لرؤوف رحيم‏}‏الحج‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وقال عبدالعزيز بن يحيى‏:‏ نظم الآية لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز حريص بالمؤمنين رؤوف رحيم، عزيز عليه ما عنتم لا يهمه إلا شأنكم، وهو القائم بالشفاعة لكم فلا تهتموا بما عنتم ما أقمتم على سنته؛ فانه لا يرضيه إلا دخولكم الجنة‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإن تولوا فقل حسبي الله‏}‏ أي إن اعرض الكفار يا محمد بعد هذه النعم التي من الله عليهم بها فقل حسبي الله أي كافي الله تعالى‏.‏ ‏}‏عليه توكلت‏}‏ أي اعتمدت وإليه فوضت جميع أموري‏.‏ ‏}‏وهو رب العرش العظيم‏}‏ خص العرش لأنه أعظم المخلوقات فيدخل فيه ما دونه إذا ما ذكره‏.‏ وقراءة العامة بخفض ‏}‏العظيم‏}‏ نعتا للعرش‏.‏ وقرئ بالرفع صفة للرب، رويت عن ابن كثير، وهي قراءة ابن محيصن وفي كتاب أبي داود عن أبي الدرداء قال‏:‏ ‏(‏من قال إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه صادقا كان بها أو كاذبا‏)‏‏.‏ وفي نوادر الأصول عن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قال عشر كلمات عند دبر كل صلاة وجد الله عندهن مكفيا مجزيا خمس للدنيا وخمس للآخرة حسبي الله لديني حسبي الله لدنياي حسبي الله لما أهمني حسبي الله لمن بغى علي حسبي الله لمن حسدني حسبي الله لمن كادني بسوء حسبي الله عند الموت حسبي الله عند المسألة في القبر حسبي الله عند الميزان حسبي الله عند الصراط حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب‏)‏‏.‏ وحكى النقاش عن أبي بن كعب أنه قال‏:‏ أقرب القرآن عهدا بالله تعالى هاتان الآيتان ‏}‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏}‏ إلى آخر السورة؛ وقد بيناه‏.‏ وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس بن أن آخر ما نزل من القرآن ‏}‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏}‏ وهذه الآية؛ ذكره الماوردي‏.‏ وقد ذكرنا عن ابن عباس خلافه؛ على ما ذكرناه في ‏}‏البقرة‏}‏ وهو أصح‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ تقدم نزولها بمكة‏.‏ وهذا فيه بعد لأن السورة مدنية والله أعلم‏.‏ وقال يحيى بن جعدة‏:‏ كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد عليها رجلان فجاءه رجل من الأنصار بالآيتين من آخر سورة براءة ‏}‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏}‏ فقال عمر‏:‏ والله لا أسألك عليهما بينة كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم فأثبتهما‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ الرجل هو خزيمة بن ثابت وإنما أثبتهما عمر رضي الله عنه بشهادته وحده لقيام الدليل على صحتها في صفة النبي صلى الله عليه وسلم فهي قرينة تغني عن طلب شاهد آخر بخلاف آية الأحزاب ‏}‏رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه‏}‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏ فإن تلك ثبتت بشهادة زيد وخزيمة لسماعهما إياها من النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في مقدمة الكتاب‏.‏ والحمد لله‏.‏
 
سورة يونس

مقدمة السورة

سورة يونس عليه السلام مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر‏.‏ وقال ابن عباس إلا ثلاث آيات من قوله تعالى‏{‏فإن كنت في شك‏}‏يونس‏:‏ 94‏]‏ إلى آخرهن‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ إلا آيتين وهي قوله‏{‏فإن كنت في شك‏}‏ نزلت بالمدينة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ مكية إلا قوله‏{‏ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به‏}‏يونس‏:‏ 40‏]‏ نزلت بالمدينة في اليهود‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة وباقيها بالمدينة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 1 ‏)‏

‏{‏الر تلك آيات الكتاب الحكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏الر‏}‏ قال النحاس‏:‏ قرئ على أبي جعفر أحمد بن شعيب بن علي بن الحسن بن حريث قال‏:‏ أخبرنا علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد أن عكرمة حدثه عن ابن عباس‏:‏ الر، وحم، ونون حروف الرحمن مفرقة؛ فحدثت به الأعمش فقال‏:‏ عندك أشباه هذا ولا تخبرني به‏؟‏‏.‏ وعن ابن عباس أيضا قال‏{‏الر‏}‏ أنا الله أرى‏.‏ قال النحاس‏:‏ ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول؛ لأن سيبويه قد حكى مثله عن العرب وأنشد‏:‏

بالخير خيرات وإن شرافا ولا أريد الشر إلا أن تا

وقال الحسن وعكرمة‏{‏الر‏}‏ قسم‏.‏ وقال سعيد عن قتادة‏{‏الر‏}‏ اسم السورة؛ قال‏:‏ وكذلك كل هجاء في القرآن‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هي فواتح السور‏.‏ وقال محمد بن يزيد‏:‏ هي تنبيه، وكذا حروف التهجي‏.‏ وقرئ ‏}‏الر‏}‏ من غير إمالة‏.‏ وقرئ بالإمالة لئلا تشبه ما ولا من الحروف‏.‏

قوله تعالى‏{‏تلك آيات الكتاب الحكيم‏}‏ ابتداء وخبر؛ أي تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم‏.‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ أراد التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة؛ فإن ‏}‏تلك‏}‏ إشارة إلى غائب مؤنث‏.‏ وقيل‏{‏تلك‏}‏ بمعنى هذه؛ أي هذه آيات الكتاب الحكيم‏.‏ ومنه قول الأعشى‏:‏

تلك خيلي منه وتلك ركابي هن صفر أولادها كالزبيب

أي هذه خيلي‏.‏ والمراد القرآن وهو أولى بالصواب؛ لأنه لم يجر للكتب المتقدمة ذكر، ولأن ‏}‏الحكيم‏}‏ من نعت القرآن‏.‏ دليله قوله تعالى‏{‏الر كتاب أحكمت آياته‏}‏هود‏:‏ 1‏]‏ وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ والحكيم‏:‏ المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام؛ قاله أبو عبيدة وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ الحكيم بمعنى الحاكم؛ أي إنه حاكم بالحلال والحرام، وحاكم بين الناس بالحق؛ فعيل بمعنى فاعل‏.‏ دليله قوله‏{‏وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه‏}‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ الحكيم بمعنى المحكوم فيه؛ أي حكم الله فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وحكم فيه بالنهي عن الفحشاء والمنكر، وبالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه؛ فهو فعيل بمعنى المفعول؛ قاله الحسن وغيره‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ الحكيم بمعنى المحكم من الباطل لا كذب فيه ولا اختلاف؛ فعيل بمعنى مفعل، كقول الأعشى يذكر قصيدته التي قالها‏:‏

وغريبة تأتي الملوك حكيمة قد قلتها ليقال من ذا قالها

الآية رقم ‏(‏ 2 ‏)‏

‏{‏أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏أكان للناس عجبا‏}‏ استفهام معناه التقرير والتوبيخ‏.‏ ‏}‏وعجبا‏}‏ خبر كان، واسمها ‏}‏أن أوحينا‏}‏ وهو في موضع رفع؛ أي كان إيحاؤنا عجبا للناس‏.‏ وفي قراءة عبدالله ‏}‏عجب‏}‏ على أنه اسم كان‏.‏ والخبر ‏}‏أن أوحينا‏}‏‏.‏ ‏}‏إلى رجل منهم‏}‏ قرئ ‏}‏رَجْل‏}‏ بإسكان الجيم‏.‏ وسبب النزول فيما روي عن ابن عباس أن الكفار قالوا لما بعث محمد‏:‏ إن الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا‏.‏ وقالوا‏:‏ ما وجد الله من يرسله إلا يتيم أبي طالب؛ فنزلت‏{‏أكان للناس‏}‏ يعني أهل مكة ‏}‏عجبا‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إنما تعجبوا من ذكر البعث‏.‏

قوله تعالى‏{‏أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا‏}‏ في موضع نصب بإسقاط الخافض؛ أي بأن أنذر الناس، وقد تقدم معنى النذارة والبشارة وغير ذلك من ألفاظ الآية‏.‏ ‏}‏أن لهم قدم صدق‏}‏ اختلف في معنى ‏}‏قدم صدق‏}‏ فقال ابن عباس‏:‏ قدم صدق منزل صدق؛ دليله قوله تعالى‏{‏وقل رب أدخلني مدخل صدق‏}‏الإسراء‏:‏ 80‏]‏‏.‏ وعنه أيضا أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم‏.‏ وعنه أيضا ‏}‏قدم صدق‏}‏ سبق السعادة في الذكر الأول، وقاله مجاهد‏.‏ الزجاج‏:‏ درجة عالية‏.‏ قال ذو الرمة‏:‏

لكم قدر لا ينكر الناس أنها مع الحسب العالي طمت على البحر

قتادة‏:‏ سلف صدق‏.‏ الربيع‏:‏ ثواب صدق‏.‏ عطاء‏:‏ مقام صدق‏.‏ يمان‏:‏ إيمان صدق‏.‏ وقيل‏:‏ دعوة الملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ ولد صالح قدموه‏.‏ الماوردي‏:‏ أن يوافق صدق الطاعة الجزاء‏.‏ وقال الحسن وقتادة أيضا‏:‏ هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه شفيع مطاع يتقدمهم؛ كما قال‏:‏ ‏(‏أنا فرطكم على الحوض‏)‏‏.‏ وقد سئل صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏هي شافعتي توسلون بي إلى ربكم‏)‏‏.‏ وقال الترمذي الحكيم‏:‏ قدمه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود‏.‏ وعن الحسن أيضا‏:‏ مصيبتهم في النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال عبدالعزيز بن يحيى‏{‏قدم صدق‏}‏ قوله تعالى‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون‏}‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ وقال مقاتل‏:‏ أعمالا قدموها؛ واختاره الطبري‏.‏ قال الوضاح‏:‏

صل لذي العرش واتخذ قدما تنجيك يوم العثار والزلل

وقيل‏:‏ هو تقديم الله هذه الأمة في الحشر من القبر وفي إدخال الجنة‏.‏ كما قال‏:‏ ‏(‏نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المفضي لهم قبل الخلائق‏)‏‏.‏ وحقيقته أنه كناية عن السعي في العمل الصالح؛ فكني عنه بالقدم كما يكنى عن الإنعام باليد وعن الثناء باللسان‏.‏ وأنشد حسان‏:‏

لنا القدم العليا إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع

يريد السابقة بإخلاص الطاعة، والله أعلم‏.‏ وقال أبو عبيدة والكسائي‏:‏ كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قدم؛ يقال‏:‏ لفلان قدم في الإسلام، له عندي قدم صدق وقدم شر وقدم خير‏.‏ وهو مؤنث وقد يذكر؛ يقال‏:‏ قدم حسن وقدم صالحة‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ القدم التقدم في الشرف؛ قال العجاج‏:‏

زل بنو العوام عن آل الحكم وتركوا الملك لملك ذي قدم

وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لي خمسة أسماء‏.‏ أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب‏)‏ يريد آخر الأنبياء؛ كما قال تعالى‏{‏وخاتم النبيين‏}‏الأحزاب‏:‏ 40‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال الكافرون إن هذا لساحر مبين‏}‏ قرأ ابن محيصن وابن كثير والكوفيون عاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش ‏}‏لساحر‏}‏ نعتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرأ الباقون ‏}‏لسحر‏}‏ نعتا للقرآن وقد تقدم معنى السحر في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 3 ‏)‏

‏{‏إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش‏}‏ تقدم في الأعراف‏.‏ ‏}‏يدبر الأمر‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يقضيه ويقدره وحده‏.‏ ابن عباس‏:‏ لا يشركه في تدبير خلقه أحد‏.‏ وقيل‏:‏ يبعث بالأمر‏.‏ وقيل‏:‏ ينزل به‏.‏ وقيل‏:‏ يأمر به ويمضيه؛ والمعنى متقارب‏.‏ فجبريل للوحي، وميكائيل للقطر، وإسرافيل للصور، وعزرائيل للقبض‏.‏ وحقيقته تنزيل الأمور في عواقبها، واشتقاقه من الدبر‏.‏ والأمر اسم لجنس الأمور‏.‏ ‏}‏ما من شفيع‏}‏ في موضع رفع، والمعنى ما شفيع ‏}‏إلا من بعد إذنه‏}‏ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ معنى الشفاعة‏.‏ فلا يشفع أحد نبي ولا غيره إلا بإذنه سبحانه، وهذا رد على الكفار في قولهم فيما عبدوه من دون الله‏{‏هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏يونس‏:‏ 18‏]‏ فأعلمهم الله أن أحدا لا يشفع لأحد إلا بإذنه، فكيف بشفاعة أصنام لا تعقل‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلكم الله ربكم فاعبدوه‏}‏ أي ذلكم الذي فعل هذه الأشياء من خلق السموات والأرض هو ربكم لا رب لكم غيره‏.‏ ‏}‏فاعبدوه‏}‏ أي وحدوه وأخلصوا له العبادة‏.‏ ‏}‏أفلا تتذكرون‏}‏ أي أنها مخلوقاته فتستدلوا بها عليه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 4 ‏)‏

‏{‏إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إليه مرجعكم‏}‏ رفع بالابتداء‏.‏ ‏}‏جميعا‏}‏ نصب على الحال‏.‏ ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى أجزائه‏.‏ ‏}‏وعد الله حقا‏}‏ مصدران؛ أي وعد الله ذلك وعدا وحققه ‏}‏حقا‏}‏ صدقا لا خلف فيه‏.‏ وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة ‏}‏وعد الله حق‏}‏ على الاستئناف‏.‏

قوله تعالى‏{‏إنه يبدأ الخلق‏}‏ أي من التراب‏.‏ ‏}‏ثم يعيده‏}‏ إليه‏.‏ مجاهد‏:‏ ينشئه ثم يميته ثم يحييه للبعث؛ أو ينشئه من الماء ثم يعيده من حال إلى حال‏.‏ وقرأ يزيد ابن القعقاع ‏}‏أنه يبدأ الخلق‏}‏ تكون ‏}‏أن‏}‏ في موضع نصب؛ أي وعدكم أنه يبدأ الخلق‏.‏ ويجوز أن يكون التقدير لأنه يبدأ الخلق؛ كما يقال‏:‏ لبيك إن الحمد والنعمة لك؛ والكسر أجود‏.‏ وأجاز الفراء أن تكون ‏}‏أن‏}‏ في موضع رفع فتكون اسما‏.‏ قال أحمد بن يحيى‏:‏ يكون التقدير حقا إبداؤه الخلق‏.‏

قوله تعالى‏{‏ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط‏}‏ أي بالعدل‏.‏ ‏}‏والذين كفروا لهم شراب من حميم‏}‏ أي ماء حار قد انتهى حره، والحميمة مثله‏.‏ يقال‏:‏ حممت الماء احمه فهو حميم، أي محموم؛ فعيل بمعنى مفعول‏.‏ وكل مسخن عند العرب فهو حميم‏.‏ ‏}‏وعذاب أليم‏}‏ أي موجع، يخلص وجعه إلى قلوبهم‏.‏ ‏}‏بما كانوا يكفرون‏}‏ أي بكفرهم، وكان معظم قريش يعترفون بأن الله خالقهم؛ فاحتج عليهم بهذا فقال‏:‏ من قدر على الابتداء قدر على الإعادة بعد الإفناء أو بعد تفريق الأجزاء‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 5 ‏)‏

‏{‏هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏هو الذي جعل الشمس ضياء‏}‏ مفعولان، أي مضيئة، ولم يؤنث لأنه مصدر؛ أو ذات ضياء ‏}‏والقمر نورا‏}‏ عطف، أي منيرا، أو ذا نور، فالضياء ما يضيء الأشياء، والنور ما يبين فيخفى، لأنه من النار من أصل واحد‏.‏ والضياء جمع ضوء؛ كالسياط والحياض جمع سوط وحوض‏.‏ وقرأ قنبل عن ابن كثير ‏}‏ضئاء‏}‏ بهمز الياء ولا وجه له، لأن ياءه كانت واوا مفتوحة وهي عين الفعل، أصلها ضواء فقلبت وجعلت ياء كما جعلت في الصيام والقيام‏.‏ قال المهدوي‏:‏ ومن قرأ ضئاء بالهمز فهو مقلوب، قدمت الهمزة التي بعد الألف فصارت قبل الألف ضئايا، ثم قلبت الياء همزة لوقوعها بعد ألف زائدة‏.‏ وكذلك إن قردت أن الياء حين تأخرت رجعت إلى الواو التي انقلبت عنها فإنها تقلب همزة أيضا فوزنه فلاع مقلوب من فعال‏.‏ ويقال‏:‏ إن الشمس والقمر تضيء وجوهها لأهل السموات السبع وظهورهما لأهل الأرضين السبع‏.‏

قوله تعالى‏{‏وقدره منازل‏}‏ أي ذا منازل، أو قدر له منازل‏.‏ ثم قيل‏:‏ المعنى وقدرهما، فوحد إيجازا واختصارا؛ كما قال‏{‏وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها‏}‏‏.‏ وكما قال‏:‏

نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف

وقيل‏:‏ إن الإخبار عن القمر وحده؛ إذ به تحصى الشهور التي عليها العمل في المعاملات ونحوها، كما تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ وفي سورة يس‏{‏والقمر قدرناه منازل‏}‏يس‏:‏ 39‏]‏ أي على عدد الشهر، وهو ثمانية وعشرون منزلا‏.‏ ويومان للنقصان والمحاق، وهناك يأتي بيانه‏.‏

قوله تعالى‏{‏لتعلموا عدد السنين والحساب‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لو جعل شمسين، شمسا بالنهار وشمسا بالليل ليس فيهما ظلمة ولا ليل، لم يعلم عدد السنين وحساب الشهور‏.‏ وواحد ‏}‏السنين‏}‏ سنة، ومن العرب من يقول‏:‏ سنوات في الجمع ومنهم من يقول‏:‏ سنهات‏.‏ والتصغير سنية وسنيهة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ما خلق الله ذلك إلا بالحق‏}‏ أي ما أراد الله عز وجل بخلق ذلك إلا الحكمة والصواب، وإظهارا لصنعته وحكمته، ودلالة على قدرته وعلمه، ولتجزى كل نفس بما كسبت؛ فهذا هو الحق‏.‏ ‏}‏يفصل الآيات لقوم يعلمون‏}‏ تفصيل الآيات تبيينها ليستدل بها على قدرته تعالى، لاختصاص الليل بظلامه والنهار بضيائه من غير استحقاق لهما ولا إيجاب؛ فيكون هذا لهم دليلا على أن ذلك بإرادة مريد‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص ويعقوب ‏}‏يفصل‏}‏ بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله من قبله‏{‏ما خلق الله ذلك إلا بالحق‏}‏ وبعده ‏}‏وما خلق الله في السموات والأرض‏}‏ فيكون متبعا له‏.‏ وقرأ ابن السميقع ‏}‏تفصل‏}‏ بضم التاء وفتح الصاد على الفعل المجهول، ‏}‏والآيات‏}‏ رفعا‏.‏ الباقون ‏}‏نفصل‏}‏ بالنون على التعظيم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 6 ‏)‏

‏{‏إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون‏}‏

تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ وغيرها معناه، والحمد لله‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن سبب نزولها أن أهل مكة سألوا آية فردهم إلى تأمل مصنوعاته والنظر فيها؛ قاله ابن عباس‏.‏ ‏}‏لقوم يتقون‏}‏ أي الشرك؛ فأما من أشرك ولم يستدل فليست الآية له آية‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 7 ‏:‏ 8 ‏)‏

‏{‏إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ ‏}‏يرجون‏}‏ يخافون؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عواسل

وقيل يرجون يطمعون؛ ومنه قول الآخر‏:‏

أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا

فالرجاء يكون بمعنى الخوف والطمع؛ أي لا يخافون عقابا ولا يرجون ثوابا‏.‏ وجعل لقاء العذاب والثواب لقاء لله تفخيما لهما‏.‏ وقيل‏:‏ يجري اللقاء على ظاهره، وهو الرؤية؛ أي لا يطمعون في رؤيتنا‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ لا يقع الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد؛ كقوله تعالى‏{‏ما لكم لا ترجون لله وقارا‏}‏نوح‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ بل يقع بمعناه في كل موضع دل عليه المعنى‏.‏

قوله تعالى‏{‏ورضوا بالحياة الدنيا‏}‏ أي رضوا بها عوضا من الآخرة فعملوا لها‏.‏ ‏}‏واطمأنوا بها‏}‏ أي فرحوا بها وسكنوا إليها، وأصل اطمأن طأمن طمأنينة، فقدمت ميمه وزيدت نون وألف وصل، ذكره الغزنوي‏.‏ ‏}‏والذين هم عن آياتنا‏}‏ أي عن أدلتنا ‏}‏غافلون‏}‏ لا يعتبرون ولا يتفكرون‏.‏ ‏}‏أولئك مأواهم‏}‏ أي مثواهم ومقامهم‏.‏ ‏}‏النار بما كانوا يكسبون‏}‏ أي من الكفر والتكذيب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 9 ‏)‏

‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏ أي صدقوا‏.‏ ‏}‏وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم‏}‏ أي يزيدهم هداية؛ كقوله‏{‏والذين اهتدوا زادهم هدى‏}‏محمد‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقيل‏{‏يهديهم ربهم بإيمانهم‏}‏ إلى مكان تجري من تحتهم الأنهار‏.‏ وقال أبو روق‏:‏ يهديهم ربهم بإيمانهم إلى الجنة‏.‏ وقال عطية‏{‏يهديهم‏}‏ يثيبهم ويجزيهم‏.‏ وقال مجاهد‏{‏يهديهم ربهم‏}‏ بالنور على الصراط إلى ا الجنة، يجعل لهم نورا يمشون به‏.‏ ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقوي هذا أنه قال‏:‏ ‏(‏يتلقى المؤمن عمله في أحسن صورة فيؤنسه ويهديه ويتلقى الكافر عمله في أقبح صورة فيوحشه ويضله‏)‏‏.‏ هذا معنى الحديث‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ يجعل عملهم هاديا لهم‏.‏ الحسن‏{‏يهديهم‏}‏ يرحمهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏تجري من تحتهم الأنهار‏}‏ قيل‏:‏ في الكلام واو محذوفة، أي وتجري من نحتهم، أي من نحت بساتينهم‏.‏ وقيل‏:‏ من تحت أسرتهم؛ وهذا أحسن في النزهة والفرجة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 10 ‏)‏

‏{‏دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏دعواهم فيها سبحانك اللهم‏}‏ دعواهم‏:‏ أي دعاؤهم؛ والدعوى مصدر دعا يدعو، كالشكوى مصدر شكا يشكو؛ أي دعاؤهم في الجنة أن يقولوا سبحانك اللهم وقيل‏:‏ إذا أرادوا أن يسألوا شيئا أخرجوا السؤال بلفظ التسبيح ويختمون بالحمد‏.‏ وقيل‏:‏ نداؤهم الخدم ليأتوهم بما شاؤوا ثم سبحوا‏.‏ وقيل‏:‏ إن الدعاء هنا بمعنى التمني قال الله تعالى ‏}‏ولكم فيها ما تدعون‏}‏فصلت‏:‏ 31‏]‏ أي ما تتمنون‏.‏ والله أعلم‏.‏ ‏}‏وتحيتهم فيها سلام‏}‏ أي تحية الله لهم أو تحية الملك أو تحية بعضهم لبعض‏:‏ سلام‏.‏ وقد مضى في ‏}‏النساء‏}‏ معنى التحية مستوفى‏.‏ والحمد لله‏.‏

قيل‏:‏ إن أهل الجنة إذا مر بهم الطير واشتهوه قالوا‏:‏ سبحانك اللهم؛ فيأتيهم الملك بما اشتهوا، فإذا أكلوا حمدوا الله فسؤالهم بلفظ التسبيح والختم بلفظ الحمد‏.‏ ولم يحك أبو عبيد إلا تخفيف ‏}‏أن‏}‏ ورفع ما بعدها؛ قال‏:‏ وإنما نراهم مم اختاروا هذا وفرقوا بينها وبين قوله عز وجل‏{‏أن لعنة الله‏}‏ و‏}‏أن غضب الله‏}‏ لأنهم أرادوا الحكاية حين يقال الحمد لله‏.‏ قال النحاس‏:‏ مذهب الخليل وسيبويه أن ‏}‏أن‏}‏ هذه مخففة من الثقيلة‏.‏ والمعنى أنه الحمد لله‏.‏ قال محمد بن يزيد‏:‏ ويجوز ‏}‏أن الحمد لله‏}‏ يعملها خفيفة عملها ثقيلة؛ والرفع أقيس‏.‏ قال النحاس‏:‏ وحكى أبو حاتم أن بلال بن أبي بردة قرأ ‏}‏وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ وهى قراءة ابن محيصن، حكاها الغزنوي لأنه يحكي عنه‏.‏

التسبيح والحمد والتهليل قد يسمى دعاء؛ روى مسلم والبخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله العظيم الحليم‏.‏ لا إله إلا الله رب العرش العظيم‏.‏ لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم‏)‏‏.‏ قال الطبري‏:‏ كان السلف يدعون بهذا الدعاء ويسمونه دعاء الكرب‏.‏ وقال ابن عيينة وقد سئل عن هذا فقال‏:‏ أما علمت أن الله تعالى يقول ‏(‏إذا شغل عبدي ثناؤه عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين‏)‏‏.‏ والذي يقطع النزاع وأن هذا يسمى دعاء وإن لم يكن فيه من معنى الدعاء شيء وإنما هو تعظيم لله تعالى وثناء عليه ما رواه النسائي عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دعوة ذي النون إذا دعا بها في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء إلا استجيب له‏)‏‏.‏

من السنة لمن بدأ بالأكل أن يسمي الله عند أكله وشربه ويحمده عند فراغه اقتداء بأهل الجنة؛ وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها‏)‏‏.‏

الرابعة‏:‏ يستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه كما قال أهل الجنة‏:‏ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين؛ وحسن أن يقرأ آخر ‏}‏والصافات‏}‏ فإنها جمعت تنزيه البارئ تعالى عما نسب إليه، والتسليم على المرسلين، والختم بالحمد لله رب العالمين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 11 ‏)‏

‏{‏ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو يعجل الله للناس الشر‏}‏ قيل‏:‏ معناه ولو عجل الله للناس العقوبة كما يستعجلون الثواب والخير لماتوا، لأنهم خلقوا في الدنيا خلقا ضعيفا، وليس هم كذا يوم القيامة؛ لأنهم يوم القيامة يخلقون للبقاء‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لو فعل الله مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم؛ وهو معنى ‏}‏لقضي إليهم أجلهم‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إنه خاص بالكافر؛ أي ولو يجعل الله للكافر العذاب على كفره كما عجل له خير الدنيا من المال والولد لعجل له قضاء أجله ليتعجل عذاب الآخرة؛ قال ابن إسحاق‏.‏ مقاتل‏:‏ هو قول النضر بن الحارث‏:‏ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء؛ فلو عجل لهم هذا لهلكوا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ نزلت في الرجل يدعو على نفسه أو ماله أو ولده إذا غضب‏:‏ اللهم أهلكه، اللهم لا تبارك له فيه وألعنه، أو نحو هذا؛ فلو استجيب ذلك منه كما يستجاب الخير لقضي إليهم أجلهم‏.‏ فالآية نزلت ذامة لخلق ذميم هو في بعض الناس يدعون في الخير فيريدون تعجيل الإجابة ثم يحملهم أحيانا سوء الخلق على الدعاء في الشر؛ فلو عجل لهم لهلكوا‏.‏

واختلف في إجابة هذا الدعاء؛ فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إني سألت الله عز وجل ألا يستجيب دعاء حبيب على حبيبه‏)‏‏.‏ وقال شهر بن حوشب‏:‏ قرأت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول للملائكة الموكلين بالعبد‏:‏ لا تكتبوا على عبدي في حال ضجره شيئا؛ لطفا من الله تعالى عليه‏.‏ قال بعضهم‏:‏ وقد يستجاب ذلك الدعاء، واحتج بحديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه آخر الكتاب، قال جابر‏:‏ سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بواط وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني وكان الناضح يعتقبه منا الخمسة والستة والسبعة، فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له فأناخه فركب، ثم بعثه فتلدن عليه بعض التلدن؛ فقال له‏:‏ شأ؛ لعنك الله‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من هذا اللاعن بعيره‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ أنا يا رسول الله؛ قال‏:‏ ‏(‏انزل عنه فلا تصحبنا بملعون لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم‏)‏‏.‏

في غير كتاب مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فلعن رجل ناقته فقال‏:‏ ‏(‏أين الذي لعن ناقته‏)‏‏؟‏ فقال الرجل‏:‏ أنا هذا يا رسول الله؛ فقال‏:‏ ‏(‏أخرها عنك فقد أجبت فيها‏)‏ ذكره الحليمي في منهاج الدين‏.‏ ‏}‏شأ‏}‏ يروى بالسين والشين، وهو زجر للبعير بمعنى سر‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولو يعجل الله‏}‏ قال العلماء‏:‏ التعجيل من الله، والاستعجال من العبد‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ هما من الله؛ وفي الكلام حذف؛ أي ولو يعجل الله للناس الشر تعجيلا مثل استعجالهم بالخير، ثم حذف تعجيلا وأقام صفته مقامه، ثم حذف صفته وأقام المضاف إليه مقامه؛ هذا مذهب الخليل وسيبويه‏.‏ وعلى قول الأخفش والفراء كاستعجالهم، ثم حذف الكاف ونصب‏.‏ قال الفراء‏:‏ كما تقول ضربت زيدا ضربك، أي كضربك‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏}‏لقضى إليهم أجلهم‏}‏‏.‏ وهي قراءة حسنة؛ لأنه متصل بقوله‏{‏ولو يعجل الله للناس الشر‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏فنذر الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ أي لا يعجل لهم الشر فربما يتوب منهم تائب، أو يخرج من أصلابهم مؤمن‏.‏ ‏}‏في طغيانهم يعمهون‏}‏ أي يتحيرون‏.‏ والطغيان‏:‏ العلو والارتفاع؛ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن المراد بهذه الآية أهل مكة، وإنها نزلت حين قالوا‏{‏اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك‏}‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ الآية، على ما تقدم والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 12 ‏)‏

‏{‏وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه‏}‏ قيل‏:‏ المراد بالإنسان هنا الكافر، قيل‏:‏ هو أبو حذيفة بن المغيرة المشرك، تصيبه البأساء والشدة والجهد‏.‏ ‏}‏دعانا لجنبه‏}‏ أي على جنبه مضطجعا‏.‏ ‏}‏أو قاعدا أو قائما‏}‏ وإنما أراد جميع حالاته؛ لأن الإنسان لا يعدو إحدى هذه الحالات الثلاثة‏.‏ قال بعضهم‏:‏ إنما بدأ بالمضطجع لأنه بالضر أشد في غالب الأمر، فهو يدعو أكثر، واجتهاده أشد، ثم القاعد ثم القائم‏.‏ ‏}‏فلما كشفنا عنه ضره مر‏}‏ أي استمر على كفره ولم يشكر ولم يتعظ‏.‏

قلت‏:‏ وهذه صفة كثير من المخلطين الموحدين، إذا أصابته‏.‏ العافية مر على ما كان عليه من المعاصي؛ فالآية تعم الكافر وغيره‏.‏ ‏}‏كأن لم يدعنا‏}‏ قال الأخفش‏:‏ هي ‏}‏كأن‏}‏ الثقيلة خففت، والمعنى كأنه وأنشد‏:‏

وي كأنْ من يكن له نشب يُحْـ ـبب ومن يفتقر يعش عيش ضر

‏{‏كذلك‏}‏ أي كما زين لهذا الدعاء عند البلاء والإعراض عن الرخاء‏.‏ ‏}‏زين للمسرفين‏}‏ أي للمشركين أعمالهم من الكفر والمعاصي‏.‏ وهذا التزيين يجوز أن يكون من الله، ويجوز أن يكون من الشيطان، وإضلاله دعاؤه إلى الكفر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 13 ‏)‏

‏{‏ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا‏}‏ يعني الأمم الماضية من قبل أهل مكة أهلكناهم‏.‏ ‏}‏لما ظلموا‏}‏ أي كفروا وأشركوا‏.‏ ‏}‏وجاءتهم رسلهم بالبينات‏}‏ أي بالمعجزات الواضحات والبراهين النيرات‏.‏ ‏}‏وما كانوا ليؤمنوا‏}‏ أي أهلكناهم لعلمنا أنهم لا يؤمنون‏.‏ يخوف كفار مكة عذاب الأمم الماضية؛ أي نحن قادرون على إهلاك هؤلاء بتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، ولكن نمهلهم لعلمنا بأن فيهم من يؤمن، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن‏.‏ وهذه الآية ترد على أهل الضلال القائلين بخلق الهدى والإيمان‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏}‏ما كانوا ليؤمنوا‏}‏ أي جازاهم على كفرهم بأن طبع على قلوبهم؛ ويدل على هذا أنه قال‏{‏كذلك نجزي القوم المجرمين‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 14 ‏)‏

‏{‏ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم جعلناكم خلائف‏}‏ مفعولان‏.‏ والخلائف جمع خليفة، وقد تقدم آخر ‏}‏الأنعام‏}‏ أي جعلناكم سكانا في الأرض‏.‏ ‏}‏من بعدهم‏}‏ أي من بعد القرون المهلكة‏.‏ ‏}‏لننظر‏}‏ نصب بلام كي، وقد تقدم نظائره وأمثاله؛ أي ليقع منكم ما تستحقون به الثواب والعقاب، ولم يزل يعلمه غيبا‏.‏ وقيل‏:‏ يعاملكم معاملة المختبر إظهارا للعدل‏.‏ وقيل‏:‏ النظر راجع إلى الرسل؛ أي لينظر رسلنا وأولياؤنا كيف أعمالكم‏.‏ و‏}‏كيف‏}‏ نصب بقوله‏:‏ تعملون‏:‏ لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 15 ‏)‏

‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا‏}‏ ‏}‏تتلى‏}‏ تقرأ، و‏}‏بينات‏}‏ نصب على الحال؛ أي واضحات لا لبس فيها ولا إشكال‏.‏ ‏}‏قال الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ يعني لا يخافون يوم البعث والحساب ولا يرجون الثواب‏.‏ قال قتادة‏:‏ يعني مشركي أهل مكة‏.‏ ‏}‏ائت بقرآن غير هذا أو بدله‏}‏ والفرق بين تبديله والإتيان بغيره أن تبديله لا يجوز أن يكون معه، والإتيان بغيره قد يجوز أن يكون معه؛ وفي قولهم ذلك ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم سألوه أن يحول الوعد وعيدا والوعيد وعدا، والحلال حراما والحرام حلالا؛ قاله ابن جرير الطبري‏.‏

الثاني‏:‏ سألوه أن يسقط ما في القرآن من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم؛ قاله ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور؛ قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل ما يكون لي‏}‏ أي قل يا محمد ما كان لي ‏}‏أن أبدله من تلقاء نفسي‏}‏ ومن عندي، كما ليس لي أن ألقاه بالرد والتكذيب‏.‏ ‏}‏إن أتبع إلا ما يوحى إلي‏}‏ أي لا أتبع إلا ما أتلوه عليكم من وعد ووعيد، وتحريم وتحليل، وأمر ونهي‏.‏ ‏}‏وقد يستدل بهذا من يمنع نسخ الكتاب بالسنة؛ لأنه تعالى قال‏{‏قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي‏}‏ وهذا فيه بعد؛ فإن الآية وردت في طلب المشركين مثل القرآن نظما، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم قادرا على ذلك، ولم يسألوه تبديل الحكم دون اللفظ؛ ولأن الذي يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان وحيا لم يكن من تلقاء نفسه، بل كان من عند الله تعالى‏.‏ ‏}‏إني أخاف إن عصيت ربي‏}‏ أي إن خالفت في تبديله وتغييره أو في ترك العمل به‏.‏ ‏}‏عذاب يوم عظيم‏}‏ يعني يوم القيامة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 16 ‏)‏

‏{‏قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به‏}‏ أي لو شاء الله ما أرسلني إليكم فتلوت عليكم القرآن، ولا أعلمكم الله ولا أخبركم به؛ يقال‏:‏ دريت الشيء وأدراني الله به، ودريته ودريت به‏.‏ وفي الدراية معنى الختل؛ ومنه دريت الرجل أي ختلته، ولهذا لا يطلق الداري في حق الله تعالى وأيضا عدم فيه التوقيف‏.‏ وقرأ ابن كثير‏{‏ولأدراكم به‏}‏ بغير ألف بين اللام والهمزة؛ والمعنى‏:‏ لو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم؛ فهي لام التأكيد دخلت على ألف أفعل‏.‏ وقرأ ابن عباس والحسن ‏}‏ولا أدراتكم به‏}‏ بتحويل الياء ألفا، على لغة بني عقيل؛ قال الشاعر‏:‏

لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقى على الأرض قيسي يسوق الأباعرا

وقال آخر‏:‏

ألا آذنت أهل اليمامة طيء بحرب كناصات الأغر المشهر

قال أبو حاتم‏:‏ سمعت الأصمعي يقول سألت أبا عمرو بن العلاء‏:‏ هل لقراءة الحسن ‏}‏ولا أدراتكم به‏}‏ وجه‏؟‏ فقال لا‏.‏ وهل أبو عبيد‏:‏ لا وجه لقراءة الحسن ‏}‏ولا أدراتكم به‏}‏ إلا الغلط‏.‏ قال النحاس‏:‏ معنى قول أبي عبيد‏:‏ لا وجه، إن شاء الله على الغلط؛ لأنه يقال‏:‏ دريت أي علمت، وأدريت غيري، ويقال‏:‏ درأت أي دفعت؛ فيقع الغلط بين دريت ودرأت‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ يريد الحسن فيما أحسب ‏}‏ولا أدريتكم به‏}‏ فأبدل من الياء ألفا على لغة بني الحارث بن كعب، يبدلون من الياء ألفا إذا انفتح ما قبلها؛ مثل‏{‏إن هذان لساحران‏}‏طه‏:‏ 63‏]‏‏.‏ قال المهدوي‏:‏ ومن قرأ ‏}‏أدرأتكم‏}‏ فوجهه أن أصل الهمزة ياء، فأصله ‏}‏أدريتكم‏}‏ فقلبت الياء ألفا وإن كانت ساكنة؛ كما قال‏:‏ يايس في ييس وطايء في طيء، ثم قلبت الألف همزة على لغة من قال في العالم العألم وفي الخاتم الخأتم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا غلط، والرواية عن الحسن ‏}‏ولا أدرأتكم‏}‏ بالهمزة، وأبو حاتم وغيره تكلم أنه بغير همز، ويجوز أن يكون من درأت أي دفعت؛ أي ولا أمرتكم أن تدفعوا فتتركوا الكفر بالقرآن‏.‏

قوله تعالى‏{‏فقد لبثت فيكم عمرا‏}‏ ظرف، أي مقدارا من الزمان وهو أربعون سنة‏.‏ ‏}‏من قبله‏}‏ أي من قبل القرآن، تعرفونني بالصدق والأمانة، لا أقرأ ولا أكتب، ثم جئتكم بالمعجزات‏.‏ ‏}‏أفلا تعقلون‏}‏ أن هذا لا يكون إلا من عند الله لا من قبلي‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏}‏لبثت فيكم عمرا‏}‏ أي لبثت فيكم مدة شبابي لم أعص الله، أفتريدون مني الآن وقد بلغت أربعين سنة أن أخالف أمر الله، وأغير ما ينزله علي‏.‏ قال قتادة‏:‏ لبث فيهم أربعين سنة، وأقام سنتين يرى رؤيا الأنبياء، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن اثنتين وستين سنة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 17 ‏)‏

‏{‏فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون‏}‏

هذا استفهام بمعنى الجحد؛ أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب، وبدل كلامه وأضاف شيئا إليه مما لم ينزله‏.‏ وكذلك لا أحد أظلم منكم إذا أنكرتم القرآن وافتريتم على الله الكذب، وقلتم ليس هذا كلامه‏.‏ وهذا مما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول الله ابتداء‏.‏ وقيل‏:‏ المفتري المشرك، والمكذب بالآيات أهل الكتاب‏.‏ ‏}‏إنه لا يفلح المجرمون‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 18 ‏)‏

‏{‏ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم‏}‏ يريد الأصنام‏.‏ ‏}‏ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏ وهذه غاية الجهالة منهم؛ حيث ينتظرون الشفاعة في المال ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال‏.‏ وقيل‏{‏شفعاؤنا‏}‏ أي تشفع لنا عند الله في إصلاح معائشنا في الدنيا‏.‏ ‏}‏قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض‏}‏ قراءة العامة ‏}‏تنبئون‏}‏ بالتشديد‏.‏ وقرأ أبو السمال العدوي ‏}‏أتنبئون الله‏}‏ مخففا، من أنبأ ينبئ‏.‏ وقراءة العامة من نبأ ينبئ تنبئة؛ وهما بمعنى واحد، جمعهما قوله تعالى‏{‏من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير‏}‏التحريم‏:‏ 3‏]‏ أي أتخبرون الله أن له شريكا في ملكه أو شفيعا بغير إذنه، والله لا يعلم لنفسه شريكا في السموات ولا في الأرض؛ لأنه لا شريك له فلذلك لا يعلمه‏.‏ نظيره قوله‏{‏أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض‏}‏الرعد‏:‏ 33‏]‏ ثم نزه نفسه وقدسها عن الشرك فقال‏{‏سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏ أي هو أعظم من أن يكون له شريك وقيل‏:‏ المعنى أي يعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يميز‏}‏ ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏ فيكذبون؛ وهل يتهيأ لكم أن تنبؤه بما لا يعلم، سبحانه وتعالى عما يشركون‏!‏‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏}‏تشركون‏}‏ بالتاء، وهو اختيار أبي عبيد‏.‏ الباقون بالياء‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 19 ‏)‏

‏{‏وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون‏}‏

تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ معناه فلا معنى للإعادة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هم العرب كانوا على الشرك‏.‏ وقيل‏:‏ كل مولود يولد عل الفطرة، فاختلفوا عند البلوغ‏.‏ ‏}‏ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون‏}‏ إشارة إلى القضاء والقدر؛ أي لولا ما سبق في حكمه أنه لا يقضى بينهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة لقضي بينهم في الدنيا، فأدخل المؤمنين الجنة بأعمالهم والكافرين النار بكفرهم، ولكنه سبق من الله الأجل مع علمه بصنيعهم فجعل موعدهم القيامة؛ قال الحسن‏.‏ وقال أبو ورق‏{‏لقضي بينهم‏}‏ لأقام عليهم الساعة‏.‏ وقيل‏:‏ لفرغ من هلاكهم‏.‏ وقال الكلبي‏{‏الكلمة‏}‏ أن الله أخر هذه الأمة فلا يهلكهم بالعذاب في الدنيا إلى يوم القيامة، فلولا‏.‏ هذا التأخير لقضي بينهم بنزول العذاب أو بإقامة الساعة‏.‏ والآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في تأخير العذاب عمن كفر به‏.‏ وقيل‏:‏ الكلمة السابقة أنه لا يأخذ أحدا إلا بحجة وهو إرسال الرسل؛ كما قال‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏}‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ وقيل‏:‏ الكلمة قوله‏:‏ ‏(‏سبقت رحمتي غضبي‏)‏ ولولا ذلك لما أخر العصاة إلى التوبة‏.‏ وقرأ عيسى ‏}‏لقضى‏}‏ بالفتح‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 20 ‏)‏

‏{‏ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين‏}‏

يريد أهل مكة؛ أي هلا أنزل عليه آية، أي معجزة غير هذه المعجزة، فيجعل لنا الجبال ذهبا ويكون ل بيت من زخرف، ويحيى لنا من مات من آبائنا‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ عصا كعصا موسى‏.‏ ‏}‏فقل إنما الغيب لله‏}‏ أي قل يا محمد إن نزول الآية غيب‏.‏ ‏}‏فانتظروا‏}‏ أي تربصوا‏.‏ ‏}‏إني معكم من المنتظرين‏}‏ لنزولها‏.‏ وقيل‏:‏ انتظروا قضاء الله بيننا بإظهار المحق على المبطل‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 21 ‏)‏

‏{‏ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون‏}‏

يريد كفار مكة‏.‏ ‏}‏رحمة من بعد ضراء مستهم‏}‏ قيل‏:‏ رخاء بعد شدة، وخصب بعد جدب‏.‏ ‏}‏إذا لهم مكر في آياتنا‏}‏ أي استهزاء وتكذيب‏.‏ وجواب قوله‏{‏وإذا أذقنا‏}‏‏{‏إذا لهم‏}‏ على قول الخليل وسيبويه‏.‏ ‏}‏قل الله أسرع مكرا‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ ‏}‏مكرا‏}‏ على البيان؛ أي أعجل عقوبة على جزاء مكرهم، أي أن ما يأتيهم من العذاب أسرع في إهلاكهم مما أتوه من المكر‏.‏ ‏}‏إن رسلنا يكتبون ما تمكرون‏}‏ يعني بالرسل الحفظة‏.‏ وقراءة العامة ‏}‏تمكرون‏}‏ بالتاء خطابا‏.‏ وقرأ يعقوب في رواية رويس وأبو عمرو في رواية هارون العتكي ‏}‏يمكرون‏}‏ بالياء؛ لقول‏{‏إذا لهم مكر في آياتنا‏}‏ قيل‏:‏ قال أبو سفيان قحطنا بل بدعائك فان سقيتنا صدقناك؛ فسقوا باستسقائه صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا، فهذا مكرهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 22 ‏:‏ 23 ‏)‏

‏{‏هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم‏}‏ أي يحملكم في البر على الدواب وفي البحر على الفلك‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يحفظكم في السير‏.‏ والآية تتضمن تعديد النعم فيما هي الحال بسبيله من ركوب الناس الدواب والبحر‏.‏ وقد مضى الكلام في ركوب البحر في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ ‏}‏يسيركم‏}‏ قراءة العامة‏.‏ ابن عامر ‏}‏ينشركم‏}‏ بالنون والشين، أي يبثكم ويفرقكم‏.‏ والفلك يقع على الواحد والجمع، ويذكر ويؤنث، وقد تقدم القول فيه‏.‏ وقوله‏{‏وجربن بهم‏}‏ خروج من الخطاب إلى الغيبة، وهو في القرآن وأشعار العرب كثير؛ قال النابغة‏:‏

يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأمد

قال ابن الأنباري‏:‏ وجائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب؛ قال الله تعالى‏{‏وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا‏}‏الإنسان‏:‏ 21 - 22‏]‏ فأبدل الكاف من الهاء‏.‏

قوله تعالى ‏}‏بريح طيبة وفرحوا بها‏}‏ تقدم الكلام فيها في البقرة‏.‏ ‏}‏جاءتها ريح عاصف‏}‏ الضمير في ‏}‏جاءتها‏}‏ للسفينة‏.‏ وقيل للريح الطيبة‏.‏ والعاصف الشديدة؛ يقال‏:‏ عصفت الريح وأعصفت، فهي عاصف ومعصف ومعصفة أي شديدة، قال الشاعر‏:‏

حتى إذا أعصفت ريح مزعزعة فيها قطار ورعد صوته زجل

وقال ‏}‏عاصف‏}‏ بالتذكير لأن لفظ الريح مذكر، وهي القاصف أيضا‏.‏ والطيبة غير عاصف ولا بطيئة‏.‏ ‏}‏وجاءهم الموج من كل مكان‏}‏ والموج ما ارتفع من الماء ‏}‏وظنوا‏}‏ أي أيقنوا ‏}‏أنهم أحيط بهم‏}‏ أي أحاط بهم البلاء؛ يقال لمن وقع في بلية‏:‏ قد أحيط به، كأن البلاء قد أحاط به؛ وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بموضع فقد هلك أهله‏.‏ ‏}‏دعوا الله مخلصين له الدين‏}‏ أي دعوه وحده وتركوا ما كانوا يعبدون‏.‏ وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه، وإن كان كافرا؛ لانقطاع الأسباب ورجوعه إلى الواحد رب الأرباب؛ على ما يأتي بيانه في ‏}‏النمل‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ إنهم قالوا في دعائهم أهيا شراهيا؛ أي يا حي يا قيوم‏.‏ وهي لغة العجم‏.‏

مسألة‏:‏ هذه الآية تدل على ركوب البحر مطلقا، ومن السنة حديث أبي هريرة وفيه‏:‏ إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏ وحديث أنس في قصة أم حرام يدل على جواز ركوبه في الغزو، وقد مضى هذا المعنى في ‏}‏البقرة‏}‏ مستوفى والحمد لله‏.‏ وقد تعدم في آخر ‏}‏الأعراف‏}‏ حكم راكب البحر في حال ارتجاجه وغليانه، هل حكمه حكم الصحيح أو المريض المحجور عليه؛ فتأمله هناك‏.‏

قوله تعالى‏{‏لئن أنجيتنا من هذه‏}‏ أي هذه الشدائد والأهوال‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ من هذه الريح‏.‏ ‏}‏لنكونن من الشاكرين‏}‏ أي من العاملين بطاعتك على نعمة الخلاص‏.‏ ‏}‏فلما أنجاهم‏}‏ أي خلصهم وأنقذهم‏.‏‏.‏ ‏}‏إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق‏}‏ أي يعملون في الأرض بالفساد وبالمعاصي‏.‏ والبغي‏:‏ الفساد والشرك؛ من بغى الجرح إذا فسد؛ وأصله الطلب، أي يطلبون الاستعلاء بالفساد‏.‏ ‏}‏بغير الحق‏}‏ أي بالتكذيب؛ ومنه بغت المرأة طلبت غير زوجها‏.‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم‏}‏ أي وباله عائد عليكم؛ وتم الكلام، ثم ابتدأ فقال‏{‏متاع الحياة الدنيا ثم إلي مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون‏}‏ أي هو متاع الحياة الدنيا؛ ولا بقاء له‏.‏ قال النحاس‏{‏بغيكم‏}‏ رفع بالابتداء وخبره ‏}‏متاع الحياة الدنيا‏}‏‏.‏ و‏}‏على أنفسكم‏}‏ مفعول معنى فعل البغي‏.‏ ويجوز أن يكون خبره ‏}‏على أنفسكم‏}‏ وتضمر مبتدأ، أي ذلك متاع الحياة الدنيا، أو هو متاع الحياة الدنيا؛ وبين المعنيين حرف لطيف، إذا رفعت متاعا على أنه خبر ‏}‏بغيكم‏}‏ فالمعنى‏.‏ إنما بغي بعضكم على بعض؛ مثل‏{‏فسلموا على أنفسكم‏}‏النور‏:‏ 61‏]‏ وكذا ‏}‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏}‏التوبة‏:‏ 128‏]‏‏.‏ وإذا كان الخبر ‏}‏على أنفسكم‏}‏ فالمعنى إنما فسادكم راجع عليكم؛ مثل ‏}‏وإن أسأتم فلها‏}‏‏.‏ وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال‏:‏ أراد أن البغي متاع الحياة الدنيا، أي عقوبته تعجل لصاحبه في الدنيا؛ كما يقال‏:‏ البغي مصرعة‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق ‏}‏متاع‏}‏ بالنصب على أنه مصدر؛ أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا‏.‏ أو ينزع الخافض، أي لمتاع، أو مصدر، بمعنى المفعول على الحال، أي متمتعين‏.‏ أو هو نصب على الظرف، أي في متاع الحياة الدنيا، ومتعلق الظرف والجار والحال معنى الفعل في البغي‏.‏ و‏}‏على أنفسكم‏}‏ مفعول ذلك المعنى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 24 ‏)‏

‏{‏إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء‏}‏ معنى الآية التشبيه والتمثيل، أي صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها والملاذ بها كماء؛ أي مثل ماء، فالكاف في موضع رفع‏.‏ وسيأتي لهذا التشبيه مزيد بيان في ‏}‏الكهف‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ ‏}‏أنزلناه من السماء‏}‏ نعت لـ ‏}‏ماء‏}‏‏.‏ ‏}‏فاختلط‏}‏ روي عن نافع أنه وقف على ‏}‏فاختلط‏}‏ أي فاختلط الماء بالأرض، ‏}‏به نبات الأرض‏}‏ أي بالماء نبات الأرض؛ فأخرجت ألوانا من النبات، فنبات على هذا ابتداء، وعلى مذهب من لم يقف على ‏}‏فاختلط‏}‏ مرفوع باختلط؛ أي اختلط النبات بالمطر، أي شرب منه فتندى وحسن وأخضر‏.‏ والاختلاط تداخل الشيء بعضه في بعض‏.‏

قوله تعالى‏{‏مما يأكل الناس‏}‏ من الحبوب والثمار والبقول‏.‏ ‏}‏والأنعام‏}‏ من الكلأ والتبن والشعير‏.‏ ‏}‏حتى إذا أخذت الأرض زخرفها‏}‏ أي حسنها وزينتها‏.‏ والزخرف كمال حسن الشيء؛ ومنه قيل للذهب‏:‏ زخرف‏.‏ ‏}‏وازينت‏}‏ أي بالحبوب والثمار والأزهار؛ والأصل تزينت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل؛ لأن الحرف المدغم مقام حرفين الأول منهما ساكن والساكن لا يمكن الابتداء به‏.‏ وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب ‏}‏وتزينت‏}‏ على الأصل‏.‏ وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية ‏}‏وازينت‏}‏ أي أتت بالزينة عليها، أي الغلة والزرع، وجاء بالفعل على أصله ولو أعله لقال وازانت‏.‏ وقال عوف بن أبي جميلة الأعرابي‏:‏ قرأ أشياخنا ‏}‏وازيانت‏}‏ وزنه اسوادت‏.‏ وفي رواية المقدمي ‏}‏وازاينت‏}‏ والأصل فيه تزاينت، وزنه تقاعست ثم أدغم‏.‏ وقرأ الشعبي وقتادة ‏}‏وازيانت‏}‏ مثل أفعلت‏.‏ وقرأ عثمان النهدي ‏}‏وازينت‏}‏ مثل أفعلت، وعنه أيضا ‏}‏وازيانت مثل أفعالت، وروى عنه ‏}‏ازيأنت‏}‏ بالهمزة؛ ثلاث قراءات‏.‏

قوله تعالى‏{‏وظن أهلها‏}‏ أي أيقن‏.‏ ‏}‏أنهم قادرون عليها‏}‏ أي على حصادها والانتفاع بها؛ أخبر عن الأرض والمعنى النبات إذ كان مفهوما وهو منها‏.‏ وقيل‏:‏ رد إلى الغلة، وقيل‏:‏ إلى الزينة‏.‏ ‏}‏أتاها أمرنا‏}‏ أي عذابنا، أو أمرنا بهلاكها‏.‏ ‏}‏ليلا أو نهارا‏}‏ ظرفان‏.‏ ‏}‏فجعلناها حصيدا‏}‏ مفعولان، أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها‏.‏ وقال ‏}‏حصيدا‏}‏ ولم يؤنث لأنه فعيل بمعنى مفعول‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ الحصيد المستأصل‏.‏ ‏}‏كأن لم تغن بالأمس‏}‏ أي لم تكن عامرة؛ من غني إذا أقام فيه وعمره‏.‏ والمغاني في اللغة‏:‏ المنازل التي يعمرها الناس‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كأن لم تنعم‏.‏ قال لبيد‏:‏

وغنيت سبتا قبل مجرى داحس لو كان للنفس اللجوج خلود

وقراءة العامة ‏}‏تغن‏}‏ بالتاء لتأنيث الأرض‏.‏ وقرأ قتادة ‏}‏يغن‏}‏ بالياء، يذهب به إلى الزخرف؛ يعني فكما يهلك هذا الزرع هكذا كذلك الدنيا‏.‏ ‏}‏نفصل الآيات‏}‏ أي نبينها‏.‏ ‏}‏لقوم يتفكرون‏}‏ في آيات الله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 25 ‏)‏

‏{‏والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏والله يدعو إلى دار السلام‏}‏ لما ذكر وصف هذه الدار وهي دار الدنيا وصف الآخرة فقال‏:‏ إن الله لا يدعوكم إلى جمع الدنيا بل يدعوكم إلى الطاعة لتصيروا إلى دار السلام، أي إلى الجنة‏.‏ قال قتادة والحسن‏:‏ السلام هو الله، وداره الجنة؛ وسميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات‏.‏ ومن أسمائه سبحانه ‏}‏السلام‏}‏، وقد بيناه في (1)‏‏.‏ ويأتي في سورة ‏}‏الحشر‏}‏ إن شاء الله‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى والله يدعو إلى دار السلامة‏.‏ والسلام والسلامة بمعنى كالرضاع والرضاعة؛ قاله الزجاج‏.‏ قال الشاعر‏:‏

تحيي بالسلامة أم بكر وهل لك بعد قومك من سلام

وقيل‏:‏ أراد والله يدعو إلى دار التحية؛ لأن أهلها ينالون من الله التحية والسلام، وكذلك من الملائكة‏.‏ قال الحسن‏:‏ إن السلام لا ينقطع، عن أهل الجنة، وهو تحيتهم؛ كما قال‏{‏وتحيتهم فيها سلام‏}‏يونس‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقال يحيى بن معاذ‏:‏ يا ابن آدم، دعاك الله إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه، فإن أجبته من دنياك دخلتها، وإن أجبته من قبرك منعتها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الجنان سبع‏:‏ دار الجلال، ودار السلام، وجنة عدن، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة الفردوس، وجنة النعيم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏ عم بالدعوة إظهارا لحجته، وخص بالهداية استغناء عن خلقه‏.‏ والصراط المستقيم، قيل‏:‏ كتاب الله؛ رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏الصراط المستقيم كتاب الله تعالى‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ الإسلام؛ رواه النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ الحق؛ قاله قتادة ومجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما‏.‏ وروى جابر بن عبدالله قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال‏:‏ ‏(‏رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا فقال له اسمع سمعت أذناك واعقل عقل قلبك وإنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول فمن أجابك دخل في الإسلام ومن دخل في الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل مما فيها‏)‏ ثم تلا يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏‏.‏ ثم تلا قتادة ومجاهد‏{‏والله يدعو إلى دار السلام‏}‏‏.‏ وهذه الآية بينة الحجة في الرد على القدرية؛ لأنهم قالوا‏:‏ هدى الله الخلق كلهم إلى صراط مستقيم، والله قال‏{‏ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏ فردوا على الله نصوص القرآن‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 26 ‏)‏

‏{‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏}‏ روي من حديث أنس قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى‏{‏وزيادة‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏للذين أحسنوا العمل في الدنيا لهم الحسنى وهي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم‏)‏ وهو قول أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب في رواية‏.‏ وحذيفة وعبادة بن الصامت وكعب بن عجرة وأبي موسى وصهيب وابن عباس في رواية، وهو قول جماعة من التابعين، وهو الصحيح في الباب‏.‏ وروى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل‏)‏ وفي رواية ثم تلا ‏}‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏}‏ وخرجه النسائي أيضا عن صهيب قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذه الآية ‏}‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم موعدا عند الله يريد أن ينجزكموه قالوا ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر ولا أقر لأعينهم‏)‏‏.‏ وخرجه ابن المبارك في دقائقه عن أبي موسى الأشعري موقوفا، وقد ذكرناه في كتاب التذكرة، وذكرنا هناك معنى كشف الحجاب، والحمد لله‏.‏ وخرج الترمذي الحكيم أبو عبدالله رحمه الله‏:‏ حدثنا علي بن حجر حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزيادتين في كتاب الله؛ في قول ‏}‏للذين أحسوا الحسنى وزيادة‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏النظر إلى وجه الرحمن‏)‏ وعن قوله‏{‏وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون‏}‏الصافات‏:‏ 147‏]‏ قال‏:‏ ‏(‏عشرون ألفا‏)‏‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الزيادة أن تضاعف الحسنة عشر حسنات إلى أكثر من ذلك؛ روي عن ابن عباس‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة آلاف باب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الحسنى حسنة مثل حسنة، والزيادة مغفرة من الله ورضوان‏.‏ وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ الحسنى الجنة، والزيادة ما أعطاهم الله في الدنيا من فضله لا يحاسبهم به يوم القيامة‏.‏ وقال عبدالرحمن بن سابط‏:‏ الحسنى البشرى، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم؛ قال الله تعالى‏{‏وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة‏}‏القيامة‏:‏ 22 - 23‏]‏‏.‏ وقال يزيد بن شجرة‏:‏ الزيادة أن تمر السحابة بأهل الجنة فتمطرهم من كل النوادر التي لم يروها، وتقول‏:‏ يا أهل الجنة، ما تريدون أن أمطركم‏؟‏ فلا يريدون شيئا إلا أمطر لهم إياه‏.‏ وقيل‏:‏ الزيادة أنه ما يمر عليهم مقدار يوم من أيام الدنيا إلا حتى يطيف بمنزل أحدهم سبعون ألف ملك، مع كل ملك هدايا من عند الله ليست مع صاحبه، ما رأوا مثل تلك الهدايا قط؛ فسبحان الواسع العليم الغني الحميد العلي الكبير العزيز القدير البر الرحيم المدبر الحكيم اللطيف الكريم الذي لا تتناهى مقدوراته‏.‏ وقيل‏{‏أحسنوا‏}‏ أي معاملة الناس، ‏}‏الحسنى‏}‏‏:‏ شفاعتهم، والزيادة‏:‏ إذن الله تعالى فيها وقبوله‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا يرهق وجوههم‏}‏ قيل‏:‏ معناه يلحق؛ ومنه قيل‏:‏ غلام مراهق إذا لحق بالرجال‏.‏ وقيل‏:‏ يعلو‏.‏ وقيل‏:‏ يغشى؛ والمعنى متقارب‏.‏ ‏}‏قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون‏}‏ ‏}‏قتر‏}‏ غبار‏.‏ ‏}‏ولا ذلة‏}‏ أي مذلة؛ كما يلحق أهل النار؛ أي لا يلحقهم غبار في محشرهم إلى الله ولا تغشاهم ذلة‏.‏ وأنشد أبو عبيدة للفرزدق‏:‏

متوج برداء الملك يتبعه موج ترى فوقه الرايات والقترا

وقرأ الحسن ‏}‏قتر‏}‏ بإسكان التاء‏.‏ والقتر والقترة والقترة بمعنى واحد؛ قاله النحاس‏.‏ وواحد القتر قترة؛ ومنه قوله تعالى‏{‏ترهقها قترة‏}‏عبس‏:‏ 41‏]‏ أي تعلوها غبرة‏.‏ وقيل‏:‏ قتر كآبة وكسوف‏.‏ ابن عباس‏:‏ القتر سواد الوجوه‏.‏ ابن بحر‏:‏ دخان النار؛ ومنه قتار القدر‏.‏ وقال ابن ليلى‏:‏ هو بعد نظرهم إلى ربهم عز وجل‏.‏

قلت‏:‏ هذا فيه نظر؛ فإن الله عز وجل يقول‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون‏}‏ إلى قوله ‏}‏لا يحزنهم الفزع الأكبر‏}‏الأنبياء‏:‏ 101 - 103‏]‏ وقال في غير آية‏{‏ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏البقرة‏:‏ 62‏]‏ وقال‏{‏إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا‏}‏فصلت‏:‏ 30‏]‏ الآية‏.‏ وهذا عام فلا يتغير بفضل الله في موطن من المواطن لا قبل النظر ولا بعده وجه المحسن بسواد من كآبة ولا حزن، ولا يعلوه شيء من دخان جهنم ولا غيره‏.‏ ‏}‏وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون‏}‏آل عمران‏:‏ 107‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 27 ‏)‏

‏{‏والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏والذين كسبوا السيئات‏}‏ أي عملوا المعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ الشرك‏.‏ ‏}‏جزاء سيئة بمثلها‏}‏ ‏}‏جزاء‏}‏ مرفوع بالابتداء، وخبره ‏}‏بمثلها‏}‏‏.‏ قال ابن كيسان‏:‏ الباء زائدة؛ والمعنى جزاء سيئة مثلها‏.‏ وقيل‏:‏ الباء مع ما بعدها الخبر، وهي متعلقة بمحذوف قامت مقامه، والمعنى‏:‏ جزاء سيئة كائن بمثلها؛ كقولك‏:‏ إنما أنابك؛ أي وإنما أنا كائن بك‏.‏ ويجوز أن تتعلق بجزاء، التقدير‏:‏ جزاء السيئة بمثلها كائن؛ فحذف خبر المبتدأ‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏جزاء‏}‏ مرفوعا على تقدير فلهم جزاء سيئة؛ فيكون مثل قوله‏{‏فعدة من أيام أخر‏}‏البقرة‏:‏ 184‏]‏ أي فعليه عدة، وشبهه؛ والباء على هذا التقدير تتعلق بمحذوف، كأنه قال لهم جزاء سيئة ثابت بمثلها، أو تكون مؤكدة أو زائدة‏.‏

ومعنى هذه المثلية أن ذلك الجزاء مما يعد مماثلا لذنوبهم، أي هم غير مظلومين، وفعل الرب جلت قدرته وتعالى شأنه غير معلل بعلة‏.‏ ‏}‏وترهقهم ذلة‏}‏ أي يغشاهم هوان وخزي‏.‏ ‏}‏ما لهم من الله‏}‏ أي من عذاب الله‏.‏ ‏}‏من عاصم‏}‏ أي مانع يمنعهم منه‏.‏ ‏}‏كأنما أغشيت‏}‏ أي ألبست‏.‏ ‏}‏وجوههم قطعا‏}‏ جمع قطعة، وعلى هذا يكون ‏}‏مظلما‏}‏ حال من ‏}‏الليل‏}‏ أي أغشيت وجوههم قطعا من الليل في حال ظلمته‏.‏ وقرأ الكسائي وابن كثير ‏}‏قطعا‏}‏ بإسكان الطاء؛ فـ ‏}‏مظلما‏}‏ على هذا نعت، ويجوز أن يكون حالا من الليل‏.‏ والقطع اسم قطع فسقط‏.‏ وقال ابن السكيت‏:‏ القطع طائفة من الليل؛ وسيأتي في ‏}‏هود‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 28 ‏)‏

‏{‏ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويوم نحشرهم جميعا‏}‏ أي نجمعهم، والحشر الجمع‏.‏ ‏}‏جميعا‏}‏ حال‏.‏ ‏}‏ثم نقول للذين أشركوا‏}‏ أي اتخذوا مع الله شريكا‏.‏ ‏}‏مكانكم‏}‏ أي الزموا واثبتوا مكانكم، وقفوا مواضعكم‏.‏ ‏}‏أنتم وشركاؤكم‏}‏ وهذا وعيد‏.‏ ‏}‏فزيلنا بينهم‏}‏ أي فرقنا وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا؛ يقال‏:‏ زيلته فتزيل، أي فرقته فتفرق، وهو فعلت؛ لأنك تقول في مصدره تزييلا، ولو كان فيعلت لقلت زيلة‏.‏ والمزايلة المفارقة؛ يقال‏:‏ زايله الله مزايلة وزيالا إذا فارقه‏.‏ والتزايل التباين‏.‏ قال الفراء‏:‏ وقرأ بعضهم ‏}‏فزايلنا بينهم‏}‏؛ يقال‏:‏ لا أزايل فلانا، أي لا أفارقه؛ فإن قلت‏:‏ لا أزاوله فهو بمعنى آخر، معناه لا أخاتله‏.‏ ‏}‏وقال شركاؤهم‏}‏ عنى بالشركاء الملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ الشياطين، وقيل‏:‏ الأصنام؛ فينطقها الله تعالى فتكون بينهم هذه المحاورة‏.‏ وذلك أنهم ادعوا على الشياطين الذين أطاعوهم والأصنام التي عبدوها أنهم أمروهم بعبادتهم ويقولون ما عبدناكم حتى أمرتمونا‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ينطق الله الأوثان فتقول ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون، وما أمرناكم بعبادتنا‏.‏ وإن حمل الشركاء على الشياطين فالمعنى أنهم يقولون ذلك دهشا، أو يقولون كذبا واحتيالا للخلاص، وقد يجري مثل هذا غدا؛ وإن صارت المعارف ضرورية‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 29 ‏)‏

‏{‏فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم‏}‏ ‏}‏شهيدا‏}‏ مفعول، أي كفى الله شهيدا، أو تمييز، أي اكتف به شهيدا بيننا وبينكم إن كنا أمرناكم بهذا أو رضيناه منكم‏.‏ ‏}‏إن كنا‏}‏ أي ما كنا ‏}‏عن عبادتكم لغافلين‏}‏ إلا غافلين لا نسمع ولا نبصر ولا نعقل؛ لأنا كنا جمادا لا روح فينا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 30 ‏)‏

‏{‏هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏

قوله تعالى‏{‏هنالك‏}‏ في موضع نصب على الظرف‏.‏ ‏}‏تبلو‏}‏ أي في ذلك الوقت‏.‏ ‏}‏تبلو‏}‏ أي تذوق‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ تعلم‏.‏ مجاهد‏:‏ تختبر‏.‏ ‏}‏كل نفس ما أسلفت‏}‏ أي جزاء ما عملت وقدمت‏.‏ وقيل‏:‏ تسلم، أي تسلم ما عليها من الحقوق إلى أربابها بغير اختيارها‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏}‏تتلو‏}‏ أي تقرأ كل نفس كتابها الذي كتب عليها‏.‏ وقيل‏{‏تتلو‏}‏ تتبع؛ أي تتبع كل نفس ما قدمت في الدنيا؛ قاله السدي‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

إن المريب يتبع المريبا كما رأيت الذيب يتلو الذيبا

قوله تعالى‏{‏وردوا إلى الله مولاهم الحق‏}‏ بالخفض على البدل أو الصفة‏.‏ ويجوز نصب الحق من ثلاث جهات؛ يكون التقدير‏:‏ وردوا حقا، ثم جيء بالألف واللام‏.‏ ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ مولاهم حقا لا ما يعبدون من دونه‏.‏ والوجه الثالث أن يكون مدحا؛ أي أعني الحق‏.‏ ويجوز أن يرفع ‏}‏الحق‏}‏، ويكون المعنى مولاهم الحق - على الابتداء والخبر والقطع مما قبل - لا ما يشركون من دونه‏.‏ ووصف نفسه سبحانه بالحق لأن الحق منه كما وصف نفسه بالعدل لأن العدل منه؛ أي كل عدل وحق فمن قبله، وقال ابن عباس‏{‏مولاهم بالحق‏}‏ أي الذي يجازيهم بالحق‏.‏ ‏}‏وضل عنهم‏}‏ أي بطل‏.‏ ‏}‏ما كانوا يفترون‏}‏ ‏}‏يفترون‏}‏ في موضع رفع وهو بمعنى المصدر، أي افتراؤهم‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف قال‏{‏وردوا إلى الله مولاهم الحق‏}‏ وقد أخبر بأن الكافرين لا مولى لهم‏.‏ قيل ليس بمولاهم في النصرة والمعونة، وهو مولى لهم في الرزق وإدرار النعم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 31 ‏)‏

‏{‏قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون‏}‏

المراد بمساق هذا الكلام الرد على المشركين وتقرير الحجة عليهم؛ فمن اعترف منهم فالحجة ظاهرة عليهم، ومن لم يعترف فيقرر عليه أن هذه السموات والأرض لا بد لهما من خالق؛ ولا يتمارى في هذا عاقل‏.‏ وهذا قريب من مرتبة الضرورة‏.‏ ‏}‏من السماء‏}‏ أي بالمطر‏.‏ ‏}‏والأرض‏}‏ بالنبات‏.‏ ‏}‏أمن يملك السمع والأبصار‏}‏ أي من جعلهما وخلقهما لكم‏.‏ ‏}‏ومن يخرج الحي من الميت‏}‏ أي النبات من الأرض، والإنسان من النطفة، والسنبلة من الحبة، والطير من البيضة، والمؤمن من الكافر‏.‏ ‏}‏ومن يدبر الأمر‏}‏ أي يقدره ويقضيه‏.‏ ‏}‏فسيقولون الله‏}‏ لأنهم كانوا يعتقدون أن الخالق هو الله؛ أو فسيقولون هو الله إن فكروا وأنصفوا ‏}‏فقل‏}‏ لهم يا محمد‏.‏ ‏}‏أفلا تتقون‏}‏ أي أفلا تخافون عقابه ونقمته في الدنيا والآخرة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 32 ‏)‏

‏{‏فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فذلكم الله ربكم الحق‏}‏ أي هذا الذي يفعل هذه الأشياء هو ربكم الحق، لا ما أشركتم معه‏.‏ ‏}‏فماذا بعد الحق‏}‏ ‏}‏ذا‏}‏ صلة أي ما بعد عبادة الإله الحق إذا تركت عبادته إلا الضلال‏.‏ وقال بعض المتقدمين‏:‏ ظاهر هذه الآية يدل على أن ما بعد الله هو الضلال؛ لأن أولها ‏}‏فذلكم الله ربكم الحق‏}‏ وآخرها ‏}‏فماذا بعد الحق إلا الضلال‏}‏ فهذا في الإيمان والكفر، ليس في الأعمال‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن الكفر تغطية الحق، وكل ما كان غير الحق جرى هذا المجرى؛ فالحرام ضلال والمباح هدى؛ فإن الله هو المبيح والمحرم‏.‏ والصحيح الأول؛ لأن قبل ‏}‏قل من يرزقكم من السماء والأرض‏}‏ ثم قال ‏}‏فذلكم الله ربكم الحق‏}‏ أي هذا الذي رزقكم، وهذا كله فعله هو‏.‏ ‏}‏ربكم الحق‏}‏ أي الذي تحق له الألوهية ويستوجب العبادة، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى، وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأصول التي الحق فيها في طرف واحد؛ لأن الكلام فيها إنما هو في تعديد وجود ذات كيف هي، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها‏{‏لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا‏}‏المائدة‏:‏ 48‏]‏، وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات‏)‏‏.‏ والكلام في الفروع إنما هو في أحكام طارئة على وجود ذات متقررة لا يختلف فيها وإنما يختلف في الأحكام المتعلقة بها‏.‏

ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال‏:‏ ‏(‏اللهم لك الحمد‏)‏ الحديث‏.‏ وفيه ‏(‏أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق‏)‏ الحديث‏.‏ فقوله‏:‏ ‏(‏أنت الحق‏)‏ أي الواجب الوجود؛ وأصله من حق الشيء أي ثبت ووجب‏.‏ وهذا الوصف لله تعالى بالحقيقة إذ وجوده لنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم؛ وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم، ويجوز عليه لحاق العدم، ووجوده من موجده لا من نفسه‏.‏ وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر، كلمة لبيد‏:‏

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وإليه الإشارة بقوله تعالى‏{‏كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون‏}‏القصص‏:‏ 88‏]‏‏.‏

مقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعا، كما في هذه الآية‏.‏ وكذلك أيضا مقابلة الحق بالباطل عرف لغة وشرعا؛ قال الله تعالى‏{‏ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل‏}‏لقمان‏:‏ 30‏]‏‏.‏ والضلال حقيقته الذهاب عن الحق؛ أخذ من ضلال الطريق، وهو العدول عن سمته‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ الضلالة عند العرب سلوك غير سبيل القصد؛ يقال‏:‏ ضل عن الطريق وأضل الشيء إذا أضاعه‏.‏ وخص في الشرع بالعبارة في العدول عن السداد في الاعتقاد دون الأعمال؛ ومن غريب أمره أنه يعبر به عن عدم المعرفة بالحق سبحانه إذا قابله غفلة ولم يقترن بعدمه جهل أو شك، وعليه حمل العلماء قوله تعالى‏{‏ووجدك ضالا فهدى‏}‏الضحى‏:‏ 7‏]‏ أي غافلا، في أحد التأويلات، يحققه قوله تعالى‏{‏ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان‏}‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏

روى عبدالله بن عبدالحكم وأشهب عن مالك في قوله تعالى‏{‏فماذا بعه الحق إلا الضلال‏}‏ قال‏:‏ اللعب بالشطرنج والنرد من الضلال‏.‏ وروى يونس عن ابن وهب أنه سئل عن الرجل يلعب في بيته مع امرأته بأربع عشرة؛ فقال مالك‏:‏ ما يعجبني‏!‏ وليس من شأن المؤمنين، يقول الله تعالى‏{‏فماذا بعد الحق إلا الضلال‏}‏‏.‏ وروى يونس عن أشهب قال‏:‏ سئل - يعني مالكا - عن اللعب بالشطرنج فقال‏:‏ لا خير فيه، وليس بشيء وهو من الباطل، واللعب كله من الباطل، وإنه لينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب عن الباطل‏.‏ وقال الزهري لما سئل عن الشطرنج‏:‏ هي من الباطل ولا أحبها‏.‏

اختلف العلماء في جواز اللعب بالشطرنج وغيره إذا لم يكن على وجه القمار؛ فتحصيل مذهب مالك وجمهور الفقهاء في الشطرنج أن من لم يقامر بها ولعب مع أهله في بيته مستترا به مرة في الشهر أو العام، لا يطلع عليه ولا يعلم به أنه معفو عنه غير محرم عليه ولا مكروه له، وأنه إن تخلع به واشتهر فيه سقطت مروءته وعدالته وردت شهادته‏.‏ وأما الشافعي فلا تسقط في مذهب أصحابه شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج، إذا كان عدلا في جميع أصحابه، ولم يظهر منه سفه ولا ريبة ولا كبيرة إلا أن يلعب به قمارا، فإن لعب بها قمارا وكان بذلك معروفا سقطت عدالته وسفه نفسه لأكله المال بالباطل‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر وكل اللهو؛ فإن لم تظهر من اللاعب بها كبيرة وكانت محاسنه أكثر من مساويه قبلت شهادته عندهم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ قالت الشافعية إن الشطرنج يخالف النرد لأن فيه إكداد الفهم واستعمال القريحة‏.‏ والنرد قمار غرر لا يعلم ما يخرج له فيه كالاستقسام بالأزلام‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ النرد قطع مملوءة من خشب البقس ومن عظم الفيل، وكذا هو الشطرنج إذ هو أخوه غذي بلبانه‏.‏ والنرد هو الذي يعرف بالباطل، ويعرف بالكعاب ويعرف في الجاهلية أيضا بالأرن ويرف أيضا بالنردشير‏.‏ وفي صحيح مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه‏)‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ ومعنى هذا أي هو كمن غمس يده في لحم الخنزير يهيئه لأن يأكله، وهذا الفعل في الخنزير حرام لا يجوز؛ يبينه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏من لعب بالنرد فقد‏‏ عصى الله ورسوله‏)‏ رواه مالك وغيره من حديث أبي موسى الأشعري وهو حديث صحيح، وهو يحرم اللعب بالنرد جملة واحدة، وكذلك الشطرنج، لم يستثن وقتا من وقت ولا حالا من حال، وأخبر‏.‏ أن فاعل ذلك عاص لله ورسوله؛ إلا أنه يحتمل أن يكون المراد باللعب بالنرد المنهي عنه أن يكون على وجه القمار؛ لما روي من إجازة اللعب بالشطرنج عن التابعين على غير قمار‏.‏ وحمل ذلك على العموم قمارا وغير قمار أولى وأحوط إن شاء الله‏.‏ قال أبو عبدالله الحليمي في كتاب منهاج الدين‏:‏ ومما جاء في الشطرنج حديث يروى فيه كما يروى في النرد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من لعب بالشطرنج فقد عصى الله ورسوله‏)‏‏.‏ وعن علي رضي الله عنه أنه مر على مجلس من مجالس بني تميم وهم يلعبون بالشطرنج فوقف عليهم فقال‏:‏ ‏(‏أما والله لغير هذا خلقتم‏!‏ أما والله لولا أن تكون سنة لضربت به وجوهكم‏)‏‏.‏ وعنه رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال‏:‏ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؛ لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير من أن يمسها‏.‏ وسئل ابن عمر عن الشطرنج فقال هي شر من النرد‏.‏ وقال أبو موسى الأشعري‏:‏ لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ‏.‏ وسئل أبو جعفر عن الشطرنج فقال‏:‏ دعونا من هذه المجوسية‏.‏ وفي حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وأن من لعب بالنرد والشطرنج والجوز والكعاب مقته الله ومن جلس إلى من يلعب بالنرد والشطرنج لينظر إليهم محيت عنه حسناته كلها وصار ممن مقته الله‏)‏‏.‏ وهذه الآثار كلها تدل على تحريم اللعب بها بلا قمار، والله اعلم‏.‏ وقد ذكرنا في ‏}‏المائدة‏}‏ بيان تحريمها وأنها كالخمر في التحريم لاقترانها به، والله أعلم‏.‏

قال ابن العربي في قبسه‏:‏ وقد جوزه الشافعي، وانتهى حال بعضهم إلى أن يقول‏:‏ هو مندوب إليه، حتى اتخذوه في المدرسة؛ فإذا أعيا الطالب من القراءة لعب به في المسجد‏.‏ وأسندوا إلى قوم من الصحابة والتابعين أنهم لعبوا بها؛ وما كان ذلك قط‏!‏ وتالله ما مستها يد تقي‏.‏ ويقولون‏:‏ إنها تشحذ الذهن، والعيان يكذبهم، ما تبحر فيها قط رجل له ذهن‏.‏ سمعت الإمام أبا الفضل عطاء المقدسي يقول بالمسجد الأقصى في المناظرة‏:‏ إنها تعلم الحرب‏.‏ فقال له الطرطوشي‏:‏ بل تفسد تدبير الحرب؛ لأن الحرب المقصود منها الملك واغتياله، وفي الشطرنج تقول‏:‏ شاه إياك‏:‏ الملك نحه عن طريقي؛ فاستضحك الحاضرين‏.‏ وتارة شدد فيها مالك وحرمها وقال فيها‏{‏فماذا بعد الحق إلا الضلال‏}‏ وتارة استهان بالقليل منها والأهون، والقول الأول أصح والله أعلم‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن الشطرنج فقال‏:‏ وما الشطرنج‏؟‏ فقيل له‏:‏ إن امرأة كان لها ابن وكان ملكا فأصيب في حرب دون أصحابه؛ فقالت‏:‏ كيف يكون هذا أرونيه عيانا؛ فعمل لها الشطرنج، فلما رأته تسلت بذلك‏.‏ ووصفوا الشطرنج لعمر رضي الله عنه فقال‏:‏ لا بأس بما كان من آلة الحرب؛ قيل له‏:‏ هذا لا حجة فيه لأنه لم يقل لا بأس بالشطرنج وإنما قال لا بأس بما كان من آلة الحرب‏.‏ وإنما قال هذا لأنه شبه عليه أن اللعب بالشطرنج مما يستعان به على معرفة أسباب الحرب، فلما قيل له ذلك ولم يحط به علمه قال‏:‏ لا بأس بما كان من آلة الحرب، إن كان كما تقولون فلا بأس به، وكذلك من روى عنه من الصحابة أنه لم ينه عنه، فإن ذلك محمول منه على أنه ظن أن ذلك ليس يتلهى به، وإنما يراد به التسبب إلى علم القتال والمضاربة فيه، أو على أن الخبر المسند لم يبلغهم‏.‏ قال الحليمي‏:‏ وإذا صح الخبر فلا حجة لأحد معه، وإنما الحجة فيه على الكافة‏.‏

ذكر ابن وهب بإسناده أن عبدالله بن عمر مر بغلمان يلعبون بالكجّة، وهي حفر فيها حصى يلعبون بها، قال‏:‏ فسدها ابن عمر ونهاهم عنها‏.‏ وذكر الهروي في باب ‏(‏الكاف مع الجيم‏)‏ في حديث ابن عباس‏:‏ في كل شيء قمار حتى في لعب الصبيان بالكجة؛ قال ابن الأعرابي‏:‏ هو أن يأخذ الصبي خرقة فيدورها كأنها كرة، ثم يتقامرون بها‏.‏ وكج إذا لعب بالكجة‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأنى تصرفون‏}‏ أي كيف تصرفون عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق ولا يحيي ولا يميت‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 33 ‏)‏

‏{‏كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏كذلك حقت كلمة ربك‏}‏ أي حكمه وقضاؤه وعلمه السابق‏.‏ ‏}‏على الذين فسقوا‏}‏ أي خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا‏.‏ ‏}‏أنهم لا يؤمنون‏}‏ أي لا يصدقون‏.‏ وفي هذا أوفى دليل على القدرية‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر هنا وفي آخرها ‏}‏كذلك حقت كلمات ربك‏}‏ وفي سورة غافر بالجمع في الثلاثة‏.‏ الباقون بالإفراد و‏}‏أن‏}‏ في موضع نصب؛ أي بأنهم أو لأنهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويجوز أن تكون في موضع رفع على البدل من كلمات‏.‏ قال الفراء‏:‏ يجوز ‏}‏إنهم‏}‏ بالكسر على الاستئناف‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 34 ‏)‏

‏{‏قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل هل من شركائكم‏}‏ أي آلهتكم ومعبوداتكم‏.‏ ‏}‏من يبدأ الخلق ثم يعيده‏}‏ أي قل لهم يا محمد ذلك على جهة التوبيخ والتقرير؛ فإن أجابوك وإلا فـ ‏}‏قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده‏}‏ وليس غيره يفعل ذلك‏.‏ ‏}‏فأنى تؤفكون‏}‏ أي فكيف تنقلبون وتنصرفون عن الحق إلى الباطل‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 35 ‏)‏


‏{‏قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يَهِدِّي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق‏}‏ يقال‏:‏ هداه للطريق وإلى الطريق بمعنى واحد؛ وقد تقدم‏.‏ أي هل من شركائكم من يرشد إلى دين الإسلام؛ فإذا قالوا لا ولا بد منه فـ ‏}‏قل‏}‏ لهم ‏}‏الله يهدي للحق‏}‏ ثم قل لهم موبخا ومقررا‏.‏ ‏}‏أفمن يهدي‏}‏ أي يرشد‏.‏ ‏}‏إلى الحق‏}‏ وهو الله سبحانه وتعالى‏.‏ ‏}‏أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون‏}‏ يريد الأصنام التي لا تهدي أحدا، ولا تمشي إلا أن تحمل، ولا تنتقل عن مكانها إلا أن تنقل‏.‏ قال الشاعر‏:‏

للفتى عقل يعيش به حيث تهدي ساقه قدمه

وقيل‏:‏ المراد الرؤساء والمضلون الذين لا يرشدون أنفسهم إلى هدى إلا أن يرشدوا‏.‏

في ‏}‏يهدي‏}‏ قراءات ست‏:‏ الأولى‏:‏ قرأ أهل المدينة إلا ورشا ‏}‏يَهْدِّي‏}‏ بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال؛ فجمعوا في قراءتهم بين ساكنين كما فعلوا في قوله‏{‏لا تعْدُّوا‏}‏ وفي قوله‏{‏يخْصِّمون‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ والجمع بين الساكنين لا يقدر أحد أن ينطق به‏.‏ قال محمد بن يزيد‏:‏ لا بد لمن رام مثل هذا أن يحرك حركة خفيفة إلى الكسر، وسيبويه يسمي هذا اختلاس الحركة‏.‏ الثانية‏:‏ قرأ أبو عمرو وقالون في رواية بين الفتح والإسكان، على مذهبه في الإخفاء والاختلاس‏.‏ الثالثة‏:‏ قرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن محيصن ‏}‏يَهَدِّي‏}‏ بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، قال النحاس‏:‏ هذه القراءة بينة في العربية، والأصل فيها يهتدى أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها على الهاء‏.‏ الرابعة‏:‏ قرأ حفص ويعقوب والأعمش عن أبي بكر مثل قراءة ابن كثير، إلا أنهم كسروا الهاء، قالوا‏:‏ لأن الجزم إذا اضطر إلى حركته حرك إلى الكسر‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ هي لغة سفلى مضر‏.‏ الخامسة‏:‏ قرأ أبو بكر عن عاصم يِهِدِّي بكسر الياء والهاء وتشديد الدال، كل ذلك لاتباع الكسر كما تقدم في البقرة في ‏}‏يخطف‏}‏البقرة‏:‏ 20‏]‏ وقيل‏:‏ هي لغة من قرأ ‏}‏نستعين‏}‏، و‏}‏لن تمسنا النار‏}‏ ونحوه‏.‏ وسيبويه لا يجيز ‏}‏يهدي‏}‏ ويجيز ‏}‏تهدي‏}‏ و‏}‏نهدي‏}‏ و‏{‏اهدي‏}‏ قال‏:‏ لأن الكسرة في الياء تثقل‏.‏ السادسة‏:‏ قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وثاب والأعمش ‏}‏يَهْدِي‏}‏ بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال؛ من هدى يهدي‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذه القراءة لها وجهان في العربية وإن كانت بعيدة، وأحد الوجهين أن الكسائي والفراء قالا‏{‏يهدي‏}‏ بمعنى يهتدي‏.‏ قال أبو العباس‏:‏ لا يعرف هذا، ولكن التقدير أمن لا يهدي غيره، ثم الكلام، ثم قال‏{‏إلا أن يهدى‏}‏ استأنف من الأول، أي لكنه يحتاج أن يهدى؛ فهو استثناء منقطع، كما تقول‏:‏ فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع، أي لكنه يحتاج أن يسمع‏.‏ وقال أبو إسحاق‏{‏فما لكم‏}‏ كلام تام، والمعنى‏:‏ فأي شيء لكم في عبادة الأوثان‏.‏ ثم قيل لهم‏{‏كيف تحكمون‏}‏ أي لأنفسكم وتقضون بهذا الباطل الصراح، تعبدون آلهة لا تغني عن أنفسها شيئا إلا أن يفعل بها، والله يفعل ما يشاء فتتركون عبادته؛ فموضع ‏}‏كيف‏}‏ نصب بـ ‏}‏تحكمون‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 36 ‏)‏

‏{‏وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما يتبع أكثرهم إلا ظنا‏}‏ يريد الرؤساء منهم؛ أي ما يتبعون إلا حدسا وتخريصا في أنها آلهة وأنها تشفع، ولا حجة معهم‏.‏ وأما أتباعهم فيتبعونهم تقليدا‏.‏ ‏}‏إن الظن لا يغني من الحق شيئا‏}‏ أي من عذاب الله؛ فالحق هو الله‏.‏ وقيل ‏}‏الحق‏}‏ هنا اليقين؛ أي ليس الظن كاليقين‏.‏ وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكتفى بالظن في العقائد‏.‏ ‏}‏إن الله عليم بما يفعلون‏}‏ من الكفر والتكذيب، خرجت مخرج التهديد‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 37 ‏)‏

‏{‏وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ مع ‏}‏يفترى‏}‏ مصدر، والمعنى‏:‏ وما كان هذا القرآن افتراء؛ كما تقول‏:‏ فلان يحب أن يركب، أي يحب الركوب، قاله الكسائي‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المعنى وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى؛ كقوله‏{‏وما كان لنبي أن يغل‏}‏آل عمران‏:‏ 161‏]‏ ‏}‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏التوبة‏:‏ 122‏]‏‏.‏ وقيل‏{‏أن‏}‏ بمعنى اللام، تقديره‏:‏ وما كان هذا القرآن ليفترى‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى لا، أي لا يفترى‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ما كان يتهيأ لأحد أن يأتي بمثل هذا القرآن من عند غير الله ثم ينسبه إلى الله تعالى لإعجازه؛ لوصفه ومعانيه وتأليفه‏.‏ ‏}‏ولكن تصديق الذي بين يديه‏}‏ قال الكسائي والفراء ومحمد بن سعدان‏:‏ التقدير ولكن كان تصديق؛ ويجوز عندهم الرفع بمعنى‏:‏ ولكن هو تصديق‏.‏ ‏}‏الذي بين يديه‏}‏ أي من التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب، فإنها قد بشرت به فجاء مصدقا لها في تلك البشارة، وفي الدعاء إلى التوحيد والإيمان بالقيامة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ولكن تصديق النبي بين يدي القرآن وهو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم شاهدوه قبل أن سمعوا منه القرآن‏.‏ ‏}‏وتفصيل‏}‏ بالنصب والرفع على الوجهين المذكورين في تصديق‏.‏ والتفصيل التبيين، أي يبين ما في كتب الله المتقدمة‏.‏ والكتاب اسم الجنس‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بتفصيل الكتاب ما بين في القرآن من الأحكام‏.‏ ‏}‏لا ريب فيه‏}‏ الهاء عائدة للقرآن، أي لا شك فيه أي في نزول من قبل الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 38 ‏)‏

‏{‏أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏ أم ههنا في موضع ألف الاستفهام لأنها اتصلت بما قبلها‏.‏ وقيل‏:‏ هي أم المنقطعة التي تقدر بمعنى بل والهمزة؛ كقوله تعالى‏{‏الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه‏}‏السجدة‏:‏ 1، 2، 3‏]‏ أي بل أيقولون افتراه‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ أم بمعنى الواو، مجازة‏:‏ ويقولون افتراه‏.‏ وقيل‏:‏ الميم صلة، والتقدير‏:‏ أيقولون افتراه، أي اختلق محمد القرآن من قبل نفسه، فهو استفهام معناه التقريع‏.‏ ‏}‏قل فأتوا بسورة مثله‏}‏ ومعنى الكلام الاحتجاج، فإن الآية الأولى دلت على كون القرآن من عند الله؛ لأنه مصدق الذي بين يديه من الكتب وموافق لها من غير أن يتعلم محمد عليه السلام عن أحد‏.‏ وهذه الآية إلزام بأن يأتوا بسورة مثله إن كان مفترى‏.‏ وقد مضى القول في إعجاز القرآن، وأنه معجز في مقدمة الكتاب، والحمد لله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

‏{‏بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه‏}‏ أي كذبوا بالقرآن وهم جاهلون بمعانيه وتفسيره، وعليهم أن يعلموا ذلك بالسؤال؛ فهذا يدل على أنه يجب أن ينظر في التأويل‏.‏ وقوله‏{‏ولما يأتهم تأويله‏}‏ أي ولم يأتهم حقيقة عاقبة التكذيب من نزول العذاب بهم‏.‏ أو كذبوا بما في القرآن من ذكر البعث والجنة والنار، ولم يأتهم تأويله أي حقيقة ما وعدوا في الكتاب؛ قاله الضحاك‏.‏ وقيل للحسين بن الفضل‏:‏ هل تجد في القرآن ‏(‏من جهل شيئا عاداه‏)‏ قال نعم، في موضعين‏{‏بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه‏}‏ وقوله‏{‏وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم‏}‏الأحقاف‏:‏ 11‏]‏‏.‏ ‏}‏كذلك كذب الذين من قبلهم‏}‏ يريد الأمم الخالية، أي كذا كانت سبيلهم‏.‏ والكاف في موضع نصب‏.‏ ‏}‏فانظر كيف كان عاقبة الظالمين‏}‏ أي أخذهم بالهلاك والعذاب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 40 ‏)‏

‏{‏ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومنهم من يؤمن به‏}‏ قيل‏:‏ المراد أهل مكة، أي ومنهم من يؤمن به في المستقبل وإن طال تكذيبه؛ لعلمه تعالى السابق فيهم أنهم من السعداء‏.‏ و‏}‏من‏}‏ رفع بالابتداء والخبر في المجرور‏.‏ وكذا‏.‏ ‏}‏ومنهم من لا يؤمن به‏}‏ والمعنى ومنهم من يصر على كفره حتى يموت؛ كأبي طالب وأبي لهب ونحوهما‏.‏ وقيل‏:‏ المراد أهل الكتاب‏.‏ وقيل‏:‏ هو عام في جميع الكفار؛ وهو الصحيح‏.‏ وقيل‏.‏ إن الضمير في ‏}‏به‏}‏ يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فأعلم الله سبحانه أنه إنما أخر العقوبة لأن منهم من سيؤمن‏.‏ ‏}‏وربك أعلم بالمفسدين‏}‏ أي من يصر على كفره؛ وهذا تهديد لهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 41 ‏)‏

‏{‏وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن كذبوك فقل لي عملي‏}‏ رفع بالابتداء، والمعنى‏:‏ لي ثواب عملي في التبليغ والإنذار والطاعة لله تعالى‏.‏ ‏}‏ولكم عملكم‏}‏ أي جزاؤه من الشرك‏.‏ ‏}‏أنتم بريؤون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون‏}‏ مثله؛ أي لا يؤاخذ أحد بذنب الآخر‏.‏ وهذه الآية منسوخة بآية السيف؛ في قول مجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 42 ‏:‏ 43 ‏)‏

‏{‏ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون، ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومنهم من يستمعون إليك‏}‏ يريد بظواهرهم، وقلوبهم لا تعي شيئا مما يقوله من الحق ويتلوه من القرآن؛ ولهذا قال‏{‏أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون‏}‏ أي لا تسمع؛ فظاهره الاستفهام ومعناه النفي، وجعلهم كالصم للختم على قلوبهم والطبع عليها، أي لا تقدر على هداية من أصمه الله عن سماع الهدى‏.‏ وكذا المعنى في‏{‏ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون‏}‏ أخبر تعالى أن أحدا لا يؤمن إلا بتوفيقه وهدايته‏.‏ وهذا وما كان مثله يرد على القدرية قولهم؛ كما تقدم في غير موضع‏.‏ وقال‏{‏يستمعون‏}‏ على معنى ‏}‏من‏}‏ و‏}‏ينظر‏}‏ على اللفظ؛ والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، أي كما لا تقدر أن تسمع من سلب السمع ولا تقدر أن تخلق للأعمى بصرا يهتدي به، فكذلك لا تقدر أن توفق هؤلاء للإيمان وقد حكم الله عليهم ألا يؤمنوا‏.‏ ومعنى‏{‏ينظر إليك‏}‏ أي يديم النظر إليك؛ كما قال‏{‏ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت‏}‏الأحزاب‏:‏ 19‏]‏ قيل‏:‏ إنها نزلت في المستهزئين، والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 44 ‏)‏

‏{‏إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون‏}‏

لما ذكر أهل الشقاء ذكر أنه لم يظلمهم، وأن تقدير الشفاء عليهم وسلب سمع القلب وبصره ليس ظلما منه؛ لأنه مصرف في ملكه بما شاء، وهو في جميع أفعاله عادل‏.‏ ‏}‏ولكن الناس أنفسهم يظلمون‏}‏ بالكفر والمعصية ومخالفة أمر خالقهم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏}‏ولكن‏}‏ مخففا ‏}‏الناس‏}‏ رفعا‏.‏ قال النحاس‏:‏ زعم جماعة من النحويين منهم الفراء أن العرب إذا قالت ‏}‏ولكن‏}‏ بالواو آثرت التشديد، وإذا حذفوا الواو آثرت التخفيف، واعتل في ذلك فقال‏:‏ لأنها إذا كانت بغير واو أشبهت بل فخففوها ليكون ما بعدها كما بعد بل، وإذا جاؤوا بالواو خالفت بل فشددوها ونصبوا بها، لأنها ‏}‏إن‏}‏ زيدت عليها لام وكاف وصيرت حرفا واحد؛ وأنشد‏:‏

ولكنني من حبها لعميد

فجاء باللام لأنها ‏}‏إن‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 45 ‏)‏

‏{‏ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا‏}‏ بمعنى كأنهم خففت، أي كأنهم لم يلبثوا في قبورهم‏.‏ ‏}‏إلا ساعة من النهار‏}‏ أي قدر ساعة‏:‏ يعني أنهم استقصروا طول مقامهم في القبور لهول ما يرون من البعث؛ دليله قولهم‏{‏لبثنا يوما أو بعض يوم‏}‏الكهف‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قصرت مدة لبثهم في الدنيا من هول ما استقبلوا لا مدة كونهم في القبر‏.‏ ابن عباس‏:‏ رأوا أن طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة‏.‏ ‏}‏يتعارفون بينهم‏}‏ في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في ‏}‏يحشرهم‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون منقطعا، فكأنه قال فهم يتعارفون‏.‏ قال الكلبي‏:‏ يعرف بعضهم بعضا كمعرفتهم في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم؛ وهذا التعارف تعارف توبيخ وافتضاح؛ يقول بعضهم لبعض‏:‏ أنت أضللتني وأغويتني وحملتني على الكفر؛ وليس تعارف شفقة ورأفة وعطف‏.‏ ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال يوم القيامة كما قال‏{‏ولا يسأل حميم حميما‏}‏المعارج‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ يبقى تعارف التوبيخ؛ وهو الصحيح لقوله تعالى‏{‏ولو ترى إذ الظالمون موقوفون‏}‏ إلى قوله ‏}‏وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا‏}‏سبأ‏:‏ 31 - 33‏]‏ وقوله‏{‏كلما دخلت أمة لعنت أختها‏}‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ الآية، وقوله‏{‏ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا‏}‏الأحزاب‏:‏ 67‏]‏ الآية‏.‏ فأما قوله‏{‏ولا يسأل حميم حميما‏}‏ وقوله‏{‏فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم‏}‏المؤمنون‏:‏ 101‏]‏ فمعناه لا يسأله سؤال رحمة وشفقة، والله أعلم‏.‏ وقيل‏:‏ القيامة مواطن‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏}‏يتعارفون‏}‏ يتساءلون، أي يتساءلون كم لبثتم؛ كما قال‏{‏وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏}‏الصافات‏:‏ 27‏]‏ وهذا حسن‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ذلك تعارف تعاطف المؤمنين؛ والكافرون لا تعاطف عليهم؛ كما قال‏{‏فلا أنساب بينهم‏}‏‏.‏ والأول أظهر، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله‏}‏ أي بالعرض على الله‏.‏ ثم قيل‏:‏ يجوز أن يكون هذا إخبارا من الله عز وجل بعد أن دل على البعث والنشور، أي خسروا ثواب الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ خبروا في حال لقاء الله؛ لأن الخسران إنما هو في تلك الحالة التي لا يرجى فيها إقالة ولا تنفع توبة‏.‏ قال النحاس‏:‏ ويجوز أن يكون المعنى يتعارفون بينهم، يقولون هذا‏.‏ ‏}‏وما كانوا مهتدين‏}‏ بريد في علم الله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 46 ‏)‏

‏{‏وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإما نرينك‏}‏ شرط‏.‏ ‏}‏بعض الذي نعدهم‏}‏ أي من إظهار دينك في حياتك‏.‏ وقال المفسرون‏:‏ كان البعض الذي وعدهم قتل من قتل وأسر من أسر ببدر‏.‏ ‏}‏أو نتوفينك‏}‏ عطف على ‏}‏نريك‏}‏ أي نتوفينك قبل ذلك‏.‏ ‏}‏فإلينا مرجعهم‏}‏ جواب ‏}‏إما‏}‏‏.‏ والمقصود إن لم ننتقم منهم عاجلا انتقمنا منهم آجلا‏.‏ ‏}‏ثم الله شهيد‏}‏ أي شاهد لا يحتاج إلى شاهد‏.‏ ‏}‏على ما يفعلون‏}‏ من محاربتك وتكذيبك‏.‏ ولو قيل‏{‏ثم الله شهيد‏}‏ بمعنى هناك، جاز‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 47 ‏)‏

‏{‏ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط‏}‏ يكون المعنى‏:‏ ولكل أمة رسول شاهد عليهم، فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضي بينهم؛ مثل‏.‏ ‏}‏فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد‏}‏النساء‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ تنكر الكفار غدا مجيء الرسل إليهم، فيؤتى بالرسول فيقول‏:‏ قد أبلغتكم الرسالة؛ فحينئذ يقضى عليهم بالعذاب‏.‏ دليله قوله‏{‏ويكون الرسول عليكم شهيدا‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى أنهم لا يعذبون في الدنيا حتى يرسل إليهم؛ فمن آمن فاز ونجا، ومن لم يؤمن هلك وعذب‏.‏ دليله قوله تعالى‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏}‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏ والقسط‏:‏ العدل‏.‏ ‏}‏وهم لا يظلمون‏}‏ أي لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 48 ‏)‏

‏{‏ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏

يريد كفار مكة لفرط إنكارهم واستعجالهم العذاب؛ أي متى العقاب أو متى القيامة التي يعدنا محمد‏.‏ وقيل‏:‏ هو عام في كل أمة كذبت رسولها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 49 ‏)‏

‏{‏قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا‏}‏ لما استعجلوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قال الله له‏:‏ قل لهم يا محمد لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا؛ أي ليس ذلك لي ولا لغيري‏.‏ ‏}‏إلا ما شاء الله‏}‏ أن أملكه وأقدر عليه، فكيف أقدر أن أملك ما استعجلتم فلا تستعجلوا‏.‏ ‏}‏لكل أمة أجل‏}‏ أي لهلاكهم وعذابهم وقت معلوم في علمه سبحانه‏.‏ ‏}‏إذا جاء أجلهم‏}‏ أي وقت انقضاء أجلهم‏.‏ ‏}‏فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏ أي لا يمكنهم أن يستأخروا ساعة باقين في الدنيا ولا يتقدمون فيؤخرون‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 50 ‏)‏

‏{‏قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا‏}‏ ظرفان، وهو جواب لقولهم‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ وتسفيه لآرائهم في استعجالهم العذاب؛ أي إن أتاكم العذاب فما نفعكم فيه، ولا ينفعكم الإيمان حينئذ‏.‏ ‏}‏ماذا يستعجل منه المجرمون‏}‏ استفهام معناه التهويل والتعظيم؛ أي ما أعظم ما يستعجلون به؛ كما يقال لمن يطلب أم أمرا يستوخم عاقبته‏:‏ ماذا تجني على نفسك‏!‏ والضمير في ‏}‏منه‏}‏ قيل‏:‏ يعود على العذاب، وقيل‏:‏ يعود على الله سبحانه وتعالى‏.‏ قال النحاس‏:‏ إن جعلت الهاء في ‏}‏منه‏}‏ تعود على العذاب كان لك في ‏}‏ماذا‏}‏ تقديران‏:‏ أحدهما أن يكون ‏}‏ما‏}‏ في موضع رفع بالابتداء، و‏}‏ذا‏}‏‏:‏ بمعنى الذي، وهو خبر ‏}‏ما‏}‏ والعائد محذوف‏.‏ والتقدير الآخر أن يكون ‏}‏ماذا‏}‏ اسما واحدا في موضع بالابتداء، والخبر في الجملة، قاله الزجاج‏.‏ وإن جعلت الهاء في ‏}‏منه‏}‏ تعود على اسم الله تعالى جعلت ‏}‏ما‏}‏، و‏}‏ذا‏}‏ شيئا واحدا، وكانت في موضع نصب بـ ‏}‏يستعجل‏}‏؛ والمعنى‏:‏ أي شيء يستعجل منه المجرمون عن الله عز وجل‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 51 ‏)‏

‏{‏أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن‏}‏ في الكلام حذف، والتقدير‏:‏ أتأمنون أن ينزل بكم العذاب ثم يقال لكم إذا حل‏:‏ آلآن آمنتم به‏؟‏ قيل‏:‏ هو من قول الملائكة استهزاء بهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول الله تعالى، ودخلت ألف الاستفهام على ‏}‏ثم‏}‏ والمعنى‏:‏ التقرير والتوبيخ، وليدل على أن معنى الجملة الثانية بعد الأولى‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏}‏ثم‏}‏ ههنا بمعنى‏{‏ثم‏}‏ بفتح الثاء، فتكون ظرفا، والمعنى‏:‏ أهنالك؛ وهو مذهب الطبري، وحينئذ لا يكون فيه معنى الاستفهام‏.‏ و‏}‏الآن‏}‏ قيل‏:‏ أصله فعل مبني مثل حان، والألف واللام لتحويله إلى الاسم‏.‏ الخليل‏:‏ بنيت لالتقاء الساكنين، والألف واللام للعهد والإشارة إلى الوقت، وهو حد الزمانين‏.‏ ‏}‏وقد كنتم به‏}‏ أي بالعذاب ‏}‏تستعجلون‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏

‏{‏ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم قيل للذين ظلموا‏}‏ أي تقول لهم خزنة جهنم‏.‏ ‏}‏ذوقوا عذاب الخلد‏}‏ أي الذي لا ينقطع‏.‏ ‏}‏هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون‏}‏ أي جزاء كفركم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏

‏{‏ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويستنبئونك‏}‏ أي يستخبرونك يا محمد عن كون العذاب وقيام الساعة‏.‏ ‏}‏أحق‏}‏ ابتداء‏.‏ ‏}‏هو‏}‏ سد مسد الخبر؛ وهذا قول سيبويه‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏هو‏}‏ مبتدأ، و‏}‏أحق‏}‏ خبره‏.‏ ‏}‏قل إي‏}‏ ‏}‏إي‏}‏ كلمة تحقيق وإيجاب وتأكيد بمعنى نعم‏.‏ ‏}‏وربي‏}‏ قسم‏.‏ ‏}‏إنه لحق‏}‏ جوابه، أي كائن لا شك فيه‏.‏ ‏}‏وما أنتم بمعجزين‏}‏ أي فائتين عن عذابه ومجازاته‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏

‏{‏ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو أن لكل نفس ظلمت‏}‏ أي أشركت وكفرت‏.‏ ‏}‏ما في الأرض‏}‏ أي ملكا‏.‏ ‏}‏لافتدت به‏}‏ أي من عذاب الله، يعني ولا يقبل منها؛ كما قال‏{‏إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به‏}‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏ وقد تقدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأسروا الندامة‏}‏ أي أخفوها؛ يعني رؤساءهم، أي أخفوا ندامتهم عن اتباعهم‏.‏ ‏}‏لما رأوا العذاب‏}‏ وهذا قبل الإحراق بالنار، فإذا وقعوا في النار ألهتهم النار عن التصنع؛ بدليل قولهم‏{‏ربنا غلبت علينا شقوتنا‏}‏المؤمنون‏:‏ 106‏]‏‏.‏ فبين أنهم لا يكتمون ما بهم‏.‏ وقيل‏{‏أسروا‏}‏ أظهروا، والكلمة من الأضداد، ويدل عليه أن الآخرة ليست دار تجلد وتصبر‏.‏ وقيل‏:‏ وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم؛ لأن الندامة لا يمكن إظهارها‏.‏ قال كثير‏:‏

فأسررت الندامة يوم نادى بسرد جمال غاضرة المنادي

وذكر المبرد فيه وجها ثالثا‏:‏ أنه بدت بالندامة أسرة وجوههم، وهي تكاسير الجبهة، واحدها سرار‏.‏ والندامة‏:‏ الحسرة لوقوع شيء أو فوت شيء، وأصلها اللزوم؛ ومنه النديم لأنه يلازم المجالس‏.‏ وفلان نادم سادم‏.‏ والسدم اللهج بالشيء‏.‏ وندم وتندم بالشيء أي اهتم به‏.‏ قال الجوهري‏:‏ السدم ‏(‏بالتحريك‏)‏ الندم والحزن؛ وقد سدم بالكسر أي اهتم وحزن ورجل نادم سادم، وندمان سدمان؛ وقيل‏:‏ هو اتباع‏.‏ وماله هم ولا سدم إلا ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ الندم مقلوب الدمن، والدمن اللزوم؛ ومنه فلان مدمن الخمر‏.‏ والدمن‏:‏ ما اجتمع في الدار وتلبد من الأبوال والأبعار؛ سمي به للزومه‏.‏ والدمنة‏:‏ الحقد الملازم للصدر، والجمع دمن‏.‏ وقد دمنت قلوبهم بالكسر؛ يقال‏:‏ دمنت على فلان أي ضغنت‏.‏ ‏}‏وقضي بينهم بالقسط‏}‏ أي بين الرؤساء والسفل بالعدل‏.‏ ‏}‏وهم لا يظلمون‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 55 ‏)‏

‏{‏ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏

‏{‏ألا‏}‏ كلمة تنبيه للسامع تزاد في أول الكلام؛ أي انتبهوا لما أقول لكم‏{‏إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق‏}‏ ‏}‏له ملك السماوات والأرض‏}‏الحديد‏:‏ 2‏]‏ فلا مانع يمنعه من إنفاذ ما وعده‏.‏ ‏}‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ ذلك‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 56 ‏)‏

‏{‏هو يحيي ويميت وإليه ترجعون‏}‏

بين المعنى‏.‏ وقد تقدم

الآية رقم ‏(‏ 57 ‏)‏

‏{‏يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الناس‏}‏ يعني قريشا‏.‏ ‏}‏قد جاءتكم موعظة‏}‏ أي وعظ‏.‏ ‏}‏من ربكم‏}‏ بعني القرآن، فيه مواعظ وحكم‏.‏ ‏}‏وشفاء لما في الصدور‏}‏ أي من الشك والنفاق والخلاف، والشقاق‏.‏ ‏}‏وهدى‏}‏ أي ورشدا لمن اتبعه‏.‏ ‏}‏ورحمة‏}‏ أي نعمة‏.‏ ‏}‏للمؤمنين‏}‏ خصهم لأنهم المنتفعون بالإيمان؛ والكل صفات القرآن، والعطف لتأكيد المدح‏.‏ قال الشاعر‏:‏

إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

الآية رقم ‏(‏ 58 ‏)‏

‏{‏قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل بفضل الله وبرحمته‏}‏ قال أبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام‏.‏ وعنهما أيضا‏:‏ فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله‏.‏ وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة‏:‏ فضل الله الإيمان، ورحمته القرآن؛ على العكس من القول الأول‏.‏ وقيل‏:‏ غير هذا‏.‏ ‏}‏فبذلك فليفرحوا‏}‏ إشارة إلى الفضل والرحمة‏.‏ والعرب تأتي ‏}‏بذلك‏}‏ للواحد والاثنين والجمع‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ‏}‏فبذلك فلتفرحوا‏}‏ بالتاء؛ وهي قراءة يزيد بن القعقاع ويعقوب وغيرهما؛ وفي الحديث ‏(‏لتأخذوا مصافكم‏)‏‏.‏ والفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب‏.‏ وقد ذم الفرج في مواضع؛ كقوله‏{‏لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين‏}‏القصص‏:‏ 76‏]‏ وقوله‏{‏إنه لفرح فخور‏}‏هود‏:‏ 10‏]‏ ولكنه مطلق‏.‏ فإذا قيد الفرح لم يكن ذما؛ لقوله‏{‏فرحين بما آتاهم الله من فضله‏}‏آل عمران‏:‏ 170‏]‏ وههنا قال تبارك وتعالى‏{‏فبذلك فليفرحوا‏}‏ أي بالقرآن والإسلام فليفرحوا؛ فقيد‏.‏ قال هارون‏:‏ وفي حرف أبي ‏}‏فبذلك فافرحوا‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ سبيل الأمر أن يكون باللام ليكون معه حرف جازم كما أن مع النهي حرفا؛ إلا أنهم يحذفون، من الأمر للمخاطب استغناء بمخاطبته، وربما جاؤوا به على الأصل؛ منه ‏}‏فبذلك فلتفرحوا‏}‏‏.‏ ‏}‏هو خير مما يجمعون‏}‏ يعني في الدنيا‏.‏ وقراءة العامة بالياء في الفعلين؛ وروي عن ابن عامر أنه قرأ ‏}‏فليفرحوا‏}‏ بالياء ‏}‏تجمعون‏}‏ بالتاء خطابا للكافرين‏.‏ وروي عن الحسن أنه قرأ بالتاء في الأول؛ و‏}‏يجمعون‏}‏ بالياء على العكس‏.‏ وروى أبان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من هداه الله للإسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه ثم تلا ‏}‏قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 59 ‏)‏

‏{‏قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل أرأيتم‏}‏ يخاطب كفار مكة‏.‏ ‏}‏ما أنزل الله لكم من رزق‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ في موضع نصب بـ ‏}‏أرأيتم‏}‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ في موضع نصب بـ ‏}‏أنزل‏}‏‏.‏ ‏}‏وأنزل‏}‏ بمعنى خالق؛ كما قال‏{‏وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج‏}‏الزمر‏:‏ 6‏]‏‏.‏ ‏}‏وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد‏}‏الحديد‏:‏ 25‏]‏‏.‏ فيجوز أن يعبر عن الخلق بالإنزال؛ لأن الذي في الأرض من الرزق إنما هو بما ينزل من السماء من المطر‏.‏ ‏}‏فجعلتم منه حراما وحلالا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هو ما حكموا به من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هو قول الله تعالى‏{‏وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا‏}‏الأنعام‏:‏ 136‏]‏‏.‏ ‏}‏قل أآلله أذن لكم‏}‏ أي في التحليل والتحريم‏.‏ ‏}‏أم على الله‏}‏ ‏}‏أم‏}‏ بمعنى بل‏.‏ ‏}‏تفترون‏}‏ هو قولهم إن الله أمرنا بها‏.‏

استدل بهذه الآية من نفي القياس، وهذا بعيد؛ فإن القياس دليل الله تعالى، فيكون التحليل والتحريم من الله تعالى عند وجود دلالة نصبها الله تعالى على الحكم، فإن خالف في كون القياس دليلا لله تعالى فهو خروج عن هذا الغرض ورجوع إلى غيره‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 60 ‏)‏

‏{‏وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة‏}‏ ‏}‏يوم‏}‏ منصوب على الظرف، أو بالظن؛ نحو ما ظنك زيدا؛ والمعنى‏:‏ أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم به‏.‏ ‏}‏إن الله لذو فضل على الناس‏}‏ أي في التأخير والإمهال‏.‏ وقيل‏:‏ أراد أهل مكة حين جعلهم في حرم آمن‏.‏ ‏}‏ولكن أكثرهم‏}‏ يعني الكفار‏.‏ ‏}‏لا يشكرون‏}‏ الله على نعمه ولا في تأخير العذاب عنهم‏.‏ وقيل‏{‏لا يشكرون‏}‏ لا يوحدون‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 61 ‏)‏

‏{‏وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما تكون في شأن‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ للجحد؛ أي لست في شأن، يعني من عبادة أو غيرها إلا والرب مطلع عليك‏.‏ والشأن الخطب، والأمر، وجمعه شؤون‏.‏ قال الأخفش‏:‏ تقول العرب ما شانت شأنه، أي ما عملت عمله‏.‏ ‏}‏وما تتلو منه من قرآن‏}‏ قال الفراء والزجاج‏:‏ الهاء في ‏}‏منه‏}‏ تعود على الشأن، أي تحدث شأنا فيتلى من أجله القرآن فيعلم كيف حكمه، أو ينزل فيه قرآن فيتلى‏.‏ وقال الطبري‏{‏منه‏}‏ أي من كتاب الله تعالى‏.‏ ‏}‏من قرآن‏}‏ أعاد تفخيما؛ كقوله‏{‏إني أنا الله‏}‏القصص‏:‏ 30‏]‏‏.‏ ‏}‏ولا تعملون من عمل‏}‏ يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم والأمة‏.‏ وقوله‏{‏وما تكون في شأن‏}‏ خطاب له والمراد هو وأمته؛ وقد يخاطب الرسول والمراد هو وأتباعه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد كفار قريش‏.‏ ‏}‏إلا كنا عليكم شهودا‏}‏ أي نعلمه؛ ونظيره ‏}‏ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم‏}‏المجادلة‏:‏ 4‏]‏ ‏}‏إذ تفيضون فيه‏}‏ أي تأخذون فيه، والهاء عائدة على العمل؛ يقال‏:‏ أفاض فلان في الحديث والعمل إذا اندفع فيه‏.‏ قال الراعي‏:‏

فأفضن بعد كظومهن بجرة من ذي الأباطح إذ رعين حقيلا

ابن عباس‏{‏تفيضون فيه‏}‏ تفعلونه‏.‏ الأخفش‏:‏ تتكلمون‏.‏ ابن زيد‏:‏ تخوضون‏.‏ ابن كيسان‏:‏ تنشرون القول‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الهاء عائدة على القرآن؛ المعنى‏:‏ إذ تشيعون في القرآن الكذب‏.‏ ‏}‏وما يعزب عن ربك‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يغيب‏.‏ وقال أبو روق‏:‏ يبعد‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ يذهب‏.‏ وقرأ الكسائي ‏}‏يعزب‏}‏ بكسر الزاي حيث وقع؛ وضم الباقون؛ وهما لغتان فصيحتان؛ نحو يعرش ويعرش‏.‏ ‏}‏من مثقال‏}‏ ‏}‏من‏}‏ صلة؛ أي وما يعزب عن ربك مثقال ‏}‏ذرة‏}‏ أي وزن وذرة، أي نميلة حمراء صغيرة؛ وقد تقدم في النساء‏.‏ ‏}‏في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر‏}‏ عطف على لفظ مثقال، وإن شئت على ذرة‏.‏ وقرأ يعقوب وحمزة برفع الراء فيهما عطفا على موضع مثقال لأن من زائدة للتأكيد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ويجوز الرفع على الابتداء‏.‏ وخبره ‏}‏إلا في كتاب مبين‏}‏ يعني اللوح المحفوظ مع علم الله تعالى به‏.‏ قال الجرجاني ‏}‏إلا‏}‏ بمعنى واو النسق، أي وهو في كتاب مبين؛ كقوله تعالى‏{‏إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم‏}‏النمل‏:‏10 - 11‏]‏ أي ومن ظلم‏.‏ وقوله‏{‏لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم‏}‏البقرة‏:‏ 150‏]‏ أي والذين ظلموا منهم؛ فـ ‏}‏إلا‏}‏ بمعنى واو النسق، وأضمر هو بعده كقوله‏{‏وقولوا حطة‏}‏البقرة‏:‏ 58‏]‏‏.‏ أي هي حطة‏.‏ وقوله‏{‏ولا تقولوا ثلاثة‏}‏النساء‏:‏ 171‏]‏ أي هم ثلاثة‏.‏ ونظير ما نحن فيه‏{‏وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏}‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏ وهو في كتاب مبين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 62 ‏)‏

‏{‏ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم‏}‏ أي في الآخرة‏.‏ ‏}‏ولا هم يحزنون‏}‏ لفقد الدنيا‏.‏ وقيل‏{‏لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏ أي من تولاه الله تعالى وتولى حفظه وحياطته ورضي عنه فلا يخاف يوم القيامة ولا يحزن؛ قال الله تعالى‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها‏}‏ (1) ‏}‏مبعدون‏}‏ إلى قوله ‏}‏لا يحزنهم الفزع الأكبر‏}‏الأنبياء‏:‏101 - 103‏]‏‏.‏ وروى سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل‏:‏ من أولياء الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏الذين يذكر الله برؤيتهم‏)‏‏.‏ وقال عمر بن الخطاب، في هذه الآية‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء تغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ يا رسول الله، خبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطون بها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ ‏}‏ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏‏.‏ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ أولياء الله قوم صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من العبر، خمص البطون من الجوع، يبس الشفاه من الذوي‏.‏ وقيل‏{‏لا خوف عليهم‏}‏ في ذريتهم، لأن الله يتولاهم‏.‏ ‏}‏ولا هم يحزنون‏}‏ على دنياهم لتعويض الله إياهم في أولاهم وأخراهم لأنه وليهم ومولاهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 63 ‏)‏

‏{‏الذين آمنوا وكانوا يتقون‏}‏

هذه صفة أولياء الله تعالى؛ فيكون‏{‏الذين‏}‏ في موضع نصب على البدل من اسم ‏}‏إن‏}‏ وهو ‏}‏أولياء‏}‏‏.‏ وإن شئت على أعني‏.‏ وقيل‏:‏ هو ابتداء، وخبره‏.‏ ‏}‏لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ فيكون مقطوعا مما قبله‏.‏ أي يتقون الشرك والمعاصي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 64 ‏)‏

‏{‏ لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا‏}‏ عن أبي الدرداء قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال‏:‏ ‏(‏ما سألني أحد عنها غيرك منذ أنزلت هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له‏)‏ خرجه الترمذي في جامعه‏.‏ وقال الزهري وعطاء وقتادة‏:‏ هي البشارة التي تبشر بها الملائكة المؤمن في الدنيا عند الموت‏.‏ وعن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال‏:‏ ‏(‏السلام عليك ولي الله الله يقرئك السلام‏)‏‏.‏ ثم نزع بهذه الآية‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم‏}‏النحل‏:‏ 32‏]‏ ذكره ابن المبارك‏.‏ وقال قتادة والضحاك‏:‏ هي أن يعلم أين هو من قبل أن يموت‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هي ما يبشرهم الله تعالى في كتابه من جنته وكريم ثوابه؛ لقوله‏{‏يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان‏}‏التوبة‏:‏ 21‏]‏، وقوله‏{‏وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات‏}‏البقرة‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقوله‏{‏وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون‏}‏فصلت‏:‏ 30‏]‏ ولهذا قال‏{‏لا تبديل لكلمات الله‏}‏ أي لا خلف لمواعيده، وذلك لأن مواعيده بكلماته‏.‏ ‏}‏وفي الآخرة‏}‏ قيل‏:‏ بالجنة إذا خرجوا من قبورهم‏.‏ وقيل‏:‏ إذا خرجت الروح بشرت برضوان الله‏.‏ وذكر أبو إسحاق الثعلبي‏:‏ سمعت أبا بكر محمد بن عبدالله الجوزقي يقول‏:‏ رأيت أبا عبدالله الحافظ في المنام راكبا برذونا عليه طيلسان وعمامة، فسلمت عليه وقلت له‏:‏ أهلا بك، إنا لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك؛ فقال‏:‏ ونحن لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك، قال الله تعالى‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ الثناء الحسن‏:‏ وأشار بيده‏.‏ ‏}‏لا تبديل لكلمات الله‏}‏ أي لا خلف لوعده‏.‏ وقيل‏:‏ لا تبديل لأخباره، أي لا ينسخها بشيء، ولا تكون إلا كما قال‏.‏ ‏}‏ذلك هو الفوز العظيم‏}‏ أي ما يصير إليه أولياؤه فهو الفوز العظيم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 65 ‏)‏

‏{‏ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا يحزنك قولهم‏}‏ أي لا يحزنك افتراؤهم وتكذيبهم لك، ثم ابتداء فقال‏{‏إن العزة لله‏}‏ أي القوة الكاملة والغلبة الشاملة والقدرة التامة لله وحده؛ فهو ناصرك ومعينك ومانعك‏.‏ ‏}‏جميعا‏}‏ نصب على الحال، ولا يعارض هذا قوله‏{‏ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين‏}‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ فإن كل عزة بالله فهي كلها لله؛ قال الله سبحانه‏{‏سبحان ربك رب العزة عما يصفون‏}‏الصافات‏:‏ 180‏]‏‏.‏ ‏}‏هو السميع العليم‏}‏ السميع لأقوالهم وأصواتهم، العليم بأعمالهم وأفعالهم وجميع حركاتهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 66 ‏)‏

‏{‏ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض‏}‏ أي يحكم فيهم بما يريد ويفعل فيهم ما يشاء سبحانه‏!‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ للنفي، أي لا يتبعون شركاء على الحقيقة، بل يظنون أنها تشفع أو تنفع‏.‏ وقيل‏{‏ما‏}‏ استفهام، أي أي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء تقبيحا لفعلهم، ثم أجاب فقال‏{‏إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون‏}‏ أي يحدسون ويكذبون، وقد تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 67 ‏)‏

‏{‏هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون‏}‏

قوله تعالى‏{‏هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه‏}‏ بين أن الواجب عبادة من يقدر على خلق الليل والنهار لا عبادة من لا يقدر على شيء‏.‏ ‏}‏لتسكنوا فيه‏}‏ أي مع أزواجكم وأولادكم ليزول التعب والكلال بكم‏.‏ والسكون‏:‏ الهدوء عن الاضطراب‏.‏

قوله تعالى‏{‏والنهار مبصرا‏}‏ أي مضيئا لتهتدوا به في حوائجكم‏.‏ والمبصر‏:‏ الذي يبصر، والنهار يبصر فيه‏.‏ وقال‏{‏مبصرا‏}‏ تجوزا وتوسعا على عادة العرب في قولهم‏{‏ليل قائم، ونهار صائم‏}‏‏.‏ وقال جرير‏:‏

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم

وقال قطرب‏:‏ قال أظلم الليل أي صار ذا ظلمة، وأضاء النهار وأبصر أي صار ذا ضياء وبصر‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن في ذلك لآيات‏}‏ أي علامات ودلالات‏.‏ ‏}‏لقوم يسمعون‏}‏ أي سماع اعتبار‏؟‏

الآية رقم ‏(‏ 68 ‏)‏

‏{‏قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا اتخذ الله ولدا‏}‏ يعني الكفار‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏سبحانه‏}‏ نزه نفسه عن الصحابة والأولاد وعن الشركاء والأنداد‏.‏ ‏}‏هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ ثم أخبر بغناه المطلق، وأن له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا؛ ‏}‏إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا‏}‏مريم‏:‏ 93‏]‏‏.‏ ‏}‏إن عندكم من سلطان بهذا‏}‏ أي ما عندكم من حجة بهذا‏.‏

قوله تعالى‏{‏أتقولون على الله ما لا تعلمون‏}‏ من إثبات الولد له، والولد يقتضي المجانسة والمشابهة والله تعالى لا يجانس شيئا ولا يشابه شيئا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 69 ‏:‏ 70 ‏)‏

‏{‏قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل إن الذين يفترون‏}‏ أي يختلقون‏.‏ ‏}‏على الله الكذب لا يفلحون‏}‏ أي لا يفوزون ولا يأمنون؛ وتم الكلام‏.‏ ‏}‏متاع في الدنيا‏}‏ أي ذلك متاع، أو هو متاع في الدنيا؛ قاله الكسائي‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ لهم متاع في الدنيا‏.‏ قال أبو إسحاق‏:‏ ويجوز النصب في غير القرآن على معنى يتمتعون متاعا‏.‏ ‏}‏ثم إلينا مرجعهم‏}‏ أي رجوعهم‏.‏ ‏}‏ثم نذيقهم العذاب الشديد‏}‏ أي الغليظ‏.‏ ‏}‏بما كانوا يكفرون‏}‏ أي بكفرهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 71 ‏)‏

‏{‏واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏واتل عليهم نبأ نوح‏}‏ أمره عليه السلام أن يذكرهم أقاصيص المتقدمين، ويخوفهم العذاب الأليم على كفرهم‏.‏ وحذفت الواو من ‏}‏اتل‏}‏ لأنه أمر؛ أي اقرأ عليهم خبر نوح‏.‏ ‏}‏إذ قال لقومه‏}‏ ‏}‏إذ‏}‏ في موضع نصب‏.‏ ‏}‏يا قوم إن كان كبر عليكم‏}‏ أي عظم وثقل عليكم‏.‏ ‏}‏مقامي‏}‏ المقام ‏(‏بفتح الميم‏)‏‏:‏ الموضع الذي يقوم فيه‏.‏ والمقام ‏(‏بالضم‏)‏ الإقامة‏.‏ ولم يقرأ به فيما علمت؛ أي إن طال عليكم لبثي فيكم‏.‏ ‏}‏وتذكيري‏}‏ إياكم، وتخويفي لكم‏.‏ ‏}‏بآيات الله‏}‏ وعزمتم على قتلي وطردي‏.‏ ‏}‏فعلى الله توكلت‏}‏ أي اعتمدت‏.‏ وهذا هو جواب الشرط، ولم يزل عليه السلام متوكلا على الله في كل حال؛ ولكن بين أنه متوكل في هذا على الخصوص ليعرف قومه أن الله يكفيه أمرهم؛ أي إن لم تنصروني فإني أتوكل على من ينصرني‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأجمعوا أمركم وشركاءكم‏}‏ قراءة العامة ‏}‏فأجمعوا‏}‏ بقطع الألف ‏}‏شركاءكم‏}‏ بالنصب‏.‏ وقرأ عاصم الجحدري ‏}‏فاجمعوا‏}‏ بوصل الألف وفتح الميم؛ من جمع يجمع‏.‏ ‏}‏شركاءكم‏}‏ بالنصب‏.‏ وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ويعقوب ‏}‏فأجمعوا‏}‏ بقطع الألف ‏}‏شركاؤكم‏}‏ بالرفع‏.‏ فأما القراءة الأولى من أجمع على الشيء إذا عزم عليه‏.‏ وقال الفراء‏:‏ أجمع الشيء أعده‏.‏ وقال المؤرج‏:‏ أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه‏.‏ وأنشد‏:‏

يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع

قال النحاس‏:‏ وفي نصب الشركاء على هذه القراءة ثلاثة أوجه؛ قال الكسائي والفراء‏:‏ هو بمعنى وادعوا شركاءكم لنصرتكم؛ وهو منصوب عندهما على إضمار هذا الفعل‏.‏ وقال محمد بن يزيد‏:‏ هو معطوف على المعنى؛ كما قال‏:‏

يا ليت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا

والرمح لا يتقلد، إلا أنه محمول كالسيف‏.‏ وقال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ المعنى مع شركائكم على تناصركم؛ كما يقال‏:‏ التقى الماء والخشبة‏.‏ والقراءة الثانية من الجمع، اعتبارا بقوله تعالى‏{‏فجمع كيده ثم أتى‏}‏طه‏:‏ 60‏]‏‏.‏ قال أبو معاذ‏:‏ ويجوز أن يكون جمع وأجمع بمعنى واحد، ‏}‏وشركاءكم‏}‏ على هذه القراءة عطف على ‏}‏أمركم‏}‏، أو على معنى فأجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم، وإن شئت بمعنى مع، قال أبو جعفر النحاس‏:‏ وسمعت أبا إسحاق يجيز قام زيد وعمرا‏.‏ والقراءة الثالثة على أن يعطف الشركاء على المضمر المرفوع في أجمعوا، وحسن ذلك لأن الكلام قد طال‏.‏ قال النحاس وغيره‏:‏ وهذه القراءة تبعد؛ لأنه لو كان مرفوعا لوجب أن تكتب بالواو، ولم ير في المصاحف واو في قوله ‏}‏وشركاءكم‏}‏، وأيضا فإن شركاءهم الأصنام، والأصنام لا تصنع شيئا ولا فعل لها حتى تجمع‏.‏ قال المهدوي‏:‏ ويجوز أن يرتفع الشركاء بالابتداء والخير محذوف، أي وشركاءكم ليجمعوا أمرهم، ونسب ذلك إلى الشركاء وهي لا تسمع ولا تبص ولا تميز على جهة التوبيخ لمن عبدها‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم لا يكن أمركم عليكم غمة‏}‏ اسم يكن وخبرها‏.‏ وغمة وغم سواء، ومعناه التغطية؛ من قولهم‏:‏ غم الهلال إذا استتر؛ أي ليكن أمركم ظاهرا منكشفا تتمكنون فيه مما شئتم؛ لا كمن يخفى أمره فلا يقدر على ما يريد‏.‏ قال طرفة‏:‏

لعمرك ما أمري علي بغمة نهاري ولا ليلي علي بسرمد

الزجاج‏:‏ غمة ذا غم، والغم والغمة كالكرب والكربة‏.‏ وقيل‏:‏ إن الغمة ضيق الأمر الذي يوجب الغم فلا يتبين صاحبه لأمره مصدرا لينفرج عنه ما يغمه‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ والغمة الكربة‏.‏ قال العجاج‏:‏

بل لو شهدت الناس إذ تكتمون بغمة لو لم تفرج غموا

يقال‏:‏ أمر غمة، أي مبهم ملتبس؛ قال تعالى‏{‏ثم لا يكن أمركم عليكم غمة‏}‏‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ مجازها ظلمة وضيق‏.‏ والغمة أيضا‏:‏ قعر النحي وغيره‏.‏ قال غيره‏:‏ وأصل هذا كله مشتق من الغمامة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم اقضوا إلي ولا تنظروني‏}‏ ألف ‏}‏اقضوا‏}‏ ألف وصل، من قضى يقضي‏.‏ قال الأخفش والكسائي‏:‏ وهو مثل‏{‏وقضينا إليه ذلك الأمر‏}‏الحجر‏:‏ 66‏]‏ أي أنهيناه إليه وأبلغناه إياه‏.‏ وروي عن ابن عباس ‏}‏ثم اقضوا إلي ولا تنظرون‏}‏ قال‏:‏ امضوا إلي ولا تؤخرون‏.‏ قال النحاس‏:‏ هذا قول صحيح في اللغة؛ ومنه‏:‏ قضى الميت أي مضى‏.‏ وأعلمهم بهذا أنهم لا يصلون إليه، وهذا من دلائل النبوات‏.‏ وحكى الفراء عن بعض القراء ‏}‏ثم افضوا إلي‏}‏ بالفاء وقطع الألف، أي توجهوا؛ يقال‏:‏ أفضت الخلافة إلى فلان، وأفضى إلي الوجع‏.‏ وهذا إخبار من الله تعالى عن نبيه نوح عليه السلام أنه كان بنصر الله واثقا، ومن كيدهم غير خائف؛ علما منه بأنهم وآلهتهم لا ينفعون ولا يضرون‏.‏ وهو تعزية لنبيه صلى الله عليه وسلم وتقوية لقلبه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 72 ‏)‏

‏{‏فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإن توليتم فما سألتكم من أجر‏}‏ أي فإن أعرضتم عما جئتكم به فليس ذلك لأني سألتكم أجرا فيثقل عليكم مكافأتي‏.‏ ‏}‏إن أجري إلا على الله‏}‏ في تبليغ رسالته‏.‏ ‏}‏وأمرت أن أكون من المسلمين‏}‏ أي الموحدين لله تعالى‏.‏ فتح أهل المدينة وأبو عمرو وابن عامر وحفص ياء ‏}‏أجري‏}‏ حيث وقع، وأسكن الباقون‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 73 ‏)‏

‏{‏فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فكذبوه‏}‏ يعني نوحا‏.‏ ‏}‏فنجيناه ومن معه‏}‏ أي من المؤمنين ‏}‏في الفلك‏}‏ أي السفينة، وسيأتي ذكرها‏.‏ ‏}‏وجعلناهم خلائف‏}‏ أي سكان الأرض وخلفا ممن غرق‏.‏ ‏}‏فانظر كيف كان عاقبة المنذرين‏}‏ يعني آخر أمر الذين أنذرهم الرسل فلم يؤمنوا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 74 ‏)‏

‏{‏ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم بعثنا من بعده‏}‏ أي من بعد نوح‏.‏ ‏}‏رسلا إلى قومهم‏}‏ كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغيرهم‏.‏ ‏}‏فجاؤوهم بالبينات‏}‏ أي بالمعجزات‏.‏ ‏}‏فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل‏}‏ التقدير‏:‏ بما كذب به قوم نوح من قبل‏.‏ وقيل‏{‏بما كذبوا به من قبل‏}‏ أي من قبل يوم الذر، فإنه كان فيهم من كذب بقلبه وإن قال الجميع‏:‏ بلى‏.‏ قال النحاس‏:‏ ومن أحسن ما قيل في هذا أنه لقوم بأعيانهم؛ مثل‏{‏أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون‏}‏‏.‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏ ‏}‏كذلك نطبع‏}‏ أي نختم‏.‏ ‏}‏على قلوب المعتدين‏}‏ أي المجاوزين الحد في الكفر والتكذيب فلا يؤمنوا‏.‏ وهذا يرد على القدرية قولهم كما تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 75 ‏)‏

‏{‏ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم بعثنا من بعدهم‏}‏ أي من بعد الرسل والأمم‏.‏ ‏}‏موسى وهارون إلى فرعون وملئه‏}‏ أي أشراف قومه‏.‏ ‏}‏بآياتنا‏}‏ يريد الآيات التسع، وقد تقدم ذكرها‏.‏ ‏}‏فاستكبروا‏}‏ أي عن الحق‏.‏ ‏}‏وكانوا قوما مجرمين‏}‏ أي مشركين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 76 ‏:‏ 77 ‏)‏

‏{‏فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين، قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما جاءهم الحق من عندنا‏}‏ يريد فرعون وقومه ‏}‏قالوا إن هذا لسحر مبين‏}‏ حملوا المعجزات على السحر‏.‏ قال لهم موسى‏{‏أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا‏}‏ قيل‏:‏ في الكلام حذف، المعنى‏:‏ أتقولون للحق هذا سحر‏.‏ فـ ‏}‏أتقولون‏}‏ إنكار وقولهم محذوف أي هذا سحر، ثم استأنف إنكارا آخر من قبله فقال‏:‏ أسحر هذا‏!‏ فحذف قولهم الأول اكتفاء بالثاني من قولهم، منكرا على فرعون وملئه‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ هو من فولهم، ودخلت الألف حكاية لقولهم؛ لأنهم قالوا أسحر هذا‏.‏ فقيل لهم‏:‏ أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا؛ وروي عن الحسن‏.‏ ‏}‏ولا يفلح الساحرون‏}‏ أي لا يفلح من أتى به‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 78 ‏)‏

‏{‏قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا أجئتنا لتلفتنا‏}‏ أي تصرفنا وتلوينا، يقال‏:‏ لفته يلفته لفتا إذا لواه وصرفه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

تلفت نحو الحي حتى رأيتني وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا

ومن هذا التفت إنما هو عدل عن الجهة التي بين يديه‏.‏ ‏}‏عما وجدنا عليه آباءنا‏}‏ يريد من عبادة الأصنام‏.‏ ‏}‏وتكون لكما الكبرياء‏}‏ أي العظمة والملك والسلطان ‏}‏في الأرض‏}‏ يريد أرض مصر‏.‏ ويقال للملك‏:‏ الكبرياء لأنه أعظم ما يطلب في الدنيا‏.‏ ‏}‏وما نحن لكما بمؤمنين‏}‏‏.‏ وقرأ ابن مسعود والحسن وغيرهما ‏}‏ويكون‏}‏ بالياء لأنه تأنيت غير حقيقي وقد فصل بينهما‏.‏ وحكى سيبويه‏:‏ حضر القاضي اليوم امرأتان‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 79 ‏)‏

‏{‏وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم‏}‏

إنما قاله لما رأى العصا واليد البيضاء واعتقد أنهما سحر‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش ‏}‏سحار‏}‏ وقد تقدم في الأعراف القول فيهما‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 80 ‏)‏

‏{‏فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون‏}‏

أي اطرحوا على الأرض ما معكم من حبالكم وعصيكم‏.‏ وقد تقدم في الأعراف القول في هذا مستوفى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 81 ‏)‏

‏{‏فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر‏}‏ تكون ‏}‏ما‏}‏ في موضع رفع بالابتداء، والخبر ‏}‏جئتم به‏}‏ والتقدير‏:‏ أي شيء جئتم به، على التوبيخ والتصغير لما جاؤوا به من السحر‏.‏ وقراءة ضبي عمرو ‏}‏السحر‏}‏ على الاستفهام على إضمار مبتدأ والتقدير أهو السحر‏.‏ ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف، التقدير‏:‏ السحر جئتم به‏.‏ ولا تكون ‏}‏ما‏}‏ على قراءة من استفهم بمعنى الذي، إذ لا خبر لها‏.‏ وقرأ الباقون ‏}‏السحر‏}‏ على الخبر، ودليل هذه القراءة ابن مسعود‏{‏ما جئتم به سحر‏}‏‏.‏ وقراءة أبي‏{‏ما أتيتم به سحر‏}‏؛ فـ ‏}‏ما‏}‏ بمعنى الذي، و‏}‏جئتم به‏}‏ الصلة، وموضع ‏}‏ما‏}‏ رفع بالابتداء، والسحر خبر الابتداء‏.‏ ولا تكون ‏}‏ما‏}‏ إذا جعلتها بمعنى الذي نصبا لأن الصلة لا تعمل في الموصول‏.‏ وأجاز الفراء نصب السحر بجئتم، وتكون لا للشرط، وجئتم في موضع جزم بما والفاء محذوفة؛ التقدير‏:‏ فإن الله سيطلبه‏.‏ ويجوز أن ينصب السحر على المصدر، أي ما جئتم به سحرا، ثم دخلت الألف واللام زائدتين، فلا يحتاج على هذا التقدير إلى حذف الفاء‏.‏ واختار هذا القول النحاس، وقال‏:‏ حذف الفاء في المجازاة لا يجيزه كثير من النحويين إلا في ضرورة الشعر؛ كما قال‏:‏

من يفعل الحسنات الله يشكرها

بل ربما قال بعضهم‏:‏ إنه لا يجوز البتة‏.‏ وسمعت علي بن سليمان يقول‏:‏ حدثني محمد بن يزيد قال حدثني المازني قال سمعت الأصمعي يقول‏:‏ غير النحويون هذا البيت، وإنما الرواية‏:‏

من يفعل الخير فالرحمن يشكره

وسمعت علي بن سليمان يقول‏:‏ حذف الفاء في المجازاة جائز‏.‏ قال‏:‏ والدليل على ذلك ‏}‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم‏}‏‏.‏ ‏}‏وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم‏}‏ قراءتان مشهورتان معروفتان‏.‏ ‏}‏إن الله لا يصلح عمل المفسدين‏}‏ يعني السحر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ من أخذ مضجعه من الليل ثم تلا هذه الآية‏.‏ ‏(‏ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين‏)‏ لم يضره كيد ساحر‏.‏ ولا تكتب على مسحور إلا دفع الله عنه السحر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 82 ‏)‏

‏{‏ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويحق الله الحق‏}‏ أي يبينه ويوضحه‏.‏ ‏}‏بكلماته‏}‏ أي بكلامه وحججه وبراهينه‏.‏ وقيل‏:‏ بعداته بالنصر‏.‏ ‏}‏ولو كره المجرمون‏}‏ من آل فرعون‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 83 ‏)‏

‏{‏فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه‏}‏ الهاء عائدة على موسى‏.‏ قال مجاهد‏:‏ أي لم يؤمن منهم أحد، وإنما آمن أولاد من أرسل موسى إليهم من بني إسرائيل، لطول الزمان هلك الآباء وبقي الأبناء فآمنوا؛ وهذا اختيار الطبري‏.‏ والذرية أعقاب الإنسان وقد تكثر‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالذرية مؤمني بني إسرائيل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا ستمائة ألف، وذلك أن يعقوب عليه السلام دخل مصر في اثنين وسبعين إنسانا فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة ألف‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏{‏من قومه‏}‏ يعني من قوم فرعون؛ منهم مؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأته وماشطة ابنته وامرأة خازنه‏.‏ وقيل‏:‏ هم أقوام آباؤهم من القبط، وأمهاتهم من بني إسرائيل فسموا ذرية كما يسمى أولاد الفرس الذين توالدوا باليمن وبلاد العرب الأبناء؛ لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم؛ قال الفراء‏.‏ وعلى هذا فالكناية في ‏}‏قومه‏}‏ ترجع إلى موسى للقرابة من جهة الأمهات، وإلى فرعون إذا كانوا من القبط‏.‏

قوله تعالى‏{‏على خوف من فرعون‏}‏ لأنه كان مسلطا عليهم عاتبا‏.‏ ‏}‏وملئهم‏}‏ ولم يقل وملئه؛ وعنه ستة أجوبة‏:‏ أحدها‏:‏ أن فرعون لما كان جبارا أخبر عنه بفعل الجميع‏.‏ الثاني‏:‏ أن فرعون لما ذكر علم أن معه غيره، فعاد الضمير عليه وعليهم؛ وهذا أحد قولي الفراء‏.‏ الثالث‏:‏ أن تكون الجماعة سميت بفرعون مثل ثمود‏.‏ الرابع‏:‏ أن يكون التقدير‏:‏ على خوف من آل فرعون؛ فيكون من باب حذف المضاف مثل‏{‏واسأل القرية‏}‏، ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ وهو القول الثاني للفراء‏.‏ وهذا الجواب على مذهب سيبويه والخليل خطأ، لا يجوز عندهما قامت هند، وأنت تريد غلامها‏.‏ الخامس‏:‏ مذهب الأخفش سعيد أن يكون الضمير يعود على الذرية، أي ملأ الذرية؛ وهو اختيار الطبري‏.‏ السادس‏:‏ أن يكون الضمير يعود على قومه‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا الجواب كأنه أبلغها‏.‏ ‏}‏أن يفتنهم‏}‏ وحد ‏}‏يفتنهم‏}‏ على الإخبار عن فرعون، أي يصرفهم عن دينهم بالعقوبات، وهو في موضع خفض على أنه بدل اشتمال‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع نصب بـ ‏}‏خوف‏}‏‏.‏ ولم ينصرف فرعون لأنه اسم أعجمي وهو معرفة‏.‏ ‏}‏وإن فرعون لعال في الأرض‏}‏ أي عات متكبر ‏}‏وإنه لمن المسرفين‏}‏ أي المجاوزين الحد في الكفر؛ لأنه كان عبدا فادعى الربوبية‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 84 ‏:‏ 85 ‏)‏

‏{‏وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين، فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم‏}‏ أي صدقتم‏.‏ ‏}‏بالله فعليه توكلوا‏}‏ أي اعتمدوا‏.‏ ‏}‏إن كنتم مسلمين‏}‏ كرر الشرط تأكيدا، وبين أن كمال الإيمان بتفويض الأمر إلى الله‏.‏ ‏}‏فقالوا على الله توكلنا‏}‏ أي أسلمنا أمورنا إليه، ورضينا بقضائه وقدره، وانتهينا إلى أمره‏.‏ ‏}‏ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين‏}‏ أي لا تنصرهم علينا، فيكون ذلك فتنة لنا عن الدين، أو لا تمتحنا بأن تعذبنا على أيديهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المعنى لا تهلكنا بأيدي أعدائنا، ولا تعذبنا بعذاب من عندك، فيقول أعداؤنا لو كانوا على حق لم نسلط عليهم؛ فيفتنوا‏.‏ وقال أبو مجلز وأبو الضحا‏:‏ يعني لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا طغيانا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 86 ‏)‏

‏{‏ونجنا برحمتك من القوم الكافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ونجنا برحمتك‏}‏ أي خلصنا‏.‏ ‏}‏من القوم الكافرين‏}‏ أي من فرعون وقومه لأنهم كانوا يأخذونهم بالأعمال الشاقة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 87 ‏)‏

‏{‏وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوأا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوأا‏}‏ أي اتخذا‏.‏ ‏}‏لقومكما بمصر بيوتا‏}‏ يقال‏:‏ بوأت زيدا مكانا وبوأت لزيد مكانا‏.‏ والمبوأ المنزل الملزوم؛ ومنه بوأه الله منزلا، أي ألزمه إياه وأسكنه؛ ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار‏)‏ قال الراجز‏:‏

نحن بنو عدنان ليس شك تبوأ المجد بنا والملك

ومصر في هذه الآية هي الإسكندرية؛ في قول مجاهد‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إنه البلد المسمى مصر، ومصر ما بين البحر إلى أسوان، والإسكندرية من أرض مصر‏.‏

قوله تعالى‏{‏واجعلوا بيوتكم قبلة‏}‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ كان بنو إسرائيل لا يصلون إلا في مساجدهم وكنائسهم وكانت ظاهرة، فلما أرسل موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها ومنعوا من الصلاة؛ فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذوا لبني إسرائيل بيوتا بمصر، أي مساجد، ولم يرد المنازل المسكونة‏.‏ هذا قول إبراهيم وابن زيد والربيع وأبي مالك وابن عباس وغيرهم‏.‏ وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن المعنى‏:‏ واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا‏.‏ والقول الأول أصح؛ أي اجعلوا مساجدكم إلى القبلة؛ قيل‏:‏ بيت المقدس، وهي قبلة اليهود إلى اليوم؛ قال ابن بحر‏.‏ وقيل الكعبة‏.‏ عن ابن عباس قال‏:‏ وكانت الكعبة قبلة موسى ومن معه، وهذا يدل على أن القبلة في الصلاة كانت شرعا لموسى عليه السلام، ولم تخل الصلاة عن شرط الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة؛ فإن ذلك أبلغ في التكليف وأوفر للعبادة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد صلوا في بيوتكم سرا لتأمنوا؛ وذلك حين أخافهم فرعون فأمروا بالصبر واتخاذ المساجد في البيوت، والإقدام على الصلاة، والدعاء إلى أن ينجز الله وعده، وهو المراد بقوله‏{‏قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا‏}‏ الآية‏.‏ وكان من دينهم أنهم لا يصلون إلا في البيع والكنائس ما داموا على أمن، فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والأول أظهر القولين؛ لأن الثاني دعوى‏.‏

قلت‏:‏ قوله‏{‏دعوى‏}‏ صحيح؛ فإن في الصحيح قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا‏)‏ وهذا مما خص به دون الأنبياء؛ فنحن بحمد الله نصلي في المساجد والبيوت، وحيث أدركتنا الصلاة؛ إلا أن النافلة في المنازل أفضل منها في المساجد، حتى الركوع قبل الجمعة وبعدها‏.‏ وقبل الصلوات المفروضات وبعدها؛ إذ النوافل يحصل فيها الرياء، والفرائض لا يحصل فيها ذلك، وكلما خلص العمل من الرياء كان أوزن وأزلف عند الله سبحانه وتعالى‏.‏ روى مسلم عن عبدالله بن شقيق قال‏:‏ سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تطوعه قالت‏:‏ ‏(‏كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلى بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ثم يصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وعن ابن عمر قال‏:‏ صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الظهر سجدتين وبعدها سجدتين وبعد المغرب مجدتين؛ فأما المغرب والعشاء والجمعة فصليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته‏.‏ وروى أبو داود عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني الأشهل فصلى فيه المغرب؛ فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها فقال‏:‏ ‏(‏هذه صلاة البيوت‏)‏‏.‏

واختلف العلماء من هذا الباب في قيام رمضان، هل إيقاعه في البيت أفضل أو في المسجد‏؟‏ فذهب مالك إلى أنه في البيت أفضل لمن قوي عليه، وبه قال أبو يوسف وبعض أصحاب الشافعي‏.‏ وذهب ابن عبدالحكم وأحمد وبعض أصحاب الشافعي إلى أن حضورها في الجماعة أفضل‏.‏ وقال الليث‏:‏ لو قام الناس في بيوتهم ولم يقم أحد في المسجد لا ينبغي أن يخرجوا إليه‏.‏ والحجة لمالك ومن قال بقوله قوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن ثابت‏:‏ ‏(‏فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة‏)‏ خرجه البخاري‏.‏ احتج المخالف بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها في الجماعة في المسجد، ثم أخبر بالمانع الذي منع منه على الدوام على ذلك، وهو خشية أن تفرض عليهم فلذلك قال لهم‏:‏ ‏(‏فعليكم بالصلاة في بيوتكم‏)‏‏.‏ ثم إن الصحابة كانوا يصلونها في المسجد أوزاعا متفرقين، إلى أن جمعهم عمر على قارئ واحد فاستقر الأمر على ذلك وثبت سنة‏.‏

وإذا تنزلنا على أنه كان أبيح لهم أن يصلوا في بيوتهم إذا خافوا على أنفسهم فيستدل به على أن المعذور بالخوف وغيره يجوز له ترك الجماعة والجمعة‏.‏ والعذر الذي يبيح له ذلك كالمرض الحابس، أو خوف زيادته، أو خوف جور السلطان في مال أو دون القضاء عليه بحق‏.‏ والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع، ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة ولم يكن عنده من يمرضه؛ وقد فعل ذلك ابن عمر‏.‏

قوله تعالى‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ قيل‏:‏ الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل لموسى عليه السلام، وهو أظهر، أي بشر بني إسرائيل بأن الله سيظهرهم على عدوهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 88 ‏)‏

‏{‏وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه‏}‏ ‏}‏آتيت‏}‏ أي أعطيت‏.‏ ‏}‏زينة وأموالا في الحياة الدنيا‏}‏ أي مال الدنيا، وكان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والزمرد والياقوت‏.‏

قوله تعالى‏{‏ربنا ليضلوا عن سبيلك‏}‏ اختلف في هذه اللام، وأصح ما قيل فيها - وهو قول الخليل وسيبويه - أنها لام العاقبة والصيرورة؛ وفي الخبر ‏(‏إن لله تعالى ملكا ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب‏)‏‏.‏ أي لما كان عاقبة أمرهم إلى الضلال صار كأنه أعطاهم ليضلوا‏.‏ وقيل‏:‏ هي لام كي أي أعطيتهم لكي يضلوا ويبطروا ويتكبروا‏.‏ وقيل‏:‏ هي لام أجل، أي أعطيتهم لأجل إعراضهم عنك فلم يخافوا أن تعرض عنهم‏.‏ وزعم قوم أن المعنى‏:‏ أعطيتهم ذلك لئلا يضلوا، فحذفت لا كما قال عز وجل‏:‏ ‏(‏يبين الله لكم أن تضلوا‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ لأن لا تضلوا‏.‏ قال النحاس‏:‏ ظاهر هذا الجواب حسن، إلا أن العرب لا تحذف ‏}‏لا‏}‏ إلا مع أن؛ فموه صاحب هذا الجواب بقوله عز وجل‏{‏أن تضلوا‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ اللام للدعاء، أي ابتلهم بالضلال عن سبيلك؛ لأن بعده‏{‏اطمس على أموالهم واشدد‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ الفعل معنى المصدر أي إضلالهم كقوله عز وجل ‏}‏لتعرضوا عنهم‏}‏ قرأ الكوفيون‏{‏ليضلوا‏}‏ بضم الياء من الإضلال، وفتحها الباقون‏.‏

قوله تعالى‏{‏ربنا اطمس على أموالهم‏}‏ أي عاقبهم عل كفرهم بإهلاك أموالهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ طمس الشيء إذهابه عن صورته‏.‏ قال ابن عباس ومحمد بن كعب‏:‏ صارت أموالهم ودراهمهم حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأثلاثا وأنصافا، ولم يبق لهم معدن إلا طمس الله عليه فلم ينتفع به أحد بعد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة‏.‏ وقال مجاهد وعطية‏:‏ أهلكها حتى لا ترى؛ يقال‏:‏ عين مطموسة، وطمس الموضع إذا عفا ودرس‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ صارت دنانيرهم ودراهمهم وفرشهم وكل شيء لهم حجارة‏.‏ محمد بن كعب‏:‏ وكان الرجل منهم يكون مع أهله في فراشه وقد صارا حجرين؛ قال‏:‏ وسألني عمر بن عبدالعزيز فذكرت ذلك له فدعا بخريطة أصيبت بمصر فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير وإنها لحجارة‏.‏ وقال السدي‏:‏ وكانت إحدى الآيات التسع‏.‏ ‏}‏واشدد على قلوبهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي امنعهم الإيمان‏.‏ وقيل‏:‏ قسها واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان؛ والمعنى واحد‏.‏ ‏}‏قلا يؤمنوا‏}‏ قيل‏:‏ هو عطف على قوله‏{‏ليضلوا‏}‏ أي آتيتهم النعم ليضلوا ولا يؤمنوا؛ قاله الزجاج والمبرد‏.‏ وعلى هذا لا يكون فيه من معنى الدعاء شيء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ربنا اطمس، واشدد‏)‏ كلام معترض‏.‏ وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة‏:‏ هو دعاء، فهو في موضع جزم عندهم؛ أي اللهم فلا يؤمنوا، أي فلا آمنوا‏.‏ ومنه قول الأعشى‏:‏

فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ولا تلقني إلا وأنفك راغم

أي لا انبسط‏.‏ ومن قال ‏}‏ليضلوا‏}‏ دعاء - أي ابتلهم بالضلال - قال‏:‏ عطف عليه ‏}‏فلا يؤمنوا‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو في موضع نصب لأنه جواب الأمر؛ أي واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا‏.‏ وهذا قول الأخفش والفراء أيضا، وأنشد الفراء‏:‏

يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا

فعلى هذا حذفت النون لأنه منصوب‏.‏ ‏}‏حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو الغرق‏.‏ وقد استشكل بعض الناس هذه الآية فقال‏:‏ كيف دعا عليهم وحكم الرسل استدعاء إيمان قومهم؛ فالجواب أنه لا يجوز أن يدعو نبي على قومه إلا بإذن من الله، وإعلام أنه ليس فيهم من يؤمن ولا يخرج من أصلابهم من يؤمن؛ دليله قوله لنوح عليه السلام‏{‏إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏}‏هود‏:‏ 36‏]‏ وعند ذلك قال‏{‏رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا‏}‏ الآية ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 89 ‏)‏

‏{‏قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال قد أجيبت دعوتكما‏}‏ قال أبو العالية‏:‏ دعا موسى وأمن هارون؛ فسمي هارون وقد أمن على الدعاء داعيا‏.‏ والتأمين على الدعاء أن يقول آمين؛ فقولك آمين دعاء، أي لا رب استجب لي‏.‏ وقيل‏:‏ دعا هارون مع موسى أيضا‏.‏ وقال أهل المعاني‏:‏ ربما خاطبت العرب الواحد بخطاب الاثنين؛ قال الشاعر‏:‏

فقلت لصاحبي لا تعجلانا بنزع أصوله فاجتز شيحا

وهذا على أن آمين ليس بدعاء، وأن هارون لم يدع‏.‏ قال النحاس‏:‏ سمعت علي بن سليمان يقول‏:‏ الدليل على أن الدعاء لهما قول موسى عليه السلام ‏}‏ربنا‏}‏ ولم يقل رب‏.‏ وقرأ علي والسلمي ‏}‏دعواتكما‏}‏ بالجميع‏.‏ وقرأ ابن السميقع ‏}‏أجبت دعوتكما‏}‏ خبرا عن الله تعالى، ونصب دعوة بعده‏.‏ وتقدم القول في ‏}‏آمين‏}‏ في آخر الفاتحة مستوفى‏.‏ وهو مما خص به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهارون وموسى عليهما السلام‏.‏ روى أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله قد أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهي تحية أهل الجنة وصفوف الملائكة وآمين إلا ما كان من موسى وهارون‏)‏ ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول‏.‏ وقد تقدم في الفاتحة‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاستقيما‏}‏ قال الفراء وغيره‏:‏ أمر بالاستقامة‏.‏ على أمرهما والثبات عليه من دعاء فرعون وقومه إلى الإيمان، إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة‏.‏ قال محمد بن علي وابن جريح‏:‏ مكث فرعون وقومه به هذه الإجابة أربعين سنة ثم أهلكوا‏.‏ وقيل‏{‏استقيما‏}‏ أي على الدعاء؛ والاستقامة في الدعاء ترك الاستعجال في حصول المقصود، ولا يسقط الاستعجال من القلب إلا باستقامة السكينة فيه، ولا تكون تلك السكينة إلا بالرضا الحسن لجميع ما يبدو من الغيب‏.‏ ‏}‏ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون‏}‏ بتشديد النون في موضع جزم على النهي، والنون للتوكيد وحركت لالتقاء الساكنين واختير لها الكسر لأنها أشبهت نون الاثنين‏.‏ وقرأ ابن ذكوان بتخفيف النون على النفي‏.‏ وقيل‏:‏ هو حال من استقيما؛ أي استقيما غير متبعين، والمعنى‏:‏ لا تسلكا طريق من لا يعلم حقيقة وعدي ووعيدي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 90 ‏)‏

‏{‏وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وجاوزنا ببني إسرائيل البحر‏}‏ تقدم القول فيه في ‏}‏البقرة‏}‏ في قوله‏{‏وإذ فرقنا بكم البحر‏}‏‏.‏ وقرأ الحسن ‏}‏وجوزنا‏}‏ وهما لغتان‏.‏ ‏}‏فأتبعهم فرعون وجنوده‏}‏ يقال‏:‏ تبع وأتبع بمعنى واحد، إذا لحقه وأدركه‏.‏ وأتبع ‏(‏بالتشديد‏)‏ إذا سار خلفه‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ أتبعه ‏(‏بقطع الألف‏)‏ إذا لحقه وأدركه، وأتبعه ‏(‏بوصل الألف‏)‏ إذا أتبع أثره، أدركه أو لم يدركه‏.‏ وكذلك قال أبو زيد‏.‏ وقرأ قتادة ‏}‏فاتبعهم‏}‏ بوصل الألف‏.‏ وقيل‏{‏اتبعه‏}‏ ‏(‏بوصل الألف‏)‏ في الأمر اقتدى به‏.‏ وأتبعه ‏(‏بقطع الألف‏)‏ خيرا أو شرا؛ هذا قول أبي عمرو‏.‏ وقد قيل هما بمعنى واحد‏.‏ فخرج موسى ببني إسرائيل وهم ستمائة ألف وعشرون ألفا، وتبعه فرعون مصبحا في ألفي ألف وستمائة ألف‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏بغيا‏}‏ نصب على الحال‏.‏ ‏}‏وعدوا‏}‏ معطوف عليه؛ أي في حال بغي واعتداء وظلم؛ يقال‏:‏ عدا يعدو عدوا؛ مثل غزا يغزو غزوا‏.‏ وقرأ الحسن ‏}‏وعدوا‏}‏ بضم العين والدال وتشديد الواو؛ مثل علا يعلو علوا‏.‏ وقال المفسرون‏{‏بغيا‏}‏ طلبا للاستعلاء بغير حق في القول، ‏}‏وعدوا‏}‏ في الفعل؛ فهما نصب على المفعول له‏.‏ ‏}‏حتى إذا أدركه الغرق‏}‏ أي ناله ووصله‏.‏ ‏}‏قال آمنت‏}‏ أي صدقت‏.‏ ‏}‏أنه‏}‏ أي بأنه‏.‏ ‏}‏لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل‏}‏ فلما حذف الخافض تعدى الفعل فنصب‏.‏ وقرئ بالكسر، أي صرت مؤمنا ثم استأنف‏.‏ وزعم أبو حاتم أن القول محذوف، أي آمنت فقلت إنه، والإيمان لا ينفع حينئذ؛ والتوبة مقبولة قبل رؤية البأس، وأما بعدها وبعد المخالطة فلا تقبل، حسب ما تقدم في ‏}‏النساء‏}‏ بيانه‏.‏

ويقال‏:‏ إن فرعون هاب دخول البحر وكان على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى؛ فجاء جبريل على فرس وديق أي شهي في صورة هامان وقال له‏:‏ تقدم، ثم خاض البحر فتبعها حصان فرعون، وميكائيل يسوقهم لا يشذ منهم أحد، فلما صار آخرهم في البحر وهم أولهم أن يخرج انطبق عليهم البحر، وألجم فرعون الغرق فقال‏:‏ آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل؛ فدس جبريل في فمه حال البحر‏.‏ وروى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لما أغرق الله فرعون قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة‏)‏‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏ حال البحر‏:‏ الطين الأسود الذي يكون في أرضه؛ قال أهل اللغة‏.‏ وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر‏:‏ ‏(‏أن جبريل جعل يدس في في فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله أو خشية أن يرحمه‏)‏‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن غريب صحيح‏.‏ وقال عون بن عبدالله‏:‏ بلغني أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما ولد إبليس أبغض إلي من فرعون، فإنه لما أدركه الغرق قال‏{‏آمنت‏}‏ الآية، فخشيت أن يقولها فيرحم، فأخذت تربة أو طينة فحشوتها في فيه‏.‏ وقيل‏:‏ إنما فعل هذا به عقوبة له على عظيم ما كان يأتي‏.‏ وقال كعب الأحبار‏:‏ أمسك الله نيل مصر عن الجري في زمانه‏.‏ فقالت له القبط‏:‏ إن كنت ربنا فأجر لنا الماء؛ فركب وأمر بجنوده قائدا قائدا وجعلوا يقفون عل درجاتهم وقفز حيث لا يرونه ونزل عن دابته ولبس ثيابا له أخرى وسجد وتضرع لله تعالى فأجرى الله له الماء، فأتاه جبريل وهو وحده في هيئة مستفت وقال‏:‏ ما يقول الأمير في رجل له عبد قد نشأ في نعمته لا سند له غيره، فكفر نعمه وجحد حقه وادعى السيادة دونه؛ فكتب فرعون‏:‏ يقول أبو العباس الوليد بن مصعب بن الريان جزاؤه أن يغرق في البحر؛ فأخذه جبريل ومر فلما أدركه الغرق ناول جبريل عليه السلام خطه‏.‏ وقد مضى هذا في ‏}‏البقرة‏}‏ عن عبدالله بن عمرو بن العاص وابن عباس مسندا؛ وكان هذا في يوم عاشوراء على ما تقدم بيانه في ‏}‏البقرة‏}‏ أيضا فلا معنى للإعادة‏.‏ ‏}‏وأنا من المسلمين‏}‏ أي من الموحدين المستسلمين بالانقياد والطاعة‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 91 ‏)‏

‏{‏آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين‏}‏

قيل‏:‏ هو من قول الله تعالى‏.‏ وميل‏:‏ هو من قول جبريل‏.‏ وقيل‏:‏ ميكائيل، صلوات الله عليهما، أو غيرهما من الملائكة له صلوات الله عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول فرعون في نفسه، ولم يكن ثم قول اللسان بل وقع ذلك في قلبه فقال في نفسه ما قال‏:‏ حيث لم تنفعه الندامة؛ ونظيره‏.‏ ‏}‏إنما نطعمكم لوجه الله‏}‏الإنسان‏:‏ 9‏]‏ أثنى عليهم الرب بما في ضميرهم لا أنهم قالوا ذلك بلفظهم، والكلام الحقيقي كلام القلب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 92 ‏)‏

‏{‏فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فاليوم ننجيك ببدنك‏}‏ أي نلقيك على نجوة من الأرض‏.‏ وذلك أن بني إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون غرق، وقالوا‏:‏ هو أعظم شأنا من ذلك، فألقاه الله على نجوة من الأرض، أي مكان مرتفع من البحر حتى شاهدوه قال أوس بن حجر يصف مطرا‏:‏

فمن بعقوته كمن بنجوته والمستكن كمن يمشي بقرواح

وقرأ اليزيدي وابن السميقع ‏}‏ننحيك‏}‏ بالحاء من التنحية، وحكاها علقمة عن ابن مسعود؛ أي تكون على ناحية من البحر‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ فرمي به على ساحل البحر حتى رآه بنو إسرائيل، وكان قصيرا أحمر كأنه ثور‏.‏ وحكى علقمة عن عبدالله أنه قرأ ‏}‏بندائك‏}‏ من النداء‏.‏ قال أبو بكر الأنباري‏:‏ وليس بمخالف لهجاء مصحفنا، إذ سبيله أن يكتب بياء وكاف بعد الدال؛ لأن الألف تسقط من ندائك في ترتيب خط المصحف كما سقط من الظلمات والسماوات، فإذا وقع بها الحذف استوى هجاء بدنك وندائك، على أن هذه القراءة مرغوب عنها لشذوذها وخلافها ما عليه عامة المسلمين؛ والقراءة سنة يأخذها آخر عن أول، وفي معناها نقص عن تأويل قراءتنا، إذ ليس فيها للدرع ذكره الذي تتابعت الآثار بأن بني إسرائيل اختلفوا في غرق فرعون، وسألوا الله تعالى، أن يريهم إياه غريقا فألقوه على نجوة من الأرض ببدنه وهو درعه التي يلبسها في الحروب‏.‏ قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي‏:‏ وكانت درعه من لؤلؤ منظوم‏.‏ وقيل‏:‏ من الذهب وكان يعرف بها‏.‏ وقيل‏:‏ من حديد؛ قاله أبو صخر‏:‏ والبدن الدرع القصيرة‏.‏ وأنشد أبو عبيدة للأعشى‏:‏

وبيضاء كالنهي موضونة لها قونس فوق جيب البدن

وأنشد أيضا لعمرو بن معد يكرب‏:‏

ومضى نساؤهم بكل مفاضة جدلاء سابغة وبالأبدان

وقال كعب بن مالك‏:‏

ترى الأبدان فيها مسبغات على الأبطال واليلب الحصينا

أراد بالأبدان الدروع واليلب الدروع اليمانية، كانت تتخذ من الجلود يخرز بعضها إلى بعض؛ وهو اسم جنس، الواحد يلبة‏.‏ قال عمرو بن كلثوم‏:‏

علينا البيض واليلب اليماني وأسياف يقمن وينحنينا

وقيل ‏}‏ببدنك‏}‏ بجسد لا روح فيه؛ قاله مجاهد‏.‏ قال الأخفش‏:‏ وأما قول من قال بدرعك فليس بشيء‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ لأنهم لما ضرعوا إلى الله يسألونه مشاهدة فرعون غريقا أبرزه لهم فرأوا جسدا لا روج فيه، فلما رأته بنو إسرائيل قالوا نعم‏!‏ يا موسى هذا فرعون وقد غرق؛ فخرج الشك من قلوبهم وابتلع البحر فرعون كما كان‏.‏ فعلى هذا ‏}‏ننجيك ببدنك‏}‏ احتمل معنيين‏:‏ أحدهما - نلقيك على نجوة من الأرض‏.‏ والثاني - نظهر جسدك الذي لا روج فيه‏.‏ والقراءة الشاذة ‏}‏بندائك‏}‏ يرجع معناها إلى معنى قراءة الجماعة، لأن النداء يفسر تفسيرين، أحدهما - نلقيك بصياحك بكلمة التوبة، وقولك بعد أن أغلق بابها ومضى وقت قبولها‏{‏آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين‏}‏يونس‏:‏ 90‏]‏ على موضع رفيع‏.‏ والآخر - فاليوم نعزلك عن غامض البحر بندائك لما قلت أنا ربكم الأعلى؛ فكانت تنجيته بالبدن معاقبة من رب العالمين له على ما فرط من كفره الذي منه نداؤه الذي افترى فيه وبهت، وادعى القدرة والأمر الذي يعلم أنه كاذب فيه وعاجز عنه وغير مستحق له‏.‏ قال أبو بكر الأنباري‏:‏ فقراءتنا تتضمن ما في القراءة الشاذة من المعاني وتزيد عليها‏.‏

قوله تعالى‏{‏لتكون لمن خلفك آية‏}‏ أي لبني إسرائيل ولمن بقي من قوم فرعون ممن لم يدركه الغرق ولم ينته إليه هذا الخبر‏.‏ ‏}‏وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون‏}‏ أي معرضون عن تأمل آياتنا والتفكر فيها‏.‏ وقرئ ‏}‏لمن خلفك‏}‏ ‏(‏بفتح اللام‏)‏؛ أي لمن بقي بعدك يخلفك في أرضك‏.‏ وقرأ علي بن أبي طالب ‏}‏لمن خلقك‏}‏ بالقاف؛ أي تكون آية لخالقك‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 93 ‏)‏

‏{‏ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق‏}‏ أي منزل صدق محمود مختار، يعني مصر‏.‏ وقيل‏:‏ الأردن وفلسطين‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هي مصر والشام‏.‏ ‏}‏ورزقناهم من الطيبات‏}‏ أي من الثمار وغيرها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يعني قريظة والنضير وأهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل؛ فإنهم كانوا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وينتظرون خروجه، ثم لما خرج حسدوه؛ ولهذا قال‏{‏فما اختلفوا‏}‏ أي في أمر محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏حتى جاءهم العلم‏}‏ أي القرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والعلم بمعنى المعلوم؛ لأنهم كانوا يعلمونه قبل خروجه؛ قال ابن جرير الطبري‏.‏ ‏}‏إن ربك يقضي بينهم‏}‏ أي يحكم بينهم ويفصل‏.‏ ‏}‏يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏ في الدنيا، فيثيب الطائع ويعاقب العاصي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 94 ‏:‏ 95 ‏)‏

‏{‏فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، أي لست في شك ولكن غيرك شك‏.‏ قال أبو عمر محمد بن عبدالواحد الزاهد‏:‏ سمعت الإمامين ثعلبا والمبرد يقولان‏:‏ معنى ‏}‏فإن كنت في شك‏}‏ أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ‏}‏فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك‏}‏ أي يا عابد الوثن إن كنت في شك من القرآن فأسأل من أسلم من اليهود، يعني عبدالله بن سلام وأمثاله؛ لأن عبدة الأوثان كانوا يقرون لليهود أنهم أعلم منهم من أجل أنهم أصحاب كتاب؛ فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يسألوا من يقرون بأنهم أعلم منهم، هل يبعث الله برسول من بعد موسى‏.‏ وقال القتبي‏:‏ هذا خطاب لمن كان لا يقطع بتكذيب محمد ولا بتصديقه صلى الله عليه وسلم، بل كان في شك‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره، والمعنى‏:‏ لو كنت يلحقك الشك فيه فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك‏.‏ وقيل‏:‏ الشك ضيق الصدر؛ أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر، واسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك يخبروك صبر الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف عاقبة أمرهم‏.‏ والشك في اللغة أصله الضيق؛ يقال‏:‏ شك الثوب أي ضمه بخلال حتى يصير كالوعاء‏.‏ وكذلك السفرة تمد علائقها حتى تنقبض؛ فالشك يقبض الصدر ويضمه حتى يضيق‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ الفاء مع حروف الشرط لا توجب‏.‏ الفعل ولا تثبته، والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏(‏والله لا أشك - ثم استأنف الكلام فقال - لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين‏)‏ أي الشاكين المرتابين‏.‏ ‏}‏ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين‏}‏ والخطاب في هاتين الآيتين للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 96 ‏:‏ 97 ‏)‏

‏{‏إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون‏}‏ تقدم القول فيه في هذه السورة‏.‏ قال قتادة‏:‏ أي الذين حق عليهم غضب الله وسخطه بمعصيتهم لا يؤمنون‏.‏ ‏}‏ولو جاءتهم كل آية‏}‏ أنث ‏}‏كلا‏}‏ على المعنى؛ أي ولو جاءتهم الآيات‏.‏ ‏}‏حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ فحينئذ يؤمنون ولا ينفعهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 98 ‏)‏

‏{‏فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلولا كانت قرية آمنت‏}‏ قال الأخفش والكسائي‏:‏ أي فهلا‏.‏ وفي مصحف أبي وابن مسعود ‏}‏فهلا‏}‏ وأصل لولا في الكلام التحضيض أو الدلالة على منع أمر لوجود غيره‏.‏ ومفهوم من معنى الآية نفي إيمان أهل القرى ثم استثنى قوم يونس؛ فهو بحسب اللفظ استئناء منقطع، وهو بحسب المعنى متصل؛ لأن تقديره ما آمن أهل قرية إلا قوم يونس‏.‏ والنصب في ‏}‏قوم‏}‏ هو الوجه، وكذلك أدخله سيبويه في ‏(‏باب مالا يكون إلا منصوبا‏)‏‏.‏ قال النحاس‏{‏إلا قوم يونس‏}‏ نصب لأنه استئناء ليس من الأول، أي لكن قوم يونس؛ هذا قول الكسائي والأخفش والفراء‏.‏ ويجوز‏.‏ ‏}‏إلا قوم يونس‏}‏ بالرفع، ومن أحسن ما قيل في الرفع ما قال أبو إسحاق الزجاج قال‏:‏ يكون المعنى غير قوم يونس، فلما جاء بإلا أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غير؛ كما قال‏:‏

وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان

وروي في قصة قوم يونس عن جماعة من المفسرين‏:‏ أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم يونس عليه السلام يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه فأبوا؛ فقيل‏:‏ إنه أقام يدعوهم تسع سنين فيئس من إيمانهم؛ فقيل له‏:‏ أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ففعل، وقالوا‏:‏ هو رجل لا يكذب فارقبوه فإن أقام معكم وبين أظهركم فلا عليكم، وإن ارتحل عنكم فهو نزول العذاب لا شك؛ فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا ودعوا الله ولبسوا المسوح وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم، وردوا المظالم في تلك الحالة‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ وكان الرجل يأتي الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه فيرده؛ والعذاب منهم فيما روي عن ابن عباس على ثلثي ميل‏.‏ وروي على ميل‏.‏ وعن ابن عباس أنهم غشيتهم ظلة وفيها حمرة فلم تزل تدنو حتى وجدوا حرها بين أكتافهم‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ غشيهم العذاب كما يغشى الثوب القبر، فلما صحت توبتهم رفع الله عنهم العذاب‏.‏ وقال الطبري‏:‏ خص قوم يونس من بين سائر الأمم بأن تيب عليهم بعد معاينة العذاب؛ وذكر ذلك عن جماعة من المفسرين‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إنهم لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان‏.‏

قلت‏:‏ قول الزجاج حسن؛ فان المعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون، ولهذا جاء بقصة قوم يونس على أثر قصة فرعون لأنه آمن حين رأى العذاب فلم ينفعه ذلك، وقوم يونس تابوا قبل ذلك‏.‏ ويعضد هذا قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر‏)‏‏.‏ والغرغرة الحشرجة، وذلك هو حال التلبس بالموت، وأما قبل ذلك فلا‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقد روي معنى ما قلناه عن ابن مسعود، أن يونس لما وعدهم العذاب إلى ثلاثة أيام خرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا وفرقوا بين الأمهات والأولاد؛ وهذا يدل على أن توبتهم قبل رؤية علامة العذاب‏.‏ وسيأتي مسندا مبينا في سورة ‏}‏والصافات‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ ويكون معنى ‏}‏كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا‏}‏ أي العذاب الذي وعدهم به يونس أنه ينزل بهم، لا أنهم رأوه عيانا ولا مخايلة؛ وعلى هذا لا إشكال ولا تعارض ولا خصوص، والله أعلم‏.‏ وبالجملة فكان أهل نينوى في سابق العلم من السعداء‏.‏ وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ إن الحذر لا يرد القدر، وإن الدعاء ليرد القدر‏.‏ وذلك أن الله تعالى يقول‏{‏إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا‏}‏‏.‏ قال رضي الله عنه‏:‏ وذلك يوم عاشوراء‏.‏ ‏}‏ومتعناهم إلى حين‏}‏ قيل إلى أجلهم، قال السدي وقيل‏:‏ إلى أن يصيروا إلى الجنة أو إلى النار؛ قاله ابن عباس‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 99 ‏)‏

‏{‏ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا‏}‏ أي لاضطرهم إليه‏.‏ ‏}‏كلهم‏}‏ تأكيد لـ ‏}‏من‏}‏‏.‏ ‏}‏جميعا‏}‏ عند سيبويه نصب على الحال‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ جاء بقول جميعا بعد كل تأكيدا؛ كقوله‏{‏لا تتخذوا إلهين اثنين‏}‏النحل‏:‏ 51‏]‏

قوله تعالى‏{‏أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان جميع الناس؛ فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالناس هنا أبو طالب؛ وهو عن ابن عباس أيضا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 100 ‏)‏

‏{‏وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ نفي؛ أي ما ينبغي أن تؤمن نفس إلا بقضائه وقدره ومشيئته وإرادته‏.‏ ‏}‏ويجعل الرجس‏}‏ وقرأ الحسن وأبو بكر والمفضل ‏}‏ونجعل‏}‏ بالنون على التعظيم‏.‏ والرجس‏:‏ العذاب؛ بضم الراء وكسرها لغتان‏.‏ ‏}‏على الذين لا يعقلون‏}‏ أمر الله عز وجل ونهيه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 101 ‏)‏

‏{‏قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل انظروا ماذا في السماوات والأرض‏}‏ أمر للكفار بالاعتبار والنظر في المصنوعات الدالة على الصانع والقادر على الكمال‏.‏ وقد تقدم القول في هذا المعنى في غير موضع مستوفى‏.‏ ‏}‏وما تغني‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ نفي؛ أي ولن تغني‏.‏ وقيل‏:‏ استفهامية؛ التقدير أي شيء تغني‏.‏ ‏}‏الآيات‏}‏ أي الدلالات‏.‏ ‏}‏والنذر‏}‏ أي الرسل، جمع نذير، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏عن قوم لا يؤمنون‏}‏ أي عمن سبق له في علم الله أنه لا يؤمن‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 102 ‏)‏

‏{‏فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم‏}‏ الأيام هنا بمعنى الوقائع؛ يقال‏:‏ فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعهم‏.‏ قال قتادة‏:‏ يعني وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم‏.‏ والعرب تسمي العذاب أياما والنعم أياما؛ كقوله تعالى‏{‏وذكره بأيام الله‏}‏‏.‏ وكل ما مضى لك من خير أو شر فهو أيام‏.‏ ‏}‏فانتظروا‏}‏ أي تربصوا؛ وهذا تهديد ووعيد‏.‏ ‏}‏إني معكم من المنتظرين‏}‏ أي المتربصين لموعد وربي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 103 ‏)‏

‏{‏ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا‏}‏ أي من سنتنا إذا أنزلنا بقوم عذابا أخرجنا من بينهم الرسل والمؤمنين، و‏}‏ثم‏}‏ معناه ثم اعلموا أنا ننجي رسلنا‏.‏ ‏}‏كذلك حقا علينا‏}‏ أي واجبا علينا؛ لأنه أخبر ولا خلف في خبره‏.‏ وقرأ يعقوب‏.‏ ‏}‏ثم ننجي‏}‏ مخففا‏.‏ وقرأ الكسائي وحفص ويعقوب‏.‏ ‏}‏ننجي المؤمنين‏}‏ مخففا؛ وشدد الباقون؛ وهما لغتان فصيحتان‏:‏ أنجى ينجي إنجاء، ونجى ينجي تنجية بمعنى واحد‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 104 ‏)‏

‏{‏قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل يا أيها الناس‏}‏ يريد كفار مكة‏.‏ ‏}‏إن كنتم في شك من ديني‏}‏ أي في ريب من دين الإسلام الذي أدعوكم إليه‏.‏ ‏}‏فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله‏}‏ من الأوثان التي لا تعقل‏.‏ ‏}‏ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم‏}‏ أي يميتكم ويقبض أرواحكم‏.‏ ‏}‏وأمرت أن أكون من المؤمنين

أي المصدقين بآيات ربهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 105 ‏:‏ 106 ‏)‏

‏{‏وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين، ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأن أقم وجهك للدين‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ عطف على ‏}‏أن أكون‏}‏ أي قيل لي كن من المؤمنين وأقم وجهك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ عملك، وقيل‏:‏ نفسك؛ أي استقم بإقبالك على ما أمرت به من الدين‏.‏ ‏}‏حنيفا‏}‏ أي قويما به مائلا عن كل دين‏.‏ قال حمزة بن عبدالمطلب ‏(‏رضي الله عنه‏)‏‏:‏

حمدت الله حين هدى فؤادي من الإشراك للدين الحنيف

وقد مضى في ‏}‏الأنعام‏}‏ اشتقاقه والحمد لله‏.‏ ‏}‏ولا تكونن من المشركين‏}‏ أي وقيل لي ولا تشرك؛ والخطاب له والمراد غيره؛ وكذلك قوله‏{‏ولا تدع‏}‏ أي لا تعبد‏.‏ ‏}‏من دون الله ما لا ينفعك‏}‏ إن عبدته‏.‏ ‏}‏ولا يضرك‏}‏ إن عصيته‏.‏ ‏}‏فإن فعلت‏}‏ أي عبدت غير الله‏.‏ ‏}‏فإنك إذا من الظالمين‏}‏ أي الواضعين العبادة في غير موضعها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 107 ‏)‏

‏{‏وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن يمسسك الله بضر‏}‏ أي يصيبك به‏.‏ ‏}‏فلا كاشف له إلا هو‏}‏ أي لا دافع ‏}‏له إلا هو وإن يردك بخير‏}‏ أي يصبك برخاء ونعمة ‏}‏فلا راد لفضله يصيب به‏}‏ أي بكل ما أراد من الخير والشر‏.‏ ‏}‏من يشاء من عباده وهو الغفور‏}‏ لذنوب عباده وخطاياهم ‏}‏الرحيم‏}‏ بأوليائه في الآخرة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 108 ‏)‏

‏{‏قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق‏}‏ أي القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏فمن اهتدى‏}‏ أي صدق محمدا وآمن بما جاء به‏.‏ ‏}‏فإنما يهتدي لنفسه‏}‏ أي لخلاص نفسه‏.‏ ‏}‏ومن ضل‏}‏ أي ترك الرسول والقرآن واتبع الأصنام والأوثان‏.‏ ‏}‏فإنما يضل عليها‏}‏ أي وبال ذلك على نفسه‏.‏ ‏}‏وما أنا عليكم بوكيل‏}‏ أي بحفيظ أحفظ أعمالكم إنما أنا رسول‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نسختها آية السيف‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 109 ‏)‏

‏{‏واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏واتبع ما يوحى إليك واصبر‏}‏ قيل‏:‏ نسخ بآية القتال‏:‏ وقيل‏:‏ ليس منسوخا؛ ومعناه اصبر على الطاعة وعن المعصية‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لما نزلت جمع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ولم يجمع معهم غيرهم فقال‏:‏ ‏(‏إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض‏)‏ وعن أنس بمثل ذلك؛ ثم قال أنس‏:‏ فلم يصبروا فأمرهم بالصبر كما أمره الله تعالى؛ وفي ذلك يقول عبدالرحمن بن حسان‏:‏

ألا أبلغ معاوية بن حرب أمير المؤمنين نثا كلامي

بأنا صابرون ومنظروكم إلى يوم التغابن والخصام

‏{‏حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين‏}‏ ابتداء وخبر؛ لأنه عز وجل لا يحكم إلا بالحق
 
سورة هود

مقدمة السورة

مكية إلا الآيات 12، 17، 114 فمدنية وآياتها 123 نزلت بعد يونس‏.‏ مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ إلا آية؛ وهي قوله تعالى‏{‏وأقم الصلاة طرفي النهار‏}‏هود‏:‏ 114‏]‏‏.‏ وأسند أبو محمد الدارمي في مسنده عن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏اقرؤوا سورة هود يوم الجمعة‏)‏‏.‏ وروى الترمذي عن ابن عباس قال قال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ يا رسول الله قد شبت‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت‏)‏‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن غريب، وقد روي شيء من هذا مرسلا‏.‏ وأخرجه الترمذي الحكيم أبو عبدالله في ‏}‏نوادر الأصول‏}‏‏:‏ حدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا محمد بن بشر عن علي بن صالح عن أبي إسحاق عن أبي جحيفة قال‏:‏ قالوا يا رسول الله نراك قد شبت‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏شيبتني هود وأخواتها‏)‏‏.‏ قال أبو عبدالله‏:‏ فالفزع يورث الشيب وذلك أن الفزع يذهل النفس فينشف رطوبة الجسد، وتحت كل شعرة منبع، ومنه يعرق، فإذا انتشف الفزع رطوبته يبست المنابع فيبس الشعر وابيض؛ كما ترى الزرع الأخضر بسقائه، فإذا ذهب سقاؤه يبس فابيض؛ وإنما يبيض شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويبس جلده، فالنفس تذهل بوعيد الله، وأهوال ما جاء به الخبر عن الله، فتذبل، وينشف ماءها ذلك الوعيد والهول الذي جاء به؛ فمنه تشيب‏.‏ وقال الله تعالى‏{‏يوما يجعل الولدان شيبا‏}‏المزمل‏:‏ 17‏]‏ فإنما شابوا من الفزع‏.‏ وأما سورة ‏}‏هود‏}‏ فلما ذكر الأمم، وما حل بهم من عاجل بأس الله تعالى، فأهل اليقين إذا تلوها تراءى على قلوبهم من ملكه وسلطانه ولحظاته البطش بأعدائه، فلو ماتوا من الفزع لحق لهم، ولكن الله تبارك وتعالى اسمه يلطف بهم في تلك الأحايين حتى يقرؤوا كلامه‏.‏ وأما أخواتها فما أشبهها من السور؛ مثل ‏}‏الحاقة‏}‏الحاقة‏:‏ 1‏]‏ و‏}‏سأل سائل‏}‏المعارج‏:‏ 1‏]‏ و‏}‏إذا الشمس كورت‏}‏التكوير‏:‏ 1‏]‏ و‏}‏القارعة‏}‏القارعة‏:‏ 1‏]‏، ففي تلاوة هذه السور ما يكشف لقلوب العارفين سلطانه وبطشه فتذهل منه النفوس، وتشيب منه الرؤوس‏.‏ ‏[‏قلت‏]‏ وقد قيل‏:‏ إن الذي شيب النبي صلى الله عليه وسلم من سورة ‏}‏هود‏}‏ قوله‏{‏فاستقم كما أمرت‏}‏هود‏:‏ 112‏]‏ على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏ وقال يزيد بن أبان‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي فقرأت عليه سورة ‏}‏هود‏}‏ فلما ختمتها قال‏:‏ ‏(‏يا يزيد هذه القراءة فأين البكاء‏)‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ يقال هذه هود فاعلم بغير تنوين على أنه اسم للسورة؛ لأنك لو سميت امرأة بزيد‏.‏ لم تصرف؛ وهذا قول الخليل وسيبويه‏.‏ وعيسي ابن عمر يقول‏:‏ هذه هود بالتنوين على أنه اسم للسورة؛ وكذا إن سمى امرأة بزيد؛ لأنه لما سكن وسطه خف فصرف، فإن أردت الحذف صرفت على قول الجميع، فقلت‏:‏ هذه هود وأنت تريد سورة هود؛ قال سيبويه‏:‏ والدليل على هذا أنك تقول هذه الرحمن، فلولا أنك تريد هذه سورة الرحمن ما قلت هذه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 1 ‏)‏

‏{‏الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير‏}‏

قوله تعالى‏{‏الر‏}‏ تقدم القول فيه‏.‏ ‏}‏كتاب‏}‏ بمعنى هذا كتاب‏.‏ ‏}‏أحكمت آياته‏}‏ في موضع رفع نعت لكتاب‏.‏ وأحسن ما قيل في معنى ‏}‏أحكمت آياته‏}‏ قول قتادة؛ أي جعلت محكمة كلها لا خلل فيها ولا باطل‏.‏ والإحكام منع القول من الفساد، أي نظمت نظما محكما لا يلحقها تناقض ولا خلل‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أي لم ينسخها كتاب، بخلاف التوراة والإنجيل‏.‏ وعلى هذا فالمعنى؛ أحكم بعض آياته بأن جعل ناسخا غير منسوخ‏.‏ وقد تقدم القول فيه‏.‏ وقد يقع اسم الجنس على النوع؛ فيقال‏:‏ أكلت طعام زيد؛ أي بعض طعامه‏.‏ وقال الحسن وأبو العالية‏{‏أحكمت آياته‏}‏ بالأمر والنهي‏.‏ ‏}‏ثم فصلت‏}‏ بالوعد والوعيد والثواب والعقاب‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بالحلال والحرام‏.‏ مجاهد‏:‏ أحكمت جملة، ثم بينت بذكر آية آية بجميع ما يحتاج إليه من الدليل على التوحيد والنبوة والبعث وغيرها‏.‏ وقيل‏:‏ جمعت في اللوح المحفوظ، ثم فصلت في التنزيل‏.‏ وقيل‏{‏فصلت‏}‏ أنزلت نجما نجما لتتدبر‏.‏ وقرأ عكرمة ‏}‏فصلت‏}‏ مخففا أي حكمت بالحق‏.‏ ‏}‏من لدن‏}‏ أي من عند‏.‏ ‏}‏حكيم‏}‏ أي محكم للأمور‏.‏ ‏}‏خبير‏}‏ بكل كائن وغير كائن‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 2 ‏)‏

‏{‏ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألا تعبدوا إلا الله‏}‏ قال الكسائي والفراء‏:‏ أي بألا؛ أي أحكمت ثم فصلت بألا تعبدوا إلا الله‏.‏ قال الزجاج‏:‏ لئلا؛ أي أحكمت ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله‏.‏ قيل‏:‏ أمر رسوله أن يقول للناس ألا تعبدوا إلا الله‏.‏ ‏}‏إنني لكم منه‏}‏ أي من الله‏.‏ ‏}‏نذير‏}‏ أي مخوف من عذابه وسطوته لمن عصاه‏.‏ ‏}‏وبشير‏}‏ بالرضوان والجنة لمن أطاعه‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول الله أولا وآخرا؛ أي لا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير؛ أي الله نذير لكم من عبادة غيره، كما قال‏{‏ويحذركم الله نفسه‏}‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 3 ‏:‏ 4 ‏)‏

‏{‏وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير، إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأن استغفروا ربكم‏}‏ عطف على الأول‏.‏ ‏}‏ثم توبوا إليه‏}‏ أي ارجعوا إليه بالطاعة والعبادة‏.‏ قال الفراء‏{‏ثم‏}‏ هنا بمعنى الواو؛ أي وتوبوا إليه؛ لأن الاستغفار هو التوبة، والتوبة هي الاستغفار‏.‏ وقيل‏:‏ استغفروه من سالف ذنوبكم، وتوبوا إليه من المستأنف متى وقعت منكم‏.‏ قال بعض الصلحاء‏:‏ الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في ‏}‏آل عمران‏}‏ مستوفى‏.‏ وفي ‏}‏البقرة‏}‏ عند قوله‏{‏ولا تتخذوا آيات الله هزوا‏}‏البقرة‏:‏ 231‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قدم ذكر الاستغفار لأن المغفرة هي الغرض المطلوب، والتوبة هي السبب إليها؛ فالمغفرة أول في المطلوب وآخر في السبب‏.‏ ويحتمل أن يكون المعنى استغفروه من الصغائر، وتوبوا إليه من الكبائر‏.‏ ‏}‏يمتعكم متاعا حسنا‏}‏ هذه ثمرة الاستغفار والتوبة، أي يمتعكم بالمنافع ثم سعة الرزق ورغد العيش، ولا يستأصلكم بالعذاب كما فعل بمن أهلك قبلكم‏.‏ وقيل‏:‏ يمتعكم يعمركم؛ وأصل الإمتاع الإطالة، ومنه أمتع الله بك ومتع‏.‏ وقال سهل بن عبدالله‏:‏ المتاع الحسن ترك الخلق والإقبال على الحق‏.‏ وقيل‏:‏ هو القناعة بالموجود، وترك الحزن على المفقود‏.‏ ‏}‏إلى أجل مسمى‏}‏ قيل‏:‏ هو الموت‏.‏ وقيل‏:‏ القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ دخول الجنة‏.‏ والمتاع الحسن على هذا وقاية كل مكروه وأمر مخوف، مما يكون في القبر وغيره من أهوال القيامة وكربها؛ والأول أظهر؛ لقوله في هذه السورة‏{‏ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم‏}‏هود‏:‏ 52‏]‏ وهذا ينقطع بالموت وهو الأجل المسمى‏.‏ والله أعلم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ فأبوا فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتلوا بالقحط سبع سنين حتى أكلوا العظام المحرقة والقذر والجيف والكلاب‏.‏ ‏}‏ويؤت كل ذي فضل فضله‏}‏ أي يؤت كل ذي عمل من الأعمال الصالحات جزاء عمله‏.‏ وقيل‏:‏ ويؤت كل من فضلت حسناته على سيئاته ‏}‏فضله‏}‏ أي الجنة، وهي فضل الله؛ فالكناية في قوله‏{‏فضله‏}‏ ترجع إلى الله تعالى‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو ما يحتسبه الإنسان من كلام يقوله بلسانه، أو عمل يعمله بيده أو رجله، أو ما تطوع به من ماله فهو فضل الله، يؤتيه ذلك إذا آمن، ولا يتقبله منه إن كان كافرا‏.‏ ‏}‏وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير‏}‏ أي يوم القيامة، وهو كبير لما فيه من الأهوال‏.‏ وقيل‏:‏ اليوم الكبير هو يوم بدر وغيره‏:‏ و‏}‏تولوا‏}‏ يجوز أن يكون ماضيا ويكون المعنى‏:‏ وإن تولوا فقل لهم إني أخاف عليكم‏.‏ ويجوز أن يكون مستقبلا حذفت منه إحدى التاءين والمعنى‏:‏ قل لهم إن تتولوا فإني أخاف عليكم‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلى الله مرجعكم‏}‏ أي بعد الموت‏.‏ ‏}‏وهو على كل شيء قدير‏}‏ من ثواب وعقاب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 5 ‏)‏

‏{‏ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه‏}‏ أخبر عن معاداة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويظنون أنه تخفي على الله أحوالهم‏.‏ ‏}‏يثنون صدورهم‏}‏ أي يطوونها على عداوة المسلمين ففيه هذا الحذف، قال ابن عباس‏:‏ يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة ويظهرون خلافه‏.‏ نزلت في الأخنس بن شريق، وكان رجلا حلو الكلام حلو المنطق، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يجب، وينطوي له بقلبه على ما يسوء‏.‏ وقال مجاهد‏{‏يثنون صدورهم‏}‏ شكا وامتراء‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يثنونها على ما فيها من الكفر‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره، وطأطأ رأسه وغطى وجهه، لكيلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوه إلى الإيمان؛ حكي معناه عن عبدالله بن شداد فالهاء في ‏}‏منه‏}‏ تعود على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ قال المنافقون إذا غلقنا أبوابنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا‏؟‏ فنزلت الآية‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوما من المسلمين كانوا يتنسكون بستر أبدانهم ولا يكشفونها تحت السماء، فبين الله تعالى أن التنسك ما اشتملت عليه قلوبهم من معتقد، وأظهروه من قول وعمل‏.‏ وروى ابن جرير عن محمد ابن عباد بن جعفر قال‏:‏ سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول‏{‏ألا أنهم تثنوي صدورهم ليستخفوا منه‏}‏ قال‏:‏ كانوا لا يجامعون النساء، ولا يأتون الغائط وهم يفضون إلى السماء، فنزلت هذه الآية‏.‏ وروى غير محمد بن عباد عن ابن عباس‏{‏ألا إنهم تثنوي صدورهم‏}‏ بغير نون بعد الواو، في وزن تنطوي؛ ومعنى ‏}‏تثنوي‏}‏ والقراءتين الأخريين متقارب؛ لأنها لا تثنوي حتى يثنوها‏.‏ وقيل‏:‏ كان بعضهم ينحني على بعض يساره في الطعن على المسلمين، وبلغ من جهلهم أن توهموا أن ذلك يخفي على الله تعالى‏{‏ليستخفوا‏}‏ أي ليتواروا عنه؛ أي عن محمد أو عن الله‏.‏ ‏}‏ألا حين يستغشون ثيابهم‏}‏ أي يغطون رؤوسهم بثيابهم‏.‏ قال قتادة‏:‏ أخفى ما يكون العبد إذا حنى ظهره، واستغشى ثوبه، وأضمر في نفسه همه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 6 ‏)‏

‏{‏وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ نفي و‏}‏من‏}‏ زائدة و‏}‏دابة‏}‏ في موضع رفع؛ التقدير‏:‏ وما دابة‏.‏ ‏}‏إلا على الله رزقها‏}‏ ‏}‏على‏}‏ بمعنى ‏}‏من‏}‏، أي من الله رزقها؛ يدل عليه قول، مجاهد‏:‏ كل ما جاءها من رزق فمن الله‏.‏ وقيل‏{‏على الله‏}‏ أي فضلا لا وجوبا‏.‏ وقيل‏:‏ وعدا منه حقا‏.‏ وقد تقدم بيان هذا المعنى في ‏}‏النساء‏}‏ وأنه سبحانه لا يجب عليه شيء‏.‏ ‏}‏رزقها‏}‏ رفع بالابتداء، وعند الكوفيين بالصفة؛ وظاهر الآية العموم ومعناها الخصوصي؛ لأن كثيرا من الدواب هلك قبل أن يرزق‏.‏ وقيل‏:‏ هي عامة في كل دابة‏:‏ وكل دابة لم ترزق رزقا تعيش به فقد رزقت روحها؛ ووجه النظم به قبل‏:‏ أنه سبحانه أخبر برزق الجميع، وأنه لا يغفل عن تربيته، فكيف تخفى عليه أحوالكم يا معشر الكفار وهو يرزقكم‏؟‏ ‏!‏ والدابة كل حيوان يدب‏.‏ والرزق حقيقته ما يتغذى به الحي، ويكون فيه بقاء روحه ونماء جسده‏.‏ ولا يجوز أن يكون الرزق بمعنى الملك؛ لأن البهائم ترزق وليس يصح وصفها بأنها مالكة لعلفها؛ وهكذا الأطفال ترزق اللبن ولا يقال‏:‏ إن اللبن الذي في الثدي ملك للطفل‏.‏ وقال تعالى‏{‏وفي السماء رزقكم‏}‏الذاريات‏:‏ 22‏]‏ وليس لنا في السماء ملك؛ ولأن الرزق لو كان ملكا لكان إذا أكل الإنسان من ملك غيره أن يكون قد أكل من رزق غيره، وذلك محال؛ لأن العبد لا يأكل إلا رزق نفسه‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ هذا المعنى والحمد لله‏.‏ وقيل لبعضهم‏:‏ من أين تأكل‏؟‏ وقال‏:‏ الذي خلق الرحى يأتيها بالطحين، والذي شدق الأشداق هو خالق الأرزاق‏.‏ وقيل لأبي أسيد‏:‏ من أين تأكل‏؟‏ فقال‏:‏ سبحانه الله والله أكبر‏!‏ إن الله يرزق الكلب أفلا يرزق أبا أسيد‏!‏‏.‏ وقيل لحاتم الأصم‏:‏ من أين تأكل‏؟‏ فقال‏:‏ من عند الله؛ فقيل له‏:‏ الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء‏؟‏ فقال‏:‏ كأن ماله إلا السماء‏!‏ يا هذا الأرض له والسماء له؛ فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض؛ وأنشد‏:‏

وكيف أخاف الفقر والله رازقي ورازق هذا الخلق في العسر واليسر

تكفل بالأرزاق للخلق كلهم وللضب في البيداء والحوت في البحر

وذكر الترمذي الحكيم في ‏}‏نوادر الأصول‏}‏ بإسناده عن زيد بن أسلم‏:‏ أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر في نفر منهم، لما هاجروا وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وقد أرملوا من الزاد، فأرسلوا رجلا منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله، فلما انتهى إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ هذه الآية ‏}‏وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين‏}‏ فقال الرجل‏:‏ ما الأشعريون بأهون الدواب على الله؛ فرجع ولم يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال لأصحابه‏:‏ أبشروا أتاكم الغوث، ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعده؛ فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينها مملوءة خبزا ولحما فأكلوا منها ما شاؤوا، ثم قال بعضهم لبعض‏:‏ لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي به حاجته؛ فقالوا للرجلين‏:‏ اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا قد قضينا منه حاجتنا، ثم إنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله ما رأينا طعاما أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به؛ قال‏:‏ ‏(‏ما أرسلت إليكم طعاما‏)‏ فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ما صنع، وما قال لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ذلك شيء رزقكموه الله‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويعلم مستقرها‏}‏ أي من الأرض حيث تأوي إليه‏.‏ ‏}‏ومستودعها‏}‏ أي الموضع الذي تموت فيه فتدفن؛ قاله مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏{‏مستقرها‏}‏ أيام حياتها‏.‏ ‏}‏ومستودعها‏}‏ حيث تموت وحيث تبعث‏.‏ وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس‏{‏مستقرها‏}‏ في الرحم ‏}‏ومستودعها‏}‏ في الصلب‏.‏ وقيل‏{‏يعلم مستقرها‏}‏ في الجنة أو النار‏.‏ ‏}‏ومستودعها‏}‏ في القبر؛ يدل عليه قوله تعالى في وصف أهل الجنة وأهل النار‏{‏حسنت مستقرا ومقاما‏}‏الفرقان‏:‏ 76‏]‏ ‏}‏ساءت مستقرا ومقاما‏}‏الفرقان‏:‏ 66‏]‏‏.‏ ‏}‏كل في كتاب مبين‏}‏ أي في اللوح المحفوظ‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 7 ‏)‏

‏{‏وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام‏}‏ تقدم في ‏}‏الأعراف‏}‏ بيانه والحمد لله‏.‏ ‏}‏وكان عرشه على الماء‏}‏ بين أن خلق العرش والماء قبل خلق الأرض والسماء‏.‏ قال كعب‏:‏ خلق الله ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد من مخافة الله تعالى؛ فلذلك يرتعد الماء إلى الآن وإن كان ساكنا، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء‏.‏ وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس‏:‏ إنه سئل عن قوله عز وجل‏{‏وكان عرشه على الماء‏}‏ فقال‏:‏ على أي شيء كان الماء‏؟‏ قال‏:‏ على متن الريح‏.‏ وروى البخاري عن عمران بن حصين‏.‏ قال‏:‏ كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه قوم من بني تميم فقال‏:‏ ‏(‏اقبلوا البشرى بابني تميم‏)‏ قالوا‏:‏ بشرتنا فأعطنا ‏[‏مرتين‏]‏ فدخل ناس من أهل اليمن فقال‏:‏ ‏(‏اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم‏)‏ قالوا‏:‏ قبلنا، جئنا لنتفقه في الدين، ولنسألك عن هذا الأمر ما كان‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء‏)‏ ثم أتاني رجل فقال‏:‏ يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت، فانطلقت أطلبها فإذا هي يقطع دونها السراب؛ وايم الله لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ليبلوكم أيكم أحسن عملا‏}‏ أي خلق ذلك ليبتلي عباده بالاعتبار والاستدلال على كمال قدرته وعلى البعث‏.‏ وقال قتادة‏:‏ معنى ‏}‏أيكم أحسن عملا‏}‏ ‏}‏أيكم‏}‏ أتم عقلا‏.‏ وقال الحسن وسفيان الثوري‏:‏ أيكم أزهد في الدنيا‏.‏ وذكر أن عيسى عليه السلام مر برجل نائم فقال‏:‏ يا نائم قم فتعبد، فقال يا روح الله قد تعبدت، فقال ‏(‏وبم تعبدت‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ قد تركت الدنيا لأهلها؛ قال‏:‏ نم فقد فقت العابد بن الضحاك‏:‏ أيكم أكثر شكرا‏.‏ مقاتل‏:‏ أيكم أتقى لله‏.‏ ابن عباس‏:‏ أيكم أعمل بطاعة الله عز وجل‏.‏ وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم‏{‏أيكم أحسن عملا‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله‏)‏ فجمع الأقاويل كلها، وسيأتي في ‏}‏الكهف‏}‏ هذا أيضا إن شاء الله تعالى‏.‏ وقد تقدم معنى الابتلاء‏.‏ ‏}‏ولئن قلت إنكم مبعوثون‏}‏ أي دللت يا محمد على البعث‏.‏ ‏}‏من بعد الموت‏}‏ وذكرت ذلك للمشركين لقالوا‏:‏ هذا سحر‏.‏ وكسرت ‏(‏إن‏)‏ لأنها بعد القول مبتدأة‏.‏ وحكى سيبويه الفتح‏.‏ ‏}‏ليقولن الذين كفروا‏}‏ فتحت اللام لأنه فعل متقدم لا ضمير فيه، وبعده ‏}‏ليقولن‏}‏ لأن فيه ضميرا‏.‏ و‏}‏سحر‏}‏ أي غرور باطل، لبطلان السحر عندهم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏}‏إن هذا إلا سحر مبين‏}‏ كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 8 ‏)‏

‏{‏ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة‏}‏ اللام في ‏}‏لئن‏}‏ للقسم، والجواب ‏}‏ليقولن‏}‏‏.‏ ومعنى ‏}‏إلى أمة‏}‏ إلى أجل معدود وحين معلوم؛ فالأمة هنا المدة؛ قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين‏.‏ وأصل الأمة الجماعة؛ فعبر عن الحين والسنين بالأمة لأن الأمة تكون فيها‏.‏ وقيل‏:‏ هو على حذف المضاف، والمعنى إلى مجيء أمة ليس فيها من يؤمن فيستحقون الهلاك‏.‏ أو إلى انقراض أمة فيها من يؤمن فلا يبقى بعد انقراضها من يؤمن‏.‏ والأمة اسم مشترك يقال على ثمانية أوجه‏:‏ فالأمة تكون الجماعة؛ كقوله تعالى‏{‏وجد عليه أمة من الناس‏}‏القصص‏:‏ 23‏]‏‏.‏ والأمة أيضا اتباع الأنبياء عليهم السلام‏.‏ والأمة الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به؛ كقوله تعالى‏{‏إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا‏}‏النحل‏:‏ 120‏]‏‏.‏ والأمة الدين والملة؛ كقوله تعالى‏{‏إنا وجدنا آباءنا على أمة‏}‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏‏.‏ والأمة الحين والزمان؛ كقوله تعالى‏{‏ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة‏}‏ وكذلك قوله تعالى‏{‏وادكر بعد أمة‏}‏يوسف‏:‏ 45‏]‏ والأمة القامة، وهو طول الإنسان وارتفاعه؛ يقال من ذلك‏:‏ فلان حسن الأمة أي القامة‏.‏ والأمة الرجل المنفرد بدينه وحده لا يشركه فيه أحد؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده‏)‏‏.‏ والأمة الأم؛ يقال‏:‏ هذه أمة زيد، يعني أم زيد‏.‏

‏{‏ليقولن ما يحبسه‏}‏ يعني العذاب؛ وقالوا هذا إما تكذيبا للعذاب لتأخره عنهم، أو استعجالا واستهزاء؛ أي ما الذي يحبسه عنا‏.‏ ‏}‏ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم‏}‏ قيل‏:‏ هو قتل المشركين ببدر؛ وقتل جبريل المستهزئين على ما يأتي‏.‏ ‏}‏وحاق بهم‏}‏ أي نزل وأحاط‏.‏ ‏}‏ما كانوا به يستهزئون‏}‏ أي جزاء ما كانوا به يستهزئون، والمضاف محذوف‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 9 ‏:‏ 10 ‏)‏

‏{‏ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور، ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولئن أذقنا الإنسان‏}‏ الإنسان اسم شائع للجنس في جميع الكفار‏.‏ ويقال‏:‏ إن الإنسان هنا الوليد بن المغيرة وفيه نزلت‏.‏ وقيل‏:‏ في عبدالله بن أبي أمية المخزومي‏.‏ ‏}‏رحمة‏}‏ أي نعمة‏.‏ ‏}‏ثم نزعناها منه‏}‏ أي سلبناه إياها‏.‏ ‏}‏إنه ليؤوس‏}‏ أي يائس من الرحمة‏.‏ ‏}‏كفور‏}‏ للنعم جاحد لها؛ قال ابن الأعرابي‏.‏ النحاس‏{‏ليؤوس‏}‏ من يئس ييأس، وحكى سيبويه يئس ييئس على فعل يفعل، ونظير حسب يحسب ونعم ينعم، ويأس ييئس؛ وبعضهم يقول‏:‏ يئس ييئس؛ ولا يعرف في الكلام ‏[‏العربي‏]‏ إلا هذه الأربعة الأحرف من السالم جاءت‏.‏ على فعل يفعل؛ وفي واحد منها اختلاف‏.‏ وهو يئس و‏}‏يؤوس‏}‏ على التكثير كفخور للمبالغة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولئن أذقناه نعماء‏}‏ أي صحة ورخاء وسعة في الرزق‏.‏ ‏}‏بعد ضراء مسته‏}‏ أي بعد ضر وفقر وشدة‏.‏ ‏}‏ليقولن ذهب السيئات عني‏}‏ أي الخطايا التي تسوء صاحبها من الضر والفقر‏.‏ ‏}‏إنه لفرح فخور‏}‏ أي يفرح ويفخر بما ناله من السعة وينسى شكر الله عليه؛ يقال‏:‏ رجل فاخر إذا افتخر - وفخور للمبالغة - قال يعقوب القارئ‏:‏ وقرأ بعض أهل المدينة ‏(‏لفرح‏)‏ بضم الراء كما يقال‏:‏ رجل فطن وحذر وندس‏.‏ ويجوز في كلتا اللغتين الإسكان لثقل الضمة والكسرة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 11 ‏)‏

‏{‏إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير‏}‏

قوله تعالى‏{‏إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات‏}‏ يعني المؤمنين، مدحهم بالصبر على الشدائد‏.‏ وهو في موضع نصب‏.‏ قال الأخفش‏:‏ هو استثناء ليس من الأول؛ أي لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات في حالتي النعمة والمحنة‏.‏ وقال، الفراء‏:‏ هو استثناء من ‏}‏ولئن أذقناه‏}‏ أي من الإنسان، فإن الإنسان بمعنى الناس، والناس يشمل الكافر والمؤمن؛ فهو استثناء متصل وهو حسن‏.‏ ‏}‏أولئك لهم مغفرة‏}‏ ابتداء وخبر ‏}‏وأجر‏}‏ معطوف‏.‏ ‏}‏كبير‏}‏ صفة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 12 ‏)‏

‏{‏فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك‏}‏ أي فلعلك لعظيم ما تراه منهم من الكفر والتكذيب تتوهم أنهم يزيلونك عن بعض ما أنت عليه‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم لما قالوا‏{‏لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك‏}‏ هم أن يدع سب آلهتهم فنزلت هذه الآية؛ فالكلام معناه الاستفهام؛ أي هل أنت تارك ما فيه سب آلهتهم كما سألوك‏؟‏ وتأكد عليه الأمر في الإبلاغ؛ كقوله‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏المائدة‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ معنى الكلام النفي مع استبعاد؛ أي لا يكون منك ذلك، بل تبلغهم كل ما أنزل إليك؛ وذلك أن مشركي مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيتنا بكتاب ليس فيه سب آلهتنا لاتبعناك، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدع سب آلهتهم؛ فنزلت‏.‏ ‏}‏وضائق به صدرك‏}‏ عطف على ‏}‏تارك‏}‏ و‏}‏صدرك‏}‏ مرفوع به، والهاء في ‏}‏به‏}‏ تعود على ‏}‏ما‏}‏ أو على بعض، أو على التبليغ، أو التكذيب‏.‏ وقال‏{‏ضائق‏}‏ ولم يقل ضيق ليشاكل ‏}‏تارك‏}‏ الذي قبله؛ ولأن الضائق عارض، والضيق ألزم منه‏.‏ ‏}‏أن يقولوا‏}‏ في موضع نصب؛ أي كراهية أن يقولوا، أو لئلا يقولوا كقوله‏{‏يبين الله لكم أن تضلوا‏}‏النساء‏:‏ 176‏]‏ أي لئلا تضلوا‏.‏ أو لأن يقولوا‏.‏ ‏}‏لولا‏}‏ أي هلا ‏}‏أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك‏}‏ يصدقه؛ قاله عبدالله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي؛ ‏}‏إنما أنت نذير‏}‏ فقال الله تعالى‏:‏ يا محمد إنما عليك أن تنذرهم، لا بأن تأتيهم بما يقترحونه من الآيات‏.‏ ‏}‏والله على كل شيء وكيل‏}‏ أي حافظ وشهيد‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 13 ‏)‏

‏{‏أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏ ‏}‏أم‏}‏ بمعنى بل، وقد تقدم في ‏}‏يونس‏}‏ أي قد أزحت علتهم وإشكالهم في نبوتك بهذا القرآن، وحججتهم به؛ فإن قالوا‏:‏ افتريته - أي اختلقته - فليأتوا بمثله مفترى بزعمهم‏.‏ ‏}‏وادعوا من استطعتم من دون الله‏}‏ أي من الكهنة والأعوان‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 14 ‏)‏

‏{‏فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإلم يستجيبوا لكم‏}‏ ‏}‏فإن لم يستجيبوا لكم‏}‏ أي في المعارضة ولم تتهيأ لهم فقد قامت عليهم الحجة؛ إذ هم اللسن البلغاء، وأصحاب الألسن الفصحاء‏.‏ ‏}‏فاعلموا أنما أنزل بعلم الله‏}‏ واعلموا صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ‏}‏و‏}‏ اعلموا ‏}‏أن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون‏}‏ استفهام معناه الأمر‏.‏ وقد تقدم القول في معنى هذه الآية، وأن القرآن معجز في مقدمة الكتاب‏.‏ والحمد لله‏.‏ وقال‏{‏قل فأتوا‏}‏ وبعده‏.‏ ‏}‏فإن لم يستجيبوا لكم‏}‏ ولم يقل لك؛ فقيل‏:‏ هو على تحويل المخاطبة من الإفراد، إلى الجمع تعظيما وتفخيما؛ وقد يخاطب الرئيس بما يخاطب به الجماعة‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في ‏}‏لكم‏}‏ وفي ‏}‏فاعلموا‏}‏ للجميع، أي فليعلم للجميع ‏}‏أنما أنزل بعلم الله‏}‏؛ قاله مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في ‏}‏لكم‏}‏ وفي ‏}‏فاعلموا‏}‏ للمشركين؛ والمعنى‏:‏ فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المعاونة؛ ولا تهيأت لكم المعارضة ‏}‏فاعلموا أنما أنزل بعلم الله‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في ‏}‏لكم‏}‏ للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وفي ‏}‏فاعلموا‏}‏ للمشركين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 15 ‏)‏

‏{‏من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون‏}‏

قوله تعالى‏{‏من كان‏}‏ كان زائدة، ولهذا جزم بالجواب فقال‏{‏نوف إليهم‏}‏ قاله الفراء‏.‏ وقال الزجاج‏{‏من كان‏}‏ في موضع جزم بالشرط، وجوابه ‏}‏نوف إليهم‏}‏ أي من يكن يريد؛ والأول في اللفظ ماضي والثاني مستقبل، كما قال زهير‏:‏

ومن هاب أسباب المنية يلقها ولو رام أسباب السماء بسلم

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فقيل‏:‏ نزلت في الكفار؛ قال الضحاك، واختاره النحاس؛ بدليل الآية التي بعدها ‏}‏أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار‏}‏هود‏:‏ 16‏]‏ أي من أتى منهم بصلة رحم أو صدقة نكافئه بها في الدنيا، بصحة الجسم، وكثرة الرزق، لكن لا حسنة له في الآخرة‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في ‏}‏براءة‏}‏ مستوفى‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالآية المؤمنون؛ أي من أراد بعمله ثواب الدنيا عجل له الثواب ولم ينقص شيئا في الدنيا، وله في الآخرة العذاب لأنه جرد قصده إلى الدنيا، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏ فالعبد إنما يعطي على وجه قصده، وبحكم ضميره؛ وهذا أمر متفق عليه في الأمم بين كل ملة‏.‏ وقيل‏:‏ هو لأهل الرياء؛ وفي الخبر أنه يقال لأهل الرياء‏:‏ ‏(‏صمتم وصليتم وتصدقتم وجاهدتم وقرأتم ليقال ذلك فقد قيل ذلك‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏إن هؤلاء أول من تسعر بهم النار‏)‏‏.‏ رواه أبو هريرة، ثم بكى بكاء شديدا وقال‏:‏ صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏}‏من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها‏}‏ وقرأ الآيتين، خرجه مسلم ‏[‏في صحيحه‏]‏ بمعناه والترمذي أيضا‏.‏ وقيل‏:‏ الآية عامة في كل من ينوي بعمله غير الله تعالى، كان معه أصل إيمان أو لم يكن؛ قال مجاهد وميمون بن مهران، وإليه ذهب معاوية رحمه الله تعالى‏.‏ وقال ميمون بن مهران‏:‏ ليس أحد يعمل حسنة إلا وفي ثوابها؛ فإن كان مسلما مخلصا وفي في الدنيا والآخرة، وإن كان كافرا وفي الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ من كان يريد ‏[‏الدنيا‏]‏ بغزوه مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيها، أي وفي أجر الغزاة ولم ينقص منها؛ وهذا خصوص والصحيح العموم‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ معنى هذه الآية قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏ وتدلك هذه الآية على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان، وتدل على أن من توضأ للتبرد والتنظف لا يقع قربة عن جهة الصلاة، وهكذا كل ما كان في معناه‏.‏

ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية مطلقة؛ وكذلك الآية التي في ‏}‏الشورى‏}‏ ‏}‏من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها‏}‏الشورى‏:‏ 20‏]‏ الآية‏.‏ وكذلك ‏}‏ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها‏}‏آل عمران‏:‏ 145‏]‏ قيدها وفسرها التي في ‏}‏سبحان‏}‏ ‏}‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد‏}‏الإسراء‏:‏ 18‏]‏ إلى قوله‏{‏محظورا‏}‏الإسراء‏:‏ 20‏]‏ فأخبر سبحانه أن العبد ينوي ويريد والله سبحانه يحكم ما يريد، وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ‏(‏في قوله‏{‏من كان يريد الحياة الدنيا‏}‏ أنها منسوخة بقوله‏{‏من كان يريد العاجلة‏}‏‏)‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 18‏]‏‏.‏ والصحيح ما ذكرناه؛ وأنه من باب الإطلاق والتقييد؛ ومثله قوله‏{‏وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان‏}‏البقرة‏:‏ 186‏]‏ فهذا ظاهره خبر عن إجابة كل داع دائما على كل حال، وليس كذلك؛ لقوله تعالى‏{‏فيكشف ما تدعون إليه إن شاء‏}‏الأنعام‏:‏ 41‏]‏ والنسخ في الأخبار لا يجوز؛ لاستحالة تبدل الواجبات العقلية، ولاستحالة الكذب على الله تعالى فأما الأخبار عن الأحكام الشرعية فيجوز نسخها على خلاف فيه، على ما هو مذكور في الأصول؛ ويأتي في ‏}‏النحل‏}‏ بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 16 ‏)‏

‏{‏أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار‏}‏ إشارة إلى التخليد، والمؤمن لا يخلد؛ لقوله تعالى‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك‏}‏النساء‏:‏ 48‏]‏ الآية‏.‏ فهو محمول على ما لو كانت‏.‏ موافاة هذا المرئي على الكفر‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ليس لهم إلا النار في أيام معلومة ثم يخرج؛ إما بالشفاعة، وإما بالقبضة‏.‏ والآية تقتضي الوعيد بسلب الإيمان؛ وفي الحديث الماضي يريد الكفر وخاصة الرياء، إذ هو شرك على ما تقدم بيانه في ‏}‏النساء‏}‏ ويأتي في آخر ‏}‏الكهف‏}‏‏.‏ ‏}‏وباطل ما كانوا يعملون ابتداء وخبر، قال أبو حاتم‏:‏ وحذف الهاء؛ قال النحاس‏:‏ هذا لا يحتاج إلى حذف؛ لأنه بمعنى المصدر؛ أي وباطل عمله‏.‏ وفي حرف أبي وعبدالله ‏}‏وباطلا ما كانوا يعملون‏}‏ وتكون ‏}‏ما‏}‏ زائدة؛ أي وكانوا يعملون باطلا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 17 ‏)‏

‏{‏أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أفمن كان على بينة من ربه‏}‏ ابتداء والخبر محذوف؛ أي أفمن كان على بينة من ربه في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه من الفضل ما يتبين به كغيره ممن يريد الحياة الدنيا وزينتها‏؟‏ ‏!‏ عن علي بن الحسين والحسن بن أبي الحسن‏.‏ وكذلك قال ابن زيد إن الذي على بينة هو من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏ويتلوه شاهد منه‏}‏ من الله، وهو النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل المراد بقوله ‏}‏أفمن كان على بينة من ربه‏}‏ النبي صلى الله عليه وسلم والكلام راجع إلى قوله‏{‏وضائق به صدرك‏}‏هود‏:‏ 12‏]‏؛ أي أفمن كان معه بيان من الله، ومعجزة كالقرآن، ومعه شاهد كجبريل - على ما يأتي - وقد بشرت به الكتب السالفة يضيق صدره بالإبلاغ، وهو يعلم أن الله لا يسلمه‏.‏ والهاء في ‏}‏ربه‏}‏ تعود عليه، وقوله‏{‏ويتلوه شاهد منه‏}‏ وروى عكرمة عن ابن عباس ‏(‏أنه جبريل‏)‏؛ وهو قول مجاهد والنخعي‏.‏ والهاء في ‏}‏منه‏}‏ لله عز وجل؛ أي ويتلو البيان والبرهان شاهد من الله عز وجل‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الشاهد ملك من الله عز وجل يحفظه ويسدده‏.‏ وقال الحسن البصري وقتادة‏:‏ الشاهد لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال محمد بن علي بن الحنفية‏:‏ قلت لأبي أنت الشاهد‏؟‏ فقال‏:‏ وددت أن أكون أنا هو، ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ هو علي بن أبي طالب؛ روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏(‏هو علي بن أبي طالب‏)‏؛ وروي عن علي أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من رجل من قريش إلا وقد أنزلت فيه الآية والآيتان؛ فقال له رجل‏:‏ أي شيء نزل فيك‏؟‏ فقال علي‏{‏ويتلوه شاهد منه‏}‏‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ الشاهد صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه ومخائله؛ لأن من كان له فضل وعقل فنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالهاء على هذا ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، على قول ابن زيد وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ الشاهد القرآن في نظمه وبلاغته، والمعاني الكثيرة منه في اللفظ الواحد؛ قال الحسين بن الفضل، فالهاء في ‏}‏منه‏}‏ للقرآن‏.‏ وقال الفراء قال بعضهم‏{‏ويتلوه شاهد منه‏}‏ الإنجيل، وإن كان قبله فهو يتلو القرآن في التصديق؛ والهاء في ‏}‏منه‏}‏ لله عز وجل‏.‏ وقيل‏:‏ البينة معرفة الله التي أشرقت لها القلوب، والشاهد الذي يتلوه العقل الذي ركب في دماغه وأشرق صدره بنوره‏.‏ ‏}‏ومن قبله‏}‏ أي من قبل الإنجيل‏.‏ ‏}‏كتاب موسى‏}‏ رفع بالابتداء، قال أبو إسحاق الزجاج والمعنى ويتلوه من قبله كتاب موسى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم موصوف في كتاب موسى ‏}‏يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل‏}‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏ وحكى أبو حاتم عن بعضهم أنه قرأ ‏}‏ومن قبله كتاب موسى‏}‏ بالنصب؛ وحكاها المهدوي عن الكلبي؛ يكون معطوفا على الهاء في ‏}‏يتلوه‏}‏ والمعنى‏:‏ ويتلو كتاب موسى جبريل عليه السلام؛ وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما؛ المعنى من قبله ‏(‏تلا جبريل كتاب موسى على موسى‏)‏‏.‏ ويجوز على ما ذكره ابن عباس أيضا من هذا القول أن يرفع ‏}‏كتاب‏}‏ على أن يكون المعنى‏:‏ ومن قبله كتاب موسى كذلك؛ أي تلاه جبريل على موسى كما تلا القرآن على محمد‏.‏ ‏}‏إماما‏}‏ نصب على الحال‏.‏ ‏}‏ورحمة‏}‏ معطوف‏.‏ ‏}‏أولئك يؤمنون به‏}‏ إشارة إلى بني إسرائيل، أي يؤمنون بما في التوراة من البشارة بك؛ وإنما كفر بك هؤلاء المتأخرون فهم الذين موعدهم النار؛ حكاه القشيري‏.‏ والهاء في ‏}‏به‏}‏ يجوز أن تكون للقرآن، ويجوز أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏ومن يكفر به‏}‏ أي بالقرآن أو بالنبي عليه السلام‏.‏ ‏}‏من الأحزاب‏}‏ يعني من الملل كلها؛ عن قتادة؛ وكذا قال سعيد بن جبير‏{‏الأحزاب‏}‏ أهل الأديان كلها؛ لأنهم يتحازبون‏.‏ وقيل‏:‏ قريش وحلفاؤهم‏.‏ ‏}‏فالنار موعده‏}‏ أي هو من أهل النار؛ وأنشد حسان‏:‏

أوردتموها حياض الموت ضاحية فالنار موعدها والموت لاقيها

وفي صحيح مسلم من حديث أبي يونس عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار‏)‏‏.‏ ‏}‏فلا تكن في مرية‏}‏ أي في شك‏.‏‏}‏

قوله تعالى‏{‏منه‏}‏ أي من القرآن‏.‏ ‏}‏إنه الحق من ربك‏}‏ أي القرآن من الله؛ قاله مقاتل‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ المعنى فلا تك في مرية في أن الكافر في النار‏.‏ ‏}‏إنه الحق‏}‏ أي القول الحق الكائن؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد جميع المكلفين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 18 ‏:‏ 19 ‏)‏

‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا‏}‏ أي لا أحد أظلم منهم لأنفسهم لأنهم افتروا على الله كذبا؛ فأضافوا كلامه إلى غيره؛ وزعموا أن له شريكا وولدا، وقالوا للأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏.‏ ‏}‏أولئك يعرضون على ربهم‏}‏ أي يحاسبهم على أعمالهم ‏}‏ويقول الأشهاد‏}‏ يعني الملائكة الحفظة؛ عن مجاهد وغيره؛ وقال سفيان‏:‏ سألت الأعمش عن ‏(‏الأشهاد‏)‏ فقال‏:‏ الملائكة‏.‏ الضحاك‏:‏ هم الأنبياء والمرسلون؛ دليله قوله‏{‏فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا‏}‏النساء‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ الملائكة والأنبياء والعلماء الذين بلغوا الرسالات‏.‏ وقال قتادة‏:‏ عن الخلائق أجمع‏.‏ وفي صحيح مسلم من حديث صفوان بن محرز عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه قال‏:‏ ‏(‏وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله‏)‏‏.‏ ‏}‏ألا لعنة الله على الظالمين‏}‏ أي بعده وسخطه وإبعاده من رحمته على الذين وضعوا العبادة في غير موضعها‏.‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏الذين يصدون عن سبيل الله‏}‏ يجوز أن تكون ‏}‏الذين‏}‏ في موضع خفض نعتا للظالمين، ويجوز أن تكون في موضع رفع؛ أي هم الذين‏.‏ وقيل‏:‏ هو ابتداء خطاب من الله تعالى؛ أي هم الذين يصدون أنفسهم وغيرهم عن الإيمان والطاعة‏.‏ ‏}‏ويبغونها عوجا‏}‏ أي يعدلون بالناس عنها إلى المعاصي والشرك‏.‏ ‏}‏وهم بالآخرة هم كافرون‏}‏ أعاد لفظ ‏}‏هم‏}‏ تأكيدا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 20 ‏)‏

‏{‏أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض‏}‏ أي فائتين من عذاب الله‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لم يعجزوني أن آمر الأرض فتنخسف بهم‏.‏ ‏}‏وما كان لهم من دون الله من أولياء‏}‏ يعني أنصارا، و‏}‏من‏}‏ زائدة‏.‏ وقيل‏{‏ما‏}‏ بمعنى الذي تقديره‏:‏ أولئك لم يكونوا معجزين، لا هم ولا الذين كانوا لهم من أولياء من دون الله؛ وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏ ‏}‏يضاعف لهم العذاب‏}‏ أي على قدر كفرهم ومعاصيهم‏.‏ ‏}‏ما كانوا يستطيعون السمع‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ في موضع نصب على أن يكون المعنى‏:‏ بما كانوا يستطيعون السمع‏.‏ ‏}‏وما كانوا يبصرون‏}‏ ولم يستعملوا ذلك في استماع الحق وإبصاره‏.‏ والعرب تقول‏:‏ جزيته ما فعل وبما فعل؛ فيحذفون الباء مرة ويثبتونها أخرى؛ وأنشد سيبويه‏:‏

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب

ويجوز أن تكون ‏}‏ما‏}‏ ظرفا، والمعنى‏:‏ يضاعف لهم أبدا، أي وقت استطاعتهم السمع والبصر، والله سبحانه يجعلهم في جهنم مستطيعي ذلك أبدا‏.‏ ويجوز أن تكون ‏}‏ما‏}‏ نافية لا موضع لها؛ إذ الكلام قد تم قبلها، والوقف على العذاب كاف؛ والمعنى‏:‏ ما كانوا يستطيعون في الدنيا أن يسمعوا سمعا ينتفعون به، ولا أن يبصروا إبصار مهتد‏.‏ قال الفراء‏:‏ ما كانوا يستطيعون السمع؛ لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لبغضهم النبي صلى الله عليه وسلم وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفقهوا عنه‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا معروف في كلام العرب؛ يقال‏:‏ فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان إذا كان ذلك ثقيلا عليه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 21 ‏:‏ 22 ‏)‏

‏{‏أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون، لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أولئك الذين خسروا أنفسهم‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ ‏}‏وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏ أي ضاع عنهم افتراؤهم وتلف‏.‏ ‏}‏لا جرم‏}‏ للعلماء فيها أقوال؛ فقال الخليل وسيبويه‏{‏لا جرم‏}‏ بمعنى حق، فـ ‏}‏لا‏}‏ و‏}‏جرم‏}‏ عندهما كلمة واحدة، و‏}‏أن‏}‏ عندهما في موضع رفع؛ وهذا قول الفراء ومحمد بن يزيد؛ حكاه النحاس‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وعن الخليل أيضا أن معناها لابد ولا محالة، وهو قول الفراء أيضا؛ ذكره الثعلبي‏.‏ وقال الزجاج‏{‏لا‏}‏ ها هنا نفي وهو رد لقولهم‏:‏ إن الأصنام تنفعهم؛ كأن المعنى لا ينفعهم ذلك، وجرم بمعنى كسب؛ أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وفاعل كسب مضمر، و‏}‏أن‏}‏ منصوبة بجرم، كما تقول كسب جفاؤك زيدا غضبه عليك؛ وقال الشاعر‏:‏

نصبنا رأسه في جذع نخل بما جرمت يداه وما اعتدينا

أي بما كسبت‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ معنى ‏}‏لا جرم‏}‏ لا صد ولا منع عن أنهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا قطع قاطع، فحذف الفاعل حين كثر استعماله؛ والجرم القطع؛ وقد جرم النخل واجترمه أي صرمه فهو جارم، وقوم وجرم وجرام وهذا زمن الجرام والجرام، وجرمت صوف الشاة أي جززته، وقد جرمت منه أي أخذت منه؛ مثل جلمت الشيء جلما أي قطعت، وجلمت الجزور أجلمها جلما إذا أخذت ما على عظامها من اللحم، وأخذت الشيء بجلمته - ساكنة اللام - إذا أخذته أجمع، وهذه جلمة الجزور - بالتحريك - أي لحمها أجمع؛ قاله الجوهري‏.‏ قال النحاس‏:‏ وزعم الكسائي أن فيها أربع لغات‏:‏ لا جرم، ولا عن ذا جرم؛ ولا أن ذا جرم، قال‏:‏ وناس من فزارة يقولون‏:‏ لا جرأنهم بغير ميم‏.‏ وحكى الفراء فيه لغتين أخريين قال‏:‏ بنو عامر يقولون لا ذا جرم، قال‏:‏ وناس من العرب‏.‏ يقولون‏:‏ لا جرم بضم الجيم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 23 ‏)‏

‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏ ‏}‏الذين‏}‏ اسم ‏}‏إن‏}‏ و‏}‏آمنوا‏}‏ صلة، أي صدقوا‏.‏ ‏}‏وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم‏}‏ عطف على الصلة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏أخبتوا أنابوا‏)‏‏.‏ مجاهد‏:‏ أطاعوا‏.‏ قتادة‏:‏ خشعوا وخضعوا‏.‏ مقاتل‏:‏ أخلصوا‏.‏ الحسن‏:‏ الإخبات الخشوع للمخافة الثابتة في القلب، وأصل الإخبات الاستواء، من الخبت وهو الأرض المستوية الواسعة‏:‏ فالإخبات الخشوع والاطمئنان، أو الإنابة إلى الله عز وجل المستمرة ذلك على استواء‏.‏ ‏}‏إلى ربهم‏}‏ قال الفراء‏:‏ إلى ربهم ولربهم واحد، وقد يكون المعنى‏:‏ وجهوا إخباتهم إلى ربهم‏.‏ ‏}‏أولئك‏}‏ خبر ‏}‏إن‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 24 ‏)‏

‏{‏مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏مثل الفريقين‏}‏ ابتداء، والخبر ‏}‏كالأعمى‏}‏ وما بعده‏.‏ قال الأخفش‏:‏ أي كمثل الأعمى‏.‏ النحاس‏:‏ التقدير مثل فريق الكافر كالأعمى والأصم، ومثل فريق المؤمن كالسميع والبصير؛ ولهذا قال‏{‏هل يستويان‏}‏ فرد إلى الفريقين وهما اثنان روي معناه عن قتادة وغيره‏.‏ قال الضحاك‏:‏ الأعمى والأصم مثل للكافر، والسميع والبصير مثل للمؤمن‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى هل يستوي الأعمى والبصير، وهل يستوي الأصم والسميع‏.‏ ‏}‏مثلا‏}‏ منصوب على التمييز‏.‏ ‏}‏أفلا تذكرون‏}‏ في الوصفين وتنظرون‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 25 ‏:‏ 26 ‏)‏

‏{‏ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين، أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه‏}‏ ذكر سبحانه قصص الأنبياء عليهم السلام للنبي صلى الله عليه وسلم تنبيها له على ملازمة الصبر على أذى الكفار إلى أن يكفيه الله أمرهم‏.‏ ‏}‏إني‏}‏ أي فقال‏:‏ إني؛ لأن في الإرسال معنى القول‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ‏}‏أني‏}‏ بفتح الهمزة؛ أي أرسلناه بأني لكم نذير مبين‏.‏ ولم يقل ‏}‏إنه‏}‏ لأنه رجع من الغيبة إلى خطاب نوح لقومه؛ كما قال‏{‏وكتبنا له في الألواح من كل شيء‏}‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏ ثم قال‏{‏فخذها بقوة‏}‏الأعراف 145‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ألا تعبدوا إلا الله‏}‏ أي اتركوا الأصنام فلا تعبدوها، وأطيعوا الله وحده‏.‏ ومن قرأ ‏}‏إني‏}‏ بالكسر جعله معترضا في الكلام، والمعنى أرسلناه بألا تعبدوا إلا الله‏.‏ ‏}‏إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 27 ‏)‏

‏{‏فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فقال الملأ‏}‏ قال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ الملأ الرؤساء؛ أي هم مليؤون بما يقولون‏.‏ وقد تقدم هذا في ‏}‏البقرة‏}‏ وغيرها‏.‏ ‏}‏ما نراك إلا بشرا‏}‏ أي آدميا‏.‏ ‏}‏مثلنا‏}‏ نصب على الحال‏.‏ و‏}‏مثلنا‏}‏ مضاف إلى معرفة وهو نكرة يقدر فيه التنوين؛ كما قال الشاعر‏:‏

يا رب مثلك في النساء غريرة

قوله تعالى‏{‏وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا‏}‏ أراذل جمع أرذل وأرذل جمع رذل؛ مثل كلب وأكلب وأكالب‏.‏ وقيل‏:‏ والأراذل جمع الأرذل، كأساود جمع الأسود من الحيات‏.‏ والرذل النذل؛ أرادوا اتبعك أخساؤنا وسقطنا وسفلتنا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ نسبوهم إلى الحياكة؛ ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة‏.‏ قال النحاس‏:‏ الأراذل هم الفقراء، والذين لا حسب لهم، والخسيسو الصناعات‏.‏ وفي الحديث ‏(‏أنهم كانوا حاكة وحجامين‏)‏‏.‏ وكان هذا جهلا منهم؛ لأنهم عابوا نبي الله صلى الله عليه وسلم بما لا عيب فيه؛ لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، إنما عليهم أن يأتوا بالبراهين والآيات، وليس عليهم تغيير الصور والهيئات، وهم يرسلون إلى الناس جميعا، فإذا أسلم منهم الدنيء لم يلحقهم من ذلك نقصان؛ لأن عليهم أن يقبلوا إسلام كل من أسلم منهم‏.‏

قلت‏:‏ الأراذل هنا هم الفقراء والضعفاء؛ كما قال هرقل لأبي سفيان‏:‏ أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم‏؟‏ فقال‏:‏ بل ضعفاؤهم؛ فقال‏:‏ هم أتباع الرسل‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف، وصعوبة الانفكاك عنها، والأنفة من الانقياد للغير؛ والفقير خلي عن تلك الموانع، فهو سريع إلى الإجابة والانقياد‏.‏ وهذا غالب أحوال أهل الدنيا‏.‏

اختلف العلماء في تعيين السفلة على أقوال؛ فذكر ابن المبارك عن سفيان أن السفلة هم الذين يتقلسون، ويأتون أبواب القضاة والسلاطين يطلبون الشهادات وقال ثعلب عن ابن الأعرابي‏:‏ السفلة الذين يأكلون لدنيا بدينهم؛ قيل له‏:‏ فمن سفلة السفلة‏؟‏ قال‏:‏ الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه‏.‏ وسئل علي رضي الله عنه عن السفلة فقال‏:‏ الذين إذا اجتمعوا غلبوا؛ وإذا تفرقوا لم يعرفوا‏.‏ وقيل لمالك بن أنس رضي الله عنه‏:‏ من السفلة‏؟‏ قال‏:‏ الذي يسب الصحابة‏.‏ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏الأرذلون الحاكة والحجامون‏)‏‏.‏ يحيى بن أكثم‏:‏ الدباغ والكناس إذا كان من غير العرب‏.‏

إذا قالت المرأة لزوجها‏:‏ يا سَفِلة، فقال‏:‏ إن كنت منهم فأنت طالق؛ فحكى النقاش أن رجلا جاء إلى الترمذي فقال‏:‏ إن امرأتي قالت لي يا سفلة، فقلت‏:‏ إن كنت سفلة فأنت طالق؛ قال الترمذي‏:‏ ما صناعتك‏؟‏ قال‏:‏ سماك؛ قال‏:‏ سفلة والله، سفلة والله سفلة‏.‏ قلت‏:‏ وعلى ما ذكره ابن المبارك عن سفيان لا تطلق، وكذلك على قول مالك، وابن الأعرابي لا يلزمه شيء‏.‏

قوله تعالى‏{‏بادي الرأي‏}‏ أي ظاهر الرأي، وباطنهم على خلاف ذلك‏.‏ يقال‏:‏ بدا يبدو‏.‏ إذا ظهر؛ كما قال‏:‏

فاليوم حين بدون للنظار

ويقال للبرية بادية لظهورها‏.‏ وبدا لي أن أفعل كذا، أي ظهر لي رأي غير الأول‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ معناه فيما يبدو لنا من الرأي‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏بادي الرأي‏}‏ من بدأ يبدأ وحذف الهمزة‏.‏ وحقق أبو عمرو الهمزة فقرأ‏{‏بادئ الرأي‏}‏ أي أول الرأي؛ أي اتبعوك حين ابتدؤوا ينظرون، ولو أمعنوا النظر والفكر لم يتبعوك؛ ولا يختلف المعنى ههنا بالهمز وترك الهمز‏.‏ وانتصب على حذف ‏}‏في‏}‏ كما قال عز وجل‏{‏واختار موسى قومه‏}‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏‏.‏ ‏}‏وما نرى لكم علينا من فضل‏}‏ أي في اتباعه؛ وهذا جحد منهم لنبوته صلى الله عليه وسلم ‏}‏بل نظنكم كاذبين‏}‏ الخطاب لنوح ومن آمن معه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 28 ‏)‏

‏{‏قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي‏}‏ أي على يقين؛ قاله أبو عمران الجوني‏.‏ وقيل‏:‏ على معجزة؛ وقد تقدم في ‏}‏الأنعام‏}‏ هذا المعنى‏.‏ ‏}‏وآتاني رحمة من عنده‏}‏ أي نبوة ورسالة؛ عن ابن عباس؛ ‏(‏وهي رحمة على الخلق‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ الهداية إلى الله بالبراهين‏.‏ وقيل‏:‏ بالإيمان والإسلام‏.‏ ‏}‏فعميت عليكم‏}‏ أي عميت عليكم الرسالة والهداية فلم تفهموها‏.‏ يقال‏:‏ عميت عن كذا، وعمي علي كذا أي لم أفهمه‏.‏ والمعنى‏:‏ فعميت الرحمة؛ فقيل‏:‏ هو مقلوب؛ لأن الرحمة لا تعمى إنما يعمى عنها؛ فهو كقولك‏:‏ أدخلت في القلنسوة رأسي، ودخل الخف في رجلي‏.‏ وقرأها الأعمش وحمزة والكسائي ‏}‏فعميت‏}‏ بضم العين وتشديد الميم على ما لم يسم فاعله، أي فعماها الله عليكم؛ وكذا في قراءة أبي ‏}‏فعماها‏}‏ ذكرها الماوردي‏.‏ ‏}‏أنلزمكموها‏}‏ قيل‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏ وقيل‏:‏ الهاء ترجع إلى الرحمة‏.‏ وقيل‏:‏ إلى البينة؛ أي أنلزمكم قبولها، وأوجبها عليكم‏؟‏ ‏!‏ وهو استفهام بمعنى الإنكار؛ أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها؛ وإنما قصد نوح عليه السلام بهذا القول أن يرد عليهم‏.‏ وحكى الكسائي والفراء ‏}‏أنلزمكموها‏}‏ بإسكان الميم الأولى تخفيفا؛ وقد أجاز مثل هذا سيبويه، وأنشد‏:‏

فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل

وقال النحاس‏:‏ ويجوز على قول يونس (1) أنلزمكمها يجري المضمر مجرى المظهر؛ كما تقول‏:‏ أنلزمكم ذلك‏.‏ ‏}‏وأنتم لها كارهون‏}‏ أي لا يصح قبولكم لها مع الكراهة عليها‏.‏ قال قتادة‏:‏ والله لو استطاع نبي الله نوح عليه السلام لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 29 ‏)‏

‏{‏ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويا قوم لا أسألكم عليه مالا‏}‏ أي على التبليغ، والدعاء إلى الله، والإيمان به أجرا أي ‏}‏مالا‏}‏ فيثقل عليكم‏.‏ ‏}‏إن أجري إلا على الله‏}‏ أي ثوابي في تبليغ الرسالة‏.‏ ‏}‏وما أنا بطارد الذين آمنوا‏}‏ سألوه أن يطرد الأراذل الذين آمنوا به، كما سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرد الموالي والفقراء، حسب ما تقدم في ‏}‏الأنعام‏}‏ بيانه؛ فأجابهم بقوله‏{‏وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم‏}‏ يحتمل أن يكون قال هذا على وجه الإعظام لهم بلقاء الله عز وجل، ويحتمل أن يكون قاله على وجه الاختصام؛ أي لو فعلت ذلك لخاصموني عند الله، فيجازيهم على إيمانهم، ويجازي من طردهم‏.‏ ‏}‏ولكني أراكم قوما تجهلون‏}‏ في استرذالكم لهم، وسؤالكم طردهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 30 ‏)‏

‏{‏ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويا قوم من ينصرني من الله‏}‏ قال الفراء‏:‏ أي يمنعني من عذابه‏.‏ ‏}‏إن طردتهم‏}‏ أي لأجل إيمانهم‏.‏ ‏}‏أفلا تتذكرون‏}‏ أدغمت التاء في الذال‏.‏ ويجوز حذفها فتقول‏:‏ تَذَكرون‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 31 ‏)‏

‏{‏ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب‏}‏ أخبر بتذلله وتواضعه لله عز وجل، وأنه لا يدعي ما ليس له من خزائن الله؛ وهي إنعامه على من يشاء من عباده؛ وأنه لا يعلم الغيب؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل‏.‏ ‏}‏ولا أقول إني ملك‏}‏ أي لا أقول إن منزلتي عند الناس منزلة الملائكة‏.‏ وقد قالت العلماء‏:‏ الفائدة في الكلام الدلالة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء؛ لدوامهم على الطاعة، واتصال عباداتهم إلى يوم القيامة، صلوات الله عليهم أجمعين‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ ‏}‏ولا أقول للذي تزدري أعينكم‏}‏ أي تستثقل وتحتقر أعينكم؛ والأصل تزدريهم حذفت الهاء والميم لطول الاسم‏.‏ والدال مبدلة من تاء؛ لأن الأصل في تزدري تزتري، ولكن التاء تبدل بعد الزاي دالا؛ لأن الزاي مجهورة والتاء مهموسة، فأبدل من التاء حرف مجهور من مخرجها‏.‏ ويقال‏:‏ أزريت عليه إذا عبته‏.‏ وزريت عليه إذا حقرته‏.‏ وأنشد الفراء‏:‏

يباعده الصديق وتزدريه حليلته وينهره الصغير

قوله تعالى‏{‏لن يؤتيهم الله خيرا‏}‏ أي ليس لاحتقاركم لهم تبطل أجورهم، أو ينقص ثوابهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏الله أعلم بما في أنفسهم‏}‏ فيجازيهم عليه ويؤاخذهم به‏.‏ ‏}‏إني إذا لمن الظالمين‏}‏ أي إن قلت هذا الذي تقدم ذكره‏.‏ و‏}‏إذا‏}‏ ملغاة؛ لأنها متوسطة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 32 ‏)‏

‏{‏قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا‏}‏ أي خاصمتنا فأكثرت خصومتنا وبالغت فيها‏.‏ والجدل في كلام العرب المبالغة في الخصومة؛ مشتق من الجدل وهو شدة الفتل؛ ويقال للصقر أيضا أجدل لشدته في الطير؛ وقد مضى هذا المعنى في ‏}‏الأنعام‏}‏ بأشبع من هذا‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏}‏فأكثرت جدلنا‏}‏ ذكره النحاس‏.‏ والجدل في الدين محمود؛ ولهذا جادل نوج والأنبياء قومهم حتى يظهر الحق، فمن قبله أنجح وأفلح، ومن رده خاب وخسر‏.‏ وأما الجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق فمذموم، وصاحبه في الدارين ملوم‏.‏ ‏}‏فأتنا بما تعدنا‏}‏ أي من العذاب‏.‏ ‏}‏إن كنت من الصادقين‏}‏ في قولك‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 33 ‏)‏

‏{‏قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال إنما يأتيكم به الله إن شاء‏}‏ أي إن أراد إهلاككم عذبكم‏.‏ ‏}‏وما أنتم بمعجزين‏}‏ أي بفائتين‏.‏ وقيل‏:‏ بغالبين بكثرتكم، لأنهم أعجبوا بذلك؛ كانوا ملؤوا الأرض سهلا وجبلا على ما يأتي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 34 ‏)‏

‏{‏ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا ينفعكم نصحي‏}‏ أي إبلاغي واجتهادي في إيمانكم‏.‏ ‏}‏إن أردت أن أنصح لكم‏}‏ أي لأنكم لا تقبلون نصحا؛ وقد تقدم في ‏}‏براءة‏}‏ معنى النصح لغة‏.‏‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن كان الله يريد أن يغويكم‏}‏ أي يضلكم‏.‏ وهذا مما يدل على بطلان مذهب المعتزلة والقدرية ومن وافقهما؛ إذ زعموا أن الله تعالى لا يريد أن يعصي العاصي، ولا يكفر الكافر، ولا يغوي الغاوي؛ وأن يفعل ذلك، والله لا يريد ذلك؛ فرد الله عليهم بقوله‏{‏إن كان الله يريد أن يغويكم‏}‏‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في ‏}‏الفاتحة‏}‏ وغيرها‏.‏ وقد أكذبوا شيخهم اللعين إبليس على ما بيناه في ‏}‏الأعراف‏}‏ في إغواء الله تعالى إياه حيث قال‏{‏فبما أغويتني‏}‏الأعراف‏:‏ 16‏]‏ ولا محيص لهم عن قول نوح عليه السلام‏{‏إن كان الله يريد أن يغويكم‏}‏ فأضاف إغواءهم إلى الله سبحانه وتعالى؛ إذ هو الهادي والمضل؛ سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علوا كبيرا‏.‏ وقيل‏{‏أن يغويكم‏}‏ يهلككم؛ لأن الإضلال يفضي إلى الهلاك‏.‏ الطبري‏{‏يغويكم‏}‏ يهلككم بعذابه؛ حكي عن طيء أصبح فلان غاويا أي مريضا، وأغويته أهلكته؛ ومنه ‏}‏فسوف يلقون غيا‏}‏‏.‏ ‏[‏مريم‏:‏ 59‏]‏‏.‏ ‏}‏هو ربكم‏}‏ فإليه الإغواء، وإليه الهداية‏.‏ ‏}‏وإليه ترجعون‏}‏ تهديد ووعيد‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 35 ‏)‏

‏{‏أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏ يعنون النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ افترى أفتعل؛ أي اختلق القرآن من قبل نفسه، وما أخبر به عن نوح وقومه؛ قال مقاتل‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏هو من محاورة نوح لقومه‏)‏ وهو أظهر؛ لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه؛ فالخطاب منهم ولهم‏.‏ ‏}‏قل إن افتريته‏}‏ أي اختلقته وافتعلته، يعني الوحي والرسالة‏.‏ ‏}‏فعلي إجرامي‏}‏ أي عقاب إجرامي، وإن كنت محقا فيما أقوله فعليكم عقاب تكذيبي‏.‏ والإجرام مصدر أجرم؛ وهو اقتراف السيئة‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ أي جزاء جرمي وكسبي‏.‏ وجرم وأجرم بمعنى؛ عن النحاس وغيره‏.‏ قال‏:‏

طريد عشيرة ورهين جرم بما جرمت يدي وجنى لساني

ومن قرأ ‏}‏أجرامي‏}‏ بفتح الهمزة ذهب إلى أنه جمع جرم؛ وذكره النحاس أيضا‏.‏ ‏}‏وأنا بريء مما تجرمون‏}‏ أي من الكفر والتكذيب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 36 ‏)‏

‏{‏وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏}‏ ‏}‏أنه‏}‏ في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسم فاعله‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع نصب، ويكون التقدير‏:‏ بـ ‏}‏أنه‏}‏‏.‏ و‏}‏آمن‏}‏ في موضع نصب بـ ‏}‏يؤمن‏}‏ ومعنى الكلام الإياس من إيمانهم، واستدامة كفرهم، تحقيقا لنزول الوعيد بهم‏.‏ قال الضحاك‏:‏ فدعا عليهم لما أخبر بهذا فقال‏{‏رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا‏}‏نوح‏:‏ 26‏]‏ الآيتين‏.‏ وقيل‏:‏ إن رجلا من قوم نوح حمل ابنه على كتفه، فلما رأى الصبي نوحا قال لأبيه‏:‏ اعطني حجرا؛ فأعطاه حجرا، ورمى به نوحا عليه السلام فأدماه؛ فأوحى الله تعالى إليه ‏}‏أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏}‏‏.‏ ‏}‏فلا تبتئس بما كانوا يفعلون‏}‏ أي فلا تغتم بهلاكهم حتى تكون بائسا؛ أي حزينا‏.‏ والبؤس الحزن؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

وكم من خليل أو حميم رزئته فلم أبتئس والرزء فيه جليل

يقال‏:‏ ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه‏.‏ والابتئاس حزن في استكانة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 37 ‏)‏

‏{‏واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏واصنع الفلك بأعيننا ووحينا‏}‏ أي اعمل السفينة لتركبها أنت ومن آمن معك‏.‏ ‏}‏بأعيننا‏}‏ أي بمرأى منا وحيث نراك‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ بحفظنا إياك حفظ من يراك‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏بحراستنا‏)‏؛ والمعنى واحد؛ فعبر عن الرؤية بالأعين؛ لأن الرؤية تكون بها‏.‏ ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير؛ كما قال تعالى‏{‏فنعم القادرون‏}‏المرسلات‏:‏ 23‏]‏ ‏}‏فنعم الماهدون‏}‏ ‏}‏وإنا لموسعون‏}‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وقد يرجع معنى الأعين في هذه الآية وغيرها إلى معنى عين؛ كما قال‏{‏ولتصنع على عيني‏}‏ وذلك كله عبارة عن الإدراك والإحاطة، وهو سبحانه منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف؛ لا رب غيره‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ‏}‏بأعيننا‏}‏ أي بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على حفظك ومعونتك؛ فيكون الجمع على هذا التكثير على بابه‏.‏ وقيل‏{‏بأعيننا‏}‏ أي بعلمنا؛ قاله مقاتل‏:‏ وقال الضحاك وسفيان‏{‏بأعيننا‏}‏ بأمرنا‏.‏ وقيل‏:‏ بوحينا‏.‏ وقيل‏:‏ بمعونتنا لك على صنعها‏.‏ ‏}‏ووحينا‏}‏ أي على ما أوحينا إليك، من صنعتها‏.‏ ‏}‏ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون‏}‏ أي لا تطلب إمهالهم فإني مغرقهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 38 ‏)‏

‏{‏ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويصنع الفلك‏}‏ أي وطفق يصنع‏.‏ قال زيد بن أسلم‏:‏ مكث نوح صلى الله عليه وسلم مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها، ومائة سنة يعملها‏.‏ وروى ابن القاسم عن ابن أشرس عن مالك قال‏:‏ بلغني أن قوم نوح ملؤوا الأرض، حتى ملؤوا السهل والجبل، فما يستطيع هؤلاء أن ينزلوا إلى هؤلاء، ولا هؤلاء أن يصعدوا إلى هؤلاء فمكث نوح يغرس الشجر مائة عام لعمل السفينة، ثم جمعها ييبسها مائة عام، وقومه يسخرون؛ وذلك لما رأوه يصنع من ذلك، حتى كان من قضاء الله فيهم ما كان‏.‏ وروي عن عمرو بن الحارث قال‏:‏ عمل نوح سفينته ببقاع دمشق، وقطع خشبها من جبل لبنان‏.‏ وقال، القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ لما استنقذ الله سبحانه وتعالى من في الأصلاب والأرحام من المؤمنين أوحى الله إليه‏.‏ ‏}‏أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏}‏ ‏}‏فاصنع الفلك‏}‏ قال‏:‏ يا رب ما أنا بنجار، قال‏{‏بلى فإن ذلك بعيني‏}‏ فأخذ القدوم فجعله بيده، وجعلت يده لا تخطئ، فجعلوا يمرون به ويقولون‏:‏ هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجارا؛ فعملها في أربعين سنة‏.‏

وحكى الثعلبي وأبو نصر القشيري عن، ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏اتخذ نوح السفينة في سنتين‏)‏‏.‏ زاد الثعلبي‏:‏ وذلك لأنه لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن اصنعها كجؤجؤ الطائر‏.‏ وقال كعب‏:‏ بناها في ثلاثين سنة، والله أعلم‏.‏ المهدوي‏:‏ وجاء في الخبر أن الملائكة كانت تعلمه كيف يصنعها‏.‏ واختلفوا في طولها وعرضها؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما ‏(‏كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون، وسمكها ثلاثون ذراعا؛ وكانت من خشب الساج‏)‏‏.‏ وكذا قال الكلبي وقتادة وعكرمة كان طولها ثلاثمائة ذراع، والذراع إلى المنكب‏.‏ قال سلمان الفارسي‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ إن طول السفينة ألف ذراع ومائتا ذراع، وعرضها ستمائة ذراع‏.‏ وحكاه الثعلبي في كتاب العرائس‏.‏ وروى علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏قال الحواريون لعيسى عليه السلام‏:‏ لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب، قال أتدرون ما هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ هذا كعب حام بن نوح قال فضرب الكثيب بعصاه وقال‏:‏ قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب من رأسه، وقد شاب؛ فقال له عيسى‏:‏ أهكذا هلكت‏؟‏ قال‏:‏ لا بل مت وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت‏.‏ قال‏:‏ أخبرنا عن سفينة نوح‏؟‏ قال‏:‏ كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، طبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير‏.‏ وذكر باقي الخير على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى‏)‏‏.‏ وقال الكلبي فيما حكاه النقاش‏:‏ ودخل الماء فيها أربعة أذرع، وكان لها ثلاثة أبواب؛ باب فيه السباع والطير، وباب فيه الوحش، وباب فيه الرجال والنساء‏.‏ ابن عباس جعلها ثلاث بطون؛ البطن الأسفل للوحوش والسباع والدواب، والأوسط للطعام والشراب، وركب هو في البطن الأعلى، وحمل معه جسد آدم عليه السلام معترضا ببن الرجال والنساء، ثم دفنه بعد ببيت المقدس؛ وكان إبليس معهم في الكوثل‏.‏ وقيل‏:‏ جاءت الحية والعقرب لدخول السفينة فقال نوح‏:‏ لا أحملكما؛ لأنكما سبب الضرر والبلاء، فقالتا‏:‏ احملنا فنحن نضمن لك ألا نضر أحدا ذكرك؛ فمن قرأ حين يخاف مضرتهما ‏}‏سلام على نوح في العالمين‏}‏الصافات‏:‏ 79‏]‏ لم تضراه؛ ذكره القشيري وغيره‏.‏ وذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له مرفوعا من حديث أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قال حين يمسي صلى الله على نوح وعلى نوح السلام لم تلدغه عقرب تلك الليلة‏)‏‏.‏ قوله تعالى‏{‏وكلما‏}‏ ظرف‏.‏ ‏}‏مر عليه ملأ من قومه سخروا منه‏}‏ قال الأخفش والكسائي يقال‏:‏ سخرت به ومنه‏.‏ وفي سخريتهم منه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم كانوا يرونه يبني سفينته في البر، فيسخرون به ويستهزئون ويقولون‏:‏ يا نوح صرت بعد النبوة نجارا‏.‏ الثاني‏:‏ لما رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت قالوا‏:‏ يا نوح ما تصنع‏؟‏ قال‏:‏ أبني بيتا يمشي على الماء؛ فعجبوا من قوله وسخروا منه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏ولم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر‏)‏؛ فلذلك سخروا منه؛ ومياه البحار هي بقية الطوفان‏.‏ ‏}‏إن تسخروا منا فإنا‏}‏ أي من فعلنا اليوم عند بناء السفينة‏.‏ ‏}‏فإنا نسخر منكم‏}‏ غدا عند الغرق‏.‏ والمراد بالسخرية هنا الاستجهال؛ ومعناه إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلونا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

‏{‏فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه‏}‏ تهديد، و‏}‏من‏}‏ متصلة بـ ‏}‏سوف تعلمون‏}‏ و‏}‏تعلمون‏}‏ هنا من باب التعدية إلى مفعول؛ أي فسوف تعلمون الذي يأتيه العذاب‏.‏ ويجوز أن تكون ‏}‏من‏}‏ استفهامية؛ أي أينا يأتيه العذاب‏؟‏‏.‏ وقيل‏{‏من‏}‏ في موضع رفع بالابتداء و‏}‏يأتيه‏}‏ الخبر، و‏}‏يخزيه‏}‏ صفة لـ ‏}‏عذاب‏}‏‏.‏ وحكى الكسائي‏:‏ أن أناسا من أهل الحجاز يقولون‏:‏ سو تعلمون؛ وقال من قال‏{‏ستعلمون‏}‏ أسقط الواو والفاء جميعا‏.‏ وحكى الكوفيون‏:‏ سف تعلمون؛ ولا يعرف البصريون إلا سوف تفعل، وستفعل لغتان ليست إحداهما من الأخرى ‏}‏ويحل عليه‏}‏ أي يجب عليه وينزل به‏.‏ ‏}‏عذاب مقيم‏}‏ أي دائم، يريد عذاب الآخرة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 40 ‏)‏

‏{‏حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل‏}‏

قوله تعالى‏{‏حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور‏}‏ اختلف في التنور على أقوال سبعة‏:‏ الأول‏:‏ أنه وجه الأرض، والعرب تسمي وجه الأرض تنورا؛ قاله ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة؛ وذلك أنه قيل له‏:‏ إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك‏.‏ الثاني‏:‏ أنه تنور الخبز الذي يخبز فيه؛ وكان تنورا من حجارة؛ وكان لحواء حتى صار لنوح؛ فقيل له‏:‏ إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك‏.‏ وأنبع الله الماء من التنور، فعلمت به امرأته فقالت‏:‏ يا نوح فار الماء من التنور؛ فقال‏:‏ جاء وعد ربي حقا‏.‏ هذا قول الحسن؛ وقال مجاهد وعطية عن ابن عباس‏.‏ الثالث‏:‏ أنه موضع اجتماع الماء في السفينة؛ عن الحسن أيضا‏.‏

الرابع‏:‏ أنه طلوع الفجر، ونور الصبح؛ من قولهم‏:‏ نور الفجر تنويرا؛ قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏ الخامس‏:‏ أنه مسجد الكوفة؛ قاله علي بن أبي طالب أيضا؛ وقال مجاهد‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كان ناحية التنور بالكوفة‏.‏ وقال‏:‏ اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي كندة‏.‏ وكان فوران الماء منه علما لنوح، ودليلا على هلاك قومه‏.‏ قال الشاعر وهو أمية‏:‏

فار تنورهم وجاش بماء صار فوق الجبال حتى علاها

السادس‏:‏ أنه أعالي الأرض، والمواضع المرتفعة منها؛ قاله قتادة‏.‏ السابع‏:‏ أنه العين التي بالجزيرة ‏}‏عين الوردة‏}‏ رواه عكرمة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كان ذلك تنور آدم، وإنما كان بالشام بموضع يقال له‏{‏عين وردة‏}‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ ‏(‏فار تنور آدم بالهند‏)‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذه الأقوال ليست بمتناقضة؛ لأن الله عز وجل أخبرنا أن الماء جاء من السماء والأرض؛ قال‏{‏ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر‏.‏ وفجرنا الأرض عيونا‏}‏القمر‏:‏11 - 12‏]‏‏.‏ فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة‏.‏ والفوران الغليان‏.‏ والتنور اسم أعجمي عربته العرب، وهو على بناء فعل؛ لأن أصل بنائه تنر، وليس في كلام العرب نون قبل راء‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏}‏فار التنور‏}‏ التمثيل لحضور العذاب؛ كقولهم‏:‏ حمي الوطيس إذا اشتدت الحرب‏.‏ والوطيس التنور‏.‏ ويقال‏:‏ فارت قدر القوم إذا اشتد حربهم؛ قال شاعرهم‏:‏

تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر القوم حامية تفور

قوله تعالى‏{‏قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين‏}‏ يعني ذكرا وأنثى؛ لبقاء أصل النسل بعد الطوفان‏.‏ وقرأ حفص ‏}‏من كل زوجين اثنين‏}‏ بتنوين ‏}‏كل‏}‏ أي من كل شيء زوجين‏.‏ والقراءتان ترجعان إلى معنى واحد‏:‏ شيء معه آخر لا يستغني عنه‏.‏ ويقال للاثنين‏:‏ هما زوجان، في كل اثنين لا يستغني أحدهما عن صاحبه؛ فإن العرب تسمي كل واحد منهما زوجا يقال‏:‏ له زوجا نعل إذا كان له نعلان‏.‏ وكذلك عنده زوجا حمام، وعليه زوجا قيود؛ قال الله تعالى‏{‏وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى‏}‏‏.‏ ‏[‏النجم‏:‏ 45‏]‏‏.‏ ويقال للمرأة هي زوج الرجل، وللرجل هو زوجها‏.‏ وقد يقال للاثنين هما زوج، وقد يكون الزوجان بمعنى الضربين، والصنفين، وكل ضرب يدعى زوجا؛ قال الله تعالى‏{‏وأنبتت من كل زوج بهيج‏}‏الحج‏:‏ 5‏]‏ أي من كل لون وصنف‏.‏ وقال الأعشى‏:‏

وكل زوج من الديباج يلبسه أبو قدامة محبو بذاك معا

أراد كل ضرب ولون‏.‏ و‏}‏ومن كل زوجين‏}‏ في موضع نصب بـ ‏}‏احمل‏}‏‏.‏ ‏}‏اثنين‏}‏ تأكيد‏.‏ ‏}‏وأهلك‏}‏ أي وأحمل أهلك‏.‏ ‏}‏إلا من‏}‏ ‏}‏من‏}‏ في موضع نصب بالاستثناء‏.‏ ‏}‏عليه القول‏}‏ منهم أي بالهلاك؛ وهو ابنه كنعان وامرأته واعلة كانا كافرين‏.‏ ‏}‏ومن آمن‏}‏ قال الضحاك وابن جريج‏:‏ أي احمل من آمن بي، أي من صدقك؛ فـ ‏}‏من‏}‏ في موضع نصب بـ ‏}‏احمل‏}‏‏.‏ ‏}‏وما آمن معه إلا قليل‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏آمن من قومه ثمانون إنسانا، منهم ثلاثة من بنيه؛ سام وحام ويافث، وثلاث كنائن له‏.‏ ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية وهي اليوم تدعى قرية الثمانين بناحية الموصل‏)‏‏.‏ وورد في الخبر أنه كان في السفينة ثمانية أنفس؛ نوح وزوجته غير التي عوقبت، وبنوه الثلاثة وزوجاتهم؛ وهو قول قتادة والحكم بن عتيبة وابن جريج ومحمد بن كعب؛ فأصاب حام امرأته في السفينة، فدعا نوح الله أن يغير نطفته فجاء بالسودان‏.‏ قال عطاء‏:‏ ودعا نوح على حام ألا يعدو شعر أولاده آذانهم، وأنهم حيثما كان ولده يكونون عبيدا لولد سام ويافث‏.‏ وقال الأعمش‏:‏ كانوا سبعة؛ نوح وثلاث كنائن وثلاثة بنين؛ وأسقط امرأة نوح‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ كانوا عشرة سوى نسائهم؛ نوح وبنوه سام وحام ويافث، وستة أناس ممن كان آمن به، وأزواجهم جميعا‏.‏ و‏}‏قليل‏}‏ رفع بآمن، ولا يجوز نصبه على الاستثناء، لأن الكلام قبله لم يتم، إلا أن الفائدة في دخول ‏}‏إلا‏}‏ و‏}‏ما‏}‏ لأنك لو قلت‏:‏ آمن معه فلان وفلان جاز أن يكون غيرهم قد أمن؛ فإذا جئت بما وإلا، أوجبت لما بعد إلا ونفيت عن غيرهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 41 ‏)‏

‏{‏وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال اركبوا فيها‏}‏ أمر بالركوب؛ ويحتمل أن يكون من الله تعالى، ويحتمل أن يكون من نوح لقومه‏.‏ والركوب العلو على ظهر الشيء‏.‏ ويقال‏:‏ ركبه الدين‏.‏ وفي الكلام حذف؛ أي اركبوا الماء في السفينة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى اركبوها‏.‏ و‏}‏في‏}‏ للتأكيد كقوله تعالى‏{‏إن كنتم للرؤيا تعبرون‏}‏يوسف‏:‏ 43‏]‏ وفائدة ‏}‏في‏}‏ أنهم أمروا أن يكونوا في جوفها لا على ظهرها‏.‏ قال عكرمة‏:‏ ركب نوح عليه السلام في الفلك لعشر خلون من رجب، واستوت على الجودي لعشر خلون من المحرم؛ فذلك ستة أشهر؛ وقال قتادة وزاد؛ وهو يوم عاشوراء؛ فقال لمن كان معه‏:‏ من كان صائما فليتم صومه، ومن لم يكن صائما فليصمه‏.‏ وذكر الطبري في هذا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏أن نوحا ركب في السفينة أول يوم من رجب، وصام الشهر أجمع، وجرت بهم السفينة إلى يوم عاشوراء، ففيه أرست على الجودي، فصامه نوح ومن معه‏)‏‏.‏ وذكر الطبري عن ابن إسحاق ما يقتضي أنه أقام على الماء نحو السنة، ومرت بالبيت فطافت به سبعا، وقد رفعه الله عن الغرق فلم ينله غرق، ثم مضت إلى اليمن ورجعت إلى الجودي فاستوت عليه‏.‏

قوله تعالى‏{‏بسم الله مُجراها ومُرساها‏}‏ قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة بضم الميم فيهما إلا من شذ، على معنى بسم الله إجراؤها وإرساؤها؛ فمجراها ومرساها في موضع رفع بالابتداء؛ ويجوز أن تكون في موضع نصب، ويكون التقدير‏:‏ بسم الله وقت إجرائها ثم حذف وقت، وأقيم ‏}‏مجراها‏}‏ مقامه‏.‏ وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي‏{‏بسم الله مَجريها‏}‏ بفتح الميم و‏}‏مُرساها‏}‏ بضم الميم‏.‏ وروى يحيى بن عيسى عن الأعمش عن يحيى بن وثاب ‏}‏بسم الله مَجراها ومَرساها‏}‏ بفتح الميم فيهما؛ على المصدر من جرت تجري جريا ومجرى، ورست رسوا ومرسى إذا ثبتت‏.‏ وقرأ مجاهد وسليمان بن جندب وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي‏{‏بسم الله مُجريها ومُرسيها‏}‏ نعت لله عز وجل في موضع جر‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ؛ أي هو مجريها ومرسيها‏.‏ ويجوز النصب على الحال‏.‏ وقال الضحاك‏.‏ كان نوح عليه السلام إذا قال بسم الله مجراها جرت، وإذا قال بسم الله مرساها رست‏.‏ وروى مروان بن سالم عن طلحة بن عبدالله بن كريز عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلك بسم الله الرحمن الرحيم ‏}‏وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏الزمر‏:‏ 67‏]‏ ‏}‏بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم‏}‏‏.‏ وفي هذه الآية دليل، على ذكر البسملة عند ابتداء كل فعل؛ كما بيناه في البسملة؛ والحمد لله‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن ربي لغفور رحيم‏}‏ أي لأهل السفينة‏.‏ وروي عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏لما كثرت الأرواث والأقذار أوحى الله إلى نوح اغمز ذنب الفيل، فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث؛ فقال نوح‏:‏ لو غمزت ذنب هذا الخنزير‏!‏ ففعل، فخرج منه فأر وفأرة فلما وقعا أقبلا على السفينة وحبالها تقرضها، وتقرض الأمتعة والأزواد حتى خافوا عل حبال السفينة؛ فأوحى الله إلى نوح أن امسح جبهة الأسد فمسحها، فخرج منها سنوران فأكلا الفئرة‏.‏ ولما حمل الأسد في السفينة قال‏:‏ يا رب من أين أطعمه‏؟‏ قال‏:‏ سوف أشغله؛ فأخذته الحمى؛ فهو الدهر محموم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏وأول ما حمل نوح من البهائم في الفلك حمل الإوزة، وآخر ما حمل حمل الحمار‏)‏؛ قال‏:‏ وتعلق إبليس بذنبه، ويداه قد دخلتا في السفينة، ورجلاه خارجة بعد فجعل الحمار يضطرب ولا يستطيع أن يدخل، فصاح به نوح‏:‏ ادخل ويلك فجعل يضطرب؛ فقال‏:‏ ادخل ويلك وإن كان معك الشيطان، كلمة زلت على لسانه، فدخل ووثب الشيطان فدخل‏.‏ ثم إن نوحا رآه يغني في السفينة، فقال له‏:‏ يا لعين ما أدخلك بيتي‏؟‏ قال‏:‏ أنت أذنت لي؛ فذكر له؛ فقال له‏:‏ قم فأخرج‏.‏ قال‏:‏ مالك بد في أن تحملني معك، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك‏.‏ وكان مع نوح عليه السلام خرزتان مضيئتان، واحدة مكان الشمس، والأخرى مكان القمر‏.‏ ابن عباس‏:‏ ‏(‏إحداهما بيضاء كبياض النهار، والأخرى سوداء كسواد الليل‏)‏؛ فكان يعرف بهما مواقيت الصلاة؛ فإذا أمسوا غلب سواد هذه بياض هذه، وإذا أصبحوا غلب بياض هذه سواد هذه؛ على قدر الساعات‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 42 ‏)‏

‏{‏وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وهي تجري بهم في موج كالجبال‏}‏ الموج جمع موجة؛ وهي ما ارتفع من جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح‏.‏ والكاف للتشبيه، وهي في موضع خفض نعت للموج‏.‏ وجاء في التفسير أن الماء جاوز كل شيء بخمسة عشر ذراعا‏.‏ ‏}‏ونادى نوح ابنه‏}‏ قيل‏:‏ كان كافرا واسمه كنعان‏.‏ وقيل‏:‏ يام‏.‏ ويجوز على قول سيبويه‏{‏ونادى نوح ابنهُ‏}‏ بحذف الواو من ‏}‏ابنه‏}‏ في اللفظ، وأنشد‏:‏

له زجل كأنه صوت حاد

فأما ‏}‏ونادى نوح ابْنَهَ وَكان‏}‏ فقراءة شاذة، وهي مروية عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعروة بن الزبير‏.‏ وزعم أبو حاتم أنها تجوز على أنه يريد ‏}‏ابنها‏}‏ فحذف الألف كما تقول‏{‏ابنه‏}‏؛ فتحذف الواو‏.‏ وقال النحاس‏:‏ وهذا الذي قال أبو حاتم لا يجوز على مذهب سيبويه؛ لأن الألف خفيفة فلا يجوز حذفها، والواو ثقيلة يجوز حذفها ‏}‏وكان في معزل‏}‏ أي من دين أبيه‏.‏ وقيل‏:‏ عن السفينة‏.‏ وقيل‏:‏ إن نوحا لم يعلم أن ابنه كان كافرا، وأنه ظن أنه مؤمن؛ ولذلك قال له‏{‏ولا تكن مع الكافرين‏}‏ وسيأتي‏.‏ وكان هذا النداء من قبل أن يستيقن القوم الغرق؛ وقبل رؤية اليأس، بل كان في أول ما فار التنور، وظهرت العلامة لنوح‏.‏ وقرأ عاصم‏{‏يا بني اركب معنا‏}‏ بفتح الياء، والباقون بكسرها‏.‏ وأصل ‏}‏يا بني‏}‏ أن تكون بثلاث ياءات؛ ياء التصغير، وياء الفعل، وياء الإضافة؛ فأدغمت ياء التصغير في لام الفعل، وكسرت لام الفعل من أجل ياء الإضافة، وحذفت ياء الإضافة لوقوعها موقع التنوين، أو لسكونها وسكون الراء في هذا الموضع؛ هذا أصل قراءة من كسر الياء، وهو أيضا أصل قراءة من فتح؛ لأنه قلب ياء الإضافة ألفا لخفة الألف، ثم حذف الألف لكونها عوضا من حرف يحذف، أو لسكونها وسكون الراء‏.‏ قال النحاس‏:‏ أما قراءة عاصم فمشكلة؛ قال أبو حاتم‏:‏ يريد يا بنياه ثم يحذف؛ قال النحاس‏:‏ رأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن هذا لا يجوز؛ لأن الألف خفيفة‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ ما علمت أن أحدا من النحويين جوز الكلام في هذا إلا أبا إسحاق؛ فإنه زعم أن الفتح من جهتين، والكسر من جهتين؛ فالفتح على أنه يبدل من الياء ألفا؛ قال الله عز وجل إخبارا‏{‏يا ويلتا‏}‏هود‏:‏ 72‏]‏ وكما قال الشاعر‏:‏

فيا عجبا من رحلها المتحمل

فيريد يا بنيا، ثم تحذف الألف، لالتقاء الساكنين، كما تقول‏:‏ جاءني عبدا الله في التثنية‏.‏ والجهة الأخرى أن تحذف الألف؛ لأن النداء موضع حذف‏.‏ والكسر على أن تحذف الياء للنداء‏.‏ والجهة الأخرى على أن تحذفها لالتقاء الساكنين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 43 ‏)‏

‏{‏قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال سآوي‏}‏ أي ارجع وانضم‏.‏ ‏}‏إلى جبل يعصمني‏}‏ أي يمنعني ‏}‏من الماء‏}‏ فلا أغرق‏.‏ ‏}‏قال لا عاصم اليوم من أمر الله‏}‏ أي لا مانع؛ فإنه يوم حق فيه العذاب على الكفار‏.‏ وانتصب ‏}‏عاصم‏}‏ على التبرئة‏.‏ ويجوز ‏}‏لا عاصم اليوم‏}‏ تكون لا بمعني ليس‏.‏ ‏}‏إلا من رحم‏}‏ في موضع نصب استثناء ليس من الأول؛ أي لكن من رحمه الله فهو يعصمه، قال الزجاج‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع رفع، على أن عاصما بمعنى معصوم؛ مثل‏{‏ماء دافق‏}‏الطارق‏:‏ 6‏]‏ أي مدفوق؛ فالاستثناء‏.‏ على هذا متصل؛ قال الشاعر‏:‏

بطيء القيام رخيم الكلا م أمسى فؤادي به فاتنا

أي مفتونا‏.‏ وقال آخر‏:‏

دع المكارم لا تنهض لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

أي المطعوم المكسو‏.‏ قال النحاس‏:‏ ومن أحسن ما قيل فيه أن تكون ‏}‏من‏}‏ في موضع رفع؛ بمعنى لا يعصم اليوم من أمر الله إلا الراحم؛ أي إلا الله‏.‏ وهذا اختيار الطبري‏.‏ ويحسن هذا أنك لم تجعل عاصما بمعنى معصوم فتخرجه من بابه، ولا ‏}‏إنه‏}‏ بمعنى ‏}‏لكن‏}‏ ‏}‏وحال بينهما الموج‏}‏ يعني بين نوح وابنه‏.‏ ‏}‏فكان من المغرقين‏}‏ قيل‏:‏ إنه كان راكبا على فرس قد بطر بنفسه، وأعجب بها؛ فلما رأى الماء جاء قال‏:‏ يا أبت فار التنور، فقال له أبوه‏{‏يا بني اركب معنا‏}‏ فما استتم المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة فالتقمته هو وفرسه، وحيل بينه وبين نوح فغرق‏.‏ وقيل‏:‏ إنه اتخذ لنفسه بيتا من زجاج يتحصن فيه من الماء، فلما فار التنور دخل فيه وأقفله عليه من داخل، فلم يزل يتغوط فيه ويبول حتى غرق بذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إن الجبل الذي أوى إليه ‏}‏طور سيناء‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 44 ‏)‏

‏{‏وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي‏}‏ هذا مجاز لأنها موات‏.‏ وقيل‏:‏ جعل فيها ما تميز به‏.‏ والذي قال إنه مجاز قال‏:‏ لو فتش كلام العرب والعجم ما وجد فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها، وبلاغة رصفها، واشتمال المعاني فيها‏.‏ وفي الأثر‏:‏ إن الله تعالى لا يخلي الأرض من مطر عام أو عامين، وأنه ما نزل من السماء ماء قط إلا بحفظ ملك موكل به إلا ما كان من ماء الطوفان؛ فإنه خرج منه ما لا يحفظه الملك‏.‏ وذلك قوله تعالى‏{‏إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية‏}‏الحاقة‏:‏ 11‏]‏ فجرت بهم السفينة إلى أن تناهى الأمر؛ فأمر الله الماء المنهمر من السماء بالإمساك، وأمر الله الأرض بالابتلاع‏.‏ ويقال‏:‏ بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع وبلع يبلع مثل حمد ويحمد؛ لغتان حكاهما الكسائي والفراء‏.‏ والبالوعة الموضع الذي يشرب الماء‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ التقى الماءان على أمر قد قدر، ما كان في الأرض وما نزل من السماء؛ فأمر الله ما نزل من السماء بالإقلاع، فلم تمتص الأرض منه قطرة، وأمر الأرض بابتلاع ما خرج منها فقط‏.‏ وذلك قوله تعالى‏{‏وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء‏}‏ وقيل‏:‏ ميز الله بين الماءين، فما كان من ماء الأرض أمرها فبلعته، وصار ماء السماء بحارا‏.‏

قوله تعالى‏{‏وغيض الماء‏}‏ أي نقص؛ يقال‏:‏ غاض الشيء وغضته أنا؛ كما يقال‏:‏ نقص بنفسه ونقصه غيره، ويجوز ‏}‏غيض‏}‏ بضم الغين‏.‏ ‏}‏وقضي الأمر‏}‏ أي أحكم وفرغ منه؛ يعني أهلك قوم نوح على تمام وإحكام‏.‏ ويقال‏:‏ إن الله تعالى أعقم أرحامهم أي أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة، فلم يكن فيمن هلك صغير‏.‏ والصحيح أنه أهلك الولدان بالطوفان، كما هلكت الطير والسباع‏.‏ ولم يكن الغرق عقوبة للصبيان والبهائم والطير، بل ماتوا بآجالهم‏.‏ وحكي أنه لما كثر الماء في السكك خشيت أم صبي عليه؛ وكانت تحبه حبا شديدا، فخرجت به إلى الجبل، حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء استوت على الجبل؛ فلما بلغ الماء رقبتها رفعت يديها بابنها حتى ذهب بها الماء؛ فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي‏.‏

قوله تعالى‏{‏واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين‏}‏ أي هلاكا لهم‏.‏ الجودي جبل بقرب الموصل؛ استوت عليه في العاشر من المحرم يوم عاشوراء؛ فصامه نوح وأمر جميع من معه من الناس والوحش والطير والدواب وغيرها فصاموه، شكرا لله تعالى؛ وقد تقدم هذا المعنى‏.‏ وقيل‏:‏ كان ذلك يوم الجمعة‏.‏ وروي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أن السفينة ترسي على واحد منها فتطاولت، وبقي الجودي لم يتطاول تواضعا لله، فاستوت السفينة عليه‏:‏ وبقيت عليه أعوادها‏.‏ وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة‏)‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ تشامخت الجبال وتطاولت لئلا ينالها الغرق؛ فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعا، وتطامن الجودي، وتواضع لأمر الله تعالى فلم يغرق، ورست السفينة عليه‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الجودي اسم لكل جبل، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل‏.‏

سبحانه ثم سبحانا يعود له وقبلنا سبح الجودي والجمد

ويقال‏:‏ إن الجودي من جبال الجنة؛ فلهذا استوت عليه‏.‏ ويقال‏:‏ أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر‏:‏ الجودي بنوح، وطور سيناء بموسى، وحراء بمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين‏.‏

‏[‏مسألة‏]‏‏:‏ لما تواضع الجودي وخضع عز، ولما ارتفع غيره واستعلى ذل، وهذه سنة الله في خلقه، يرفع من تخشع، ويضع من ترفع؛ ولقد أحسن القائل‏:‏

وإذا تذللت الرقاب تخشعا منا إليك فعزها في ذلها

وفي صحيح البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال‏:‏ كانت ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء؛ وكانت لا تسبق؛ فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين؛ وقالوا‏:‏ سبقت العضباء‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏إن حقا على الله ألا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه‏)‏‏.‏ وخرج مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله‏)‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد‏)‏‏.‏ خرجه البخاري‏.‏

مسألة‏:‏ نذكر فيها من قصة نوح مع قومه وبعض ذكر السفينة‏.‏ ذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له عن الحسن‏:‏ أن نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض؛ فذلك قوله تعالى‏{‏ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما‏}‏العنكبوت‏:‏ 14‏]‏ وكان قد كثرت فيهم المعاصي، وكثرت الجبابرة وعتوا عتوا كبيرا، وكان نوح يدعوهم ليلا ونهارا، سرا وعلانية، وكان صبورا حليما، ولم يلق أحد من الأنبياء أشد مما لقي نوح، فكانوا يدخلون عليه فيخنقونه حتى يترك وقيذا، ويضربونه في المجالس ويطرد، وكان لا يدعو على من يصنع به بل يدعوهم ويقول‏{‏رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون‏}‏ فكان لا يزيدهم ذلك إلا فرارا منه، حتى أنه ليكلم الرجل منهم فيلف رأسه بثوبه، ويجعل أصبعيه في أذنيه لكيلا يسمع شيئا من كلامه، فذلك قوله تعالى‏{‏وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم‏}‏نوح‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وقال مجاهد وعبيد بن عمير‏:‏ كانوا يضربونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال‏{‏رب اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون‏}‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏إن نوحا كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات، ثم يخرج فيدعوهم؛ حتى إذا يئس من إيمان قومه جاءه رجل معه ابنه وهو يتوكأ على عصا؛ فقال‏:‏ يا بني أنظر هذا الشيخ لا يغرنك، قال‏:‏ يا أبت أمكني من العصا، فأمكنه فأخذ العصا ثم قال‏:‏ ضعني في الأرض فوضعه، فمشى إليه بالعصا فضربه فشجه شجة موضحة في رأسه، وسالت الدماء؛ فقال نوح‏{‏رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك خيرية فاهدهم وإن يك غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين‏}‏ فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه، وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن‏)‏؛

قال‏{‏وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون‏}‏؛ أي لا تحزن عليهم‏.‏ ‏}‏واصنع الفلك بأعيننا ووحينا‏}‏ قال‏:‏ يا رب وأين الخشب‏؟‏ قال‏:‏ اغرس الشجر‏.‏ قال‏:‏ فغرس الساج عشرين سنه، وكف عن الدعاء، وكفوا عن الاستهزاء‏.‏ وكانوا يسخرون منه؛ فلما أدرك الشجر أمره ربه فقطعها وجففها‏:‏ فقال‏:‏ يا رب كيف أتخذ هذا البيت‏؟‏ قال‏:‏ اجعله على ثلاثة صور؛ رأسه كرأس الديك، وجؤجؤه كجؤجؤ الطير، وذنبه كذنب الديك؛ واجعلها مطبقة واجعل لها أبوابا في جنبها، وشدها بدسر، يعني مسامير الحديد‏.‏ وبعث الله جبريل فعلمه صنعة السفينة، وجعلت يده لا تخطئ‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏كانت دار نوح عليه السلام دمشق، وأنشأ سفينته من خشب لبنان بين زمزم وبين الركن والمقام‏)‏، فلما كملت حمل فيها السباع والدواب في الباب الأول، وجعل الوحش والطير في الباب الثاني، وأطبق عليهما وجعل أولاد آدم أربعين رجلا وأربعين امرأة في الباب الأعلى وأطبق عليهم، وجعل الذر معه في الباب الأعلى لضعفها ألا تطأها الدواب‏.‏

قال الزهري‏:‏ إن الله عز وجل بعث ريحا فحمل إليه من كل زوجين اثنين؛ من السباع والطير والوحش والبهائم‏.‏ وقال جعفر بن محمد‏:‏ بعث الله جبريل فحشرهم، فجعل يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى، فيدخله السفينة وقال زيد بن ثابت‏:‏ استصعبت على نوح الماعزة أن تدخل السفينة، فدفعها بيده في ذنبها؛ فمن ثم انكسر ذنبها فصار معقوفا وبدا حياؤها‏.‏ ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على، ذنبها فستر حياؤها؛ قال إسحاق‏:‏ أخبرنا رجل من أهل العلم أن نوحا حمل أهل السفينة، وجعل فيها من كل زوجين اثنين، وحمل من الهدهد زوجين، فماتت الهدهدة في السفينة قبل أن تظهر الأرض‏.‏ فحملها الهدهد فطاف بها الدنيا ليصيب لها مكانا، فلم يجد طينا ولا ترابا، فرحمه ربه فحفر لها في قفاه قبرا فدفنها فيه، فذلك الريش الناتئ في قفا الهدهد موضع القبر؛ فلذلك نتأت أقفية الهداهد‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كان حمل نوح معه في السفينة من جميع الشجر وكانت العجوة من الجنة مع نوح في السفينة‏)‏‏.‏ وذكر صاحب كتاب ‏(‏العروس‏)‏ وغيره‏:‏ أن نوحا عليه السلام لما أراد أن يبعث من يأتيه بخبر الأرض قال الدجاج‏:‏ أنا؛ فأخذها وختم على جناحها وقال لها‏:‏ أنت مختومة بخاتمي لا تطيري أبدا، أنت ينتفع بك أمتي؛ فبعث الغراب فأصاب جيفة فوقع عليها فاحتبس فلعنه، ولذلك يقتل في الحل والحرم ودعا عليه بالخوف؛ فلذلك لا يألف البيوت‏.‏ وبعث الحمامة فلم تجد قرارا فوقعت على شجرة بأرض سيناء فحملت ورقة زيتونة، ورجعت إلى نوح فعلم أنها لم تستمكن من الأرض، ثم بعثها بعد ذلك فطارت حتى وقعت بوادي الحرم، فإذا الماء قد نضب من مواضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء، فاختضبت رجلاها، ثم جاءت إلى نوح عليه السلام فقالت‏:‏ بشراي منك أن تهب لي الطوق في عنقي، والخضاب في رجلي، وأسكن الحرم؛ فمسح يده على عنقها وطوقها، ووهب لها الحمرة في رجليها، ودعا لها ولذريتها بالبركة‏.‏ وذكر الثعلبي أنه بعث بعد الغراب التدرج وكان من جنس الدجاج؛ وقال‏:‏ إياك أن تعتذر، فأصاب الخضرة والفرجة فلم يرجع، وأخذ أولاده عنده رهنا إلى يوم القيامة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 45 ‏)‏

‏{‏ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ونادى نوح ربه‏}‏ أي دعاه‏.‏ ‏}‏فقال رب إن ابني من أهلي‏}‏ أي من أهلي الذين وعدتهم أن تنجيهم من الغرق؛ ففي الكلام حذف‏.‏ ‏}‏وإن وعدك الحق‏}‏ يعني الصدق‏.‏ وقال علماؤنا‏:‏ وإنما سأل نوح ربه ابنه لقوله‏{‏وأهلك‏}‏ وترك قوله‏{‏إلا من سبق عليه القول‏}‏هود‏:‏ 40‏]‏ فلما كان عنده من أهله قال‏{‏رب إن ابني من أهلي‏}‏ يدل على ذلك قوله‏{‏ولا تكن من الكافرين‏}‏ أي لا تكن ممن لست منهم؛ لأنه كان عنده مؤمنا في ظنه، ولم يك نوح يقول لربه‏{‏إن ابني من أهلي‏}‏ إلا وذلك عنده كذلك؛ إذ محال أن يسأل هلاك الكفار، ثم يسأل في إنجاء بعضهم؛ وكان ابنه يسر الكفر ويظهر الإيمان؛ فأخبر الله تعالى نوحا بما هو منفرد به من علم الغيوب؛ أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كان منافقا؛ ولذلك استحل نوح أن يناديه‏.‏ وعنه أيضا‏:‏ كان ابن امرأته؛ دليله قراءة علي ‏}‏ونادى نوح ابنها‏}‏‏.‏ ‏}‏وأنت أحكم الحاكمين‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ أي حكمت على قوم بالنجاة، وعلى قوم بالغرق‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 46 ‏:‏ 47 ‏)‏

‏{‏قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين، قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال يا نوح إنه ليس من أهلك‏}‏ أي ليس، من أهلك الذين وعدتهم أن أنجيهم؛ قاله سعيد بن جبير‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ ليس من أهل دينك ولا ولايتك؛ فهو على حذف مضاف؛ وهذا يدل على أن حكم الاتفاق في الدين أقوى من حكم النسب‏.‏ ‏}‏إنه عمل غير صالح‏}‏ قرأ ابن عباس وعروة وعكرمة ويعقوب والكسائي ‏}‏إنه عمل غير صالح‏}‏ أي من الكفر والتكذيب؛ واختاره أبو عبيد‏.‏ وقرأ الباقون ‏}‏عمل‏}‏ أي ابنك ذو عمل غير صالح فحذف المضاف؛ قاله الزجاج وغيره‏.‏ قال‏:‏

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار

أي ذات إقبال وإدبار‏.‏ وهذا القول والذي قبله يرجع إلى معنى واحد‏.‏ ويجوز أن تكون الهاء للسؤال؛ أي إن سؤالك إياي أن أنجيه‏.‏ عمل غير صالح‏.‏ قال قتادة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ معنى عمل غير صالح أنه ولد على فراشه ولم يكن ابنه‏.‏ وكان لغير رشدة، وقال أيضا مجاهد‏.‏ قال قتادة سألت الحسن عنه فقال‏:‏ والله ما كان ابنه؛ قلت إن الله أخبر عن نوح أنه قال‏{‏إن ابني من أهلي‏}‏ فقال‏:‏ لم يقل مني، وهذه إشارة إلى أنه كان ابن امرأته من زوج آخر؛ فقلت له‏:‏ إن الله حكى عنه أنه قال‏{‏إن ابني من أهلي‏}‏ ‏}‏ونادى نوح ابنه‏}‏ ولا يختلف أهل الكتابين أنه ابنه؛ فقال الحسن‏:‏ ومن يأخذ دينه عن أهل الكتاب‏!‏ إنهم يكذبون‏.‏ وقرأ‏{‏فخانتاهما‏}‏التحريم‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ ناداه وهو يحسب أنه ابنة، وكان ولد على فراشه، وكانت امرأته خانته فيه، ولهذا قال‏{‏فخانتاهما‏}‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏ما بغت امرأة نبي قط‏)‏، وأنه كان ابنه لصلبه‏.‏ وكذلك قال الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وغيرهم، وأنه كان ابنه لصلبه‏.‏ وقيل لسعيد بن جبير يقول نوح‏{‏إن ابني من أهلي‏}‏ أكان من أهله‏؟‏ أكان ابنه‏؟‏ فسبح الله طويلا ثم قال‏:‏ ‏(‏لا اله إلا الله‏!‏ يحدث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه، وتقول إنه ليس ابنه‏!‏ نعم كان ابنه؛ ولكن كان مخالفا في النية والعمل والدين، ولهذا قال الله تعالى‏{‏إنه ليس من أهلك‏}‏‏)‏؛ وهذا هو الصحيح في الباب إن شاء الله تعالى لجلالة من قال به، وإن قوله‏{‏إنه ليس من أهلك‏}‏ ليس مما ينفي عنه أنه ابنه‏.‏ وقوله‏{‏فخانتاهما‏}‏التحريم‏:‏ 10‏]‏ يعني في الدين لا في الفراش، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون، وذلك أنها قالت له‏:‏ أما ينصرك ربك‏؟‏ فقال لها‏:‏ نعم‏.‏ قالت‏:‏ فمتى‏؟‏ قال‏:‏ إذا فار التنور؛ فخرجت تقول لقومها‏:‏ يا قوم والله إنه لمجنون، يزعم أنه لا ينصره ربه إلا أن يفور هذا التنور، فهذه خيانتها‏.‏ وخيانة الأخرى أنها كانت تدل على الأضياف على ما سيأتي إن شاء الله‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقيل‏:‏ الولد قد يسمى عملا كما يسمى كسبا، كما في الخبر ‏(‏أولادكم من كسبكم‏)‏‏.‏ ذكره القشيري‏.‏

في هذه الآية تسلية للخلق في فساد ابنائهم وإن كانوا صالحين‏.‏ وروي أن ابن مالك بن أنس نزل من فوق ومعه حمام قد غطاه، قال‏:‏ فعلم مالك أنه قد فهمه الناس؛ فقال مالك‏:‏ الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله لا خير الآباء والأمهات‏.‏ وفيها أيضا دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعا، ومن أهل البيت؛ فمن وصى لأهله دخل في ذلك ابنه، ومن تضمنه منزله، وهو في عياله‏.‏ وقال تعالى في آية أخرى‏{‏ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون‏.‏ ونجيناه وأهله من الكرب العظيم‏}‏الصافات‏:‏ 75‏]‏ فسمى جميع من ضمه منزله من أهله‏.‏

ودلت الآية على قول الحسن ومجاهد وغيرهما‏:‏ أن الولد للفراش؛ ولذلك قال نوح ما قال آخذا بظاهر الفراش‏.‏ وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول‏:‏ نرى رسول الله صلى عليه وسلم إنما قضى بالولد للفراش من أجل ابن نوح عليه السلام؛ ذكره أبو عمر في كتاب ‏}‏التمهيد‏}‏‏.‏ وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الولد للفراش وللعاهر الحجر‏)‏ يريد الخيبة‏.‏ وقيل‏:‏ الرجم بالحجارة‏.‏ وقرأ عروة بن الزبير‏.‏ ‏}‏ونادى نوح ابنها‏}‏ يريد ابن امرأته، وهي تفسير القراءة المتقدمة عنه، وعن علي رضي الله عنه، وهي حجة للحسن ومجاهد؛ إلا أنها قراءة شاذة، فلا نترك المتفق عليها لها‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏إني أعظك أن تكون من الجاهلين‏}‏ أي أنهاك عن هذا السؤال، وأحذرك لئلا تكون، أو كراهية أن تكون من الجاهلين؛ أي الآثمين‏.‏ ومنه قوله تعالى‏{‏يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا‏}‏النور‏:‏ 17‏]‏ أي يحذركم الله وينهاكم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أرفعك أن تكون من الجاهلين‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء والعارفين؛ فـ ‏}‏قال‏}‏ نوح‏{‏رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم‏}‏ الآية وهذه ذنوب الأنبياء عليهم السلام، فشكر الله تذلله وتواضعه‏.‏ ‏}‏وإلا تغفر لي‏}‏ ما فرط من السؤال‏.‏ ‏}‏وترحمني‏}‏ أي بالتوبة‏.‏ ‏}‏أكن من الخاسرين‏}‏ أي أعمالا‏.‏ فقال‏{‏يا نوح اهبط بسلام منا‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 48 ‏)‏

‏{‏قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏قيل يا نوح اهبط بسلام منا‏}‏ أي قالت له الملائكة، أو قال الله تعالى له‏:‏ اهبط من السفينة إلى الأرض، أو من الجبل إلى الأرض؛ فقد ابتلعت الماء وجفت‏.‏ ‏}‏بسلام منا‏}‏ أي بسلامة وأمن‏.‏ وقيل‏:‏ بتحية‏.‏ ‏}‏وبركات عليك‏}‏ أي نعم ثابتة؛ مشتق من بروك الجمل وهو ثبوته وإقامته‏.‏ ومنه البركة لثبوت الماء فيها‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏نوح آدم الأصغر‏)‏، فجميع الخلائق الآن من نسله، ولم يكن معه في السفينة من الرجال والنساء إلا من كان من ذريته؛ على قول قتادة وغيره، حسب ما تقدم؛ وفي التنزيل ‏}‏وجعلنا ذريته هم الباقين‏}‏الصافات‏:‏ 77‏]‏‏.‏ ‏}‏وعلى أمم ممن معك‏}‏ قيل‏:‏ دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة‏.‏ ودخل في قوله ‏}‏وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم‏}‏ كل كافر إلى يوم القيامة؛ روي ذلك عن محمد بن كعب‏.‏ والتقدير على هذا‏:‏ وعلى ذرية أمم ممن معك، وذرية أمم سنمتعهم‏.‏ وقيل‏{‏من‏}‏ للتبعيض، وتكون لبيان الجنس‏.‏ ‏}‏وأمم سنمتعهم‏}‏ ارتفع و‏}‏أمم‏}‏ على معنى وتكون أمم‏.‏ قال الأخفش سعيد كما تقول‏:‏ كلمت زيدا وعمرو جالس‏.‏ وأجاز الفراء في غير القراءة وأمما، وتقديره‏:‏ ونمتع أمما‏.‏ وأعيدت ‏}‏على‏}‏ مع ‏}‏أمم‏}‏ لأنه معطوف على الكاف من ‏}‏عليك‏}‏ وهي ضمير المجرور، ولا يعطف على ضمير المجرور إلا بإعادة الجار على قول سيبويه وغيره‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏النساء‏}‏ بيان هذا مستوفى في قوله تعالى‏{‏واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام‏}‏النساء‏:‏ 1‏]‏ بالخفض‏.‏ والباء في قوله‏{‏بسلام‏}‏ متعلقة بمحذوف؛ لأنها في موضع الحال؛ أي اهبط مسلما عليك‏.‏ و‏}‏منا‏}‏ في موضع جر متعلق بمحذوف؛ لأنه نعت للبركات‏.‏ ‏}‏وعلى أمم‏}‏ متعلق بما تعلق به ‏}‏عليك‏}‏؛ لأنه أعيد من أجل المعطوف على الكاف‏.‏ و‏}‏من‏}‏ في قوله‏{‏ممن معك‏}‏ متعلق بمحذوف؛ لأنه في موضع جر نعت للأمم‏.‏ و‏}‏معك‏}‏ متعلق بفعل محذوف؛ لأنه صلة ‏}‏لمن‏}‏ أي ممن استقر معك، أو آمن معك، أو ركب معك‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 49 ‏)‏

‏{‏تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏تلك من أنباء الغيب‏}‏ أي تلك الأنباء، وفي موضع آخر ‏}‏ذلك‏}‏ أي ذلك النبأ والقصص من أنباء ما غاب عنك‏.‏ ‏}‏نوحيها إليك‏}‏ أي لتقف عليها‏.‏ ‏}‏ما كنت تعلمها أنت ولا قومك‏}‏ أي كانوا غير عارفين بأمر الطوفان، والمجوس الآن ينكرونه‏.‏ ‏}‏من قبل هذا‏}‏ خبر أي مجهولة عندك وعند قومك‏.‏ ‏}‏فاصبر‏}‏ على مشاق الرسالة وإذاية القوم كما صبر نوح‏.‏ وقيل‏:‏ أراد جهلهم بقصة ابن نوح وإن سمعوا أمر الطوفان ‏[‏فإنه‏]‏ على الجملة‏.‏ ‏}‏فاصبر‏}‏ أي اصبر يا محمد على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته، وما تلقى من أذى العرب الكفار، كما صبر نوح على أذى قومه‏.‏ ‏}‏إن العاقبة‏}‏ في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز‏.‏ ‏}‏للمتقين‏}‏ عن الشرك والمعاصي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 50 ‏:‏ 51 ‏)‏

‏{‏وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون، يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإلى عاد أخاهم هودا‏}‏ أي وأرسلنا، فهو معطوف على ‏}‏أرسلنا نوحا‏}‏‏.‏ وقيل له أخوهم لأنه منهم، وكانت القبيلة تجمعهم؛ كما تقول‏:‏ يا أخا تميم‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قيل له أخوهم لأنه من بني آدم كما أنهم من بني آدم؛ وقد تقدم هذا في ‏}‏الأعراف‏}‏ وكانوا عبدة الأوثان‏.‏ وقيل‏:‏ هم عادان، عاد الأولى وعاد الأخرى، فهؤلاء هم الأولى؛ وأما الأخرى فهو شداد ولقمان المذكوران في قوله تعالى‏{‏إرم ذات العماد‏}‏الفجر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وعاد اسم رجل ثم استمر على قوم انتسبوا إليه‏.‏ ‏}‏قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره‏}‏ بالخفض على اللفظ، و‏}‏غيره‏}‏ بالرفع على الموضع، و‏}‏غيره‏}‏ بالنصب على الاستثناء‏.‏ ‏}‏إن أنتم إلا مفترون‏}‏ أي ما أنتم في اتخاذكم إلها غيره إلا كاذبون عليه جل وعز‏.‏

قوله تعالى‏{‏يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني‏}‏ أي على التبليغ، والدعاء إلى الله، والإيمان به فيثقل عليكم، أي ثوابي في تبليغ الرسالة‏.‏ والفطرة ابتداء الخلق‏.‏

قوله تعالى‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ ما جرى على قوم نوح لما كذبوا الرسل‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏

‏{‏ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه‏}‏ تقدم في أول السورة‏.‏ ‏}‏يرسل السماء‏}‏ جزم لأنه جواب وفيه معنى المجازاة‏.‏ ‏}‏عليكم مدرارا‏}‏ نصب على الحال، وفيه معنى التكثير؛ أي يرسل السماء بالمطر متتابعا يتلو بعضه بعضا؛ والعرب تحذف الهاء في مفعال على النسب؛ وأكثر ما يأتي مفعال من أفعل، وقد جاء ههنا من فعل؛ لأنه من درت السماء تدر وتدر فهي مدرار‏.‏ وكان قوم هود - أعني عادا - أهل بساتين وزروع وعمارة، وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن كما تقدم في ‏}‏الأعراف‏}‏‏.‏ ‏}‏ويزدكم‏}‏ عطف على يرسل‏.‏ ‏}‏قوة إلى قوتكم‏}‏ قال مجاهد‏:‏ شدة على شدتكم‏.‏ الضحاك‏.‏ خصبا إلى خصبكم‏.‏ علي بن عيسى‏:‏ عزا على عزكم‏.‏ عكرمة‏:‏ ولدا إلى ولدكم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الله حبس عنهم المطر وأعقم الأرحام ثلاث سنين فلم يولد لهم ولد؛ فقال لهم هود‏:‏ إن آمنتم أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد؛ فتلك القوة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى يزدكم قوة في النعم‏.‏ ‏}‏ولا تتولوا مجرمين‏}‏ أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه، وتقيموا على الكفر

الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏

‏{‏قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا يا هود ما جئتنا ببينة‏}‏ أي حجة واضحة‏.‏ ‏}‏وما نحن لك بمؤمنين‏}‏ إصرارا منهم على الكفر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 54 ‏:‏ 55 ‏:‏ 56 ‏)‏

‏{‏إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون، من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن نقول إلا اعتراك‏}‏ أي أصابك‏.‏ ‏}‏بعض آلهتنا‏}‏ أي أصنامنا‏.‏ ‏}‏بسوء‏}‏ أي بجنون لسبك إياها، عن ابن عباس وغيره‏.‏ يقال‏:‏ عراه الأمر واعتراه إذا ألم به‏.‏ ومنه ‏}‏وأطعموا القانع والمعتر‏}‏الحج‏:‏ 36‏]‏‏.‏ ‏}‏قال إني أشهد الله‏}‏ أي على نفسي‏.‏ ‏}‏واشهدوا‏}‏ أي وأشهدكم؛ لا أنهم كانوا أهل شهادة، ولكنه نهاية للتقرير؛ أي لتعرفوا ‏}‏أني بريء مما تشركون‏}‏ أي من عبادة الأصنام التي تعبدونها‏.‏ ‏}‏فكيدوني جميعا‏}‏ أي أنتم وأوثانكم في عداوتي وضري‏.‏ ‏}‏ثم لا تنظرون‏}‏ أي لا تؤخرون‏.‏ وهذا القول مع كثرة الأعداء يدل على كمال الثقة بنصر الله تعالى‏.‏ وهو من أعلام النبوة، أن يكون الرسول وحده يقول لقومه‏{‏فكيدوني جميعا‏}‏‏.‏ وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش‏.‏ وقال نوح صلى الله عليه وسلم ‏}‏فاجمعوا أمركم وشركاءكم‏}‏يونس‏:‏ 71‏]‏ الآية‏.‏

قوله تعالى‏{‏إني توكلت على الله ربي وربكم‏}‏ أي رضيت بحكمه، ووثقت بنصره‏.‏ ‏}‏ما من دابة‏}‏ أي نفس تدب على الأرض؛ وهو في موضع رفع بالابتداء‏.‏ ‏}‏إلا هو آخذ بناصيتها‏}‏ أي يصرفها كيف يشاء، ويمنعها مما يشاء؛ أي فلا تصلون إلى ضري‏.‏ وكل ما فيه روح يقال له داب ودابه؛ والهاء للمبالغة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ مالكها، والقادر عليها‏.‏ وقال القتبي‏:‏ قاهرها؛ لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يحييها ثم يميتها؛ والمعنى متقارب‏.‏ والناصية قصاص الشعر في مقدم الرأس‏.‏ ونصوت الرجل أنصوه نصوا أي مددت ناصيته‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ إنما خص الناصية؛ لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانا بالذلة والخضوع؛ فيقولون‏.‏ ما ناصية فلان إلا بيد فلان؛ أي إنه مطيع له يصرفه كيف يشاء‏.‏ وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليعرفوا بذلك فخرا عليه؛ فخاطبهم بما يعرفونه في كلامهم‏.‏ وقال، الترمذي الحكيم في ‏}‏نوادر الأصول‏}‏ ‏}‏ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها‏}‏ وجهه عندنا أن الله تعالى قدر مقادير أعمال العباد، ثم نظر إليها، ثم خلق خلقه، وقدر نفذ بصره في جميع ما هم فيه عاملون من قبل أن يخلقهم، فلما خلقهم وضع نور تلك النظرة في نواصيهم فذلك النور أخذ بنواصيهم، يجريهم إلى أعمالهم المقدرة عليهم يوم المقادير‏.‏ وخلق الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ رواه عبدالله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة‏)‏‏.‏ ولهذا قويت الرسل وصاروا من أولي العزم لأنهم لاحظوا نور النواصي، وأيقنوا أن جميع خلقه منقادون بتلك الأنوار إلى ما نفذ بصره فيهم من الأعمال، فأوفرهم حظا من الملاحظة أقواهم في العزم، ولذلك ما قوي هود النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال‏{‏فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون‏.‏ إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها‏}‏ وإنما سميت ناصية لأن الأعمال قد نصت وبرزت من غيب الغيب فصارت منصوصة في المقادير، قد نفذ بصر الخالق في جميع حركات الخلق بقدرة، ثم وضعت حركات كل من دب على الأرض حيا في جبهته بين عينيه، فسمي ذلك الموضع منه ناصية؛ لأنها تنص حركات العباد بما قدر؛ فالناصية مأخوذة بمنصوص الحركات التي نظر الله تعالى إليها قبل أن يخلقها ووصف ناصية أبي جهل فقال‏{‏ناصية كاذبة خاطئة‏}‏العلق‏:‏ 16‏]‏ يخبر أن النواصي فيها كاذبة خاطئة؛ فعلى سبيل ما تأولوه يستحيل أن تكون الناصية منسوبة إلى الكذب والخطأ‏.‏ والله أعلم‏.‏ ‏}‏إن ربي على صراط مستقيم‏}‏ قال النحاس‏:‏ الصراط في اللغة المنهاج الواضح؛ والمعنى أن الله جل ثناؤه وإن كان يقدر على كل شيء فإنه لا يأخذهم إلا بالحق‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لا خلل في تدبيره، ولا تفاوت في خلقه سبحانه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 57 ‏)‏

‏{‏فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإن تولوا‏}‏ في موضع جزم؛ فلذلك حذفت منه النون، والأصل تتولوا، فحذفت التاء لاجتماع تاءين‏.‏ ‏}‏فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم‏}‏ بمعنى قد بينت لكم‏.‏ ‏}‏ويستخلف ربي قوما غيركم‏}‏ أي يهلككم ويخلق من هو أطوع له منكم يوحدونه ويعبدونه‏.‏ ‏}‏ويستخلف‏}‏ مقطوع مما قبله فلذلك ارتفع؛ أو معطوف على ما يجب فيما بعد الفاء من قوله‏{‏فقد أبلغتكم‏}‏‏.‏ وروي عن حفص عن عاصم ‏}‏ويستخلف‏}‏ بالجزم حملا على موضع الفاء وما بعدها؛ مثل‏{‏ويذرهم في طغيانهم يعمهون‏}‏الأعراف‏:‏ 186‏]‏‏.‏ ‏}‏ولا تضرونه شيئا‏}‏ أي بتوليكم وإعراضكم‏.‏ ‏}‏إن ربى على كل شيء حفيظ‏}‏ أي لكل شيء حافظ‏.‏ ‏}‏على‏}‏ بمعنى اللام؛ فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 58 ‏)‏

‏{‏ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولما جاء أمرنا‏}‏ أي عذابنا بهلاك عاد‏.‏ ‏}‏نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا‏}‏ لأن أحدا لا ينجو إلا برحمة الله تعالى، وإن كانت له أعمال صالحة‏.‏ وفي صحيح مسلم والبخاري وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏لن ينجي أحدا منكم عمله‏.‏ قالوا‏:‏ ولا أنت يا رسول الله‏؟‏ ‏!‏ قال‏:‏ ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏}‏برحمة منا‏}‏ بأن بينا لهم الهدى الذي هو رحمة‏.‏ وكانوا أربعة آلاف‏.‏ وقيل‏:‏ ثلاثة آلاف‏.‏ ‏}‏ونجيناهم من عذاب غليظ‏}‏ أي عذاب يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ هو الريح العقيم كما ذكر الله في ‏}‏الذاريات‏}‏ وغيرها وسيأتي‏.‏ قال القشيري أبو نصر‏:‏ والعذاب الذي يتوعد به النبي أمته إذا حضر ينجي الله منه النبي والمؤمنين معه؛ نعم‏!‏ لا يبعد أن يبتلي الله نبيا وقومه فيعمهم ببلاء فيكون ذلك عقوبة للكافرين، وتمحيصا للمؤمنين إذا لم يكن مما توعدهم النبي به‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 59 ‏)‏

‏{‏وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏وتلك عاد‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ وحكى الكسائي أن من العرب من لا يصرف ‏}‏عادا‏}‏ فيجعله اسما للقبيلة‏.‏ ‏}‏جحدوا بآيات ربهم‏}‏ أي كذبوا بالمعجزات وأنكروها‏.‏ ‏}‏وعصوا رسله‏}‏ يعني هودا وحده؛ لأنه لم يرسل إليهم من الرسل سواه‏.‏ ونظيره قوله تعالى‏{‏يا أيها الرسل كلوا من الطيبات‏}‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏ يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ لأنه لم يكن في عصره رسول سواه؛ وإنما جمع ههنا لأن من كذب رسولا واحدا فقد كفر بجميع الرسل‏.‏ وقيل‏:‏ عصوا هودا والرسل قبله، وكانوا بحيث لو أرسل إليهم ألف رسول لجحدوا الكل‏.‏ ‏}‏واتبعوا أمر كل جبار عنيد‏}‏ أي اتبع سقاطهم رؤساءهم‏.‏ والجبار المتكبر‏.‏ والعنيد الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ العنيد والعنود والعاند والمعاند المعارض بالخلاف، ومنه قيل للعرق الذي ينفجر بالدم عاند‏.‏ وقال الراجز‏:‏

إني كبير لا أطيق العُنَّدا

الآية رقم ‏(‏ 60 ‏)‏

‏{‏وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة‏}‏ أي ألحقوها‏.‏ ‏}‏ويوم القيامة‏}‏ أي واتبعوا يوم القيامة مثل ذلك؛ فالتمام على قوله‏{‏ويوم القيامة‏}‏‏.‏ ‏}‏ألا إن عادا كفروا ربهم‏}‏ قال الفراء‏:‏ أي كفروا نعمة ربهم؛ قال‏:‏ ويقال كفرته وكفرت به، مثل شكرته وشكرت له‏.‏ ‏}‏ألا بعدا لعاد قوم هود‏}‏ أي لا زالوا مبعدين عن رحمة الله‏.‏ والبعد الهلاك والبعد التباعد من الخير‏.‏ يقال‏:‏ بعد يبعد بعدا إذا تأخر وتباعد‏.‏ وبعد يبعد بعدا إذا هلك؛ قال‏:‏

لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر

وقال النابغة‏:‏

فلا تبعدن إن المنية منهل وكل امرئ يوما به الحال زائل

الآية رقم ‏(‏ 61 ‏)‏

‏{‏وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإلى ثمود‏}‏ أي أرسلنا إلى ثمود ‏}‏أخاهم‏}‏ أي في النسب‏.‏ ‏}‏صالحا‏}‏ وقرأ يحيي بن وثاب ‏}‏وإلى ثمود‏}‏ بالتنوين في كل القرآن؛ وكذلك روي عن الحسن‏.‏ واختلف سائر القراء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع‏.‏ وزعم أبو عبيدة أنه لولا مخالفة السواد لكان الوجه ترك الصرف؛ إذ كان الأغلب عليه التأنيث‏.‏ قال النحاس‏:‏ الذي قال أبو عبيدة - رحمه الله - من أن الغالب عليه التأنيث كلام مردود؛ لأن ثمودا يقال له حي؛ ويقال له قبيلة، وليس الغالب عليه القبيلة؛ بل الأمر على ضد ما قال عند سيبويه‏.‏ والأجود عند سيبويه فيما لم يقل فيه بنو فلان الصرف، نحو قريش وثقيف وما أشبههما، وكذلك ثمود، والعلة في ذلك أنه لما كان التذكير الأصل، وكان يقع له مذكر ومؤنث كان الأصل الأخف أولى‏.‏ والتأنيث جيد بالغ حسن‏.‏ وأنشد سيبويه في التأنيث‏:‏

غلب المساميح الوليد سماحة وكفى قريش المعضلات وسادها

قوله تعالى‏{‏قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره‏}‏ تقدم‏.‏ ‏}‏هو أنشأكم من الأرض‏}‏ أي ابتدأ خلقكم من الأرض، وذلك أن آدم خلق من الأرض على ما تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ و‏}‏الأنعام‏}‏ وهم منه، وقيل‏{‏أنشأكم في الأرض‏}‏‏.‏ ولا يجوز إدغام الهاء من ‏}‏غيره‏}‏ في الهاء من ‏}‏هو‏}‏ إلا على لغة من حذف الواو في الإدراج‏.‏ ‏}‏واستعمركم فيها‏}‏ أي جعلكم عمارها وسكانها‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ومعنى ‏}‏استعمركم‏}‏ أعمركم من قوله‏:‏ أعمر فلان فلانا داره؛ فهي له عمرى‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أسكنكم فيها؛ وعلى هذين القولين تكون استفعل بمعنى أفعل؛ مثل استجاب بمعنى أجاب‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أطال أعماركم، وكانت أعمارهم من ثلاثمائة إلى ألف‏.‏ ابن عباس‏:‏ ‏(‏أعاشكم فيها‏)‏‏.‏ زيد بن أسلم‏:‏ أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن، وغرس أشجار‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها‏.‏

قال ابن العربي قال بعض علماء الشافعية‏:‏ الاستعمار طلب العمارة؛ والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب، قال القاضي أبو بكر‏:‏ تأتي كلمة استفعل في لسان العرب على معان‏:‏ منها؛ استفعل بمعنى طلب الفعل كقوله‏:‏ استحملته أي طلبت منه حملانا؛ وبمعنى اعتقد، كقولهم‏:‏ استسهلت هذا الأمر اعتقدته سهلا، أو وجدته سهلا، واستعظمته أي اعتقدته عظيما ووجدته، ومنه استفعلت بمعنى أصبت؛ كقولهم‏:‏ استجدته أي أصبته جيدا‏:‏ ومنها بمعنى فعل؛ كقوله‏:‏ قر في المكان واستقر؛ وقالوا وقوله‏{‏يستهزئون‏}‏ و‏}‏يستسخرون‏}‏ منه؛ فقوله تعالى‏{‏استعمركم فيها‏}‏ خلقكم لعمارتها، لا على معنى استجدته واستسهلته؛ أي أصبته جيدا وسهلا؛ وهذا يستحيل في الخالق، فيرجع إلى أنه خلق؛ لأنه الفائدة، وقد يعبر عن الشيء بفائدته مجازا؛ ولا يصح أن يقال‏:‏ إنه طلب من الله تعالى لعمارتها، فإن هذا اللفظ لا يجوز في حقه، أما أنه يصح أن يقال‏:‏ أنه استدعى عمارتها فإنه جاء بلفظ استفعل، وهو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه إذا كان أمرا، وطلب للفعل إذا كان من الأدنى إلى الأعلى رغبة‏.‏

قلت‏:‏ لم يذكر استفعل بمعنى أفعل، مثل قوله‏:‏ استوقد بمعنى أوقد، وقد ذكرناه

ويكون فيها دليل على الإسكان والعمرى وقد مضى القول في ‏}‏البقرة‏}‏ في السكنى والرقبى‏.‏ وأما العمرى فاختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها - أنها تمليك لمنافع الرقبة حياة المعمر مدة عمره؛ فإن لم يذكر عقبا فمات المعمر رجعت إلى الذي أعطاها أو لورثته؛ هذا قول القاسم بن محمد ويزيد بن قسيط والليث بن سعد، وهو مشهور مذهب مالك، وأحد أقوال الشافعي، وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ حجة هذا القول‏.‏ الثاني‏:‏ أنها تمليك الرقبة ومنافعها وهي هبة مبتولة؛ وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري والحسن بن حي وأحمد بن حنبل وابن شبرمة وأبي عبيد؛ قالوا‏:‏ من أعمر رجلا شيئا حياته فهو له حياته؛ وبعد وفاته لورثته؛ لأنه قد ملك رقبتها، وشرط المعطى الحياة والعمر باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏العمرى جائزة‏)‏ و‏(‏العمرى لمن وهبت له‏)‏‏.‏ الثالث‏:‏ إن قال عمرك ولم يذكر العقب كان كالقول الأول‏:‏ وإن قال لعقبك كان كالقول الثاني؛ وبه قال الزهري وأبو ثور وأبو سلمة بن عبدالرحمن وابن أبي ذئب، وقد روي عن مالك؛ وهو ظاهر قوله في الموطأ‏.‏ والمعروف عنه وعن أصحابه أنها ترجع إلى المعمر؛ إذا انقرض عقب المعمر؛ إن كان المعمر حيا، وإلا فإلى من كان حيا من ورثته، وأولى الناس بميراثه‏.‏ ولا يملك المعمر بلفظ العمرى عند مالك وأصحابه رقبة شيء من الأشياء، وإنما يملك بلفظ العمرى المنفعة دون الرقبة‏.‏ وقد قال مالك في الحبس أيضا‏:‏ إذا حبس على رجل وعقبه أنه لا يرجع إليه‏.‏ وإن حبس على رجل بعينه حياته رجع إليه، وكذلك العمرى قياسا، وهو ظاهر الموطأ‏.‏ وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أيما رجل أعمر رجلا عمرى له ولعقبه فقال قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد فإنها لمن أعطيها وأنها لا ترجع إلى صاحبها من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث‏)‏ وعنه قال‏:‏ إن العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول‏:‏ هي لك ولعقبك، فأما إذا قال‏:‏ هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها؛ قال معمر‏:‏ وبذلك كان الزهري يفتي‏.‏

قلت‏:‏ معنى القرآن يجري مع أهل القول الثاني؛ لأن الله سبحانه قال‏{‏واستعمركم‏}‏ بمعنى أعمركم؛ فأعمر الرجل الصالح فيها مدة حياته بالعمل الصالح، وبعد موته بالذكر الجميل والثناء الحسن؛ وبالعكس الرجل الفاجر؛ فالدنيا ظرف لهما حياة وموتا‏.‏ وقد يقال‏:‏ إن الثناء الحسن يجري مجرى العقب‏.‏ وفي التنزيل‏{‏واجعل لي لسان صدق في الآخرين‏}‏الشعراء‏:‏ 84‏]‏ أي ثناء حسنا‏.‏ وقيل‏:‏ هو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏{‏وجعلنا ذريته هم الباقين‏}‏الصافات‏:‏ 77‏]‏ وقال‏{‏وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين‏}‏الصافات‏:‏ 113‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاستغفروه‏}‏ أي سلوه المغفرة من عبادة الأصنام‏.‏ ‏}‏ثم توبوا إليه‏}‏ أي ارجعوا إلى عبادته‏.‏ ‏}‏إن ربي قريب مجيب‏}‏ أي قريب الإجابة لمن دعاه‏.‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ عند قوله‏{‏فإني قريب أجيب دعوة الداعي‏}‏ القول فيه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 62 ‏)‏

‏{‏قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا‏}‏ أي كنا نرجو أن تكون فينا سيدا قبل هذا؛ أي قبل دعوتك النبوة‏.‏ وقيل‏:‏ كان صالح يعيب آلهتهم ويشنؤها، وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم، فلما دعاهم إلى الله قالوا‏:‏ انقطع رجاؤنا منك‏.‏ ‏}‏أتنهانا‏}‏ استفهام معناه الإنكار‏.‏ ‏}‏أن نعبد‏}‏ أي عن أن نعبد‏.‏ ‏}‏ما يعبد آباؤنا‏}‏ فأن في محل نصب بإسقاط حرف الجر‏.‏ ‏}‏وإننا لفي شك‏}‏ وفي سورة ‏}‏إبراهيم‏}‏ و‏}‏وإنا‏}‏ والأصل وإننا؛ فاستثقل ثلاث نونات فأسقط الثالثة‏.‏ ‏}‏مما تدعونا‏}‏ الخطاب لصالح، وفي سورة إبراهيم ‏}‏تدعوننا‏}‏إبراهيم‏:‏ 9‏]‏ لأن الخطاب للرسل صلوات الله وسلامه عليهم ‏}‏إليه مريب‏}‏ من أربته فأنا أريبه إذا فعلت به فعلا يوجب لدية الريبة‏.‏ قال الهذلي‏:‏

كنت إذا أتوته من غيب يشم عطفي ويبز ثوبي

كأنما أربته بريب

الآية رقم ‏(‏ 63 ‏)‏

‏{‏قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة‏}‏ تقدم معناه في قول نوح‏.‏ ‏}‏فمن ينصرني من الله إن عصيته‏}‏ استفهام معناه النفي؛ أي لا ينصرني منه إن عصيته أحد‏.‏ ‏}‏فما تزيدونني غير تخسير‏}‏ أي تضليل وإبعاد من الخير؛ قال الفراء‏.‏ والتخسير لهم لا له صلى الله عليه وسلم؛ كأنه قال‏:‏ غير تخسير لكم لا لي‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم؛ عن ابن عباس‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 64 ‏)‏

‏{‏ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويا قوم هذه ناقة الله‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ ‏}‏لكم آية‏}‏ نصب على الحال، والعامل معنى الإشارة أو التنبيه في ‏}‏هذه‏}‏‏.‏ وإنما قيل‏:‏ ناقة الله؛ لأنه أخرجها لهم من جبل - على ما طلبوا - على أنهم يؤمنون‏.‏ وقيل‏:‏ أخرجها من صخرة صماء منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة، فلما خرجت الناقة - على ما طلبوا - قال لهم نبي الله صالح‏{‏هذه ناقة الله لكم آية‏}‏‏.‏ ‏}‏فذروها تأكل‏}‏ أمر وجوابه؛ وحذفت النون من ‏}‏فذروها‏}‏ لأنه أمر‏.‏ ولا يقال‏:‏ وذر ولا واذر إلا شاذا‏.‏ وللنحويين فيه قولان؛ قال سيبويه‏:‏ استغنوا عنه بترك‏.‏ وقال غيره‏:‏ لما كانت الواو ثقيلة وكان في الكلام فعل بمعناه لا واو فيه ألغوه؛ قال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ ويجوز رفع ‏}‏تأكل‏}‏ على الحال والاستئناف‏.‏ ‏}‏ولا تمسوها‏}‏ جزم بالنهي‏.‏ ‏}‏بسوء‏}‏ قال الفراء‏:‏ بعقر‏.‏ ‏}‏فيأخذكم‏}‏ جواب النهي‏.‏ ‏}‏عذاب قريب‏}‏ أي قريب من عقرها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 65 ‏)‏

‏{‏فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب‏}‏

قوله تعالى‏{‏فعقروها‏}‏ إنما عقرها بعضهم؛ وأضيف إلى الكل لأنه كان برضا الباقين‏.‏ وقد تقدم الكلام في عقرها ‏}‏الأعراف‏}‏‏.‏ ويأتي أيضا‏.‏ ‏}‏فقال تمتعوا‏}‏ أي قال لهم صالح تمتعوا؛ أي بنعم الله عز وجل قبل العذاب‏.‏ ‏}‏في داركم‏}‏ أي في بلدكم، ولو أراد المنزل لقال في دوركم‏.‏ وقيل‏:‏ أي يتمتع كل واحد منكم في داره ومسكنه؛ كقوله‏{‏يخرجكم طفلا‏}‏غافر‏:‏ 67‏]‏ أي كل واحد طفلا‏.‏ وعبر عن التمتع بالحياة لأن الميت لا يتلذذ ولا يتمتع بشيء؛ فعقرت يوم الأربعاء، فأقاموا يوم الخميس والجمعة والسبت وأتاهم العذاب يوم الأحد‏.‏ وإنما أقاموا ثلاثة أيام؛ لأن الفصيل رغا ثلاثا على ما تقدم في ‏}‏الأعراف‏}‏ فاصفرت ألوانهم في اليوم الأول، ثم احمرت في الثاني، ثم اسودت في الثالث، وهلكوا في الرابع؛ وقد تقدم في ‏}‏الأعراف‏}‏‏.‏

استدل علماؤنا بإرجاء الله العذاب عن قوم صالح ثلاثة أيام على أن المسافر إذا لم يجمع على إقامة أربع ليال قصر؛ لأن الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإقامة وقد تقدم في ‏}‏النساء‏}‏ ما للعلماء في هذا‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك وعد غير مكذوب‏}‏ أي غير كذب‏.‏ وقيل‏:‏ غير مكذوب فيه‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 66 ‏)‏

‏{‏فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما جاء أمرنا‏}‏ أي عذابنا‏.‏ ‏}‏نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا‏}‏ تقدم‏.‏ ‏}‏ومن خزي يومئذ‏}‏ أي ونجيناهم من خزي يومئذ؛ أي من فضيحته وذلته‏.‏ وقيل‏:‏ الواو زائدة؛ أي نجيناهم من خزي يومئذ‏.‏ ولا يجوز زيادتها عند سيبويه وأهل البصرة، وعند الكوفيين يجوز زيادتها مع ‏}‏لما‏}‏ و‏}‏حتى‏}‏ لا غير‏.‏ وقرأ نافع والكسائي ‏}‏يومئذ‏}‏ بالنصب‏.‏ الباقون بالكسر على إضافة ‏}‏يوم‏}‏ إلى ‏}‏إذ‏}‏ وقال أبو حاتم‏:‏ حدثنا أبو زيد عن أبي عمرو أنه قرأ ‏}‏ومن خزي يومئذ‏}‏ أدغم الياء في الياء، وأضاف، وكسر الميم في ‏}‏يومئذ‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ الذي يرويه النحويون‏:‏ مثل سيبويه ومن قاربه عن أبي عمرو في مثل هذا‏:‏ الإخفاء؛ فأما الإدغام فلا يجوز، لأنه يلتقي ساكنان، ولا يجوز كسر الزاي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 67 ‏)‏

‏{‏وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأخذ الذين ظلموا الصيحة‏}‏ أي في اليوم الرابع صيح بهم فماتوا؛ وذكر لأن الصيحة والصياح واحد‏.‏ قيل‏:‏ صيحة جبريل‏.‏ وقيل‏:‏ صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة؛ وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم وماتوا‏.‏ وقال هنا‏{‏وأخذ الذين ظلموا الصيحة‏}‏ وقال في الأعراف ‏}‏فأخذتهم الرجفة‏}‏الأعراف‏:‏ 78‏]‏ وقد تقدم بيانه هناك‏.‏ وفي التفسير‏:‏ أنهم لما أيقنوا بالعذاب قال بعضهم لبعض ما مقامكم أن يأتيكم الأمر بغتة‏؟‏ ‏!‏ قالوا‏:‏ فما نصنع‏؟‏ فأخذوا سيوفهم ورماحهم وعددهم، وكانوا فيما يقال اثني عشر ألف قبيلة، في كل قبيلة اثنا عشر ألف مقاتل، فوقفوا على الطرق والفجاج، زعموا يلاقون العذاب؛ فأوحى الله تعالى إلى الملك الموكل بالشمس أن يعذبهم بحرها؛ فأدناها من رؤوسهم فاشتوت أيديهم، وتدلت ألسنتهم على صدورهم من العطش، ومات كل ما كان معهم من البهائم‏.‏ وجعل الماء يتفور من تلك العيون من غليانه حتى يبلغ السماء، لا يسقط على شيء إلا أهلكه من شدة حره، فما زالوا كذلك، وأوحى الله إلى ملك الموت ألا يقبض أرواحهم تعذيبا لهم إلى أن غربت الشمس؛ فصيح بهم فأهلكوا‏.‏ ‏}‏فأصبحوا في ديارهم جاثمين‏}‏ أي ساقطين على وجوههم، قد لصقوا بالتراب كالطير إذا جثمت‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 68 ‏)‏

‏{‏كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود‏}‏

الآية رقم ‏(‏ 69 ‏)‏

‏{‏ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى‏}‏ هذه قصة لوط عليه السلام؛ وهو ابن عم إبراهيم عليه السلام لحا، وكانت قوى لوط بنوا حي الشام، وإبراهيم ببلاد فلسطين، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط مروا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان كل من نزل عنده يحسن قراه، وكانوا مروا ببشارة إبراهيم، فظنهم أضيافا‏.‏ ‏(‏وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام‏)‏؛ قاله ابن عباس‏.‏ الضحاك‏:‏ كانوا تسعة‏.‏ السدي‏:‏ أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الحسان الوجوه، ذو وضاءة وجمال بارع‏.‏ ‏}‏بالبشري‏}‏ قيل‏:‏ بالولد‏.‏ وقيل‏:‏ بإهلاك قوم لوط‏.‏ وقيل‏:‏ بشروه بأنهم رسل الله عز وجل، وأنه لا خوف عليه‏.‏ ‏}‏قالوا سلاما‏}‏ نصب بوقوع الفعل عليه؛ كما تقول‏:‏ قالوا خيرا‏.‏ وهذا اختيار الطبري‏.‏ وأما قوله‏{‏سيقولون ثلاثة‏}‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ فالثلاثة اسم غير قول مقول‏.‏ ولو رفعا جميعا أو نصبا جميعا ‏}‏قالوا سلاما قال سلام‏}‏ جاز في العربية‏.‏ قيل‏:‏ انتصب على المصدر‏.‏ وقيل‏{‏قالوا سلاما‏}‏ أي فاتحوه بصواب من القول‏.‏ كما قال‏{‏وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما‏}‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏ أي صوابا؛ فسلاما معنى قولهم لا لفظه؛ قال، معناه ابن العربي واختاره‏.‏ قال‏:‏ ألا ترى أن الله تعالى لما أراد ذكر اللفظ قاله بعينه فقال، مخبرا عن الملائكة‏{‏سلام عليكم بما صبرتم‏}‏الرعد‏:‏ 24‏]‏ ‏}‏سلام عليكم طبتم‏}‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ وقيل‏:‏ دعوا له؛ والمعنى سلمت سلاما‏.‏ ‏}‏قال سلام‏}‏ في رفعه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ على إضمار مبتدأ أي هو سلام، وأمري سلام‏.‏ والآخر بمعنى سلام عليكم إذا جعل بمعنى التحية؛ فأضمر الخبر‏.‏ وجاز سلام على التنكير لكثرة استعماله، فحذف الألف واللام كما حذفت من لا هم في قولك اللهم‏.‏ وقرئ ‏}‏سلم‏}‏ قال الفراء‏:‏ السلم والسلام بمعنى؛ مثل الحل والحلال‏.‏

قوله تعالى‏{‏فما لبث أن جاء‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ بمعنى حتى، قاله كبراء النحويين؛ حكاه ابن العربي‏.‏ التقدير‏:‏ فما لبث حتى جاء‏.‏ وقيل‏{‏أن‏}‏ في موضع نصب بسقوط حرف الجر؛ التقدير‏:‏ فما لبث عن أن جاء؛ أي ما أبطأ عن مجيئه بعجل؛ فلما حذف حرف الجر بقي ‏}‏أن‏}‏ في محل النصب‏.‏ وفي ‏}‏لبث‏}‏ ضمير اسم إبراهيم‏.‏ و‏}‏ما‏}‏ نافية؛ قال سيبويه‏.‏ وقال الفراء‏:‏ فما لبث مجيئه؛ أي ما أبطأ مجيئه؛ فأن في موضع رفع، ولا ضمير في ‏}‏لبث‏}‏، و‏}‏ما‏}‏ نافية؛ ويصح أن تكون ‏}‏ما‏}‏ بمعنى الذي، وفي ‏}‏لبث‏}‏ ضمير إبراهيم و‏}‏أن جاء‏}‏ خبر ‏}‏ما‏}‏ أي فالذي لبث إبراهيم هو مجيئه بعجل حنيذ‏.‏ و‏}‏حنيذ‏}‏ مشوي‏.‏ وقيل‏:‏ هو المشوي بحر الحجارة من غير أن تمسه النار‏.‏ يقال‏:‏ حنذت الشاة أحنذها حنذا أي شويتها، وجعلت فوقها حجارة محماة لتنضجها فهي حنيذ‏.‏ وحنذت الفرس أحنذه حنذا، وهو أن تحضره شوطا أو شوطين ثم تظاهر عليه الجلال في الشمس ليعرق، فهو محنوذ وحنيذ؛ فإن لم يعرق قيل‏:‏ كبا‏.‏ وحنذ موضع قريب من المدينة‏.‏ وقيل‏:‏ الحنيذ السميط‏.‏ ابن عباس وغيره‏:‏ ‏(‏حنيذ نضيج‏.‏ وحنيذ بمعنى محنوذ‏)‏؛ وإنما جاء بعجل لأن البقر كانت أكثر أموال‏.‏

في هذه الآية من أدب الضيّف أن يعجل قراه، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان له جدة، ولا يتكلف ما يضر به‏.‏ والضيافة من مكارم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خلق النبيين والصالحين‏.‏ وإبراهيم أول من أضاف على ما تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ وليست بواجبة عند عامة أهل العلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة فما كان وراء ذلك فهو صدقة‏)‏‏.‏ والجائزة العطية والصلة التي أصلها على الندب‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه‏)‏‏.‏ وإكرام الجار ليس بواجب إجماعا، فالضيافة مثله‏.‏ والله أعلم‏.‏ وذهب الليث إلى وجوبها تمسكا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليلة الضيف حق‏)‏ إلى غير ذلك من الأحاديث‏.‏ وفيما أشرنا إليه كفاية، والله الموفق للهداية‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وقد قال قوم‏:‏ إن وجوب الضيافة كان في صدر الإسلام ثم نسخ، وهذا ضعيف؛ فإن الوجوب لم يثبت، والناسخ لم يرد؛ وذكر حديث أبي سعيد الخدري خرجه الأئمة، وفيه‏:‏ ‏(‏فاستضفناهم فأبوا أن يضيفونا فلدغ سيد ذلك الحي‏)‏ الحديث‏.‏ وقال‏:‏ هذا ظاهر في أن الضيافة لو كانت حقا للام النبي صلى الله عليه وسلم القوم الذين أبوا، ولبين لهم ذلك‏.‏

اختلف العلماء فيمن يخاطب بها؛ فذهب الشافعي ومحمد بن عبدالحكم إلى أن المخاطب بها أهل الحضر والبادية‏.‏ وقال مالك‏:‏ ليس على أهل الحضر ضيافة‏.‏ قال سحنون‏:‏ إنما الضيافة على أهل القرى، وأما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر حكى اللغتين صاحب العين وغيره‏.‏ واحتجوا بحديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر‏)‏‏.‏ وهذا حديث لا يصح، وإبراهيم ابن أخي عبدالرزاق متروك الحديث منسوب إلى الكذب، وهذا مما انفرد به، ونسب إلى وضعه؛ قال أبو عمر بن عبدالبر‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ الضيافة حقيقة فرض على الكفاية، ومن الناس من قال‏:‏ إنها واجبة في القرى حيث لا طعام ولا مأوى، بخلاف الحواضر فإنها مشحونة بالمأواة والأقوات؛ ولا شك أن الضيف كريم، والضيافة كرامة؛ فإن كان غريبا فهي فريضة‏.‏

قال ابن العربي قال بعض علمائنا‏:‏ كانت ضيافة إبراهيم قليلة فشكرها الحبيب من الحبيب، وهذا حكم بالظن في موضع القطع، وبالقياس في موضع النقل؛ من أين علم أنه قليل‏؟‏ ‏!‏ بل قد نقل المفسرون أن الملائكة كانوا ثلاثة؛ جبريل وميكائيل وإسرافيل صلى الله عليهم وسلم؛ وعجل لثلاثة عظيم؛ فما هذا التفسير لكتاب الله بالرأي‏!‏ هذا بأمانة الله هو التفسير المذموم فاجتنبوه فقد علمتموه‏.‏

السنة إذا قدم للضيف الطعام أن يبادر المقدِّم إليه بالأكل؛ فإن كرامة الضيف تعجيل التقديم؛ وكرامة صاحب المنزل المبادرة بالقبول؛ فلما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم؛ لأنهم خرجوا عن العادة وخالفوا السنة، وخاف أن يكون وراءهم مكروه يقصدونه‏.‏ وروي أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إلى اللحم، فلما رأى ذلك منهم ‏}‏نكرهم وأوجس منهم خيفة‏}‏ أي أضمر‏.‏ وقيل‏:‏ أحس؛ والوجوس الدخول؛ قال الشاعر‏:‏

جاء البريد بقرطاس يخب به فأوجس القلب من قرطاسه جزعا

‏{‏خيفة‏}‏ خوفا؛ أي فزعا‏.‏ وكانوا إذا رأوا الضيف لا يأكل ظنوا به شرا؛ فقالت الملائكة ‏}‏لا تخف إنا أرسلنا إلى لوط‏}‏

من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر في ضيفه هل يأكل أم لا‏؟‏ وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر‏.‏ روي أن أعرابيا أكل مع سليمان بن عبدالملك، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة فقال له‏:‏ أزل الشعرة عن لقمتك‏؟‏ فقال له‏:‏ أتنظر إلي نظر من يرى الشعرة في لقمتي‏؟‏ ‏!‏ والله لا أكلت معك‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكر أن هذه الحكاية إنما كانت مع هشام بن عبدالملك لا مع سليمان، وأن الأعرابي خرج من عنده وهو يقول‏:‏

وللموت خير من زيارة باخل يلاحظ أطراف الأكيل على عمد

الآية رقم ‏(‏ 70 ‏)‏

‏{‏فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط‏}‏

قوله تعالى‏{‏قلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم‏}‏ يقول‏:‏ أنكرهم؛ تقول‏:‏ نكرتك وأنكرتك واستنكرتك إذا وجدته على غير ما عهدته؛ قال الشاعر‏:‏

وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا

فجمع بين اللغتين‏.‏ ويقال‏:‏ نكرت لما تراه بعينك‏.‏ وأنكرت لما تراه بقلبك‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 71 ‏)‏

‏{‏وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب‏}‏

قوله تعالى‏{‏وامرأته قائمة‏}‏ ابتداء وخبر، أي قائمة بحيث ترى الملائكة‏.‏ قيل‏:‏ كانت من وراء الستر‏.‏ وقيل‏:‏ كانت تخدم الملائكة وهو جالس‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ قائمة تصلي‏.‏ وفي قراءة عبدالله بن مسعود ‏}‏وامرأته قائمة وهو قاعد‏}‏‏.‏ ‏}‏فضحكت‏}‏ قال مجاهد وعكرمة‏:‏ حاضت، وكانت آيسة؛ تحقيقا للبشارة؛ وأنشد على ذلك اللغويون‏:‏

وإني لآتي العرس عند طهورها وأهجرها يوما إذا تك ضاحكا

وقال آخر‏:‏

وضحكت الأرانب فوق الصفا كمثل دم الجوف يوم اللقا

والعرب تقول‏:‏ ضحكت الأرنب إذا حاضت؛ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة؛ أخذ من قولهم‏:‏ ‏(‏ضحكت الكافورة - وهي قشرة الطلعة - إذا انشقت‏)‏‏.‏ وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى حاضت‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ هو الضحك المعروف، واختلفوا فيه؛ فقيل‏:‏ هو ضحك التعجب؛ قال أبو ذؤيب‏:‏

فجاء بمزج لم ير الناس مثله هو الضحك إلا أنه عمل النحل

وقال مقاتل‏:‏ ضحكت من خوف إبراهيم، ورعدته من ثلاثة نفر، وإبراهيم في حشمه وخدمه؛ وكان إبراهيم يقوم وحده بمائة رجل‏.‏ قال‏:‏ وليس الضحك الحيض في اللغة بمستقيم‏.‏ وأنكر أبو عبيد والفراء ذلك؛ قال الفراء‏:‏ لم أسمعه من ثقة؛ وإنما هو كناية‏.‏ وروي أن الملائكة مسحت العجل، فقام من موضعه فلحق بأمه، فضحكت سارة عند ذلك فبشروها بإسحاق‏.‏ ويقال‏:‏ كان إبراهيم عليه السلام إذا أراد أن يكرم أضيافه أقام سارة تخدمهم، فذلك قوله‏{‏وامرأته قائمة‏}‏ أي قائمة في خدمتهم‏.‏ ويقال‏{‏قائمة‏}‏ لروع إبراهيم ‏}‏فضحكت‏}‏ لقولهم‏{‏لا تخف‏}‏ سرورا بالأمن‏.‏ وقال الفراء‏:‏ فيه تقديم وتأخير؛ المعنى‏:‏ فبشرناها بإسحاق فضحكت، أي ضحكت سرورا بالولد، وقد هرمت، والله أعلم أي ذلك كان‏.‏ قال النحاس فيه أقوال‏:‏ أحسنها - أنهم لما لم يأكلوا أنكرهم وخافهم؛ فلما قالوا لا تخف، وأخبروه أنهم رسل الله، فرح بذلك، فضحكت امرأته سرورا بفرحه‏.‏ وقيل‏:‏ إنها كانت قالت له‏:‏ أحسب أن هؤلاء القوم سينزل بهم عذاب فضم لوطا إليك، فلما جاءت الرسل بما قالته سرت به فضحكت؛ قال النحاس‏:‏ وهذا إن صح إسناده فهو حسن‏.‏ والضحك انكشاف الأسنان‏.‏ ويجوز أن يكون الضحك إشراق الوجه؛ تقول‏:‏ رأيت فلانا ضاحكا؛ أي مشرقا‏.‏ وأتيت على روضة تضحك؛ أي مشرقة‏.‏ وفي الحديث ‏(‏إن الله سبحانه يبعث السحاب فيضحك أحسن الضحك‏)‏‏.‏ جعل انجلاءه عن البرق ضحكا؛ وهذا كلام مستعار‏.‏ وروي عن رجل من قراء مكة يقال له محمد بن زياد الأعرابي‏.‏ ‏}‏فضحكت‏}‏ بفتح الحاء؛ قال المهدوي؛ وفتح ‏}‏الحاء‏}‏ من ‏}‏فضحكت‏}‏ غير معروف‏.‏ وضَحِك يضْحَك ضَحْكا وضِحْكا وضِحِكا وضَحِكا أربع لغات‏.‏ والضَّحْكة المرة الواحدة، ومنه قول كثير‏:‏

غلقت لضحكته رقاب المال

قاله الجوهري‏:‏

روى مسلم عن سهل بن سعد قال‏:‏ دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه، فكانت امرأته يومئذ خادمهم وهي العروس‏.‏ قال سهل‏:‏ أتدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ أنقعت له تمرات من الليل في تور، فلما أكل سقته إياه‏.‏ وأخرجه البخاري وترجم له (1)‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ فيه جواز خدمة العروس زوجها وأصحابه في عرسها‏.‏ وفيه أنه لا بأس أن يعرض الرجل أهله على صالح إخوانه، ويستخدمهن لهم‏.‏ ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول الحجاب‏.‏ والله أعلم‏.‏

ذكر الطبري أن إبراهيم عليه السلام لما قدم العجل قالوا‏:‏ لا نأكل طعاما إلا بثمن؛ فقال لهم‏{‏ثمنه أن تذكروا الله في أوله وتحمدوه في آخره‏}‏ فقال جبريل لأصحابه‏:‏ بحق اتخذ الله هذا خليلا‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ ولم يأكلوا لأن الملائكة لا تأكل‏.‏ وقد كان من الجائز كما يسر الله للملائكة أن يتشكلوا في صفة الآدمي جسدا وهيئة أن ييسر لهم أكل الطعام؛ إلا أنه في قول العلماء أرسلهم في صفة الآدمي وتكلف إبراهيم عليه السلام الضيافة حتى إذا رأى التوقف وخاف جاءته البشرى فجأة‏.‏ ودل هذا على أن التسمية في أول الطعام، والحمد في آخره مشروع في الأمم قبلنا؛ وقد جاء في الإسرائيليات أن إبراهيم عليه السلام كان لا يأكل وحده؛ فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه؛ فلقي يوما رجلا، فلما جلس معه على الطعام، قال له إبراهيم‏:‏ سم الله، قال الرجل لا أدري ما الله‏؟‏ فقال له‏:‏ فاخرج عن طعامي، فلما خرج نزل إليه جبريل فقال له‏:‏ يقول الله إنه يرزقه على كفره مدى عمره وأنت بخلت عليه بلقمة؛ فخرج إبراهيم فزعا يجر رداءه، وقال‏:‏ ارجع، فقال‏:‏ لا أرجع حتى تخبرني لم تردني لغير معنى‏؟‏ فأخبره بالأمر؛ فقال‏:‏ هذا رب كريم، آمنت؛ ودخل وسمى الله وأكل مؤمنا‏.‏

قوله تعالى‏{‏فبشرناها بإسحاق‏}‏ لما ولد لإبراهيم إسماعيل من هاجر تمنت سارة أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنها، فبشرت بولد يكون نبيا ويلد نبيا، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها‏.‏ ‏}‏ومن وراء إسحاق يعقوب‏}‏ قرأ حمزة وعبدالله بن عامر ‏}‏يعقوب‏}‏ بالنصب‏.‏ ورفع الباقون؛ فالرفع على معنى‏:‏ ويحدث لها من وراء إسحاق يعقوب‏.‏ ويجوز أن يرتفع بالفعل الذي يعمل في ‏}‏من‏}‏ كأن المعنى‏:‏ وثبت لها من وراء إسحاق يعقوب‏.‏ ويجوز أن يرتفع بالابتداء، ويكون في موضع الحال؛ أي بشروها بإسحاق مقابلا له يعقوب‏.‏ والنصب على معنى‏:‏ ووهبنا لها من وراء إسحاق يعقوب‏.‏ وأجاز الكسائي والأخفش وأبو حاتم أن يكون ‏}‏يعقوب‏}‏ في موضع جر على معنى‏:‏ وبشرناها من وراء إسحاق بيعقوب‏.‏ قال الفراء‏:‏ ولا يجوز الخفض إلا بإعادة الحرف الخافض؛ قال سيبويه ولو قلت‏:‏ مررت بزيد أول من أمس وأمس عمرو كان قبيحا خبيثا؛ لأنك فرقت بين المجرور وما يشركه وهو الواو، كما فرقت بين الجار والمجرور؛ لأن الجار لا يفصل بينه وبين المجرور، ولا بينه وبين الواو‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 72 ‏)‏

‏{‏قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا ويلتا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أصلها يا ويلتي؛ فأبدل من الياء ألف، لأنها أخف من الياء والكسرة؛ ولم ترد الدعاء على نفسها بالويل، ولكنها كلمة تخف على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه؛ وعجبت من ولادتها ومن كون بعلها شيخا لخروجه عن العادة، وما خرج عن العادة مستغرب ومستنكر‏.‏ و‏}‏أألد‏}‏ استفهام معناه التعجب‏.‏ ‏}‏وأنا عجوز‏}‏ أي شيخة‏.‏ ولقد عجزت تعجز عجزا وعجزت تعجيزا؛ أي طعنت في السن‏.‏ وقد يقال‏:‏ عجوزة أيضا‏.‏ وعجزت المرأة بكسر الجيم؛ عظمت عجيزتها عجزا وعجزا بضم العين وفتحها‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كانت بنت تسع وتسعين سنة‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ كانت بنت تسعين سنة‏.‏ وقيل غير هذا‏.‏

قوله تعالى‏{‏وهذا بعلي شيخا‏}‏ ‏}‏وهذا بعلي‏}‏ أي زوجي‏.‏ ‏}‏شيخا‏}‏ نصب على الحال، والعامل فيه التنبيه أو الإشارة‏.‏ ‏}‏وهذا بعلي‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ وفي قراءة ابن مسعود وأبي ‏}‏وهذا بعلي شيخ‏}‏ قال النحاس‏:‏ كما تقول هذا زيد قائم؛ فزيد بدل من هذا؛ وقائم خبر الابتداء‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏هذا‏}‏ مبتدأ ‏}‏وزيد قائم‏}‏ خبرين؛ وحكى سيبويه‏:‏ هذا حلو حامض‏.‏ وقيل‏:‏ كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ ابن مائة فكان يزيد عليها في قول مجاهد سنة‏.‏ وقيل‏:‏ إنها عرضت بقولها‏{‏وهذا بعلي شيخا‏}‏ أي عن ترك غشيانه لها‏.‏ وسارة هذه امرأة إبراهيم بنت هاران بن ناحور بن شاروع بن أرغو بن فالغ، وهي بنت عم إبراهيم‏.‏ ‏}‏إن هذا لشيء عجيب‏}‏ أي الذي بشرتموني به لشيء عجيب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 73 ‏)‏

‏{‏قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا أتعجبين من أمر الله‏}‏ لما قالت‏{‏وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا‏}‏ وتعجبت، أنكرت الملائكة عليها تعجبها من أمر الله، أي من قضائه‏.‏ وقدره، أي لا عجب من أن يرزقكما الله الولد، وهو إسحاق‏.‏ وبهذه الآية استدل كثير من العلماء على أن الذبيح إسماعيل، وأنه أسن من إسحاق؛ لأنها بشرت بأن إسحاق يعيش حتى يولد له يعقوب‏.‏ وسيأتي الكلام في هذا؛ وبيانه في ‏}‏الصافات‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏رحمة الله وبركاته‏}‏ مبتدأ، والخبر ‏}‏عليكم‏}‏‏.‏ وحكى سيبويه ‏}‏عليكم‏}‏ بكسر الكاف لمجاورتها الياء‏.‏ وهل هو خبر أو دعاء‏؟‏ وكونه إخبارا أشرف؛ لأن ذلك يقتضي حصول الرحمة والبركة لهم، المعنى‏:‏ أوصل الله لكم رحمته وبركاته أهل البيت‏.‏ وكونه دعاء إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل به بعد‏.‏ ‏}‏أهل البيت‏}‏ نصب على الاختصاص؛ وهذا مذهب سيبويه‏.‏ وقيل‏:‏ على النداء‏.‏

هذه الآية تعطي أن زوجة الرجل، من أهل البيت؛ فدل، هذا على أن أزواج الأنبياء من أهل البيت؛ فعائشة رضي الله عنها وغيرها من جملة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ ممن قال الله فيهم‏{‏ويطهركم تطهيرا‏}‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏ وسيأتي‏.‏

ودلت الآية أيضا على أن منتهى السلام ‏}‏وبركاته‏}‏ كما أخبر الله عن صالحي عباده ‏}‏رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت‏}‏‏.‏ والبركة النمو والزيادة؛ ومن تلك البركات أن جميع الأنبياء والمرسلين كانوا في ولد إبراهيم وسارة‏.‏ وروى مالك عن وهب بن كيسان أبي نعيم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال‏:‏ كنت جالسا عند عبدالله بن عباس فدخل عليه رجل من أهل اليمن فقال‏:‏ السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ ثم زاد شيئا مع ذلك؛ فقال، ابن عباس - وهو يومئذ قد ذهب بصره - من هذا‏؟‏ فقالوا اليماني الذي يغشاك، فعرفوه إياه، فقال‏:‏ ‏(‏إن السلام انتهى إلى البركة‏)‏‏.‏ وروي عن علي رضى الله عنه أنه قال‏:‏ دخلت المسجد فإذا أنا بالنبي صلى الله عليه وسلم في عصبة من أصحابه، فقلت‏:‏ السلام عليكم؛ فقال‏:‏ ‏(‏وعليك السلام ورحمة الله عشرون لي وعشرة لك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ودخلت الثانية؛ فقلت‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله فقال‏:‏ ‏(‏وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وعشرون لك‏)‏‏.‏ فدخلت الثالثة فقلت‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏:‏ فقال‏:‏ ‏(‏وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وثلاثون لك أنا وأنت في السلام سواء‏)‏‏.‏ ‏}‏إنه حميد مجيد‏}‏ أي محمود ماجد‏.‏ وقد بيناهما في ‏}‏الأسماء الحسنى‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 74 ‏:‏ 75 ‏:‏ 76 ‏)‏

‏{‏فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط، إن إبراهيم لحليم أواه منيب، يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما ذهب عن إبراهيم الروع‏}‏ أي الخوف؛ يقال‏:‏ ارتاع من كذا إذا خاف؛ قال النابغة‏:‏

فارتاع من صوت كلاب فبات له طوع الشوامت من خوف ومن صرد

‏{‏وجاءته البشرى‏}‏ أي بإسحاق ويعقوب‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بشروه بأنهم إنما أتوا بالعذاب إلى قوم لوط، وأنه لا يخاف‏.‏ ‏}‏يجادلنا‏}‏ أي يجادل رسلنا، وأضافه إلى نفسه، لأنهم نزلوا بأمره‏.‏ وهذه المجادلة رواها حميد بن هلال عن جندب عن حذيفة؛ وذلك أنهم لما قالوا‏{‏إنا مهلكو أهل هذه القرية‏}‏العنكبوت‏:‏ 31‏]‏ قال لهم‏:‏ أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فأربعون‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فثلاثون‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فعشرون‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فإن كان فيها عشرة - أو خمسة شك حميد - قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال قتادة‏:‏ نحوا منه؛ قال فقال يعني إبراهيم‏:‏ قوم ليس فيهم عشرة من المسلمين لا خير فيهم‏.‏ وقيل إن إبراهيم قال‏:‏ أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ فقال إبراهيم عند ذلك‏{‏إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين‏}‏العنكبوت‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وقال عبدالرحمن ابن سمرة‏:‏ كانوا أربعمائة ألف‏.‏ ابن جريج‏.‏ وكان في قرى قوم لوط أربعة آلاف ألف‏.‏ ومذهب الأخفش والكسائي أن ‏}‏يجادلنا‏}‏ في موضع ‏}‏جادلنا‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ لما كان جواب ‏}‏لما‏}‏ يجب أن يكون بالماضي جعل المستقبل مكانه؛ كما أن الشرط يجب أن يكون بالمستقبل فجعل الماضي مكانه‏.‏ وفيه جواب آخر‏:‏ أن يكون ‏}‏يجادلنا‏}‏ في موضع الحال؛ أي أقبل يجادلنا؛ وهذا قول الفراء‏.‏ ‏}‏إن إبراهيم لحليم ‏:‏ لأواه منيب‏}‏ تقدم في ‏}‏براءة‏}‏ معنى ‏}‏لأواه حليم‏}‏التوبة‏:‏ 114‏]‏ والمنيب الراجع؛ يقال‏:‏ إذا رجع‏.‏ وإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان راجعا إلى الله تعالى في أمور كلها‏.‏ وقيل‏:‏ الأواه المتأوه أسفا على ما قد فات قوم لوط من الإيمان‏.‏

قوله تعالى‏{‏يا إبراهيم أعرض عن هذا‏}‏ أي دع عنك الجدال في قوم لوط‏.‏ ‏}‏إنه قد جاء أمر ربك‏}‏ أي عذابه لهم‏.‏ ‏}‏إنهم آتيهم‏}‏ أي نازل بهم‏.‏ ‏}‏عذاب غير مردود‏}‏ أي غير مصروف عنهم ولا مدفوع‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 77 ‏)‏

‏{‏ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم‏}‏ لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ بصرت بنتا لوط - وهما تستقيان - بالملائكة ورأتا هيئة حسنة، فقالتا‏:‏ ما شأنكم‏؟‏ ومن أين أقبلتم‏؟‏ قالوا‏:‏ من موضع كذا نريد هذه القرية قالتا‏:‏ فإن أهلها أصحاب الفواحش؛ فقالوا‏:‏ أبها من يضيفنا‏؟‏ قالتا‏:‏ نعم‏!‏ هذا الشيخ وأشارتا إلى لوط؛ فلما رأى لوط هيئتهم خاف قومه، عليهم‏.‏ ‏}‏سيء بهم‏}‏ أي ساءه مجيئهم؛ يقال‏:‏ ساء بسوء فهو لازم، وساءه يسوءه فهو متعد أيضا، وإن شئت ضممت السين؛ لأن أصلها الضم، والأصل سوئ بهم من السوء؛ قلبت حركة الواو على السين فانقلبت ياء، وإن خففت الهمزة ألقيت حركتها على الياء فقلت‏{‏سي بهم‏}‏ مخففا، ولغة شاذة بالتشديد‏.‏ ‏}‏وضاق بهم ذرعا‏}‏ أي ضاق صدره بمجيئهم وكرهه‏.‏ وقيل‏:‏ ضاق وسعه وطاقته‏.‏ وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه؛ فإذا حمل على أكثر من طوقه ضاق عن ذلك، وضعف ومد عنقه؛ فضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع‏.‏ وقيل‏:‏ هو من ذرعه القيء أي غابه؛ أي ضاق عن حبسه المكروه في نفسه، وإنما ضاق ذرعه بهم لما رأى من جمالهم، وما يعلم من فسق قومه‏.‏ ‏}‏وقال هذا يوم عصيب‏}‏ أي شديد في الشر‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

وإنك إلا ترض بكر بن وائل يكن لك يوم بالعراق عصيب

وقال آخر‏:‏

يوم عصيب يعصب الأبطالا عصب القوي السلم الطوالا

ويقال‏:‏ عصيب وعصبصب على التكثير؛ أي مكروه مجتمع الشر وقد‏.‏ عصب؛ أي عصب بالشر عصابة، ومنه قيل‏:‏ عصبة وعصابة أي مجتمعو الكلمة؛ أي مجتمعون في أنفسهم‏.‏ وعصبة الرجل المجتمعون معه في النسب؛ وتعصبت لفلان صرت كعصبته، ورجل معصوب، أي مجتمع الخلق‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 78 ‏)‏

‏{‏وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏وجاءه قومه يهرعون إليه‏}‏ في موضع الحال‏.‏ ‏}‏يهرعون‏}‏ أي يسرعون‏.‏ قال الكسائي والفراء وغيرهما من أهل اللغة‏:‏ لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة؛ يقال‏:‏ أهرع الرجل إهراعا أي أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حمى، وهو مهرع؛ قال مهلهل‏:‏

فجاؤوا يهرعون وهم أسارى نقودهم على رغم الأنوف

وقال آخر‏:‏

بمعجلات نحوه مهارع

وهذا مثل‏:‏ أولع فلان بالأمر، وأرعد زيد‏.‏ وزهي فلان‏.‏ وتجيء ولا تستعمل إلا على هذا الوجه‏.‏ وقيل‏:‏ أهرع أي أهرعه حرصه؛ وعلى هذا ‏}‏يهرعون‏}‏ أي يستحثون عليه‏.‏ ومن قال بالأول قال‏:‏ لم يسمع إلا أهرع الرجل أي أسرع؛ على لفظ ما لم يسم فاعله‏.‏ قال ابن القوطية‏:‏ هرع الإنسان هرعا، وأهرع‏:‏ سيق واستعجل‏.‏ وقال الهروي يقال‏:‏ هرع الرجل وأهرع أي استحث‏.‏ قال ابن عباس وقتادة والسدي‏:‏ ‏(‏‏}‏يهرعون‏}‏ يهرولون‏)‏‏.‏ الضحاك‏:‏ يسعون‏.‏ ابن عيينة‏:‏ كأنهم يدفعون‏.‏ وقال شمر بن عطية‏:‏ هو مشي بين الهرولة والجَمَزَى‏.‏ وقال الحسن‏:‏ مشي بين مشيين؛ والمعنى متقارب‏.‏ وكان سبب إسراعهم ما روي أن امرأة لوط الكافرة، لما رأت الأضياف وجمالهم وهيئتهم، خرجت حتى أتت مجالس قومها، فقالت لهم‏:‏ إن لوطا قد أضاف الليلة فتية ما رئي مثلهم جمال؛ وكذا وكذا؛ فحينئذ جاؤوا يهرعون إليه‏.‏ ويذكر أن الرسل لما وصلوا إلى بلد لوط وجدوا لوطا في حرث له‏.‏ وقيل‏:‏ وجدوا ابنته تستقي ماء من نهر سدوم؛ فسألوها الدلالة على من يضيفهم، ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط، وقالت لهم‏:‏ مكانكم‏!‏ وذهبت إلى أبيها فأخبرته؛ فخرج إليهم؛ فقالوا‏:‏ نريد أن تضيفنا الليلة؛ فقال لهم‏:‏ أوما سمعتم بعمل هؤلاء القوم‏؟‏ فقالوا‏:‏ وما عملهم‏؟‏ فقال أشهد بالله إنهم لشر قوم في الأرض - وقد كان الله عز وجل، قال لملائكته لا تعذبوهم حتى يشهد لوط عليهم أربع شهادات - فلما قال لوط هذه المقالة، قال جبريل لأصحابه‏:‏ هذه واحدة، وتردد القول بينهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات، ثم دخل بهم المدينة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن قبل‏}‏ أي ومن قبل مجيء الرسل‏.‏ وقيل‏:‏ من قبل لوط‏.‏ ‏}‏كانوا يعملون السيئات‏}‏ أي كانت عادتهم إتيان الرجال‏.‏ فلما جاؤوا إلى لوط وقصدوا أضيافه قام إليهم لوط مدافعا، وقال‏{‏هؤلاء بناتي‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ وقد اختلف في قوله‏{‏هؤلاء بناتي‏}‏ فقيل‏:‏ كان له ثلاث بنات من صلبه‏.‏ وقيل‏:‏ بنتان؛ زيتا وزعوراء؛ فقيل‏:‏ كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه‏.‏ وقيل‏:‏ ندبهم في هذه الحالة إلى النكاح، وكانت سنتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة؛ وقد كان هذا في أول الإسلام جائزا ثم نسخ؛ فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنتا له من عتبة بن أبي لهب، والأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي، وكانا كافرين‏.‏ وقالت فرقة - منهم مجاهد وسعيد بن جبير - أشار بقوله‏{‏بناتي‏}‏ إلى النساء جملة؛ إذ نبي القوم أب لهم؛ ويقوي هذا أن في قراءة ابن مسعود‏.‏ ‏}‏النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم‏}‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إنما كان الكلام مدافعة ولم يرد إمضاءه؛ روي هذا القول عن أبي عبيدة؛ كما يقال لمن ينهى عن أكل مال الغير‏:‏ الخنزير أحل لك من هذا‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ لم يعرض عليهم بناته ولا بنات أمته، وإنما قال لهم هذا لينصرفوا‏.‏

قوله تعالى‏{‏هن أطهر لكم‏}‏ ابتداء وخبر؛ أي أزوجكموهن؛ فهو أطهر لكم مما تريدون، أي أحل‏.‏ والتطهر التنزه عما لا يحل‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏كان رؤساؤهم خطبوا بناته فلم يجبهم، وأراد ذلك اليوم أن يفدي أضيافه ببناته‏)‏‏.‏ وليس ألف ‏}‏أطهر‏}‏ للتفضيل حتى يتوهم أن في نكاح الرجال طهارة، بل هو كقولك‏:‏ الله أكبر وأعلى وأجل، وإن لم يكن تفضيل؛ وهذا جائز شائع في كلام العرب، ولم يكابر الله تعالى أحد حتى يكون الله تعالى أكبر منه‏.‏ وقد قال أبو سفيان بن حرب يوم أحد‏:‏ اعل هبل اعل هبل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر‏:‏ ‏(‏قل الله أعلى وأجل‏)‏‏.‏ وهبل لم يكن قط عاليا ولا جليلا‏.‏ وقرأ العامة برفع الراء‏.‏ وقرأ الحسن وعيسى بن عمرو ‏}‏هن أطهر‏}‏ بالنصب على الحال‏.‏ و‏}‏هن‏}‏ عماد‏.‏ ولا يجيز الخليل وسيبويه والأخفش أن يكون ‏}‏هن‏}‏ ههنا عمادا، وإنما يكون عمادا فيما لا يتم الكلام إلا بما بعدها، نحو كان زيد هو أخاك، لتدل بها على أن الأخ ليس بنعت‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويدل بها على أن كان تحتاج إلى خبر‏.‏ وقال غيره‏:‏ يدل بها على أن الخبر معرفة أو ما قارنها‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي‏}‏ أي لا تهينوني ولا تذلوني‏.‏ ومنه قول حسان‏:‏

فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق

مددت يمينا للنبي تعمدا ودميت فاه قطعت بالبوارق

ويجوز أن يكون من الخزاية، وهو الحياء، والخجل؛ قال ذو الرمة‏:‏

خزاية أدركته بعد جولته من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب

وقال آخر‏:‏

من البيض لا تخزى إذا الريح ألصقت بها مرطها أو زايل الحلي جيدها

وضيف يقع للاثنين والجميع على لفظ الواحد، لأنه في الأصل مصدر؛ قال الشاعر‏:‏

لا تعدمي الدهر شفار الجازر للضيف والضيف أحق زائر

ويجوز فيه التثنية والجمع؛ والأول أكثر كقولك‏:‏ رجال صوم وفطر وزور‏.‏ وخزي الرجل خزاية؛ أي استحيا مثل ذل وهان‏.‏ وخزي خزيا إذا افتضح؛ يخزى فيهما جميعا‏.‏ ثم وبخهم بقوله‏{‏أليس منكم رجل رشيد‏}‏ أي شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر‏.‏ وقيل‏{‏رشيد‏}‏ أي ذو رشد‏.‏ أو بمعنى راشد أو مرشد، أي صالح أو مصلح ابن عباس‏:‏ مؤمن‏.‏ أبو مالك‏:‏ ناه عن المنكر‏.‏ وقيل‏:‏ الرشيد بمعنى الرشد؛ والرشد والرشاد الهدى والاستقامة‏.‏ ويجوز أي يكون بمعنى المرشد؛ كالحكيم بمعنى المحكم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 79 ‏)‏

‏{‏قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق‏}‏ روي أن قوم لوط خطبوا بناته فردهم، وكانت سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدا؛ فذلك قوله تعالى‏{‏قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق‏}‏ وبعد ألا تكون هذه الخاصية‏.‏ فوجه الكلام أنه ليس، لنا إلى بناتك تعلق، ولا هن قصدنا، ولا لنا عادة نطلب ذلك‏.‏ ‏}‏وإنك لتعلم ما نريد‏}‏ إشارة إلى الأضياف‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 80 ‏)‏

‏{‏قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال لو أن لي بكم قوة‏}‏ لما رأى استمرارهم في غيهم، وضعف عنهم، ولم يقدر على دفعهم، تمنى لو وجد عونا على ردهم؛ فقال على جهة التفجع والاستكانة‏.‏ ‏}‏لو أن لي بكم قوة‏}‏ أي أنصارا وأعوانا‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أراد الولد‏.‏ و‏}‏أن‏}‏ في موضع رفع بفعل مضمر، تقديره‏:‏ لو اتفق أو وقع‏.‏ وهذا يطرد في ‏}‏أن‏}‏ التابعة لـ ‏}‏لو‏}‏‏.‏ وجواب ‏}‏لو‏}‏ محذوف؛ أي لرددت أهل الفساد، وحلت بينهم وبين ما يريدون‏.‏ ‏}‏أو آوي إلى ركن شديد‏}‏ أي ألجأ وأنضوي‏.‏ وقرئ ‏}‏أو آوي‏}‏ بالنصب عطفا على ‏}‏قوة‏}‏ كأنه قال‏{‏لو أن لي بكم قوة‏}‏ أو إيواء إلى ركن شديد؛ أي وأن آوي، فهو منصوب بإضمار ‏}‏أن‏}‏‏.‏ ومراد لوط بالركن العشيرة، والمنعة بالكثرة‏.‏ وبلغ بهم قبيح فعلهم إلى قوله هذا مع علمه بما عند الله تعالى؛ فيروى أن الملائكة وجدت عليه حين قال هذه الكلمات، وقالوا‏:‏ إن ركنك لشديد‏.‏ وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد‏)‏ الحديث؛ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ وخرجه الترمذي وزاد ‏(‏ما بعث الله بعده نبيا إلا في ثروة من قومه‏)‏‏.‏ قال محمد بن عمرو‏:‏ والثروة الكثرة والمنعة؛ حديث حسن‏.‏ ويروى أن لوطا عليه السلام لما غلبه قومه، وهموا بكسر الباب وهو يمسكه، قالت له الرسل‏:‏ تنح عن الباب؛ فتنحى وانفتح الباب؛ فضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم، وعموا وانصرفوا على أعقابهم يقولون‏:‏ النجاء؛ قال الله تعالى‏{‏ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم‏}‏القمر‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وقال ابن عباس وأهل التفسير‏:‏ أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار، وهو يناظر قومه ويناشدهم من وراء الباب، وهم يعالجون تسور الجدار؛ فلما رأت الملائكة ما لقي من الجهد والكرب والنصب بسببهم، قالوا‏:‏ يا لوط إن ركنك لشديد، وأنهم آتيهم عذاب غير مردود، وإنا رسل ربك؛ فافتح الباب ودعنا وإياهم؛ ففتح الباب فضربهم جبريل بجناحه على ما تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ أخذ جبريل قبضة من تراب فأذراها في وجوههم، فأوصل الله إلى عين من بعد ومن قرب من ذلك التراب فطمس أعينهم، فلم يعرفوا طريقا، ولا اهتدوا إلى بيوتهم، وجعلوا يقولون‏:‏ النجاء النجاء‏!‏ فإن في بيت لوط قوما هم أسحر من على وجه الأرض، وقد سحرونا فأعموا أبصارنا‏.‏ وجعلوا يقولون‏:‏ يا لوط كما أنت حتى نصبح فسترى؛ يتوعدونه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 81 ‏)‏

‏{‏قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا يا لوط إنا رسل ربك‏}‏ لما رأت الملائكة حزنه واضطرابه ومدافعته عرفوه بأنفسهم، فلما علم أنهم رسل مكن قومه من الدخول، فأمر جبريل عليه السلام يده على أعينهم فعموا، وعلى أيديهم فجفت‏.‏ ‏}‏لن يصلوا إليك‏}‏ أي بمكروه ‏}‏فأسر بأهلك‏}‏ قرئ ‏}‏فاسر‏}‏ بوصل الألف وقطعها؛ لغتان فصيحتان‏.‏ قال الله تعالى‏{‏والليل إذا يسر‏}‏الفجر‏:‏ 4‏]‏ وقال‏{‏سبحان الذي أسرى‏}‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ وقال النابغة‏:‏ فجمع بين اللغتين‏:‏

أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليه جامد البرد

وقال آخر‏:‏

حي النضيرة ربة الخدر أسرت إليك ولم تكن تسري

وقد قيل‏{‏فأسر‏}‏ بالقطع إذا سار من أول الليل، وسرى إذا سار من آخره؛ ولا يقال في النهار إلا سار‏.‏ وقال لبيد‏:‏

إذا المرء أسرى ليلة ظن أنه قضى عملا والمرء ما عاش عامل

وقال عبدالله بن رواحة‏:‏

عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى

‏{‏بقطع من الليل‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بطائفة من الليل‏.‏ الضحاك‏:‏ ببقية من الليل‏.‏ قتادة‏:‏ بعد مضي صدر من الليل‏.‏ الأخفش‏:‏ بعد جنح من الليل‏.‏ ابن الأعرابي‏:‏ بساعة من الليل‏.‏ وقيل‏:‏ بظلمة من الليل‏.‏ وقيل‏:‏ بعد هدء من الليل‏.‏ وقيل‏:‏ هزيع من الليل‏.‏ وكلها متقاربة؛ وقيل‏:‏ إنه نصف الليل؛ مأخوذ من قطعه نصفين؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

ونائحة تنوح بقطع ليل على رجل بقارعة الصعيد

فإن قيل‏:‏ السرى لا يكون إلا بالليل، فما معنى ‏}‏بقطع من الليل‏}‏‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه لو لم يقل‏{‏بقطع من الليل‏}‏ جاز أن يكون أوله‏.‏ ‏}‏ولا يلتفت منكم أحد‏}‏ أي لا ينظر وراءه منكم أحد؛ قال مجاهد‏.‏ ابن عباس‏:‏ لا يتخلف منكم أحد‏.‏ علي بن عيسى لا يشتغل منكم أحد بما يخلفه من مال أو متاع‏.‏ ‏}‏إلا امرأتك‏}‏ بالنصب؛ وهي القراءة الواضحة البينة المعنى؛ أي فأسر بأهلك إلا امرأتك‏.‏ وكذا في قراءة ابن مسعود ‏}‏فأسر بأهلك إلا امرأتك‏}‏ فهو استثناء من الأهل‏.‏ وعلى هذا لم يخرج بها معه‏.‏ وقد قال الله عز وجل‏{‏كانت من الغابرين‏}‏الأعراف‏:‏ 83‏]‏ أي من الباقين‏.‏ وقرأ أبو عمرو وابن كثير‏{‏إلا امرأتك‏}‏ بالرفع على البدل من ‏}‏أحد‏}‏‏.‏ وأنكر هذه القراءة جماعة منهم أبو عبيد؛ وقال‏:‏ لا يصح ذلك إلا برفع ‏}‏يلتفت‏}‏ ويكون نعتا؛ لأن المعنى يصير - إذا أبدلت وجزمت - أن المرأة أبيح لها الالتفات، وليس المعنى كذلك‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا الحمل من أبي عبيد وغيره على مثل أبي عمرو مع جلالته ومحله من العربية لا يجب أن يكون؛ والرفع على البدل له معنى صحيح، والتأويل له على ما حكى محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد أن يقول الرجل لحاجبه‏:‏ لا يخرج فلان؛ فلفظ النهي لفلان ومعناه للمخاطب؛ أي لا تدعه يخرج؛ ومثله قولك‏:‏ لا يقم أحد إلا زيد؛ يكون معناه‏:‏ انههم عن القيام إلا زيدا؛ وكذلك النهي للوط ولفظه لغيره؛ كأنه قال‏:‏ انههم لا يلتفت منهم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك، وأن النهي عن الالتفات لأنه كلام تام؛ أي لا يلتفت، منكم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك، وأن لوطا خرج بها، ونهى من معه ممن أسرى بهم ألا يلتفت، فلم يلتفت منهم أحد سوى زوجته؛ فإنها لما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت‏:‏ واقوماه‏!‏ فأدركها حجر فقتلها‏.‏ ‏}‏إنه مصيبها‏}‏ أي من العذاب، والكناية في ‏}‏إنه‏}‏ ترجع إلى الأمر والشأن؛ أي فإن الأمر والشأن والقصة‏.‏ ‏}‏مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح‏}‏ لما قالت الملائكة‏{‏إنا مهلكو أهل هذه القرية‏}‏العنكبوت‏:‏ 31‏]‏ قال لوط‏:‏ الآن الآن‏.‏ استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه؛ فقالوا‏{‏أليس الصبح بقريب‏}‏ وقرأ عيسى بن عمر ‏}‏أليس الصبح‏}‏ بضم الباء وهي لغة‏.‏ ويحتمل أن يكون جعل الصبح ميقاتا لهلاكهم؛ لأن النفوس فيه أودع، والناس فيه أجمع‏.‏ وقال بعض أهل التفسير‏:‏ إن لوطا خرج بابنتيه ليس معه غيرهما عند طلوع الفجر؛ وأن الملائكة قالت له‏:‏ إن الله قد وكل بهذه القرية ملائكة معهم صوت رعد، وخطف برق، وصواعق عظيمة، وقد ذكرنا لهم أن لوطا سيخرج فلا تؤذوه؛ وأمارته أنه لا يلتفت، ولا تلتفت ابنتاه فلا يهولنك ما ترى‏.‏ فخرج لوط وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 82 ‏:‏ 83 ‏)‏

‏{‏فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما جاء أمرنا‏}‏ أي عذابنا‏.‏ ‏}‏جعلنا عاليها سافلها‏}‏ وذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط، وهي خمس‏:‏ سدوم - وهي القرية العظمى، - وعامورا، ودادوما، وضعوه، وقتم، فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما في فيها؛ حتى سمع أهل السماء نهيق حمرهم وصياح ديكتهم، لم تنكفئ لهم جرة، ولم ينكسر لهم إناء، ثم نكسوا على رؤوسهم، وأتبعهم الله بالحجارة‏.‏ مقاتل‏.‏ أهلكت أربعة، ونجت ضعوه‏.‏ وقيل‏:‏ غير هذا، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأمطرنا عليها حجارة من سجيل‏}‏ دليل على أن من فعل فعلهم حكمه الرجم، وقد تقدم في ‏}‏الأعراف‏}‏‏.‏ وفي التفسير‏:‏ أمطرنا في العذاب، ومطرنا في الرحمة‏.‏ وأما كلام العرب فيقال‏:‏ مطرت السماء وأمطرت‏:‏ حكاه الهروي‏.‏ واختلف في ‏}‏السجيل‏}‏ فقال النحاس‏:‏ السجيل الشديد الكثير؛ وسجيل وسجين اللام والنون أختان‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ السجيل الشديد؛ وأنشد‏:‏

ضربا تواصى به الأبطال سجينا

قال النحاس‏:‏ ورد عليه هذا القول عبدالله بن مسلم وقال‏:‏ هذا سجين وذلك سجيل فكيف يستشهد به‏؟‏‏!‏ قال النحاس‏:‏ وهذا الرد لا يلزم؛ لأن أبا عبيدة ذهب إلى أن اللام تبدل من النون لقرب إحداهما من الأخرى؛ وقول أبي عبيدة يرد من جهة أخرى؛ وهي أنه لو كان على قوله لكان حجارة سجيلا؛ لأنه لا يقال‏:‏ حجارة من شديد؛ لأن شديدا نعت‏.‏ وحكى أبو عبيدة عن الفراء أنه قد يقال لحجارة الأرحاء سجيل‏.‏ وحكى عنه محمد بن الجهم أن سجيلا طين يطبخ حتى يصير بمنزلة الأرحاء‏.‏ وقالت طائفة منهم ابن عباس وسعيد بن جبير وابن إسحاق‏:‏ إن سجيلا لفظة غير عربية عربت، أصلها سنج وجيل‏.‏ ويقال‏:‏ سنك وكيل؛ بالكاف موضع الجيم، وهما بالفارسية حجر وطين عربتهما العرب فجعلتهما اسما واحدا‏.‏ وقيل‏:‏ هو من لغة العرب‏.‏ وقال قتادة وعكرمة‏:‏ السجيل الطين بدليل قوله ‏}‏لنرسل عليهم حجارة من طين‏}‏الذاريات‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كان أصل الحجارة طينا فشددت‏.‏ والسجيل عند العرب كل شديد صلب‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني الآجر‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ طين طبخ حتى كان كالآجر؛ وعنه أن سجيلا اسم السماء الدنيا؛ ذكره المهدوي؛ وحكاه الثعلبي عن أبي العالية؛ وقال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف يرده وصفه بـ ‏}‏منضود‏}‏‏.‏ وعن عكرمة‏:‏ أنه بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض منه نزلت الحجارة‏.‏ وقيل‏:‏ هي جبال في السماء، وهي التي أشار الله تعالى إليها بقوله‏{‏وينزل من السماء من جبال فيها من برد‏}‏النور‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو مما سجل لهم أي كتب لهم أن يصيبهم؛ فهو في معنى سجين؛ قال الله تعالى‏{‏وما أدراك ما سجين‏.‏ كتاب مرقوم‏}‏المطففين‏:‏ 8‏]‏ قاله الزجاج واختاره‏.‏ وقيل‏:‏ هو فعيل من أسجلته أي أرسلته؛ فكأنها مرسلة عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو من أسجلته إذا أعطيته؛ فكأنه عذاب أعطوه؛ قال‏:‏

من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب

وقال أهل المعاني‏:‏ السجيل والسجين الشديد من الحجر والضرب؛ قال ابن مقبل‏:‏

ورجلة يضربون البيض ضاحية ضربا تواصى به الأبطال سجينا

‏{‏منضود‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ متتابع‏.‏ وقال قتادة‏:‏ نضد بعضها فوق بعض‏.‏ وقال الربيع‏:‏ نضد بعضه على بعض حتى صار جسدا واحدا‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ مصفوف‏.‏ وقال بعضهم مرصوص؛ والمعنى متقارب‏.‏ يقال‏:‏ نضدت المتاع واللبن إذا جعلت بعضه على بعض، فهو منضود ونضيد ونضد؛ قال‏:‏

ورفعته إلى السجفين فالنضد

وقال أبو بكر الهذلي‏:‏ معد؛ أي هو مما أعده الله لأعدائه الظلمة‏.‏ ‏}‏مسومة‏}‏ أي معلمة، من السيما وهي العلامة؛ أي كان عليها أمثال الخواتيم‏.‏ وقيل‏:‏ مكتوب على كل حجر اسم من رمي به، وكانت لا تشاكل حجارة الأرض‏.‏ وقال الفراء‏:‏ زعموا أنها كانت بحمرة وسواد في بياض، فذلك تسويمها‏.‏ وقال كعب‏:‏ كانت معلمة ببياض وحمرة، وقال الشاعر‏:‏

غلام رماه الله بالحسن يافعا له سيمياء لا تشق على البصر

و‏{‏مسومة‏}‏ من نعت حجارة‏.‏ و‏}‏منضود‏}‏ من نعت ‏}‏سجيل‏}‏‏.‏ وفي قوله‏{‏عند ربك‏}‏ دليل على أنها ليست من حجارة الأرض؛ قاله الحسن‏.‏ ‏}‏وما هي من الظالمين ببعيد‏}‏ يعني قوم لوط؛ أي لم تكن تخطئهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يرهب قريشا؛ المعنى‏:‏ ما الحجارة من ظالمي قومك يا محمد ببعيد‏.‏ وقال قتادة وعكرمة‏:‏ يعني ظالمي هذه الأمة؛ والله ما أجار الله منها ظالما بعد‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏سيكون في آخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرجال ونساؤهم بالنساء فإذا كان ذلك فارتقبوا عذاب قوم لوط أن يرسل الله عليهم حجارة من سجيل‏)‏ ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏}‏وما هي من الظالمين ببعيد‏}‏‏.‏ وفي رواية عنه عليه السلام ‏(‏لا تذهب الليالي والأيام حتى تستحل هذه الأمة أدبار الرجال كما استحلوا أدبار النساء فتصيب طوائف من هذه الأمة حجارة من ربك‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ما هذه القرى من الظالمين ببعيد؛ وهي بين الشام والمدينة‏.‏ وجاء ‏}‏ببعيد‏}‏ مذكرا على معنى بمكان بعيد‏.‏ وفي الحجارة التي أمطرت قولان‏:‏ أحدهما‏.‏ أنها أمطرت على المدن حين رفعها جبريل‏.‏ الثاني‏:‏ أنها أمطرت على من لم يكن في المدن من أهلها وكان خارجا عنها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 84 ‏)‏

‏{‏وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإلى مدين أخاهم شعيبا‏}‏ أي وأرسلنا إلى مدين، ومدين هم قوم شعيب‏.‏ وفي تسميتهم بذلك قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم بنو مدين بن إبراهيم؛ فقيل‏:‏ مدين والمراد بنو مدين‏.‏ كما يقال مضر والمراد بنو مضر‏.‏ الثاني‏:‏ أنه اسم مدينتهم، فنسبوا إليها‏.‏ قال النحاس‏:‏ لا ينصرف مدين لأنه اسم مدينة؛ وقد تقدم في ‏}‏الأعراف‏}‏ هذا المعنى وزيادة‏.‏ ‏}‏قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره‏}‏ تقدم‏.‏ ‏}‏ولا تنقصوا المكيال والميزان‏}‏ كانوا مع كفرهم أهل بخس وتطفيف؛ كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائد، واستوفوا بغاية ما يقدرون عليه وظلموا؛ وإن جاءهم مشتر للطعام باعوه بكيل ناقص، وشحوا له بغاية ما يقدرون؛ فأمروا بالإيمان إقلاعا عن الشرك، وبالوفاء نهيا عن التطفيف‏.‏ ‏}‏إني أراكم بخير‏}‏ أي في سعة من الرزق، وكثرة من النعم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كان سعرهم رخيصا‏.‏ ‏}‏وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط‏}‏ وصف اليوم بالإحاطة، وأراد وصف ذلك اليوم بالإحاطة بهم؛ فإن يوم العذاب إذا أحاط بهم فقد أحاط العذاب بهم، وهو كقولك‏:‏ يوم شديد؛ أي شديد حره‏.‏ واختلف في ذلك العذاب؛ فقيل‏:‏ هو عذاب النار في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ عذاب الاستئصال في الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ غلاء السعر؛ روي معناه عن ابن عباس‏.‏ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أظهر قوم البخس في المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالقحط والغلاء‏)‏‏.‏ وقد تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 85 ‏)‏

‏{‏ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط‏}‏ أمر بالإيفاء بعد أن نهى عن التطفيف تأكيدا‏.‏ والإيفاء الإتمام‏.‏ ‏}‏بالقسط‏}‏ أي بالعدل والحق، والمقصود أن يصل كل ذي كل نصيب إلى نصيبه؛ وليس يريد إيفاء المكيال والموزون لأنه لم يقل‏:‏ أوفوا بالمكيال وبالميزان؛ بل أراد ألا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود، وكذا الصنجات‏.‏ ‏}‏ولا تبخسوا الناس أشياءهم‏}‏ أي لا تنقصوهم مما استحقوه شيئا‏.‏ ‏}‏ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏}‏ بين أن الخيانة في المكيال والميزان مبالغة في الفساد في الأرض، وقد مضى في ‏}‏الأعراف‏}‏ زيادة لهذا، والحمد لله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 86 ‏)‏

‏{‏بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ‏}‏

قوله تعالى‏{‏بقية الله خير لكم‏}‏ أي ما يبقيه الله لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة، وأحمد عاقبة مما تبقونه أنتم لأنفسكم من فضل التطفيف بالتجبر والظلم؛ قال معناه الطبري، وغيره‏.‏ وقال مجاهد‏{‏بقية الله خير لكم‏}‏ يريد طاعته‏.‏ وقال الربيع‏:‏ وصية الله‏.‏ وقال الفراء‏:‏ مراقبة الله‏.‏ ابن زيد‏:‏ رحمة الله‏.‏ قتادة والحسن‏:‏ حظكم من ربكم خير لكم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ رزق الله خير لكم‏.‏ ‏}‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ شرط هذا لأنهم إنما يعرفون صحة هذا إن كانوا مؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أنهم كانوا يعترفون بأن الله خالقهم فخاطبهم بهذا‏.‏ ‏}‏وما أنا عليكم بحفيظ‏}‏ أي رقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم؛ أي لا يمكنني شهود كل معاملة تصدر منكم حتى أؤاخذكم بإيفاء الحق‏.‏ وقيل‏:‏ أي لا يتهيأ لي أن أحفظكم من إزالة نعم الله عليكم بمعاصيكم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 87 ‏)‏

‏{‏قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا يا شعيب أصلواتك‏}‏ وقرئ ‏}‏أصَلاتُك‏}‏ من غير جمع‏.‏ ‏}‏تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ في موضع نصب؛ قال الكسائي‏:‏ موضعها خفض على إضمار الباء‏.‏ وروي أن شعيبا عليه السلام كان كثير الصلاة، مواظبا على العبادة فرضها ونقلها ويقول‏:‏ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ فلما أمرهم ونهاهم عيروه بما رأوه يستمر عليه من كثرة الصلاة، واستهزؤوا به فقالوا ما أخبر الله عنهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الصلاة هنا بمعنى القراءة؛ قاله سفيان عن الأعمش، أي قراءتك تأمرك؛ ودل بهذا على أنهم كانوا كفارا‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لم يبعث الله نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة‏.‏ ‏}‏أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء‏}‏ زعم الفراء أن التقدير‏:‏ أو تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء‏.‏ وقرأ السلمي والضحاك بن قيس ‏}‏أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء‏}‏ بالتاء في الفعلين، والمعنى‏:‏ ما تشاء أنت يا شعيب‏.‏ وقال النحاس‏{‏أو أن‏}‏ على هذه القراءة معطوفة على ‏}‏أن‏}‏ الأولى‏.‏ وروي عن زيد بن أسلم أنه قال‏:‏ كان مما نهاهم عنه حذف الدراهم‏.‏ وقيل‏:‏ معنى‏.‏ ‏}‏أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء‏}‏ إذا تراضينا فيما بيننا بالبخس فلم تمنعنا منه‏؟‏‏!‏‏.‏ ‏}‏إنك لأنت الحليم الرشيد‏}‏ يعنون عند نفسك بزعمك‏.‏ ومثله في صفة أبي جهل‏{‏ذق إنك أنت العزيز الكريم‏}‏الدخان‏:‏ 49‏]‏ أي عند نفسك بزعمك‏.‏ وقيل‏:‏ قالوه على وجه الاستهزاء والسخرية، قاله قتادة‏.‏ ومنه قولهم للحبشي‏:‏ أبو البيضاء، وللأبيض أبو الجون؛ ومنه قول خزنة جهنم لأبي جهل‏{‏ذق إنك أنت العزيز الكريم‏}‏‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ العرب تصف الشيء بضده للتطير والتفاؤل؛ كما قيل للديغ سليم، وللفلاة مفازة‏.‏ وقيل‏:‏ هو تعريض أرادوا به السب؛ وأحسن من هذا كله، ويدل ما قبله على صحته؛ أي إنك أنت الحليم الرشيد حقا، فكيف تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا‏!‏ ويدل عليه‏.‏ ‏}‏أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا‏}‏ أنكروا لما رأوا من كثرة صلاته وعبادته، وأنه حليم رشيد بأن يكون يأمرهم بترك ما كان يعبد آباؤهم، وبعده أيضا ما يدل عليه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 88 ‏)‏

‏{‏قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي‏}‏ أي أفلا أنهاكم عن الضلال‏؟‏‏!‏ وهذا كله يدل على أنهم قالوه على وجه الحقيقة، وأنه اعتقادهم فيه‏.‏ ويشبه هذا المعنى قول اليهود من بني قريظة للنبي صلى الله عليه وسلم حين قال لهم‏:‏ ‏(‏يا إخوة القردة‏)‏ فقالوا‏:‏ يا محمد ما علمناك جهولا‏!‏‏.‏

مسألة‏:‏ قال أهل التفسير‏:‏ كان مما ينهاهم عنه، وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم؛ كانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القراضة، وكانوا يتعاملون على الصحاح عدا، وعلى المقروضة وزنا، وكانوا يبخسون في الوزن‏.‏ وقال ابن وهب قال مالك‏:‏ كانوا يكسرون الدنانير والدراهم، وكذلك قال جماعة من المفسرين المتقدمين كسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم وغيرهما؛ وكسرهما ذنب عظيم‏.‏ وفي كتاب أبي داود عن علقمة بن عبدالله عن أبيه قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس؛ فإنها إذا كانت صحاحا قام معناها؛ وظهرت فائدتها، وإذا كسرت صارت سلعة، وبطلت منها الفائدة؛ فأضر ذلك، بالناس؛ ولذلك حرم‏.‏ وقد قيل في تأويل قوله تعالى‏{‏وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون‏}‏النمل‏:‏ 48‏]‏ أنهم كانوا يكسرون الدراهم؛ قاله زيد بن أسلم‏.‏ قال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ زعموا أنه لم يكن بالمدينة أعلم بتأويل القرآن من زيد بن أسلم بعد محمد بن كعب القرظي‏.‏

مسألة‏:‏ قال أصبغ قال عبدالرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة مولى زيد بن الحارث العتقي‏:‏ من كسرها لم تقبل شهادته، وإن اعتذر بالجهالة لم يعذر، وليس هذا بموضع عذر؛ قال ابن العربي‏:‏ أما قوله‏:‏ لم تقبل شهادته فلأنه أتى كبيرة، والكبائر تسقط العدالة دون الصغائر؛ وأما قوله‏:‏ لا يقبل عذره بالجهالة في هذا فلأنه أمر بين لا يخفى على أحد، وإنما يقبل العذر إذا ظهر الصدق فيه، أو خفي وجه الصدق فيه، وكان الله أعلم به من العبد كما قال مالك‏.‏

مسألة‏:‏ إذا كان هذا معصية وفسادا ترد به الشهادة فإنه يعاقب من فعل ذلك، ومر ابن المسيب برجل قد جلد فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قال رجل‏:‏ يقطع الدنانير والدراهم؛ قال ابن المسيب‏:‏ هذا من الفساد في الأرض؛ ولم ينكر جلده؛ ونحوه عن سفيان‏.‏ وقال أبو عبدالرحمن النجيبي‏:‏ كنت قاعدا عند عمر بن عبدالعزيز وهو إذ ذاك أمير المدينة فأتى برجل يقطع الدراهم وقد شهد عليه فضربه وحلقه، وأمر فطيف به، وأمره أن يقول‏:‏ هذا جزاء من يقطع الدراهم؛ ثم أمر أن يرد إليه؛ فقال‏:‏ إنه لم يمنعني أن أقطع يدك إلا أني لم أكن تقدمت في ذلك قبل اليوم، وقد تقدمت في ذلك فمن شاء فليقطع‏.‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ أما أدبه بالسوط فلا كلام فيه، وأما حلقه فقد فعله عمر؛ وقد كنت أيام الحكم بين الناس أضرب وأحلق، وإنما كنت أفعل ذلك بمن يرى شعره عونا له على المعصية، وطريقا إلى التجمل به في الفساد، وهذا هو الواجب في كل طريق للمعصية، أن يقطع إذا كان غير مؤثر في البدن، وأما قطع يده فإنما أخذ ذلك عمر من فصل السرقة؛ وذلك أن قرض الدراهم غير كسرها، فإن الكسر إفساد الوصف، والقرض تنقيص للقدر، فهو أخذ مال على جهة الاختفاء؛ فإن قيل‏:‏ أليس الحرز أصلا في القطع‏؟‏ قلنا‏:‏ يحتمل أن يكون عمر يرى أن تهيئتها للفصل بين الخلق دينارا أو درهما حرز لها، وحرز كل شيء على قدر حاله؛ وقد أنفذ ذلك ابن الزبير، وقطع يد رجل في قطع الدنانير والدراهم‏.‏ وقد قال علماؤنا المالكية‏:‏ إن الدنانير والدراهم خواتيم الله عليها اسمه؛ ولو قطع على قول أهل التأويل من كسر خاتما لله كان أهلا لذلك، أو من كسر خاتم سلطان عليه اسمه أدب، وخاتم الله تقضى به الحوائج فلا يستويان في العقوبة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وأرى أن يقطع في قرضها دون كسرها، وقد كنت أفعل ذلك أيام توليتي الحكم، إلا أني كنت محفوفا بالجهال، فلم أجبن بسبب المقال للحسدة الضلال فمن قدر عليه يوما من أهل الحق فليفعله احتسابا لله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏ورزقني منه رزقا حسنا‏}‏ أي واسعا حلالا، وكان شعيب عليه السلام كثير المال، قاله ابن عباس وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ أراد به‏.‏ الهدى والتوفيق، والعلم والمعرفة، وفي الكلام حذف، وهو ما ذكرناه؛ أي أفلا أنهاكم عن الضلال‏!‏ وقيل‏:‏ المعنى ‏}‏أرأيتم إن كنت على بينة من ربي‏}‏ أتبع الضلال‏؟‏ وقيل‏:‏ المعنى ‏}‏أرأيتم إن كنت على بينة من ربي‏}‏ أتأمرونني بالعصيان في البخس والتطفيف، وقد أغناني الله عنه‏.‏ ‏}‏وما أريد أن أخالفكم‏}‏ في موضع نصب بـ ‏}‏أريد‏}‏‏.‏ ‏}‏إلى ما أنهاكم عنه‏}‏ أي ليس أنهاكم عن شيء وأرتكبه، كما لا أترك ما أمرتكم به‏.‏ ‏}‏إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت‏}‏ أي ما أريد إلا فعل الصلاح؛ أي أن تصلحوا دنياكم بالعدل، وآخرتكم بالعبادة، وقال‏{‏ما استطعت‏}‏ لأن الاستطاعة من شروط الفعل دون الإرادة‏.‏ و‏}‏ما‏}‏ مصدرية؛ أي إن أريد إلا الإصلاح جهدي واستطاعتي‏.‏ ‏}‏وما توفيقي‏}‏ أي رشدي، والتوفيق الرشد‏.‏ ‏}‏إلا بالله عليه توكلت‏}‏ أي اعتمدت‏.‏ ‏}‏وإليه أنيب‏}‏ أي أرجع فيما ينزل بي من جميع النوائب‏.‏ وقيل‏:‏ إليه أرجع في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ إن الإنابة الدعاء، ومعناه وله أدعو‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 89 ‏)‏

‏{‏ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويا قوم لا يجرمنكم‏}‏ وقرأ يحيى بن وثاب ‏}‏يُجْرِمَنَّكُمْ‏}‏‏.‏ لا يدخلنكم في الجرم؛ كما تقول‏:‏ آثمني أي أدخلني في الإثم‏.‏ ‏}‏شقاقي‏}‏ في موضع رفع‏.‏ ‏}‏أن يصيبكم‏}‏ في موضع نصب، أي لا يحملنكم معاداتي على ترك الإيمان فيصيبكم ما أصاب الكفار قبلكم، قاله الحسن وقتادة‏.‏ وقيل‏:‏ لا يكسبنكم شقاقي إصابتكم العذاب، كما أصاب من كان قبلكم، قاله الزجاج‏.‏ وقد تقدم معنى ‏}‏يجرمنكم‏}‏ في ‏}‏المائدة‏}‏ و‏}‏الشقاق‏}‏ في ‏}‏البقرة‏}‏ وهو هنا بمعنى العداوة، قاله السدي، ومنه قول الأخطل‏:‏

ألا من مبلغ عني رسولا فكيف وجدتم طعم الشقاق

وقال الحسن البصري‏:‏ إضراري‏.‏ وقال قتادة‏:‏ فراقي‏.‏ ‏}‏وما قوم لوط منكم ببعيد‏}‏ وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط‏.‏ وقيل‏:‏ وما ديار قوم لوط منكم ببعيد؛ أي بمكان بعيد، فلذلك وحد البعيد‏.‏ قال الكسائي‏:‏ أي دورهم في دوركم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 90 ‏)‏

‏{‏واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود‏}‏

قوله تعالى‏{‏واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه‏}‏ تقدم‏.‏ ‏}‏إن ربي رحيم ودود‏}‏ اسمان من أسمائه سبحانه، وقد بيناهما في كتاب ‏}‏الأسنى في شرح الأسماء الحسنى‏}‏‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وددت الرجل أوده ودا إذا أحببته، والودود المحب، والود والود والود والمودة المحبة‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر شعيبا قال‏:‏ ‏(‏ذاك خطيب الأنبياء‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 91 ‏)‏

‏{‏قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول‏}‏ أي ما نفهم؛ لأنك تحملنا على أمور غائبة من البعث والنشور، وتعظنا بما لا عهد لنا بمثله‏.‏ وقيل‏:‏ قالوا ذلك إعراضا عن سماعه، واحتقارا لكلامه؛ يقال‏:‏ فقه يفقه إذا فهم فقها؛ وحكى الكسائي‏:‏ فقه فقها وفقها إذا صار فقيها‏.‏ ‏}‏وإنا لنراك فينا ضعيفا‏}‏ قيل‏:‏ إنه كان مصابا ببصره؛ قاله سعيد بن جبير وقتادة‏.‏ وقيل‏:‏ كان ضعيف البصر؛ قاله الثوري، وحكى عنه النحاس مثل قول سعيد بن جبير وقتادة‏.‏ قال النحاس‏:‏ وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى ضعيفا؛ أي قد ضعف بذهاب بصره؛ كما يقال، له ضرير؛ أي قد ضر بذهاب بصره؛ كما يقال له‏:‏ مكفوف؛ أي قد كف عن النظر بذهاب بصره‏.‏ قال الحسن‏:‏ معناه مهين‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ضعيف البدن؛ حكاه علي بن عيسى‏.‏ وقال السدي‏:‏ وحيدا ليس لك جند وأعوان تقدر بها على مخالفتنا‏.‏ وقيل‏:‏ قليل المعرفة بمصالح الدنيا وسياسة أهلها و‏}‏ضعيفا‏}‏ نصب على الحال‏.‏ ‏}‏ولولا رهطك‏}‏ رفع بالابتداء، ورهط الرجل عشيرته الذي يستند إليهم ويتقوى بهم؛ ومنه الراهطاء لجحر اليربوع؛ لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده‏.‏ ومعنى ‏}‏لرجمناك‏}‏ لقتلناك بالرجم، وكانوا إذا قتلوا إنسانا رجموه بالحجارة، وكان رهطه من أهل ملتهم‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏}‏لرجمناك‏}‏ لشتمناك؛ ومنه قول الجعدي‏:‏

تراجمنا بمر القول حتى نصير كأننا فرسا رهان

والرجم أيضا اللعن؛ ومنه الشيطان الرجيم‏.‏ ‏}‏وما أنت علينا بعزيز‏}‏ أي ما أنت علينا بغالب ولا قاهر ولا ممتنع‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 92 ‏)‏

‏{‏قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال يا قوم أرهطي‏}‏ ‏}‏أرهطي‏}‏ رفع بالابتداء؛ والمعنى أرهطي في قلوبكم ‏}‏أعز عليكم من الله‏}‏ وأعظم وأجل وهو يملككم‏.‏ ‏}‏واتخذتموه وراءكم ظهريا‏}‏ أي اتخذتم ما جئتكم به من أمر الله ظهريا؛ أي جعلتموه وراء ظهوركم، وامتنعتم من قتلي مخافة قومي يقال‏:‏ جعلت أمره بظهر إذا قصرت فيه، وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏، ‏}‏إن ربي بما تعملون‏}‏ أي من الكفر والمعصية‏.‏ ‏}‏محيط‏}‏ أي عليم‏.‏ وقيل‏:‏ حفيظ‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 93 ‏)‏

‏{‏ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون‏}‏ تهديد ووعيد؛ وقد تقدم في ‏}‏الأنعام‏}‏‏.‏ ‏}‏من يأتيه عذاب يخزيه‏}‏ أي يهلكه‏.‏ و‏}‏من‏}‏ في موضع نصب، مثل ‏}‏يعلم المفسد من المصلح‏}‏البقرة‏:‏ 220‏]‏‏.‏ ‏}‏ومن هو كاذب‏}‏ عطف عليها‏.‏ وقيل‏:‏ أي وسوف تعلمون من هو كاذب منا‏.‏ وقيل‏:‏ في محل رفع؛ تقديره‏:‏ ويخزي من هو كاذب‏.‏ وقيل‏:‏ تقديره ومن هو كاذب فسيعلم كذبه، ويذوق وبال أمره‏.‏ وزعم الفراء أنهم إنما جاؤوا بـ ‏}‏هو‏}‏ في ‏}‏ومن هو كاذب‏}‏ لأنهم لا يقولون من قائم؛ إنما يقولون‏:‏ من قام، ومن يقوم، ومن القائم؛ فزادوا ‏}‏هو‏}‏ ليكون جملة تقوم مقام فعل ويفعل‏.‏ قال النحاس‏:‏ ويدل على خلاف هذا قوله‏:‏

من رسولي إلى الثريا بأني ضقت ذرعا بهجرها والكتاب

‏{‏وارتقبوا إني معكم رقيب‏}‏ أي انتظروا العذاب والسخطة؛ فإني منتظر النصر والرحمة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 94 ‏:‏ 95 ‏)‏

‏{‏ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولما جاء أمرنا‏}‏ قيل‏:‏ صاح بهم جبريل صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم ‏}‏وأخذت الذين ظلموا الصيحة‏}‏ أي صيحة جبريل‏.‏ وأنث الفعل على لفظ الصيحة، وقال في قصة صالح‏{‏وأخذ الذين ظلموا الصيحة‏}‏ فذكر على معنى الصياح‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ما أهلك الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم صالح وقوم شعيب، أهلكهم الله بالصيحة؛ غير أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم الصيحة من فوقهم‏.‏ ‏}‏فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود‏}‏ تقدم معناه‏.‏ وحكى الكسائي أن أبا عبدالرحمن السلمي قرأ ‏}‏كما بعدت ثمود‏}‏ بضم العين‏.‏ قال النحاس‏:‏ المعروف في اللغة إنما يقال بعد يبعد بعدا وبعدا إذا هلك‏.‏ وقال المهدوي‏:‏ من ضم العين من ‏}‏بعدت‏}‏ فهي لغة تستعمل في الخير والشر، ومصدرها البعد؛ وبعدت تستعمل في الشر خاصة؛ يقال‏:‏ بعد يبعد بعدا؛ فالبعد على قراءة الجماعة بمعنى اللعنة، وقد يجتمع معنى اللغتين لتقاربهما في المعنى؛ فيكون مما جاء مصدره على غير لفظه لتقارب المعاني‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 96 ‏:‏ 97 ‏)‏

‏{‏ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد أرسلنا موسى بآياتنا‏}‏ بين أنه أتبع النبي النبي لإقامة الحجة، وإزاحة كل علة ‏}‏بآياتنا‏}‏ أي بالتوراة‏.‏ وقيل‏:‏ بالمعجزات‏.‏ ‏}‏وسلطان مبين‏}‏ أي حجة بينة؛ يعني العصا‏.‏ وقد مضى في ‏}‏آل عمران‏}‏ معنى السلطان واشتقاقه فلا معنى للإعادة‏.‏ ‏}‏إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون‏}‏ أي شأنه وحاله، حتى اتخذوه إلها، وخالفوا أمر الله تعالى‏.‏ ‏}‏وما أمر فرعون برشيد‏}‏ أي بسديد يؤدي إلى صواب‏:‏ وقيل‏{‏برشيد‏}‏ أي بمرشد إلى خير‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 98 ‏)‏

‏{‏يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود‏}‏

قوله تعالى‏{‏يقدم قومه يوم القيامة‏}‏ يعني أنه يتقدمهم إلى النار إذ هو رئيسهم‏.‏ يقال‏:‏ قدمهم يقدمهم قدما وقدوما إذا تقدمهم‏.‏ ‏}‏فأوردهم النار‏}‏ أي أدخلهم فيها‏.‏ ذكر بلفظ الماضي؛ والمعنى فيوردهم النار؛ وما تحقق وجوده فكأنه كائن؛ فلهذا يعبر عن المستقبل بالماضي‏.‏ ‏}‏وبئس الورد المورود‏}‏ أي بئس المدخل المدخول؛ ولم يقل بئست لأن الكلام يرجع إلى المورود، وهو كما تقول‏:‏ نعم المنزل دارك، ونعمت المنزل دارك‏.‏ والمورود الماء الذي يورد، والموضع الذي يورد؛ وهو بمعنى المفعول‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 99 ‏)‏

‏{‏وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأتبعوا في هذه لعنة‏}‏ أي في الدنيا‏.‏ ‏}‏ويوم القيامة‏}‏ أي ولعنة يوم القيامة؛ وقد تقدم هذا المعنى‏.‏ ‏}‏بئس الرفد المرفود‏}‏ حكى الكسائي وأبو عبيدة‏:‏ رفدته أرفده رفدا؛ أي أعنته وأعطيته‏.‏ واسم العطية الرفد؛ أي بئس العطاء والإعانة‏.‏ والرفد أيضا القدح الضخم؛ قاله الجوهري، والتقدير‏:‏ بئس الرفد رفد المرفود‏.‏ وذكر الماوردي‏:‏ أن الرفد بفتح الراء القدح، والرفد بكسرها ما في القدح من الشراب؛ حكى ذلك عن الأصمعي؛ فكأنه ذم بذلك ما يسقونه في النار‏.‏ وقيل‏:‏ إن الرفد الزيادة؛ أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق النار؛ قاله الكلبي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 100 ‏:‏ 101 ‏)‏

‏{‏ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد، وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك من أنباء القرى نقصه عليك‏}‏ ‏}‏ذلك‏}‏ رفع على إضمار مبتدأ، أي الأمر ذلك‏.‏ وإن شئت بالابتداء؛ والمعنى‏:‏ ذلك النبأ المتقدم من أنباء القرى نقصه عليك‏.‏ ‏}‏منها قائم وحصيد‏}‏ قال قتادة‏:‏ القائم ما كان خاويا على عروشه، والحصيد ما لا أثر له‏.‏ وقيل‏:‏ القائم العامر، والحصيد الخراب؛ قاله ابن عباس‏:‏ وقال مجاهد‏:‏ قائم خاوية على عروشها، وحصيد مستأصل؛ يعني محصودا كالزرع إذا حصد؛ قال الشاعر‏:‏

والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد

وقال آخر‏:‏

إنما نحن مثل خامة زرع فمتى يأن يأت محتصده

قال الأخفش سعيد‏:‏ حصيد أي محصود، وجمعه حصدى وحصاد مثل مرضى ومراض؛ قال‏:‏ يكون فيمن يعقل حصدى، مثل قتيل وقتلى‏.‏ ‏}‏وما ظلمناهم‏}‏ أصل الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه، وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ مستوفى‏.‏ ‏}‏ولكن ظلموا أنفسهم‏}‏ بالكفر والمعاصي‏.‏ وحكى سيبويه أنه يقال‏:‏ ظلم إياه ‏}‏فما أغنت‏}‏ أي دفعت‏.‏ ‏}‏عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء‏}‏ في الكلام حذف، أي التي كانوا يعبدون؛ أي يدعون‏.‏ ‏}‏وما زادوهم غير تتبيب‏}‏ أي غير تخسير؛ قاله مجاهد وقتاده‏.‏ وقال لبيد‏:‏

فلقد بليت وكل صاحب جده لبلى يعود وذاكم التتبيب

والتباب الهلال والخسران؛ وفيه إضمار؛ أي ما زادتهم عبادة الأصنام، فحذف المضاف؛ أي كانت عبادتهم إياها قد خسرتهم ثواب الآخرة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 102 ‏:‏ 103 ‏)‏

‏{‏وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد، إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى‏}‏ أي كما أخذ هذه القرى التي كانت لنوح وعاد وثمود يأخذ جميع القرى الظالمة‏.‏ وقرأ عاصم الجحدري وطلحة بن مصرف ‏}‏وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى‏}‏ وعن الجحدري أيضا ‏}‏وكذلك أخذ ربك‏}‏ كالجماعة ‏}‏إذ أخذ القرى‏}‏‏.‏ قال المهدوي من قرأ‏{‏وكذلك أخذ ربك إذ أخذ‏}‏ فهو إخبار عما جاءت به العادة في إهلاك من تقدم من الأمم؛ والمعنى‏:‏ وكذلك أخذ ربك من أخذه من الأمم المهلكة إذ أخذهم‏.‏ وقراءة الجماعة على أنه مصدر؛ والمعنى‏:‏ كذلك أخذ ربك من أراد إهلاكه متى أخذه؛ فإذ لما مضى؛ أي حين أخذ القرى؛ وإذا للمستقبل ‏}‏وهي ظالمة‏}‏ أي وأهلها ظالمون؛ فحذف المضاف مثل‏{‏واسأل القرية‏}‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏ ‏}‏إن أخذه أليم شديد‏}‏ أي عقوبته لأهل الشرك موجعة غليظة‏.‏ وفي صحيح مسلم والترمذي من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته‏)‏ ثم قرأ ‏}‏وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى‏}‏ الآية‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن صحيح غريب‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن في ذلك لآية‏}‏ أي لعبرة وموعظة‏.‏ ‏}‏ذلك يوم‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ ‏}‏مجموع‏}‏ من نعته‏.‏

قوله تعالى‏{‏له الناس‏}‏ اسم ما لم يسم فاعله؛ ولهذا لم يقل مجموعون، فإن قدرت ارتفاع ‏}‏الناس‏}‏ بالابتداء، والخبر ‏}‏مجموع له‏}‏ فإنما لم يقل‏:‏ مجموعون على هذا التقدير؛ لأن ‏}‏له‏}‏ يقوم مقام الفاعل‏.‏ والجمع الحشر، أي يحشرون لذلك اليوم‏.‏ ‏}‏وذلك يوم مشهود‏}‏ أي يشهده البر والفاجر؛ ويشهده أهل السماء‏.‏ وقد ذكرنا هذين الاسمين مع غيرهما من أسماء القيامة في كتاب ‏}‏التذكرة‏}‏ وبيناهما والحمد الله‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 104 ‏:‏ 105 ‏)‏

‏{‏وما نؤخره إلا لأجل معدود، يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما نؤخره‏}‏ أي ما نؤخر ذلك اليوم‏.‏ ‏}‏إلا لأجل معدود‏}‏ أي لأجل سبق به قضاؤنا، وهو معدود عندنا‏.‏ ‏}‏يوم يأتي‏}‏ وقرئ ‏}‏يوم يأت‏}‏ لأن الياء تحذف إذا كان قبلها كسرة؛ تقول‏:‏ لا أدر؛ ذكره القشيري‏.‏ قال النحاس‏:‏ قرأه أهل المدينة وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء في الإدراج؛ وحذفها في الوقف، وروي أن أبيا وابن مسعود قرآ ‏}‏يوم يأتي‏}‏ بالياء في الوقف والوصل‏.‏ وقرأ الأعمش وحمزة ‏}‏يوم يأت‏}‏ بغير باء في الوقف والوصل، قال أبو جعفر النحاس‏:‏ الوجه في هذا ألا يوقف عليه، وأن يوصل بالياء، لأن جماعة من النحويين قالوا‏:‏ لا تحذف الياء، ولا يجزم الشيء بغير جازم؛ فأما الوقف بغير ياء ففيه قول للكسائي؛ قال‏:‏ لأن الفعل السالم يوقف عليه كالمجزوم، فحذف الياء، كما تحذف الضمة‏.‏ وأما قراءة حمزة فقد احتج أبو عبيد لحذف الياء في الوصل والوقف بحجتين إحداهما‏:‏ أنه زعم أنه رآه في الإمام الذي يقال له إنه مصحف عثمان رضي الله عنه بغير ياء‏.‏ والحجة الأخرى‏:‏ أنه حكى أنها لغة هذيل؛ تقول‏:‏ ما أدر؛ قال النحاس‏:‏ أما حجته بمصحف عثمان رضي الله عنه فشيء يرده عليه أكثر العلماء؛ قال مالك بن أنس رحمه الله‏:‏ سألت عن مصحف عثمان رضي الله عنه فقيل لي ذهب؛ وأما حجته بقولهم‏{‏ما أدر‏}‏ فلا حجة فيه؛ لأن هذا الحذف قد حكاه النحويون القدماء، وذكروا علته، وأنه لا يقاس عليه‏.‏ وأنشد الفراء في حذف الياء‏.‏

كفاك كف ما تليق دوهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما

أي تعطي‏.‏ وقد حكى سيبويه والخليل أن العرب تقول‏:‏ لا أدر، فتحذف الياء وتجتزئ بالكسرة، إلا أنهم يزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والأجود في النحو إثبات الياء؛ قال‏:‏ والذي أراه اتباع المصحف وإجماع القراء؛ لأن القراءة سنة؛ وقد جاء مثله في كلام العرب‏.‏ ‏}‏لا تكلم نفس إلا بإذنه‏}‏ الأصل تتكلم؛ حذفت إحدى التاءين تخفيفا‏.‏ وفيه إضمار؛ أي لا تتكلم فيه نفس إلا بالمأذون فيه من حسن الكلام؛ لأنهم ملجوؤون إلى ترك القبيح‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا تكلم بحجة ولا شفاعة إلا بإذنه‏.‏ وقيل‏:‏ إن لهم في الموقف وقتا يمنعون فيه من الكلام إلا بإذنه‏.‏ وهذه الآية أكثر ما يسأل عنها أهل الإلحاد في الدين‏.‏ فيقول لم قال‏{‏لا تكلم نفس إلا بإذنه‏}‏ و‏}‏هذا يوم لا ينطقون‏.‏ ولا يؤذن لهم فيعتذرون‏}‏المرسلات‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وقال في موضع من ذكر القيامة‏{‏وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏}‏الصافات‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقال‏{‏يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها‏}‏النحل‏:‏ 111‏]‏‏.‏ وقال‏{‏وقفوهم إنهم مسؤولون‏}‏الصافات‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقال‏{‏فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان‏}‏الرحمن‏:‏ 39‏]‏‏.‏ والجواب ما ذكرناه، وأنهم لا ينطقون بحجة تجب لهم وإنما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم، ولوم بعضهم بعضا، وطرح بعضهم الذنوب على بعض؛ فأما التكلم والنطق بحجة لهم فلا؛ وهذا كما تقول للذي يخاطبك كثيرا، وخطابه فارغ عن الحجة‏:‏ ما تكلمت بشيء، وما نطقت بشيء، فسمي من يتكلم بلا حجة فيه له غير متكلم‏.‏ وقال‏:‏ قوم‏:‏ ذلك اليوم طويل، وله مواطن ومواقف في بعضها يمنعون من الكلام، وفي بعضها يطلق لهم الكلام؛ فهذا يدل على أنه لا تتكلم نفس إلا بإذنه‏.‏ ‏}‏فمنهم شقي وسعيد‏}‏ أي من الأنفس، أو من الناس؛ وقد ذكرهم قوله‏{‏يوم مجموع له الناس‏}‏‏.‏ والشقي الذي كتبت عليه الشقاوة‏.‏ والسعيد الذي كتبت عليه السعادة؛ قال لبيد‏:‏

فمنهم سعيد آخذ بنصيبه ومنهم شقي بالمعيشة قانع

وروى الترمذي عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب قال لما نزلت هذه الآية ‏}‏فمنهم شقي وسعيد‏}‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت‏:‏ يا نبي الله فعلام نعمل‏؟‏ على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له‏)‏‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث عبدالله بن عمر؛ وقد تقدم في ‏}‏الأعراف‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 106 ‏:‏ 107 ‏)‏

‏{‏فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق، خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد، وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ‏}‏

قوله تعالى‏{‏فأما الذين شقوا‏}‏ ابتداء‏.‏ ‏}‏ففي النار‏}‏ في موضع الخبر، وكذا ‏}‏لهم فيها زفير وشهيق‏}‏ قال أبو العالية‏:‏ الزفير من الصدر‏.‏ والشهيق من الحلق؛ وعنه أيضا ضد ذلك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الزفير من شدة الأنين، والشهيق من الأنين المرتفع جدا؛ قال‏:‏ وزعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير في النهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار في الشهيق‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنه عكسه؛ قال‏:‏ الزفير الصوت الشديد، والشهيق الصوت الضعيف‏.‏ وقال الضحاك ومقاتل‏:‏ الزفير مثل أول نهيق الحمار، والشهيق مثل آخره حين فرغ من صوته؛ قال الشاعر‏:‏

حشرج في الجوف سحيلا أو شهيق حتى يقال ناهق وما نهق

وقيل‏:‏ الزفير إخراج النفس، وهو أن يمتلئ الجوف غما فيخرج بالنفس، والشهيق رد النفس وقيل‏:‏ الزفير ترديد النفس من شدة الحزن؛ مأخوذ من الزفر وهو الحمل على الظهر لشدته؛ والشهيق النفس الطويل الممتد؛ مأخوذ من قولهم‏:‏ جبل شاهق؛ أي طويل‏.‏ والزفير والشهيق من أصوات المحزونين‏.‏

قوله تعالى‏{‏خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض‏}‏ ‏}‏ما دامت‏}‏ في موضع نصب على الظرف؛ أي دوام السماوات والأرض، والتقدير‏:‏ وقت ذلك‏.‏ واختلف في تأويل هذا؛ فقالت‏.‏ طائفة منهم الضحاك‏:‏ المعنى ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما والسماء كل ما علاك فأظلك، والأرض ما استقر عليه قدمك؛ وفي التنزيل‏{‏وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء‏}‏الزمر‏:‏ 74‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ أراد به السماء والأرض المعهودتين في الدنيا وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار‏.‏ عن دوام الشيء وتأبيده؛ كقولهم‏:‏ لا آتيك ما جن ليل، أو سال سيل، وما اختلف الليل والنهار، وما ناح الحمام، وما دامت السماوات والأرض، ونحو هذا مما يريدون به‏.‏ طولا من غير نهاية؛ فأفهمهم الله تخليد الكفرة بذلك‏.‏ وإن كان قد أخبر بزوال السماوات‏.‏ والأرض‏.‏ وعن ابن عباس أن جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نور العرش، وأن السماوات والأرض في الآخرة تردان إلى النور الذي أخذتا منه؛ فهما دائمتان أبدا في نور العرش‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلا ما شاء ربك‏}‏ في موضع نصب؛ لأنه استثناء ليس من الأول؛ وقد اختلف فيه على أقوال عشرة‏:‏ الأولى‏:‏ أنه استثناء من قوله‏{‏ففي النار‏}‏ كأنه قال‏:‏ إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك؛ وهذا قول رواه أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري وجابر رضي الله عنهما‏.‏ وإنما لم يقل من شاء؛ لأن المراد العدد لا الأشخاص؛ كقوله‏{‏ما طاب لكم‏}‏النساء‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وعن أبي نضرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏إلا من شاء ألا يدخلهم وإن شقوا بالمعصية‏)‏‏.‏ الثاني‏:‏ أن الاستثناء إنما هو للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار؛ وعلى هذا يكون قوله‏{‏فأما الذين شقوا‏}‏ عاما في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من ‏}‏خالدين‏}‏؛ قاله قتادة والضحاك وأبو سنان وغيرهم‏.‏ وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحممة أخرجوا منها ودخلوا الجنة فيقال هؤلاء الجهنميون‏)‏ وقد تقدم هذا المعنى في ‏}‏النساء‏}‏ وغيرها‏.‏ الثالث‏:‏ أن الاستثناء من الزفير والشهيق؛ أي لهم فيها زفير وشهيق إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب الذي لم يذكره، وكذلك لأهل الجنة من النعيم ما ذكر، وما لم يذكر‏.‏ حكاه ابن الأنباري‏.‏ الرابع‏:‏ قال ابن مسعود‏{‏خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض‏}‏ لا يموتون فيها، ولا يخرجون منها ‏}‏إلا ما شاء ربك‏}‏ وهو أن يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم، ثم يجدد خلقهم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا القول خاص بالكافر والاستثناء له في الأكل، وتجديد الخلق‏.‏ الخامس‏:‏ أن ‏}‏إلا‏}‏ بمعنى ‏}‏سوى‏}‏ كما تقول في الكلام‏:‏ ما معي رجل إلا زيد، ولي عليك ألفا درهم إلا الألف التي لي عليك‏.‏ قيل‏:‏ فالمعنى ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود‏.‏ السادس‏:‏ أنه استثناء من الإخراج، وهو لا يريد أن يخرجهم منها‏.‏ كما تقول في الكلام‏:‏ أردت أن أفعل ذلك إلا أن أشاء غيره، وأنت مقيم على ذلك الفعل؛ فالمعنى أنه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم، ولكنه قد أعلمهم أنهم خالدون فيها، ذكر هذين القولين الزجاج عن أهل اللغة، قال‏:‏ ولأهل المعاني قولان آخران، فأحد القولين‏{‏خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك‏}‏ من مقدار موقفهم على رأس قبورهم، وللمحاسبة، وقدر مكثهم في الدنيا، والبرزخ، والوقوف للحساب‏.‏ والقول الآخر‏:‏ وقوع الاستثناء في الزيادة على النعيم والعذاب، وتقديره‏{‏خالدين فيها ما دامت السماوات ولأرض إلا ما شاء ربك‏}‏ من زيادة النعيم لأهل النعيم، وزيادة العذاب لأهل الجحيم‏.‏

قلت‏:‏ فالاستثناء في الزيادة من الخلود على مدة كون السماء والأرض المعهودتين في الدنيا واختاره الترمذي الحكيم أبو عبدالله محمد بن علي، أي خالدين فيها مقدار دوام السماوات والأرض، وذلك مدة العالم، وللسماء والأرض وقت يتغيران فيه، وهو قوله سبحانه‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض‏}‏إبراهيم‏:‏ 48‏]‏ فخلق الله سبحانه الآدميين وعاملهم، واشترى منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة، وعلى ذلك بايعهم يوم الميثاق، فمن وفي بذلك العهد فله الجنة، ومن ذهب برقبته يخلد في النار بمقدار دوام السماوات والأرض؛ فإنما دامتا للمعاملة؛ وكذلك أهل الجنة خلود في الجنة بمقدار ذلك؛ فإذا تمت هذه المعاملة وقع الجميع في مشيئة الله؛ قال الله تعالى‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين‏.‏ ما خلقناهما إلا بالحق‏}‏الدخان‏:‏ 39‏]‏ فيخلد أهل الدارين بمقدار دوامهما، وهو حق الربوبية بذلك المقدار من العظمة؛ ثم أوجب لهم الأبد في كلتا الدارين لحق الأحدية؛ فمن لقيه موحدا لأحديته بقي في داوه أبدا، ومن لقيه مشركا بأحديته إلها بقي في السجن أبدا؛ فأعلم الله العباد مقدار الخلود، ثم قال‏{‏إلا ما شاء ربك‏}‏ من زيادة المدة التي تعجز القلوب عن إدراكها لأنه لا غاية لها؛ فبالاعتقاد دام خلودهم في الدارين أبدا‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ‏}‏إلا‏}‏ بمعنى الواو، قاله الفراء وبعض أهل النظر وهو‏:‏ الثامن‏:‏ والمعنى‏:‏ وما شاء ربك من الزيادة في الخلود على مدة دوام السماوات والأرض في الدنيا‏.‏ وقد قيل في قوله تعالى‏{‏إلا الذين ظلموا‏}‏البقرة‏:‏ 150‏]‏ أي ولا الذين ظلموا‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان

أي والفرقدان‏.‏ وقال أبو محمد مكي‏:‏ وهذا قول بعيد عند البصريين أن تكون ‏}‏إلا‏}‏ بمعنى الواو، وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ بيانه‏.‏ وقيل‏:‏ معناه كما شاء ربك؛ كقوله تعالى‏{‏ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف‏}‏النساء‏:‏ 22‏]‏ أي كما قد سلف، وهو‏:‏ التاسع، العاشر‏:‏ وهو أن قوله تعالى‏{‏إلا ما شاء رب‏}‏ إنما ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام؛ فهو على حد قوله تعالى‏{‏لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين‏}‏الفتح‏:‏ 27‏]‏ فهو استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كذلك؛ كأنه قال‏:‏ إن شاء ربك؛ فليس يوصف بمتصل ولا منقطع؛ ويؤيده ويقويه قوله تعالى‏{‏عطاء غير مجذوذ‏}‏ ونحوه عن أبي عبيد قال‏:‏ تقدمت عزيمة المشيئة من الله تعالى في خلود الفريقين في الدارين؛ فوقع لفظ الاستثناء، والعزيمة قد تقدمت في الخلود، قال‏:‏ وهذا مثل قوله تعالى‏{‏لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين‏}‏الفتح‏:‏ 27‏]‏ وقد علم أنهم يدخلونه حتما، فلم يوجب الاستثناء في الموضعين خيارا؛ إذ المشيئة قد تقدمة، بالعزيمة في الخلود في الدارين والدخول في المسجد الحرام؛ ونحوه عن الفراء‏.‏ وقول‏:‏ حادي عشر‏:‏ وهو أن الأشقياء هم السعداء، والسعداء هم الأشقياء لا غيرهم، والاستثناء في الموضعين راجع إليهم؛ وبيانه أن ‏}‏ما‏}‏ بمعنى ‏}‏من‏}‏ استثنى الله عز وجل من الداخلين في النار المخلدين فيها الذين يخرجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما معهم من الإيمان، واستثنى من الداخلين في الجنة المخلدين فيها الذين يدخلون النار بذنوبهم قبل دخول الجنة ثم يخرجون منها إلى الجنة‏.‏ وهم الذين وقع عليهم الاستثناء الثاني؛ كأنه قال تعالى‏{‏فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك‏}‏ ألا يخلده فيها، وهم الخارجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإيمانهم وبشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهم بدخولهم النار يسمون الأشقياء، وبدخلهم الجنة يسمون السعداء؛ كما روى الضحاك عن ابن عباس إذ قال‏:‏ الذين سعدوا شقوا بدخول النار ثم سعدوا بالخروج منها ودخولهم الجنة‏.‏

وقرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ‏}‏وأما الذين سعدوا‏}‏ بضم السين‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ والدليل على أنه سعدوا أن الأول شقوا ولم يقل أشقوا‏.‏ قال النحاس‏:‏ ورأيت علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي ‏}‏سعدوا‏}‏ مع علمه بالعربية‏!‏ إذ كان هذا لحنا لا يجوز؛ لأنه إنما يقال‏:‏ سعد فلان وأسعده الله، وأسعد مثل أمرض؛ وإنما احتج الكسائي بقولهم‏:‏ مسعود ولا حجة له فيه؛ لأنه يقال‏:‏ مكان مسعود فيه، ثم يحذف فيه ويسمى به‏.‏ وقال المهدوي‏:‏ ومن ضم السين من ‏}‏سعدوا‏}‏ فهو محمول على قولهم‏:‏ مسعود وهو شاذ قليل؛ لأنه لا يقال‏:‏ سعده الله؛ إنما يقال‏:‏ أسعده الله‏.‏ وقال الثعلبي‏{‏سعدوا‏}‏ بضم السين أي رزقوا السعادة؛ يقال‏:‏ سعد وأسعد بمعنى واحد وقرأ الباقون ‏}‏سعدوا‏}‏ بفتح السين قياسا على ‏}‏شقوا‏}‏ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ والسعادة خلاف الشقاوة؛ تقول‏:‏ منه سعد الرجل بالكسر فهو سعيد، مثل سلم فهو سليم، وسعد فهو مسعود؛ ولا يقال فيه‏:‏ مسعد، كأنهم استغنوا عنه بمسعود‏.‏ وقال القشيري أبو نصر عبدالرحيم‏:‏ وقد ورد سعده الله فهو مسعود، وأسعده الله فهو مسعد؛ فهذا يقوي قول الكوفيين وقال سيبويه‏:‏ لا يقال سعد فلان كما لا يقال شقي فلان؛ لأنه مما لا يتعدى‏.‏ ‏}‏عطاء غير مجذوذ‏}‏ أي غير مقطوع؛ من جذه يجذه أي قطعه؛ قال النابغة‏:‏

تجذ السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب

الآية رقم ‏(‏ 109 ‏)‏

‏{‏فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلا تك‏}‏ جزم بالنهي؛ وحذفت النون لكثرة الاستعمال‏.‏ ‏}‏في مرية‏}‏ أي في شك‏.‏ ‏}‏مما يعبد هؤلاء‏}‏ من الآلهة أنها باطل‏.‏ وأحسن من هذا‏:‏ أي قل يا محمد لكل من شك ‏}‏لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء‏}‏ أن الله عز وجل ما أمرهم به، وإنما يعبدونها كما كان آباؤهم يفعلون تقليدا لهم‏.‏ ‏}‏وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ نصيبهم من الرزق؛ قاله أبو العالية‏.‏ الثاني‏:‏ نصيبهم من العذاب؛ قال ابن زيد‏.‏ الثالث‏:‏ ما وعدوا به من خير أو شر، قاله ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 110 ‏)‏

‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربك‏}‏ ‏}‏ولولا كلمة سبقت من ربك‏}‏ الكلمة‏:‏ أن الله عز وجل حكم أن يؤخرهم إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من الصلاح؛ ولولا ذلك لقضى بينهم أجلهم بأن يثيب المؤمن ويعاقب الكافر‏.‏ قيل‏:‏ المراد بين المختلفين في كتاب موسى؛ فإنهم كانوا بين مصدق به ومكذب‏.‏ وقيل‏:‏ بين هؤلاء المختلفين فيك يا محمد بتعجيل العقاب، ولكن سبق الحكم بتأخير العقاب عن هذه الأمة إلى يوم القيامة‏.‏ ‏}‏وإنهم لفي شك منه مريب‏}‏ إن حملت على قوم موسى؛ أي لفي شك من كتاب موسى فهم في شك من القرآن‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 111 ‏)‏

‏{‏وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم‏}‏ أي إن كلا من الأمم التي عددناهم يرون جزاء أعمالهم؛ فكذلك قومك يا محمد‏.‏ واختلف القراء في قراءة ‏}‏وإن كلا لما‏}‏ فقرأ أهل الحرمين - نافع وابن كثير وأبو بكر معهم - ‏}‏وإنْ كلا لَمَا‏}‏ بالتخفيف، على أنها ‏}‏إن‏}‏ المخففة من الثقيلة معملة؛ وقد ذكر هذا الخليل وسيبويه، قال سيبويه‏:‏ حدثنا من أثق به أنه سمع العرب تقول‏:‏ إن زيدا لمنطلق؛ وأنشد قول الشاعر‏:‏

كأنْ ظبية تعطو إلى وارق السلم

أراد كأنها ظبية فخفف ونصب ما بعدها؛ والبصريون يجوزون تخفيف ‏}‏إن‏}‏ المشددة مع إعمالها؛ وأنكر ذلك الكسائي وقال‏:‏ ما أدري على أي شيء قرئ ‏}‏وإن كلا‏}‏‏!‏ وزعم الفراء أنه نصب ‏}‏كلا‏}‏ في قراءة من خفف بقوله‏{‏ليوفينهم‏}‏ أي وإن ليوفينهم كلا؛ وأنكر ذلك جميع النحويين، وقالوا‏:‏ هذا من كبير الغلط؛ لا يجوز عند أحد زيدا لأضربنه‏.‏ وشدد الباقون ‏}‏إن‏}‏ ونصبوا بها ‏}‏كلا‏}‏ على أصلها‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر ‏}‏لما‏}‏ بالتشديد‏.‏ وخففها الباقون على معنى‏:‏ وإن كلا ليوفينهم، جعلوا ‏}‏ما‏}‏ صلة‏.‏ وقيل‏:‏ دخلت لتفصل بين اللامين اللتين تتلقيان القسم، وكلاهما مفتوح ففصل بينهما بـ ‏}‏ما‏}‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لام ‏}‏لما‏}‏ لام ‏}‏إن‏}‏ و‏}‏ما‏}‏ زائدة مؤكدة؛ تقول‏:‏ إن زيدا لمنطلق، فإن تقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقولك‏:‏ إن الله لغفور رحيم، وقوله‏{‏إن في ذلك لذكري‏}‏‏.‏ واللام في ‏}‏ليوفينهم‏}‏ هي التي يتلقى بها القسم، وتدخل على الفعل ويلزمها النون المشددة أو المخففة، ولما اجتمعت اللامان فصل بينهما بـ ‏}‏ما‏}‏ و‏}‏ما‏}‏ زائدة مؤكدة، وقال الفراء‏{‏ما‏}‏ بمعنى ‏}‏من‏}‏ كقوله‏{‏وإن منكم لمن ليبطئن‏}‏النساء‏:‏ 72‏]‏ أي وإن كلا لمن ليوفينهم، واللام في ‏}‏ليوفينهم‏}‏ للقسم؛ وهذا يرجع معناه إلى قول الزجاج، غير أن ‏}‏ما‏}‏ عند الزجاج زائدة وعند الفراء اسم بمعنى ‏}‏من‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ ليست بزائد، بل هي اسم دخل عليها لام التأكيد، وهي خبر ‏}‏إن‏}‏ و‏}‏ليوفينهم‏}‏ جواب القسم، التقدير‏:‏ وإن كلا خلق ليوفينهم ربك أعمالهم‏.‏ وقيل‏{‏ما‏}‏ بمعنى ‏}‏من‏}‏ كقوله‏{‏فانكحوا ما طاب لكم من النساء‏}‏النساء‏:‏ 3‏]‏ أي من؛ وهذا كله هو قول الفراء بعينه‏.‏ وأما من شدد ‏}‏لما‏}‏ وقرأ ‏}‏وإن كلا لما‏}‏ بالتشديد فيهما - وهو حمزة ومن وافقه - فقيل‏:‏ إنه لحن؛ حكي عن محمد بن زيد أن هذا لا يجوز؛ ولا يقال‏:‏ إن زيدا إلا لأضربنه، ولا لما لضربته‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ الله أعلم بهذه القراءة؛ وما أعرف لها وجها‏.‏ وقال هو وأبو علي الفارسي‏:‏ التشديد فيهما مشكل‏.‏ قال النحاس وغيره‏:‏ وللنحويين في ذلك أقوال‏:‏ الأول‏:‏ أن أصلها ‏}‏لمن ما‏}‏ فقلبت النون ميما، واجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى فصارت ‏}‏لما‏}‏ و‏}‏ما‏}‏ على هذا القول بمعنى ‏}‏من‏}‏ تقديره‏:‏ وإن كلا لمن الذين؛ كقولهم‏:‏

وإني لمَّا أصدر الأمر وجهه إذا هو أعيا بالسبيل مصادره

وزيّف الزجاج هذا القول، وقال‏{‏من‏}‏ اسم على حرفين فلا يجوز حذفه‏.‏ الثاني‏:‏ أن الأصل‏.‏ لمن ما، فحذفت الميم المكسورة لاجتماع الميمات، والتقدير‏:‏ وإن كلا لمن خلق ليوفينهم‏.‏ وقيل‏{‏لما‏}‏ مصدر ‏}‏لم‏}‏ وجاءت بغير تنوين حملا للوصل على الوقف؛ فهي على هذا كقوله‏{‏وتأكلون التراث أكلا لما‏}‏الفجر‏:‏ 19‏]‏ أي جامعا للمال المأكول؛ فالتقدير على هذا‏:‏ وإن كلا ليوفينهم ربك أعمالهم توفية لما؛ أي جامعة لأعمالهم جمعا، فهو كقولك‏:‏ قياما لأقومن‏.‏ وقد قرأ الزهري ‏}‏لما‏}‏ بالتشديد والتنوين على هذا المعنى‏.‏ الثالث‏:‏ أن ‏}‏لما‏}‏ بمعنى ‏}‏إلا‏}‏ حكى أهل اللغة‏:‏ سألتك بالله لما فعلت؛ بمعنى إلا فعلت؛ ومثله قوله تعالى‏{‏إن كل نفس لما عليها حافظ‏}‏الطارق‏:‏ 4‏]‏ أي إلا عليها؛ فمعنى الآية‏:‏ ما كل واحد منهم إلا ليوفينهم؛ قال القشيري‏:‏ وزيف الزجاج هذا القول بأنه لا نفي لقوله‏{‏وإن كلا لما‏}‏ حتى تقدر ‏}‏إلا‏}‏ ولا يقال‏:‏ ذهب الناس لما زيد‏.‏ الرابع‏:‏ قال أبو عثمان المازني‏:‏ الأصل وإن كلا لما بتخفيف ‏}‏لما‏}‏ ثم ثقلت كقوله‏:‏

لقد خشيت أن أرى جدبا في عامنا ذا بعد ما أخصبا

وقال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ هذا خطأ، إنما يخفف المثقل؛ ولا يثقل المخفف‏.‏ الخامس‏:‏ قال أبو عبيد القاسم بن سلام‏:‏ يجوز أن يكون التشديد من قولهم‏:‏ لممت الشيء ألمه لما إذا جمعته؛ ثم بني منه فعلى، كما قرئ ‏}‏ثم أرسلنا رسلنا تترى‏}‏المؤمنون‏:‏ 44‏]‏ بغير تنوين وبتنوين‏.‏ فالألف على هذا للتأنيث، وتمال على هذا القول لأصحاب الإمالة؛ قال أبو إسحاق‏:‏ القول الذي لا يجوز غيره عندي أن تكون مخففة من الثقيلة، وتكون بمعنى ‏}‏ما‏}‏ مثل‏{‏إن كل نفس لما عليها حافظ‏}‏الطارق‏:‏ 4‏]‏ وكذا أيضا تشدد على أصلها، وتكون بمعنى ‏}‏ما‏}‏ و‏}‏لما‏}‏ بمعنى ‏}‏إلا‏}‏ حكى ذلك الخليل وسيبويه وجميع البصريين؛ وأن ‏}‏لما‏}‏ يستعمل بمعنى ‏}‏إلا‏}‏ قلت‏:‏ هذا القول الذي ارتضاه الزجاج حكاه عنه النحاس وغيره؛ وقد تقدم مثله وتضعيف الزجاج له، إلا أن ذلك القول صوابه ‏}‏إن‏}‏ فيه نافية، وهنا مخففة من الثقيلة فافترقا وبقيت قراءتان؛ قال أبو حاتم‏:‏ وفي حرف أبي‏{‏وإن كلا لما ليوفينهم‏}‏هود‏:‏ 111‏]‏ وروي عن الأعمش ‏}‏وإن كل لما‏}‏ بتخفيف ‏}‏إن‏}‏ ورفع ‏}‏كل‏}‏ وبتشديد ‏}‏لما‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذه القراءات المخالفة للسواد تكون فيها ‏}‏إن‏}‏ بمعنى ‏}‏ما‏}‏ لا غير، وتكون على التفسير؛ لأنه لا يجوز أن يقرأ بما خالف السواد إلا على هذه الجهة‏.‏ ‏}‏إنه بما يعملون خبير‏}‏ تهديد ووعيد‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 112 ‏)‏

‏{‏فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏فاستقم كما أمرت‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره‏.‏ وقيل‏:‏ له والمراد أمته؛ قاله السدى‏.‏ وقيل‏{‏استقم‏}‏ اطلب الإقامة على الدين من الله واسأله ذلك‏.‏ فتكون السين سين السؤال، كما تقول‏:‏ استغفر الله أطلب الغفران منه‏.‏ والاستقامة الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال؛ فاستقم على امتثال أمر الله‏.‏ وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبدالله الثقفي قال‏:‏ قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏قل آمنت بالله ثم استقم‏)‏‏.‏ وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن عثمان بن حاضر الأزدي قال‏:‏ دخلت على ابن عباس فقلت أوصني‏!‏ فقال‏:‏ نعم‏!‏ عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع‏.‏ ‏}‏ومن تاب معك‏}‏ أي استقم أنت وهم؛ يريد أصحابه الذين تابوا من الشرك ومن بعده ممن اتبعه من أمته‏.‏ قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له‏:‏ لقد أسرع إليك الشيب‏!‏ فقال‏:‏ ‏(‏شيبتني هود وأخواتها‏)‏‏.‏ وقد تقدم في أول السورة‏.‏ وروي عن أبي عبدالرحمن السلمي قال سمعت أبا علي السري يقول‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ روي عنك أنك قلت‏:‏ ‏(‏شيبتني هود‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ فقلت له‏:‏ ما الذي شيبك منها‏؟‏ قصص الأنبياء وهلاك الأمم‏!‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا ولكن قوله‏:‏ فاستقم كما أمرت‏)‏‏.‏ ‏}‏ولا تطغوا‏}‏ نهى عن الطغيان والطغيان مجاوزة الحد؛ ومنه ‏}‏إنا لما طغى الماء‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ أي لا تتجبروا على أحد‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 113 ‏)‏

‏{‏ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا تركنوا‏}‏ الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى، الشيء والرضا به، قال قتادة‏:‏ معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم‏.‏ ابن جريج‏:‏ لا تميلوا إليهم‏.‏ أبو العالية‏:‏ لا ترضوا أعمالهم؛ وكله متقارب‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الركون هنا الإدهان وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم‏.‏

قرأ الجمهور‏{‏تركنوا‏}‏ بفتح الكاف؛ قال أبو عمرو‏:‏ هي لغة أهل الحجاز‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف وقتادة وغيرهما‏{‏تركنوا‏}‏ بضم الكاف؛ قال الفراء‏:‏ وهي لغة تميم وقيس‏.‏ وجوز قوم ركن يركن مثل منع يمنع‏.‏‏}‏ ‏}‏إلى الذين ظلموا‏}‏ قيل‏:‏ أهل الشرك‏.‏ وقيل‏:‏ عامة فيهم وفي العصاة، على نحو قوله تعالى‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا‏}‏الأنعام‏:‏ 68‏]‏ الآية‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وهذا هو الصحيح في معنى الآية؛ وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم؛ فإن صحبتهم كفر أو معصية؛ إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة؛ وقد قال حكيم‏:‏

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارِن يقتدي

فإن كانت الصحبة عن ضرورة وتقية فقد مضى القول فيها في ‏}‏آل عمران‏}‏ و‏}‏المائدة‏}‏‏.‏ وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فتمسكم النار‏}‏ أي تحرقكم‏.‏ بمخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على إعراضهم وموافقتهم في أمورهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 114 ‏)‏

‏{‏وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأقم الصلاة طرفي النهار‏}‏ لم يختلف أحد من أهل التأويل في أن الصلاة في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة؛ وخصها بالذكر لأنها ثانية الإيمان، وإليها يفزع في النوائب؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة‏.‏

وقال شيوخ الصوفية‏:‏ إن المراد بهذه الآية استغراق الأوقات بالعبادة فرضا ونفلا؛ قال ابن العربي‏:‏ وهذا ضعيف، فإن الأمر لم يتناول ذلك إلا واجبا لا نفلا، فإن الأوراد معلومة، وأوقات النوافل المرغب فيها محصورة، وما سواها من الأوقات يسترسل عليها الندب على البدل لا على العموم، وليس ذلك في قوة بشر‏.‏

قوله تعالى‏{‏طرفي النهار‏}‏ قال مجاهد‏:‏ الطرف الأول، صلاة الصبح، والطرف الثاني صلاة الظهر والعصر؛ واختاره ابن عطية‏.‏ وقيل‏:‏ الطرفان الصبح والمغرب؛ قال ابن عباس والحسن‏.‏ وعن الحسن أيضا الطرف الثاني العصر وحده؛ وقال قتادة والضحاك‏.‏ وقيل‏:‏ الطرفان الظهر والعصر‏.‏ والزلف المغرب والعشاء والصبح؛ كأن هذا القائل راعى جهر القراءة‏.‏ وحكى الماوردي أن الطرف الأول صلاة الصبح باتفاق‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الاتفاق ينقضه القول الذي قبله‏.‏ ورجح الطبري أن الطرفين الصبح والمغرب، وأنه ظاهر؛ قال ابن عطية‏:‏ ورد عليه بأن المغرب لا تدخل فيه لأنها من صلاة الليل‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والعجب من الطبري الذي يرى أن طرفي النهار الصبح والمغرب، وهما طرفا الليل‏!‏ فقلب القوس ركوة، وحاد عن البرجاس غلوة؛ قال الطبري‏:‏ والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد الطرفين الصبح، فدل على أن الطرف الآخر المغرب، ولم يجمع معه على ذلك أحد‏.‏

قلت‏:‏ هذا تحامل من ابن العربي في الرد؛ وأنه لم يجمع معه على ذلك أحد؛ وقد ذكرنا عن مجاهد أن الطرف الأول صلاة الصبح، وقد وقع الاتفاق - إلا من شذ - بأن من أكل أو جامع بعد طلوع الفجر متعمدا أن يومه ذلك يوم فطر، وعليه القضاء والكفارة، وما ذلك، إلا وما بعد طلوع الفجر من النهار؛ فدل على صحة ما قاله الطبري في الصبح، وتبقى عليه المغرب والرد عليه فيه ما تقدم‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وزلفا من الليل‏}‏ أي في زلف من الليل، والزلف الساعات القريبة بعضها من بعض؛ ومنه سميت المزدلفة؛ لأنها منزل بعد عرفة بقرب مكة‏.‏ وقرأ ابن القعقاع وابن أبي إسحاق وغيرهما ‏}‏وزلفا‏}‏ بضم اللام جمع زليف؛ لأنه قد نطق بزليف، ويجوز أن يكون واحده ‏}‏زلفة‏}‏ لغة؛ كبسرة وبسر، في لغة من ضم السين‏.‏ وقرأ ابن محيصن ‏}‏وزلفا‏}‏ من الليل بإسكان اللام؛ والواحدة زلفة تجمع جمع الأجناس التي هي أشخاص كدرة ودر وبرة وبر‏.‏ وقرأ مجاهد وابن محيصن أيضا ‏}‏زلفى‏}‏ مثل قربى‏.‏ وقرأ الباقون ‏}‏وزلفا‏}‏ بفتح اللام كغرفة وغرف‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ الزلف الساعات، واحدها زلفة‏.‏ وقال قوم‏:‏ الزلفة أول ساعة من الليل بعد مغيب الشمس؛ فعلى هذا يكون المراد بزلف الليل صلاة العتمة؛ قاله ابن عباس‏.‏ وقال الحسن‏:‏ المغرب والعشاء‏.‏ وقيل‏:‏ المغرب والعشاء والصبح؛ وقد تقدم‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ يعني صلاة الليل ولم يعين‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن الحسنات يذهبن السيئات‏}‏ ذهب جمهور المتأولين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين إلى أن الحسنات ههنا هي الصلوات الخمس، وقال مجاهد‏:‏ الحسنات قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، قال ابن عطية‏:‏ وهذا على جهة المثال في الحسنات، والذي يظهر أن اللفظ عام في الحسنات خاص في السيئات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما اجتنبت الكبائر‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ سبب النزول يعضد قول الجمهور؛ نزلت في رجل من الأنصار، قيل‏:‏ هو أبو اليسر بن عمرو‏.‏ وقيل‏:‏ اسمه عباد؛ خلا بامرأة فقبلها وتلذذ بها فيما دون الفرج‏.‏ روى الترمذي عن عبدالله قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏‏:‏ إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها وأنا هذا فاقض في ما شئت‏.‏ فقال له عمر‏:‏ لقد سترك الله‏!‏ لو سترت على نفسك؛ فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فانطلق الرجل فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه، فتلا عليه‏{‏أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين‏}‏ إلى آخر الآية؛ فقال رجل من القوم‏:‏ هذا له خاصة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا بل للناس كافة‏)‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ وخرج أيضا عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة حرام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن كفارتها فنزلت‏{‏أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات‏}‏ فقال الرجل‏:‏ ألي هذه يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لك ولمن عمل بها من أمتي‏)‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وروي عن أبي اليسر‏.‏ قال‏:‏ أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت‏:‏ إن في البيت تمرا أطيب من هذا، فدخلت معي في البيت فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال‏:‏ استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر، فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال‏:‏ استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال‏:‏ ‏(‏أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا‏)‏‏؟‏ حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة، حتى ظن أنه من أهل النار‏.‏ قال‏:‏ وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه ‏}‏أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين‏}‏‏.‏ قال أبو اليسر‏:‏ فأتيته فقرأها علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحابه‏:‏ يا رسول الله‏!‏ ألهذا خاصة أم للناس عامة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏بل للناس عامة‏)‏‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن غريب، وقيس بن الربيع ضعفه وكيع وغيره؛ وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه، وأقيمت صلاة العصر فلما فرغ منها نزل جبريل عليه السلام عليه بالآية فدعاه فقال له‏:‏ ‏(‏أشهدت معنا الصلاة‏)‏‏؟‏ قال نعم؛ قال‏:‏ ‏(‏اذهب فإنها كفارة لما فعلت‏)‏‏.‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا عليه هذه الآية قال له‏:‏ ‏(‏قم فصل أربع ركعات‏)‏‏.‏ والله أعلم‏.‏ وخرج الترمذي الحكيم في ‏}‏نوادر الأصول‏}‏ من حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لم أر شيئا أحسن طلبا ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم، ‏}‏إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين‏}‏‏.‏

دلت الآية مع هذه الأحاديث على أن القبلة الحرام واللمس الحرام لا يجب، فيهما الحد، وقد يستدل به على أن لا حد ولا أدب على الرجل والمرأة وإن وجدا في ثوب واحد، وهو اختيار ابن المنذر؛ لأنه لما ذكر اختلاف العلماء في هذه المسألة ذكر هذا الحديث مشيرا إلى أنه لا يجب عليهما شيء، وسيأتي ما للعلماء في هذا في ‏}‏النور‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر الله سبحانه في كتابه الصلاة بركوعها وسجودها وقيامها وقراءتها وأسمائها فقال‏{‏أقم الصلاة‏}‏ الآية‏.‏ وقال‏{‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏}‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏ الآية‏.‏ وقال‏{‏فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون‏.‏ وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون‏}‏الروم‏:‏17 - 18‏]‏‏.‏ وقال‏{‏وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها‏}‏طه‏:‏ 130‏]‏‏.‏ وقال‏{‏اركعوا واسجدوا‏}‏الحج‏:‏ 77‏]‏‏.‏ وقال‏{‏وقوموا لله قانتين‏}‏البقرة‏:‏ 238‏]‏‏.‏ وقال‏{‏وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا‏}‏الأعراف‏:‏ 204‏]‏ على ما تقدم‏.‏ وقال‏{‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها‏}‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏ أي بقراءتك؛ وهذا كله مجمل أجمله في كتابه، وأحال على نبيه في بيانه؛ فقال جل ذكره‏{‏وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏النحل‏:‏ 44‏]‏ فبين صلى الله عليه وسلم مواقيت الصلاة، وعدد الركعات والسجدات، وصفة جميع الصلوات فرضها وسننها، وما لا تصح الصلاة إلا به من الفرائض وما يستحب فيها من السنن والفضائل؛ فقال في صحيح البخاري‏:‏ ‏(‏صلوا كما رأيتموني أصلي‏)‏‏.‏ ونقل ذلك عنه الكافة عن الكافة، على ما هو معلوم، ولم يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين جميع ما بالناس الحاجة إليه؛ فكمل الدين، وأوضح السبيل؛ قال الله تعالى‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا‏}‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك ذكرى للذاكرين‏}‏ أي القرآن موعظة وتوبة لمن اتعظ وتذكر؛ وخص الذاكرين بالذكر لأنهم المنتفعون بالذكرى‏.‏ والذكرى مصدر جاء بألف التأنيث‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 115 ‏:‏ 116 ‏)‏

‏{‏واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏واصبر‏}‏ أي على الصلاة؛ كقوله‏{‏وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها‏}‏طه‏:‏ 132‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى واصبر يا محمد على ما تلقى من الأذى‏.‏ ‏}‏فإن الله لا يضيع أجر المحسنين‏}‏ يعني المصلين‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلولا كان‏}‏ أي فهلا كان‏.‏ ‏}‏من القرون من قبلكم‏}‏ أي من الأمم التي قبلكم‏.‏ ‏}‏أولو بقية‏}‏ أي أصحاب طاعة ودين وعقل وبصر‏.‏ ‏}‏ينهون‏}‏ قومهم‏.‏ ‏}‏عن الفساد في الأرض‏}‏ لما أعطاهم الله تعالى من العقول وأراهم من الآيات؛ وهذا توبيخ للكفار‏.‏ وقيل‏:‏ ولولا ههنا للنفي؛ أي ما كان من قبلكم؛ كقوله‏{‏فلولا كانت قرية آمنت‏}‏يونس‏:‏ 98‏]‏ أي ما كانت‏.‏ ‏}‏إلا قليلا‏}‏ استثناء منقطع؛ أي لكن قليلا‏.‏ ‏}‏ممن أنجينا منهم‏}‏ نهوا عن الفساد في الأرض‏.‏ قيل‏:‏ هم قوم يونس؛ لقوله‏{‏إلا قوم يونس‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هم أتباع الأنبياء وأهل الحق‏.‏ ‏}‏واتبع الذين ظلموا‏}‏ أي أشركوا وعصوا‏.‏ ‏}‏ما أترفوا فيه‏}‏ أي من الاشتغال بالمال واللذات، وإيثار ذلك على الآخرة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 117 ‏:‏ 119 ‏)‏

‏{‏وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما كان ربك ليهلك القرى‏}‏ أي أهل القرى‏.‏ ‏}‏بظلم‏}‏ أي بشرك وكفر‏.‏ ‏}‏وأهلها مصلحون‏}‏ أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق؛ أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد، كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان، وقوم لوط باللواط؛ ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب‏.‏ وفي صحيح الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده‏)‏‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مسلمون، فإنه يكون ذلك ظلما لهم ونقصا من حقهم، أي ما أهلك قوما إلا بعد إعذار وإنذار‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون المعنى ما كان ربك ليهلك أحدا وهو يظلمه وإن كان على نهاية الصلاح؛ لأنه تصرف في ملكه؛ دليله قوله‏{‏إن الله لا يظلم الناس شيئا‏}‏يونس‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وما كان الله ليهلكهم بذنوبهم وهم مصلحون؛ أي مخلصون في الإيمان‏.‏ فالظلم المعاصي على هذا‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ على ملة الإسلام وحدها‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أهل دين واحد، أهل ضلالة أو أهل هدى‏.‏ ‏}‏ولا يزالون مختلفين‏}‏ أي على أديان شتى؛ قاله مجاهد وقتادة‏.‏ ‏}‏إلا من رحم ربك‏}‏ استثناء منقطع؛ أي لكن من رحم ربك بالإيمان والهدى فإنه لم يختلف‏.‏ وقيل‏:‏ مختلفين في الرزق، فهذا غني وهذا فقير‏.‏ ‏}‏إلا من رحم ربك‏}‏ بالقناعة؛ قاله الحسن‏.‏ ‏}‏ولذلك خلقهم‏}‏ قال الحسن ومقاتل، وعطاء ويمان‏:‏ الإشارة للاختلاف، أي وللاختلاف خلقهم‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك‏:‏ ولرحمته خلقهم؛ وإنما قال‏{‏ولذلك‏}‏ ولم يقل ولتلك، والرحمة مؤنثة لأنه مصدر؛ وأيضا فإن تأنيث الرحمة غير حقيقي، فحملت على معنى الفضل‏.‏ وقيل‏.‏ الإشارة بذلك للاختلاف والرحمة، وقد يشارك بـ ‏}‏ذلك‏}‏ إلى شيئين متضادين؛ كقوله تعالى‏{‏لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك‏}‏البقرة‏:‏ 68‏]‏ ولم يقل بين ذينك ولا تينك، وقال‏{‏والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما‏}‏الفرقان‏:‏ 67‏]‏ وقال‏{‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا‏}‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏ وكذلك قوله‏{‏قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا‏}‏يونس‏:‏ 58‏]‏ وهذا أحسن الأقوال إن شاء الله تعالى؛ لأنه يعم، أي ولما ذكر خلقهم؛ وإلى هذا أشار مالك رحمه الله فيما روى عنه أشهب؛ قال أشهب‏:‏ سألت مالكا عن هذه الآية قال‏:‏ خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير؛ أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرحمة للرحمة‏.‏ وروي عن ابن عباس أيضا قال‏:‏ خلقهم فريقين، فريقا يرحمه وفريقا لا يرحمه‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وفي الكلام على هذا التقدير تقديم وتأخير؛ المعنى‏:‏ ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين؛ ولذلك، خلقهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو‏.‏ متعلق بقوله ‏}‏ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود‏}‏هود‏:‏ 103‏]‏ والمعنى‏:‏ ولشهود ذلك اليوم خلقهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو متعلق بقوله‏{‏فمنهم شقي وسعيد‏}‏هود‏:‏ 105‏]‏ أي للسعادة والشقاوة خلقهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وتمت كلمة ربك‏}‏ معنى ‏}‏تمت‏}‏ ثبت ذلك كما أخبر وقدر في أزله؛ وتمام الكلمة امتناعها عن قبول التغيير والتبديل‏.‏ ‏}‏لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏}‏ ‏}‏من‏}‏ لبيان الجنس؛ أي من جنس الجنة وجنس الناس‏.‏ ‏}‏أجمعين‏}‏ تأكيد؛ وكما أخبر أنه يملأ ناره كذلك أخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يملأ جنته بقوله‏:‏ ‏(‏ولكل واحدة منكما ملؤها‏)‏‏.‏ خرجه البخاري من حديث أبي هريرة وقد تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 120 ‏)‏

‏{‏وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكلا نقص عليك‏}‏ ‏}‏كلا‏}‏ نصب بـ ‏}‏نقص‏}‏ معناه وكل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل نقص عليك‏.‏ وقال الأخفش‏{‏كلا‏}‏ حال مقدمة، كقولك‏:‏ كلا ضربت القوم‏.‏ ‏}‏من أنباء الرسل‏}‏ أي من أخبارهم وصبرهم على أذى قومهم‏.‏ ‏}‏ما نثبت به فؤادك‏}‏ أي على أداء الرسالة، والصبر على ما ينالك فيها من الأذى‏.‏ وقيل‏:‏ نزيدك به تثبيتا ويقينا‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ما نشد به قلبك‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ نصبر به قلبك حتى لا تجزع‏.‏ وقال أهل المعاني‏:‏ نطيب، والمعنى متقارب‏.‏ و‏}‏ما‏}‏ بدل من ‏}‏كلا‏}‏ المعنى‏:‏ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك‏.‏ ‏}‏وجاءك في هذه الحق‏}‏ أي في هذه السورة؛ عن ابن عباس وأبي موسى وغيرهما؛ وخص هذه السورة لأن فيها أخبار الأنبياء والجنة والنار‏.‏ وقيل‏:‏ خصها بالذكر تأكيدا وإن كان الحق في كل القرآن‏.‏ وقال قتادة والحسن‏:‏ المعنى في هذه الدنيا، يريد النبوة‏.‏ ‏}‏وموعظة وذكرى للمؤمنين‏}‏ الموعظة ما يتعظ به من إهلاك الأمم الماضية، والقرون الخالية المكذبة؛ وهذا تشريف لهذه السورة؛ لأن غيرها من السور قد جاء فيها الحق والموعظة والذكرى ولم يقل فيها كما قال في هذه على التخصيص‏.‏ ‏}‏وذكرى للمؤمنين‏}‏ أي يتذكرون ما نزل بمن هلك فيتوبون؛ وخص المؤمنين لأنهم المتعظون إذا سمعوا قصص الأنبياء‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 121 ‏:‏ 123 ‏)‏

‏{‏وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون، ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم‏}‏ تهديد ووعيد‏.‏ ‏}‏إنا عاملون‏.‏ وانتظروا إنا منتظرون‏}‏ تهديد آخر، وقد تقدم معناه‏.‏ ‏}‏ولله غيب السماوات والأرض‏}‏ أي غيبهما وشهادتهما؛ فحذف لدلالة المعنى‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ خزائن السماوات والأرض‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ جميع ما غاب عن العباد فيهما‏.‏ وقال الباقون‏:‏ غيب السماوات والأرض نزول العذاب من السماء وطلوعه من الأرض‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏{‏ولله غيب السماوات والأرض‏}‏ أي علم ما غاب فيهما؛ أضاف الغيب وهو مضاف إلى المفعول توسعا؛ لأنه حذف حرف الجر؛ تقول‏:‏ غبت في الأرض وغبت ببلد كذا‏.‏‏.‏ ‏}‏وإليه يرجع الأمر كله‏}‏ أي يوم القيامة، إذ ليس لمخلوق أمر إلا بإذنه‏.‏ وقرأ نافع وحفص ‏}‏يرجع‏}‏ بضم الياء وبفتح الجيم؛ أي يرد‏.‏ ‏}‏فاعبده وتوكل عليه‏}‏ أي الجأ إليه وثق به‏.‏ ‏}‏وما ربك بغافل عما تعملون‏}‏ أي يجازي كلا بعمله‏.‏ وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالتاء على المخاطبة‏.‏ الباقون بياء على الخبر‏.‏ قال الأخفش سعيد‏{‏يعملون‏}‏ إذا لم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم معهم؛ قال‏:‏ بعضهم وقال‏{‏تعملون‏}‏ بالتاء لأنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ قل لهم ‏}‏وما ربك بغافل عما تعملون‏}‏‏.‏ وقال كعب الأحبار‏:‏ خاتمة التوراة خاتمة ‏}‏هود‏}‏ من قوله‏{‏ولله غيب السماوات والأرض‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏
 
سورة يوسف

مقدمة السورة

وهي مكية كلها‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ إلا أربع آيات منها‏.‏ وروي أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت السورة؛ وسيأتي‏.‏ وقال سعد بن أبي وقاص‏:‏ أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانا فقالوا‏:‏ لو قصصت علينا؛ فنزل‏{‏نحن نقص عليك‏}‏يوسف‏:‏ 3‏]‏ فتلاه عليهم زمانا فقالوا‏:‏ لو حدثتنا؛ فأنزل‏{‏الله نزل أحسن الحديث‏}‏الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ وذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات البلاغة، وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرر، والإعجاز لمن تأمل‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 1 ‏)‏

‏{‏الر تلك آيات الكتاب المبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏الر‏}‏ تقدم القول فيه؛ والتقدير هنا‏:‏ تلك آيات الكتاب، على الابتداء والخبر‏.‏ وقيل‏{‏الر‏}‏ اسم السورة؛ أي هذه السورة المسماة ‏}‏الر‏}‏ ‏}‏تلك آيات الكتاب المبين‏}‏ يعني بالكتاب المبين القرآن المبين؛ أي المبين حلاله وحرامه، وحدوده وأحكامه وهداه وبركته‏.‏ وقيل‏:‏ أي هذه تلك الآيات التي كنتم توعدون بها في التوراة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 2 ‏)‏

‏{‏إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنا أنزلناه قرآنا عربيا‏}‏ يجوز أن يكون المعنى‏:‏ إنا أنزلنا القرآن عربيا؛ نصب ‏}‏قرآنا‏}‏ على الحال؛ أي مجموعا‏.‏ و‏}‏عربيا‏}‏ نعت لقوله ‏}‏قرآنا‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون توطئة للحال، كما تقول‏:‏ مررت بزيد رجلا صالحا، و‏}‏عربيا‏}‏ على الحال، أي يقرأ بلغتكم يا معشر العرب‏.‏ أعرب بين، ومنه ‏(‏الثيب تعرب عن نفسها‏)‏‏.‏ ‏}‏لعلكم تعقلون‏}‏ أي لكي تعلموا معانيه، وتفهموا ما فيه‏.‏ وبعض العرب يأتي بأن مع ‏}‏لعل‏}‏ تشبيها بعسى‏.‏ واللام في ‏}‏لعل‏}‏ زائدة للتوكيد؛ كما قال الشاعر‏:‏

يا أبتا علك أو عساكا

وقيل‏{‏لعلكم تعقلون‏}‏ أي لتكونوا على رجاء من تدبره؛ فيعود معنى الشك إليهم لا إلى الكتاب، ولا إلى الله عز وجل‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏}‏أنزلناه‏}‏ أي أنزلنا خبر يوسف، قال النحاس‏:‏ وهذا أشبه بالمعنى؛ لأنه يروى أن اليهود قالوا‏:‏ سلوه لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر‏؟‏ وعن خبر يوسف؛ فأنزل الله عز وجل هذا بمكة موافقا لما في التوراة، وفيه زيادة ليست عندهم‏.‏ فكان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم - إذ أخبرهم ولم يكن يقرأ كتابا قط ولا هو في موضع كتاب - بمنزلة إحياء عيسى عليه السلام الميت على ما يأتي فيه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 3 ‏)‏

‏{‏نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين‏}‏

قوله تعالى‏{‏نحن نقص عليك‏}‏ ابتداء وخبره‏{‏أحسن القصص‏}‏ بمعنى المصدر، والتقدير‏:‏ قصصنا أحسن القصص‏.‏ وأصل القصص تتبع الشيء، ومنه قوله تعالى‏{‏وقالت لأخته قصيه‏}‏القصص‏:‏ 11‏]‏ أي تتبعي أثره؛ فالقاص، يتبع الآثار فيخبر بها‏.‏ والحسن يعود إلى القصص لا إلى القصة‏.‏ يقال‏:‏ فلان حسن الاقتصاص للحديث أي جيد السياقة له‏.‏ وقيل‏:‏ القصص ليس مصدرا، بل هو في معنى الاسم، كما يقال‏:‏ الله رجاؤنا، أي مرجونا فالمعنى على هذا‏:‏ نحن نخبرك بأحسن الأخبار‏.‏ ‏}‏بما أوحينا إليك‏}‏ أي بوحينا فـ ‏}‏ما‏}‏ مع الفعل بمنزلة المصدر‏.‏ ‏}‏هذا القرآن‏}‏ نصب القرآن على أنه نعت لهذا، أو بدل منه، أو عطف بيان‏.‏ وأجاز الفراء الخفض؛ قال‏:‏ على التكرير؛ وهو عند البصريين على البدل من ‏}‏ما‏}‏‏.‏ وأجاز أبو إسحاق الرفع على إضمار مبتدأ، كأن سائلا سأله عن الوحي فقيل له‏:‏ هو هذا القرآن‏.‏ ‏}‏وإن كنت من قبله لمن الغافلين‏}‏ أي من الغافلين عما عرفناكه‏.‏

مسألة‏:‏ واختلف العلماء لم سميت هذه السورة أحسن القصص من بين سائر الأقاصيص‏؟‏ فقيل‏:‏ لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم ما تتضمن هذه القصة؛ وبيانه قوله في آخرها‏{‏لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب‏}‏يوسف‏:‏ 111‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ سماها أحسن القصص لحسن مجاوزة يوسف عن إخوته، وصبره على أذاهم، وعفوه عنهم - بعد الالتقاء بهم - عن ذكر ما تعاطوه، وكرمه في العفو عنهم، حتى قال‏{‏لا تثريب عليكم اليوم‏}‏يوسف‏:‏ 92‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين، والجن والإنس والأنعام والطير، وسير الملوك والممالك، والتجار والعلماء والجهال، والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن، وفيها ذكر التوحيد والفقه والسير وتعبير الرؤيا، والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش، وجمل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا‏.‏ وقيل لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب وسيرهما‏.‏ وقيل‏{‏أحسن‏}‏ هنا بمعنى أعجب‏.‏ وقال بعض أهل المعاني‏:‏ إنما كانت أحسن القصص لأن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة؛ انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته، وامرأة العزيز؛ قيل‏:‏ والملك أيضا أسلم بيوسف وحسن إسلامه، ومستعبر الرؤيا الساقي، والشاهد فيما يقال‏:‏ فما كان أمر الجميع إلا إلى خير‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 4 ‏)‏

‏{‏إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إذ قال يوسف‏}‏ ‏}‏إذ‏}‏ في موضع نصب على الظرف؛ أي اذكر لهم حين قال يوسف‏.‏ وقراءة العامة بضم السين‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف ‏}‏يؤسف‏}‏ بالهمزة وكسر السين‏.‏ وحكى أبو زيد‏{‏يؤسف‏}‏ بالهمزة وفتح السين‏.‏ ولم ينصرف لأنه أعجمي؛ وقيل‏:‏ هو عربي‏.‏ وسئل أبو الحسن الأقطع - وكان حكيما - عن ‏}‏يوسف‏}‏ فقال‏:‏ الأسف في اللغة الحزن؛ والأسيف العبد، وقد اجتمعا في يوسف؛ فلذلك سمي يوسف‏.‏ ‏}‏لأبيه يا أبت‏}‏ بكسر التاء قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع وحمزة والكسائي، وهي عند البصريين علامة التأنيث أدخلت على الأب في النداء خاصة بدلا من ياء الإضافة، وقد تدخل علامة التأنيث على المذكر فيقال‏:‏ رجل نكحة وهزأة؛ قال النحاس‏:‏ إذا قلت ‏}‏يا أبت‏}‏ بكسر التاء فالتاء عند سيبويه بدل من ياء الإضافة؛ ولا يجوز على قوله الوقف إلا بالهاء، وله على قوله دلائل‏:‏ منها - أن قولك‏{‏يا أبه‏}‏ يؤدي عن معنى ‏}‏يا أبي‏}‏؛ وأنه لا يقال‏{‏يا أبت‏}‏ إلا في المعرفة؛ ولا يقال‏:‏ جاءني أبت، ولا تستعمل العرب هذا إلا في النداء خاصة، ولا يقال‏{‏يا أبتي‏}‏ لأن التاء بدل من الياء فلا يجمع بينهما‏.‏ وزعم الفراء أنه إذا قال‏{‏يا أبت‏}‏ فكسر دل على الياء لا غير؛ لأن الياء في النية‏.‏ وزعم أبو إسحاق أن هذا خطأ، والحق ما قال، كيف تكون الياء في النية وليس يقال‏{‏يا أبتي‏}‏‏؟‏ وقرأ أبو جعفر والأعرج وعبدالله بن عامر ‏}‏يا أبت‏}‏ بفتح التاء؛ قال البصريون‏:‏ أرادوا ‏}‏يا أبتي‏}‏ بالياء، ثم أبدلت الياء ألفا فصارت ‏}‏يا أبتا‏}‏ فحذفت الألف وبقيت الفتحة على التاء‏.‏ وقيل‏:‏ الأصل الكسر، ثم أبدل من الكسرة فتحة، كما يبدل من الياء ألف فيقال‏:‏ يا غلاما أقبل‏.‏ وأجاز الفراء ‏}‏يا أبت‏}‏ بضم التاء‏.‏ ‏}‏إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر‏}‏ ليس بين النحويين اختلاف أنه يقال‏:‏ جاءني أحد عشر، ورأيت ومررت بأحد عشر، وكذلك ثلاثة عشر وتسعة عشر وما بينهما؛ جعلوا الاسمين اسما واحدا وأعربوهما بأخف الحركات‏.‏ قال السهيلي‏:‏ أسماء هذه الكواكب جاء ذكرها مسندا؛ رواه الحارث بن أبي أسامة قال‏:‏ جاء بستانة - وهو رجل من أهل الكتاب - فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحد عشر كوكبا الذي رأى يوسف فقال‏:‏ ‏(‏الحرثان والطارق والذيال وقابس والمصبح والضروح وذو الكنفات وذو القرع والفليق ووثاب والعمودان؛ رآها يوسف عليه السلام تسجد له‏)‏‏.‏ قال ابن عباس وقتادة‏:‏ الكواكب إخوته، والشمس أمه، والقمر أبوه‏.‏ وقال قتادة أيضا‏:‏ الشمس خالته، لأن أمه كانت قد ماتت، وكانت خالته تحت أبيه‏.‏ ‏}‏رأيتهم‏}‏ توكيد‏.‏ وقال‏{‏رأيتهم لي ساجدين‏}‏ فجاء مذكرا؛ فالقول عند الخليل وسيبويه أنه لما أخبر عن هذه الأشياء بالطاعة والسجود وهما من أفعال من يعقل أخبر عنها كما يخبر عمن يعقل‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في قوله‏{‏وتراهم ينظرون إليك‏}‏الأعراف‏:‏ 198‏]‏‏.‏ والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته، وإن كان خارجا عن الأصل‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 5 ‏)‏

‏{‏قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فيكيدوا لك كيدا‏}‏ أي يحتالوا في هلاكك؛ لأن تأويلها ظاهر؛ فربما يحملهم الشيطان على قصدك بسوء حينئذ‏.‏ واللام في ‏}‏لك‏}‏ تأكيد‏.‏ كقوله‏{‏إن كنتم للرؤيا تعبرون‏}‏يوسف‏:‏ 43‏]‏‏.‏

الرؤيا حالة شريفة، ومنزلة رفيعة، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة الصادقة يراها الرجل الصالح أو ترى له‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا‏)‏‏.‏ وحكم صلى الله عليه وسلم بأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، وروي ‏(‏من سبعين جزءا من النبوة‏)‏‏.‏ وروي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ‏(‏جزءا من أربعين جزءا من النبوة‏)‏‏.‏ ومن حديث ابن عمر ‏(‏جزء من تسعة وأربعين جزءا‏)‏‏.‏ ومن حديث العباس ‏(‏جزء من خمسين جزءا من النبوة‏)‏‏.‏ ومن حديث أنس ‏(‏من ستة وعشرين‏)‏‏.‏ وعن عبادة بن الصامت ‏(‏من أربعة وأربعين من النبوة‏)‏‏.‏ والصحيح منها حديث الستة والأربعين، ويتلوه في الصحة حديث السبعين؛ ولم يخرج مسلم في صحيحه غير هذين الحديثين، أما سائرها فمن أحاديث الشيوخ؛ قاله ابن بطال‏.‏ قال أبو عبدالله المازري‏:‏ والأكثر والأصح عند أهل الحديث ‏(‏من ستة وأربعين‏)‏‏.‏ قال الطبري‏:‏ والصواب أن يقال إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها صحاح، ولكل حديث منها مخرج معقول؛ فأما قوله‏:‏ ‏(‏إنها جزء من سبعين جزءا من النبوة‏)‏ فإن ذلك قول عام في كل رؤيا صالحة صادقة، ولكل مسلم رآها في منامه على أي أحواله كان؛ وأما قوله‏:‏ ‏(‏إنها من أربعين أو ستة وأربعين‏)‏ فإنه يريد بذلك من كان صاحبها بالحال التي ذكرت عن الصديق رضي الله عنه أنه كان بها؛ فمن كان من أهل إسباغ الوضوء في السبرات، والصبر في الله على المكروهات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فرؤياه الصالحة - إن شاء الله - جزء من أربعين جزءا من النبوة، ومن كانت حاله في ذاته بين ذلك فرؤياه الصادقة بين جزأين ما بين الأربعين إلى الستين لا تنقص عن سبعين، وتزيد على الأربعين وإلى هذا المعنى أشار أبو عمر بن عبدالبر فقال‏:‏ اختلاف الآثار في هذا الباب في عدد أجزاء الرؤيا ليس ذلك عندي اختلاف متضاد متدافع - والله أعلم - لأنه يحتمل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على حسب ما يكون من صدق الحديث، وأداء الأمانة، والدين المتين، وحسن اليقين؛ فعلى قدر اختلاف الناس فيما وصفنا تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد فمن خلصت نيته في عبادة ربه ويقينه وصدق حديثه كانت رؤياه أصدق وإلى النبوة أقرب كما أن الأنبياء يتفاضلون قال الله تعالى‏{‏ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض‏}‏ الإسراء‏:‏ 55‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ فهذا التأويل يجمع شتات الأحاديث، وهو أولى من تفسير بعضها دون بعض وطرحه؛ ذكره أبو سعيد الأسفاقسي عن بعض أهل العلم قال‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏(‏جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة‏)‏ فإن الله تعالى أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ثلاثة وعشرين عاما - فيما رواه عكرمة وعمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين عاما وجدنا ذلك جزءا من ستة وأربعين جزءا؛ وإلى هذا القول أشار المازري في كتابه ‏}‏المعلم‏}‏ واختاره القونوي في تفسيره من سورة ‏}‏يونس‏}‏ عند قوله تعالى‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا‏}‏يونس‏:‏ 64‏]‏‏.‏ وهو فاسد من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ ما رواه أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة بأن مدة الوحي كانت عشرين سنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين، فأقام بمكة عشر سنين؛ وهو قول عروة والشعبي وابن شهاب والحسن وعطاء الخراساني وسعيد بن المسيب على اختلاف عنه، وهي رواية ربيعة وأبي غالب عن أنس، وإذا ثبت هذا الحديث بطل ذلك التأويل - الثاني‏:‏ أن سائر الأحاديث في الأجزاء المختلفة تبقى بغير معنى‏.‏

إنما كانت الرؤيا جزءا من النبوة؛ لأن فيها ما يعجز ويمتنع كالطيران، وقلب الأعيان، والاطلاع على شيء من علم الغيب؛ كما قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة في النوم‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وعلى الجملة فإن الرؤيا الصادقة من الله، وأنها من النبوة؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الرؤيا من الله والحلم من الشيطان‏)‏ وأن التصديق بها حق، ولها التأويل الحسن، وربما أغنى بعضها عن التأويل، وفيها من بديع الله ولطفه ما يزيد المؤمن في إيمانه؛ ولا خلاف في هذا بين أهل الدين والحق من أهل الرأي والأثر، ولا ينكر الرؤيا إلا أهل الإلحاد وشرذمة من المعتزلة‏.‏

إن قيل‏:‏ إذا كانت الرؤيا الصادقة جزءا من النبوة فكيف يكون الكافر والكاذب والمخلط أهلا لها‏؟‏ وقد وقعت من بعض الكفار وغيرهم ممن لا يرضى دينه منامات صحيحة صادقة؛ كمنام رؤيا الملك الذي رأى سبع بقرات، ومنام الفتيين في السجن؛ ورؤيا بختنصر، التي فسرها دانيال في ذهاب ملكه، ورؤيا كسرى في ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، ومنام عاتكة، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره وهي كافرة، وقد ترجم البخاري ‏}‏باب رؤيا أهل السجن‏}‏‏:‏ فالجواب أن الكافر والفاجر والفاسق والكاذب وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات لا تكون من الوحي ولا من النبوة؛ إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة؛ وقد تقدم في ‏}‏الأنعام‏}‏ أن الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق فيصدق، لكن ذلك على الندور والقلة، فكذلك رؤيا هؤلاء؛ قال المهلب‏:‏ إنما ترجم البخاري بهذا لجواز أن تكون رؤيا أهل الشرك رؤيا صادقة، كما كانت رؤيا الفتيين صادقة، إلا أنه لا يجوز أن تضاف إلى النبوة إضافة رؤيا المؤمن إليها، إذ ليس كل ما يصح له تأويل من الرؤيا حقيقة يكون جزءا من النبوة‏.‏

الرؤيا المضافة إلى الله تعالى هي التي خلصت من الأضغاث والأوهام، وكان تأويلها موافقا لما في اللوح المحفوظ، والتي هي من خبر الأضغاث هي الحلم، وهي المضافة إلى الشيطان، وإنما سميت ضغثا؛ لأن فيها أشياء متضادة؛ قال معناه المهلب‏.‏ وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا أقساما تغني عن قول كل قائل؛ روى عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الرؤيا ثلاثة منها أهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم ومنها ما يهتم به في يقظته فيراه في منامه ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏!‏ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك‏}‏ الآية‏.‏ الرؤيا مصدر رأي في المنام، رؤيا على وزن فعلى كالسقيا والبشرى؛ وألفه للتأنيث ولذلك لم ينصرف‏.‏ وقد اختلف العلماء في حقيقة الرؤيا؛ فقيل‏:‏ هي إدراك في أجزاء لم تحلها آفة، كالنوم المستغرق وغيره؛ ولهذا أكثر ما تكون الرؤيا في آخر الليل لقلة غلبة النوم؛ فيخلق الله تعالى للرائي علما ناشئا، ويخلق له الذي يراه على ما يراه ليصح الإدراك، قال ابن العربي‏:‏ ولا يرى في المنام إلا ما يصح إدراكه في اليقظة، ولذلك لا يرى في المنام شخصا قائما قاعدا بحال، وإنما يرى الجائزات المعتادات‏.‏ وقيل‏:‏ إن لله ملكا يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم، فيمثل له صورا محسوسة؛ فتارة تكون تلك الصور أمثلة موافقة لما يقع في الوجود، وتارة تكون لمعاني معقولة غير محسوسة، وفي الحالتين تكون مبشرة أو منذرة؛ قال صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره‏:‏ ‏(‏رأيت سوداء ثائرة الرأس تخرج من المدينة إلى مهيعة فأولتها الحمى‏)‏‏.‏ و‏(‏رأيت سيفي قد انقطع صدره وبقرا تنحر فأولتهما رجل من أهل بيتي يقتل والبقر نفر من أصحابي يقتلون‏)‏‏.‏ و‏(‏رأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة‏)‏‏.‏ و‏(‏رأيت في يدي سوارين فأولتهما كذابين يخرجان بعدي‏)‏‏.‏ إلى غير ذلك مما ضربت له الأمثال؛ ومنها ما يظهر معناه أولا فأولا، ومنها ما لا يظهر إلا بعد التفكر؛ وقد رأى النائم في زمن يوسف عليه السلام بقرا فأولها يوسف السنين، ورأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر فأولها بإخوته وأبويه‏.‏

إن قيل‏:‏ إن يوسف عليه السلام كان صغيرا وقت رؤياه، والصغير لا حكم لفعله، فكيف تكون له رؤيا لها حكم حتى يقول له أبوه‏{‏لا تقصص رؤياك على إخوتك‏}‏‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن الرؤيا إدراك حقيقة على ما قدمناه، فتكون من الصغير كما يكون منه الإدراك الحقيقي في اليقظة، وإذا أخبر عما رأى صدق، فكذلك إذا أخبر عما يرى في المنام؛ وقد أخبر الله سبحانه عن رؤياه وأنها وجدت كما رأى فلا اعتراض؛ روي أن يوسف عليه السلام كان ابن اثنتي عشرة سنة‏.‏

هذه الآية أصل في ألا تقص الرؤيا على غير شفيق ولا ناصح، ولا على من لا يحسن التأويل فيها؛ روى أبو رزين العقيلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الرؤيا جزء من أربعين جزءا من النبوة‏)‏‏.‏ و‏(‏الرؤيا معلقة برجل طائر ما لم يحدث بها صاحبها فإذا حدث بها وقعت فلا تحدثوا بها إلا عاقلا أو محبا أو ناصحا‏)‏ أخرجه الترمذي وقال فيه‏:‏ حديث حسن صحيح؛ وأبو رزين اسمه لقيط بن عامر‏.‏ وقيل لمالك‏:‏ أيعبر الرؤيا كل أحد‏؟‏ فقال‏:‏ أبالنبوة يلعب‏؟‏ وقال مالك‏:‏ لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيرا أخبر به، وإن رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت؛ قيل‏:‏ فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه لقول من قال إنها على ما تأولت عليه‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏!‏ ثم قال،‏:‏ الرؤيا جزء من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة‏.‏

وفي هذه الآية دليل على أن مباحا أن يحذّر المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه، ولا يكون داخلا في معنى الغيبة؛ لأن يعقوب - عليه السلام - قد حذر يوسف أن يقص رؤياه على إخوته فيكيدوا له كيدا، وفيها أيضا ما يدل على جواز ترك إظهار النعمة عند من تخشى غائلته حسدا وكيدا؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود‏)‏‏.‏ وفيها أيضا دليل واضح على معرفة يعقوب عليه السلام بتأويل الرؤيا؛ فإنه علم من تأويلها أنه سيظهر عليهم، ولم يبال بذلك من نفسه؛ فإن الرجل يود أن يكون ولده خيرا منه، والأخ لا يود ذلك لأخيه‏.‏ ويدل أيضا على أن يعقوب عليه السلام كان أحسّ من بنيه حسد يوسف وبغضه؛ فنهاه عن قصص الرؤيا عليهم خوف أن تغل بذلك صدورهم، فيعملوا الحيلة في هلاكه؛ ومن هذا ومن فعلهم بيوسف يدل على أنهم كانوا غير أنبياء في ذلك الوقت، ووقع في كتاب الطبري لابن زيد أنهم كانوا أنبياء، وهذا يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنيوي، وعن عقوق الآباء، وتعريض مؤمن للهلاك، والتآمر في قتله، ولا التفات لقول من قال إنهم كانوا أنبياء، ولا يستحيل في العقل زلة نبي، إلا أن هذه الزلة قد جمعت أنواعا من الكبائر، وقد أجمع المسلمون على عصمتهم منها، وإنما اختلفوا في الصغائر على ما تقدم ويأتي‏.‏

العاشرة‏:‏ روى البخاري عن أبي هريرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لم يبق من النبوة إلا المبشرات‏)‏ قالوا‏:‏ وما المبشرات‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الرؤيا الصالحة‏)‏ وهذا الحديث بظاهره يدل على أن الرؤيا بشرى على الإطلاق وليس كذلك؛ فإن الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة من قبل الله تعالى لا تسر رائيها، وإنما يريها الله تعالى المؤمن رفقا به ورحمة، ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه؛ فإن أدرك تأولها بنفسه، وإلا سأل عنها من له أهلية ذلك‏.‏ وقد رأى الشافعي رضي الله عنه وهو بمصر رؤيا لأحمد بن حنبل تدل على محنته فكتب إليه بذلك ليستعد لذلك، وقد تقدم في ‏}‏يونس‏}‏ في تفسير قوله تعالى‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا‏}‏يونس‏:‏ 64‏]‏ أنها الرؤيا الصالحة‏.‏ وهذا وحديث البخاري مخرجه على الأغلب، والله أعلم‏.‏

روى البخاري عن أبي سلمة قال‏:‏ لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتادة يقول‏:‏ وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها وليتفل ثلاث مرات ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره‏)‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ فجعل الله الاستعاذة منها مما يرفع أذاها؛ ألا ترى قول أبي قتادة‏:‏ إني كنت لأرى الرؤيا هي أثقل علي من الجبل، فلما سمعت بهذا الحديث كنت لا أعدها شيئا‏.‏ وزاد مسلم من رواية جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من الشيطان ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه‏)‏‏.‏ وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل‏)‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وهذا كله ليس بمتعارض؛ وإنما هذا الأمر بالتحول، والصلاة زيادة، فعلى الرائي أن يفعل الجميع، والقيام إلى الصلاة يشمل الجميع؛ لأنه إذا صلى تضمن فعله للصلاة جميع تلك الأمور؛ لأنه إذا قام إلى الصلاة تحول عن جنبه، وإذا تمضمض تفل وبصق، وإذا قام إلى الصلاة تعوذ ودعا وتضرع لله تعالى في أن يكفيه شرها في حال هي أقرب الأحوال إلى الإجابة؛ وذلك السحر من الليل‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 6 ‏)‏

‏{‏وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك يجتبيك ربك‏}‏ الكاف في موضع نصب؛ لأنها نعت لمصدر محذوف، وكذلك الكاف في قوله‏{‏كما أتمها على أبويك من قبل‏}‏ و‏}‏ما‏}‏ كافة‏.‏ وقيل‏{‏وكذلك‏}‏ أي كما أكرمك بالرؤيا فكذلك يجتبيك، ويحسن إليك بتحقيق الرؤيا‏.‏ قال مقاتل‏:‏ بالسجود لك‏.‏ الحسن‏:‏ بالنبوة‏.‏ والاجتباء اختيار معالي الأمور للمجتبى، وأصله من جبيت الشيء أي حصلته، ومنه جبيت الماء في الحوض؛ قال النحاس‏.‏ وهذا ثناء من الله تعالى على يوسف عليه السلام، وتعديد فيما عدده عليه من النعم التي آتاه الله تعالى؛ من التمكين في الأرض، وتعليم تأويل الأحاديث؛ وأجمعوا أن ذلك في تأويل الرؤيا‏.‏ قال عبدالله بن شداد بن الهاد‏:‏ كان تفسير رؤيا يوسف صلى الله عليه وسلم بعد أربعين سنة؛ وذلك منتهى الرؤيا‏.‏ وعنى بالأحاديث ما يراه الناس في المنام، وهي، معجزة له؛ فإنه لم يلحقه فيها خطأ‏.‏ وكان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتأويلها، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، وكان الصديق رضي الله عنه من أعبر الناس لها، وحصل لابن سيرين فيها التقدم العظيم، والطبع والإحسان، ونحوه أو قريب منه كان سعيد بن المسيب فيما ذكروا‏.‏ وقد قيل في تأويل قوله‏{‏ويعلمك من تأويل الأحاديث‏}‏ أي أحاديث الأمم والكتب ودلائل التوحيد، فهو إشارة إلى النبوة، وهو المقصود بقوله‏{‏ويتم نعمته عليك‏}‏ أي بالنبوة‏.‏ وقيل‏:‏ بإخراج إخوتك، إليك؛ وقيل‏:‏ بإنجائك من كل مكروه‏.‏ ‏}‏كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم‏}‏ بالخلة، وإنجائه من النار‏.‏ ‏}‏وإسحاق‏}‏ بالنبوة‏.‏ وقيل‏:‏ من الذبح؛ قاله عكرمة‏.‏ وأعلمه الله تعالى بقوله‏{‏وعلى آل يعقوب‏}‏ أنه سيعطي بني يعقوب كلهم النبوة؛ قاله جماعة من المفسرين‏.‏ ‏}‏إن ربك عليم‏}‏ بما يعطيك‏.‏ ‏}‏حكيم‏}‏ في فعله بك‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 7 ‏:‏ 9 ‏)‏

‏{‏لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين، إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين، اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين‏}‏

قوله تعالى‏{‏لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين‏}‏ يعني من سأل عن حديثهم‏.‏ وقرأ أهل مكة ‏}‏آية‏}‏ على التوحيد؛ واختار أبو عبيد ‏}‏آيات‏}‏ على الجمع؛ قال‏:‏ لأنها خير كثير‏.‏ قال النحاس‏:‏ و‏}‏آية‏}‏ هنا قراءة حسنة، أي لقد كان للذين سألوا عن خبر يوسف آية فيما خبروا به، لأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فقالوا‏:‏ أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر، فبكى عليه حتى عمي‏؟‏ - ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب، ولا من يعرف خبر الأنبياء؛ وإنما وجه اليهود إليهم من المدينة يسألونه عن هذا - فأنزل الله عز وجل سورة ‏}‏يوسف‏}‏ جملة واحدة؛ فيها كل ما في التوراة من خبر وزيادة، فكان ذلك آية للنبي صلى الله عليه وسلم، بمنزلة إحياء عيسى ابن مريم عليه السلام الميت‏.‏ ‏}‏آيات‏}‏ موعظة؛ وقيل‏:‏ عبرة‏.‏ وروي أنها في بعض المصاحف ‏}‏عبرة‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ بصيرة‏.‏ وقيل‏:‏ عجب؛ تقول فلان آية في العلم والحسن أي عجب‏.‏ قال الثعلبي في تفسيره‏:‏ لما بلغت الرؤيا إخوة يوسف حسدوه؛ وقال ابن زيد‏:‏ كانوا أنبياء، وقالوا‏:‏ ما يرضى أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه‏!‏ فبغوه بالعداوة، وقد تقدم رد هذا القول‏.‏ قال الله تعالى‏{‏لقد كان في يوسف وإخوته‏}‏ وأسماؤهم‏:‏ روبيل وهو أكبرهم، وشمعون ولاوى ويهوذا وزيالون ويشجر، وأمهم ليا بنت ليان، وهي بنت حال يعقوب، وولد له من سريتين أربعة نفر؛ دان ونفتالي وجاد وأشر، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا‏.‏ قال السهيلي‏:‏ وأم يعقوب اسمها رفقا، وراحيل ماتت في نفاس بنيامين، وليان بن ناهر بن آزر هو خال يعقوب‏.‏ وقيل‏:‏ في اسم الأمتين ليا وتلتا، كانت إحداهما لراحيل، والأخرى لأختها ليا، وكانتا قد وهبتاهما ليعقوب، وكان يعقوب قد جمع بينهما، ولم يحل لأحد بعده؛ لقول الله تعالى‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف‏}‏النساء‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وقد تقدم الرد على ما قاله ابن زيد، والحمد لله‏.‏

قوله تعالى‏{‏إذ قالوا ليوسف وأخوه‏}‏ ‏}‏يوسف‏}‏ رفع بالابتداء؛ واللام للتأكيد، وهي التي يتلقى بها القسم؛ أي والله ليوسف‏.‏ ‏}‏وأخوه‏}‏ عطف عليه‏.‏ ‏}‏أحب إلى أبينا منا‏}‏ خبره، ولا يثنى ولا يجمع لأنه بمعنى الفعل؛ وإنما قالوا هذا لأن خبر المنام بلغهم فتآمروا في كيده‏.‏ ‏}‏ونحن عصبة‏}‏ أي جماعة، وكانوا عشرة‏.‏ والعصبة ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل‏:‏ إلى الخمسة عشر‏.‏ وقيل‏:‏ ما بين الأربعين إلى العشرة؛ ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط‏.‏ ‏}‏إن أبانا لفي ضلال مبين‏}‏ لم يريدوا ضلال الدين، إذ لو أرادوه لكانوا كفارا؛ بل أرادوا لفي ذهاب عن وجه التدبير، في إيثار اثنين على عشرة مع استوائهم في الانتساب إليه‏.‏ وقيل‏:‏ لفي خطأ ببن بإيثاره يوسف وأخاه علينا‏.‏

قوله تعالى‏{‏اقتلوا يوسف‏}‏ في الكلام حذف؛ أي قال قائل منهم‏{‏اقتلوا يوسف‏}‏ ليكون أحسم لمادة الأمر‏.‏ ‏}‏أو اطرحوه أرضا‏}‏ أي في أرض، فأسقط الخافض وانتصب الأرض؛ وأنشد سيبويه فيما حذف منه ‏}‏في‏}‏‏:‏

لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب

قال النحاس‏:‏ إلا أنه في الآية حسن كثير؛ لأنه يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بحرف، فإذا حذفت الحرف تعدى الفعل إليه‏.‏ والقائل قيل‏:‏ هو شمعون، قال وهب بن منبه‏.‏ وقال كعب الأحبار؛ دان‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ روبيل؛ والله أعلم‏.‏ والمعنى أرضا تبعد عن أبيه؛ فلا بد من هذا الإضمار لأنه كان عند أبيه في أرض‏.‏ ‏}‏يخل‏}‏ جزم لأنه جواب الأمر؛ معناه‏:‏ يخلص ويصفو‏.‏ ‏}‏لكم وجه أبيكم‏}‏ فيقبل عليكم بكليته‏.‏ ‏}‏وتكونوا من بعده‏}‏ أي من بعد الذنب، وقيل‏:‏ من بعد يوسف‏.‏ ‏}‏قوما صالحين‏}‏ أي تائبين؛ أي تحدثوا توبة بعد ذلك فيقبلها الله منكم؛ وفي هذا دليل على أن توبة القاتل مقبولة، لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم‏.‏ وقيل‏{‏صالحين‏}‏ أي يصلح شأنكم عند أبيكم من غير أثرة ولا تفضيل‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 10 ‏)‏

‏{‏قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف‏}‏ القائل هو يهوذا، وهو أكبر ولد يعقوب؛ قاله ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ روبيل، وهو ابن خالته، وهو الذي قال‏{‏فلن أبرح الأرض‏}‏يوسف‏:‏ 80‏]‏ الآية‏.‏ وقيل‏:‏ شمعون‏.‏ ‏}‏وألقوه في غيابة الجب‏}‏ قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة ‏}‏في غيابة الجب‏}‏‏.‏ وقرأ أهل المدينة ‏}‏في غيابات الجب‏}‏ واختار أبو عبيد التوحيد؛ لأنه على موضع واحد ألقوه فيه، وأنكر الجمع لهذا‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا تضييق في اللغة؛ ‏}‏وغيابات‏}‏ على الجمع يجوز من وجهين‏:‏ حكى سيبويه سير عليه عشيانات وأصيلانات، يريد عشية وأصيلا، فجعل كل وقت منها عشية وأصيلا؛ فكذا جعل كل موضع مما يغيب غيابة‏.‏ والآخر - أن يكون في الجب غيابات ‏(‏جماعة‏)‏‏.‏ ويقال‏:‏ غاب يغيب غيبا وغيابة وغيابا؛ كما قال الشاعر‏:‏

ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث أنا ذاكما قد غيبتني غيابيا

قال الهروي‏:‏ والغيابة شبه لجف أو طاق في البئر فويق الماء، يغيب الشيء عن العين‏.‏ وقال ابن عزيز‏:‏ كل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة‏.‏ قلت‏:‏ ومنه قيل للقبر غيابة؛ قال الشاعر‏:‏

فإن أنا يوما غيبتني غيابتي فسيروا بسيري في العشيرة والأهل

والجب الركية التي لم تطو، فإذا طويت فهي بئر؛ قال الأعشى‏:‏

لئن كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم

وسميت جبا لأنها قطعت في الأرض قطعا؛ وجمع الجب جببة وجباب وأجباب؛ وجمع بين الغيابة والجب لأنه أراد القوة في موضع مظلم من الجب حتى لا يلحقه نظر الناظرين‏.‏ قيل‏:‏ هو بئر بيت المقدس، وقيل‏:‏ هو بالأردن؛ قال وهب بن منبه‏.‏ مقاتل‏:‏ وهو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب‏.‏

قوله تعالى‏{‏يلتقطه بعض السيارة‏}‏ جزم على جواب الأمر‏.‏ وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة‏{‏تلتقطه‏}‏ بالتاء، وهذا محمول على المعنى؛ لأن بعض السيارة سيارة؛ وقال سيبويه‏:‏ سقطت بعض أصابعه، وأنشد‏:‏

وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم

وقال آخر‏:‏

أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال

ولم يقل شرق ولا أخذت‏.‏ والسيارة الجمع الذي يسيرون في الطريق للسفر؛ وإنما قال القائل هذا حتى لا يحتاجوا إلى حمله إلى موضع بعيد ويحصل المقصود؛ فإن من التقطه من السيارة يحمله إلى موضع بعيد؛ وكان هذا وجها في التدبير حتى لا يحتاجوا إلى الحركة بأنفسهم، فربما لا يأذن لهم أبوهم، وربما يطلع على قصدهم‏.‏

وفي هذا ما يدل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء لا أولاً ولا آخراً؛ لأن الأنبياء لا يدبرون في قتل مسلم، بل كانوا مسلمين، فارتكبوا معصية ثم تابوا‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا أنبياء، ولا يستحيل في العقل زلة نبي، فكانت هذه زلة منهم؛ وهذا يرده أن الأنبياء معصومون من الكبائر على ما قدمناه‏.‏ وقيل‏:‏ ما كانوا في ذلك الوقت أنبياء ثم نبأهم الله؛ وهذا أشبه، والله أعلم‏.‏

قال ابن وهب قال مالك‏:‏ طرح يوسف في الجب وهو غلام، وكذلك روى ابن القاسم عنه، يعني أنه كان صغيرا؛ والدليل عليه قوله تعالى‏{‏لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة‏}‏ قال‏:‏ ولا يلتقط إلا الصغير؛ وقوله‏{‏وأخاف أن يأكله الذئب‏}‏يوسف‏:‏ 13‏]‏ وذلك أمر يختص بالصغار؛ وقولهم‏{‏أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون‏}‏يوسف‏:‏ 12‏]‏‏.‏

الالتقاط تناول الشيء من الطريق؛ ومنه اللقيط واللقطة، ونحن نذكر من أحكامها ما دلت عليه الآية والسنة، وما قال في ذلك أهل العلم واللغة؛ قال ابن عرفة‏:‏ الالتقاط وجود الشيء على غير طلب، ومنه قوله تعالى‏{‏يلتقطه بعض السيارة‏}‏ أي يجده من غير أن يحتسبه‏.‏ وقد اختلف العلماء في اللقيط؛ فقيل‏:‏ أصله الحرية لغلبة الأحرار على العبيد؛ وروي عن الحسن بن علي أنه قضى بأن اللقيط حر، وتلا ‏}‏وشروه بثمن بخس دراهم معدودة‏}‏يوسف‏:‏ 20‏]‏ وإلى هذا ذهب أشهب صاحب مالك؛ وهو قول عمر بن الخطاب، وكذلك روي عن علي وجماعة‏.‏ وقال إبراهيم النخعي‏:‏ إن نوى رقه فهو مملوك، وإن نوى الحسبة فهو حر‏.‏ وقال مالك في موطئه‏:‏ الأمر عندنا في المنبوذ أنه حر، وأن ولاءه لجماعة المسلمين، هم يرثونه ويعقلون عنه، وبه قال الشافعي؛ واحتج بقول عليه السلام‏:‏ ‏(‏وإنما الولاء لمن أعتق‏)‏ قال‏:‏ فنفى الولاء عن غير المعتق‏.‏ واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن اللقيط لا يوالي أحدا، ولا يرثه أحد بالولاء‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه وأكثر الكوفيين‏:‏ اللقيط يوالي من شاء، فمن ولاه فهو يرثه ويعقل عنه؛ وعند أبي حنيفة له أن ينتقل بولائه حيث شاء، ما لم يعقل عنه الذي والاه، فإن عقل عنه جناية لم يكن له أن ينتقل عنه بولائه أبدا‏.‏ وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه‏:‏ المنبوذ حر، فان أحب أن يوالي الذي التقطه والاه، وإن أحب أن يوالي غيره والاه؛ ونحوه عن عطاء، وهو قول ابن شهاب وطائفة من أهل المدينة، وهو حر‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ إنما كان أصل اللقيط الحرية لغلبة الأحرار على العبيد، فقضى بالغالب، كما حكم أنه مسلم أخذا بالغالب؛ فإن كان في قرية فيها نصارى ومسلمون قال ابن القاسم‏:‏ يحكم بالأغلب؛ فإن وجد عليه زي اليهود فهو يهودي، وإن وجد عليه زي النصارى فهو نصراني، وإلا فهو مسلم، إلا أن يكون أكثر أهل القرية على غير الإسلام‏.‏ وقال غيره‏:‏ لو لم يكن فيها إلا مسلم واحد قضي للقيط بالإسلام تغليبا لحكم الإسلام الذي يعلو ولا يعلى عليه، وهو مقتضى قول أشهب؛ قال أشهب‏:‏ هو مسلم أبدا‏.‏ لأني أجعله مسلما على كل حال، كما أجعله حرا على كل حال‏.‏ واختلف الفقهاء في المنبوذ تدل البينة على أنه عبد؛ فقالت طائفة من أهل المدينة‏:‏ لا يقبل قولها في ذلك، وإلى هذا ذهب أشهب لقول عمر‏:‏ هو حر؛ ومن قضى بحريته لم تقبل البينة في أنه عبد‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ تقبل البينة في ذلك وهو قول الشافعي والكوفي‏.‏

قال مالك في اللقيط‏:‏ إذا اتفق عليه الملتقط ثم أقام رجل البينة أنه ابنه فإن الملتقط يرجع على الأب إن كان طرحه متعمدا، وإن لم يكن طرحه ولكنه ضل منه فلا شيء على الأب، والملتقط متطوع بالنفقة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا أنفق على اللقيط فهو متطوع، إلا أن يأمره الحاكم‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ كل من أنفق علي من لا تجب عليه نفقة رجع بما أنفق‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إن لم يكن للقيط مال وجبت نفقته في بيت المال، فإن لم يكن ففيه قولان‏:‏ أحدهما - يستقرض له في ذمته‏.‏ والثاني - يقسط على المسلمين من غير عوض‏.‏

وأما اللقطة والضوال فقد اختلف العلماء في حكمهما؛ فقالت طائفة من أهل العلم‏:‏ اللقطة والضوال سواء في المعنى، والحكم فيهما سواء؛ وإلى هذا ذهب أبو جعفر الطحاوي، وأنكر قول أبي عبيد القاسم بن سلام - أن الضالة لا تكون إلا في الحيوان واللقطة في غير الحيوان - وقال هذا غلط؛ واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك للمسلمين‏:‏ ‏(‏إن أمكم ضلت قلادتها‏)‏ فأطلق ذلك على القلادة‏.‏

أجمع العلماء على أن اللقطة ما لم تكن تافها يسيرا أو شيئا لا بقاء لها فإنها تعرف حولا كاملا، وأجمعوا أن صاحبها إن جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها، وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول وأراد‏.‏ صاحبها أن يضمنه فإن ذلك له، وإن تصدق بها فصاحبها مخير بين التضمين وبين أن ينزل على أجرها، فأي ذلك تخير كان ذلك له بإجماع؛ ولا تنطلق يد ملتقطها عليها بصدقة، ولا تصرف قبل الحول‏.‏ وأجمعوا أن ضالة الغنم المخوف عليها له أكلها‏.‏

واختلف الفقهاء في الأفضل من تركها أو أخذها؛ فمن، ذلك أن في الحديث دليلا على إباحة التقاط اللقطة وأخذ الضالة ما لم تكن إبلا‏.‏ وقال في الشاة‏:‏ ‏(‏لك أو لأخيك أو للذئب‏)‏ يحضه على أخذها، ولم يقل في شيء دعوه حتى يضيع أو يأتيه ربه‏.‏ ولو كان ترك اللقطة أفضل لأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في ضالة الإبل، والله أعلم‏.‏ وجملة مذهب أصحاب مالك أنه في سعة، إن شاء أخذها وإن شاء تركها؛ هذا قول إسماعيل بن إسحاق رحمه الله‏.‏ وقال المزني عن الشافعي‏:‏ لا أحب لأحد ترك اللقطة إن وجدها إذا كان أمينا عليها؛ قال‏:‏ وسواء قليل اللقطة وكثيرها‏.‏

روى الأئمة مالك وغيره عن زيد بن خالد الجهني قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة فقال‏:‏ ‏(‏اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها‏)‏ قال‏:‏ فضالة الغنم يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لك أو لأخيك أو للذئب‏)‏ قال‏:‏ فضالة الإبل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها‏)‏‏.‏ وفي حديث أبي قال‏:‏ ‏(‏احفظ عددها ووعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها‏)‏ ففي هذا الحديث زيادة العدد؛ خرجه مسلم وغيره‏.‏ وأجمع العلماء أن عفاص اللقطة ووكاءها من إحدى علاماتها وأدلها عليها؛ فإذا أتى صاحب اللقطة بجميع أوصافها دفعت له؛ قال ابن القاسم‏:‏ يجبر على دفعها؛ فإن جاء مستحق يستحقها ببينة أنها كانت له لم يضمن الملتقط شيئا، وهل يحلف مع الأوصاف أو لا‏؟‏ قولان‏:‏ الأول لأشهب، والثاني لابن القاسم، ولا تلزمه بينة عند مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وغيرهم‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ لا تدفع له إلا إذا أقام بينة أنها له؛ وهو بخلاف نص الحديث؛ ولو كانت البينة شرطا في الدفع لما كان لذكر العفاص والوكاء والعدد معنى؛ فإنه يستحقها بالبينة على كل حال؛ ولما جاز سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فإنه تأخير البيان عن وقت الحاجة‏.‏ والله أعلم‏.‏

نص الحديث على الإبل والغنم وبين حكمهما، وسكت عما عداهما من الحيوان‏.‏ وقد اختلف علماؤنا في البقر هل تلحق بالإبل أو بالغنم‏؟‏ قولان؛ وكذلك اختلف أئمتنا في التقاط الخيل والبغال والحمير، وظاهر قول ابن القاسم أنها تلتقط، وقال أشهب وابن كنانة‏:‏ لا تلتقط؛ وقول ابن القاسم أصح؛ لقول عليه السلام‏:‏ ‏(‏احفظ على أخيك المؤمن ضالته‏)‏‏.‏

واختلف العلماء في النفقة على الضوال؛ فقال مالك فيما ذكر عنه ابن القاسم‏:‏ إن أنفق الملتقط على الدواب والإبل وغيرها فله أن يرجع على صاحبها بالنفقة، وسواء أنفق عليها بأمر السلطان أو بغير أمره؛ قال‏:‏ وله أن يحبس بالنفقة ما أنفق عليه ويكون أحق به كالرهن‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إذا أنفق على الضوال من أخذها فهو متطوع؛ حكاه عنه الربيع‏.‏ وقال المزني عنه‏:‏ إذا أمره الحاكم بالنفقة كانت دينا، وما ادعى قبل منه إذا كان مثله قصدا‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا أنفق على اللقطة والإبل بغير أمر القاضي فهو متطوع، وإن أنفق بأمر القاضي فذلك دين على صاحبها إذا جاء، وله أن يحبسها إذا حضر صاحبها، والنفقة عليها ثلاثة أيام ونحوها، حتى يأمر القاضي ببيع الشاة وما أشبهها ويقضي بالنفقة‏.‏

ليس في قوله صلى الله عليه وسلم في اللقطة بعد التعريف‏:‏ ‏(‏فاستمتع بها‏)‏ أو ‏(‏فشأنك بها‏)‏ أو ‏(‏فهي لك‏)‏ أو ‏(‏فاستنفقها‏)‏ أو ‏(‏ثم كلها‏)‏ أو ‏(‏فهو مال الله يؤتيه من يشاء‏)‏ على ما في صحيح مسلم وغيره، ما يدل على التمليك، وسقوط الضمان عن الملتقط إذا جاء ربها؛ فان في حديث زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء صاحبها يوما من الدهر فأدها إليه‏)‏ في رواية ‏(‏ثم كلها فإن جاء صاحبها فأدها إليه‏)‏ خرجه البخاري ومسلم‏.‏ وأجمع العلماء على أن صاحبها متى جاء فهو أحق بها، إلا ما ذهب إليه داود من أن الملتقط يملك اللقطة بعد التعريف؛ لتلك الظواهر، ولا التفات لقوله؛ لمخالفة الناس، ولقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فأدها إليه‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 11 ‏:‏ 12 ‏)‏

‏{‏قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون، أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا يا أبانا ما لك لا تأمننا على يوسف‏}‏ قيل للحسن‏:‏ أيحسد المؤمن‏؟‏ قال‏:‏ ما أنساك ببني يعقوب‏.‏ ولهذا قيل‏:‏ الأب جلاب والأخ سلاب؛ فعند ذلك أجمعوا على التفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال‏.‏ وقالوا ليعقوب‏{‏يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف‏}‏ وقيل‏:‏ لما تفاوضوا وافترقوا على رأي المتكلم الثاني عادوا إلى يعقوب عليه السلام وقالوا هذا القول‏.‏ وفيه دليل على أنهم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبي علي ما يأتي‏.‏ قرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزهري ‏}‏لا تأمنا‏}‏ بالإدغام، وبغير إشمام وهو القياس؛ لأن سبيل ما يدغم أن يكون ساكنا‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف ‏}‏لا تأمننا‏}‏ بنونين ظاهرتين على الأصل‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزبن - وروي عن الأعمش - ‏}‏ولا تيمنا‏}‏ بكسر التاء، وهي لغة تميم؛ يقولون‏:‏ أنت تضرب؛ وقد تقدم‏.‏ وقرأ سائر الناس بالإدغام والإشمام ليدل على حال الحرف قبل إدغامه‏.‏ ‏}‏وإنا له لناصحون‏}‏ أي في حفظه وحيطته حتى نرده إليك‏.‏ قال مقاتل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير؛ وذلك أن إخوة يوسف قالوا لأبيهم‏{‏أرسله معنا غدا‏}‏ الآية؛ فحينئذ قال أبوهم‏{‏إني ليحزنني أن تذهبوا به‏}‏يوسف‏:‏ 13‏]‏ فقالوا حينئذ جوابا لقوله‏{‏ما لك لا تأمنا على يوسف‏}‏ الآية‏.‏ ‏}‏أرسله معنا غدا‏}‏ إلى الصحراء‏.‏ ‏}‏غدا‏}‏ ظرف، والأصل عند سيبويه غدو، وقد نطق به على الأصل؛ قال النضر بن شميل‏:‏ ما بين الفجر وصلاة الصبح يقال له غدوة، وكذا بكرة‏.‏ ‏}‏يرتع ويلعب‏}‏ بالنون وإسكان العين قراءة أهل البصرة‏.‏ والمعروف من قراءة أهل مكة‏.‏ ‏}‏نرتع‏}‏ بالنون وكسر العين‏.‏ وقراءة أهل الكوفة‏.‏ ‏}‏يرتع ويلعب‏}‏ بالياء وإسكان العين‏.‏ وقراءة أهل المدينة بالياء وكسر العين؛ القراءة الأولى من قول العرب رتع الإنسان والبعير إذا أكلا كيف شاءا؛ والمعنى‏:‏ نتسع في الخصب؛ وكل مخصب راتع؛ قال‏:‏

فارعي فزارة لا هناك المرتع

وقال آخر‏:‏

ترتع ما غفلت حتى إذا أدكرت فإنما هي إقبال وإدبار

وقال آخر‏:‏

أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا

أي الراتعة لكثرة المرعى‏.‏ وروى معمر عن قتادة ‏}‏ترتع‏}‏ تسعى؛ قال النحاس‏:‏ أخذه من قوله‏{‏إنا ذهبنا نستبق‏}‏ لأن المعنى‏:‏ نستبق في العدو إلى غاية بعينها؛ وكذا ‏}‏يرتع‏}‏ بإسكان العين، إلا أنه ليوسف وحده صلى الله عليه وسلم‏.‏ و‏}‏يرتع‏}‏ بكسر العين من رعي الغنم، أي ليتدرب بذلك ويرتجل؛ فمرة يرتع، ومرة يلعب لصغره‏.‏ وقال القتبي ‏}‏نرتع‏}‏ نتحارس ونتحافظ، ويرعى بعضنا بعضا؛ من قولك‏:‏ رعاك الله؛ أي حفظك‏.‏ ‏}‏ونلعب‏}‏ من اللعب وقيل لأبي عمرو بن العلاء‏:‏ كيف قالوا ‏}‏ونلعب‏}‏ وهم أنبياء‏؟‏ فقال‏:‏ لم يكونوا يومئذ أنبياء‏.‏ وقيل‏:‏ المراد باللعب المباح من الانبساط، لا اللعب المحظور الذي هو ضد الحق؛ ولذلك لم ينكر يعقوب قولهم ‏}‏ونلعب‏}‏‏.‏ ومنه قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك‏)‏‏.‏ وقرأ مجاهد وقتادة‏{‏يرتع‏}‏ على معنى يرتع مطيته، فحذف المفعول؛ ‏}‏ويلعب‏}‏ بالرفع على الاستئناف؛ والمعنى‏:‏ هو ممن يلعب ‏}‏وإنا له لحافظون‏}‏ من كل ما تخاف عليه‏.‏ ثم يحتمل أنهم كانوا يخرجون ركبانا، ويحتمل أنهم كانوا رجّالة‏.‏ وقد نقل أنهم حملوا يوسف على أكتافهم ما دام يعقوب يراهم، ثم لما غابوا عن عينه طرحوه ليعدو معهم إضرارا به‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 13 ‏:‏ 14 ‏)‏

‏{‏ قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون، قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال إني ليحزنني أن تذهبوا به‏}‏ في موضع رفع؛ أي ذهابكم به‏.‏ أخبر عن حزنه لغيبته‏.‏ ‏}‏وأخاف أن يأكله الذئب‏}‏ وذلك أنه رأى في منامه أن الذئب شد على يوسف، فلذلك خافه عليه؛ قال الكلبي‏.‏ وقيل‏:‏ إنه رأى في منامه كأنه على ذروة جبل، وكأن يوسف في بطن الوادي، فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته تريد أكله، فدرأ عنه واحد، ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام؛ فكانت العشرة إخوته، لما تمالؤوا على قتله، والذي دافع عنه أخوه الأكبر يهوذا، وتواريه في الأرض هو مقامه في الجب ثلاثة أيام‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قال ذلك لخوفه منهم عليه، وأنه أرادهم بالذئب؛ فخوفه إنما كان من قتلهم له، فكنى عنهم بالذئب مساترة لهم؛ قال ابن عباس‏:‏ فسماهم ذئابا‏.‏ وقيل‏:‏ ما خافهم عليه، ولو خافهم لما أرسله معهم، وإنما خاف الذئب؛ لأنه أغلب ما يخاف في الصحارى‏.‏ والذئب مأخوذ من تذاءبت الريح إذا جاءت من كل وجه؛ كذا قال أحمد بن يحيى؛ قال‏:‏ والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه‏.‏ وروى ورش عن نافع ‏}‏الذيب‏}‏ بغير همز، لما كانت الهمزة ساكنة وقبلها كرة فخففها صارت ياء‏.‏ ‏}‏وأنتم عنه غافلون‏}‏ أي مشغلون بالرعي‏.‏

قوله تعالى‏{‏قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة‏}‏ أي جماعة نرى الذئب ثم لا نرده عنه‏.‏ ‏}‏إنا إذا لخاسرون‏}‏ أي في حفظنا أغنامنا؛ أي إذا كنا لا نقدر على دفع الذئب عن أخينا فنحن أعجز أن ندفعه عن أغنامنا‏.‏ وقيل‏{‏لخاسرون‏}‏ لجاهلون بحقه‏.‏ وقيل‏:‏ لعاجزون‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 15 ‏)‏

‏{‏فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ في موضع نصب؛ أي على أن يجعلوه في غيابة الجب‏.‏ قيل في القصة‏:‏ إن يعقوب عليه السلام لما أرسله معهم أخذ عليهم ميثاقا غليظا ليحفظنه، وسلمه إلى روبيل وقال‏:‏ يا روبيل إنه صغير، وتعلم يا بني شفقتي عليه؛ فإن جاع فأطعمه، وإن عطش فاسقه، وإن أعيا فاحمله ثم عجل برده إلي‏.‏ قال‏:‏ فأخذوا يحملونه على أكتافهم، لا يضعه واحد إلا رفعه آخر، ويعقوب يشيعهم ميلا ثم رجع؛ فلما انقطع بصر أبيهم عنهم رماه الذي كان يحمله إلى الأرض حتى كاد ينكسر، فالتجأ إلى آخر فوجد عند كل واحد منهم أشد مما عند الآخر من الغيظ والعسف؛ فاستغاث بروبيل وقال‏:‏ ‏(‏أنت أكبر إخوتي، والخليفة من بعد والدي علي، وأقرب الإخوة إلي، فارحمني وارحم ضعفي‏)‏ فلطمه لطمة شديدة وقال‏:‏ لا قرابة بيني وبينك، فادع الأحد عشر كوكبا فلتنجك منا؛ فعلم أن حقدهم من أجل رؤياه، فتعلق بأخيه يهوذا وقال‏:‏ يا أخي ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني، وارحم قلب أبيك يعقوب؛ فما أسرع ما تناسيتم وصيته ونقضتم عهده؛ فرق قلب يهوذا فقال‏:‏ والله لا يصلون إليك أبدا ما دمت حيا، ثم قال‏:‏ يا إخوتاه إن قتل النفس التي حرم الله من أعظم الخطايا، فردوا هذا الصبي إلى أبيه، ونعاهده ألا يحدث والده بشيء مما جرى أبدا؛ فقال له إخوته‏:‏ والله ما تريد إلا أن تكون لك المكانة عند يعقوب، والله لئن لم تدعه لنقتلنك معه، قال‏:‏ فإن أبيتم إلا ذلك فههنا هذا الجب الموحش القفر، الذي هو مأوى الحيات والهوام فألقوه فيه، فإن أصيب بشيء من ذلك فهو المراد، وقد استرحتم من دمه، وإن انفلت على أيدي سيارة يذهبون به إلى أرض فهو المراد؛ فأجمع رأيهم على ذلك؛ فهو قوله الله تعالى‏{‏فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب‏}‏ وجواب ‏}‏لما‏}‏ محذوف؛ أي فلما ذهبوا به وأجمعوا على طرحه في الجب عظمت فتنتهم‏.‏ وقيل‏:‏ جواب ‏}‏لما‏}‏ قولهم‏{‏قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق‏}‏يوسف‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير فلما ذهبوا به من عند أبيهم وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب جعلوه فيها، هذا على مذهب البصريين؛ وأما على قول الكوفيين فالجواب‏.‏ ‏}‏أوحينا‏}‏ والواو مقحمة، والواو عندهم تزاد مع لما وحتى؛ قال الله تعالى‏{‏حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها‏}‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ أي فتحت وقوله‏{‏حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور‏}‏هود‏:‏ 40‏]‏ أي فار‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

أي انتحى؛ ومنه قوله تعالى‏{‏فلما أسلما وتله للجبين وناديناه‏}‏الصافات‏:‏ 103 - 104‏]‏ أي ناديناه‏.‏ وفي قوله‏{‏وأوحينا إليه‏}‏ دليل على نبوته في ذلك الوقت‏.‏ قال الحسن ومجاهد والضحاك وقتادة‏:‏ أعطاه الله النبوة وهو في الجب على حجر مرتفع عن الماء‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ألقي في الجب، وهو ابن ثماني عشرة سنة، فما كان صغيرا؛ ومن قال كان صغيرا فلا يبعد في العقل أن يتنبأ الصغير ويوحى إليه‏.‏ وقيل‏:‏ كان وحي إلهام كقوله‏{‏وأوحى ربك إلى النحل‏}‏النحل‏:‏ 68‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ كان مناما، والأول أظهر - والله أعلم - وأن جبريل جاءه بالوحي‏.‏

قوله تعالى‏{‏لتنبئنهم بأمرهم هذا‏}‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه أوحى إليه أنه سيلقاهم ويوبخهم على ما صنعوا؛ فعلى هذا يكون الوحي بعد إلقائه في الجب تقوية لقلبه، وتبشيرا له بالسلامة‏.‏ الثاني‏:‏ أنه أوحى إليه بالذي يصنعون به؛ فعلى هذا يكون الوحي قبل إلقائه في الجب إنذارا له‏.‏ ‏}‏وهم لا يشعرون‏}‏ أنك يوسف؛ وذلك أن الله تعالى أمره لما أفضى إليه الأمر بمصر ألا يخبر أباه وإخوته بمكانه‏.‏ وقيل‏:‏ بوحي الله تعالى بالنبوة؛ قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏ وقيل‏{‏الهاء‏}‏ ليعقوب؛ أوحى الله تعالى إليه ما فعلوه بيوسف، وأنه سيعرفهم بأمره، وهم لا يشعرون بما أوحى الله إليه، والله أعلم‏.‏ ومما ذكر من قصته إذ ألقي في الجب ما ذكره السدي وغيره أن إخوته لما جعلوا يدلونه في البئر، تعلق بشفير البئر، فربطوا يديه ونزعوا قميصه؛ فقال‏:‏ يا إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به في هذا الجب، فان مت كان كفني، وإن عشت أواري به عورتي؛ فقالوا‏:‏ ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا فلتؤنسك وتكسك؛ فقال‏:‏ إني لم أر شيئا، فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يسقط فيموت؛ فكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم آوى إلى صخرة فقام عليها‏.‏ وقيل‏:‏ إن شمعون هو الذي قطع الحبل إرادة أن يتفتت على الصخرة، وكان جبريل تحت ساق العرش، فأوحى الله إليه أن أدرك عبدي؛ قال جبريل‏:‏ فأسرعت وهبطت حتى عارضته بين الرمي والوقوع فأقعدته على الصخرة سالما‏.‏ وكان ذلك الجب مأوى الهوام؛ فقام على الصخرة وجعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة عليه أدركتهم، فأجابهم؛ فأرادوا أن يرضخوه بالصخرة فمنعهم يهوذا، وكان يهوذا يأتيه بالطعام؛ فلما وقع عريانا نزل جبريل إليه؛ وكان إبراهيم حين ألقي في النار عريانا أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فكان ذلك عند إبراهيم، ثم ورثه إسحاق، ثم ورثه يعقوب، فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذة وجعله في عنقه، فكان لا يفارقه؛ فلما ألقي في الجب عريانا أخرج جبريل دلك القميص فألبسه إياه‏.‏ قال وهب‏:‏ فلما قام على الصخرة قال‏:‏ يا إخوتاه إن لكل ميت وصية، فاسمعوا وصيتي، قالوا‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ إذا اجتمعتم كلكم فأنس بعضكم بعضا فاذكروا وحشتي، وإذا أكلتم فاذكروا جوعي، وإذا شربتم فاذكروا عطشي، وإذا رأيتم غريبا فاذكروا غربتي، وإذا رأيتم شابا فاذكروا شبابي؛ فقال له جبريل‏:‏ يا يوسف كف عن هذا واشتغل بالدعاء، فإن الدعاء عند الله بمكان؛ ثم علمه فقال‏:‏ قل اللهم يا مؤنس كل غريب، ويا صاحب كل وحيد، ويا ملجأ كل خائف، ويا كاشف كل كربة، ويا عالم كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، ويا حاضر سر كل ملأ، يا حي يا قيوم أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي، حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك، وأن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، إنك على كل شيء قدير؛ فقالت الملائكة‏:‏ إلهنا نسمع صوتا ودعاء، الصوت صوت صبي، والدعاء دعاء نبي‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ نزل جبريل عليه السلام على يوسف وهو في الجب فقال له‏:‏ ألا أعلمك كلمات إذا انت قلتهن عجل الله لك خروجك من هذا الجب‏؟‏ فقال‏:‏ نعم فقال له‏:‏ قل يا صانع كل مصنوع، ويا جابر كل كسير، ويا شاهد كل نجوى، ويا حاضر كل ملأ، ويا مفرج كل كربة، ويا صاحب كل غريب، ويا مؤنس كل وحيد، ايتني بالفرج والرجاء، واقذف رجاءك في قلبي حتى لا أرجو أحدا سواك؛ فرددها يوسف في ليلته مرارا؛ فأخرجه الله في صبيحة يومه ذلك من الجب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 16 ‏)‏

‏{‏وجاؤوا أباهم عشاء يبكون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وجاؤوا أباهم عشاء‏}‏ أي ليلا، وهو ظرف يكون في موضع الحال؛ وإنما جاؤوا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة، ولذا قيل‏:‏ لا تطلب الحاجة بالليل، فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار؛ فروي أن يعقوب عليه السلام لما سمع بكاءهم قال‏:‏ ما بكم‏؟‏ أجرى في الغنم شيء‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فأين يوسف‏؟‏ قالوا‏:‏ ذهبنا نستبق فأكله الذئب، فبكى وصاح وقال‏:‏ ابن قميصه‏؟‏ على ما يأتي بيانه إن شاء الله‏.‏ وقال السدي وابن حبان‏:‏ إنه لما قالوا أكله الذئب خر مغشيا عليه، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك، ونادوه فلم يجب؛ قال وهب‏:‏ ولقد وضع يهوذا يده على مخارج نفس يعقوب فلم يحس بنفس، ولم يتحرك له عرق؛ فقال لهم يهوذا‏:‏ ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا، وقتلنا أبانا، فلم يفق يعقوب إلا ببرد السحر، فأفاق ورأسه في حجر روبيل؛ فقال‏:‏ يا روبيل ألم آتمنك على ولدي‏؟‏ ألم أعهد إليك عهدا‏؟‏ فقال‏:‏ يا أبت كف عني بكاءك أخبرك؛ فكف يعقوب بكاءه فقال‏:‏ يا أبت ‏}‏إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب‏}‏‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ هذه الآية دليل على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله، لاحتمال أن يكون تصنعا؛ فمن الخلق من يقدر على ذلك، ومنهم من لا يقدر‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الدمع المصنوع لا يخفى؛ كما قال حكيم‏:‏

إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى

الآية رقم ‏(‏ 17 ‏)‏

‏{‏قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏نستبق‏}‏ نفتعل، من، المسابقة‏.‏ وقيل‏:‏ أي ننتضل؛ وكذا في قراءة عبدالله ‏}‏إنا ذهبنا ننتضل‏}‏ وهو نوع من المسابقة؛ قاله الزجاج‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ النضال في السهام، والرهان في الخيل، والمسابقة تجمعهما‏.‏ قال القشيري أبو نصر‏{‏نستبق‏}‏ أي في الرمي، أو على الفرس؛ أو على الأقدام؛ والغرض من المسابقة على الأقدام تدريب النفس على العدو، لأنه الآلة في قتال العدو، ودفع الذئب عن الأغنام‏.‏ وقال السدي وابن حبان‏{‏نستبق‏}‏ نشتد جريا لنرى أينا أسبق‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ المسابقة شرعة في الشريعة، وخصلة بديعة، وعون على الحرب؛ وقد فعلها صلى الله عليه وسلم بنفسه وبخيله، وسابق عائشة رضي الله عنها على قدميه فسبقها؛ فلما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقها فسبقته؛ فقال لها‏:‏ ‏(‏هذه بتلك‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وسابق سلمة بن الأكوع رجلا لما رجعوا من ذي قرد إلى المدينة فسبقه سلمة؛ خرجه مسلم‏.‏

وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبدالله بن عمر كان ممن سابق بها؛ وهذا الحديث مع صحته في هذا الباب تضمن ثلاثة شروط؛ فلا تجوز المسابقة بدونها، وهي‏:‏ أن المسافة لا بد أن تكون معلومة‏.‏ الثاني‏:‏ أن تكون الخيل متساوية الأحوال‏.‏ الثالث‏:‏ ألا يسابق المضمر مع غير المضمر في أمد واحد وغاية واحدة‏.‏ والخيل التي يجب أن تضمر ويسابق عليها، وتقام هذه السنة فيها هي الخيل المعدة لجهاد العدو لا لقتال المسلمين في الفتن‏.‏

وأما المسابقة بالنصال والإبل؛ فروى مسلم عن عبدالله بن عمرو قال‏:‏ سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، وذكر الحديث‏.‏ وخرج النسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر‏)‏‏.‏ وثبت ذكر النصل من حديث ابن أبي ذئب عن نافع بن أبي نافع عن أبي هريرة، ذكره النسائي؛ وبه يقول فقهاء الحجاز والعراق‏.‏ وروى البخاري عن أنس قال‏:‏ كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء لا تسبق - قال حميد‏:‏ أولا تكاد تسبق - فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه؛ فقال‏:‏ ‏(‏حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه‏)‏‏.‏

أجمع المسلمون على أن السبق لا يجوز على وجه الرهان إلا في الخف، والحافر والنصل؛ قال الشافعي‏:‏ ما عدا هذه الثلاثة فالسبق فيها قمار‏.‏ وقد زاد أبو البختري القاضي في حديث الخف والحافر والنصل ‏}‏أو جناح‏}‏ وهي لفظة وضعها للرشيد، فترك العلماء حديثه لذلك ولغيره من موضوعاته؛ فلا يكتب العلماء حديثه بحال‏.‏ وقد روي عن مالك أنه قال‏:‏ لا سبق إلا في الخيل والرمي، لأنه قوة على أهل الحرب؛ قال‏:‏ وسبق الخيل أحب إلينا من سبق الرمي‏.‏ وظاهر الحديث يسوي بين السبق على النجب والسبق على الخيل‏.‏ وقد منع بعض العلماء الرهان في كل شيء إلا في الخيل؛ لأنها التي كانت عادة العرب المراهنة عليها‏.‏ وروي عن عطاء أن المراهنة في كل شيء جائزة؛ وقد تُؤُول قوله؛ لأن حمله على العموم في كل شيء يؤدي إلى، إجازة القمار، وهو محرم باتفاق‏.‏

لا يجوز السبق في الخيل والإبل إلا في غاية معلومة وأمد معلوم، كما ذكرنا، وكذلك الرمي لا يجوز السبق فيه إلا بغاية معلومة ورشق معلوم، ونوع من الإصابة؛ مشترط خسقا أو إصابة بغير شرط‏.‏ والأسباق ثلاثة‏:‏ سبق يعطيه الوالي أو الرجل غير الوالي من ماله متطوعا فيجعل للسابق شيئا معلوما؛ فمن سبق أخذه‏.‏ وسبق يخرجه أحد المتسابقين دون صاحبه، فإن سبقه صاحبه أخذه، وإن سبق هو صاحبه أخذه، وحسن أن يمضيه في الوجه الذي أخرجه له، ولا يرجع إلى ماله؛ وهذا مما لا خلاف فيه‏.‏ والسبق الثالث‏:‏ اختلف فيه؛ وهو أن يخرج كل واحد منهما شيئا مثل ما يخرجه صاحبه، فأيهما سبق أحرز سبقه وسبق صاحبه؛ وهذا الوجه لا يجوز حتى يدخلا بينهما محللا لا يأمنا أن يسبقهما؛ فإن سبق المحلل أحرز السبقين جميعا وأخذهما وحده، وإن سبق أحد المتسابقين أحرز سبقه وأخذ سبق صاحبه؛ ولا شيء للمحلل فيه، ولا شيء عليه‏.‏ وإن سبق الثاني منهما الثالث كان كمن لم يسبق واحد منهما‏.‏ وقال أبو علي بن خيران - من أصحاب الشافعي - ‏:‏ وحكم الفرس المحلل أن يكون مجهولا جريه؛ وسمي محللا لأنه يحلل السبق للمتسابقين أوله‏.‏ واتفق العلماء على أنه إن لم يكن بينهما محلل واشترط كل واحد من المتسابقين أنه إن سبق أخذ سبقه وسبق صاحبه أنه قمار، ولا يجوز‏.‏ وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار ومن أدخله وهو يأمن أن يسبق فهو قمار‏)‏‏.‏ وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ ليس برهان الخيل بأس إذا دخل فيها محلل، فإن سبق أخذ السبق، وإن سبق لم يكن عليه شيء؛ وبهذا قال، الشافعي وجمهور أهل العلم‏.‏ واختلف في ذلك قول مالك؛ فقال مرة لا يجب المحلل في الخيل، ولا نأخذ فيه بقول سعيد، ثم قال‏:‏ لا يجوز إلا بالمحلل؛ وهو الأجود من قوله‏.‏

ولا يحمل على الخيل والإبل في المسابقة إلا محتلم، ولو ركبها أربابها كان أولى؛ وفد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لا يركب الخيل في السباق إلا أربابها‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ وأقل السبق أن يسبق بالهادي أو بعضه؛ أو بالكفل أو بعضه‏.‏ والسبق من الرماة على هذا النحو عنده؛ وقول محمد بن الحسن في هذا الباب نحو قول الشافعي‏.‏

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سابق، أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى أبو بكر وثلث عمر؛ ومعنى وصلى أبو بكر‏:‏ يعني أن رأس فرسه كان عند صلا فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلوان موضع العجز‏.‏

قوله تعالى‏{‏وتركنا يوسف عند متاعنا‏}‏ أي عند ثيابنا وأقمشتنا حارسا لها‏.‏ ‏}‏فأكله الذئب‏}‏ وذلك أنهم لما سمعوا أباهم يقول‏{‏وأخاف أن يأكله الذئب‏}‏ أخذوا ذلك من فيه فتحرموا به؛ لأنه كان أظهر المخاوف عليه‏.‏ ‏}‏وما أنت بمؤمن لنا‏}‏ أي بمصدق‏.‏ ‏}‏ولو كنا‏}‏ أي وإن كنا؛ قاله المبرد وابن إسحاق‏.‏ ‏}‏صادقين‏}‏ في قولنا؛ ولم يصدقهم يعقوب لما ظهر له منهم من قوة التهمة وكثرة الأدلة على خلاف ما قالوه على ما يأتي، بيانه‏.‏ وقيل‏{‏ولو كنا صادقين‏}‏ أي ولو كنا عندك من أهل الثقة ولصدق ما صدقتنا، ولا تهمتنا في هذه القضية، لشدة محبتك في يوسف؛ قال معناه الطبري والزجاج وغيرهما‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 18 ‏)‏

‏{‏وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون‏}‏

قوله تعالى‏{‏بدم كذب‏}‏ قال مجاهد‏:‏ كان دم سخلة أو جدي ذبحوه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان دم ظبية؛ أي جاؤوا على قميصه بدم مكذوب فيه، فوصف الدم بالمصدر، فصار تقديره‏:‏ بدم ذي كذب؛ مثل‏{‏واسأل القرية‏}‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ والفاعل والمفعول قد يسميان بالمصدر؛ يقال‏:‏ هذا ضرب الأمير، أي مضروبه وماء سكب أي مسكوب، وماء غور أي غائر، ورجل عدل أي عادل‏.‏

وقرأ الحسن وعائشة‏{‏بدم كدب‏}‏ بالدال غير المعجمة، أي بدم طري؛ يقال للدم الطري الكدب‏.‏ وحكي أنه المتغير؛ قاله الشعبي‏.‏ والكدب أيضا البياض الذي يخرج في أظفار الأحداث؛ فيجوز أن يكون شبه الدم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظفر من جهة اختلاف اللونين‏.‏

قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها، وهي سلامة القميص من التنييب؛ إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص ويسلم القميص من التخريق؛ ولما تأمل يعقوب عليه السلام القميص فلم يجد فيه خرقا ولا أثرا استدل بذلك على كذبهم، وقال لهم‏:‏ متى كان هذا الذئب، حكيما يأكل يوسف ولا يخرق القميص‏!‏ قاله ابن عباس وغيره؛ روى إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ كان الدم دم سخلة‏.‏ وروى سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ لما نظر إليه قال كذبتم؛ لو كان الذئب أكله لخرق القميص‏.‏ وحكى الماوردي أن في القميص ثلاث آيات‏:‏ حين جاؤوا عليه بدم كذب، وحين قد قميصه من دبر، وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرا‏.‏

قلت‏:‏ وهذا مردود؛ فإن القميص الذي جاؤوا عليه بالدم غير القميص الذي قُد، وغير القميص الذي أتاه البشير به‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن القميص الذي قُد هو الذي أتي به فارتد بصيرا، على ما يأتي بيانه آخر السورة إن شاء الله تعالى‏.‏ وروي أنهم قالوا له‏:‏ بل اللصوص قتلوه؛ فاختلف قولهم، فاتهمهم، فقال لهم يعقوب‏:‏ تزعمون أن الذئب أكله، ولو أكله لشق قميصه قبل أن يفضي إلى جلده، وما أرى بالقميص من شق؛ وتزعمون أن اللصوص قتلوه، ولو قتلوه لأخذوا قميصه؛ هل يريدون إلا ثيابه‏؟‏‏!‏ فقالوا عند ذلك‏{‏وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين‏}‏ عن الحسن وغيره؛ أي لو كنا موصوفين بالصدق لا تهمتنا‏.‏

استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها، وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام ستدل على كذبهم بصحة القميص؛ وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح، وهي قوة التهمة؛ ولا خلاف بالحكم بها، قاله بن العربي‏.‏

روي أن يعقوب لما قالوا له‏{‏فأكله الذئب‏}‏ قال لهم‏:‏ ألم يترك الذئب له عضوا فتأتوني به أستأنس به‏؟‏‏!‏ ألم يترك لي ثوبا أشم فيه رائحته‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏!‏ هذا قميصه ملطوخ بدمه؛ فذلك قوله تعالى‏{‏وجاؤوا على قميصه بدم كذب‏}‏ فبكى يعقوب عند ذلك وقال، لبنيه‏:‏ أروني قميصه، فأروه فشمه وقبله، ثم جعل يقلبه فلا يرى فيه شقا ولا تمزيقا، فقال‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت كاليوم ذئبا أحكم منه؛ أكل ابني واختلسه من قميصه ولم يمزقه عليه؛ وعلم أن الأمر ليس كما قالوا، وأن الذئب لم يأكله، فأعرض عنهم كالمغضب باكيا حزينا وقال‏:‏ يا معشر ولدي‏!‏ دلوني على ولدي؛ فإن كان حيا رددته إلي، وإن كان ميتا كفنته ودفنته، فقيل قالوا حينئذ‏:‏ ألم تروا إلى أبينا كيف يكذبنا في مقالتنا‏!‏ تعالوا نخرجه من الجب ونقطعه عضوا عضوا، ونأت أبانا بأحد أعضائه فيصدقنا في مقالتنا ويقطع يأسه؛ فقال يهوذا‏:‏ والله لئن فعلتم لأكونن لكم عدوا ما بقيت، ولأخبرن أباكم بسوء صنيعكم؛ قالوا‏:‏ فإذا منعتا من هذا فتعالوا نصطد له ذئبا، قال‏:‏ فاصطادوا ذئبا ولطخوه بالدم، وأوثقوه بالحبال، ثم جاؤوا به يعقوب وقالوا‏:‏ يا أبانا‏!‏ إن هذا الذئب الذي يحل بأغنامنا ويفترسها، ولعله الذي أفجعنا بأخينا لا نشك فيه، وهذا دمه عليه، فقال يعقوب‏:‏ اطلقوه؛ فأطلقوه، وتبصبص له الذئب؛ فأقبل يدنو منه ويعقوب يقول له‏:‏ ادن ادن؛ حتى ألصق خده بخده فقال له يعقوب‏:‏ أيها الذئب‏!‏ لم فجعتني بولدي وأورثتني حزنا طويلا‏؟‏‏!‏ ثم قال اللهم أنطقه، فأنطقه الله تعالى فقال‏:‏ والذي اصطفاك نبيا ما أكلت لحمه، ولا مزقت جلده، ولا نتفت شعرة من شعراته، والله‏!‏ ما لي بولدك عهد، وإنما أنا ذئب غريب أقبلت من نواحي مصر في طلب أخ لي فُقد، فلا أدري أحي هو أم ميت، فاصطادني أولادك وأوثقوني، وإن لحوم الأنبياء حرمت علينا وعلى جميع الوحوش، وتالله لا أقمت في بلاد يكذب فيها أولاد الأنبياء على الوحوش؛ فأطلقه يعقوب وقال‏:‏ والله لقد أتيتم بالحجة على أنفسكم؛ هذا ذئب بهيم خرج يتبع ذمام أخيه، وأنتم ضيعتم أخاكم، وقد علمت أن الذئب بريء مما جئتم به‏.‏ ‏}‏بل سولت‏}‏ أي زينت لكم‏.‏ ‏}‏أنفسكم أمرا‏}‏ غير ما تصفون وتذكرون‏.‏

قوله تعالى‏{‏فصبر جميل‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي فشأني والذي اعتقده صبر جميل‏.‏ وقال قطرب‏:‏ أي فصبري صبر جميل‏.‏ وقيل‏:‏ أي فصبر جميل أولى بي؛ فهو مبتدأ وخبره محذوف‏.‏ ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر الجميل فقال‏:‏ ‏(‏هو الذي لا شكوى معه‏)‏‏.‏ وسيأتي له مزيد بيان آخر السورة إن شاء الله‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف ‏}‏فصبرا جميلا‏}‏ قال‏:‏ وكذا قرأ الأشهب العقيلي؛ قال وكذا‏.‏ في مصحف أنس وأبي صالح‏.‏ قال المبرد‏{‏فصبر جميل‏}‏ بالرفع أولى من النصب؛ لأن المعنى‏:‏ قال رب عندي صبر جميل؛ قال‏:‏ وإنما النصب على المصدر، أي فلأصبرن صبرا جميلا؛ قال‏:‏

شكا إلي جملي طول السرى صبرا جميلا فكلانا مبتلى

والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس الجبين، بل أعاشركم على ما كنت عليه معكم؛ وفي هذا ما يدل على أنه عفا عن مؤاخذتهم‏.‏ وعن حبيب بن أبي ثابت أن يعقوب كان قد سقط حاجباه على عينيه؛ فكان يرفعهما بخرقة؛ فقيل له‏:‏ ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ طول الزمان وكثرة الأحزان؛ فأوحى الله إليه أتشكوني يا يعقوب‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ يا رب‏!‏ خطيئة أخطأتها فاغفر لي‏.‏ ‏}‏والله المستعان‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ ‏}‏على ما تصفون‏}‏ أي على احتمال ما تصفون من الكذب‏.‏

قال ابن أبي رفاعة‏:‏ ينبغي لأهل الرأي أن يتهموا رأيهم عند ظن يعقوب صلى الله عليه وسلم وهو نبي؛ حين قال له بنوه‏{‏إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب‏}‏ قال‏{‏بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل‏}‏ فأصاب هنا، ثم قالوا له‏{‏إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين‏}‏يوسف‏:‏ 81‏]‏ قال‏{‏بل سولت لكم أنفسكم أمرا‏}‏ فلم يصب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 19 ‏)‏

‏{‏وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وجاءت سيارة‏}‏ أي رفقة مارة يسيرون من الشام إلى مصر فأخطؤوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريبا من الجب، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران، إنما هو للرعاة والمجتاز، وكان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف‏.‏ ‏}‏فأرسلوا واردهم‏}‏ فذكر على المعنى؛ ولو قال‏:‏ فأرسلت واردها لكان على اللفظ، مثل ‏}‏وجاءت‏}‏‏.‏ والوارد الذي يرد الماء يستقي للقوم؛ وكان اسمه - فيما ذكر المفسرون - مالك بن دعر، من العرب العاربة‏.‏ ‏}‏فأدلى دلوه‏}‏ أي أرسله؛ يقال‏:‏ أدلى دلوه إذا أرسلها ليملأها، ودلاها أي أخرجها‏:‏ عن الأصمعي وغيره‏.‏ ودلا - من ذات الواو - يدلو دلوا، أي جذب وأخرج، وكذلك أدلى إذا أرسل، فلما ثقل ردوه إلى الياء، لأنها أخف من الواو؛ قال الكوفيون‏.‏ وقال الخليل وسيبويه‏:‏ لما جاوز ثلاثة أحرف رجع إلى الياء، اتباعا للمستقبل‏.‏ وجمع دلو في أقل العدد أدل فإذا كثرت قلت‏:‏ دلي ودلي؛ فقلبت الواو ياء، إلا أن الجمع بابه التغيير، وليفرق بين الواحد والجمع؛ ودلاء أيضا‏.‏ ‏}‏قال يا بشرى هذا غلام‏}‏ فتعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا غلام كالقمر ليلة البدر، أحسن ما يكون من الغلمان‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء من صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏فإذا أنا بيوسف إذا هو قد أعطي شطر الحسن‏)‏‏.‏ وقال كعب الأحبار‏:‏ كان يوسف حسن الوجه، جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساعدين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، إذا ابتسم رأيت النور من ضواحكه، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع الشمس من ثناياه، لا يستطيع أحد وصفه؛ وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية، وقيل‏:‏ إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة؛ وكانت قد أعطيت سدس الحسن؛ فلما رآه مالك بن دعر قال‏{‏يا بشراي هذا غلام‏}‏ وهذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة؛ إلا ابن أبي إسحاق فإنه قرأ ‏}‏يا بُشْرَيَّ هذا غلام‏}‏ فقلب الألف ياء، لأن هذه الياء يكسر ما قبلها، فلما لم يجز كسر الألف كان قلبها عوضا‏.‏ وقرأ أهل الكوفة ‏}‏يا بشرى‏}‏ غير مضاف؛ وفي معناه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ اسم الغلام، والثاني‏:‏ معناه يا أيتها البشرى هذا حينك وأوانك‏.‏ قال قتادة والسدي‏:‏ لما أدلى المدلي دلوه تعلق بها يوسف فقال‏:‏ يا بشرى هذا غلام؛ قال قتادة‏:‏ بشر أصحابه بأنه وجد عبدا‏.‏ وقال السدي‏:‏ نادى رجلا اسمه بشرى‏.‏ قال النحاس‏:‏ قول قتادة أولى؛ لأنه لم يأت في القرآن تسمية أحد إلا يسيرا؛ وإنما يأتي بالكناية كما قال عز وجل‏{‏ويوم يعض الظالم على يديه‏}‏الفرقان‏:‏ 27‏]‏ وهو عقبة بن أبي معيط، وبعده ‏}‏يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا‏}‏الفرقان‏:‏ 28‏]‏ وهو أمية بن خلف؛ قال النحاس‏.‏ والمعنى في نداء البشرى‏:‏ التبشير لمن حضر؛ وهو أوكد من قولك تبشرت، كما تقول‏:‏ يا عجباه‏!‏ أي يا عجب هذا من أيامك ومن آياتك، فاحضر؛ وهذا مذهب سيبويه، وكذا قال السهيلي‏.‏ وقيل‏:‏ هو كما تقول‏:‏ واسروراه‏!‏ وأن البشرى مصدر من الاستبشار‏:‏ وهذا أصح؛ لأنه لو كان اسما علما لم يكن مضافا إلى، ضمير المتكلم؛ وعلى هذا يكون ‏}‏بشراي‏}‏ في موضع نصب، لأنه نداء مضاف؛ ومعنى النداء ههنا التنبيه، أي انتبهوا لفرحتي وسروري؛ وعلى قول السدي يكون في موضع رفع كما تقول‏:‏ يا زيد هذا غلام‏.‏ ويجوز أن يكون محله نصبا كقولك‏:‏ يا رجلا، وقوله‏{‏يا حسرة على العباد‏}‏يس‏:‏30‏]‏ ولكنه لم ينون ‏}‏بشرى‏}‏ لأنه لا ينصرف‏.‏ ‏}‏وأسروه بضاعة‏}‏ الهاء كناية عن يوسف عليه السلام؛ فأما الواو فكناية عن إخوته‏.‏ وقيل‏:‏ عن التجار الذين اشتروه، وقيل‏:‏ عن الوارد وأصحابه‏.‏ ‏}‏بضاعة‏}‏ نصب على الحال‏.‏ قال مجاهد‏:‏ أسره مالك بن دعر وأصحابه من التجار الذين معهم في الرفقة، وقالوا لهم‏:‏ هو بضاعة استبضعناها بعض أهل الشام أو أهل هذا الماء إلى مصر؛ وإنما قالوا هذا خيفة الشركة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أسره إخوة يوسف بضاعة لما استخرج من الجب؛ وذلك أنهم جاؤوا فقالوا‏:‏ بئس ما صنعتم‏!‏ هذا عبد لنا أبق، وقالوا ليوسف بالعبرانية‏:‏ إما أن تقر لنا بالعبودية فنبيعك من هؤلاء، وإما أن نأخذك فنقتلك؛ فقال‏:‏ أنا أقر لكم بالعبودية، فأقر لهم فباعوه منهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن يهوذا وصى أخاه يوسف بلسانهم أن اعترف لإخوتك بالعبودية فإني أخشى إن لم تفعل، قتلوك؛ فلعل الله أن يجعل لك مخرجا، وتنجو من القتل، فكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته؛ فقال مالك‏:‏ والله ما هذه سمة العبيد‏!‏، قالوا‏:‏ هو تربى في حجورنا، وتخلق بأخلاقنا، وتأدب بآدابنا؛ فقال‏:‏ ما تقول يا غلام‏؟‏ قال‏:‏ صدقوا‏!‏ تربيت في حجورهم، وتخلقت‏:‏، بأخلاقهم؛ فقال مالك‏:‏ إن بعتموه مني اشتريته منكم؛ فباعوه منه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 20 ‏)‏

‏{‏وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وشروه‏}‏ يقال‏:‏ شريت بمعنى اشتريت، وشريت بمعنى بعت لغة؛ قال الشاعر‏:‏

وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه

أي بعت‏.‏ وقال آخر‏:‏

فلما شراها فاضت العين عبرة وفي الصدر حزاز من اللوم حامز

‏{‏بثمن بخس‏}‏ أي نقص؛ وهو هنا مصدر وضع موضع الاسم؛ أي باعوه بثمن مبخوس، أي منقوص‏.‏ ولم يكن قصد إخوته ما يستفيدونه من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدونه من خلو وجه أبيهم عنه‏.‏ وقيل‏:‏ إن يهوذا رأى من بعيد أن يوسف أخرج من الجب فأخبر إخوته فجاؤوا وباعوه من الواردة‏.‏ وقيل‏:‏ لا بل عادوا بعد ثلاث إلى البئر يتعرفون الخبر، فرأوا أثر السيارة فاتبعوهم وقالوا‏:‏ هذا عبدنا أبق منا فباعوه منهم‏.‏ وقال قتادة‏{‏بخس‏}‏ ظلم وقال الضحاك ومقاتل والسدي وابن عطاء‏{‏بخس‏}‏ حرام‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ ولا وجه له، وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة؛ لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستفيدونه من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه أبيهم عنه؛ وإن كان الذين باعوه الواردة فإنهم أخفوه مقتطعا؛ أو قالوا لأصحابهم‏:‏ أرسل معنا بضاعة فرأوا أنهم لم يعطوا عنه ثمنا وأن ما أخذوا فيه ربح كله‏.‏

قلت‏:‏ قوله - وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة - يدل على أنهم لو أخذوا القيمة فيه كاملة كان ذلك جائزا وليس كذلك؛ فدل على صحة ما قاله السدي وغيره؛ لأنهم أوقعوا البيع على نفس لا يجوز بيعها، فلذلك كان لا يحل لهم ثمنه‏.‏ وقال عكرمة والشعبي‏:‏ قليل‏.‏ وقال ابن حيان‏:‏ زيف‏.‏ وعن ابن عباس وابن مسعود باعوه بعشرين درهما أخذ كل واحد من إخوته درهمين، وكانوا عشرة؛ وقاله قتادة والسدي‏.‏ وقال أبو العالية ومقاتل‏:‏ اثنين وعشرين درهما، وكانوا أحد عشر أخذ كل واحد درهمين؛ وقاله مجاهد‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ أربعين درهما؛ وما روي عن الصحابة أولى‏.‏ و‏}‏بخس‏}‏ من نعت ‏}‏ثمن‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏دراهم معدودة‏}‏ على البدل والتفسير له‏.‏ ويقال‏:‏ دراهيم على أنه جمع درهام، وقد يكون اسما للجمع عند سيبويه، ويكون أيضا عنده على أنه مد الكسرة فصارت ياء، وليس هذا مثل مد المقصور؛ لأن مد المقصور لا يجوز عند البصريين في شعر ولا غيره‏.‏ وأنشد النحويون‏:‏

تنفي يداها الحصى في كل هاجرة نفي الدراهيم تنقاد الصياريف

‏{‏معدودة‏}‏ نعت؛ وهذا يدل على أن الأثمان كانت تجري عندهم عدا لا وزنا بوزن‏.‏ وقيل‏:‏ هو عبارة عن قلة الثمن؛ لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها؛ وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما كان دون الأوقية، وهي أربعون درهما‏.‏

قال القاضي ابن العربي‏:‏ وأصل النقدين الوزن؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن من زاد أو ازداد فقد أربى‏)‏‏.‏ والزنة لا فائدة فيها إلا المقدار؛ فأما عينها فلا منفعة فيه، ولكن جرى فيها العد تخفيفا عن الخلق لكثرة المعاملة، فيشق الوزن؛ حتى لو ضرب مثاقيل أو دراهم لجاز بيع بعضها ببعض عدا إذا لم يكن بها نقصان ولا رجحان؛ فإن نقصت عاد الأمر إلى الوزن؛ ولأجل ذلك كان كسرها أو قرضها من الفساد في الأرض حسب ما تقدم‏.‏

واختلف العلماء في الدراهم والدنانير هل تتعين أم لا‏؟‏ وقد اختلفت الرواية في ذلك عن مالك‏:‏ فذهب أشهب إلى أن ذلك لا يتعين، وهو الظاهر من قول مالك؛ وبه قال أبو حنيفة‏.‏ وذهب ابن القاسم إلى أنها تتعين، وحكي عن الكرخي؛ وبه قال الشافعي‏.‏ وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا لا تتعين فإذا قال‏:‏ بعتك، هذه الدنانير بهذه الدراهم تعلقت الدنانير بذمة صاحبها، والدراهم بذمة صاحبها؛ ولو تعينت ثم تلفت لم يتعلق بذمتهما شيء، وبطل العقد كبيع الأعيان من العروض وغيرها‏.‏

روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قضى، في اللقيط أنه حر، وقرأ‏{‏وشروه بثمن بخس دراهم معدودة‏}‏ وقد مضى القول فيه‏.‏

قوله تعالى‏{‏وكانوا فيه من الزاهدين‏}‏ قيل‏:‏ المراد إخوته‏.‏ وقيل‏:‏ السيارة‏.‏ وقيل‏:‏ الواردة؛ وعلى أي تقدير فلم يكن عندهم غبيطا، لا عند الإخوة؛ لأن المقصد زواله عن أبيه لا ماله، ولا عند السيارة لقول الإخوة إنه عبد أبق منا - والزهد قلة الرغبة - ولا عند الواردة لأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم، ورأوا أن القليل من ثمنه في الانفراد أولى‏.‏

في هذه الآية دليل واضح على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير، ويكون البيع لازما؛ ولهذا قال مالك‏:‏ لو باع درة ذات خطر عظيم بدرهم ثم قال لم أعلم أنها درة وحسبتها مخشلبة لزمه البيع ولم يلتفت إلى قوله‏.‏ وقيل‏{‏وكانوا فيه من الزاهدين‏}‏ أي في حسنه؛ لأن الله تعالى وإن أعطى يوسف شطر الحسن صرف عنه دواعي نفوس القوم إليه إكراما له‏.‏ وقيل‏{‏وكانوا فيه من الزاهدين‏}‏ لم يعلموا منزلته عند الله تعالى‏.‏ وحكى سيبويه والكسائي‏:‏ زهدت وزهدت بكسر الهاء وفتحها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 21 ‏)‏

‏{‏وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته‏}‏ قيل‏:‏ الاشتراء هنا بمعنى الاستبدال؛ إذ لم يكن ذلك عقدا، مثل‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏‏.‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏ وقيل‏:‏ إنهم ظنوه في ظاهر الحال اشتراء، فجرى هذا اللفظ على ظاهر الظن‏.‏ قال الضحاك‏:‏ هذا الذي اشتراه ملك مصر، ولقبه العزيز‏.‏ السهيلي‏:‏ واسمه قطفير‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ إطفير بن رويحب اشتراه لامرأته راعيل؛ ذكره الماوردي‏.‏ وقيل‏:‏ كان اسمها زليخاء‏.‏ وكان الله ألقى محبة يوسف على قلب العزيز، فأوصى به أهله؛ ذكره القشيري‏.‏ وقد ذكر القولين في اسمها الثعلبي وغيره‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إنما اشتراه قطفير وزير ملك مصر، وهو الريان بن الوليد‏.‏ وقيل‏:‏ الوليد بن الريان، وهو رجل من العمالقة‏.‏ وقيل‏:‏ هو فرعون موسى؛ لقول موسى‏{‏ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات‏}‏غافر‏:‏ 34‏]‏ وأنه عاش أربعمائة سنة‏.‏ وقيل‏:‏ فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، على ما يأتي في ‏}‏غافر‏]‏ بيانه‏.‏ وكان هذا العزيز الذي اشترى يوسف على خزائن الملك؛ واشترى يوسف من مالك بن دعر بعشرين دينارا، وزاده حلة ونعلين‏.‏ وقيل‏:‏ اشتراه من أهل الرفقة‏.‏ وقيل‏:‏ تزايدوا في ثمنه فبلغ أضعاف وزنه مسكا وعنبرا وحريرا وورقا وذهبا ولآلئ وجواهر لا يعلم قيمتها إلا الله؛ فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن؛ قاله وهب بن منبه‏.‏ وقال وهب أيضا وغيره‏:‏ ولما اشترى مالك بن دعر يوسف من إخوته كتب بينهم وبينه كتابا‏:‏ هذا ما اشترى مالك بن دعر من بني يعقوب، وهم فلان وفلان مملوكا لهم بعشرين درهما، وقد شرطوا له أنه آبق، وأنه لا ينقلب به إلا مقيدا مسلسلا، وأعطاهم على ذلك عهد الله‏.‏ قال‏:‏ فودعهم يوسف عند ذلك، وجعل يقول‏:‏ حفظكم الله وإن ضيعتموني، نصركم الله وإن خذلتموني، رحمكم الله وإن لم ترحموني؛ قالوا‏:‏ فألقت الأغنام ما في بطونها دما عبيطا لشدة هذا التوديع، وحملوه على قتب بغير غطاء ولا وطاء، مقيدا مكبلا مسلسلا، فمر على مقبرة آل كنعان فرأى قبر أمه - وقد كان وكل به أسود يحرسه فغفل الأسود - فألقى يوسف نفسه على قبر أمه فجعل يتمرغ ويعتنق القبر ويضطرب ويقول‏:‏ يا أماه‏!‏ ارفعي رأسك ترى ولدك مكبلا مقيدا مسلسلا مغلولا؛ فرقوا بيني وبين والدي، فاسألي الله أن يجمع بيننا في مستقر رحمته إنه أرحم الراحمين، فتفقده الأسود على البعير فلم يره، فقفا أثره، فإذا هو بياض على قبر، فتأمله فإذا هو إياه، فركضه برجله في التراب ومرغه وضربه ضربا وجيعا؛ فقال له‏:‏ لا تفعل‏!‏ والله ما هربت ولا أبقت وإنما مررت بقبر أمي فأحببت أن أودعها، ولن أرجع إلى ما تكرهون؛ فقال الأسود‏:‏ والله إنك لعبد سوء، تدعو أباك مرة وأمك أخرى‏!‏ فهلا كان هذا عند مواليك؛ فرفع يديه إلى السماء وقال‏:‏ اللهم إن كانت لي عندك خطيئة أخلقت بها وجهي فأسألك بحق آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن تغفر لي وترحمني؛ فضجت الملائكة في السماء، ونزل جبريل فقال له‏:‏ يا يوسف غض صوتك فلقد أبكيت ملائكة السماء أفتريد أن أقلب الأرض فأجعل عاليها سافلها‏؟‏ قال‏:‏ تثبت يا جبريل، فإن الله حليم لا يعجل؛ فضرب الأرض بجناحه فأظلمت، وارتفع الغبار، وكسفت الشمس، وبقيت القافلة لا يعرف بعضها بعضا؛ فقال رئيس القافلة‏:‏ من أحدث منكم حدثا‏؟‏ - فإني أسافر منذ كيت وكيت ما أصابني قط مثل هذا - فقال الأسود‏:‏ أنا لطمت ذلك الغلام العبراني فرفع يده إلى السماء وتكلم بكلام لا أعرفه، ولا أشك أنه دعا علينا؛ فقال له‏:‏ ما أردت إلا هلاكنا ايتنا به، فأتاه به، فقال له‏:‏ يا غلام لقد لطمك فجاءنا ما رأيت؛ فإن كنت تقتص فاقتص ممن شئت، وإن كنت تعفو فهو الظن بك؛ قال‏:‏ قد عفوت رجاء أن يعفو الله عني؛ فانجلت الغبرة، وظهرت الشمس، وأضاء مشارق الأرض ومغاربها، وجعل التاجر يزوره بالغداة والعشي ويكرمه، حتى وصل إلى مصر فاغتسل في نيلها وأذهب الله عنه كآبة السفر، ورد عليه جماله، ودخل به البلد نهارا فسطع نوره على الجدران، وأوقفوه للبيع فاشتراه قطفير وزير الملك؛ قاله ابن عباس على ما تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه، ثم مات الملك ويوسف يومئذ على خزائن الأرض؛ فملك بعده قابوس وكان كافرا، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى‏.‏

قوله تعالى‏{‏أكرمي مثواه‏}‏ أي منزله ومقامه بطيب المطعم واللباس الحسن؛ وهو مأخوذ من ثوى بالمكان أي أقام به؛ وقد تقدم في ‏}‏آل عمران‏}‏ وغيره‏.‏ ‏}‏عسى أن ينفعنا‏}‏ أي يكفينا بعض المهمات إذا بلغ‏.‏ ‏}‏أو نتخذه ولدا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان حصورا لا يولد له، وكذا قال ابن إسحاق‏:‏ كان قطفير لا يأتي النساء ولا يولد له‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف قال ‏}‏أو نتخذه ولدا‏}‏ وهو ملكه، والولدية مع العبدية تتناقض‏؟‏ قيل له‏:‏ يعتقه ثم يتخذه ولدا بالتبني؛ وكان التبني في الأمم معلوما عندهم، وكذلك كان في أول الإسلام، على ما يأتي بيانه في ‏}‏الأحزاب‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وقال عبدالله بن مسعود‏:‏ أحسن الناس فراسة ثلاثة؛ العزيز حين تفرس في يوسف فقال‏{‏عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا‏}‏ وبنت شعيب حين قالت لأبيها في موسى ‏}‏استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين‏}‏القصص‏:‏ 26‏]‏، وأبو بكر حين استخلف عمر‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ عجبا للمفسرين في اتفاقهم على جلب هذا الخبر والفراسة هي علم غريب على ما يأتي بيانه في سورة ‏[‏الحجر‏]‏ وليس كذلك فيما نقلوه؛ لأن الصديق إنما ولى عمر بالتجربة في الأعمال، والمواظبة على الصحبة وطولها، والاطلاع على ما شاهد منه من العلم والمنة، وليس ذلك من طريق الفراسة؛ وأما بنت شعيب فكانت معها العلامة البينة على ما يأتي بيانه في ‏}‏القصص‏}‏‏.‏ وأما أمر العزيز فيمكن أن يجعل فراسة؛ لأنه لم يكن معه علامة ظاهرة‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك مكنا ليوسف في الأرض‏}‏ الكاف في موضع نصب؛ أي وكما أنقذناه من إخوته ومن الجب فكذلك مكنا له؛ أي عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه حتى تمكن من الأمر والنهي في البلد الذي الملك مستول عليه‏.‏ ‏}‏ولنعلمه من تأويل الأحاديث‏}‏ أي فعلنا ذلك تصديقا لقول يعقوب‏{‏ويعلمك من تأويل الأحاديث‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى مكناه لنوحي إليه بكلام منا، ونعلمه تأويله‏.‏ وتفسيره، وتأويل الرؤيا، وتم الكلام‏.‏ ‏}‏والله غالب على أمره‏}‏ الهاء راجعة إلى الله تعالى؛ أي لا يغلب الله شيء، بل هو الغالب على أمر نفسه فيما يريده أن يقول له‏:‏ كن فيكون‏.‏ وقيل‏:‏ ترجع إلى يوسف؛ أي الله غالب على أمر يوسف يدبره ويحوطه ولا يكله إلى غيره، حتى لا يصل إليه كيد كائد‏.‏ ‏}‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ أي لا يطلعون على غيبه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالأكثر الجميع؛ لأن أحدا لا يعلم الغيب‏.‏ وقيل‏:‏ هو مجرى على ظاهره؛ إذ قد يطلع من يريد على بعض، غيبه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ‏}‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ أن الله غالب على أمره، وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر‏.‏ وقالت الحكماء في هذه الآية‏{‏والله غالب على أمره‏}‏ حيث، أمره يعقوب ألا يقص رؤياه على إخوته فغلب أمر الله حتى قص، ثم أراد إخوته قتله فغلب أمر الله حتى صار ملكا وسجدوا بين يديه، ثم أراد الإخوة أن يخلو لهم وجه أبيهم فغلب أمر الله حتى ضاق عليهم قلب أبيهم، وافتكره بعد سبعين سنة أو ثمانين سنة، فقال‏{‏يا أسفا على يوسف‏}‏ ثم تدبروا أن يكونوا من بعده قوما صالحين، أي تائبين فغلب أمر الله حتى نسوا الذنب وأصروا عليه حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد سبعين سنة، وقالوا لأبيهم‏{‏إنا كنا خاطئين‏}‏يوسف‏:‏ 97‏]‏ ثم أرادوا أن يخدعوا أباهم بالبكاء والقميص فغلب أمر الله فلم ينخدع، وقال‏{‏بل سولت لكم أنفسكم أمرا‏}‏يوسف‏:‏ 18‏]‏ ثم احتالوا في أن تزول محبته من قلب، أبيهم فغلب أمر الله فازدادت المحبة والشوق في قلبه، ثم دبرت امرأة العزيز أنها إن ابتدرته بالكلام غلبته، فغلب أمر الله حتى قال العزيز‏{‏استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين‏}‏يوسف‏:‏ 29‏]‏، ثم دبر يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي فغلب أمر الله فنسي الساقي، ولبث يوسف في السجن بضع سنين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 22 ‏)‏

‏{‏ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولما بلغ أشده‏}‏ ‏}‏أشده‏}‏ عند سيبويه جمع، واحده شدة‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ واحده شد؛ كما قال الشاعر‏:‏

عهدي به شد النهار كأنما خضب اللبان ورأسه بالعظلم

وزعم أبو عبيد أنه لا واحد له من لفظه عند العرب؛ ومعناه استكمال القوة ثم يكون النقصان بعد‏.‏ وقال مجاهد وقتادة‏:‏ الأشد ثلاث وثلاثون سنة‏.‏ وقال ربيعة وزيد بن أسلم ومالك بن أنس‏:‏ الأشد بلوغ الحلم؛ وقد مضى ما للعلماء في هذا في ‏}‏النساء‏}‏ و‏}‏الأنعام‏}‏ مستوفى‏.‏ ‏}‏آتيناه حكما وعلما‏}‏ قيل‏:‏ جعلناه المستولي على الحكم، فكان يحكم في سلطان الملك؛ أي وآتيناه علما بالحكم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ العقل والفهم والنبوة‏.‏ وقيل‏:‏ الحكم النبوة، والعلم علم الدين؛ وقيل‏:‏ علم الرؤيا؛ ومن قال‏:‏ أوتي النبوة صبيا قال‏:‏ لما بلغ أشده زدناه فهما وعلما‏.‏ ‏}‏وكذلك نجزي المحسنين‏}‏ يعني المؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ الصابرين على النوائب كما صبر يوسف؛ قاله الضحاك‏.‏ وقال الطبري‏:‏ هذا وإن كان مخرجه ظاهرا على كل محسن فالمراد به محمد صلى الله عليه وسلم؛ يقول الله تعالى‏:‏ كما فعلت هذا بيوسف بعد أن قاسى ما قاسى ثم أعطيته ما أعطيته، كذلك أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكن لك في الأرض‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 23 ‏:‏ 24 ‏)‏

‏{‏وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون، ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وراودته التي هو في بيتها عن نفسه‏}‏ وهي امرأة العزيز، طلبت منه أن يواقعها‏.‏ وأصل المراودة الإرادة والطلب برفق ولين‏.‏ والرود والرياد طلب الكلأ؛ وقيل‏:‏ هي من رويد؛ يقال‏:‏ فلان يمشي رويدا، أي برفق؛ فالمراودة الرفق في الطلب؛ يقال في الرجل‏:‏ راودها عن نفسها، وفي المرأة راودته عن نفسه‏.‏ والرود التأني؛ يقال‏:‏ أرودني أمهلني‏.‏ ‏}‏وغلقت الأبواب‏}‏ غلق للكثير، ولا يقال‏:‏ غلق الباب؛ وأغلق يقع للكثير والقليل؛ كما قال الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء‏:‏

ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها حتى أتيت أبا عمرو بن عمار

يقال‏:‏ إنها كانت سبعة أبواب غلقتها ثم دعته إلى نفسها‏.‏ ‏}‏وقالت هيت لك‏}‏ أي هلم وأقبل وتعال؛ ولا مصدر له ولا تصريف‏.‏ قال النحاس‏:‏ فيها سبع قراءات؛ فمن أجل ما فيها وأصحه إسنادا ما رواه الأعمش عن أبي وائل قال‏:‏ سمعت عبدالله بن مسعود يقرأ ‏}‏هَيتَ لك‏}‏ قال فقلت‏:‏ إن قوما يقرؤونها ‏}‏هِيتَ لك‏}‏ فقال‏:‏ إنما أقرأ كما علمت‏.‏ قال أبو جعفر‏:‏ وبعضهم يقول عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يبعد ذلك؛ لأن قوله‏:‏ إنما أقرأ كما علمت يدل على أنه مرفوع، وهذه القراءة بفتح التاء والهاء هي الصحيحة من قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة؛ وبها قرأ أبو عمرو بن العلاء وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي‏.‏ قال عبدالله ابن مسعود‏:‏ لا تقطعوا في القرآن؛ فإنما هو مثل، قول أحدكم‏:‏ هلم تعال‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي ‏}‏قالت هَيتِ لك‏}‏ بفتح الهاء وكسر التاء‏.‏ وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي وابن كثير ‏}‏هَيتُ لك‏}‏ بفتح الهاء وضم التاء؛ قال طرفة‏:‏

ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت

فهذه ثلاث قراءات الهاء فيهن مفتوحة‏.‏ وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع ‏}‏وقالت هِيتَ لك‏}‏ بكسر الهاء وفتح التاء‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب ‏}‏وقالت هِيْتُ لك‏}‏ بكسر الهاء وبعدها ياء ساكنة والتاء مضمومة‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس ومجاهد وعكرمة‏{‏وقالت هَئتُ لك‏}‏ بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة والتاء مضمومة‏.‏ وعن ابن عامر وأهل الشام‏{‏وقالت هِئتَ‏}‏ بكسر الهاء وبالهمزة وبفتح التاء؛ قال أبو جعفر‏{‏هئتَ لك‏}‏ بفتح التاء لالتقاء الساكنين، لأنه صوت نحومه وصه يجب ألا يعرب، والفتح خفيف؛ لأن قبل التاء ياء مثل، أين وكيف؛ ومن كسر التاء فإنما كسرها لأن الأصل الكسر؛ لأن الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر، ومن ضم فلأن فيه معنى الغاية؛ أي قالت‏:‏ دعائي لك، فلما حذفت الإضافة بني على الضم؛ مثل حيث وبعد‏.‏ وقراءة أهل المدينة فيها قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون الفتح لالتقاء الساكنين كما مر‏.‏ والآخر‏:‏ أن يكون فعلا من هاء يهيئ مثل جاء يجيء؛ فيكون المعنى في ‏}‏هئت‏}‏ أي حسنت هيئتك، ويكون ‏}‏لك‏}‏ من كلام آخر، كما تقول‏:‏ لك أعني‏.‏ ومن همز‏.‏ وضم التاء فهو فعل بمعنى تهيأت لك؛ وكذلك من قرأ ‏}‏هيت لك‏}‏‏.‏ وأنكر أبو عمرو هذه القراءة؛ قال أبو عبيدة - معمر بن المثنى‏:‏ سئل أبو عمرو عن قراءة من قرأ بكسر الهاء وضم التاء مهموزا فقال أبو عمرو‏:‏ باطل؛ جعلها من تهيأت‏!‏ اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن هل تعرف أحدا يقول هذا‏؟‏‏!‏ وقال الكسائي أيضا‏:‏ لم تحك ‏}‏هئت‏}‏ عن العرب‏.‏ قال عكرمة‏{‏هئت لك‏}‏ أي تهيأت لك وتزينت وتحسنت، وهي قراءة غير مرضية؛ لأنها لم تسمع في العربية‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهي جيدة عند البصريين؛ لأنه يقال‏:‏ هاء الرجل يهاء ويهيئ هيأة فهاء يهيئ مثل جاء يجيء وهئت مثل جئت‏.‏ وكسر الهاء في ‏}‏هيت‏}‏ لغة لقوم يؤثرون كسر الهاء على فتحها‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أجود القراءات ‏}‏هيت‏}‏ بفتح الهاء والتاء؛ قال طرفة‏:‏

ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت

بفتح الهاء والتاء‏.‏ وقال الشاعر في علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏

أبلغ أمير المؤمنـ ـين أخا العراق إذا أتيتا

إن العراق وأهله سلم إليك فهيت هيتا

قال ابن عباس والحسن‏{‏هيت‏}‏ كلمة بالسريانية تدعوه إلى نفسها‏.‏ وقال السدي‏:‏ معناها بالقبطية هلم لك‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ كان الكسائي يقول‏:‏ هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناه تعال؛ قال أبو عبيد‏:‏ فسألت شيخا عالما من حوران فذكر أنها لغتهم؛ وبه قال عكرمة‏.‏ وقال مجاهد وغيره‏:‏ هي لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها، وهي كلمة حث وإقبال على الأشياء؛ قال الجوهري‏:‏ يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه؛ قال‏:‏

قد رابني أن الكري أسكتا لو كان معنيا بها لهيتا

أي صاح؛ وقال آخر‏:‏ يحدو بها كل فتى هيات

قوله تعالى‏{‏قال معاذ الله‏}‏ أي أعوذ بالله وأستجير به مما دعوتني إليه؛ وهو مصدر، أي أعوذ بالله معاذا؛ فيحذف المفعول وينتصب بالمصدر بالفعل المحذوف، ويضاف المصدر إلى اسم الله كما يضاف المصدر إلى المفعول، كما تقول‏:‏ مررت بزيد مرور عمرو أي كمروري بعمرو‏.‏ ‏}‏إنه ربي‏}‏ يعني زوجها، أي هو سيدي أكرمني فلا أخونه؛ قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أي إن الله ربي تولاني بلطفه، فلا أرتكب ما حرمه‏.‏ وفي الخبر أنها قالت له‏:‏ يا يوسف‏!‏ ما أحسن صورة وجهك‏!‏ قال‏:‏ في الرحم صورني ربي؛ قالت‏:‏ يا يوسف ما أحسن شعرك‏!‏ قال‏:‏ هو أول شيء يبلى مني في قبري؛ قالت‏:‏ يا يوسف‏!‏ ما أحسن عينيك‏؟‏ قال‏:‏ بهما أنظر إلى ربي‏.‏ قالت‏:‏ يا يوسف‏!‏ ارفع بصرك فانظر في وجهي، قال‏:‏ إني أخاف العمى في آخرتي‏.‏ قالت يا يوسف ‏!‏ أدنو منك وتتباعد مني‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ أريد بذلك القرب من ربي‏.‏ قالت‏:‏ يا يوسف‏!‏ القيطون فرشته لك فادخل معي، قال‏:‏ القيطون لا يسترني من ربي‏.‏ قالت‏:‏ يا يوسف‏!‏ فراش الحرير قد فرشته لك، قم فاقض حاجتي، قال‏:‏ إذا يذهب من الجنة نصيبي؛ إلى غير ذلك من كلامها وهو يراجعها؛ إلى أن هم بها‏.‏ وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله، فألقى عليه هيبة النبوة؛ فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه‏.‏ واختلف العلماء في همه‏.‏ ولا خلاف أن همها كان المعصية، وأما يوسف فهم بها ‏}‏لولا أن رأى برهان ربه‏}‏ ولكن لما رأى البرهان ما هم؛ وهذا لوجوب العصمة للأنبياء؛ قال الله تعالى‏{‏كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين‏}‏ فإذا في الكلام تقديم وتأخير؛ أي لولا أن رأى برهان ربه هم بها‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله‏{‏ولقد همت به وهم بها‏}‏ الآية، قال أبو عبيدة‏:‏ هذا على التقديم والتأخير؛ كأنه أراد ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها‏.‏ وقال أحمد بن يحيى‏:‏ أي همت زليخاء بالمعصية وكانت مصرة، وهم يوسف ولم يواقع ما هم به؛ فبين الهمتين فرق، ذكر هذين القولين الهروي في كتابه‏.‏ قال جميل‏:‏

هممت بهم من بثينة لو بدا شفيت غليلات الهوى من فؤاديا

آخر‏:‏

هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله

فهذا كله حديث نفس من غير عزم‏.‏ وقيل‏:‏ هم بها تمنى زوجيتها‏.‏ وقيل‏:‏ هم بها أي بضربها ودفعها عن نفسه، والبرهان كفه عن الضرب؛ إذ لو ضربها لأوهم أنه قصدها بالحرام فامتنعت فضربها‏.‏ وقيل‏:‏ إن هم يوسف كان معصية، وأنه جلس منها مجلس الرجل من امرأته، وإلى هذا القول ذهب معظم المفسرين وعامتهم، فيما ذكر القشيري أبو نصر، وابن الأنباري والنحاس والماوردي وغيرهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن، وعنه‏:‏ استلقت، على قفاها وقعد بين رجليها ينزع ثيابه‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ أطلق تكة سراويله‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ حل السراويل حتى بلغ الأليتين، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ولما قال‏{‏ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب‏}‏يوسف‏:‏ 52‏]‏ قال له جبريل‏:‏ ولا حين هممت بها يا يوسف‏؟‏‏!‏ فقال عند ذلك‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏يوسف‏:‏ 53‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ والانكفاف في مثل هذه الحالة دال على الإخلاص، وأعظم للثواب‏.‏

قلت‏:‏ وهذا كان سبب ثناء الله تعالى على ذي الكفل حسب، ما يأتي بيانه في ‏}‏ص‏]‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وجواب ‏}‏لولا‏}‏ على هذا محذوف؛ أي لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما هم به؛ ومثله ‏}‏كلا لو تعلمون علم اليقين‏}‏التكاثر‏:‏ 5‏]‏ وجوابه لم تتنافسوا؛ قال ابن عطية‏:‏ روي هذا القول عن ابن عباس وجماعة من السلف، وقالوا‏:‏ الحكمة في ذلك أن يكون مثلا للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع إلى، عفو الله تعالى كما رجعت ممن هو خير منهم ولم يوبقه القرب من الذنب، وهذا كله على أن هم يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة إلى أن جلس بين رجلي زليخاء وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو ذلك، وهي قد استلقت له؛ حكاه الطبري‏.‏ وقال أبو عبيد القاسم بن سلام‏:‏ وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه هم بها، وهم أعلم بالله وبتأويل كتابه، وأشد تعظيما للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إن الله عز وجل لم يذكر معاصي الأنبياء ليعيرهم بها؛ ولكنه ذكرها لكيلا تيأسوا من التوبة‏.‏ قال الغزنوي‏:‏ مع أن زلة الأنبياء حكما‏:‏ زيادة الوجل، وشدة الحياء بالخجل، والتخلي عن عجب، العمل، والتلذذ بنعمة العفو بعد الأمل، وكونهم أئمة رجاء أهل الزلل‏.‏ قال القشيري أبو نصر‏:‏ وقال قوم جرى من يوسف هم، وكان ذلك الهم حركة طبع من غير تصميم للعقد على الفعل؛ وما كان من هذا القبيل لا يؤخذ به العبد، وقد يخطر بقلب المرء وهو صائم شرب الماء البارد؛ وتناول الطعام اللذيذ؛ فإذا لم يأكل ولم يشرب، ولم يصمم عزمه على الأكل والشرب لا يؤاخذ بما هجس في النفس؛ والبرهان صرفه عن هذا الهم حتى لم يصر عزما مصمما‏.‏

قلت‏:‏ هذا قول حسن؛ وممن قال به الحسن‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ الذي أقول به في هذه الآية إن كون يوسف نبيا في وقت هذه النازلة لم يصح، ولا تظاهرت به رواية؛ وإذا كان كذلك فهو مؤمن قد أوتي حكما وعلما، ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة؛ وإن فرضناه نبيا في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو خاطر، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكته ونحوه؛ لأن العصمة مع النبوة‏.‏ وما روي من أنه قيل له‏:‏ تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء‏.‏ فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد‏.‏

قلت‏:‏ ما ذكره من هذا التفصيل صحيح؛ لكن قوله تعالى‏{‏وأوحينا إليه‏}‏يوسف‏:‏ 15‏]‏ يدل على أنه كان نبيا على ما ذكرناه، وهو قول جماعة من العلماء؛ وإذا كان نبيا فلم يبق إلا أن يكون الهم الذي هم به ما يخطر في النفس ولا يثبت في الصدر؛ وهو الذي رفع الله فيه المؤاخذة عن الخلق، إذ لا قدرة للمكلف على دفعه؛ ويكون قوله‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏يوسف‏:‏ 53‏]‏ - إن كان من قول يوسف - أي من هذا الهم، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع والاعتراف، لمخالفة النفس لما زكي به قبل وبرئ؛ وقد أخبر الله تعالى عن حال يوسف من حين بلوغه فقال‏{‏ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما‏}‏يوسف‏:‏ 22‏]‏ على ما تقدم بيانه؛ وخبر الله تعالى صدق، ووصفه صحيح، وكلامه حق؛ فقد عمل يوسف بما علمه الله من تحريم الزنى ومقدماته؛ وخيانة السيد والجار والأجنبي في أهله؛ فما تعرض لامرأة العزيز، ولا أجاب إلى المراودة، بل أدبر عنها وفر منها؛ حكمة خص بها، وعملا بمقتضى ما علمه الله‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جراي‏)‏‏.‏ وقال عليه السلام مخبرا عن ربه‏:‏ ‏(‏إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة‏)‏‏.‏ فإن كان ما يهم به العبد من السيئة يكتب له بتركها حسنة فلا ذنب؛ وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به‏)‏ وقد تقدم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ كان بمدينة السلام إمام من أئمة الصوفية، - وأي إمام - يعرف بابن عطاء‏!‏ تكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه؛ فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال‏:‏ يا شيخ‏!‏ يا سيدنا‏!‏ فإذا يوسف هم وما تم‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏!‏ لأن العناية من ثم‏.‏ فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلم، وانظر إلى فطنة العامي في سؤاله، وجواب العالم في اختصاره واستيفائه؛ ولذلك قال علماء الصوفية‏:‏ إن فائدة قوله‏{‏ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما‏}‏يوسف‏:‏ 22‏]‏ إنما أعطاه ذلك إبان غلبة الشهوة لتكون له سببا للعصمة‏.‏

قلت‏:‏ وإذا تقررت عصمته وبراءته بثناء الله تعالى عليه فلا يصح ما قال مصعب بن عثمان‏:‏ إن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجها، فاشتاقته امرأة فسامته نفسها فامتنع عليها وذكرها، فقالت‏:‏ إن لم تفعل لأشهرنك؛ فخرج وتركها، فرأى في منامه يوسف الصديق عليه السلام جالسا فقال‏:‏ أنت يوسف‏؟‏ فقال‏:‏ أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي لم تهم‏؟‏‏!‏ فإن هذا يقتضي أن تكون درجة الولاية أرفع من درجة النبوة وهو محال؛ ولو قدرنا يوسف غير نبي فدرجته الولاية، فيكون محفوظا كهو؛ ولو غلقت على سليمان الأبواب، وروجع في المقال والخطاب، والكلام والجواب مع طول الصحبة لخيف عليه الفتنة، وعظيم المحنة، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏لولا أن رأى برهان ربه‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ في موضع رفع أي لولا رؤية برهان ربه والجواب محذوف‏.‏ لعلم السامع؛ أي لكان ما كان‏.‏ وهذا البرهان غير مذكور في القرآن؛ فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن زليخاء قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال‏:‏ ما تصنعين‏؟‏ قالت‏:‏ أستحي من إلهي هذا أن يراني في هذه الصورة؛ فقال يوسف‏:‏ أنا أولى أن أستحي من الله؛ وهذا أحسن ما قيل فيه، لأن فيه إقامة الدليل‏.‏ وقيل‏:‏ رأى مكتوبا في سقف البيت ‏}‏ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا‏}‏الإسراء‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ بدت كف مكتوب عليها ‏}‏وإن عليكم لحافظين‏}‏الانفطار‏:‏ 10‏]‏ وقال قوم‏:‏ تذكر عهد‏.‏ الله وميثاقه‏.‏ وقيل‏:‏ نودي يا يوسف‏!‏ أنت مكتوب في ديوان الأنبياء وتعمل عمل السفهاء‏؟‏‏!‏ وقيل‏:‏ رأى صورة يعقوب على الجدران عاضا على أنملته يتوعده فسكن، وخرجت شهوته من أنامله؛ قال قتادة ومجاهد والحسن والضحاك‏.‏ وأبو صالح وسعيد بن جبير‏.‏ وروى الأعمش عن مجاهد قال‏:‏ حل سراويله فتمثل له يعقوب، وقال له‏:‏ يا يوسف‏!‏ فولى هاربا‏.‏ وروى سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جبير قال‏:‏ مثل له يعقوب فضرب صدره فخرجت شهوته من أنامله، قال مجاهد‏:‏ فولد لكل واحد من أولاد يعقوب اثنا عشر ذكرا إلا يوسف لم يولد له إلا غلامان، ونقص بتلك الشهوة ولده؛ وقيل غير هذا‏.‏ وبالجملة‏:‏ فذلك البرهان آية من آيات الله أراها الله يوسف حتى قوي إيمانه، وامتنع عن المعصية‏.‏

قوله تعالى‏{‏كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء‏}‏ الكاف من ‏}‏كذلك‏}‏ يجوز أن تكون رفعا، بأن يكون خبر ابتداء محذوف، التقدير‏.‏‏:‏ البراهين كذلك، ويكون نعتا لمصدر محذوف؛ أي أريناه البراهين رؤية كذلك‏.‏ والسوء الشهوة، والفحشاء المباشرة‏.‏ وقيل‏:‏ السوء الثناء القبيح، والفحشاء الزنى‏.‏ وقيل‏:‏ السوء خيانة صاحبه، والفحشاء ركوب الفاحشة‏.‏ وقيل‏:‏ السوء عقوبة الملك العزيز‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ‏}‏المخلصين‏}‏ بكسر اللام؛ وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله‏.‏ وقرأ الباقون بفتح اللام، وتأويلها‏:‏ الذين أخلصهم الله لرسالته؛ وقد كان يوسف صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين؛ لأنه كان مخلصا في طاعة الله تعالى، مستخلصا لرسالة الله تعالى‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 25 ‏)‏

‏{‏واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوء إلا أن يسجن أو عذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏واستبقا الباب‏}‏ قال العلماء‏:‏ وهذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني؛ وذلك أنه لما رأى برهان ربه هرب منها فتعاديا، هي لترده إلى نفسها، وهو ليهرب عنها، فأدركته قبل أن يخرج‏.‏ وحذفت الألف من ‏}‏استبقا‏}‏ في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها؛ كما يقال‏:‏ جاءني عبدالله في التثنية؛ ومن العرب من يقول‏:‏ جاءني عبدا الله بإثبات الألف بغير همز، يجمع بين ساكنين؛ لأن الثاني مدغم، والأول حرف مد ولين‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ عبدا الله بإثبات الألف والهمز، كما تقول في الوقف‏.‏

قوله تعالى‏{‏وقدت قميصه من دبر‏}‏ أي من خلفه؛ قبضت في أعلى قميصه فتخرق القميص عند طوقه، ونزل التخريق إلى أسفل القميص‏.‏ والاستباق طلب السبق إلى الشيء؛ ومنه السباق‏.‏ والقد القطع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا؛ قال النابغة‏:‏

تقد السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب

والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضا‏.‏ وقال المفضل بن حرب‏:‏ قرأت في مصحف ‏}‏فلما رأى قميصه عط من دبره‏}‏ أي شق‏.‏ قال يعقوب‏:‏ العط الشق في الجلد الصحيح والثوب الصحيح‏.‏

في الآية دليل على القياس والاعتبار، والعمل بالعرف والعادة؛ لما ذكر من قد القميص مقبلا ومدبرا، وهذا أمر انفرد به المالكية في كتبهم؛ وذلك أن القميص إذا جبذ من خلف تمزق من تلك الجهة، وإذا جبذ من قدام تمزق من تلك الجهة، وهذا هو الأغلب‏.‏

قوله تعالى‏{‏وألفيا سيدها لدى الباب‏}‏ أي وجدا العزيز عند الباب، وعني بالسيد الزوج، والقبط يسمون الزوج سيدا‏.‏ يقال‏:‏ ألفاه وصادفه ووارطه ووالطه ولاطه كله بمعنى واحد؛ فلما رأت زوجها طلبت وجها للحيلة وكادت فـ ‏}‏قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا‏}‏ أي زنى‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلا أن يسجن‏}‏ تقول‏:‏ يضرب ضربا وجيعا‏.‏ و‏}‏ما جزاء‏}‏ ابتداء، وخبره ‏}‏أن يسجن‏}‏‏.‏ ‏}‏أو عذاب أليم‏}‏ عطف على موضع ‏}‏أن يسجن‏}‏ لأن المعنى‏:‏ إلا السجن‏.‏ ويجوز أو عذابا أليما بمعنى‏:‏ أو يعذب عذابا أليما؛ قال الكسائي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 26 ‏:‏ 29 ‏)‏

‏{‏قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم، يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال هي راودتني عن نفسي‏}‏ قال العلماء‏:‏ لما برأت نفسها؛ ولم تكن صادقة في حبه - لأن من شأن المحب إيثار المحبوب - قال‏{‏هي راودتني عن نفسي‏}‏ نطق يوسف بالحق في مقابلة بهتها وكذبها عليه‏.‏ قال نوف الشامي وغيره‏:‏ كأن يوسف عليه السلام لم يبن عن كشف القضية، فلما بغت به غضب فقال الحق‏.‏

قوله تعالى‏{‏وشهد شاهد من أهلها‏}‏ لأنهما لما تعارضا في القول احتاج الملك إلى شاهد ليعلم الصادق من الكاذب، فشهد شاهد من أهلها‏.‏ أي حكم حاكم من أهلها؛ لأنه حكم منه وليس بشهادة‏.‏ وقد اختلف في هذا الشاهد على أقوال أربعة‏:‏ الأول - أنه طفل في المهد تكلم؛ قال السهيلي‏:‏ وهو الصحيح؛ للحديث الوارد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله‏:‏ ‏(‏لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر فيهم شاهد يوسف‏.‏ وقال القشيري أبو نصر‏:‏ قيل فيه‏:‏ كان صبيا في المهد في الدار وهو ابن خالتها؛ وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏تكلم أربعة وهم صغار‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ فذكر منهم شاهد يوسف؛ فهذا قول‏.‏ الثاني - أن الشاهد قد القميص؛ رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وهو مجاز صحيح من جهة اللغة؛ فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال؛ وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات وتخبر عنها بما هي عليه من الصفات، وذلك كثير في أشعارها وكلامها؛ ومن أحلاه قول بعضهم‏:‏ قال الحائط للوتد لم تشقني‏؟‏ قال له‏:‏ سل من يدقني‏.‏ إلا أن قول الله تعالى بعد ‏}‏من أهلها‏}‏ يبطل أن يكون القميص‏.‏ الثالث - أنه خلق من خلق الله تعالى ليس بإنسي ولا بجني؛ قال مجاهد أيضا، وهذا يرده قوله تعالى‏{‏من أهلها‏}‏‏.‏ الرابع - أنه رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره، وكان من جملة أهل المرأة وكان مع زوجها فقال‏:‏ قد سمعت الاستبدار والجلبة من وراء الباب، وشق القميص، فلا يدري أيكما كان قدام صاحبه؛ فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة، وإن كان من خلفه فهو صادق، فنظروا إلى القميص فإذا هو مشقوق من خلف؛ هذا قول الحسن وعكرمة وقتادة والضحاك ومجاهد أيضا والسدي‏.‏ قال السدي‏:‏ كان ابن عمها؛ وروي عن ابن عباس، وهو الصحيح في الباب، والله أعلم‏.‏ وروي عن ابن عباس - رواه عنه إسرائيل عن سماك عن عكرمة - قال‏:‏ كان رجلا ذا لحية‏.‏ وقال سفيان عن جابر عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كان من خاصة الملك‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ لم يكن بصبي، ولكن كان رجلا حكيما‏.‏ وروى سفيان عن منصور عن مجاهد قال‏:‏ كان رجلا‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ والأشبه بالمعنى - والله أعلم - أن يكون رجلا عاقلا حكيما شاوره الملك فجاء بهذه الدلالة؛ ولو كان طفلا لكانت شهادته ليوسف صلى الله عليه وسلم تغني عن أن يأتي بدليل من العادة؛ لأن كلام الطفل آية معجزة، فكادت أوضح من الاستدلال بالعادة؛ وليس هذا بمخالف للحديث ‏(‏تكلم أربعة وهم صغار‏)‏ منهم صاحب يوسف، يكون المعنى‏:‏ صغيرا ليس بشيخ؛ وفي هذا دليل آخر وهو‏:‏ أن ابن عباس رضي الله عنهما روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تواترت الرواية عنه أن صاحب يوسف ليس بصبي‏.‏

قلت‏:‏ قد روي عن ابن عباس وأبي هريرة وابن جبير وهلال بن يساف والضحاك أنه كان صبيا في المهد؛ إلا أنه لو كان صبيا تكلم لكان الدليل نفس كلامه، دون أن يحتاج إلى استدلال بالقميص، وكان يكون ذلك خرق عادة، ونوع معجزة؛ والله أعلم‏.‏ وسيأتي من تكلم في المهد من الصبيان في سورة ‏[‏البروج‏]‏ إن شاء الله‏.‏

إذا تنزلنا على أن يكون الشاهد طفلا صغيرا فلا يكون فيه دلالة على العمل بالإمارات كما ذكرنا؛ وإذا كان رجلا فيصح أن يكون حجة بالحكم بالعلامة في اللقطة وكثير من المواضع؛ حتى قال مالك في اللصوص‏:‏ إذا وجدت معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها، وليست لهم بينة فإن السلطان يتلوم لهم في ذلك؛ فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم‏.‏ وقال محمد في متاع البيت إذا اختلفت فيه المرأة والرجل‏:‏ إن ما كان للرجال فهو للرجل، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل‏.‏ وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان على العلامات في الحكومات؛ وأصل ذلك هذه الآية، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن كان قميصه قد من قبل‏}‏ كان في موضع جزم بالشرط، وفيه من النحو ما يشكل، لأن حروف الشرط ترد الماضي إلى المستقبل، وليس هذا في كان؛ فقال المبرد محمد بن يزيد‏:‏ هذا لقوة كان، وأنه يعبر بها عن جميع الأفعال‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى إن يكن؛ أي إن يعلم، والعلم لم يقع، وكذا الكون لأنه يؤدي عن العلم‏.‏ ‏}‏قد من قبل‏}‏ فخبر عن ‏}‏كان‏}‏ بالفعل الماضي؛ كما قال زهير‏:‏

وكان طوى كشحا على مستكنة فلا هو أبداها ولم يتقدم

وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق ‏}‏من قبل‏}‏ بضم القاف والباء واللام، وكذا ‏}‏دبر‏}‏ قال الزجاج‏:‏ يجعلهما غايتين كقبل وبعد؛ كأنه قال‏:‏ من قبله ومن دبره، فلما حذف المضاف إليه - وهو مراد - صار المضاف غاية نفسه بعد أن كان المضاف إليه غاية له‏.‏ ويجوز ‏}‏من قبل‏}‏ ‏}‏ومن دبر‏}‏ بفتح الراء واللام تشبيها بما لا ينصرف؛ لأنه معرفة ومزال عن بابه‏.‏ وروى محبوب عن أبي عمرو ‏}‏من قبل‏}‏ ‏}‏ومن دبر‏}‏ مخففان مجروران‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن‏}‏ قيل‏:‏ قال لها ذلك العزيز عند قولها‏{‏ما جزاء من أراد بأهلك سوءا‏}‏يوسف‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ قاله لها الشاهد‏.‏ والكيد‏:‏ المكر والحيلة، وقد تقدم في ‏(‏الأنفال‏)‏‏.‏ ‏}‏إن كيدكن عظيم‏}‏ وإنما قال ‏}‏عظيم‏}‏ لعظم فتنتهن واحتيالهن في التخلص من ورطتهن‏.‏ وقال مقاتل عن يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لأن الله تعالى يقول‏{‏إن كيد الشيطان كان ضعيفا‏}‏النساء‏:‏ 76‏]‏ وقال‏{‏إن كيدكن عظيم‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏يوسف أعرض عن هذا‏}‏ القائل هذا هو الشاهد‏.‏ و‏}‏يوسف‏}‏ نداء مفرد، أي يا يوسف، فحذف‏.‏ ‏}‏أعرض عن هذا‏}‏ أي لا تذكره لأحد واكتمه‏.‏ ‏}‏واستغفري لذنبك‏}‏ أقبل عليها فقال‏:‏ وأنت استغفري زوجك من ذنبك لا يعاقبك‏.‏ ‏}‏إنك كنت من الخاطئين‏}‏ ولم يقل من الخاطئات لأنه قصد الإخبار عن المذكر والمؤنث، فغلب المذكر؛ والمعنى‏:‏ من الناس الخاطئين، أو من القوم الخاطئين؛ مثل‏{‏إنها كانت من قوم كافرين‏}‏النمل‏:‏ 43‏]‏ ‏}‏وكانت من القانتين‏}‏التحريم‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن القائل ليوسف أعرض ولها استغفري زوجها الملك؛ وفيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه لم يكن غيورا؛ فلذلك، كان ساكنا‏.‏ وعدم الغيرة في كثير من أهل مصر موجود‏.‏ الثاني‏:‏ أن الله تعالى سلبه الغيرة وكان فيه لطف بيوسف حتى كفي بادرته وعفا عنها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 30 ‏:‏ 31 ‏)‏

‏{‏وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين، فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال نسوة في المدينة‏}‏ ويقال‏{‏نُسوة‏}‏ بضم النون، وهي قراءة الأعمش والمفضل والسلمي، والجمع الكثير نساء‏.‏ ويجوز‏:‏ وقالت نسوة، وقال نسوة، مثل قالت الأعراب وقال الأعراب؛ وذلك أن القصة انتشرت في أهل مصر فتحدث النساء‏.‏ قيل‏:‏ امرأة ساقي العزيز، وامرأة خبازه، وامرأة صاحب دوابه، وامرأة صاحب سجنه‏.‏ وقيل‏:‏ امرأة الحاجب؛ عن ابن عباس وغيره‏.‏ ‏}‏تراود فتاها عن نفسه‏}‏ الفتى في كلام العرب الشاب، والمرأة فتاة‏.‏ ‏}‏قد شغفها حبا‏}‏ قيل‏:‏ شغفها غلبها‏.‏ وقيل‏:‏ دخل حبه في شغافها؛ عن مجاهد‏.‏ وغيره‏.‏ وروى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ دخل تحت شغافها‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الشغف باطن القلب‏.‏ السدي وأبو عبيد‏:‏ شغاف القلب غلافه، وهو جلد عليه‏.‏ وقيل‏:‏ هو وسط القلب؛ والمعنى في هذه الأقوال متقارب، والمعنى‏:‏ وصل حبه إلى شغافها فغلب عليه؛ قال النابغة‏:‏

وقد حال هم دون ذلك داخل دخول الشغاف تبتغيه الأصابع

وقد قيل‏:‏ إن الشغاف داء؛ وأنشد الأصمعي للراجز‏:‏

يتبعها وهي له شغاف

وقرأ أبو جعفر بن محمد وابن محيصن والحسن ‏}‏شعفها‏}‏ بالعين غير معجمة؛ قال ابن الأعرابي‏:‏ معناه أحرق حبه قلبها؛ قال‏:‏ وعلى الأول العمل‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وشعفه الحب أحرق قلبه‏.‏ وقال أبو زيد‏:‏ أمرضه‏.‏ وقد شعف بكذا فهو مشعوف‏.‏ وقرأ الحسن ‏}‏قد شعفها‏}‏ قال‏:‏ بطنها حبا‏.‏ قال النحاس‏:‏ معناه عند أكثر أهل اللغة قد ذهب بها كل مذهب؛ لأن شعاف الجبال‏.‏ أعاليها؛ وقد شغف بذلك شغفا بإسكان الغين إذا أولع به؛ إلا أن أبا عبيدة أنشد بيت امرئ القيس‏:‏

لتقتلني وقد شعفت فؤادها كما شعف المهنوءة الرجل الطالي

قال‏:‏ فشبهت لوعة الحب وجواه بذلك‏.‏ وروي عن الشعبي أنه قال‏:‏ الشغف بالغين المعجمة حب، والشعف بالعين غير المعجمة جنون‏.‏ قال النحاس‏:‏ وحكي ‏}‏قد شغِفها‏}‏ بكسر الغين، ولا يعرف في كلام العرب إلا ‏}‏شغفها‏}‏ بفتح الغين، وكذا ‏}‏شعفها‏}‏ أي تركها مشعوفة‏.‏ وقال سعيد بن أبي عروبة عن الحسن‏:‏ الشغاف حجاب القلب، والشعاف سويداء القلب، فلو وصل الحب إلى الشعاف لماتت؛ وقال الحسن‏:‏ ويقال إن الشغاف الجلدة اللاصقة بالقلب التي لا ترى، وهي الجلدة البيضاء، فلصق حبه بقلبها كلصوق الجلدة بالقلب‏.‏

قوله تعالى‏{‏إنا لنراها في ضلال مبين‏}‏ أي في هذا الفعل‏.‏ وقال قتادة‏{‏فتاها‏}‏ وهو فتى زوجها، لأن يوسف كان عندهم في حكم المماليك، وكان ينفذ أمرها فيه‏.‏ وقال مقاتل عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال‏:‏ إن امرأة العزيز استوهبت زوجها يوسف فوهبه لها، وقال‏:‏ ما تصنعين به‏؟‏ قالت‏:‏ أتخذه ولدا؛ قال‏:‏ هو لك؛ فربته حتى أيفع وفي نفسها منه ما في نفسها، فكانت تنكشف له وتتزين وتدعوه من وجه اللطف فعصمه الله‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلما سمعت بمكرهن‏}‏ أي بغيبتهن إياها، واحتيالهن في ذمها‏.‏ وقيل‏:‏ إنها أطلعتهن واستأمنتهن فأفشين سرها، فسمي ذلك مكرا‏.‏ وقوله‏{‏أرسلت إليهن‏}‏ في الكلام حذف؛ أي أرسلت إليهن تدعوهن إلى وليمة لتوقعهن فيما وقعت فيه؛ فقال مجاهد عن ابن عباس‏:‏ إن امرأة العزيز قالت لزوجها إني أريد أن أتخذ طعاما فأدعو هؤلاء النسوة؛ فقال لها‏:‏ افعلي؛ فاتخذت طعاما، ثم نجدت لهن البيوت؛ نجدت أي زينت؛ والنجد ما ينجد به البيت من المتاع أي يزين، والجمع نجود عن أبي عبيد؛ والتنجيد التزيين؛ وأرسلت إليهن أن يحضرن طعامها، ولا تتخلف منكن امرأة ممن سميت‏.‏ قال وهب بن منبه‏:‏ إنهن كن أربعين امرأة فجئن على كره منهن، وقد قال فيهن أمية بن أبي الصلت‏:‏

حتى إذا جئنها قسرا ومهدت لهن أنضادا وكبابا

ويروى‏:‏ أنماطا‏.‏ قال وهب بن منبه‏:‏ فجئن وأخذن مجالسهن‏.‏ ‏}‏وأعتدت لهن متكأ‏}‏ أي هيأت لهن مجالس يتكئن عليها‏.‏ قال ابن جبير‏:‏ في كل مجلس جام فيه عسل وأترج وسكين حاد‏.‏ وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير ‏}‏متكا‏}‏ مخففا غير مهموز، والمتك هو الأترج بلغة القبط، وكذلك فسره مجاهد روى سفيان عن منصور عن مجاهد قال‏:‏ المتكأ مثقلا هو الطعام، والمتك مخففا هو الأترج؛ وقال الشاعر‏:‏

نشرب الإثم بالصواع جهارا وترى المتك بيننا مستعارا

وقد تقول أزد شنوءة‏:‏ الأترجة المتكة؛ قال الجوهري‏:‏ المُتْكَ ما تبقيه الخاتنة‏.‏ وأصل المتك الزماورد‏.‏ والمتكاء من النساء التي لم تحفض‏.‏ قال الفراء‏:‏ حدثني شيخ من ثقات أهل البصرة أن المتك مخففا الزماورد‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إنه الأترج؛ حكاه الأخفش‏.‏ ابن زيد‏:‏ أترجا وعسلا يؤكل به؛ قال الشاعر‏:‏

فظلنا بنعمة واتكأنا وشربنا الحلال من قلله

أي أكلنا‏.‏

النحاس‏:‏ قوله تعالى‏{‏واعتدت‏}‏ من العتاد؛ وهو كل ما جعلته عدة لشيء‏.‏ ‏}‏متكأ‏}‏ أصح ما قيل فيه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ مجلسا، وأما قول جماعة من أهل، التفسير إنه الطعام فيجوز على تقدير‏:‏ طعام متكأ، مثل‏{‏واسأل القرية‏}‏؛ ودل على هذا الحذف ‏}‏وآتت كل واحدة منهن سكينا‏}‏ لأن حضور النساء معهن سكاكين إنما هو لطعام يقطع بالسكاكين؛ كذا قال في كتاب ‏}‏إعراب القرآن‏}‏ له‏.‏ وقال في كتاب ‏}‏معاني القرآن‏}‏ له‏:‏ وروى معمر عن قتادة قال‏{‏المتكأ‏}‏ الطعام‏.‏ وقيل‏{‏المتكأ‏}‏ كل ما أتكئ عليه عند طعام أو شراب أو حديث؛ وهذا هو المعروف عند أهل اللغة، إلا أن الروايات قد صحت بذلك‏.‏ وحكى القتبي أنه يقال‏:‏ اتكأنا عند فلان أي أكلنا، والأصل في ‏}‏متكأ‏}‏ موتكأ، ومثله متزن ومتعد؛ لأنه من وزنت، ووعدت ووكأت، ويقال‏:‏ اتكأ يتكئ اتكاء‏.‏ ‏}‏كل واحدة منهن سكينا‏}‏ مفعولان؛ وحكى الكسائي والفراء أن السكين يذكر ويؤنث، وأنشد الفراء‏:‏

فعيث في السنام غداة قر بسكين موثقة النصاب

الجوهري‏:‏ والغالب عليه التذكير، وقال‏:‏

يرى ناصحا فيما بدا فإذا خلا فذلك سكين على الحلق حاذق

الأصمعي‏:‏ لا يعرف في السكين إلا التذكير‏.‏

قوله تعالى‏{‏وقالت اخرج عليهن‏}‏ بضم التاء لالتقاء الساكنين؛ لأن الكسرة تثقل إذا كان بعدها ضمة، وكسرت التاء على الأصل‏.‏ قيل‏:‏ إنها قالت لهن‏:‏ لا تقطعن ولا تأكلن حتى أعلمكن، ثم قالت لخادمها‏:‏ إذا قلت لك ادع إيلا فادع يوسف؛ وإيل‏:‏ صنم كانوا يعبدونه، وكان يوسف عليه السلام يعمل في الطين، وقد شد مئزره، وحسر عن ذراعيه؛ فقالت للخادم‏:‏ ادع لي إيلا؛ أي ادع لي الرب؛ وإيل بالعبرانية الرب؛ قال‏:‏ فتعجب النسوة وقلن‏:‏ كيف يجيء‏؟‏‏!‏ فصعدت الخادم فدعت يوسف، فلما انحدر قالت لهن‏:‏ اقطعن ما معكن‏.‏ ‏}‏فلما رأينه أكبرنه‏}‏ واختلف في معنى ‏}‏أكبرنه‏}‏ فروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس‏:‏ أعظمنه وهبنه؛ وعنه أيضا أمنين وأمذين من الدهش؛ وقال الشاعر‏:‏

إذا ما رأين الفحل من فوق قارة صهلن وأكبرن المني المدفقا

وقال ابن سمعان عن عدة من أصحابه‏:‏ إنهم قالوا أمذين عشقا؛ وهب بن منبه‏:‏ عشقنه حتى مات منهن عشر في ذلك المجلس دهشا وحيرة ووجدا بيوسف‏.‏ وقيل‏:‏ معناه حضن من الدهش؛ قاله قتادة ومقاتل والسدي؛ قال الشاعر‏:‏

نأتي النساء على أطهارهن ولا نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا

وأنكر ذلك أبو عبيدة وغيره وقالوا‏:‏ ليس ذلك في كلام العرب، ولكنه يجوز أن يكن حضن من شدة إعظامهن له، وقد تقزع المرأة فتسقط ولدها أو تحيض‏.‏ قال الزجاج يقال أكبرنه، ولا يقال حضنه، فليس الإكبار بمعنى الحيض؛ وأجاب الأزهري فقال‏:‏ يجوز أكبرت بمعنى حاضت؛ لأن المرأة إذا حاضت في الابتداء خرجت من حيز الصغر إلى الكبر؛ قال‏:‏ والهاء في ‏}‏أكبرنه‏}‏ يجوز أن تكون هاء الوقف لا هاء الكناية، وهذا مزيف، لأن هاء الوقف تسقط في الوصل، وأمثل منه قول ابن الأنباري‏:‏ إن الهاء كناية عن مصدر الفعل، أي أكبرن إكبارا، بمعنى حضن حيضا‏.‏ وعلى قول ابن عباس الأول تعود الهاء إلى يوسف؛ أي أعظمن يوسف وأجللنه‏.‏

قوله تعالى‏{‏وقطعن أيديهن‏}‏ بالمدى حتى بلغت السكاكين إلى العظم؛ قاله وهب بن منبه‏.‏ سعيد بن جبير‏:‏ لم يخرج عليهن حتى زينته، فخرج عليهن فجأة فدهشن فيه، وتحيرن لحسن وجهه وزينته وما عليه، فجعلن يقطعن أيديهن، ويحسبن أنهن يقطعن الأترج؛ قال مجاهد‏:‏ قطعنها حتى ألقينها‏.‏ وقيل‏:‏ خدشنها‏.‏ وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ حزا بالسكين، قال النحاس‏:‏ يريد مجاهد أنه ليس قطعا تبين منه اليد، إنما هو خدش وحز، وذلك معروف في اللغة أن يقال إذا خدش الإنسان يد صاحبه قطع يده‏.‏ وقال عكرمة‏{‏أيديهن‏}‏ أكمامهن، وفيه بعد‏.‏ وقيل‏:‏ أناملهن؛ أي ما وجدن ألما في القطع والجرح، أي لشغل قلوبهن بيوسف، والتقطيع يشير إلى الكثرة، فيمكن أن ترجع الكثرة إلى واحدة جرحت يدها في موضع، ويمكن أن يرجع إلى عددهن‏.‏

قوله تعالى‏{‏وقلن حاش لله‏}‏ أي معاذ الله‏.‏ وروى الأصمعي عن نافع أنه قرأ كما قرأ أبو عمرو بن العلاء‏.‏ ‏}‏وقلن حاشا لله‏}‏ بإثبات الألف وهو الأصل، ومن حذفها جعل اللام في ‏}‏لله‏}‏ عوضا منها‏.‏ وفيها أربع لغات؛ يقال‏:‏ حاشاك وحاشا لك وحاش لك وحشا لك‏.‏ ويقال‏:‏ حاشا زيد وحاشا زيدا؛ قال النحاس‏:‏ وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول‏:‏ النصب أولى؛ لأنه قد صح أنها فعل لقولهم حاش لزيد، والحرف لا يحذف منه؛ وقد قال، النابغة‏:‏

ولا أحاشي من الأقوام من أحد

وقال بعضهم‏:‏ حاش حرف، وأحاشي فعل‏.‏ ويدل على كون حاشا فعلا وقوع حرف الجر بعدها‏.‏ وحكى أبو زيد عن أعرابي‏:‏ اللهم اغفر لي ولمن يسمع، حاشا الشيطان وأبا الأصبغ؛ فنصب بها‏.‏ وقرأ الحسن ‏}‏وقلن حاش لله‏}‏ بإمكان الشين، وعنه أيضا ‏}‏حاش الإله‏}‏‏.‏ ابن مسعود وأبي‏{‏حاش الله‏}‏ بغير لام، ومنه قول الشاعر‏:‏

حاشا أبي ثوبان إن به ضنا عن الملحاة والشتم

قال الزجاج‏:‏ وأصل الكلمة من الحاشية، والحشا بمعنى الناحية، تقول‏:‏ كنت في حشا فلان أي في ناحيته؛ فقولك‏:‏ حاشا لزيد أي تنحى زيد من هذا وتباعد عنه، والاستثناء إخراج وتنحية عن جملة المذكورين‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ هو فاعل من المحاشاة؛ أي حاشا يوسف وصار في حاشية وناحية مما قرف به، أو من أن يكون بشرا؛ فحاشا وحاش في الاستثناء حرف جر عند سيبويه، وعلى ما قال المبرد وأبو علي فعل‏.‏

قوله تعالى‏{‏ما هذا بشرا‏}‏ قال الخليل وسيبويه‏{‏ما‏}‏ بمنزلة ليس؛ تقول‏:‏ ليس زيد قائما، و‏}‏ما هذا بشرا‏}‏ و‏}‏ما هن أمهاتهم‏}‏المجادلة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ لما حذفت الباء نصبت؛ وشرج هذا - فيما قال أحمد بن يحيى، - إنك إذا قلت‏:‏ ما زيد بمنطلق، فموضع الباء موضع نصب، وهكذا سائر حروف الخفض؛ فلما حذفت الباء نصبت لتدل على محلها، قال‏:‏ وهذا قول الفراء، قال‏:‏ ولم تعمل ‏}‏ما‏}‏ شيئا؛ فألزمهم البصريون أن يقولوا‏:‏ زيد القمر؛ لأن المعنى كالقمر‏!‏ فرد أحمد بن يحيى بأن قال‏:‏ الباء أدخل في حروف الخفض من الكاف؛ لأن الكاف تكون اسما‏.‏ قال النحاس‏:‏ لا يصح إلا قول البصريين؛ وهذا القول يتناقض؛ لأن الفراء أجاز نصا ما بمنطلق زيد، وأنشد‏:‏

أما والله أن لو كنت حرا وما بالحر أنت ولا العتيق

ومنع نصا النصب؛ ولا نعلم بين النحويين اختلافا أنه جائز‏:‏ ما فيك براغب زيد، وما إليك بقاصد عمرو، ثم يحذفون الباء ويرفعون‏.‏ وحكى البصريون والكوفيون ما زيد منطلق بالرفع، وحكى البصريون أنها لغة تميم، وأنشدوا‏:‏

أتيما تجعلون إلي ندا وما تيم لذي حسب نديد

الند والنديد والنديدة المثل والنظير‏.‏ وحكى الكسائي أنها لغة تهامة ونجد‏.‏ وزعم الفراء أن الرفع أقوى الوجهين‏:‏ قال أبو إسحاق‏:‏ وهذا غلط؛ كتاب الله عز وجل ولغة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى وأولى‏.‏

قلت‏:‏ وفي مصحف حفصة رضي الله عنها ‏}‏ما هذا ببشر‏}‏ ذكره الغزنوي‏.‏ قال القشيري أبو نصر‏:‏ وذكرت النسوة أن صورة يوسف أحسن، من صورة البشر، بل هو في صورة ملك؛ وقال الله تعالى‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم‏}‏التين‏:‏ 4‏]‏ والجمع بين الآيتين أن قولهن‏{‏حاش لله‏}‏ تبرئة ليوسف عما رمته به امرأة العزيز‏.‏ من المراودة، أي بعد يوسف عن هذا؛ وقولهن‏{‏لله‏}‏ أي لخوفه، أي براءة لله من هذا؛ أي قد نجا يوسف من ذلك، فليس هذا من الصورة في شيء؛ والمعنى‏:‏ أنه في التبرئة عن المعاصي كالملائكة؛ فعلى هذا لا تناقض‏.‏ وقيل‏:‏ المراد تنزيهه عن مشابهة البشر في الصورة، لفرط جماله‏.‏ وقوله‏{‏لله‏}‏ تأكيد لهذا المعنى؛ فعلى هذا المعنى قالت النسوة ذلك ظنا منهن أن صورة الملك أحسن، وما بلغهن قوله تعالى‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم‏}‏التين‏:‏ 4‏]‏ فإنه من كتابنا‏.‏ وقد ظن بعض، الضعفة أن هذا القول لو كان ظنا باطلا منهن لوجب على الله أن يرد عليهن، ويبين كذبهن، وهذا باطل؛ إذ لا وجوب على الله تعالى، وليس كل ما يخبر به الله سبحانه من كفر الكافرين وكذب الكاذبين يجب عليه أن يقرن به الرد عليه، وأيضا أهل العرف قد يقولون في القبيح كأنه شيطان، وفي الحسن كأنه ملك؛ أي لم ير مثله، لأن الناس لا يرون الملائكة؛ فهو بناء على ظن في أن صورة الملك أحسن، أو على الإخبار بطهارة أخلاقه وبعده عن التهم‏.‏‏.‏ ‏}‏إن هذا إلا ملك‏}‏ أي ما هذا إلا ملك؛ وقال الشاعر‏:‏

فلست لإني ولكن لملاك تنزل من جو السماء يصوب

وروي عن الحسن‏{‏ما هذا بشرى‏}‏ بكسر الباء والشين، أي ما هذا عبدا مشترى، أي ما ينبغي لمثل هذا أن يباع، فوضع المصدر موضع اسم المفعول، كما قال‏{‏أحل لكم صيد البحر‏}‏المائدة‏:‏ 96‏]‏ أي مصيده، وشبهه كثير‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ ما هذا بثمن، أي مثله لا يثمن ولا يقوم؛ فيراد بالشراء على هذا الثمن المشترى به‏:‏ كقولك‏:‏ ما هذا بألف إذا نفيت قول القائل‏:‏ هذا بألف‏.‏ فالباء على هذا متعلقة بمحذوف هو الخبر، كأنه قال‏:‏ ما هذا مقدرا بشراء‏.‏ وقراءة العامة أشبه؛ لأن بعده ‏}‏إن هذا إلا ملك كريم‏}‏ مبالغة في تفضيله في جنس الملائكة تعظيما لشأنه، ولأن مثل ‏}‏بشرى‏}‏ يكتب في المصحف بالياء‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 32 ‏)‏

‏{‏قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالت فذلكن الذي لمتنني فيه‏}‏ لما رأت افتتانهن بيوسف أظهرت عذر نفسها بقولها‏{‏لمتنني فيه‏}‏ أي بحبه، و‏}‏ذلك‏}‏ بمعنى ‏}‏هذا‏}‏ وهو اختيار الطبري‏.‏ وقيل‏:‏ الهاء للحب، و‏}‏ذلك‏}‏ عل بابه، والمعنى‏:‏ ذلكن الحب الذي لمتنني فيه، أي حب هذا هو ذلك الحب‏.‏ واللوم الوصف بالقبيح‏.‏ ثم أقرت وقالت‏{‏ولقد راودته عن نفسه فاستعصم‏}‏ أي امتنع‏.‏ وسميت العصمة عصمة لأنها تمنع من ارتكاب المعصية‏.‏ وقيل‏{‏استعصم‏}‏ أي استعصى، والمعنى واحد‏.‏ ‏}‏ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن‏}‏ عاودته المراودة بمحضر منهن، وهتكت جلباب الحياء، ووعدت بالسجن إن لم يفعل، وإنما فعلت هذا حين لم تخش لوما ولا مقالا خلاف أول أمرها إذ كان ذلك بينه وبينها‏.‏ ‏}‏وليكون من الصاغرين‏}‏ أي الأذلاء‏.‏ وخط المصحف ‏}‏وليكونا‏}‏ بالألف وتقرأ بنون مخففة للتأكيد؛ ونون التأكيد تثقل وتخفف والوقف على قوله‏{‏ليسجنن‏}‏ بالنون لأنها مثقلة، وعلى ‏}‏ليكونا‏}‏ بالألف لأنها مخففة، وهي تشبه نون الإعراب في قولك‏:‏ رأيت رجلا وزيدا وعمرا، ومثله قوله‏{‏لنسفعا بالناصية‏}‏ ونحوها الوقف عليها بالألف، كقول الأعشى‏:‏

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

أي أراد فاعبدا، فلما وقف عليه كان الوقف بالألف‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 33 ‏:‏ 34 ‏)‏

‏{‏قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه‏}‏ أي دخول السجن، فحذف المضاف؛ قاله الزجاج والنحاس‏.‏ ‏}‏أحب إلي‏}‏ أي أسهل علي وأهون من الوقوع في المعصية؛ لا أن دخول السجن مما يحب على التحقيق‏.‏ وحكي أن يوسف عليه السلام لما قال‏{‏السجن أحب إلي‏}‏ أوحى الله إليه ‏}‏يا يوسف‏!‏ أنت حبست نفسك حيث قلت السجن أحب إلي، ولو قلت العافية أحب إلي لعوفيت‏}‏‏.‏ وحكى أبو حاتم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ‏{‏السَّجن‏}‏ بفتح السين وحكى أن ذلك قراءة ابن أبي إسحاق وعبدالرحمن الأعرج ويعقوب؛ وهو مصدر سجنه سجنا‏.‏ ‏}‏وإلا تصرف عني كيدهن‏}‏ أي كيد النسوان‏.‏ وقيل‏:‏ كيد النسوة اللاتي رأينه‏؟‏ فإنهن أمرنه بمطاوعة امرأة العزيز، وقلن له‏:‏ هي مظلومة وقد ظلمتها‏.‏ وقيل‏:‏ طلبت كل واحدة أن تخلو به للنصيحة في امرأة العزيز؛ والقصد بذلك أن تعذله في حقها، وتأمره بمساعدتها، فلعله يجيب؛ فصارت كل واحدة تخلو به على حدة فتقول له‏:‏ يا يوسف‏!‏ اقض لي حاجتي فأنا خير لك من سيدتك؛ تدعوه كل واحدة لنفسها وتراوده؛ فقال‏:‏ يا رب كانت واحدة فصرن جماعة‏.‏ وقيل‏:‏ كيد امرأة العزيز فيما دعته إليه من الفاحشة؛ وكنى عنها بخطاب الجمع إما لتعظيم شأنها في الخطاب، وإما ليعدل عن التصريح إلى التعريض‏.‏ والكيد الاحتيال والاجتهاد؛ ولهذا سميت الحرب كيدا لاحتيال الناس فيها؛ قال عمر بن لجأ‏:‏

تراءت كي تكيدك أم بشر وكيد بالتبرج ما تكيد

قوله تعالى‏{‏أصب إليهن‏}‏ جواب الشرط، أي أمل إليهن، من صبا يصبو - إذا مال واشتاق - صبوا وصبوة؛ قال‏:‏

إلى هند صبا قلبي وهند مثلها يصبي

أي إن لم تلطف بي في اجتناب المعصية وقعت فيها‏.‏ ‏}‏وأكن من الجاهلين‏}‏ أي ممن يرتكب الإثم ويستحق الذم، أو ممن يعمل عمل الجهال؛ ودل هذا على أن أحدا لا يمتنع عن معصية الله إلا بعون الله؛ ودل أيضا على قبح الجهل والذم لصاحبه‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاستجاب له ربه‏}‏ لما قال‏.‏ ‏}‏وإلا تصرف عن كيدهن‏}‏ تعرض للدعاء، وكأنه قال‏:‏ اللهم اصرف عني كيدهن؛ فاستجاب له دعاءه، ولطف به وعصمه عن الوقوع في الزنى‏.‏ ‏}‏كيدهن‏}‏ قيل‏:‏ لأنهن جمع قد راودنه عن نفسه‏.‏ وقيل‏:‏ يعني كيد النساء‏.‏ وقيل‏:‏ يعني كيد امرأة العزيز، على ما ذكر في الآية قبل؛ والعموم أولى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 35 ‏)‏

‏{‏ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم بدا لهم‏}‏ أي ظهر للعزيز وأهل مشورته ‏}‏من بعد أن رأوا الآيات‏}‏ أي علامات براءة يوسف - من قد القميص من دبر؛ وشهادة الشاهد، وحز الأيدي، وقلة صبرهن عن لقاء يوسف‏:‏ أن يسجنوه كتمانا للقصة ألا تشيع في العامة، وللحيلولة بينه وبينها‏.‏ وقيل‏:‏ هي البركات التي كانت تنفتح عليهم ما دام يوسف فيهم؛ والأول أصح‏.‏ قال مقاتل عن مجاهد عن ابن عباس في قوله‏{‏ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات‏}‏ قال‏:‏ القميص من الآيات، وشهادة الشاهد من الآيات، وقطع الأيدي من الآيات، وإعظام النساء إياه من الآيات‏.‏ وقيل‏:‏ ألجأها الخجل من الناس، والوجل من اليأس إلى أن رضيت بالحجاب مكان خوف الذهاب، لتشتفي إذا منعت من نظره، قال‏:‏

وما صبابة مشتاق على أمل من اللقاء كمشتاق بلا أمل

أو كادته رجاء أن يمل حبسه فيبذل نفسه‏.‏

قوله تعالى‏{‏ليَسْجُنُنه‏}‏ ‏}‏يُسْجُنُنه‏}‏ في موضع الفاعل؛ أي ظهر لهم أن يسجنوه؛ هذا قول سيبويه‏.‏ قال المبرد‏:‏ وهذا غلط؛ لا يكون الفاعل جملة، ولكن الفاعل ما دل عليه ‏}‏بدا‏}‏ وهو مصدر؛ أي بدا لهم بداء؛ فحذف لأن الفعل يدل عليه؛ كما قال الشاعر‏:‏

وحق لمن أبو موسى أبوه يوقفه الذي نصب الجبالا

أي وحق الحق، فحذف‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ثم بدا لهم رأي لم يكونوا يعرفونه؛ وحذف هذا لأن في الكلام دليلا عليه، وحذف أيضا القول؛ أي قالوا‏:‏ ليسجننه، واللام جواب ليمين مضمر؛ قاله الفراء، وهو فعل مذكر لا فعل مؤنث؛ ولو كان فعلا مؤنثا لكان يسجنانه؛ ويدل على هذا قوله ‏}‏لهم‏}‏ ولم يقل لهن، فكأنه أخبر عن النسوة وأعوانهن فغلب المذكر؛ قاله أبو علي‏.‏ وقال السدي‏:‏ كان سبب حبس يوسف أن امرأة العزيز شكت إليه أنه شهرها ونشر خبرها؛ فالضمير على هذا في ‏}‏لهم‏}‏ للملك‏.‏

قوله تعالى‏{‏حتى حين‏}‏ أي إلى مدة غير معلومة؛ قاله كثير من المفسرين‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إلى انقطاع ما شاع في المدينة‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ إلى ستة أشهر‏.‏ وحكى الكيا أنه عنى ثلاثة عشر شهرا‏.‏ عكرمة‏:‏ تسع سنين‏.‏ الكلبي‏:‏ خمس سنين‏.‏ مقاتل‏:‏ سبع‏.‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ القول في الحين وما يرتبط به من الأحكام‏.‏ وقال وهب‏:‏ أقام في السجن اثنتي عشرة سنة‏.‏ و‏}‏حتى‏}‏ بمعنى إلى؛ كقوله‏{‏حتى مطلع الفجر‏}‏القدر‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وجحل الله الحبس تطهيرا ليوسف صلى الله عليه وسلم من همه بالمرأة‏.‏ وكأن العزيز - وإن عرف براءة يوسف - أطاع المرأة في سجن يوسف‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ عثر يوسف ثلاث عثرات‏:‏ حين هم بها فسجن، وحين قال للفتى‏{‏اذكرني عند ربك‏}‏يوسف‏:‏ 42‏]‏ فلبث في السجن بضع سنين، وحين قال لإخوته‏{‏إنكم لسارقون‏}‏يوسف‏:‏ 70‏]‏ فقالوا‏{‏إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل‏}‏‏.‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 77‏]‏‏.‏

أكره يوسف عليه السلام على الفاحشة بالسجن، وأقام خمسة أعوام، وما رضي بذلك لعظيم منزلته وشريف قدره؛ ولو أكره رجل بالسجن على الزنى ما جاز له إجماعا‏.‏ فإن أكره بالضرب فقد اختلف فيه العلماء، والصحيح أنه إذا كان فادحا فإنه يسقط عنه إثم الزنى وحده‏.‏ وقد قال بعض علمائنا‏:‏ إنه لا يسقط عنه الحد، وهو ضعيف؛ فإن الله تعالى لا يجمع على عبده العذابين، ولا يصرفه بين بلاءين؛ فإنه من أعظم الحرج في الدين‏.‏ ‏}‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏‏.‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏‏.‏ وسيأتي بيان هذا في ‏}‏النحل‏}‏ إن شاء الله‏.‏ وصبر يوسف، واستعاذ به من الكيد، فاستجاب له على ما تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 36 ‏)‏

‏{‏ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ودخل معه السجن فتيان‏}‏ ‏}‏فتيان‏}‏ تثنية فتى؛ وهو من ذوات الياء، وقولهم‏:‏ الفتو شاذ‏.‏ قال وهب وغيره‏:‏ حمل يوسف إلى السجن مقيدا على حمار، وطيف به ‏}‏هذا جزاء من يعصي سيدته‏}‏ وهو يقول‏:‏ هذا أيسر من مقطعات النيران، وسرابيل القطران، وشراب الحميم، وأكل الزقوم‏.‏ فلما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم، واشتد بلاؤهم؛ فجعل يقول لهم‏:‏ اصبروا وابشروا تؤجروا؛ فقالوا له‏:‏ يا فتى ‏!‏ ما أحسن حديثك‏!‏ لقد بورك لنا في جوارك، من أنت يا فتى‏؟‏ قال‏:‏ أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب، ابن ذبيح الله إسحاق، ابن خليل الله إبراهيم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لما قالت المرأة لزوجها إن هذا العبد العبراني قد فضحني، وأنا أريد أن تسجنه، فسجنه في السجن؛ فكان يعزي فيه الحزين، ويعود فيه المريض، ويداوي فيه الجريح، ويصلي الليل كله، ويبكي حتى تبكي معه جدر البيوت وسقفها والأبواب، وطهر به السجن، واستأنس به أهل السجن؛ فكان إذا خرج الرجل من السجن رجع حتى يجلس في السجن مع يوسف، وأحبه صاحب السجن فوسع عليه فيه؛ ثم قال، له‏:‏ يا يوسف‏!‏ لقد أحببتك‏.‏ حبا لم أحب شيئا حبك؛ فقال‏:‏ أعوذ بالله من حبك، قال‏:‏ ولم ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ أحبني أبي ففعل بي أخوتي ما فعلوه، وأحبتني سيدتي فنزل بي ما ترى، فكان في حبسه حتى غضب الملك على خبازه وصاحب شرابه، وذلك أن الملك عمر فيهم فملوه، فدسوا إلى خبازه وصاحب شرابه أن يسماه جميعا، فأجاب الخباز وأبى صاحب الشراب، فانطلق صاحب الشراب فأخبر الملك بذلك، فأمر الملك بحبسهما، فاستأنسا بيوسف، فذلك قوله‏{‏ودخل معه السجن فتيان‏}‏ وقد قيل‏:‏ إن الخباز وضع السم في الطعام، فلما حضر الطعام قال الساقي‏:‏ أيها الملك‏!‏ لا تأكل فإن الطعام مسموم‏.‏ وقال الخباز‏:‏ أيها الملك لا تشرب‏!‏ فإن الشراب مسموم؛ فقال الملك للساقي‏:‏ اشرب‏!‏ فشرب فلم يضره، وقال للخباز‏:‏ كل؛ فأبى، فجرب الطعام على حيوان فنفق مكانه، فحبسهما سنة، وبقيا في السجن تلك المدة مع يوسف‏.‏ واسم الساقي منجا، والآخر مجلث؛ ذكره الثعلبي عن كعب‏.‏ وقال النقاش‏:‏ اسم أحدهما شرهم، والآخر سرهم؛ الأول، بالشين المعجمة‏.‏ والآخر بالسين المهملة‏.‏ وقال الطبري‏:‏ الذي رأى أنه يعصر خمرا هو نبو، قال السهيلي‏:‏ وذكر اسم الآخر ولم أقيده‏.‏

وقال ‏}‏فتيان‏}‏ لأنهما كانا عبدين، والعبد يسمى فتى، صغيرا كان أو كبيرا؛ ذكره الماوردي‏.‏ وقال القشيري‏:‏ ولعل الفتى كان اسما للعبد في عرفهم؛ ولهذا قال‏{‏تراود فتاها عن نفسه‏}‏يوسف‏:‏ 30‏]‏‏.‏ ويحتمل أن يكون الفتى اسما للخادم وإن لم يكن مملوكا‏.‏ ويمكن أن يكون حبسهما مع حبس يوسف أو بعده أو قبله، غير أنهما دخلا معه البيت الذي كان فيه‏.‏ ‏}‏قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله‏}‏ ‏}‏قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا‏}‏ أي عنبا؛ كان يوسف قال لأهل السجن‏.‏ إني أعبر الأحلام؛ فقال أحد الفتيين لصاحبه‏:‏ تعال حتى نجرب هذا العبد العبراني؛ فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا؛ قاله ابن مسعود‏.‏ وحكى الطبري أنهما سألاه عن علمه فقال‏:‏ إني أعبر الرؤيا؛ فسألاه عن رؤياهما‏.‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ كانت رؤيا صدق رأياها وسألاه عنها؛ ولذلك صدق تأويلها‏.‏ وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ إنها كانت رؤيا كذب سألاه عنها تجريبا؛ وهذا قول ابن مسعود والسدي‏.‏ وقيل‏:‏ إن المصلوب منهما كان كاذبا، والآخر صادقا؛ قاله أبو مجلز‏.‏ وروى الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ قال‏:‏ ‏(‏من تحلم كاذبا كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين ولن يعقد بينهما‏)‏‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن صحيح وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من كذب في حلمه كلف يوم القيامة عقد شعيرة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ حديث حسن‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لما رأيا رؤياهما أصبحا مكروبين؛ فقال لهما يوسف‏:‏ مالي أراكما مكروبين‏؟‏ قالا‏:‏ يا سيدنا‏!‏ إنا رأينا ما كرهنا؛ قال‏:‏ فقصا علي، فقصا عليه؛ قالا‏:‏ نبئنا بتأويل ما رأينا؛ وهذا يدل على أنها كانت رؤيا منام‏.‏ ‏}‏إنا نراك من المحسنين‏}‏ فإحسانه، أنه كان يعود المرضى ويداويهم، ويعزي الحزاني؛ قال الضحاك‏:‏ كان إذا مرض الرجل من أهل السجن قام به، وإذا ضاق وسع له، وإذا احتاج جمع له، وسأل له‏.‏ وقيل‏{‏من المحسنين‏}‏ أي العالمين الذين أحسنوا العلم، قال الفراء‏.‏ وقال ابن إسحاق‏{‏من المحسنين‏}‏ لنا إن فسرته، كما يقول‏:‏ افعل كذا وأنت محسن‏.‏ قال‏:‏ فما رأيتما‏؟‏ قال الخباز‏:‏ رأيت كأني اختبزت في ثلاثة تنانير، وجعلته في ثلاث سلال، فوضعته على رأسي فجاء الطير فأكل منه‏.‏ وقال الآخر‏:‏ رأيت كأني أخذت ثلاثة عناقيد من عنب أبيض، فعصرتهن في ثلاث أوان، ثم صفيته فسقيت الملك كعادتي فيما مضى، فذلك قوله‏{‏إني أراني أعصر خمرا‏}‏ أي عنبا، بلغة عمان، قال الضحاك‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏{‏إني أراني أعصر عنبا‏}‏‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ أخبرني المعتمر بن سليمان أنه لقي أعرابيا ومعه عنب فقال له‏:‏ ما معك‏؟‏ قال‏:‏ خمر‏.‏ وقيل‏:‏ معنى‏.‏ ‏}‏أعصر خمرا‏}‏ أي عنب خمر، فحذف المضاف‏.‏ ويقال‏:‏ خمرة وخمر وخمور، مثل تمرة وتمر وتمور‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 37 ‏)‏

‏{‏قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون‏}‏

قال لهما يوسف‏{‏لا يأتيكما طعام ترزقانه‏}‏ يعني لا يجيئكما غدا طعام من منزلكما ‏}‏إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما‏}‏ لتعلما أني أعلم تأويل رؤياكما، فقالا‏:‏ افعل‏!‏ فقال لهما‏:‏ يجيئكما كذا وكذا، فكان على ما قال؛ وكان هذا من علم الغيب خُص به يوسف‏.‏ وبين أن الله خصه بهذا العلم لأنه ترك ملة قوم لا يؤمنون بالله، يعني دين الملك‏.‏ ومعنى الكلام عندي‏:‏ العلم بتأويل رؤياكما، والعلم بما يأتيكما من طعامكما والعلم بدين الله، فاسمعوا أولا ما يتعلق بالدين لتهتدوا، ولهذا لم يعبر لهما حتى دعاهما إلى الإسلام، فقال‏{‏يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، ما تعبدون‏}‏يوسف‏:‏39‏]‏ الآية كلها، على ما يأتي‏.‏ وقيل‏:‏ علم أن أحدهما مقتول فدعاهما إلى الإسلام ليسعدا به‏.‏ وقيل‏:‏ إن يوسف كره أن يعبر لهما ما سألاه لما علمه من المكروه على أحدهما فأعرض عن سؤالهما، وأخذ في غيره فقال‏{‏لا يأتيكما طعام ترزقانه‏}‏ في النوم ‏}‏إلا نبأتكما‏}‏ بتفسيره في اليقظة، قاله السدي، فقالا له‏:‏ هذا من فعل العرافين والكهنة، فقال لهما يوسف عليه السلام‏:‏ ما أنا بكاهن، وإنما ذلك مما علمنيه ربي، إني لا أخبركما به تكهنا وتنجيما، بل هو بوحي من الله عز وجل‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ كان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما معروفا فأرسل به إليه، فالمعنى‏:‏ لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة، فعلى هذا ‏}‏ترزقانه‏}‏ أي يجري عليكما من جهة الملك أو غيره‏.‏ ويحتمل يرزقكما الله‏.‏ قال الحسن‏:‏ كان يخبرهما بما غاب، كعيسى عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ إنما دعاهما بذلك إلى الإسلام؛ وجعل المعجزة التي يستدلان بها إخبارهما بالغيوب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 38 ‏)‏

‏{‏واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب‏}‏ لأنهم أنبياء على الحق‏.‏ ‏}‏ما كان لنا‏}‏ أي ما ينبغي لنا‏.‏ ‏}‏أن نشرك بالله من شيء‏}‏ ‏}‏من‏}‏ للتأكيد، كقولك‏:‏ ما جاءني من أحد‏.‏ ‏}‏ذلك من فضل الله علينا‏}‏ إشارة إلى عصمته من الزنى‏.‏ ‏}‏وعلى الناس‏}‏ أي على المؤمنين الذين عصمهم الله من الشرك‏.‏ وقيل‏{‏ذلك من فضل الله علينا‏}‏ إذ جعلنا أنبياء، ‏}‏وعلى الناس‏}‏ إذ جعلنا الرسل إليهم‏.‏ ‏}‏ولكن أكثر الناس لا يشكرون‏}‏ على نعمة التوحيد والإيمان‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

‏{‏يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا صاحبي السجن‏}‏ أي يا ساكني السجن؛ وذكر الصحبة لطول مقامهما فيه، كقولك‏:‏ أصحاب الجنة، وأصحاب النار‏.‏ ‏}‏أأرباب متفرقون‏}‏ أي في الصغر والكبر والتوسط، أو متفرقون في العدد‏.‏ ‏}‏خير أم الله الواحد القهار‏}‏ وقيل‏:‏ الخطاب لهما ولأهل السجن، وكان بين أيديهم أصنام يعبدونها من دون الله تعالى، فقال ذلك إلزاما للحجة؛ أي آلهة شتى لا تضر ولا تنفع‏.‏ ‏}‏خير أم الله الواحد القهار‏}‏ الذي قهر كل شيء‏.‏ نظيره‏{‏الله خير أما يشركون‏}‏النمل‏:‏ 59‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ أشار بالتفرق إلى أنه لو تعدد الإله لتفرقوا في الإرادة ولعلا بعضهم على، بعض، وبين أنها إذا تفرقت لم تكن آلهة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 40 ‏)‏

‏{‏ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ما تعبدون من دونه إلا أسماء‏}‏ بين عجز الأصنام وضعفها فقال‏{‏ما تعبدون من دونه‏}‏ أي من دون الله إلا ذوات أسماء لا معاني لها‏.‏ ‏}‏سميتموها أنتم وآباؤكم‏}‏ من تلقاء أنفسكم‏.‏ وقيل‏:‏ عنى بالأسماء المسميات؛ أي ما تعبدون إلا أصناما ليس لها من الإلهية شيء إلا الاسم؛ لأنها جمادات‏.‏ وقال‏{‏ما تعبدون‏}‏ وقد ابتدأ بخطاب الاثنين؛ لأنه قصد جميع من هو على مثل حالهما من الشرك‏.‏ ‏}‏إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم‏}‏ فحذف، المفعول الثاني للدلالة؛ والمعنى‏:‏ سميتموها آلهة من عند أنفسكم‏.‏ ‏}‏ما أنزل الله بها من سلطان‏}‏ ذلك في كتاب‏.‏ قال سعيد بن جبير‏{‏من سلطان‏}‏ أي من حجة‏.‏ ‏}‏إن الحكم إلا لله‏}‏ الذي هو خالق الكل‏.‏ ‏}‏أمر ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏ تعبدوه وحده ولا تشركوا معه غيره‏.‏ ‏}‏ذلك الدين القيم‏}‏ أي القويم‏.‏ ‏}‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏

الآية رقم ‏(‏ 41 ‏)‏

‏{‏يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان‏}‏

قوله تعالى‏{‏أما أحدكما فيسقي ربه خمرا‏}‏ أي قال للساقي‏:‏ إنك ترد على عملك الذي كنت عليه من سقي الملك بعد ثلاثة أيام، وقال للآخر‏:‏ وأما أنت فتدعى إلى ثلاثة أيام فتصلب فتأكل الطير من رأسك، قال‏:‏ والله ما رأيت شيئا؛ قال‏:‏ رأيت أو لم تر ‏}‏قضي الأمر الذي فيه تستفتيان‏}‏‏.‏ وحكى أهل اللغة أن سقى وأسقى لغتان بمعنى واحد، كما قال الشاعر‏:‏

سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال

قال النحاس‏:‏ الذي عليه أكثر أهل اللغة أن معنى سقاه ناوله فشرب، أو صب الماء في حلقه ومعنى أسقاه جعل له سقيا؛ قال الله تعالى‏{‏وأسقيناكم ماء فراتا‏}‏المرسلات‏:‏ 27‏]‏

قال علماؤنا‏:‏ إن قيل من كذب في رؤياه ففسرها العابر له أيلزمه حكمها‏؟‏ قلنا‏:‏ لا يلزمه؛ وإنما كان ذلك في يوسف لأنه نبي، وتعبير النبي حكم، وقد قال‏:‏ إنه يكون كذا وكذا فأوجد الله تعالى ما أخبر كما قال تحقيقا لنبوته؛ فإن قيل‏:‏ فقد روى عبدالرزاق عن معمر عن قتادة قال‏:‏ جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال‏:‏ إني رأيت كأني أعشبت ثم أجدبت ثم أعشبت ثم أجدبت، فقال له عمر‏:‏ أنت رجل تؤمن ثم تكفر، ثم تؤمن ثم تكفر، ثم تموت كافرا؛ فقال الرجل‏:‏ ما رأيت شيئا؛ فقال له عمر‏:‏ قد قضى لك ما قضى لصاحب يوسف؛ قلنا‏:‏ ليست لأحد بعد عمر؛ لأن عمر كان محدثا، وكان إذا ظن ظنا كان وإذا تكلم به وقع، على ما ورد في أخباره؛ وهي كثيرة؛ منها‏:‏ أنه دخل عليه رجل فقال له‏:‏ أظنك كاهنا فكان كما ظن؛ خرجه البخاري‏.‏ ومنها‏:‏ أنه سأل رجلا عن اسمه فقال له فيه أسماء النار كلها، فقال له‏:‏ أدرك أهلك فقد احترقوا، فكان كما قال‏:‏ خرجه الموطأ‏.‏ وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة ‏}‏الحجر‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 42 ‏)‏

‏{‏وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال للذي ظن‏}‏ ‏}‏ظن‏}‏ هنا بمعنى أيقن، في قول أكثر المفسرين وفسره قتادة على الظن الذي هو خلاف اليقين؛ قال‏:‏ إنما ظن يوسف نجاته لأن العابر يظن ظنا وربك يخلق ما يشاء؛ والأول أصح وأشبه بحال الأنبياء وأن ما قاله للفتيين في تعبير الرؤيا كان عن وحي، وإنما يكون ظنا في حكم الناس، وأما في حق الأنبياء فإن حكمهم حق كيفما وقع‏.‏ ‏}‏اذكرني عند ربك‏}‏ أي سيدك، وذلك معروف في اللغة أن يقال للسيد رب؛ قال الأعشى‏:‏

ربي كريم لا يكدر نعمة وإذا تنوشد في المهارق أنشدا

أي اذكر ما رأيته، وما أنا عليه من عبارة الرؤيا للملك، وأخبره أني مظلوم محبوس بلا ذنب‏.‏ وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يقل أحدكم اسق ربك أطعم ربك وضئ ربك ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي مولاي ولا يقل أحدكم عبدي أمتي وليقل فتاي فتاتي غلامي‏)‏‏.‏ وفي القرآن‏{‏اذكرني عند ربك‏}‏ ‏}‏إلى ربك‏}‏ ‏}‏إنه ربي أحسن مثواي‏}‏يوسف‏:‏ 23‏]‏ أي صاحبي؛ يعني العزيز‏.‏ ويقال لكل من قام بإصلاح شيء وإتمامه‏:‏ قد ربه يربه، فهو رب له‏.‏ قال العلماء قول عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يقل أحدكم‏)‏ ‏(‏وليقل‏)‏ من باب الإرشاد إلى إطلاق اسم الأولى؛ لا أن إطلاق ذلك الاسم محرم؛ ولأنه قد جاء عنه عليه السلام ‏(‏أن تلد الأمة ربتها‏)‏ أي مالكها وسيدها؛ وهذا موافق للقرآن في إطلاق ذلك اللفظ؛ فكان محل النهي في هذا الباب ألا نتخذ هذه الأسماء عادة فنترك الأولى والأحسن‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن قول الرجل عبدي وأمتي يجمع معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن العبودية بالحقيقة إنما هي لله تعالى؛ ففي قول الواحد من الناس لمملوكه عبدي وأمتي تعظيم عليه، وإضافة له إلى نفسه بما أضافه الله تعالى به إلى نفسه؛ وذلك غير جائز‏.‏ والثاني‏:‏ أن المملوك يدخله من ذلك شيء في استصغاره بتلك التسمية، فيحمله ذلك على سوء الطاعة‏.‏ وقال ابن شعبان في ‏}‏الزاهي‏}‏‏:‏ ‏(‏لا يقل السيد عبدي وأمتي ولا يقل المملوك ربي ولا ربتي‏)‏ وهذا محمول على ما ذكرنا‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قال صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا يقل العبد ربي وليقل سيدي‏)‏ لأن الرب من أسماء الله تعالى المستعملة بالاتفاق؛ واختلف في السيد هل هو من أسماء الله تعالى أم لا‏؟‏ فإذا قلنا ليس من أسماء الله فالفرق واضح؛ إذ لا التباس ولا إشكال، وإذا قلنا إنه من أسمائه فليس في الشهرة ولا الاستعمال كلفظ الرب، فيحصل، الفرق‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ يحتمل أن يكون ذلك جائزا في شرع يوسف عليه السلام‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأنساه الشيطان ذكر ربه‏}‏ الضمير في ‏}‏فأنساه‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه عائد إلى يوسف عليه السلام، أي أنساه الشيطان ذكر الله عز وجل؛ وذلك أنه لما قال يوسف لساقي الملك - حين علم أنه سينجو ويعود إلى حالته الأولى مع الملك - ‏}‏اذكرني عند ربك‏}‏ نسي في ذلك الوقت أن يشكو إلى الله ويستغيث به، وجنح إلى الاعتصام بمخلوق؛ فعقب باللبث‏.‏ قال عبدالعزيز بن عمير الكندي‏:‏ دخل جبريل على يوسف النبي عليه السلام في السجن فعرفه يوسف، فقال‏:‏ يا أخا المنذرين‏!‏ مالي أراك بين الخاطئين‏؟‏‏!‏ فقال جبريل عليه السلام‏:‏ يا طاهر ابن الطاهرين‏!‏ يقرئك السلام رب العالمين ويقول‏:‏ أما استحيت إذ استغثت بالآدميين‏؟‏‏!‏ وعزتي‏!‏ لألبثنك في السجن بضع سنين؛ فقال‏:‏ يا جبريل‏!‏ أهو عني راض‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏!‏ قال‏:‏ لا أبالي الساعة‏.‏ وروي أن جبريل عليه السلام جاءه فعاتبه عن الله تعالى في ذلك وطول سجنه، وقال له‏:‏ يا يوسف‏!‏ من خلصك من القتل من أيدي أخوتك‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ الله تعالى، قال‏:‏ فمن أخرجك من الجب‏؟‏ قال‏:‏ الله تعالى قال‏:‏ فمن عصمك من الفاحشة‏؟‏ قال‏:‏ الله تعالى، قال‏:‏ فمن صرف عنك كيد النساء‏؟‏ قال‏:‏ الله تعالى، قال‏:‏ فكيف وثقت بمخلوق وتركت ربك فلم تسأله‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ يا رب كلمة زلت مني‏!‏ أسألك يا إله إبراهيم وإسحاق والشيخ يعقوب عليهم السلام أن ترحمني؛ فقال له جبريل‏:‏ فإن عقوبتك أن تلبث في السجن بضع سنين‏.‏ وروى أبو سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قال‏{‏اذكرني عند ربك‏}‏ ما لبث في السجن بضع سنين‏)‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ عوقب يوسف بطول الحبس بضع سنين لما قال للذي نجا منهما ‏}‏اذكرني عند ربك‏}‏ ولو ذكر يوسف ربه لخلصه‏.‏ وروى إسماعيل بن إبراهيم عن يونس عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لولا كلمة يوسف - يعني قوله‏{‏اذكرني عند ربك‏}‏ - ما لبث في السجن ما لبث‏)‏ قال‏:‏ ثم يبكي الحسن ويقول‏:‏ نحن ينزل بنا الأمر فنشكو إلى الناس‏.‏ وقيل‏:‏ إن الهاء تعود على الناجي، فهو الناسي؛ أي أنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف لربه، أي لسيده؛ وفيه حذف، أي أنساه الشيطان ذكره لربه؛ وقد رجح بعض العلماء هذا القول فقال‏:‏ لولا أن الشيطان أنسى يوسف ذكر الله لما استحق العقاب باللبث في السجن؛ إذ الناسي غير مؤاخذ‏.‏ وأجاب أهل القول الأول بأن النسيان قد يكون بمعنى الترك، فلما ترك ذكر الله ودعاه الشيطان إلى ذلك عوقب؛ رد عليهم أهل القول الثاني بقوله تعالى‏{‏وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة‏}‏يوسف‏:‏ 45‏]‏ فدل على أن الناسي هو الساقي لا يوسف؛ مع قوله تعالى‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏}‏الحجر‏:‏ 42‏]‏ فكيف يصح أن يضاف نسيانه إلى الشيطان، وليس له على الأنبياء سلطنة‏؟‏‏!‏ قيل‏:‏ أما النسيان فلا عصمة للأنبياء عنه إلا في وجه واحد، وهو الخبر عن الله تعالى فيما يبلغونه، فإنهم معصومون فيه؛ وإذا وقع منهم النسيان حيث يجوز وقوعه فإنه ينسب إلى الشيطان إطلاقا، وذلك إنما يكون فيما أخبر الله عنهم، ولا يجوز لنا نحن ذلك فيهم؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نسي آدم فنسيت ذريته‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إنما أنا بشر أنسى كما تنسون‏)‏‏.‏ وقد تقدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلبث في السجن بضع سنين‏}‏ البضع قطعة من الدهر مختلف فيها؛ قال يعقوب عن أبي زيد‏:‏ يقال بضع وبضع بفتح الباء وكسرها، قال أكثرهم‏:‏ ولا يقال بضع ومائة، وإنما هو إلى التسعين‏.‏ وقال الهروي‏:‏ العرب تستعمل البضع فيما بين الثلاث إلى التسع‏.‏ والبضع والبضعة واحد، ومعناهما القطعة من العدد‏.‏ وحكى أبو عبيدة أنه قال‏:‏ البضع ما دون نصف العقد، يريد ما بين الواحد إلى أربعة، وهذا ليس بشيء‏.‏ وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏وكم البضع‏)‏ فقال‏:‏ ما بين الثلاث إلى السبع‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏اذهب فزائد في الخطر‏)‏‏.‏ وعلى هذا أكثر المفسرين، أن البضع سبع، حكاه الثعلبي‏.‏ قال الماوردي‏:‏ وهو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقطرب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ من ثلاث إلى تسع، وقال الأصمعي‏.‏ ابن عباس‏:‏ من ثلاث إلى عشرة‏.‏ وحكى الزجاج أنه ما بين الثلاث إلى الخمس قال الفراء‏:‏ والبضع لا يذكر العشرة والعشرين إلى التسعين، ولا يذكر بعد المائة‏.‏ وفي المدة التي لبث فيها يوسف مسجونا ثلاثة أقاويل‏:‏ أحدها‏:‏ سبع سنين، قاله ابن جريج وقتادة ووهب بن منبه، قال وهب‏:‏ أقام أيوب في البلاء سبع سنين، وأقام يوسف في السجن سبع سنين‏.‏ الثاني‏:‏ - اثنتا عشرة سنة، قال ابن عباس‏.‏ الثالث‏:‏ أربع عشرة سنة، قاله الضحاك‏.‏ وقال مقاتل عن مجاهد عن ابن عباس قال‏:‏ مكث يوسف في السجن خمسا وبضعا‏.‏ واشتقاقه من بضعت الشيء أي قطعته، فهو قطعة من العدد، فعاقب الله يوسف بأن حبس سبع سنين أو تسع سنين بعد الخمس التي مضت، فالبضع مدة العقوبة لا مدة الحبس كله‏.‏ قال وهب بن منبه‏:‏ حبس يوسف في السجن سبع سنين، ومكث أيوب في البلاء سبع سنين، وعذب بختنصر بالمسخ سبع سنين‏.‏ وقال عبدالله بن راشد البصري عن سعيد بن أبي عروبة‏:‏ إن البضع ما بين الخمس إلى الاثنتي عشرة سنة‏.‏

في هذه الآية دليل على جواز التعلق بالأسباب وإن كان اليقين حاصلا فإن الأمور بيد مسببها، ولكنه جعلها سلسلة، وركب بعضها على بعض، فتحريكها سنة، والتعويل على المنتهى يقين‏.‏ والذي يدل على جواز ذلك نسبة ما جرى من النسيان إلى الشيطان كما جرى لموسى في لقيا الخضر؛ وهذا بين فتأملوه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 43 ‏)‏

‏{‏وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان‏}‏ لما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى الملك رؤياه، فنزل جبريل فسلم على يوسف وبشره بالفرج وقال‏:‏ إن الله مخرجك من سجنك، وممكن لك في الأرض، يذل لك ملوكها، ويطيعك جبابرتها، ومعطيك الكلمة العليا على إخوتك، وذلك بسبب رؤيا رآها الملك، وهي كيت وكيت، وتأويلها كذا وكذا، فما لبث في السجن أكثر مما رأى الملك الرؤيا حتى خرج، فجعل الله الرؤيا أولا ليوسف بلاء وشدة، وجعلها آخرا بشرى ورحمة؛ وذلك أن الملك الأكبر الريان بن الوليد رأى في نومه كأنما خرج من نهر يابس سبع بقرات سمان، في أثرهن سبع عجاف - أي مهازيل - وقد أقبلت العجاف على السمان فأخذن بآذانهن فأكلنهن، إلا القرنين، ورأى سبع سنبلات خضر قد أقبل عليهن سبع يابسات فأكلنهن حتى أتين عليهن فلم يبق منهن شيء وهن يابسات، وكذلك البقر كن عجافا فلم يزد فيهن شيء من أكلهن السمان، فهالته الرؤيا، فأرسل إلى الناس وأهل العلم منهم والبصر بالكهانة والنجامة والعرافة والسحر، وأشراف قومه، فقال‏{‏يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي‏}‏ فقص عليهم، فقال القوم‏{‏أضغاث أحلام‏}‏يوسف‏:‏ 44‏]‏ قال ابن جريج قال لي عطاء‏:‏ إن أضغاث الأحلام الكاذبة المخطئة من الرؤيا‏.‏ وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ إن الرؤيا منها حق، ومنها أضغاث أحلام، يعني بها الكاذبة‏.‏ وقال الهروي‏:‏ قوله تعالى‏{‏أضغاث أحلام‏}‏ أي أخلاط أحلام‏.‏ والضغث في اللغة الحزمة من الشيء كالبقل والكلأ وما أشبههما، أي قالوا‏:‏ ليست رؤياك ببينة، والأحلام الرؤيا المختلطة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أضغاث الرؤيا أهاويلها‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الأضغاث ما لا تأويل له من الرؤيا‏.‏

قوله تعالى‏{‏سبع بقرات سمان‏}‏ حذفت الهاء من ‏}‏سبع‏}‏ فرقا بين المذكر والمؤنث ‏}‏سمان‏}‏ من نعت البقرات، ويجوز في غير القرآن سبع بقرات سمانا، نعت للسبع، وكذا خضرا، قال الفراء‏:‏ ومثله‏{‏سبع سماوات طباقا‏}‏نوح‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وقد مضى في سورة ‏}‏البقرة‏}‏ اشتقاقها ومعناها‏.‏ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ المعز والبقر إذا دخلت المدينة فإن كانت سمانا فهي سني رخاء، وإن كانت عجافا كانت شدادا، وإن كانت المدينة مدينة بحر وإبان سفر قدمت سفن على عددها وحالها، وإلا كانت فتنا مترادفة، كأنها وجوه البقر، كما في الخبر ‏(‏يشبه بعضها بعضا‏)‏‏.‏ وفي خبر آخر في الفتن ‏(‏كأنها صياصي البقر‏)‏ يريد لتشابهها، إلا أن تكون صفرا كلها فإنها أمراض تدخل على الناس، وإن كانت مختلفة الألوان، شنيعة القرون وكان الناس ينفرون منها، أو كأن النار والدخان يخرج من أفواهها فإنه عسكر أو غارة، أو عدو يضرب عليهم، وينزل بساحتهم‏.‏ وقد تدل البقرة على الزوجة والخادم والغلة والسنة؛ لما يكون فيها من الولد والغلة والنبات‏.‏ ‏}‏يأكلهن سبع عجاف‏}‏ من عجُف يعجُف، على وزن عظم يعظم، وروي عجِف يعجَف على وزن حمد يحمد‏.‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي‏}‏ جمع الرؤيا رؤى‏:‏ أي أخبروني بحكم هذه الرؤيا‏.‏ ‏}‏إن كنتم للرؤيا تعبرون‏}‏ العبارة مشتقة من عبور النهر، فمعنى عبرت النهر، بلغت شاطئه، فعابر الرؤيا يعبر بما يؤول إليه أمرها‏.‏ واللام في ‏}‏للرؤيا‏}‏ للتبيين، أي إن كنتم تعبرون، ثم بين فقال‏:‏ للرؤيا قاله الزجاج‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 44 ‏)‏

‏{‏قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏أضغاث أحلام‏}‏ قال الفراء‏:‏ ويجوز ‏}‏أضغاث أحلام‏}‏ قال النحاس‏:‏ النصب بعيد، لأن المعنى‏:‏ لم تر شيئا له تأويل، إنما هي أضغاث أحلام، أي أخلاط‏.‏ وواحد الأضغاث ضغث، يقال لكل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما ضغث؛ قال الشاعر‏:‏

كضغث حلم غر منه حالمه

قوله تعالى‏{‏وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى بتأويل الأحلام المختلطة، نفوا عن أنفسهم علم ما لا تأويل له، لا أنهم نفوا عن أنفسهم علم التأويل‏.‏ وقيل‏:‏ نفوا عن أنفسهم علم التعبير‏.‏ والأضغاث على هذا الجماعات من الرؤيا التي منها صحيحة ومنها باطلة، ولهذا قال الساقي‏{‏أنا أنبئكم بتأويله‏}‏يوسف‏:‏ 45‏]‏ فعلم أن القوم عجزوا عن التأويل، لا أنهم ادعوا ألا تأويل لها‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم لم يقصدوا تفسيرا، وإنما أرادوا محوها من صدر الملك حتى لا تشغل باله، وعلى هذا أيضا فعندهم علم‏.‏ و‏}‏الأحلام‏}‏ جمع حلم، والحلم بالضم ما يراه النائم، تقول منه حلم بالفتح واحتلم، وتقول‏:‏ حلمت، بكذا وحلمته، قال‏:‏

فحلمتها وبنو رفيدة دونها لا يبعدن خيالها المحلوم

أصله الأناة، ومنه الحلم ضد الطيش؛ فقيل لما يرى في النوم حلم لأن النوم حالة أناة وسكون ودعة‏.‏

وفي الآية دليل على بطلان قول من يقول‏:‏ إن الرؤيا على أول ما تعبر، لأن القوم قالوا‏{‏أضغاث أحلام‏}‏ ولم تقع كذلك؛ فإن يوسف فسرها على سني الجدب والخصب، فكان كما عبر؛ وفيها دليل على فساد أن الرؤيا على، رجل طائر، فإذا عبرت وقعت‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 45 ‏)‏

‏{‏وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال الذي نجا منهما‏}‏ يعني ساقي الملك‏.‏ ‏}‏وادكر بعد أمة‏}‏ أي بعد حين، عن ابن عباس وغيره؛ ومنه ‏}‏إلى أمة معدودة‏}‏هود‏:‏ 8‏]‏ وأصله الجملة من الحين‏.‏ وقال ابن درستويه‏:‏ والأمة لا تكون الحين إلا على حذف مضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، كأنه قال - والله أعلم - ‏:‏ وادكر بعد حين أمة، أو بعد زمن أمة، وما أشبه ذلك؛ والأمة الجماعة الكثيرة من الناس‏.‏ قال الأخفش‏:‏ هو في اللفظ واحد، وفي المعنى جمع؛ وقال جنس من الحيوان أمة؛ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمر بقتلها‏)‏‏.‏ ‏}‏وادكر‏}‏ أي تذكر حاجة يوسف، وهو قوله‏{‏اذكرني عند ربك‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عباس فيما روى عفان عن همام عن قتادة عن عكرمة عنه - ‏}‏وادكر بعه أمة‏}‏‏.‏ النحاس‏:‏ المعروف من قراءة ابن عباس وعكرمة والضحاك ‏}‏وادكر بعد أمه‏}‏ بفتح الهمزة وتخفيف الميم؛ أي بعد نسيان؛ قال الشاعر‏:‏

أمهت وكنت لا أنسى حديثا كذاك الدهر يودي بالعقول

وعن شبيل بن عزرة الضبعي‏{‏بعد أمه‏}‏ بفتح الألف وإسكان الميم وهاء خالصة؛ وهو مثل الأمه، وهما لغتان، ومعناهما النسيان؛ ويقال‏:‏ أمه يأمه أمها إذا نسي؛ فعلى هذا ‏}‏وادكر بعد أمه‏}‏؛ ذكره النحاس؛ ورجل أمه ذاهب العقل‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وأما ما في حديث الزهري ‏(‏أمه‏)‏ بمعنى أقر واعترف فهي لغة غير مشهورة‏.‏ وقرأ الأشهب العقيلي - ‏}‏بعد إمة‏}‏ أي بعد نعمة؛ أي بعد أن أنعم الله عليه بالنجاة‏.‏ ثم قيل‏:‏ نسي الفتى يوسف لقضاء الله تعالى في بقائه في السجن مدة‏.‏ وقيل‏:‏ ما نسي، ولكنه خاف أن يذكر الملك الذنب الذي بسببه حبس هو والخباز؛ فقوله‏{‏وادكر‏}‏ أي ذكر وأخبر‏.‏ قال النحاس‏:‏ أصل ادكر اذتكر؛ والذال قريبة المخرج من التاء؛ ولم يجز إدغامها فيها لأن الذال مجهورة، والتاء مهموسة، فلو أدغموا ذهب الجهر، فأبدلوا من موضع التاء حرفا مجهورا وهو الدال؛ وكان أولى من الطاء لأن الطاء مطبقة؛ فصار أذدكر، فأدغموا الذال في الدال لرخاوة الدال ولينها‏.‏ ثم قال‏{‏أنا أنبئكم بتأويله‏}‏ أي أنا أخبركم‏.‏ وقرأ الحسن ‏}‏أنا آتيكم بتأويله‏}‏ وقال‏:‏ كيف ينبئهم العلج‏؟‏‏!‏ قال النحاس‏:‏ ومعنى ‏}‏أنبئكم‏}‏ صحيح حسن؛ أي أنا أخبركم إذا سألت‏.‏ ‏}‏فأرسلوني‏}‏ خاطب الملك ولكن بلفظ التعظيم، أو خاطب الملك وأهل مجلسه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 46 ‏)‏

‏{‏يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يوسف‏}‏ نداء مفرد، وكذا ‏}‏الصديق‏}‏ أي الكثير الصدق‏.‏ ‏}‏أفتنا‏}‏ أي فأرسلوه، فجاء إلى يوسف فقال‏:‏ أيها الصديق‏!‏ وسأله عن رؤيا الملك‏.‏ ‏}‏لعلي أرجع إلى الناس‏}‏ أي إلى الملك وأصحابه‏.‏ ‏}‏لعلهم يعلمون‏}‏ التعبير، أو ‏}‏لعلهم يعلمون‏}‏ مكانك من الفضل والعلم فتخرج‏.‏ ويحتمل أن يريد بالناس الملك وحده تعظيما‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 47 ‏)‏

‏{‏قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال تزرعون‏}‏ لما أعلمه بالرؤيا جعل يفسرها له، فقال‏:‏ السبع من البقرات السمان والسنبلات الخضر سبع سنين مخصبات؛ وأما البقرات العجاف والسنبلات اليابسات فسبع سنين مجدبات؛ فذلك قوله‏{‏تزرعون سبع سنين دأبا‏}‏ أي متوالية متتابعة؛ وهو مصدر على غير المصدر، لأن معنى ‏}‏تزرعون‏}‏ تدأبون كعادتكم في الزراعة سبع سنين‏.‏ وقيل‏:‏ هو حال؛ أي دائبين‏.‏ وقيل‏:‏ صفة لسبع سنين، أي دائبة‏.‏ وحكى أبو حاتم عن يعقوب ‏}‏دأبا‏}‏ بتحريك الهمزة، وكذا روى حفص عن عاصم، وهما لغتان، وفيه قولان، قول أبي حاتم‏:‏ إنه من دئب‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولا يعرف أهل اللغة إلا دأب‏.‏ والقول الآخر - إنه حرك لأن فيه حرفا من حروف الحلق؛ قاله الفراء، قال‏:‏ وكذلك كل حرف فتح أول وسكن ثانية فتثقيله جائز إذا كان ثانيه همزة، أو هاء، أو عينا، أو غينا، أو حاء، أو خاء؛ وأصله العادة؛ قال‏:‏

كدأبك من أم الحويرث قبلها

وقد مضى في ‏}‏آل عمران‏}‏ القول فيه‏.‏ ‏}‏فما حصدتم فذروه في سنبله‏}‏ قيل‏:‏ لئلا يتسوس، وليكون أبقى؛ وهكذا الأمر في ديار مصر‏.‏ ‏}‏إلا قليلا مما تأكلون‏}‏ أي استخرجوا ما تحتاجون إليه بقدر الحاجة؛ وهذا القول منه أمر، والأول خبر‏.‏ ويحتمل أن يكون الأول أيضا أمرا، وإن كان الأظهر منه الخبر؛ فيكون معنى‏{‏تزرعون‏}‏ أي ازرعوا‏.‏

هذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال؛ فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور فهو مصلحة، وكل ما يفوت شيئا منها فهو مفسدة، ودفعه مصلحة؛ ولا خلاف أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية؛ ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية، ومراعاة ذلك فضل من الله عز وجل ورحمة رحم بها عباده، من غير وجوب عليه، ولا استحقاق؛ هذا مذهب كافة المحققين من أهل السنة أجمعين؛ وبسطه في أصول الفقه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 48 ‏)‏

‏{‏ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏سبع شداد‏}‏ يعني السنين المجدبات‏.‏ ‏}‏يأكلن‏}‏ مجاز، والمعنى يأكل أهلهن‏.‏ ‏}‏ما قدمتم لهن‏}‏ أي ما ادخرتم لأجلهن؛ ونحوه قول القائل‏:‏

نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم

والنهار لا يسهو، والليل لا ينام؛ وإنما يسهى في النهار، وينام في الليل‏.‏ وحكى زيد بن أسلم عن أبيه‏:‏ أن يوسف كان يضع طعام الاثنين فيقربه إلى رجل واحد فيأكل بعضه، حتى إذا كان يوم قربه له فأكله كله؛ فقال يوسف‏:‏ هذا أول يوم من السبع الشداد‏.‏ ‏}‏إلا قليلا‏}‏ نصب على الاستثناء‏.‏ ‏}‏مما تحصنون‏}‏ أي مما تحبسون لتزرعوا؛ لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ تحرزون‏.‏ وقال قتادة‏{‏تحصنون‏}‏ تدخرون، والمعنى واحد؛ وهو يدل على جواز احتكار الطعام إلى وقت الحاجة‏.‏

هذه الآية أصل في صحة رؤيا الكافر، وأنها تخرج على حسب ما رأى، لا سيما إذا تعلقت بمؤمن؛ فكيف إذا كانت آية لنبي‏.‏ ومعجزة لرسول، وتصديقا لمصطفى للتبليغ، وحجة للواسطة بين الله - جل جلال - وبين عباده‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 49 ‏)‏

‏{‏ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم يأتي من بعد ذلك عام‏}‏ هذا خبر من يوسف عليه السلام عما لم يكن في رؤيا الملك، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله‏.‏ قال قتادة‏:‏ زاده الله علم سنة لم يسألوه عنها إظهارا لفضله، وإعلاما لمكانه من العلم وبمعرفته‏.‏ ‏}‏فيه يغاث الناس‏}‏ من الإغاثة أو الغوث؛ غوث الرجل فال واغوثاه، والاسم الغوث والغواث والغواث، واستغاثني فلان فأغثته، والاسم الغياث؛ صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها‏.‏ والغيث المطر؛ وقد غاث الغيث الأرض أي أصابها؛ وغاث الله البلاد يغيثها غيثا، وغيثت الأرض تغاث غيثا، فهي أرض مغيثة ومغيوثة؛ فمعنى ‏}‏يغاث الناس‏}‏ يمطرون‏.‏ ‏}‏وفيه يعصرون‏}‏ فال ابن عباس‏:‏ يعصرون الأعناب والدهن؛ ذكره البخاري‏.‏ وروى حجاج عن ابن جريح قال‏:‏ يعصرون العنب خمرا والسمسم دهنا، والزيتون زيتا‏.‏ وقيل‏:‏ أراد حلب الألبان لكثرتها؛ ويدل ذلك على كثرة النبات‏.‏ وقيل‏{‏يعصرون‏}‏ أي ينجون؛ وهو من العصرة، وهي المنجاة‏.‏ قال أبو عبيدة والعصر بالتحريك الملجأ والمنجاة، وكذلك العصرة؛ قال أبو زبيد‏:‏

صاديا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصره المنجود

والمنجود الفزع‏.‏ واعتصرت بفلان وتعصرت أي التجأت إليه‏.‏ قال أبو الغوث‏{‏يعصرون‏}‏ يستغلون؛ وهو من عصر العنب‏.‏ واعتصرت ماله أي استخرجته من يده‏.‏ وقرأ عيسى ‏}‏تعصرون‏}‏ بضم التاء وفتح الصاد، ومعناه‏:‏ تمطرون؛ من قول الله‏{‏وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا‏}‏النبأ‏:‏ 14‏]‏ وكذلك معنى ‏}‏تعصرون‏}‏ بضم التاء وكسر الصاد، فيمن قرأه كذلك‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 50 ‏:‏ 51 ‏)‏

‏{‏وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم، قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال الملك ائتوني به‏}‏ أي فذهب الرسول فأخبر الملك، فقال‏:‏ ائتوني به‏.‏ ‏}‏فلما جاءه الرسول‏}‏ أي يأمره بالخروج‏.‏ ‏}‏قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة‏}‏ أي حال النسوة‏.‏ ‏}‏فاسأله ما بال النسوة‏}‏ ذكر النساء جملة ليدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم بالتلويح حتى لا يقع عليها تصريح؛ وذلك حسن عشرة وأدب؛ وفي الكلام محذوف، أي فاسأله أن يتعرف ما بال النسوة‏.‏ ‏}‏اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم‏}‏ فأبى أن يخرج إلا أن تصح براءته عند الملك مما قذف به، وأنه حبس بلا جرم‏.‏ وروى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - قال - ولو لبث في، السجن ما لبث ثم جاءني الرسول أجبت - ثم قرأ - ‏}‏فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي يقطعن أيديهن‏}‏ - قال - ورحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد إذ قال ‏}‏لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد فما بعث الله من بعده نبيا إلا في ذروة من قومه‏)‏‏.‏ وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ونحن أحق من إبراهيم إذ قال له ‏}‏أو لم تؤمن قال بلى ولكني ليطمئن قلبي‏‏البقرة‏:‏ 260‏]‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏(‏يرحم الله أخي يوسف لقد كان صابرا حليما ولو لبثت في السجن ما لبثه أجبت الداعي ولم ألتمس العذر‏)‏‏.‏ وروي نحو هذا الحديث من طريق عبدالرحمن بن القاسم صاحب مالك، في كتاب التفسير من صحيح البخاري، وليس لابن القاسم في الديوان غيره‏.‏ وفي رواية الطبري ‏(‏يرحم الله يوسف لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إلي لخرجت سريعا أن كان لحليما ذا أناة‏)‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين سئل عن البقرات لو كنت مكانه لما أخبرتهم حتى اشترط أن يخرجوني ولقد عجبت منه حين آتاه الرسول ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب‏)‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ كان هذا الفعل من يوسف عليه السلام أناة وصبرا، وطلبا لبراءة الساحة؛ وذلك أنه - فيما روي - خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ويسكت عن أمر ذنبه صفحا فيراه الناس بتلك العين أبدا ويقولون‏:‏ هذا الذي راود امرأة مولاه؛ فأراد يوسف عليه السلام أن يبين براءته، ويحقق منزلته من العفة والخير؛ وحينئذ يخرج للإحظاء والمنزلة؛ فلهذا قال للرسول‏:‏ ارجع إلى ربك وقل له ما بال النسوة، ومقصد يوسف عليه السلام إنما كان‏:‏ وقل له يستقصي عن ذنبي، وينظر في أمري هل سجنت بحق أو بظلم؛ ونكب عن امرأة العزيز حسن عشرة، ورعاية لذمام الملك العزيز له‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف مدح النبي صلى الله عليه وسلم يوسف بالصبر والأناة وترك المبادرة إلى الخروج، ثم هو يذهب بنفسه عن حالة قد مدح بها غيره‏؟‏ فالوجه في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ لنفسه وجها آخر من الرأي، له جهة أيضا من الجودة؛ يقول‏:‏ لو كنت أنا لبادرت بالخروج، ثم حاولت بيان عذري بعد ذلك، وذلك أن هذه القصص والنوازل هي معرضة لأن يقتدي الناس بها إلى يوم القيامة؛ فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الناس على الأحزم من الأمور؛ وذلك أن تارك الحزم في مثل هذه النازلة، التارك فرصة الخروج من مثل ذلك السجن، ربما نتج له البقاء في سجنه، وانصرفت نفس مخرجه عنه، وإن كان يوسف عليه السلام أمن من ذلك بعلمه من الله، فغيره من الناس لا يأمن ذلك؛ فالحالة التي ذهب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إليها حالة حزم، وما فعله يوسف عليه السلام صبر عظيم وجلد‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاسأله ما بال النسوة‏}‏ ذكر النساء جملة ليدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم بالتلويح حتى لا يقع عليها تصريح؛ وذلك حسن عشرة وأدب؛ وفي الكلام محذوف، أي فاسأله أن يتعرف ما بال النسوة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فأرسل الملك إلى النسوة وإلى امرأة العزيز - وكان قد مات العزيز فدعاهن فـ ‏}‏قال ما خطبكن‏}‏ أي ما شأنكن‏.‏ ‏}‏إذ راودتن يوسف عن نفسه‏}‏ وذلك أن كل واحدة منهن كلمت يوسف في حق نفسها، على ما تقدم، أو أراد قول كل واحدة قد ظلمت امرأة العزيز، فكان ذلك مراودة منهن‏.‏ ‏}‏قلن حاش لله‏}‏ أي معاذ الله‏.‏ ‏}‏ما علمنا عليه من سوء‏}‏ أي زنى‏.‏ ‏}‏قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق‏}‏ لما رأت إقرارهن ببراءة يوسف، وخافت أن يشهدن عليها إن أنكرت أقرت هي أيضا؛ وكان ذلك لطفا من الله بيوسف‏.‏ و‏}‏حصحص الحق‏}‏ أي تبين وظهر؛ وأصله حصص، فقيل‏:‏ حصحص؛ كما قال‏:‏ كبكبوا في كببوا، وكفكف في كفف؛ قال الزجاج وغيره‏.‏ وأصل الحص استئصال الشيء؛ يقال‏:‏ حص شعره إذا استأصله جزا؛ قال أبو القيس بن الأسلت‏:‏

قد حصَّت البيضة رأسي فما أطعم نوما غير تهجاع

وسنة حصَّاء أي جرداء لا خير فيها، قال جرير‏:‏

يأوي إليكم بلا من ولا جحد من ساقه السنة الحصا والذيب

كأنه أراد أن يقول‏:‏ والضبع، وهي السنة المجدبة؛ فوضع الذئب موضعه لأجل القافية؛ فمعنى ‏}‏حصحص الحق‏}‏ أي انقطع عن الباطل، بظهوره وثباته؛ قال‏:‏

ألا مبلغ عني خداشا فإنه كذوب إذا ما حصحص الحق ظالم

وقيل‏:‏ هو مشتق من الحصة؛ فالمعنى‏:‏ بانت حصة الحق من حصة الباطل‏.‏ وقال مجاهد وقتادة‏:‏ وأصله مأخوذ من قولهم؛ حص شعره إذا استأصل قطعه؛ ومنه الحصة من الأرض إذا قطعت منها‏.‏ والحصحص بالكسر التراب والحجارة؛ ذكره الجوهري‏.‏ ‏}‏أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين‏}‏ وهذا القول منها - وإن لم يكن سأل عنه - إظهار لتوبتها وتحقيق لصدق يوسف وكرامته؛ لأن إقرار المقر على نفسه أقوى من الشهادة عليه؛ فجمع الله تعالى ليوسف لإظهار صدقه الشهادة والإقرار، حتى لا يخامر نفسا ظن، ولا يخالطها شك‏.‏ وشددت النون في ‏}‏خطبكن‏}‏ و‏}‏راودتن‏}‏ لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏

‏{‏ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب‏}‏ اختلف فيمن قاله، فقيل‏:‏ هو من، قول امرأة العزيز، وهو متصل بقولها‏{‏الآن حصحص الحق‏}‏ أي أقررت بالصدق ليعلم أني لم أخنه بالغيب أي بالكذب عليه، ولم أذكره بسوء وهو غائب، بل صدقت وحدت عن الخيانة؛ ثم قالت‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏ بل أنا راودته؛ وعلى هذا هي كانت مقرة بالصانع، ولهذا قالت‏{‏إن ربي غفور رحيم‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول يوسف؛ أي قال يوسف‏:‏ ذلك الأمر الذي فعلته، من رد الرسول ‏}‏ليعلم‏}‏ العزيز ‏}‏أني لم أخنه بالغيب‏}‏ قاله الحسن وقتادة وغيرهما‏.‏ ومعنى ‏}‏بالغيب‏}‏ وهو غائب‏.‏ وإنما قال يوسف ذلك بحضرة الملك، وقال‏{‏ليعلم‏}‏ على الغائب توقيرا للملك‏.‏ وقيل‏:‏ قاله إذ عاد إليه الرسول وهو في السجن بعد؛ قال ابن عباس‏:‏ جاء الرسول إلى يوسف عليه السلام بالخبر وجبريل معه يحدثه؛ فقال يوسف‏{‏ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين‏}‏ أي لم أخن سيدي بالغيب؛ فقال له جبريل عليه السلام‏:‏ يا يوسف‏!‏ ولا حين حللت الإزار، وجلست مجلس الرجل من المرأة‏؟‏‏!‏ فقال يوسف‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏ الآية‏.‏ وقال السدي‏:‏ إنما قالت له امرأة العزيز ولا حين حللت سراويلك يا يوسف‏؟‏‏!‏ فقال يوسف‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏‏.‏ وقيل‏{‏ذلك ليعلم‏}‏ من قول العزيز؛ أي ذلك ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، وأني لم أغفل عن مجازاته على أمانته‏.‏ ‏}‏وأن الله لا يهدي كيد الخائنين‏}‏ معناه‏:‏ أن الله لا يهدي الخائنين بكيدهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏

‏{‏وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏ قيل‏:‏ هو من قول المرأة‏.‏ وقال القشيري‏:‏ فالظاهر أن قوله‏{‏ذلك ليعلم‏}‏ وقوله‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏ من قول يوسف‏.‏

قلت‏:‏ إذا احتمل أن يكون من قول المرأة فالقول به أولى حتى نبرئ يوسف من حل الإزار والسراويل؛ وإذا قدرناه من قول يوسف فيكون مما خطر بقلبه، على ما قدمناه من القول المختار في قوله‏{‏وهم بها‏}‏‏.‏ قال أبو بكر الأنباري‏:‏ من الناس من يقول‏{‏ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب‏}‏ إلى قوله‏{‏إن ربي غفور رحيم‏}‏ من كلام امرأة العزيز؛ لأنه متصل بقولها‏{‏أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين‏}‏يوسف‏:‏ 51‏]‏ وهذا مذهب الذين ينفون الهم عن يوسف عليه السلام؛ فمن بنى على قولهم قال‏:‏ من قوله‏{‏قالت امرأة العزيز‏}‏يوسف‏:‏ 51‏]‏ إلى قوله‏{‏إن ربي غفور رحيم‏}‏ كلام متصل بعضه ببعض، ولا يكون فيه وقف تام على حقيقة؛ ولسنا نختار هذا القول ولا نذهب إليه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لما قال يوسف ‏}‏ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب‏}‏ كره نبي الله أن يكون قد زكى نفسه فقال‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏ لأن تزكية النفس مذمومة؛ قال الله تعالى‏{‏فلا تزكوا أنفسكم‏}‏النجم‏:‏ 32‏]‏ وقد بيناه في ‏}‏النساء‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول العزيز؛ أي وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف‏.‏ ‏}‏إن النفس لأمارة بالسوء‏}‏ أي مشتهية له‏.‏ ‏}‏إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم‏}‏ ‏}‏إلا ما رحم ربي‏}‏ في موضع نصب بالاستثناء؛ و‏}‏ما‏}‏ بمعنى من؛ أي إلا من رحم ربي فعصمه؛ و‏}‏ما‏}‏ بمعنى من كثير؛ قال الله تعالى‏{‏فانكحوا ما طاب لكم من النساء‏}‏النساء‏:‏ 3‏]‏ وهو استثناء منقطع، لأنه استثناء المرحوم بالعصمة من النفس الأمارة بالسوء؛ وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما تقولون في صاحب لكم إن أنتم أكرمتموه وأطعمتموه وكسوتموه أفضى بكم إلى شر غاية وإن أهنتموه وأعريتموه وأجعتموه أفضى بكم إلى خير غاية‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ هذا شر صاحب في الأرض‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فوالذي نفسي بيده إنها لنفوسكم التي بين جنوبكم‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏

‏{‏وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي‏}‏ لما ثبت للملك براءته مما نسب إليه؛ وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضا صبره وجلده عظمت منزلته عنده، وتيقن حسن خلال قال‏{‏ائتوني به استخلصه لنفسي‏}‏ فانظر إلى قول الملك أولا - حين تحقق علمه - ‏}‏ائتوني به‏}‏ فقط، فلما فعل يوسف ما فعل ثانيا قال‏{‏ائتوني به استخلصه لنفسي‏}‏ وروي عن وهب بن منبه قال‏:‏ لما دعي يوسف وقف بالباب فقال‏:‏ حسبي ربي من خلقه، عز جاره وجل ثناؤه ولا إله غيره‏.‏ ثم دخل فلما نظر إليه الملك نزل عن سريره فخر له ساجدا؛ ثم أقعده الملك معه على سريره فقال‏.‏ ‏}‏إنك اليوم لدينا مكين أمين‏}‏ قال له يوسف ‏}‏اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ‏}‏يوسف‏:‏ 55‏]‏ بوجوه تصرفاتها‏.‏ وقيل‏:‏ حافظ للحساب، عليم بالألسن‏.‏ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏يرحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن أخر ذلك سنة‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ إنما تأخر تمليكه إلى سنة لأنه لم يقل إن شاء الله‏.‏ وقد قيل في هذه القصة‏:‏ إن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك قال‏:‏ اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بك، من شره وشر غيره؛ ثم سلم على الملك بالعربية فقال‏:‏ ما هذا اللسان‏؟‏ فال‏:‏ هذا لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية فقال‏:‏ ما هذا اللسان‏؟‏ قال‏:‏ لسان آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا، فكلما تكلم الملك بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان، فأعجب الملك أمره، وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة؛ ثم أجلسه على سريره وقال‏:‏ أحب أن أسمع منك رؤياي، قال يوسف نعم أيها الملك‏!‏ رأيت سبع بقرات سمان شهبا غرا حسانا، كشف لك عنهن النيل فطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافها لبنا؛ فبينا أنت تنظر إليهن وتتعجب من حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه، وبدا أسه، فخرج من حمئه ووحله سبع بقرات عجاف شعث غبر مقلصات البطون، ليس لهن ضروع ولا أخلاف،، لهن أنياب وأضراس، وأكف كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع، فاختلطن بالسمان فافترسنهن افتراس السباع، فأكلن لحومهن، ومزقن جلودهن، وحطمن عظامهن، ومشمشن مخهن؛ فبينا أنت تنظر وتتعجب كيف غلبنهن وهن مهازيل‏!‏ ثم لم يظهر منهن سمن ولا زيادة بعد أكلهن‏!‏ إذا بسبع سنابل خضر طريات ناعمات ممتلئات حبا وماء، وإلى جانبهن سبع يابسات ليس فيهن ماء ولا خضرة في منبت واحد، عروقهن في الثرى والماء، فبينا أنت تقول في نفسك‏:‏ أي شيء هذا‏؟‏‏!‏ هؤلاء خضر مثمرات، وهؤلاء سود يابسات، والمنبت واحد، وأصولهن في الماء، إذ هبت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات، فأشعلت فيهن النار فأحرقتهن؛ فصرن سودا مغبرات؛ فانتبهت مذعورا أيها الملك؛ فقال الملك‏:‏ والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كان عجبا بأعجب مما سمعت منك‏!‏ فما ترى في رؤياي أيها الصديق‏؟‏ فقال يوسف‏:‏ أرى أن تجمع الطعام، وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة؛ فإنك لو زرعت على حجر أو مدر لنبت، وأظهر الله فيه النماء والبركة، ثم ترفع الزرع في قصبه وسنبله تبني له المخازن العظام؛ فيكون القصب والسنبل علفا للدواب، وحبه للناس، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم إلى أهرائك الخمس؛ فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها، ويأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك؛ فقال الملك‏:‏ ومن لي بتدبير هذه الأمور‏؟‏ ولو جمعت أهل مصر جميعا ما أطاقوا، ولم يكونوا فيه أمناء؛ فقال يوسف عليه السلام عند ذلك‏{‏اجعلني على خزائن الأرض‏}‏يوسف‏:‏ 55‏]‏ أي على خزائن أرضك؛ وهي جمع خزانة؛ ودخلت الألف واللام عوضا من الإضافة، كقول النابغة‏:‏

لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم من الجود والأحلام غير كواذب

قوله تعالى‏{‏استخلصه لنفسي‏}‏ جزم لأنه جواب الأمر؛ وهذا يدل على أن قوله‏{‏ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب‏}‏ جرى في السجن‏.‏ ويحتمل أنه جرى عند الملك ثم قال في مجلس آخر‏{‏ائتوني به‏}‏يوسف‏:‏ 50‏]‏ تأكيدا ‏}‏استخلصه لنفسي‏}‏ أي اجعله خالصا لنفسي، أفوض إليه أمر مملكتي؛ فذهبوا فجاؤوا به؛ ودل على هذا قوله‏{‏فلما كلمه‏}‏ أي كلم الملك يوسف، وسأله عن الرؤيا فأجاب يوسف؛ ‏}‏قال إنك اليوم لدينا مكين‏}‏ ‏}‏قال‏}‏ الملك‏{‏إنك اليوم لدينا مكين أمين‏}‏ أي متمكن نافذ القول، ‏}‏أمين‏}‏ لا تخاف غدرا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 55 ‏)‏

‏{‏قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال اجعلني على خزائن الأرض‏}‏ قال سعيد بن منصور‏:‏ سمعت مالك بن أنس يقول‏:‏ مصر خزانة الأرض؛ أما سمعت إلى قوله‏{‏اجعلني على خزائن الأرض‏}‏ أي على حفظها، فحذف المضاف‏.‏ ‏}‏إني حفيظ‏}‏ لما وليت ‏}‏عليم‏}‏ بأمره‏.‏ وفي التفسير‏:‏ إني حاسب كاتب؛ وأنه أول من كتب في القراطيس‏.‏ وقيل‏{‏حفيظ‏}‏ لتقدير الأقوات ‏}‏عليم‏}‏ بسني المجاعات‏.‏ قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن أخر ذلك عنه سنة‏)‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك فتوجه ورداه بسيفه، ووضع له سريرا من ذهب، مكللا بالدر والياقوت، وضرب عليه حلة من إستبرق؛ وكان طول السرير ثلاثين ذراعا وعرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشا وستون مرفقه، ثم أمره أن يخرج، فخرج متوجا، لونه كالثلج، ووجهه كالقمر؛ يرى الناظر وجهه من صفاء لون وجهه، فجلس على السرير ودانت له الملوك، ودخل الملك بيته مع نسائه، وفوض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ كان لفرعون ملك مصر خزائن كثيرة غير الطعام، فسلم سلطانه كله إليه، وهلك قطفير تلك الليالي، فزوج الملك يوسف راعيل امرأة العزيز، فلما دخل عليها قال‏:‏ أليس هذا خيرا مما كنت تريدين‏؟‏‏!‏ فقالت‏:‏ أيها الصديق لا تلمني؛ فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله من الحسن فغلبتني نفسي‏.‏ فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له رجلين‏:‏ إفراثيم بن يوسف، ومنشا بن يوسف‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ إنما كان تزويجه زليخاء امرأة العزيز بين دخلتي الإخوة، وذلك أن زليخاء مات زوجها ويوسف في السجن، وذهب مالها وعمي بصرها بكاء على يوسف، فصارت تتكفف الناس، فمنهم من يرحمها ومنهم من لا يرحمها، وكان يوسف يركب في كل أسبوع مرة في موكب زهاء مائة ألف من عظماء قومه، فقيل لها‏:‏ لو تعرضت له لعله يسعفك بشيء؛ ثم قيل لها‏:‏ لا تفعلي، فربما ذكر بعض ما كان منك من المراودة والسجن فيسيء إليك، فقالت‏:‏ أنا أعلم بخلق حبيبي منكم، ثم تركته حتى إذا ركب في موكبه، قامت فنادت بأعلى صوتها‏:‏ سبحان من جعل الملوك عبيدا بمعصيتهم، وجعل العبيد ملوكا بطاعتهم، فقال يوسف‏:‏ ما هذه‏؟‏ فأتوا بها؛ فقالت‏:‏ أنا التي كنت أخدمك على صدور قدمي، وأرجل جمتك، بيدي، وتربيت في بيتي، وأكرمت مثواك، لكن فرط ما فرط من جهلي وعتوي فذقت وبال أمري، فذهب مالي، وتضعضع ركني، وطال ذلي، وعمي بصري، وبعدما كنت مغبوطة أهل مصر صرت مرحومتهم، أتكفف الناس، فمنهم من يرحمني، ومنهم من لا يرحمني، وهذا جزاء المفسدين؛ فبكى يوسف بكاء شديدا، ثم قال لها‏:‏ هل بقيت تجدين مما كان في نفسك من حبك لي شيئا‏؟‏ فقالت‏:‏ والله لنظرة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا بحذافيرها، لكن ناولني صدر سوطك، فناولها فوضعته على صدرها، فوجد للسوط في يده اضطرابا وارتعاشا من خفقان قلبها، فبكى ثم مضى إلى منزله فأرسل إليها رسولا‏:‏ إن كنت أيما تزوجناك، وإن كنت ذات بعل أغنيناك، فقالت للرسول‏:‏ أعوذ بالله أن يستهزئ بي الملك‏!‏ لم يردني أيام شبابي وغناي ومالي وعزي أفيريدني اليوم وأنا عجوز عمياء فقيرة‏؟‏‏!‏ فأعلمه الرسول بمقالتها، فلما ركب في الأسبوع الثاني تعرضت له، فقال لها‏:‏ ألم يبلغك الرسول‏؟‏ فقالت‏:‏ قد أخبرتك أن نظرة واحدة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ فأمر بها فأصلح من شأنها وهيئت، ثم زفت إليه، فقام يوسف يصلي ويدعو الله، وقامت وراءه، فسأل الله تعالى أن يعيد إليها شبابها وجمالها وبصرها، فرد الله عليها شبابها وجمالها وبصرها حتى عادت أحسن ما كانت يوم راودته، إكراما ليوسف عليه السلام لما عف عن محارم الله، فأصابها فإذا هي عذراء، فسألها؛ فقالت‏:‏ يا نبي الله إن زوجي كان عنينا لا يأتي النساء، وكنت أنت من الحسن والجمال بما لا يوصف؛ قال‏:‏ فعاشا في خفض عيش، في كل يوم يجدد الله لهما خيرا، وولدت له ولدين؛ إفراثيم ومنشا‏.‏ وفيما روي أن الله تعالى ألقى في قلب يوسف من محبتها أضعاف ما كان في قلبها، فقال لها‏:‏ ما شأنك لا تحبينني كما كنت في أول مرة‏؟‏ فقالت له‏:‏ لما ذقت محبة الله تعالى شغلني ذلك عن كل شيء‏.‏

قال بعض أهل العلم‏:‏ في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر، والسلطان الكافر، بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء؛ وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك‏.‏ وقال قوم‏:‏ إن هذا كان ليوسف خاصة، وهذا اليوم غير جائز؛ والأول أولى إذا كان على الشرط الذي ذكرناه‏.‏ والله أعلم‏.‏ قال الماوردي‏:‏ فان كان المولي ظالما فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين‏:‏ أحدهما - جوازها إذا عمل بالحق فيما تقلده؛ لأن يوسف ولي من قبل فرعون، ولأن الاعتبار في حقه بفعله لا بفعل غيره‏.‏ الثاني‏:‏ أنه لا يجوز ذلك؛ لما فيه من تولي الظالمين بالمعونة لهم، وتزكيتهم بتقلد أعمالهم؛ فأجاب من ذهب إلى هذا المذهب عن ولاية يوسف من قبل فرعون بجوابين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن فرعون يوسف كان صالحا، وإنما الطاغي فرعون موسى‏.‏ الثاني‏:‏ أنه نظر في أملاكه دون أعماله، فزالت عنه التبعة فيه‏.‏ قال الماوردي‏:‏ والأصح من إطلاق هذين القولين أن يفصل ما يتولاه من جهة الظالم على ثلاثة أقسام‏:‏ أحدها‏:‏ ما يجوز لأهله فعله من غير اجتهاد في تنفيذه كالصدقات والزكوات، فيجوز توليه من جهة الظالم، لأن النص على مستحقه قد أغنى عن الاجتهاد فيه، وجواز تفرد أربابه به قد أغنى عن التقليد‏.‏ والقسم الثاني‏:‏ ما لا يجوز أن يتفردوا به ويلزم الاجتهاد في مصرفه كأموال الفيء، فلا يجوز توليه من جهة الظالم؛ لأنه يتصرف بغير حق، ويجتهد فيما لا يستحق‏.‏ والقسم الثالث‏:‏ ما يجوز أن يتولاه لأهله، وللاجتهاد فيه مدخل كالقضايا والأحكام، فعقد التقليد محلول، فإن كان النظر تنفيذا للحكم بين متراضيين، وتوسطا بين مجبورين جاز، وإن كان إلزام إجبار لم يجز‏.‏

ودلت الآية أيضا على جواز أن يخطب الإنسان عملا يكون له أهلا؛ فإن قيل‏:‏ فقد روى مسلم عن عبدالرحمن بن سمرة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا عبدالرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها‏)‏‏.‏ وعن أبي بردة قال قال أبو موسى‏:‏ أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، فكلاهما سأل العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك، فقال‏:‏ ‏(‏ما تقول يا أبا موسى - أو يا عبدالله بن قيس‏)‏‏.‏ قال قلت‏:‏ والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، قال‏:‏ وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت، فقال‏:‏ ‏(‏لن - أو - لا نستعمل على عملنا من أراده‏)‏ وذكر الحديث؛ خرجه مسلم أيضا وغيره؛ فالجواب‏:‏ أولا‏:‏ أن يوسف عليه السلام إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم فرأى أن ذلك فرض متعين عليه فإنه لم يكن هناك غيره، وهكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك، كما قال يوسف عليه السلام، فأما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها وعلم بذلك فالأولى ألا يطلب؛ لقول عليه السلام، لعبدالرحمن‏:‏ ‏(‏لا تسأل، الإمارة وأيضا فإن في سؤالها والحرص عليها مع العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها دليل على، أنه يطلبها لنفسه ولأغراضه، ومن كان هكذا يوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك؛ وهذا معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏وكل إليها‏)‏ ومن أباها لعلمه بآفاتها، ولخوفه من التقصير في حقوقها فر منها، ثم إن ابتلي بها فيرجى له التخلص منها، وهو معنى قوله‏:‏ ‏(‏أعين عليها‏)‏‏.‏ الثاني‏:‏ أنه لم يقل‏:‏ إني حسيب كريم، وإن كان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم‏)‏ ولا قال‏:‏ إني جميل مليح، إنما قال‏{‏إني حفيظ عليم‏}‏ فسألها بالحفظ والعلم، لا بالنسب والجمال‏.‏ الثالث‏:‏ إنما قال ذلك عند من لا يعرفه فأراد تعريف نفسه، وصار ذلك مستثنى من قوله تعالى‏{‏فلا تزكوا أنفسكم‏}‏‏.‏ الرابع‏:‏ أنه رأى ذلك فرضا متعينا عليه؛ لأنه لم يكن هنالك غيره، وهو الأظهر، والله أعلم‏.‏

ودلت الآية أيضا على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل؛ قال الماوردي‏:‏ وليس هذا على الإطلاق في عموم الصفات، ولكنه مخصوص فيما اقترن بوصله، أو تعلق بظاهر من مكسب، وممنوع منه فيما سواه، لما فيه من تزكية ومراءاة، ولو ميزه الفاضل عنه لكان أليق بفضله؛ فإن يوسف دعته الضرورة إليه لما سبق من حاله، ولما يرجو من الظفر بأهله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 56 ‏)‏

‏{‏وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء‏}‏ أي ومثل هذا الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبه إلى قلب الملك، وإنجائه من السجن مكنا له في الأرض؛ أي أقدرناه على ما يريد‏.‏ وقال الكيا الطبري قوله تعالى‏{‏وكذلك مكنا ليوسف في الأرض‏}‏ دليل على إجازة الحيلة في التوصل إلى المباح، وما فيه الغبطة والصلاح، واستخراج الحقوق، ومثله قوله تعالى‏{‏وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث‏}‏ص‏:‏ 44‏]‏ وحديث أبي سعيد الخدري في عامل خيبر، والذي أداه من التمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاله‏.‏

قلت‏:‏ وهذا مردود على ما يأتي‏.‏ يقال‏:‏ مكناه ومكنا له، قال الله تعالى‏{‏مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم‏}‏الأنعام‏:‏ 6‏]‏‏.‏ قال الطبري‏:‏ استخلف الملك الأكبر الوليد بن الريان يوسف على عمل إطفير وعزله؛ فال مجاهد‏:‏ وأسلم على يديه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ملكه بعد سنة ونصف‏.‏ وروى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لو أن يوسف قال إني حفيظ عليم إن شاء الله لملك في وقته‏)‏‏.‏ ثم مات إطفير فزوجه الوليد بزوجة إطفير راعيل، فدخل بها يوسف فوجدها عذراء، وولدت له ولدين‏:‏ إفراثيم ومنشا، ابني يوسف، ومن زعم أنها زليخاء قال‏:‏ لم يتزوجها يوسف، وأنها لما رأته في موكبه بكت، ثم قالت‏:‏ الحمد لله الذي جعل الملوك عبيدا بالمعصية، والحمد لله الذي جعل العبيد بالطاعة ملوكا، فضمها إليه، فكانت من عياله حتى ماتت عنده، ولم يتزوجها؛ ذكره الماوردي؛ وهو خلاف ما تقدم عن وهب، وذكره الثعلبي؛ فالله أعلم‏.‏ ولما فوض الملك أمر مصر إلى يوسف تلطف بالناس، وجعل يدعوهم إلى الإسلام حتى آمنوا به، وأقام فيهم العدل، فأحبه الرجال والنساء، قال وهب والسدي وابن عباس وغيرهم‏:‏ ثم دخلت السنون المخصبة، فأمر يوسف بإصلاح المزارع، وأمرهم أن يتوسعوا في الزراعة، فلما أدركت الغلة أمر بها فجمعت، ثم بنى لها الأهرام، فجمعت فيها في تلك السنة غلة ضاقت عنها المخازن لكثرتها، ثم جمع عليه غلة كل سنة كذلك، حتى إذا انقضت السبع المخصبة وجاءت السنون المجدبة نزل جبريل وقال‏:‏ يا أهل مصر جوعوا؛ فإن الله سلط عليكم الجوع سبع سنين‏.‏

وقال بعض أهل الحكمة‏:‏ للجوع والقحط علامتان‏:‏ إحداهما‏:‏ أن النفس تحب الطعام أكثر من العادة، ويسرع إليها الجوع خلاف ما كانت عليه قبل ذلك، وتأخذ من الطعام فوق الكفاية‏.‏ والثانية‏:‏ أن يفقد الطعام فلا يوجد رأسا ويعز إلى الغاية، فاجتمعت هاتان العلامتان في عهد يوسف، فانتبه الرجال والنساء والصبيان ينادون الجوع الجوع‏!‏‏!‏ ويأكلون ولا يشبعون، وانتبه الملك، ينادى الجوع الجوع‏!‏‏!‏ قال‏:‏ فدعا له يوسف فأبرأه الله من ذلك، ثم أصبح فنادى يوسف في أرض مصر كلها؛ معاشر الناس‏!‏ لا يزرع أحد زرعا فيضيع البذر ولا يطلع شيء‏.‏ وجاءت تلك السنون بهول عظيم لا يوصف؛ قال ابن عباس‏:‏ لما كان ابتداء القحط بينا الملك في جوف الليل أصابه الجوع في نصف الليل، فهتف الملك يا يوسف‏!‏ الجوع الجوع‏!‏‏!‏ فقال يوسف‏:‏ هذا أوان القحط؛ فلما دخلت أول سنة من سني القحط هلك فيها كل شيء أعدوه في السنين المخصبة، فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف؛ فباعهم أول سنة بالنقود، حتى لم يبق بمصر دينار ولا درهم إلا قبضه؛ وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر، حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء؛ وباعهم في السنة الثالثة بالمواشي والدواب، حتى احتوى عليها أجمع، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء، حتى احتوى على الكل؛ وباعهم في السنة الخامسة بالعقار والضياع، حتى ملكها كلها؛ وباعهم في السنة السادسة بأولادهم ونسائهم فاسترقهم جميعا وباعهم في السنة السابعة برقابهم، حتى لم يبق في السنة السابعة بمصر حر ولا عبد إلا صار عبدا له؛ فقال الناس‏:‏ والله ما رأينا ملكا أجل ولا أعظم من هذا؛ فقال يوسف لملك مصر‏:‏ كيف رأيت صنع ربي فيما خولني‏!‏ والآن كل هذا لك، فما ترى فيه‏؟‏ فقال‏:‏ فوضت إليك الأم فافعل ما شئت، وإنما نحن لك تبع؛ وما أنا بالذي يستنكف عن عبادتك وطاعتك، ولا أنا إلا من بعض مماليكك، وخول من خولك؛ فقال يوسف عليه السلام‏:‏ إني لم أعتقهم من الجوع لأستعبدهم، ولم أجرهم من البلاء لأكون عليهم بلاء؛ وإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ووددت عليهم أموالهم وأملاكهم، ورددت عليك ملكك بشرط أن تستن بسنتي‏.‏ ويروى أن يوسف عليه السلام كان لا يشبع من طعام في تلك السنين، فقيل له‏:‏ أتجوع وبيدك خزائن الأرض‏؟‏ فقال‏:‏ إني أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع؛ وأمر يوسف طباخ الملك أن يجعل غذاءه نصف النهار، حتى يذوق، الملك طعم الجوع‏.‏ فلا ينسى الجائعين؛ فمن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف النهار‏.‏

قوله تعالى‏{‏نصيب برحمتنا من نشاء‏}‏ أي بإحساننا؛ والرحمة النعمة والإحسان‏.‏‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا نضيع أجر المحسنين‏}‏ أي ثوابهم‏.‏ وقال ابن عباس ووهب‏:‏ يعني الصابرين؛ لصبره في الجب، وفي الرق، وفي السجن، وصبره عن محارم الله عما دعته إليه المرأة‏.‏ وقال الماوردي‏:‏ واختلف فيما أوتيه يوسف من هذه الحال على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه ثواب من الله تعالى على ما ابتلاه‏.‏ الثاني‏:‏ أنه أنعم الله عليه بذلك تفضلا منه عليه، وثوابه باق على حاله في الآخرة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 57 ‏)‏

‏{‏ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون‏}‏

أي ما نعطيه في الآخرة خير وأكثر مما أعطيناه في الدنيا؛ لأن أجر الآخرة دائم، وأجر الدنيا ينقطع؛ وظاهر الآية العموم في كل مؤمن متق؛ وأنشدوا‏:‏

أما في رسول الله يوسف أسوة لمثلك محبوسا على الظلم والإفك

أقام جميل الصبر في الحبس برهة فآل به الصبر الجميل إلى الملك

وكتب بعضهم إلى صديق له‏:‏

وراء مضيق الخوف متسع الأمن وأول مفروج به آخر الحزن

فلا تيأسن فالله ملك يوسفا خزائنه بعد الخلاص من السجن

وأنشد بعضهم‏:‏

إذا الحادثات بلغن النهي وكادت تذوب لهن المهج

وحل البلاء وقل العزاء فعند التناهي يكون الفرج

والشعر في هذا المعنى كثير‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 58 ‏)‏

‏{‏وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه‏}‏ أي جاؤوا إلى مصر لما أصابهم القحط ليمتاروا؛ وهذا من اختصار القرآن المعجز‏.‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ لما أصاب الناس القحط والشدة، ونزل ذلك بأرض كنعان بعث يعقوب عليه السلام ولده للميرة، وذاع أمر يوسف عليه السلام في الآفاق، للينه وقربه ورحمته ورأفته وعدل وسيرته؛ وكان يوسف عليه السلام حين نزلت الشدة بالناس، يجلس للناس عند البيع بنفسه، فيعطيهم من الطعام على عدد رؤوسهم، لكل رأس وسقا‏.‏ ‏}‏فعرفهم‏}‏ يوسف ‏}‏وهم له منكرون‏}‏ لأنهم خلقوه صبيا، ولم يتوهموا أنه بعد العبودية يبلغ إلى تلك الحال من المملكة، مع طول المدة؛ وهي أربعون سنة‏.‏ وقيل‏:‏ أنكروه لأنهم اعتقدوا أنه ملك كافر‏:‏ وقيل‏:‏ رأوه لابس حرير، وفي عنقه طوق ذهب، وعلى رأسه تاج، وقد تزيا بزي فرعون مصر؛ ويوسف رآهم على ما كان عهدهم في الملبس والحلية‏.‏ ويحتمل أنهم رأوه وراء ستر فلم يعرفوه‏.‏ وقيل‏:‏ أنكروه لأمر خارق امتحانا امتحن الله به يعقوب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 59 ‏)‏

‏{‏ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولما جهزهم بجهازهم‏}‏ يقال‏:‏ جهزت القوم تجهيزا أي تكلفت لهم بجهازهم للسفر؛ وجهاز العروس ما يحتاج إليه عند الإهداء إلى الزوج؛ وجوز بعض الكوفيين الجهاز بكسر الجيم؛ والجهاز في هذه الآية الطعام الذي امتاروه من عنده‏.‏ قال السدي‏:‏ وكان مع إخوة يوسف أحد عشر بعيرا، وهم عشرة، فقالوا ليوسف‏:‏ إن لنا أخا تخلف عنا، وبعيره معنا؛ فسألهم لم تخلف‏؟‏ فقالوا‏:‏ لحب أبيه إياه، وذكروا له أنه كان له أخ أكبر منه فخرج إلى البرية فهلك؛ فقال لهم‏:‏ أردت أن أرى أخاكم هذا الذي ذكرتم، لأعلم وجه محبة أبيكم إياه، وأعلم صدقكم؛ ويروى أنهم تركوا عنده شمعون رهينة، حتى يأتوا بأخيه بنيامين‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ قال يوسف للترجمان قل لهم‏:‏ لغتكم مخالفة للغتنا، وزيكم مخالف لزينا، فلعلكم جواسيس؛ فقالوا‏:‏ والله‏!‏ ما نحن بجواسيس، بل نحن بنو أب واحد، فهو شيخ صديق؛ قال‏:‏ فكم عدتكم‏؟‏ قالوا‏:‏ كنا اثني عشر فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك فيها؛ قال‏:‏ فأين الآخر‏؟‏ قالوا‏:‏ عند أبينا؛ قال‏:‏ فمن يعلم صدقكم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا يعرفنا ههنا أحد، وقد عرفناك أنسابنا، فبأي شيء تسكن نفسك إلينا‏؟‏ فقال يوسف‏{‏ائتوني بأخ لكم من أبيكم‏}‏ إن كنتم صادقين؛ فأنا أرضى بذلك

قوله تعالى‏{‏ألا ترون أني أوفي الكيل‏}‏ أي أتمه ولا أبخسه، وأزيدكم حمل بعير لأخيكم ويحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه رخص لهم في السعر فصار زيادة في الكيل‏.‏ والثاني‏:‏ أنه كال لهم بمكيال واف‏.‏ ‏}‏وأنا خير المنزلين‏}‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه خير المضيفين، لأنه أحسن ضيافتهم؛ قال مجاهد‏.‏ الثاني‏:‏ وهو محتمل؛ أي خير من نزلتم عليه من المأمونين؛ وهو على التأويل الأول مأخوذ من النزل وهو الطعام، وعلى الثاني من المنزل وهو الدار‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 60 ‏)‏

‏{‏فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي‏}‏ أي فلا أبيعكم شيئا فيما بعد، لأنه قد وفاهم كيلهم في هذه الحال‏.‏ ‏}‏ولا تقربون‏}‏ أي لا أنزلكم عندي منزلة القريب، ولم يرد أنهم يبعدون منه ولا يعودون إليه؛ لأنه على العود حثهم‏.‏ قال السدي‏:‏ وطلب منهم رهينة حتى يرجعوا؛ فارتهن شمعون عنده؛ قال الكلبي‏:‏ إنما اختار شمعون منهم لأنه كان يوم الجب أجملهم قولا، وأحسنهم رأيا‏.‏ و‏}‏تقربون‏}‏ في موضع جزم بالنهي، فلذلك حذفت منه النون وحذفت الياء؛ لأنه رأس آية؛ ولو كان خبرا لكان ‏}‏تقربون‏}‏ بفتح النون‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 61 ‏)‏

‏{‏قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا سنراود عنه أباه‏}‏ أي سنطلبه منه، ونسأله أن يرسله معنا‏.‏ ‏}‏وإنا لفاعلون‏}‏ أي لضامنون المجيء به، ومحتالون في ذلك‏.‏

مسألة‏:‏ إن قيل‏:‏ كيف استجاز يوسف إدخال الحزن على أبيه بطلب أخيه‏؟‏ قيل له‏:‏ عن هذا أربعة أجوبة‏:‏ أحدها‏:‏ يجوز أن يكون الله عز وجل أمره بذلك ابتلاء ليعقوب، ليعظم له الثواب؛ فاتبع أمره فيه‏.‏ الثاني‏:‏ يجوز أن يكون أراد بذلك أن ينبه يعقوب على حال يوسف عليهما السلام‏.‏ الثالث‏:‏ لتتضاعف المسرة ليعقوب برجوع ولديه عليه‏.‏ الرابع‏:‏ ليقدم سرور أخيه بالاجتماع معه قبل إخوته؛ لميل كان منه إليه؛ والأول أظهر‏.‏ والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 62 ‏)‏

‏{‏وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال لفتيته‏}‏ هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم؛ وهي اختيار أبي حاتم والنحاس وغيرهما‏.‏ وقرأ سائر الكوفيين ‏}‏لفتيانه‏}‏ وهو اختيار أبي عبيد؛ وقال‏:‏ هو في مصحف عبدالله كذلك‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ وهما لغتان جيدتان؛ مثل الصبيان والصبية قال النحاس‏{‏لفتيانه‏}‏ مخالف للسواد الأعظم؛ لأنه في السواد لا ألف فيه ولا نون، ولا يترك السواد المجتمع عليه لهذا الإسناد المنقطع؛ وأيضا فإن فتية أشبه من فتيان؛ لأن فتية عند العرب لأقل العدد، والقليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه‏.‏ وكان هؤلاء الفتية يسوون جهازهم، ولهذا أمكنهم جعل بضاعتهم في رحالهم‏.‏ ويجوز أن يكونوا أحرارا، وكانوا أعوانا له، وبضاعتهم أثمان ما اشتروه من الطعام‏.‏ وقيل‏:‏ كانت دراهم ودنانير‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ النعال والأدم ومتاع المسافر، ويسمى رحلا؛ قال ابن الأنباري‏:‏ يقال للوعاء رحل، وللبيت رحل‏.‏ وقال‏{‏لعلهم يعرفونها‏}‏ لجواز ألا تسلم في الطريق‏.‏ وقيل‏:‏ إنما فعل ذلك ليرجعوا إذا وجدوا ذلك؛ لعلمه أنهم لا يقبلون الطعام إلا بثمنه‏.‏ قيل‏:‏ ليستعينوا بذلك على الرجوع لشراء الطعام‏.‏ وقيل‏:‏ استقبح أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن الطعام‏.‏ وقيل‏:‏ ليروا فضله، ويرغبوا في الرجوع إليه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 63 ‏)‏

‏{‏فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل‏}‏ لأنه قال لهم‏{‏فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي‏}‏ وأخبروه بما كان من أمرهم وإكرامهم إياه، وأن شمعون مرتهن حتى يعلم صدق قولهم‏.‏ ‏}‏فأرسل معنا أخانا نكتل‏}‏ أي قالوا عند ذلك‏{‏فأرسل معنا أخانا نكتل‏}‏ والأصل نكتال؛ فحذفت الضمة من اللام للجزم، وحذفت الألف لالتقاء الساكنين‏.‏ وقراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم ‏}‏نكتل‏}‏ بالنون وقرأ سائر الكوفيين ‏}‏يكتل‏}‏ بالياء؛ والأول اختيار أبي عبيد، ليكونوا كلهم داخلين فيمن يكتال؛ وزعم أنه إذا كان بالياء كان للأخ وحده‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا لا يلزم؛ لأنه لا يخلو الكلام من أحد جهتين؛ أن يكون المعنى‏:‏ فأرسل أخانا يكتل معنا؛ فيكون للجميع، أو يكون التقدير على غير التقديم والتأخير؛ فيكون في الكلام دليل على الجميع، لقوله‏{‏فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي‏}‏‏.‏ ‏}‏وإنا له لحافظون‏}‏ من أن يناله سوء‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 64 ‏)‏

‏{‏قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل‏}‏ أي قد فرطتم في يوسف فكيف آمنكم على أخيه‏!‏‏.‏ ‏}‏فالله خير حفظا‏}‏ نصب على البيان، وهذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم‏.‏ وقرأ سائر الكوفيين ‏}‏حافظا‏}‏ على الحال‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ على البيان؛ وفي هذا دليل على أنه أجابهم إلى إرسال معهم؛ ومعنى الآية‏:‏ حفظ الله له خير من حفظكم إياه‏.‏ قال كعب الأحبار‏:‏ لما قال يعقوب‏{‏فالله خير حافظا‏}‏ قال الله تعالى‏:‏ وعزتي وجلالي لأردن عليك ابنيك كليهما بعدما توكلت علي

الآية رقم ‏(‏ 65 ‏)‏

‏{‏ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولما فتحوا متاعهم‏}‏ الآية ليس فيها معنى يشكل‏.‏ ‏}‏ما نبغي‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ استفهام في موضع نصب؛ والمعنى‏:‏ أي شيء نطلب وراء هذا‏؟‏‏!‏ وفي لنا الكيل، ورد علينا الثمن؛ أرادوا بذلك أن يطيبوا نفس أبيهم‏.‏ وقيل‏:‏ هي نافية؛ أي لا نبغي منك دراهم ولا بضاعة، بل تكفينا بضاعتنا هذه التي ردت إلينا‏.‏ وروي عن علقمة ‏}‏ردت إلينا‏}‏ بكسر الراء؛ لأن الأصل، رددت؛ فلما أدغم قلبت حركة الدال على الراء‏.‏ وقوله‏{‏ونمير أهلنا‏}‏ أي نجلب لهم الطعام؛ قال الشاعر‏:‏

بعثتك مائرا فمكثت حولا متى يأتي غياثك من تغيث

وقرأ السلمي بضم النون، أي نعينهم على الميرة‏.‏ ‏}‏ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير‏}‏ أي حمل بعير لبنيامين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 66 ‏)‏

‏{‏قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل‏}‏

قوله تعالى‏{‏تؤتون‏}‏ أي تعطوني‏.‏ ‏}‏موثقا من الله‏}‏ أي عهدا يوثق به‏.‏ قال السدي‏:‏ حلفوا بالله ليردنه إليه ولا يسلمونه؛ واللام في ‏}‏لتأتنني‏}‏ لام القسم‏.‏ ‏}‏إلا أن يحاط بكم‏}‏ قال مجاهد‏:‏ إلا أن تهلكوا أو تموتوا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إلا أن تغلبوا عليه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهو في موضع نصب‏.‏ ‏}‏فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل‏}‏ أي حافظ للحلف‏.‏ وقيل‏:‏ حفيظ للعهد قائم بالتدبير والعدل‏.‏

هذه الآية أصل في جواز الحمالة بالعين والوثيقة بالنفس؛ وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال مالك وجميع أصحابه وأكثر العلماء‏:‏ هي جائزة إذا كان المتحمل به مالا‏.‏ وقد ضعف الشافعي الحمالة بالوجه في المال؛ وله قول كقول مالك‏.‏ وقال عثمان البتي‏:‏ إذا تكفل بنفس في قصاص أو جراح فإنه إن لم يجيء به لزمه الدية وأرش الجراح، وكانت له في مال الجاني، إذ لا قصاص على الكفيل؛ فهذه ثلاثة أقوال في الحمالة بالوجه‏.‏ والصواب تفرقة مالك في ذلك، وأنها تكون في المال، ولا تكون في حد أو تعزير، على ما يأتي بيانه‏:‏

الآية رقم ‏(‏ 67 ‏)‏

‏{‏وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون‏}‏

لما عزموا على الخروج خشي عليهم العين؛ فأمرهم ألا يدخلوا مصر من باب واحد، وكانت مصر لها أربعة أبواب؛ وإنما خاف عليهم العين لكونهم أحد عشر رجلا لرجل واحد؛ وكانوا أهل جمال وكمال وبسطة؛ قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم‏.‏

إذا كان هذا معنى الآية فيكون فيها دليل على التحرز من العين، والعين حق؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر‏)‏‏.‏ وفي تعوذه عليه السلام‏:‏ ‏(‏أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة‏)‏ ما يدل على ذلك‏.‏

وروى مالك عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول‏:‏ اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، قال‏:‏ وكان سهل رجلا أبيض حسن الجلد قال فقال له عامر بن ربيعة‏:‏ ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء‏!‏ فوعك سهل مكانه واشتد وعكه، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أن سهلا وعك، وأنه غير رائح معك يا رسول الله؛ فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر؛ فقال رسول الله صلى الله عليه سلم‏:‏ ‏(‏علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت إن العين حق توضأ له‏)‏ فتوضأ عامر، فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس؛ في رواية ‏(‏اغتسل‏)‏ فغسل له عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره في قدح ثم صب عليه؛ فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس‏.‏ وركب سعد بن أبي وقاص يوما فنظرت إليه امرأة فقالت‏:‏ إن أميركم هذا ليعلم أنه أهضم الكشحين؛ فرجع إلى منزله فسقط، فبلغه ما قالت المرأة، فأرسل إليها فغسلت له؛ ففي هذين الحديثين أن العين حق، وأنها تقتل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا قول علماء الأمة، ومذهب، أهل السنة؛ وقد أنكرته طوائف من المبتدعة، وهم محجوجون بالسنة وإجماع علماء هذه الأمة، وبما يشاهد من ذلك في الوجود؛ فكم من رجل أدخلته العين القبر، وكم من جمل ظهير أدخلته القدر، لكن ذلك بمشيئة الله تعالى كما قال‏{‏وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله‏}‏البقرة‏:‏ 102‏]‏‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ رأيت رجلا عيونا سمع بقرة تحلب فأعجبه شخبها فقال‏:‏ أيتهن هذه‏؟‏ فقالوا‏:‏ الفلانية لبقرة أخرى يورون عنها، فهلكتا جميعا، المروى بها والمورى عنها‏.‏ قال الأصمعي‏.‏ وسمعته يقول‏:‏ إذا رأيت الشيء يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني‏.‏

واجب على كل مسلم أعجبه شيء أن يبرك؛ فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة؛ ألا ترى قوله عليه السلام لعامر‏:‏ ‏(‏ألا بركت‏)‏ فدل على أن العين لا تضر ولا تعدو إذا برك العائن، وأنها إنما تعدو إذا لم يبرك‏.‏ والتبريك أن يقول‏:‏ تبارك الله أحسن الخالقين‏!‏ اللهم بارك فيه‏.‏

العائن إذا أصاب بعينه ولم يبرك فإنه يؤمر بالاغتسال، ويجبر على ذلك إن أباه؛ لأن الأمر على الوجوب، لا سيما هذا؛ فإنه قد يخاف على المعين الهلاك، ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينتفع به أخوه ولا يضره هو، ولا سيما إذا كان بسببه وكان الجاني عليه‏.‏

من عرف بالإصابة بالعين منع من مداخلة الناس دفعا لضرره؛ وقد قال بعض العلماء‏:‏ يأمره الإمام بلزوم بيته؛ وإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به، ويكف أذاه عن الناس‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه ينفى؛ وحديث مالك الذي ذكرناه يرد هذه الأقوال؛ فإنه عليه السلام لم يأمر في عامر بحبس ولا بنفي، بل قد يكون الرجل الصالح عائنا، وأنه لا يقدح فيه ولا يفسق به؛ ومن قال‏:‏ يحبس ويؤمر بلزوم بيته‏.‏ فذلك احتياط ودفع ضرر، والله أعلم‏.‏

روى مالك عن حميد بن قيس المكي أنه قال‏:‏ دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابني جعفر بن أبي طالب فقال لحاضنتهما‏:‏ ‏(‏ما لي أراهما ضارعين‏)‏ فقالت حاضنتهما‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إنه تسرع إليهما العين، ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏استرقوا لهما فإنه لو سبق شيء القدر سبقته العين‏)‏‏.‏ وهذا الحديث منقطع، ولكنه محفوظ لأسماء بنت عميس الخثعمية عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة متصلة صحاح؛ وفيه أن الرقي مما يستدفع به البلاء، وأن العين تؤثر في الإنسان وتضرعه، أي تضعفه وتنحله؛ وذلك بقضاء الله تعالى وقدره‏.‏ ويقال‏:‏ إن العين أسرع إلى الصغار منها إلى الكبار، والله أعلم‏.‏

أمر صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة العائن بالاغتسال للمعين، وأمر هنا بالاسترقاء؛ قال علماؤنا‏:‏ إنما يسترقى من العين إذا لم يعرف العائن؛ وأما إذا عرف الذي أصابه بعينه فإنه يؤمر بالوضوء على حديث أبي أمامة، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما أغني عنكم من الله من شيء‏}‏ أي من شيء أحذره عليكم؛ أي لا ينفع الحذر مع القدر‏.‏ ‏}‏إن الحكم إلا لله‏}‏ أي الأمر والقضاء لله‏.‏ ‏}‏عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون‏}‏ أي اعتمدت ووثقت‏.‏ ‏}‏وعليه فليتوكل المتوكلون‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 68 ‏)‏

‏{‏ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم‏}‏ أي من أبواب شتى‏.‏ ‏}‏ما كان يغني عنهم من الله من شيء‏}‏ إن أراد إيقاع مكروه بهم‏.‏ ‏}‏إلا حاجة‏}‏ استثناء ليس من الأول‏.‏ ‏}‏في نفس يعقوب قضاها‏}‏ أي خاطر خطر بقلبه؛ وهو وصيته أن يتفرقوا؛ قال مجاهد‏:‏ خشية العين، وقد تقدم القول فيه‏.‏ وقيل‏:‏ لئلا يرى الملك عددهم وقوتهم فيبطش بهم حسدا أو حذرا؛ قاله بعض المتأخرين، واختاره النحاس، وقال‏:‏ ولا معنى للعين هاهنا‏.‏ ودلت هذه الآية على أن المسلم يجب عليه أن يحذر أخاه مما يخاف عليه، ويرشده إلى ما فيه طريق السلامة والنجاة؛ فإن الدين النصيحة، والمسلم أخو المسلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإنه‏}‏ يعني يعقوب‏.‏ ‏}‏لذو علم لما علمناه‏}‏ أي بأمر دينه‏.‏ وقيل‏{‏لذو علم‏}‏ أي عمل؛ فإن العلم أول أسباب العمل، فسمي بما هو بسببه‏.‏ ‏}‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ أي لا يعلمون ما يعلم يعقوب عليه السلام من أمر دينه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 69 ‏)‏

‏{‏ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه‏}‏ قال قتادة‏:‏ ضمه إليه، وأنزله معه‏.‏ وقيل‏:‏ أمر أن ينزل كل اثنين في منزل، فبقى أخوه منفردا فضمه إليه وقال‏:‏ أشفقت عليه من الوحدة، ‏}‏قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون‏}‏ قال له سرا من إخوته‏{‏إني أنا أخوك فلا تبتئس‏}‏ أي لا تحزن ‏}‏بما كانوا يعملون‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 70 ‏)‏

‏{‏فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه‏}‏ لما عرف بنيامين أنه يوسف قال له‏:‏ لا تردني إليهم، فقال‏:‏ قد علمت اغتمام يعقوب بي فيزداد غمه، فأبى بنيامين الخروج؛ فقال يوسف‏:‏ لا يمكن حبسك إلا بعد أن أنسبك إلى ما لا يجمل بك‏:‏ فقال‏:‏ لا أبالي‏!‏ فدس الصاع في رحله؛ إما بنفسه من حيث لم يطلع عليه أحد، أو أمر بعض خواصه بذلك‏.‏ والتجهيز التسريح وتنجيز الأمر؛ ومنه جهز على الجريح أي قتله، ونجز أمره‏.‏ والسقاية والصواع شيء واحد؛ إناء له رأسان في وسطه مقبض، كان الملك يشرب منه من الرأس الواحد، ويكال الطعام بالرأس الآخر؛ قاله النقاش عن ابن عباس، وكل شيء يشرب به فهو صواع؛ وأنشد‏:‏

نشرب الخمر بالصواع جهارا

واختلف في جنسه؛ فروى شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ كان صواع الملك شيء من فضة يشبه المكوك، من فضة مرصع بالجوهر، يجعل على الرأس؛ وكان للعباس واحد في الجاهلية، وسأل نافع بن الأزرق ما الصواع‏؟‏ قال‏:‏ الإناء؛ قال فيه الأعشى‏:‏

له درمك في رأسه ومشارب وقدر وطباخ وصاع وديسق

وقال عكرمة‏:‏ كان من فضة‏.‏ وقال عبدالرحمن بن زيد‏:‏ كان من ذهب؛ وبه كال طعامهم مبالغة في إكرامهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنما كان يكال به لعزة الطعام‏.‏ والصاع يذكر ويؤنث؛ فمن أنثه قال‏:‏ أصوع؛ مثل أدور، ومن ذكره قال أصواع؛ مثل أثواب‏.‏ وقال مجاهد وأبو صالح‏:‏ الصاع الطر جهالة بلغة حمير‏.‏ وفيه قراءات‏{‏صواع‏}‏ قراءة العامة؛ و‏}‏صوغ‏}‏ بالغين المعجمة، وهي قراءة يحيى بن يعمر؛ قال‏:‏ وكان إناء أصيغ من ذهب‏.‏ ‏}‏وصوع‏}‏ بالعين غير المعجمة قراءة أبي رجا‏.‏ ‏}‏وصوع‏}‏ بصاد مضمومة وواو ساكنة وعين غير معجمة قراءة أبي‏.‏ و‏}‏صياع‏}‏ بياء بين الصاد والألف؛ قراءة سعيد بن جبير‏.‏ ‏}‏وصاع‏}‏ بألف بين الصاد والعين؛ وهي قراءة أبي هريرة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون‏}‏ أي نادى مناد وأعلم‏.‏ ‏}‏وأذن‏}‏ للتكثير؛ فكأنه نادى مرارا ‏}‏أيتها العير‏}‏‏.‏ والعير ما امتير عليه من الحمير والإبل والبغال‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كان عيرهم حميرا‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ العير الإبل المرحولة المركوبة؛ والمعنى‏:‏ يا أصحاب العير، كقوله‏{‏واسأل القرية‏}‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ ويا خيل الله اركبي‏:‏ أي يا أصحاب خيل الله، وسيأتي‏.‏ وهنا اعتراضان‏:‏ الأول‏:‏ إن قيل‏:‏ كيف رضي بنيامين بالقعود طوعا وفيه عقوق الأب بزيادة الحزن، ووافقه على ذلك يوسف‏؟‏ وكيف نسب يوسف السرقة إلى إخوته وهم براء وهو - الثاني - فالجواب عن الأول‏:‏ أن الحزن كان قد غلب على يعقوب بحيث لا يؤثر فيه فقد بنيامين كل التأثير، أولا تراه لما فقده قال‏{‏يا أسفى على يوسف‏}‏يوسف‏:‏ 84‏]‏ ولم يعرج على بنيامين؛ ولعل يوسف إنما وافقه على القعود بوحي؛ فلا اعتراض‏.‏ وأما نسبة يوسف السرقة إلى إخوته فالجواب‏:‏ أن القوم كانوا قد سرقوه من أبيه فألقوه في الجب، ثم باعوه؛ فاستحقوا هذا الاسم بذلك الفعل، فصدق إطلاق ذلك عليهم‏.‏ جواب آخر - وهو أنه أراد أيتها العير حالكم حال السراق؛ والمعنى‏:‏ إن شيئا لغيركم صار عندكم من غير رضا الملك ولا علمه‏.‏ جواب آخر - وهو أن ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه، وفصله عنهم إليه، وهذا بناء على أن بنيامين لم يعلم بدس الصاع في رحله، ولا أخبره بنفسه‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن معنى الكلام الاستفهام؛ أي أو إنكم لسارقون‏؟‏ كقوله‏{‏وتلك نعمة‏}‏الشعراء‏:‏ 22‏]‏ أي أو تلك نعمة تمنها علي‏؟‏ والغرض ألا يعزى إلى يوسف صلى الله عليه وسلم الكذب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 71 ‏:‏ 72 ‏)‏

‏{‏قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون، قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم‏}‏‏.‏ البعير هنا الجمل في قول أكثر المفسرين‏.‏ وقيل‏:‏ إنه الحمار، وهي لغة لبعض العرب؛ قاله مجاهد واختاره‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الزعيم هو المؤذن الذي قال‏{‏أيتها العير‏}‏‏.‏ والزعيم والكفيل والحميل والضمين والقبيل سواء والزعيم الرئيس‏.‏ قال‏:‏

وإني زعيم إن رجعت مملكا بسير ترى منه الفرانق أزورا

وقالت ليلى الأخيلية ترثي أخاها‏:‏

ومخرق عنه القميص تخاله يوم اللقاء من الحياء سقيما

حتى إذا رفع اللواء رأيته تحت اللواء على الخميس زعيما

إن قيل‏:‏ كيف ضمن حمل البعير وهو مجهول، وضمان المجهول لا يصح‏؟‏ قيل له‏:‏ حمل البعير كان معينا معلوما عندهم كالوسق؛ فصح ضمانه، غير أنه كان بدل مال للسارق، ولا يحل للسارق ذلك، فلعله كان يصح في شرعهم أو كان هذا جعالة، وبذل مال لمن كان يفتش ويطلب‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ في هذه الآية دليلان‏:‏ أحدهما‏:‏ جواز الجُعْل وقد أجيز للضرورة؛ فإنه يجوز فيه من الجهالة ما لا يجوز‏.‏ في غيره؛ فإذا قال الرجل‏:‏ من فعل كذا فله كذا صح‏.‏ وشأن الجعل أن يكون أحد الطرفين معلوما والآخر مجهولا للضرورة إليه؛ بخلاف الإجارة؛ فإنه يتقدر فيها العوض والمعوض من الجهتين؛ وهو من العقود الجائزة التي يجوز لأحدهما فسخه؛ إلا أن المجعول له يجوز أن يفسخه قبل الشروع وبعده، إذا رضي بإسقاط حقه، وليس للجاعل أن يفسخه إذا شرع المجعول له في العمل‏.‏ ولا يشترط في عقد الجعل حضور المتعاقدين، كسائر العقود؛ لقوله‏{‏ولمن جاء به حمل بعير‏}‏ وبهذا كله قال الشافعي‏.‏

متى قال الإنسان، من جاء بعبدي الآبق فله دينار لزمه ما جعله فيه إذا جاء به؛ فلو جاء به من غير ضمان لزمه إذا جاء به على طلب الأجرة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من جاء بآبق فله أربعون درهما‏)‏ ولم يفصل بين من جاء به من عقد ضمان أو غير عقد‏.‏ قال ابن خويز منداد ولهذا قال أصحابنا‏:‏ إن كان ممن يفعل بالإنسان ما يجب عليه أن يفعله بنفسه من مصالحه لزمه ذلك، وكان له أجر مثله إن كان ممن يفعل ذلك بالأجر‏.‏

قلت‏:‏ وخالفنا في هذا كله الشافعي‏.‏

الدليل الثاني‏:‏ جواز الكفالة على الرجل؛ لأن المؤذن الضامن هو غير يوسف عليه السلام، قال علماؤنا‏:‏ إذا قال الرجل تحملت أو تكفلت أو ضمنت أو وأنا حميل لك أو زعيم أو كفيل أو ضامن أو قبيل، أو هو لك عندي أو علي أو إلي أو قبلي فذلك كله حمالة لازمة، وقد اختلف الفقهاء فيمن تكفل بالنفس أو بالوجه، هل يلزمه ضمان المال أم لا‏؟‏ فقال الكوفيون‏:‏ من تكفل بنفس رجل لم يلزمه الحق الذي على المطلوب إن مات؛ وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه‏.‏ وقال مالك والليث والأوزاعي‏:‏ إذا تكفل بنفسه وعليه مال فإنه إن لم يأت به غرم المال، ويرجع به إلى المطلوب؛ فإن اشترط ضمان نفسه أو وجهه وقال‏:‏ لا أضمن المال فلا شيء عليه من المال؛ والحجة لمن أوجب غرم المال أن الكفيل قد علم أن المضمون وجهه لا يطلب بدم، وإنما يطلب بمال؛ فإذا ضمنه له ولم يأته به فكأنه فوته عليه، وعزه منه؛ فلذلك لزمه المال‏.‏ واحتج الطحاوي للكوفيين فقال‏:‏ أما ضمان المال بموت المكفول به فلا معنى له؛ لأنه إنما تكفل بالنفس ولم يتكفل بالمال، فمحال أن يلزمه ما لم يتكفل به‏.‏

واختلف العلماء إذا تكفل رجل عن رجل بمال؛ هل للطالب أن يأخذ من شاء منهما‏؟‏ فقال الثوري والكوفيون والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق‏:‏ يأخذ من شاء حتى يستوفي حقه؛ وهذا كان قول مالك ثم رجع عنه فقال‏:‏ لا يؤخذ الكفيل إلا أن يفلس الغريم أو يغيب؛ لأن التبدية بالذي عليه الحق أولى، إلا أن يكون معدما فإنه يؤخذ من الحميل، لأنه معذور في أخذه في هذه الحالة؛ وهذا قول حسن‏.‏ والقياس أن للرجل مطالبة أي الرجلين شاء‏.‏ وقال ابن أبي ليلى‏:‏ إذا ضمن الرجل عن صاحبه ما لا تحول على الكفيل وبرئ صاحب، الأصل، إلا أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ أيهما شاء؛ واحتج ببراءة الميت من الدين، بضمان أبي قتادة، وبنحوه قال أبو ثور‏.‏

الزعامة لا تكون إلا في الحقوق التي تجوز النيابة فيها، مما يتعلق بالذمة من الأموال، وكان ثابتا مستقرا؛ فلا تصح الحمالة بالكتابة لأنها ليست بدين ثابت مستقر؛ لأن العبد إن عجز رق وانفسخت الكتابة؛ وأما كل حق لا يقوم به أحد عن أحد كالحدود فلا كفالة فيه، ويسجن المدعى عليه الحد، حتى ينظر في أمره‏.‏

وشذ أبو يوسف ومحمد فأجازا الكفالة في الحدود والقصاص، وقالا‏:‏ إذا قال المقذوف أو المدعي القصاص بينتي حاضرة كفله ثلاثة أيام؛ واحتج لهم الطحاوي بما رواه حمزة بن عمرو عن عمر وابن مسعود وجرير بن عبدالله والأشعث أنهم حكموا بالكفالة بالنفس بمحضر الصحابة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 73 ‏:‏ 75 ‏)‏

‏{‏قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين، قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين، قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض‏}‏ يروى أنهم كانوا لا ينزلون على أحد ظلما، ولا يرعون زرع أحد، وأنهم جمعوا على أفواه إبلهم الأكمة لئلا تعيث في زروع الناس‏.‏ ثم قال‏{‏وما كنا سارقين‏}‏ يروى أنهم ردوا البضاعة التي كانت في رحالهم؛ أي فمن رد ما وجد فكيف يكون سارقا‏؟‏ ‏!‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين‏}‏ المعنى‏:‏ فما جزاء الفاعل إن بان كذبكم‏؟‏ فأجاب إخوة يوسف‏{‏جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه‏}‏ أي يستعبد ويسترق‏.‏ ‏}‏فجزاؤه‏}‏ مبتدأ، و‏}‏من وجد في رحله‏}‏ خبره؛ والتقدير‏:‏ جزاؤه استعباد من وجد في رحله؛ فهو كناية عن الاستعباد؛ وفي الجملة معنى التوكيد، كما تقول‏:‏ جزاء من سرق القطع فهذا جزاؤه‏.‏ ‏}‏كذلك نجزي الظالمين‏}‏ أي كذلك نفعل في الظالمين إذا سرقوا أن يسترقوا، وكان هذا من دين يعقوب عليه السلام وحكمه‏.‏ وقولهم هذا قول من لم يسترب نفسه؛ لأنهم التزموا استرقاق من وجد في رحله، وكان حكم السارق عند أهل مصر أن يغرم ضعفي ما أخذ؛ قاله الحسن والسدي وغيرهما‏.‏ مسألة‏:‏ قد تقدم في سورة ‏}‏المائدة‏}‏ أن القطع في السرقة ناسخ لما تقدم من الشرائع، أو لما كان في شرع يعقوب من استرقاق السارق، والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 76 ‏)‏

‏{‏فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه‏}‏ إنما بدأ يوسف برحالهم لنفي التهمة والريبة من قلوبهم إن بدأ بوعاء أخيه‏.‏ والوعاء يقال بضم الواو وكسرها، لغتان؛ وهو ما يحفظ فيه المتاع ويصونه‏.‏ ‏}‏ثم استخرجها من وعاء أخيه‏}‏ يعني بنيامين؛ أي استخرج السقاية أو الصواع عند من يؤنث، وقال‏{‏ولمن جاء به‏}‏يوسف‏:‏ 72‏]‏ فذكر؛ فلما رأى ذلك إخوته نكسوا رؤوسهم، وظنوا الظنون كلها، وأقبلوا عليه وقالوا ويلك يا بنيامين‏!‏ ما رأينا كاليوم قط، ولدت أمك ‏}‏راحيل‏}‏ أخوين لصين‏!‏ قال لهم أخوهم‏:‏ والله ما سرقته، ولا علم لي بمن وضعه في متاعي‏.‏ ويروى أنهم قالوا له‏:‏ يا بنيامين‏!‏ أسرقت‏؟‏ قال‏:‏ لا والله؛ قالوا‏:‏ فمن جعل الصواع في رحلك‏؟‏ قال‏:‏ الذي جعل البضاعة في رحالكم‏.‏ ويقال‏:‏ إن المفتش كان إذا فرغ من رجل رجل استغفر الله عز وجل تائبا من فعله ذلك؛ وظاهر كلام قتادة وغيره أن المستغفر كان يوسف؛ لأنه كان يفتشهم ويعلم أين الصواع حتى فرغ منهم، وانتهى إلى رحل بنيامين فقال‏:‏ ما أظن هذا الفتى رضي بهذا ولا أخذ شيئا، فقال له إخوته‏:‏ والله لا نبرح حتى تفتشه؛ فهو أطيب لنفسك ونفوسنا؛ ففتش فأخرج السقاية؛ وهذا التفتيش من يوسف يقتضي أن المؤذن سرقهم برأيه؛ فيقال‏:‏ إن جميع ذلك كان أمر من الله تعالى؛ ويقوي ذلك قوله تعالى‏{‏كذلك كدنا ليوسف‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏كدنا‏}‏ معناه صنعنا؛ عن ابن عباس‏.‏ القتبي‏:‏ دبرنا‏.‏ ابن الأنباري‏:‏ أردنا؛ قال الشاعر‏:‏

كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من عهد الصبا ما قد مضى

وفيه جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة، ولا هدمت أصلا، خلافا لأبي حنيفة في تجويزه الحيل وإن خالفت الأصول، وخرمت التحليل‏.‏

أجمع العلماء على أن للرجل قبل حلول الحول التصرف في مال بالبيع والهبة إذا لم ينو الفرار من الصدقة؛ وأجمعوا على أنه إذا حال الحول وأظل الساعي أنه لا يحل له التحيل ولا النقصان، ولا أن يفرق بين مجتمع، ولا أن يجمع بين متفرق‏.‏ وقال مالك‏:‏ إذا فوت من ماله شيئا ينوي به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهر‏.‏ أو نحوه لزمته الزكاة‏.‏ عند الحول، أخذا منه بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏خشية الصدقة‏)‏‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن نوى بتفريقه الفرار من الزكاة قبل الحول بيوم لا يضره؛ لأن الزكاة لا تلزم إلا بتمام الحول، ولا يتوجه إليه معنى قوله‏:‏ ‏(‏خشية الصدقة‏)‏ إلا حينئذ‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ سمعت أبا بكر محمد بن الوليد الفهري وغيره يقول‏:‏ كان شيخنا قاضي القضاة أبو عبدالله محمد بن علي الدامغاني صاحب عشرات الآلاف دينار من المال، فكان إذا جاء رأس الحول دعا بنيه فقال لهم‏:‏ كبرت سني، وضعفت قوتي، وهذا مال لا أحتاجه فهو لكم، ثم يخرجه فيحمله الرجال على أعناقهم إلى دور بنيه؛ فإذا جاء رأس الحول ودعا بنية لأمر قالوا‏:‏ يا أبانا‏!‏ إنما أملنا حياتك، وأما المال فأي رغبة لنا فيه ما دمت حيا؛ أنت ومالك لنا، فخذه إليك، ويسير الرجال به حتى يضعوه بين يديه، فيرده إلى موضعه؛ يريد بتبديل الملك إسقاط الزكاة على رأي أبي حنيفة في التفريق بين المجتمع، والجمع بين المتفرق؛ وهذا خطب عظيم وقد صنف البخاري رضي الله عنه في جامعه كتابا مقصود فقال‏{‏كتاب الحيل‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ وترجم فيه أبوابا منها‏{‏باب الزكاة وألا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة‏}‏‏.‏ وأدخل فيه حديث أنس بن مالك، وأن أبا بكر كتب له فريضة الصدقة؛ وحديث طلحة بن عبيدالله أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس‏.‏ الحديث؛ وفي آخره‏:‏ ‏(‏أفلح إن صدق‏)‏ أو ‏(‏دخل الجنة إن صدق‏)‏‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ في عشرين ومائة بعير حقتان؛ فإن أهلكها متعمدا أو وهبها أو احتال فيها فرارا من الزكاة فلا شيء عليه؛ ثم أردف بحديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان ويقول أنا كنزك‏)‏ الحديث، قال المهلب‏:‏ إنما قصد البخاري في هذا الباب أن يعرفك أن كل حيلة يتحيل بها أحد في إسقاط الزكاة فإن إثم ذلك عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما منع من جمع الغنم وتفريقها خشية الصدقة فهم منه هذا المعنى، وفهم من قوله‏:‏ ‏(‏أفلح إن صدق‏)‏ أن من رام أن ينقض شيئا من فرائض الله بحيلة يحتالها أنه لا يفلح، ولا يقوم بذلك عذره عند الله؛ وما أجازه الفقهاء من تصرف صاحب المال في ماله قرب حلول الحول إنما هو ما لم يرد بذلك الهرب من الزكاة؛ ومن نوى ذلك فالإثم، عنه غير ساقط، والله حسيبه؛ وهو كمن فر من صيام رمضان قبل رؤية الهلال بيوم، واستعمل سفرا لا يحتاج إليه رغبة عن فرض الله الذي كتبه الله على المؤمنين؛ فالوعيد متوجه عليه؛ ألا ترى عقوبة من منع الزكاة يوم القيامة بأي وجه متعمدا كيف تطؤه الإبل، ويمثل له ماله شجاعا أقرع‏!‏ ‏؟‏ وهذا يدل على أن الفرار من الزكاة لا يحل، وهو مطالب بذلك في الآخرة‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ قال بعض علماء الشافعية في قوله تعالى‏{‏وكذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه‏}‏‏.‏ دليل على وجه الحيلة إلى المباح، واستخراج الحقوق؛ وهذا وهم عظيم؛ وقوله تعالى‏{‏وكذلك كدنا ليوسف في الأرض‏}‏ قيل فيه‏:‏ كما مكنا ليوسف ملك نفسه عن امرأة العزيز مكنا له ملك الأرض عن العزيز، أو مثله مما لا يشبه ما ذكره‏.‏ قال الشفعوي‏:‏ ومثله قوله عز وجل‏{‏وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث‏}‏ص‏:‏44‏]‏ وهذا ليس حيلة، إنما هو حمل لليمين على الألفاظ أو على المقاصد‏.‏ قال الشفعوي‏:‏ ومثله حديث أبي سعيد الخدري في عامل خيبر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جنيب، الحديث؛ ومقصود الشافعية من هذا الحديث أنه عليه السلام أمره أن يبيع جمعا ويبتاع جنيبا من الذي باع منه الجمع أو من غيره‏.‏ وقالت المالكية‏:‏ معناه من غيره؛ لئلا يكون جنيبا بجمع، والدراهم ربا؛ كما قال ابن عباس‏:‏ جريرة بجريرة والدراهم ربا‏.‏

قوله تعالى‏{‏في دين الملك‏}‏ أي سلطانه، عن ابن عباس ابن عيسى‏:‏ عاداته، أي يظلم بلا حجة‏.‏ مجاهد‏:‏ في حكمه؛ وهو استرقاق السراق‏.‏ ‏}‏إلا أن يشاء الله‏}‏ أي إلا بأن يشاء الله أن يجعل السقاية في رحله تعلة وعذرا له‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بل كان حكم الملك الضرب والغرم ضعفين، ولكن شاء الله أن يجري على ألسنتهم حكم بني، إسرائيل، على ما تقدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏نرفع درجات من نشاء‏}‏ أي بالعلم والإيمان‏.‏ وقرئ ‏}‏نرفع درجات من نشاء‏}‏ بمعنى‏:‏ نرفع من نشاء درجات؛ وقد مضى في ‏}‏الأنعام‏}‏ وقوله‏{‏وفوق كل ذي علم عليم‏}‏ روى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ يكون ذا أعلم من ذا وذا أعلم من ذا، والله فوق كل عالم‏.‏ وروى سفيان عن عبدالأعلى عن سعيد بن جبير قال‏:‏ كنا عند ابن عباس رحمه الله فتحدث بحديث فتعجب منه رجل فقال‏:‏ سبحان الله‏!‏ وفوق كل ذي علم عليم؛ فقال ابن عباس‏:‏ بئس ما قلت؛ الله العليم وهو فوق كل عالم‏.‏

الآية رقم ‏(‏77 ‏)‏

‏{‏قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل‏}‏ اقتدى‏:‏ أي اقتدى بأخيه، ولو اقتدى بنا ما سرق؛ وإنما قالوا ذلك ليبرؤوا من فعله، لأنه ليس من أمهم؛ وأنه إن سرق فقد جذبه عرق أخيه السارق؛ لأن الاشتراك في الأنساب يشاكل في الأخلاق‏.‏ وقد اختلفوا في السرقة التي نسبوا إلى يوسف؛ فروي عن مجاهد وغيره أن عمة يوسف بنت إسحاق كانت أكبر من يعقوب، وكانت صارت إليها منطقة إسحاق لسنها؛ لأنهم كانوا يتوارثون بالسن، وهذا مما نسخ حكمه بشرعنا، وكان من سرق استعبد‏.‏ وكانت عمة يوسف حضنته وأحبته حبا شديدا؛ فلما ترعرع وشب فال لها يعقوب‏:‏ سلمي يوسف إلي، فلست أقدر أن يغيب عني ساعة؛ فولعت به، وأشفقت من فراقه؛ فقالت له‏:‏ دعه عندي أياما أنظر إليه فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق، فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت‏:‏ لقد فقدت منطقة إسحاق، فانظروا من أخذها ومن أصابها؛ فالتمست ثم فالت‏:‏ اكشفوا أهل البيت فكشفوا؛ فوجدت مع يوسف‏.‏ فقالت‏:‏ إنه والله لي سلم أصنع فيه ما شئت؛ ثم أتاها يعقوب فأخبرته الخبر، فقال لها‏:‏ أنت وذلك، إن كان فعل ذلك فهو سلم لك؛ فأمسكته حتى ماتت؛ فبذلك عيره إخوته في قولهم‏{‏إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل‏}‏ ومن ههنا تعلم يوسف وضع السقاية في رحل أخيه كما عملت به عمته‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ إنما أمرته أن يسرق صنما كان لجده أبي أمه، فسرقه وكسره وألقاه على الطريق، وكان ذلك منهما تغييرا للمنكر؛ فرموه بالسرقة وعيروه بها، وقال قتادة‏.‏ وفي كتاب الزجاج‏:‏ أنه كان صنما ذهب‏.‏ وقال عطية العوفي‏:‏ إنه كان مع إخوته على طعام فنظر إلى عرق فخبأه فغيره بذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إنه كان يسرق من طعام المائدة للمساكين؛ حكاه ابن عسى وقيل‏:‏ إنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إليه؛ قاله الحسن

قوله تعالى‏{‏فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم‏}‏ أي أسر في نفسه قولهم ‏}‏إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل‏}‏ قاله ابن شجرة وابن عيسى‏.‏ وقيل‏:‏ إنه أسر في نفسه قوله‏{‏أنتم شر مكانا‏}‏ ثم جهر فقال‏{‏والله أعلم بما تصفون‏}‏‏.‏ قاله ابن عباس، أي أنتم شر مكانا ممن نسبتموه إلى هذه السرقة‏.‏ ومعنى قوله‏{‏والله أعلم بما تصفون‏}‏ أي الله أعلم أن ما قلتم كذب، وإن كانت لله رضا‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن إخوة يوسف في ذلك الوقت ما كانوا أنبياء‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 78 ‏)‏

‏{‏قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه‏}‏ خاطبوه باسم العزيز إذ كان في تلك اللحظة بعزل الأول أو موته‏.‏ وقولهم‏{‏إن له أبا شيخا كبيرا‏}‏ أي كبير القدر، ولم يريدوا كبر السن؛ لأن ذلك معروف من حال الشيء‏.‏ ‏}‏فخذ أحدنا مكانه‏}‏ أي عبدا بدله؛ وقد قيل‏:‏ إن هذا مجاز؛ لأنهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر يسترق بدل من قد أحكمت السنة عندهم رقه؛ وإنما هذا كما تقول لمن تكره فعله‏:‏ اقتلني ولا تفعل كذا وكذا، وأنت لا تريد أن يقتلك، ولكنك مبالغ في استنزاله‏.‏ ويحتمل أن يكون قولهم‏{‏فخذ أحدنا مكان‏}‏ حقيقة؛ وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يروا استرقاق حر، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الحمالة؛ أي خذ أحدنا مكانه‏.‏ حتى ينصرف إليك صاحبك؛ ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه؛ ويعرف يعقوب جلية الأمر؛ فمنع يوسف عليه السلام من ذلك، إذ الحمالة في الحدود ونحوها - بمعنى إحضار المضمون فقط - جائزة مع التراضي، غير لازمة إذا أبى الطالب؛ وأما الحمالة في مثل هذا على أن يلزم الحميل ما كان يلزم المضمون من عقوبة، فلا يجوز إجماعا‏.‏ وفي ‏}‏الواضحة‏}‏‏:‏ إن الحمالة في الوجه فقط في جميع الحدود جائزة، إلا في النفس‏.‏ وجمهور الفقهاء على جواز الكفالة في النفس‏.‏ واختلف فيها عن الشافعي؛ فمرة ضعفها، ومرة أجازها‏.‏

قوله تعالى‏{‏إنا نراك من المحسنين‏}‏ يحتمل أن يريدوا وصفه بما رأوا من إحسانه في جميع أفعاله معهم، ويحتمل أن يريدوا‏:‏ إنا نرى لك إحسانه علينا في هذه اليد أن أسديتها إلينا؛ وهذا تأويل ابن إسحاق‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 79 ‏)‏

‏{‏قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال معاذ الله‏}‏ مصدر‏.‏ ‏}‏أن نأخذ‏}‏ في موضع نصب؛ أي من أن نأخذ‏.‏ ‏}‏إلا من وجدنا‏}‏ في موضع نصب بـ ‏}‏أخذ‏}‏‏.‏ ‏}‏متاعنا عنده‏}‏ أي معاذ الله أن نأخذ البريء بالمجرم ونخالف ما تعاقدنا عليه‏.‏ ‏}‏إنا إذا لظالمون‏}‏ أي أن نأخذ غيره‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 80 ‏)‏

‏{‏فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما استيئسوا منه‏}‏ أي يئسوا؛ مثل عجب واستعجب، وسخر واستسخر‏.‏ ‏}‏خلصوا‏}‏ أي انفردوا وليس هو معهم‏.‏ ‏}‏نجيا‏}‏ نصب على الحال من المضمر في ‏}‏خلصوا‏}‏ وهو واحد يؤدي عن جمع، كما في هذه الآية؛ ويقع على الواحد كقوله تعالى‏{‏وقربناه نجيا‏}‏مريم‏:‏52‏]‏ وجمعه أنجية؛ قال الشاعر‏:‏

إني إذا ما القوم كانوا أنجية واضطرب القوم اضطراب الأرشية

هناك أوصيني ولا توصي بيه

وقرأ ابن كثير‏{‏استايسوا‏}‏ ‏}‏ولا تايسوا‏}‏ ‏}‏إنه لا يايس‏}‏ ‏}‏أفلم يايس‏}‏ بألف من غير همز على القلب؛ قدمت الهمزة وأخرت الياء، ثم قلبت الهمزة ألفا لأنها ساكنة قبلها فتحة؛ والأصل قراءة الجماعة؛ لأن المصدر ما جاء إلا على تقديم الياء - يأسا - والإياس ليس بمصدر أيس؛ بل هو مصدر أسته أوسا وإياسا أي أعطيته‏.‏ وقال قوم‏:‏ أيس ويئس لغتان؛ أي فلما يئسوا من رد أخيهم إليهم تشاوروا فيما بينهم لا يخالطهم غيرهم من الناس، يتناجون فيما عرض لهم‏.‏ والنجي فعيل بمعنى المناجي‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال كبيرهم‏}‏ قال قتادة‏:‏ وهو روبيل، كان أكبرهم في السن‏.‏ مجاهد‏:‏ هو شمعون، كان أكبرهم في الرأي‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يهوذا؛ وكان أعقلهم‏.‏ وقال محمد بن كعب وابن إسحاق‏:‏ هو لاوى، وهو أبو الأنبياء‏.‏ ‏}‏ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله‏}‏ أي عهدا من الله في حفظ ابنه، ورده إليه‏.‏ ‏}‏ومن قبل ما فرطتم في يوسف‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ في محل نصب عطفا على ‏}‏أن‏}‏ والمعنى‏:‏ ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله، وتعلموا تفريطكم في يوسف؛ ذكر النحاس وغيره‏.‏ و‏}‏من‏}‏ في قوله‏{‏ومن قبل‏}‏ متعلقة بـ ‏}‏تعلموا‏}‏‏.‏ ويجوز أن تكون ‏}‏ما‏}‏ زائدة؛ فيتعلق الظرفان اللذان هما ‏}‏من قبل‏}‏ و‏}‏في يوسف‏}‏ بالفعل وهو ‏}‏فرطتم‏}‏‏.‏ ويجوز أن تكون ‏}‏ما‏}‏ والفعل مصدرا، و‏}‏من قبل‏}‏ متعلقا بفعل مضمر؛ التقدير‏:‏ تفريطكم في يوسف واقع من قبل؛ فما والفعل في موضع رفع بالابتداء، والخبر هو الفعل المضمر الذي يتعلق به ‏}‏من قبل‏}‏‏.‏ ‏}‏فلن أبرح الأرض‏}‏ أي ألزمها، ولا أبرح مقيما فيها؛ يقال‏:‏ برح براحا وبروحا أي زال، فإذا دخل النفي صار مثبتا‏.‏ ‏}‏حتى يأذن لي أبي‏}‏ بالرجوع فإني أستحي منه‏.‏ ‏}‏أو يحكم الله لي‏}‏ بالممر مع أخي فأمضي معه إلى أبي‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أو يحكم الله لي بالسيف فأحارب واخذ أخي، أو أعجز فأنصرف بعذر، وذلك أن يعقوب قال‏{‏لتأتنني به إلا أن يحاط بكم‏}‏يوسف‏:‏ 66‏]‏ ومن حارب وعجز فقد أحيط به‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ وكان يهوذا إذا غضب وأخذ السيف فلا يرد وجهه مائة ألف؛ يقوم شعره في صدره مثل المسال فتنفذ من ثيابه‏.‏ وجاء في الخبر أن يهوذا قال لإخوته - وكان أشدهم غضبا - ‏:‏ إما أن تكفوني الملك ومن معه أكفكم أهل مصر؛ وإما أن تكفوني أهل مصر أكفكم الملك ومن معه؛ قالوا‏:‏ بل أكفنا الملك ومن معه نكفك أهل مصر، فبعث واحدا من إخوته فعدوا أسواق مصر فوجدوا فيها تسعة أسواق، فأخذ كل، واحد منهم سوقا؛ ثم إن يهوذا دخل على يوسف وقال‏:‏ أيها الملك‏!‏ لئن لم تخل معنا أخانا لأصيحن صيحة لا تبقي في مدينتك حاملا إلا أسقطت ما في بطنها؛ وكان ذلك خاصة فيهم عند الغضب، فأغضبه يوسف وأسمعه كلمه، فغضب يهوذا واشتد غضبه، وانتبجت ‏؟‏‏؟‏ شعراته؛ وكذا كان كل واحد من بني يعقوب؛ كان إذا غضب، اقشعر جلده، وانتفخ جسده، وظهرت شعرات ظهره، من تحت الثوب، حتى تقطر من كل شعرة قطرة دم؛ وإذا ضرب الأرض برجله تزلزلت وتهدم البنيان، وإن صاح صيحة لم تسمعه حامل من النساء والبهائم والطير إلا وضعت ما في بطنها، تماما أو غير تمام؛ فلا يهدأ غضبه إلا أن يسفك دما، أو تمسكه يد من نسل يعقوب؛ فلما علم يوسف أن غضب أخيه يهوذا قد تم وكمل كلم ولدا له صغيرا بالقبطية، وأمره أن يضع يده بين كتفي يهوذا من حيث لا يراه؛ ففعل فسكن غضبه وألقى السيف فالتفت يمينا وشمالا لعله يرى أحدا من إخوته فلم يره؛ فخرج مسرعا إلى إخوته وقال‏:‏ هل حضرني منكم أحد‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏!‏ قال‏:‏ فأين ذهب شمعون‏؟‏ قالوا‏:‏ ذهب إلى الجبل؛ فخرج فلقيه، وقد احتمل صخرة عظيمة؛ قال‏:‏ ما تصنع بهذه‏؟‏ قال أذهب إلى السوق الذي وقع في نصيبي أشدخ بها رؤوس كل من فيه؛ قال‏:‏ فارجع فردها أو ألقها في البحر، ولا تحدثن حدثا؛ فوالذي اتخذ إبراهيم خليلا‏!‏ لقد مسني كف من نسل يعقوب‏.‏ ثم دخلوا على يوسف، وكان يوسف أشدهم بطشا، فقال‏:‏ يا معشر العبرانيين‏!‏ أتظنون أنه ليس أحد أشد منكم قوة، ثم عمد إلى حجر عظيم من حجارة الطاحونة فركله برجله فدحا به من خلف الجدار - الركل الضرب بالرجل الواحدة؛ وقد ركله يركله؛ قال الجوهري - ثم أمسك يهوذا بإحدى يديه فصرعه لجنبه، وقال‏:‏ هات الحدادين أقطع أيديهم وأرجلهم وأضرب أعناقهم، ثم صعد على سريره وجلس على فراشه، وأمر بصواعه فوضع بين يديه، ثم نقره نقرة فخرج طنينه، فالتفت إليهم وقال‏:‏ أتدرون ما يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏!‏ قال‏:‏ فإنه يقول‏:‏ إنه ليس على قلب أبي هؤلاء هم ولا غم ولا كرب إلا بسببهم، ثم نقر نقرة ثانية وقال‏:‏ إنه يخبرني أن هؤلاء أخذوا أخا لهم صغيرا فحسدوه ونزعوه من أبيهم ثم أتلفوه؛ فقالوا‏:‏ أيها العزيز‏!‏ استر علينا ستر الله عليك، وامنن علينا من الله عليك؛ فنقره نقرة ثالثة وقال إنه يقول‏:‏ إن هؤلاء طرحوا صغيرهم في الجب، ثم باعوه بيع العبيد بثمن بخس، وزعموا لأبيهم أن الذئب أكله؛ ثم نقره رابعة وقال‏:‏ إنه يخبرني أنكم أذنبتم ذنبا منذ ثمانين سنة لم تستغفروا الله منه؛ ولم تتوبوا إليه، ثم نقره خامسة وقال إنه يقول‏:‏ إن أخاهم الذي زعموا أنه هلك لن تذهب الأيام حتى يرجع فيخبر الناس بما صنعوا؛ ثم نقره سادسة وقال إنه يقول‏:‏ لو كنتم أنبياء أو بني أنبياء ما كذبتم ولا عققتم والدكم؛ لأجعلنكم نكالا للعالمين‏.‏ ايتوني بالحدادين أقطع أيديهم وأرجلهم، فتضرعوا وبكوا وأظهروا التوبة وقالوا‏:‏ لو قد أصبنا أخانا يوسف إذ هو حي لنكونن طوع يده، وترابا يطأ علينا برجله؛ فلما رأى ذلك يوسف من إخوته بكى وقال لهم‏:‏ اخرجوا عني‏!‏ قد خليت سبيلكم إكراما لأبيكم، ولولا هو لجعلتكم نكالا‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 81 ‏)‏

‏{‏ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ارجعوا إلى أبيكم‏}‏ قاله الذي قال‏{‏فلن أبرح الأرض‏}‏‏.‏ ‏}‏فقولوا يا أبانا إن ابنك سَرَق‏}‏ وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو رزين ‏}‏إن ابنك سُرِّقَ‏}‏ النحاس‏:‏ وحدثني محمد بن أحمد بن عمر قال حدثنا ابن شاذان قال حدثنا أحمد بن أبي سريج البغدادي قال‏:‏ سمعت، الكسائي يقرأ‏{‏يا أبانا إن ابنك سُرِّق‏}‏ بضم السين وتشديد الراء مكسورة؛ على ما لم يسم فاعله؛ أي نسب، إلى السرقة ورمي بها؛ مثل خونته وفسقته وجرته إذا نسبته إلى هذه الخلال‏.‏ وقال الزجاج‏{‏سرق‏}‏ يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ علم منه السرق، والآخر‏:‏ اتهم بالسرق‏.‏ قال الجوهري‏:‏ والسرق والسرقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق، والمصدر يسرق سرقا بالفتح‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما شهدنا إلا بما علمنا‏}‏ يريدون فقد شهدنا قط إلا بما علمنا، وأما الآن فقد شهدنا بالظاهر وما نعلم الغيب؛ كأنهم وقعت لهم تهمة من قول بنيامين‏:‏ دس هذا في رحلي من دس بضاعتكم في رحالكم؛ قال معناه ابن إسحاق‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا من دينك؛ قاله ابن زيد‏.‏ ‏}‏وما كنا للغيب حافظين‏}‏ أي لم نعلم وقت أخذناه منك أنه يسرق فلا نأخذه‏.‏ وقال مجاهد وقتادة‏:‏ ما كنا نعلم أن ابنك يسترق ويصير أمرنا إلى هذا، وإنما قلنا‏:‏ نحفظ أخانا فيما نطيق‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يعنون أنه سرق ليلا وهم نيام، والغيب هو الليل بلغة حمير؛ وعنه‏:‏ ما كنا نعلم ما يصنع في ليلة ونهاره وذهابه وإيابه‏.‏ وقيل‏:‏ ما دام بمرأى منا لم يجر خلل، فلما غاب عنا خفت عنا حالاته‏.‏ وقيل معناه‏:‏ قد أخذت السرقة من رحله، ونحن أخرجناها وننظر إليها، ولا علم لنا بالغيب، فلعلهم سرقوه ولم يسرق‏.‏

تضمنت هذه الآية جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها؛ فإن الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا، فلا تسمع إلا ممن علم، ولا تقبل إلا منهم، وهذا هو الأصل في الشهادات؛ ولهذا قال أصحابنا‏:‏ شهادة الأعمى جائزة، وشهادة المستمع جائزة، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة؛ وكذلك الشهادة على الخط - إذا تيقن أنه خطه أو خط فلان - صحيحة فكل من حصل له العلم بشيء جاز أن يشهد به وإن لم يشهده المشهود عليه؛ قال الله تعالى‏{‏إلا من شهد بالحق وهم يعلمون‏}‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا أخبركم بخير الشهداء خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها‏)‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏

اختلف قول مالك في شهادة المرور؛ وهو أن يقول‏:‏ مررت بفلان فسمعته يقول كذا فإن استوعب القول شهد في أحد قوليه، وفي القول الآخر لا يشهد حتى يشهداه‏.‏ والصحيح أداء الشهادة عند الاستيعاب؛ وبه قال جماعة العلماء، وهو الحق؛ لأنه قد حصل المطلوب وتعين عليه أداء العلم؛ فكان‏.‏ خير الشهداء إذا أعلم المشهود له، وشر الشهداء إذا كتمها والله أعلم،

إذا أدعى رجل شهادة لا يحتملها عمره ردت؛ لأنه ادعى باطلا فأكذبه العيان ظاهر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 82 ‏)‏

‏{‏واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏واسأل القرية التي كنا فيها والعير‏}‏ حققوا بها شهادتهم عنده، ورفعوا التهمة عن أنفسهم لئلا يتهمهم‏.‏ فقولهم‏{‏واسأل القرية‏}‏ أي أهلها؛ فحذف؛ ويريدون بالقرية مصر‏.‏ وقيل‏:‏ قرية من قراها نزلوا بها وامتاروا منها‏.‏ وقيل المعنى ‏}‏واسأل القرية‏}‏ وإن كانت جمادا، فأنت نبي الله، وهو ينطق الجماد له؛ وعلى هذا فلا حاجة إلى إضمار؛ قال سيبويه‏:‏ ولا يجوز كلم هندا وأنت تريد غلام هند؛ لأن هذا يشكل‏.‏ والقول في العير كالقول في القرية سواء‏.‏ ‏}‏وإنا لصادقون‏}‏ في قولنا‏.‏

في هذه الآية من الفقه أن كل من كان على حق، وعلم أنه قد يظن به أنه على خلاف ما هو عليه أو يتوهم أن يرفع التهمة وكل ريبة عن نفسه، ويصرح بالحق الذي هو عليه، حتى لا يبقى لأحد متكلم؛ وقد فعل هذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله للرجلين اللذين مرا وهو قد خرج مع صفية يقلبها من المسجد‏:‏ ‏(‏على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي‏)‏ فقالا‏:‏ سبحان الله وكبر عليهما فقال النبي‏:‏ ‏(‏إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا‏)‏ رواه البخاري ومسلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 83 ‏)‏

‏{‏قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال بل سولت‏}‏ أي زينت‏.‏ ‏}‏لكم أنفسكم‏}‏ أن ابني وما سرق، وإنما ذلك لأمر يريده الله‏.‏ ‏}‏فصبر جميل‏}‏ أي فشأني صبر جميل أو صبر جميل أولى بي على ما تقدم أول السورة‏.‏

الواجب على كل مسلم إذا أصيب بمكروه في نفسه أو ولده أو ماله أن يتلقى ذلك بالصبر الجميل، والرضا والتسليم لمجريه عليه وهو العليم الحكيم، ويقتدي بنبي الله يعقوب وسائر النبيين، صلوات الله عليهم أجمعين‏.‏ وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال‏:‏ ما من جرعتين يتجرعهما العبد أحب إلى الله من جرعة مصيبة يتجرعها العبد بحسن صبر وحسن عزاء، وجرعة غيظ يتجرعها العبد بحلم وعفو‏.‏ وقال ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى‏{‏فصبر جميل‏}‏ أي لا أشكو ذلك إلى أحد‏.‏ وروى قاتل بن سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من بث لم يصبر‏)‏‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ أن الصبر عند أول الصدمة، وثواب من ذكر مصيبته واسترجع وأن تقادم عهدها‏.‏ وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ إن يعقوب أعطى على يوسف أجر مائة شهيد، وكذلك من احتسب من هذه الأمة في مصيبته فله مثل أجر يعقوب عليه السلام‏.‏

قوله تعالى‏{‏عسى الله أن يأتيني بهم جميعا‏}‏ لأنه كان عنده أن يوسف صلى الله عليه وسلم لم يمت، وإنما غاب عنه خبره؛ لأن يوسف حمل وهو عبد لا يملك لنفسه شيئا، ثم اشتراه الملك فكان في داره لا يظهر للناس، ثم حبس، فلما تمكن احتال في أن يعلم أبوه خبره؛ ولم يوجه برسول لأنه كره من إخوته أن يعرفوا ذلك فلا يدعوا الرسول يصل إليه وقال‏{‏بهم‏}‏ لأنهم ثلاثة؛ يوسف وأخوه، والمتخلف من أجل أخيه، وهو القائل‏{‏فلن أبرح الأرض‏}‏‏.‏ ‏}‏إنه هو العليم‏}‏ بحالي‏.‏ ‏}‏الحكيم‏}‏ فيما يقضي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 84 ‏)‏

‏{‏وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وتولى عنهم‏}‏ أي أعرض عنهم؛ وذلك أن يعقوب لما بلغه خبر بنيامين تتام حزنه، وبلغ جهده، وجدد الله مصيبته له في يوسف فقال‏{‏يا أسفا على يوسف‏}‏ ونسى ابنه بنيامين فلم يذكره؛ عن ابن عباس‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ لم يكن عند يعقوب ما في كتابنا من الاسترجاع، ولو كان عنده لما قال‏{‏يا أسفا على يوسف‏}‏ قال قتادة والحسن‏:‏ والمعنى يا حزناه‏!‏ وقال مجاهد والضحاك‏:‏ يا جزعاه‏!‏؛ قال كُثَيِّر‏:‏

فيا أسفا للقلب كيف انصرافه وللنفس لما سليت فتسلت

والأسف شدة الحزن على ما فات‏.‏ والنداء على معنى‏:‏ تعال يا أسف فإنه من أوقاته‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الأصل يا أسفي؛ فأبدل من الياء ألف لخفة الفتحة‏.‏ ‏}‏وابيضت عيناه من الحزن‏}‏ قيل‏:‏ لم يبصر بهما ست سنين، وأنه عمي؛ قال مقاتل‏.‏ وقيل‏:‏ قد تبيض العين ويبقى شيء من الرؤية، والله أعلم بحال يعقوب؛ وإنما ابيضت عيناه من البكاء، ولكن سبب البكاء الحزن، فلهذا قال‏{‏من الحزن‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن يعقوب كان يصلي، ويرسف نائما معترضا ببن يديه، فغط في نومه، فالتفت يعقوب إليه، ثم غط ثانية فالتفت إليه، ثم غط ثالثة فالتفت إليه سرورا به وبغطيطه؛ فأوحى الله تعالى إلى ملائكته‏{‏انظروا إلى صفيي وابن خليلي قائما في مناجاتي يلتفت إلى غيري، وعزتي وجلالي‏!‏ لأنزعن الحدقتين اللتين التفت بهما، ولأفرقن بينه وبين من التفت إليه ثمانين سنة، ليعلم العاملون أن من قام بين يدي يجب عليه مراقبة نظري‏}‏‏.‏

هذا يدل على أن الالتفات في الصلاة - وإن لم يبطل - يدل على العقوبة عليها، والنقص فيها، وقد روى البخاري عن عائشة قالت‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال‏:‏ ‏(‏هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد‏)‏‏.‏ وسيأتي ما للعلماء في هذا في أول سورة ‏}‏المؤمنون‏}‏ موعبا إن شاء الله تعالى‏.‏

قال النحاس‏:‏ فإن سأل قوم عن معنى شدة حزن يعقوب - صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا - فللعلماء في هذا ثلاثة أجوبة‏:‏ منها - أن يعقوب لما علم أن يوسف صلى الله عليه وسلم حي خاف على دينه، فاشتد حزنه لذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إنما حزن لأنه سلمه إليهم صغيرا، فندم على ذلك‏.‏ والجواب الثالث‏:‏ وهو أبينها - هو أن الحزن ليس بمحظور، وإنما المحظور الولولة وشق الثياب، والكلام بما لا ينبغي وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب‏)‏‏.‏ وقد بين الله جل وعز ذلك بقوله‏{‏فهو كظيم‏}‏ أي مكظوم مملوء من الحزن ممسك عليه لا يبثه؛ ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه؛ فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه؛ قال الله تعالى‏{‏إذ نادى وهو مكظوم‏}‏القلم‏:‏ 48‏]‏ أي مملوء كربا‏.‏ ويجوز أن يكون المكظوم بمعنى الكاظم؛ وهو المشتمل على حزنه‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ كظيم مغموم؛ قال الشاعر‏:‏

فإن أك كاظما لمصاب شاس فإني اليوم منطلق لساني

وقال ابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس قال‏:‏ ذهبت عيناه من الحزن ‏}‏فهو كظيم‏}‏ قال‏:‏ فهو مكروب‏.‏ وقال مقاتل بن سليمان عن عطاء عن ابن عباس في قوله‏{‏فهو كظيم‏}‏ قال‏:‏ فهو كمد؛ يقول‏:‏ يعلم أن يوسف حي، وأنه لا يدري أين هو؛ فهو كمد من ذلك‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الكمد الحزن المكتوم؛ تقول منه كمد الرجل فهو كمد وكميد‏.‏ النحاس‏.‏ يقال فلان كظيم وكاظم؛ أي حزين لا يشكو حزنه؛ قال الشاعر‏:‏

فحضضت قومي واحتسبت قتالهم والقوم من الخوف المنايا كظم

الآية رقم ‏(‏ 85 ‏:‏ 86 ‏)‏

‏{‏قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين، قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف‏}‏ أي قال له ولده‏{‏تالله تفتا تذكر يوسف‏}‏ قال الكسائي‏:‏ فتأت وفتئت أفعل ذلك أي ما زلت‏.‏ وزعم الغراء أن ‏}‏لا‏}‏ مضمرة؛ أي لا تفتأ، وأنشد‏:‏

فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

أي لا أبرح؛ قال النحاس‏:‏ والذي قال حسن صحيح‏.‏ وزعم الخليل وسيبويه أن ‏}‏لا‏}‏ تضمر في القسم، لأنه ليس فيه إشكال؛ ولو كان واجبا لكان باللام والنون؛ وإنما قالوا له لأنهم علموا باليقين أنه يداوم على ذلك؛ يقال‏:‏ ما زال يفعل كذا، وما فتئ وفتأ فهما لغتان، ولا يستعملان إلا مع الجحد قال الشاعر‏:‏

فما فئت حتى كأن غبارها سرادق يوم ذي رياح ترفع

أي ما برحت فتفتأ تبرح‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ تزال‏.‏ ‏}‏حتى تكون حرضا‏}‏ أي تالفا‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد‏:‏ دنفا من المرض، وهو ما دون الموت؛ قال الشاعر‏:‏

سرى همي فأمرضني وقدما زادني مرضا

كذا الحب قبل اليو م مما يورث الحرضا

وقال قتادة‏:‏ هرما‏.‏ الضحاك‏:‏ باليا دائرا‏.‏ محمد بن إسحاق‏:‏ فاسدا لا عقل لك‏.‏ الفراء‏:‏ الحارض الفاسد الجسم والعقل؛ وكذا الحرض‏.‏ ابن زيد‏:‏ الحرص الذي قد رد إلى أرذل العمر‏.‏ الربيع بن أنس‏:‏ يابس الجلد على العظم‏.‏ المؤرج‏:‏ ذائبا من الهم‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ ذاهبا‏.‏ ابن الأنباري‏:‏ هالكا، وكلها متقاربة‏.‏ وأصل الحرض الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، عن أبي عبيدة وغيره؛ وقال العرجي‏:‏

إني امرؤ لج بي حب فأحرضني حتى بليت وحتى شفني السقم

قال النحاس‏:‏ يقال حرض حرضا وحرض حروضا وحروضة إذا بليي وسقم، ورجل حارض وحرض؛ إلا أن حرضا لا يثني ولا يجمع، ومثله فمن وحري لا يثنيان ولا يجمعان‏.‏ الثعلبي‏:‏ ومن العرب من يقول حارض للمذكر، والمؤنثة حارضة؛ فإذا وصف بهذا اللفظ ثنى وجمع وأنث‏.‏ ويقال‏:‏ حرض يحرض حراضة فهو حريض وحرض‏.‏ ويقال‏:‏ رجل محرض، وينشد‏:‏

طلبته الخيل يوما كاملا ولو الفته لأضحى محرضا

وقال امرؤ القيس‏:‏

أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضا كإحراض بكر في الديار مريض

قال النحاس‏:‏ وحكى أهل اللغة أحرضه الهم إذا أسقمه، ورجل حارض أي أحمق‏.‏ وقرأ أنس‏{‏حُرْضا‏}‏ بضم الحاء وسكون الراء، أي مثل عود الأشنان‏.‏ وقرأ الحسن بضم الحاء والراء‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الحَرَض والحُرُض الأشنان‏.‏ ‏}‏أو تكون من الهالكين‏}‏ أي الميتين، وهو قول الجميع؛ وغرضهم منع يعقوب من البكاء والحزن شفقة عليه، وإن كانوا السبب في ذلك‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال إنما أشكو بثي‏}‏ حقيقة البث في اللغة ما يرد على الإنسان من الأشياء المهلكة التي لا يتهيأ له أن يخفيها؛ وهو من بثثته أي فرقته، فسميت المصيبة بثا مجازا، قال ذو الرمة‏:‏

وقفت على ربع لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه

وقال ابن عباس‏{‏بثي‏}‏ همي‏.‏ الحسن‏:‏ حاجتي‏.‏ وقيل‏:‏ أشد الحزن، وحقيقة ما ذكرناه‏.‏ ‏}‏وحزني إلى الله‏}‏ معطوف عليه، أعاده بغير لفظه‏.‏ ‏}‏وأعلم من الله ما لا تعلمون‏}‏ أي أعلم أن رؤيا يوسف صادقة، وأني سأسجد له‏.‏ قاله ابن عباس‏.‏ إني أعلم من إحسان الله تعالى إلى ما يوجب حسن ظني به‏.‏ وقيل‏:‏ قال يعقوب لملك الموت هل قبضت روح يوسف‏؟‏ قال‏:‏ لا، فأكد هذا رجاءه‏.‏ وقال السدي‏:‏ أعلم أن يوسف حي، وذلك أنه لما أخبر‏.‏ ولده بسيرة الملك وعدله خلفه وقوله أحست نفس يعقوب أنه ولده فطمع، وقال‏:‏ لعله يوسف‏.‏ وقال‏:‏ لا يكون في الأرض صديق إلا نبئ‏.‏ وقيل‏:‏ أعلم من إجابة دعاء المضطرين ما لا تعلمون‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 87 ‏)‏

‏{‏يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه‏}‏ هذا يدل على أنه تيقن حياته؛ إما بالرؤيا، وإما بإنطاق الله تعالى الذئب كما في أول القصة، وإما بإخبار ملك الموت إياه بأنه لم يقبض روحه؛ وهو أظهر‏.‏ والتحسس طلب الشيء بالحواس؛ فهو تفعل من الحس، أي اذهبوا إلى هذا الذهب طلب منكم أخاكم، واحتال عليكم في أخذه فاسألوا عنه وعن مذهبه‏.‏ ويروى أن ملك الموت قال له‏:‏ اطلبه من هاهنا‏!‏ وأشار إلى ناحية مصر‏.‏ وقيل‏:‏ إن يعقوب تنبه على يوسف برد البضاعة، واحتباس أخيه، وإظهار الكرامة؛ فلذلك وجههم سلى جهة مصر دون غيرها‏.‏ ‏}‏ولا تيأسوا من روح الله‏}‏ أي لا تقنطوا من فرج الله؛ قال ابن زيد، يريد‏:‏ أن المؤمن يرجو فرج الله، والكافر يقنط في الشدة‏.‏ وقال قتادة والضحاك‏:‏ من رحمة الله‏.‏ ‏}‏إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون‏}‏ دليل على أن القنوط من الكبائر، وهو اليأس في ‏}‏الزمر‏}‏ بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 88 ‏)‏

‏{‏فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز‏}‏ أي الممتنع‏.‏ ‏}‏مسنا وأهلنا الضر‏}‏ هذه المرة الثالثة من عودهم إلى مصر؛ وفي الكلام حذف، أي فخرجوا إلى مصر، فلما دخلوا على يوسف قالوا‏{‏مسنا‏}‏ أي أصابنا ‏}‏وأهلنا الضر‏}‏ أي الجوع والحاجة؛ وفي هذا دليل على جواز الشكوى عند الضر، أي الجوع؛ بل واجب عليه إذا خاف على نفسه الضر من الفقر وغيره أن يبدي حالته إلى من يرجو منه النفع؛ كما هو واجب عليه أن يشكو ما به من الألم إلى الطبيب ليعالجه؛ ولا يكون ذلك قدحا في التوكل، وهذا ما لم يكن التشكي على سبيل التسخط؛ والصبر والتجلد في النوائب أحسن، والتعفف عن المسألة أفضل؛ وأحسن الكلام في الشكوى سؤال المولى زوال البلوى؛ وذلك قول يعقوب‏{‏إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون‏}‏يوسف‏:‏ 86‏]‏ أي من جميل صنعه، وغريب لطفه، وعائدته على عباده؛ فأما الشكوى على غير مشك فهو السفه، إلا أن يكون على وجه البث والتسلي؛ كما قال ابن دريد‏:‏

لا تحسبن يا دهر أني ضارع لنكبة تعرفني عرق المدى

مارست ما لو هوت الأفلاك من جوانب الجو عليه ما شكا

لكنها نفثة مصدر إذا جاش لغام من نواحيها غما

قوله تعالى‏{‏وجئنا ببضاعة‏}‏ البضاعة القطعة من المال يقصد بها شراء شيء؛ تقول‏:‏ أبضعت الشيء واستبضعته أي جعلته بضاعة؛ وفي المثل‏:‏ كمستبضع التمر إلى هجر‏.‏ ‏}‏مزجاة‏}‏ صفة لبضاعة؛ والإزجاء السوق بدفع؛ ومنه قوله تعالى‏{‏ألم تر أن الله يزجي سحابا‏}‏النور‏:‏ 43‏]‏ والمعنى أنها بضاعة تدفع؛ ولا يقبلها كل أحد‏.‏ قال ثعلب‏:‏ البضاعة المزجاة الناقصة غير التامة‏.‏ واختلفت في تعيينها هنا؛ فقيل‏:‏ كانت قديدا وحيسا؛ ذكره الواقدي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏ وقيل‏:‏ خلق الغرائر والحبال؛ روى عن ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ متاع الأعراب صوف وسمن؛ قال عبدالله بن الحارث‏.‏ وقيل‏:‏ الحبة الخضراء والصنوبر وهو البطم، حب شجرة بالشام؛ يؤكل ويعصر الزيت منه لعمل الصابون، قاله أبو صالح؛ فباعوها بدراهم لا تنفق في الطعام، وتنفق فيما بين الناس؛ فقالوا‏:‏ خذها منا بحساب جياد تنفق من الطعام‏.‏ وقيل‏:‏ دراهم رديئه؛ فال ابن عباس أيضا‏.‏ وقيل‏:‏ ليس عليها صورة يوسف، وكانت دراهم مصر عليهم صورة يوسف‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ النعال والأدم؛ وعنه‏:‏ كانت سويقا منخلا‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأوف لنا الكيل‏}‏ يريدون كما تبيع بالدراهم الجياد لا تنقصنا بمكان دراهمنا؛ هذا قول أكثرا المفسرين‏.‏ وقال ابن جريج‏.‏ ‏}‏فأوف لنا الكيل‏}‏ يريدون الكيل الذي كان قد كاله لأخيهم‏.‏ ‏}‏وتصدق علينا‏}‏ أي تفضل علينا بما بين سعر الجياد والرديئة‏.‏ قاله سعيد بن جبير والسدي والحسن‏:‏ لأن الصدفة تحرم على الأنبياء‏.‏ وقيل المعنى‏{‏تصدق علينا‏}‏ بالزيادة على حقنا؛ قاله سفيان بن عيينة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ولم تحرم الصدقة إلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ المعنى ‏}‏تصدق علينا‏}‏ برد أخينا إلينا‏.‏ وقال ابن شجرة‏{‏تصدق علينا‏}‏ تجوز عنا؛ استشهد بقول الشاعر‏:‏

تصدق علينا يا ابن عفان واحتسب وأمر علينا الأشعري لياليا

‏{‏إن الله يجزي المتصدقين‏}‏ يعني في الآخرة؛ يقال‏:‏ هذا من معاريض الكلا؛ لأنه لم يكن عندهم أنه على دينهم، فلذلك لم يقولوا‏:‏ إن الله يجزيك بصدقتك، فقالوا لفظا يوهمه أنهم أرادوه، وهم يصح لهم إخراجه بالتأويل؛ قاله النقاش وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب‏)‏‏.‏

استدل مالك وغيره من العلماء على أن أجرة الكيال على البائع؛ قال ابن القاسم وابن نافع قال مالك‏:‏ قالوا ليوسف ‏}‏فأوف لنا الكيل‏}‏ فكان يوسف هو الذي يكيل، وكذلك الوزان والعداد وغيرهم، لأن الرجل إذا باع عدة معلومة من طعامه، وأوجب العقد عليه، وجب عليه أن يبرزها ويميز حق المشتري من حقه، إلا أن يبيع منه معينا صبره أو ما لا حق توفيه فيه ـ فخلى ما بينه وبينه، فما جرى على المبيع فهو على المبتاع؛ وليس كذلك ما فيه حق توفيه من كيل أو وزن، ألا ترى أنه لا يستحق البائع الثمن إلا بعد التوفية، وإن تلف فهو منه قبل التوفية‏.‏

وأما أجرة النقد فعلى البائع أيضا؛ لأن المبتاع الدافع لدراهمه يقول‏:‏ إنها طيبة، فأنت الذي تدعي الرداءة فانظر لنفسك؛ وأيضا فإن النفع يقع له فصار الأجر عليه، وكذلك لا يجب على الذي يجب عليه القصاص؛ لأنه لا يجب عليه أن يقطع يد نفسه، إلا أن يمكن من ذلك طائعا؛ ألا ترى أن قرضا عليه أن يفدي يده، ويصالح عليه إذا طلب المقتص ذلك منه، فأجر القطاع على المقتص‏.‏ وقال الشافعي في المشهور عنه‏:‏ إنها على المقتص منه كالبائع‏.‏

يكره للرجل أن يقول في دعائه‏:‏ اللهم تصدق علي؛ لأن الصدقة إنما تكون ممن يبتغي الثواب، والله تعالى متفضل بالثواب بجميع النعم لا رب غيره؛ وسمع الحسن رجلا يقول‏:‏ اللهم تصدق علي؛ فقال الحن‏:‏ يا هذا‏!‏ إن الله لا يتصدق إنما يتصدق من يبتغي الثواب؛ أما سمعت قول الله تعالى‏{‏إن الله يجزي المتصدقين‏}‏ قل‏:‏ اللهم أعطني وتفضل علي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 89 ‏:‏ 90 ‏)‏

‏{‏قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون، قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه‏}‏ استفهام بمعنى التذكير والتوبيخ، وهو الذي قال الله‏{‏لتنبئنهم بأمرهم هذا‏}‏يوسف‏:‏ 15‏]‏ الآية‏.‏ ‏}‏إذ أنتم جاهلون‏}‏ دليل على أنهم كانوا صغارا في وقت أخذهم ليوسف، غير أنبياء؛ لأنه لا يوصف بالجهل إلا من كانت هذه صفته؛ ويدل على أنه حسنت حالهم الآن؛ أي فعلتم ذلك إذ أنتم صغار جهال؛ قال معناه ابن عباس والحسن؛ ويكون قولهم‏{‏وإن كنا لخاطئين‏}‏ على هذا، لأنهم كبروا ولم يخبروا أباهم بما فعلوا حياء وخوفا منه‏.‏ وقيل‏:‏ جاهلون بما تؤول إليه العاقبة‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏قالوا أئنك لأنت يوسف‏}‏ لما دخلوا عليه فقالوا‏{‏مسنا وأهلنا الضر‏}‏ فخضوا له وتواضعوا رق لهم، وعرقهم بنفسه، فقال‏{‏هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه‏}‏ فتنبهوا فقالوا‏{‏أئنك لأنت يوسف‏}‏ قاله ابن إسحاق‏.‏ وقيل‏:‏ إن يوسف تبسم فشبهوه بيوسف واستفهموا قال ابن عباس لما قال لهم‏{‏هل علمتم ما فعلتم بيوسف‏}‏ الآية، ثم تبسم يوسف - وكان إذا تبسم كأن ثناياه اللؤلؤ المنظوم - فشبهوه بيوسف، فقالوا له على جهة الاستفهام‏{‏أئنك لأنت يوسف‏}‏‏.‏ وعن ابن عباس أيضا‏:‏ أن إخوته لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه، وكان في قرنه علامة، وكان ليعقوب مثلها شبه الشامة، فلما قال لهم‏{‏هل علمتم ما فعلتم بيوسف‏}‏ رفع التاج عنه فعرفوه، فقالوا‏{‏أئنك لأنت يوسف‏}‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كتب يعقوب إليه يطلب رد ابنه، وفي الكتاب‏:‏ من يعقوب صفي الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر - أما بعد - فإنا أهل بيت بلاء ومحن، ابتلى الله جدي إبراهيم بنمروذ وناره، ثم ابتلى أبي إسحاق بالذبح، ثم ابتلاني بولد كان لي أحب أولادي إلي حتى كف بصري من البكاء، وإني لم أسرق ولم ألد سارقا والسلام‏.‏ فلما قرأ يوسف الكتاب ارتعدت مفاصله، واقشعر جلده، وأرخى عينيه بالبكاء، وعيل صبره فباح بالسر‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏}‏إنك‏}‏ على الخبر، ويجوز أن تكون هذه القراءة استفهاما كقوله‏{‏وتلك نعمة‏}‏الشعراء‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ‏}‏قال أنا يوسف‏}‏ أي أنا المظلوم والمراد قتله، ولم يقل أنا هو تعظيما للقصة‏.‏ ‏}‏قد من الله علينا‏}‏ أي بالنجاة والملك‏.‏ ‏}‏إنه من يتق ويصبر‏}‏ أي يتق الله ويصبر على المصائب، وعن المعاصي‏.‏ ‏}‏فإن الله لا يضيع أجر المحسنين‏}‏ أي الصابرين في بلائه، القائمين بطاعته‏.‏ وقرأ ابن كثير‏{‏إنه من يتقي‏}‏ بإثبات الياء؛ والقراءة بها جائزة على أن تجعل ‏}‏من‏}‏ بمعنى الذي، وتدخل ‏}‏يتقي‏}‏ في الصلة، فتثبت الياء لا غير، وترفع ‏}‏ويصبر‏}‏‏.‏ وقد يجوز أن تجزم ‏}‏ويصير‏}‏ على أن تجعل ‏}‏يتقي‏}‏ في موضع جزم و‏}‏من‏}‏ للشرط، وتثبت الياء، وتجعل علامة الجزم حذف الضمة التي كانت في الياء على الأصل؛ كما قال‏:‏

ثم نادي إذا دخلت دمشقا يا يزيد بن خالد بن يزيد

وقال آخر‏:‏

ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد

وقراءة الجماعة ظاهرة، والهاء في ‏}‏إنه‏}‏ كناية عن الحديث، والجملة الخبر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 91 ‏:‏ 92 ‏)‏

‏{‏قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا تالله لقد آثرك الله علينا‏}‏ الأصل همزتان خففت الثانية، ولا يجوز تحقيقها، واسم الفاعل مؤثر، والمصدر إيثار‏.‏ ويقال‏:‏ أثرت التراب إثارة فإنا مثير؛ وهو أيضا على أفعل ثم أعل، والأصل أثير نقلت حركة الياء على الثاء، فانقلبت الياء ألفا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين‏.‏ وأثرت الحديث على فعلت فأنا اثر؛ والمعنى‏:‏ لقد فضلك الله علينا، واختارك بالعلم والحلم والحكم والعقل والملك‏.‏ ‏}‏وإن كنا لخاطئين‏}‏ أي مذنبين من خطئ يخطأ إذا أتى الخطيئة، وفي ضمن هذا سؤال العفو‏.‏ وقيل لابن عباس‏:‏ كيف قالوا ‏}‏وإن كنا لخاطئين‏}‏ وقد تعمدوا لذلك‏؟‏ قال‏:‏ وإن تعمدوا لذلك، فما تعمدوا حتى أخطؤوا الحق، وكذلك كل من أتى ذنبا تخطى المنهاج الذي عليه من الحق، حتى يقع في الشبهة والمعصية‏.‏

قوله تعالى‏{‏لا تثريب عليكم اليوم‏}‏ أي قال يوسف - وكان حليما موفقا‏{‏لا تثريب عليكم اليوم‏}‏ وتم الكلام‏.‏ ومعنى ‏}‏اليوم‏}‏‏:‏ الوقت‏.‏ والتثريب التعيير والتوبيخ، أي تعيير ولا توبيخ ولا لوم عليكم اليوم؛ قال سفيان الثوري وغيره؛ ومنه قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا زنت أمه أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها‏)‏ أي لا يعيرها؛ وقال بشر‏:‏

فعفوت عنهم عفو مثرب وتركتهم لعقاب يوم سرمد

وقال الأصمعي‏:‏ ثربت عليه وعربت عليه بمعنى إذا قبحت عليه فعله‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى لا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة، وحق الإخوة، ولكم عندي العفو والصفح؛ وأصل التثريب الإفساد، وهي لغة أهل الحجاز‏.‏ وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي الباب يوم فتح مكة، وقد لاذ الناس بالبيت فقال‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏ماذا تظنون يا معشر قريش‏)‏ قالوا‏:‏ خيرا، أخ كريم، ابن أخ كريم وقد قدرت؛ قال‏:‏ ‏(‏وأنا أقول كما قال أخي يوسف ‏}‏لا تثريب عليكم اليوم‏}‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ ففضت عرقا من الحياء من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أني قد كنت قلت لهم حين دخلنا مكة‏:‏ اليوم ننتقم منكم ونفعل، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال استحييت من قولي‏.‏ ‏}‏يغفر الله لكم‏}‏ مستقبل فيه معنى الدعاء؛ سأل الله أن يستر عليهم ويرحمهم‏.‏ وأجاز الأخفش الوقت على ‏}‏عليكم‏}‏ والأول هو المستعمل؛ فإن في الوقف على ‏}‏عليكم‏}‏ والابتداء بـ ‏}‏اليوم يغفر الله لكم‏}‏ جزم بالمغفرة في اليوم، وذلك لا يكون إلا عن وحي، وهذا بين‏.‏ وقال عطاء الخراساني‏:‏ طلب الحوائج من الشباب أسهل منه من الشيوخ؛ ألم تر قول يوسف‏{‏لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم‏}‏ وقال يعقوب‏{‏سوف أستغفر لكم ربي‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 93 ‏)‏

‏{‏اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين‏}‏

قوله تعالى‏{‏اذهبوا بقميصي هذا‏}‏ نعت للقميص، والقميص مذكر، فأما قول الشاعر‏:‏

تدعو هوازن والقميص مفاضة فوق النطاق تشد بالأزرار

فتقديره‏:‏ ‏[‏والقميص‏]‏ درع مفاضة‏.‏ قاله النحاس‏.‏ وقال ابن السدي عن أبيه عن مجاهد‏:‏ قال لهم يوسف‏{‏اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا‏}‏ قال‏:‏ كان يوسف أعلم بالله من أن يعلم أن قميصه يرد على يعقوب بصره، ولكن ذلك قميص إبراهيم الذي البسه الله في النار من حرير الجنة، وكان كساه إسحاق، وكان إسحاق كساه يعقوب، وكان يعقوب أدرج ذلك القميص في قصبة من فضة وعلقة في عنق يوسف، لما كان يخاف عليه من العين، وأخبره جبريل بأن أرسل قميصك فإن فيه ريح الجنة، وإن ريح الجنة لا يقع على سقيم ولا مبتلى إلا عوفي‏.‏ وقال قميصه يهوذا، قال يوسف‏:‏ أنا الذي حملت إليه قميصك بدم كذب فأحزنته، وأنا الذي أحمله الآن لأسره، وليعود إليه بصره، فحمله؛ حكاه السدي‏.‏ ‏}‏وأتوني بأهلكم أجمعين‏}‏ لتتخذوا مصر دارا‏.‏ قال مسروق‏:‏ فكانوا ثلاثة وتسعين، ما بين رجل وامرأة‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن القميص الذي بعثه هو القميص الذي قد من دبره، ليعلم يعقوب أنه عصم من الزنى؛ والقول الأول أصح، وقد روى مرفوعا من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره القشيري والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 94 ‏)‏

‏{‏ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولما فصلت العير‏}‏ أي خرجت منطلقة من مصر إلى الشام، يقال‏:‏ فصل فصولا، وفصلته فصلا، فهو لازم ومتعد‏.‏ ‏}‏قال أبوهم‏}‏ أي قال لمن حضر من قرابته ممن لم يخرج إلى مصر وهم ولد ولده‏{‏إني لأجد ريح يوسف‏}‏ وقد يحتمل، أن يكون خرج بعض بنيه، فقال لمن بقي‏{‏إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هاجت ريح فحملت ريح قميص يوسف إليه، وبينهما مسيرة ثمان ليال‏.‏ وقال الحسن‏:‏ مسيرة عشر ليال؛ وعنه أيضا مسيرة شهر‏.‏ وقال مالك بن أنس رضي الله عنه‏:‏ إنما أوصل ريحه من أوصل عرش‏.‏ بلقيس قبل أن يرتد إلى سليمان عليه السلام طرفه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هبت ريح فصفقت القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص، فعند ذلك قال‏{‏إني لأجد‏}‏ أي أشم؛ فهو وجود بحاسة الشم‏.‏ ‏}‏لولا أن تفندوني‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ لولا أن تسفهون؛ ومنه قول النابغة‏:‏

إلا سليمان إذ قال المليك له قم في البرية فاحددها عن الفند

أي عن السفه‏.‏ وقال سعيد بن جبير والضحاك‏:‏ لولا أن تكذبون‏.‏ والفند الكذب‏.‏ وقد أفند إفنادا كذب؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

يا صاحبي دعا لومي وتفنيدي فليس ما فات من أمري مردود

وقال ابن الأعرابي‏{‏لولا أم تفندون‏}‏ لولا أن تُضعفوا رأي؛ وقاله ابن إسحاق‏.‏ والفند ضعف الرأي من كبر‏.‏ وقول رابع‏:‏ تضللون، قاله أبو عبيدة‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ تلوموني؛ والتفنيد اللوم وتضعيف الرأي‏.‏ وقال الحسن وقتادة ومجاهد أيضا‏:‏ تهرمون؛ وكله متقارب المعنى، وهو راجع إلى التعجيز وتضعيف الرأي؛ يقال‏:‏ فنده تفنيدا إذا أعجزه، كما قال‏:‏

أهلكني باللوم والتفنيد

ويقال‏:‏ أفند إذا تكلم بالخطأ؛ والفند الخطأ في الكلام والرأي، كما قال النابغة‏:‏

‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ فاحددها عن الفند

أي امنعها عن الفساد في العقل، ومن ذلك قيل‏:‏ اللوم تفنيد؛ قال الشاعر‏:‏

يا عاذلي دعا الملام وأقصرا طال الهوى وأطلتما التفنيدا

ويقال‏:‏ أفند فلانا الدهر إذا أفسده؛ ومنه قول ابن مقبل‏:‏

دع الدهر يفعل ما أراد فإنه إذا كلف الإفناد بالناس أفندا

الآية رقم ‏(‏ 95 ‏)‏

‏{‏قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم‏}‏ أي لفي ذهاب عن طريق الصواب‏.‏ وقال ابن عباس وابن زيد‏:‏ لفي خطئك الماضي من حب يوسف لا تنساه‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ لفي جنونك القديم‏.‏ قال الحسن‏:‏ وهذا عقوق‏.‏ وقال قتادة وسفيان‏:‏ لفي محبتك القديمة‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قالوا هذا؛ لأن يوسف عندهم كان قد مات‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذي قال له ذلك من بقي معه من ولده ولم يكن عندهم الخبر‏.‏ وقيل‏:‏ قال له ذلك من كان معه من أهله وقرابته‏.‏ وقيل‏:‏ بنو بنيه وكانوا صغارا؛ فالله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 96 ‏)‏

‏{‏فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه‏}‏ أي على عينيه‏.‏ ‏}‏فارتد بصيرا‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ زائدة، والبشير قيل هو شمعون‏.‏ وقيل‏:‏ يهوذا قال‏:‏ أنا أذهب بالقميص اليوم كما ذهبت به ملطخا بالدم؛ قال ابن عباس‏.‏ وعن السدي أنه قال لإخوته‏:‏ قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة‏.‏ وقال يحيى بن يمان عن سفيان‏:‏ لما جاء البشير إلى يعقوب قال له‏:‏ على أي دين تركت يوسف‏؟‏ قال‏:‏ على الإسلام؛ قال‏:‏ الآن تمت النعمة؛ وقال الحسن‏:‏ لما ورد البشير على يعقوب لم يجد عنده شيئا يثيبه به؛ فقال‏:‏ والله ما أصبت عندنا شيئا؛ وما خبزنا شيئا منذ سبع ليال، ولكن هون الله عليك سكرات الموت‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الدعاء من أعظم ما يكون من الجوائز، وأفضل العطايا والذخائر‏.‏ ودلت هذه الآية على جواز البذل والهبات عند البشائر‏.‏ وفي الباب حديث كعب بن مالك - الطويل - وفيه‏{‏فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته‏}‏ وذكر الحديث، وقد تقدم بكماله في قصة الثلاثة الذين خلفوا، وكسوة كعب ثوبيه للبشير مع كونه ليس له غيرهما دليل على جواز مثل ذلك إذا ارتجى حصول ما يستبشر به‏.‏ وهو دليل على جواز إظهار الفرح بعد زوال الغم والترح‏.‏ ومن هذا الباب جواز حذاقة الصبيان، وإطعام الطعام فيها، قد نحر عمر بعد حفظه سورة ‏}‏البقرة‏}‏ جزورا‏.‏ والله أعلم‏.‏ ‏}‏قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون‏}‏ ذكرهم قوله‏{‏إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون‏}‏يوسف‏:‏ 86‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 97 ‏:‏ 98 ‏)‏

‏{‏قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين، قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين‏}‏ في الكلام حذف، التقدير‏:‏ فلما رجعوا من مصر قالوا يا أبانا؛ وهذا يدل على أن الذي قال له‏{‏تالله إنك لفي ضلالك‏}‏ القديم‏}‏ بنو بنيه أو غيرهم من قرابته وأهله لا ولده، فإنهم كانوا غيبا، وكان يكون ذلك زيادة في العقوق‏.‏ والله أعلم‏.‏ وإنما سألوه المغفرة، لأنهم أدخلوا عليه من ألم الحزن ما لم يسقط المأثم عنه إلا بإحلاله‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الحكم ثابت فيمن آذى مسلما في نفسه أو ماله أو غير ذلك ظالما له؛ فإنه يجب عليه أن يتحلل له ويخبره بالمظلمة وقدرها؛ وهل ينفعه التحليل المطلق أم لا‏؟‏ فيه خلاف والصحيح أنه لا ينفع؛ فإنه لو أخبره بمظلمة لها قدر وبال ربما لم تطب نفس المظلوم في التحلل منها‏.‏ والله أعلم‏.‏ وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه‏)‏ قال المهلب فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أخذ منه بقدر مظلمته‏)‏ يجب أن تكون المظلمة معلومة القدر مشارا إليها مبينة، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال سوف أستغفر لكم ربي‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أخر دعاءه إلى السحر‏.‏ وقال المثنى بن الصباح عن طاوس قال‏:‏ سحر ليلة الجمعة، ووافق ذلك ليلة عاشوراء‏.‏ وفي دعاء الحفظ - من كتاب الترمذي - عن ابن عباس أنه قال‏:‏ بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه علي بن أبي طالب - رضى الله عنه - فقال‏:‏ - بأبي أنت وأمي - تفلت هذا القرآن من صدري، فما أجدني أقدر عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أفلا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن وينفع بهن من علمته ويثبت ما تعلمت في صدرك‏)‏ قال‏:‏ أجل يا رسول الله‏!‏ فعلمني؛ قال‏:‏ ‏(‏إذا كان ليلة الجمعة فإن استطعت أن تقوم في ثلث الليل الآخر فإنها ساعة مشهودة والدعاء فيها مستجاب وقد قال أخي يعقوب لبنيه ‏}‏سوف أستغفر لكم ربي‏}‏ يقول حتى تأتي ليلة الجمعة‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ وقال قال أيوب بن أبي تميمة السختياني عن سعيد بن جبير قال‏{‏سوف استغفر لكم ربي‏}‏ في الليالي البيض، في الثالثة عشرة، والرابعة عشرة، والخامسة عشرة فإن الدعاء فيها مستجاب‏.‏ وعن عامر الشعبي قال‏{‏سوف استغفر لكم ربي‏}‏ أي أسأل يوسف إن عفا عنكم استغفرت لكم ربي؛ وذكر سنيد بن داود قال‏:‏ حدثنا هشيم قال حدثنا عبدالرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار عن عمه قال‏:‏ كنت آتي المسجد في السحر فأمر بدار ابن مسعود فأسمعه يقول‏:‏ اللهم إنك أمرتني فأطعت، ودعوتني فأجبت، وهذا سحر فاغفر لي، فلقيت ابن مسعود فقلت‏:‏ كلمات أسمعك تقولهن في السحر فقال‏:‏ إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله‏{‏سوف استغفر لكم ربي‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 99 ‏)‏

‏{‏فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما دخلوا على يوسف‏}‏ أي قصرا كان له هناك‏.‏ ‏}‏آوى إليه أبويه‏}‏ قيل‏:‏ إن يوسف بعث مع البشير مائتي راحلة وجهازا، وسأل يعقوب أن يأتيه بأهله وولده جميعا؛ فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه، أي ضم؛ ويعني بأبويه أباه وخالته، وكانت أمه قد ماتت في ولادة أخيه بنيامين‏.‏ وقيل‏:‏ أحيا الله له أمه تحقيقا للرؤيا حتى سجدت له، قاله الحسن؛ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ أن الله تعالى أحيا لنبيه عليه السلام أباه وأمه فآمنا به‏.‏

قوله تعالى‏{‏وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين‏}‏ قال ابن جريج‏:‏ أي سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله؛ قال‏:‏ وهذا من تقديم القرآن وتأخيره؛ قال النحاس‏:‏ يذهب ابن جريج إلى أنهم قد دخلوا مصر فكيف يقول‏{‏ادخلوا مصر إن شاء الله‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قال‏{‏إن شاء الله‏}‏ تبركا وجزما‏.‏ ‏}‏آمنين‏}‏ من القحط، أو من فرعون؛ وكانوا لا يدخلونها إلا بجوازه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 100 ‏)‏

‏{‏ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ورفع أبويه على العرش‏}‏ قال قتادة‏:‏ يريد السرير، وقد تقدمت محامله؛ قد يعبر بالعرش عن الملك والملك نفسه؛ ومنه قول النابغة الذبياني‏:‏

عروش تفانوا بعد وأمنة

وقد تقدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وخروا له سجدا‏}‏ الهاء في ‏}‏خروا له‏}‏ قيل‏:‏ إنها تعود على الله تعالى؛ المعنى‏:‏ وخروا شكرا لله سجدا؛ ويوسف كالقبلة لتحقيق روياه، وروي عن الحسن؛ قال النقاش‏:‏ وهذا خطأ؛ والهاء راجعة إلى يوسف لقوله تعالى في أول السورة‏{‏رأيتهم لي ساجدين‏}‏يوسف‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وكان تحيتهم أن يسجد الوضيع للشريف، والصغير للكبير؛ سجد يعقوب وخالته وإخوته ليوسف عليه السلام، فاقشعر جلده وقال‏{‏هذا تأويل رؤياي من قبل‏}‏ وكان بين رؤيا يوسف وبين تأويلها اثنتان وعشرون سنة‏.‏ وقال سلمان الفارسي وعبدالله بن شداد‏:‏ أربعون سنة؛ قال عبدالله بن شداد‏:‏ وذلك آخر ما تبطئ الرؤيا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ خمس وثلاثون سنة‏.‏ وقال السدي وسعيد بن جبير وعكرمة‏:‏ ست وثلاثون سنة‏.‏ وقال الحسن وجسر بن فرقد وفضيل ابن عياض‏:‏ ثمانون سنة‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد أن التقى بأبيه ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة‏.‏ وفي التوراة مائة وست وعشرون سنة‏.‏ وولد ليوسف من امرأة العزيز إفراثيم ومنشا ورحمة امرأة أيوب‏.‏ وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة‏.‏ وقيل‏:‏ إن يعقوب بقي عند يوسف عشرين سنة، ثم توفي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ أقام عنده ثماني عشرة سنة‏.‏ وقال بعض المحدثين‏:‏ بعضا وأربعين سنة؛ وكان بين يعقوب ويوسف ثلاث وثلاثون سنة حتى جمعهم الله‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ ثماني عشرة سنة، والله أعلم‏.‏

قال سعيد بعد جبير عن قتادة عن الحسن‏:‏ في قوله‏{‏وخروا له سجدا‏}‏ - قال‏:‏ لم يكن سجودا، لكنه سنة كانت فيهم، يومئون برؤوسهم إيماء، كذلك كانت تحيتهم‏.‏ وقال الثوري والضحاك وغيرهما‏:‏ كان سجودا كالسجود المعهود عندنا، وهو كان تحيتهم‏.‏ وقيل‏:‏ كان انحناء كالركوع، ولم يكن خرورا على الأرض، وهكذا كان سلامهم بالتكفي والانحناء، وقد نسخ الله ذلك كله في شرعنا، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء‏.‏ وأجمع المفسرون أن ذلك السجود على أي وجه كان فإنما كان تحية لا عبادة؛ قال قتادة‏:‏ هذه كانت تحية الملوك عندهم؛ وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة‏.‏

قلت‏:‏ هذا الانحناء والتكفي الذي نسخ عنا قد صار عادة بالديار المصرية، وعند العجم، وكذلك قيام بعضهم إلى بعض؛ حتى أن أحدهم إذا لم يقم له وجد في نفسه كأنه لا يؤبه به، وأنه لا قدر له؛ وكذلك إذا التقوا انحنى بعضهم لبعض، عادة مستمرة، ووراثة مستقرة لا سيما عند التقاء الأمراء والرؤساء‏.‏ نكبوا عن السنن، وأعرضوا عن السنن‏.‏ وروى أنس بن مالك قال‏:‏ قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا إلى بعض إذا التقينا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏؛ قلنا‏:‏ أفيعتنق بعضنا بعضا‏؟‏ قال ‏(‏لا‏)‏‏.‏ قلنا‏:‏ أفيصافح بعضنا بعضا‏؟‏ قال ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ خرجه أبو عمر في ‏}‏التمهيد‏}‏ فإن قيل‏:‏ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قوموا إلى سيدكم وخيركم‏)‏ - يعني سعد بن معاذ - قلنا‏:‏ ذلك مخصوص بسعد لما تقتضيه الحال المعينة؛ وقد قيل‏:‏ إنما كان قيامهم لينزلوه عن الحمار؛ وأيضا فإنه يجوز للرجل الكبير إذا لم يؤثر ذلك في نفسه، فإن أثر فيه وأعجب به ورأى لنفسه حظا لم يجز عونه على ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار‏)‏‏.‏ وجاء عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أنه لم يكن وجه أكرم عليهم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يقومون له إذا رأوه، لما يعرفون من كراهته لذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تقول في الإشارة بالإصبع‏؟‏ قيل له‏:‏ ذلك جائز إذا بعد عنك، لتعين له به وقت السلام، فإن كان دانيا فلا؛ وقد قيل بالمنع في القرب والبعد؛ لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من تشبه بغيرنا فليس منا‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏لا تسلموا تسليم اليهود والنصارى فإن تسليم اليهود بالأكف والنصارى بالإشارة‏)‏‏.‏ وإذا سلم فإنه لا ينحني، ولا أن يقبل مع السلام يده، ولأن الانحناء على معنى التواضع لا ينبغي إلا لله‏.‏ وأما تقبيل اليد فإنه من فعل الأعاجم، ولا يتبعون على أفعالهم التي أحدثوها تعظيما منهم لكبرائهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تقوموا عند رأسي كما تقوم الأعاجم عند رؤوس أكاسرتها‏}‏ فهذا مثله‏.‏ ولا بأس بالمصافحة؛ فقد صافح النبي صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب حين قدم من الحبشة، وأمر بها، وندب إليها، وقال‏:‏ ‏(‏تصافحوا يذهب الغل‏)‏ وروى غالب التمار عن الشعبي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا التقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا؛ فإن قيل‏:‏ فقد كره مالك المصافحة‏؟‏ قلنا‏:‏ روى ابن وهب عن مالك أنه كره المصافحة والمعانقة، وذهب إلى هذا سحنون وغيره من أصحابنا؛ وقد روي عن مالك خلاف ذلك من جواز المصافحة، وهو الذي يدل عليه معنى ما في الموطأ؛ وعلى جواز المصافحة جماعة العلماء من السلف والخلف‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ إنما كره مالك المصافحة لأنه لم يرها أمرا عاما في الدين، ولا منقولا نقل

قلت‏:‏ قد جاء في المصافحة حديث يدل على الترغيب فيها، والدأب عليها والمحافظة؛ وهو ما رواه البراء بن عازب قال‏:‏ لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فقلت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إن كنت لأحسب أن المصافحة للأعاجم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏نحن أحق بالمصافحة منهم ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبها بينهما‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن‏}‏ ولم يقل من الجب استعمالا للكرم؛ لئلا يذكر إخوته صنيعهم بعد عفوه عنهم بقوله‏{‏لا تثريب عليكم‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا هو الأصل عند مشايخ الصوفية‏:‏ ذكر الجفا في وقت الصفا جفا، وهو قول صحيح دل عليه الكتاب‏.‏ وقيل‏:‏ لأن في دخول السجن كان باختياره بقوله‏{‏رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه‏}‏يوسف‏:‏ 33‏]‏ وكان في الجب بإرادة الله تعالى له‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه كان في السجن مع اللصوص والعصاة، وفي الجب مع الله تعالى؛ وأيضا فإن المنة في النجاة من السجن كانت أكبر، لأنه دخله بسبب أمرهم به؛ وأيضا دخله باختياره إذ قال‏{‏رب السجن أحب إلي‏}‏ فكان الكرب فيه أكثر؛ وقال فيه أيضا‏{‏اذكرني عند ربك‏}‏يوسف‏:‏ 42‏]‏ فعوقب فيه‏.‏

قوله تعالى‏{‏وجاء بكم من البدو‏}‏ يروى أن مسكن يعقوب كان بأرض كنعان، وكانوا أهل مواش وبرية؛ وقيل‏:‏ كان يعقوب تحول إلى بادية وسكنها، وأن الله لم يبعث نبيا من أهل البادية‏.‏ وقيل‏:‏ إنه كان خرج إلى بدا، وهو موضع؛ وإياه عنى جميل بقوله‏:‏

وأنت التي حببت شغبا إلى بدا إلي وأوطاني بلاد سواهما

وليعقوب بهذا الموضع مسجد تحت جبل‏.‏ يقال‏:‏ بدا القوم بدوا إذا أتوا بدا، كما يقال‏:‏ غاروا غورا أي أتوا الغور؛ والمعنى‏:‏ وجاء بكم من مكان بدا؛ ذكره القشيري، وحكاه الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس‏.‏ ‏}‏من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي‏}‏ بإيقاع الحسد؛ قاله ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ أفسد ما بيني وبين إخوتي؛ أحال ذنبهم على الشيطان تكرما منه‏.‏ ‏}‏إن ربي لطيف لما يشاء‏}‏ أي رفيق بعباده‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون؛ كقوله‏{‏الله لطيف بعباده يرزق من يشاء‏}‏الشورى‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ اللطيف العالم بدقائق الأمور؛ والمراد هنا الإكرام والرفق‏.‏ قال قتادة، لطف بيوسف بما خراجه من السجن، وجاءه بأهله من البدو، ونزع عن قلبه نزغ الشيطان‏.‏ ويروى أن يعقوب لما قدم بأهله وولده وشارف أرض مصر وبلغ ذلك يوسف استأذن فرعون - واسمه الريان - أن يأذن له في تلقي أبيه يعقوب؛ وأخبره بقدومه فأذن له، وأمر الملأ من أصحابه بالركوب معه؛ فخرج يوسف والملك معه في أربعة آلاف من الأمراء مع كل أمير خلق الله أعلم بهم؛ وركب أهل مصر معهم يتلقون يعقوب، فكان يعقوب يمشي متكئا على يد يهوذا؛ فنظر يعقوب إلى الخيل والناس والعساكر فقال‏:‏ يا يهوذا‏!‏ هذا فرعون مصر‏؟‏ قال‏:‏ لا، بل هذا ابنك يوسف؛ فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف ليبدأه بالسلام فمنع من ذلك، وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل؛ فابتدأ يعقوب بالسلام فقال‏:‏ السلام عليك يا مذهب الأحزان، وبكى وبكى معه يوسف؛ فبكى يعقوب فرحا، وبكى يوسف لما رأى بأبيه من الحزن؛ قال ابن عباس‏:‏ فالبكاء أربعة، بكاء من الخوف، وبكاء من الجزع، وبكاء من الفرح، وبكاء رياء‏.‏ ثم فال يعقوب‏:‏ الحمد لله الذي أقر عيني بعد الهموم والأحزان، ودخل، مصر في اثنين وثمانين من أهل بيته؛ فلم يخرجوا من مصر حتى بلغوا ستمائة ألف ونيف ألف؛ وقطعوا البحر مع موسى عليه السلام؛ رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏ وحكى ابن مسعود أنهم دخلوا مصر وهم ثلاثة وتسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا‏.‏ وقال الربيع بن خيثم‏:‏ دخلوها وهم اثنان وسبعون ألفا، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف‏.‏ وقال وهب‏:‏ بن منبه دخل يعقوب وولده مصر وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة وصغير، وخرجوا منها مع موسى فرارا من فرعون، وهم ستمائة ألف وستمائة وبضع وسبعون رجل مقاتلين، سوى الذرية‏.‏ والهرمى والزمنى؛ وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف سوى المقاتلة، وقال أهل التواريخ‏:‏ أقام يعقوب بمصر أربعا وعشرين سنة في أغبط حال ونعمة، ومات بمصر، وأوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق بالشام ففعل، ثم انصرف إلى مصر‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ نقل يعقوب صلى الله عليه وسلم في تابوت من ساج إلى بيت المقدس، ووافق ذلك يوم مات عيصو، فدفنا في قبر واحد؛ فمن ثم تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس، من فعل ذلك منهم؛ وولد يعقوب وعيصو في بطن واحد، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعا مائة وسبعا وأربعين سنة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 101 ‏)‏

‏{‏رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين‏}‏

قوله تعالى‏{‏رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث‏}‏ قال قتادة‏:‏ لم يتمن الموت أحد؛ نبي ولا غيره إلا يوسف عليه السلام؛ حين تكاملت عليه النعم وجمع له الشمل اشتاق إلى لقاء ربه عز وجل‏.‏ وقيل‏:‏ إن يوسف لم يتمن الموت، وإنما تمنى الوفاة على الإسلام؛ أي إذا جاء أجلي توفني مسلما؛ وهذا قول الجمهور‏.‏ وقال سهل بن عبدالله التستري‏:‏ لا يتمنى الموت إلا ثلاث‏:‏ رجل جاهل بما بعد الموت، أو رجل يفر من أقدار الله تعالى عليه، أو مشتاق محب للقاء الله عز وجل‏.‏ وثبت في الصحيح عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنيا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي‏)‏ رواه مسلم‏.‏ وفيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا‏)‏‏.‏ وإذا ثبت هذا فكيف يقال‏:‏ إن يوسف عليه السلام تمنى الموت والخروج من الدنيا وقطع العمل‏؟‏ هذا بعيد‏!‏ إلا أن يقال‏:‏ إن ذلك كان جائزا في شرعه؛ أما أنه يجوز تمني الموت والدعاء به عند ظهور الفتن وغلبتها، وخوف ذهاب الدين، على ما بيناه في كتاب ‏}‏التذكرة‏}‏‏.‏ ‏}‏ومن‏}‏ من قوله‏{‏من الملك‏}‏ للتبعيض، وكذلك قوله‏{‏وعلمتني من تأويل الأحاديث‏}‏ لأن ملك مصر ما كان كل الملك، وعلم التعبير ما كان كل العلوم‏.‏ وقيل‏{‏من‏}‏ للجنس كقوله‏{‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان‏}‏الحج‏:‏30‏]‏ وقيل‏:‏ للتأكد‏.‏ أي آتيتني الملك وعلمتني تأويل الأحاديث‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاطر السماوات والأرض‏}‏ نصب على النعت للنداء، وهو رب، وهو نداء مضاف؛ والتقدير‏:‏ يا رب‏!‏ ويجوز أن يكون نداء ثانيا‏.‏ والفاطر الخالق؛ فهو سبحانه فاطر الموجودات، أي خالقها ومبدئها ومنشئها ومخترعها على الإطلاق من غير شيء، ولا مثال سبق؛ وقد تقدم هذا المعنى في ‏}‏البقرة‏}‏ مستوفى؛ عند قوله‏{‏بديع السماوات والأرض‏}‏البقرة‏:‏ 117‏]‏ وزدناه بيانا في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى‏.‏ ‏}‏أنت وليي‏}‏ أي ناصري ومتولي أموري في الدنيا والآخرة‏.‏ ‏}‏توفني مسلما وألحقني بالصالحين‏}‏ يريد آباءه الثلاثة؛ إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فتوفاه الله - طاهرا طيبا صلى الله عليه وسلم - بمصر، ودفن في النيل في صندوق من رخام؛ وذلك أنه لما مات تشاح الناس عليه؛ كل يحب أن يدفن في محلتهم، لما يرجون من بركته؛ واجتمعوا على ذلك حتى هموا بالقتال، فرأوا أن يدفنوه في النيل من حيث مفرق الماء بمصر، فيمر عليه الماء، ثم يتفرق في جميع مصر، فيكونوا فيه شرعا ففعلوا؛ فلما خرج موسى ببني إسرائيل أخرجه من النيل‏:‏ ونقل تابوته بعد أربعمائة سنة إلى بيت المقدس، فدفنوه مع آبائه لدعوته‏{‏وألحقني بالصالحين‏}‏ وكان عمره مائة عام وسبعة أعوام‏.‏ وعن الحسن قال‏:‏ ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة، ثم جمع له شمله فعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنه؛ وكان له من الولد إفراثيم، ومنشا، ورحمة، زوجة أيوب؛ في قول ابن لهيعة‏.‏ قال الزهري‏:‏ وولد لإفراثيم - بن يوسف - نون بن إفراثيم، وولد لنون يوشع؛ فهو يوشع بن نون، وهو فتى موسى الذي كان معه صاحب أمره، ونبأه الله في زمن موسى عليه السلام؛ فكان بعده نبيا، وهو الذي افتتح أريحا، وقتل من كان بها من الجبابرة، واستوقفت له الشمس حسب ما تقدم في ‏}‏المائدة‏}‏‏.‏ وولد لمنشا بن يوسف موسى بن منشا، قبل موسى بن عمران‏.‏ وأهل التوراة يزعمون أنه هو الذي طلب العالم ليتعلم منه حتى أدركه، والعالم هو الذي خرق السفينة، وقتل الغلام، وبنى الجدار، وموسى بن منشا معه حتى بلغه معه حيث بلغ؛ وكان ابن عباس ينكر ذلك؛ والحق الذي قاله ابن عباس؛ وكذلك في القرآن‏.‏ ثم كان بين يوسف وموسى أمم وقرون، وكان فيما بينهما شعيب، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 102 ‏)‏

‏{‏ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك من أنباء الغيب‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ ‏}‏نوحيه إليك‏}‏ خبر ثان‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويجوز أن يكون ‏}‏ذلك‏}‏ بمعنى الذي‏!‏ ‏}‏نوحيه إليك‏}‏ خبره؛ أي الذي من أنباء الغيب نوحيه إليك؛ يعني هو الذي قصصنا عليك يا محمد من أمر يوسف من أخبار الغيب ‏}‏نوحيه إليك‏}‏ أي نعلمك بوحي هذا إليك‏.‏ ‏}‏وما كنت لديهم‏}‏ أي مع إخوة يوسف ‏}‏إذ أجمعوا أمرهم‏}‏ في إلقاء يوسف في الجب‏.‏ ‏}‏وهم يمكرون‏}‏ أي بيوسف في إلقائه في الجب‏.‏ وقيل‏{‏يمكرون‏}‏ بيعقوب حين جاؤوه بالقميص ملطخا بالدم؛ أي ما شاهدت تلك الأحوال، ولكن الله أطلعك عليها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 103 ‏)‏

‏{‏وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين‏}‏ ظن أن العرب لما سألته عن هذه القصة وأخبرهم يؤمنون، فلم يؤمنوا؛ فنزلت الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي ليس تقدر على هداية من أردت هدايته؛ تقول‏:‏ حرص يحرص، مثل‏:‏ ضرب يضرب‏.‏ وفي لغة ضعيفة حرص يحرص مثل حمد يحمد‏.‏ والحرص طلب الشيء باختيار‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 104 ‏)‏

‏{‏وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما تسألهم عليه من أجر‏}‏ ‏}‏من‏}‏ صلة؛ أي ما تسألهم جعلا‏.‏ ‏}‏إن هو‏}‏ أي ما هو؛ يعني القرآن والوحي‏.‏ ‏}‏إلا ذكر‏}‏ أي عظة وتذكرة ‏}‏للعالمين‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 105 ‏)‏

‏{‏وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون‏}‏

قال الخليل وسيبويه‏:‏ هي ‏}‏أي‏}‏ دخل عليها كاف التشبيه وبنيت معها، فصار في الكلام معنى كم، وقد مضى في ‏}‏آل عمران‏}‏ القول فيها مستوفى‏.‏ ومضى القول في آية ‏}‏السماوات والأرض‏}‏ في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ الآيات آثار عقوبات الأمم السالفة؛ أي هم غافلون معرضون عن تأمل‏.‏ وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد ‏}‏والأرض‏}‏ رفعا ابتداء، وخبره‏.‏ ‏}‏يمرون عليها‏}‏‏.‏ وقرأ السدي ‏}‏والأرض‏}‏ نصبا بإضمار فعل، والوقف على هاتين القراءتين على ‏}‏السماوات‏}‏‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏{‏يمشون عليها‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 106 ‏)‏

‏{‏وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون‏}‏ نزلت في قوم أقروا بالله خالقهم وخالق الأشياء كلها، وهم يعبدون الأوثان؛ قاله الحسن، ومجاهد وعامر الشعبي وأكثر المفسرين‏.‏ وقال عكرمة هو قوله‏{‏ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله‏}‏الزخرف‏:‏ 87‏]‏ ثم يصفونه بغير صفته ويجعلون له أندادا؛ ودعن الحسن أيضا‏:‏ أنهم أهل كتاب معهم شرك وإيمان، آمنوا بالله وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا يصح إيمانهم؛ حكاه ابن، الأنباري‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في تلبية مشركي العرب‏:‏ لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك‏.‏ وعنه أيضا أنهم النصارى‏.‏ وعنه أيضا أنهم المشبهة، آمنوا مجملا وأشركوا مفصلا‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في المنافقين؛ المعنى‏{‏وما يؤمن أكثرهم بالله‏}‏ أي باللسان إلا وهو كافر بقلبه؛ ذكره الماوردي عن الحسن أيضا‏.‏ وقال عطاء‏:‏ هذا في الدعاء؛ وذلك أن الكفار ينسون ربهم في الرخاء، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء؛ بيانه‏{‏وظنوا أنهم أحيط بهم‏}‏يونس‏:‏ 22‏]‏ الآية‏.‏ وقوله‏{‏وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه‏}‏يونس‏:‏ 12‏]‏ الآية‏.‏ وفي آية أخرى‏{‏وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض‏}‏فصلت‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ معناها أنهم يدعون الله ينجيهم من الهلكة، فإذا أنجاهم قال قائلهم‏:‏ لولا فلان ما نجونا، ولولا الكلب لدخل علينا اللص، ونحو هذا؛ فيجعلون‏.‏ نعمة الله منسوبة إلى فلان، ووقايته منسوبة إلى الكلب‏.‏

قلت‏:‏ وقد يقع في هذا القول والذي قبله كثير من عوام المسلمين؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت هذه الآية في قصة الدخان؛ وذلك أن أهل مكة لما غشيهم الدخان في سني القحط قالوا‏{‏ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون‏}‏الدخان‏:‏ 12‏]‏ فذلك إيمانهم، وشركهم عودهم إلى الكفر بعد كشف العذاب؛ بيانه قوله‏{‏إنكم عائدون‏}‏الدخان‏:‏ 15‏]‏ والعود لا يكون إلا بعد ابتداء؛ فيكون معنى‏{‏إلا وهم مشركون‏}‏ أي إلا وهم عائدون إلى الشرك، والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 107 ‏)‏

‏{‏أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ مجللة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ عذاب يغشاهم؛ نظيره‏.‏ ‏}‏يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏}‏العنكبوت‏:‏ 55‏]‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ وقيعة تقع لهم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني الصواعق والقوارع‏.‏ ‏}‏أو تأتيهم الساعة‏}‏ يعني القيامة‏.‏ ‏}‏بغتة‏}‏ نصب على الحال؛ وأصله المصدر‏.‏ وقال المبرد‏:‏ جاء عن العرب حال بعد نكرة؛ وهو قولهم‏:‏ وقع أمر بغتة وفجأة؛ قال النحاس‏:‏ ومعنى ‏}‏بغتة‏}‏ إصابة من حيث لم يتوقع‏.‏ ‏}‏وهم لا يشعرون‏}‏ وهو توكيد‏.‏ وقوله‏{‏بغتة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ تصيح الصيحة بالناس وهم في أسواقهم ومواضعهم، كما قال‏{‏تأخذهم وهم يخصمون‏}‏يس‏:‏ 49‏]‏ على ما يأتي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 108 ‏)‏

‏{‏قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل هذه سبيلي‏}‏ ابتداء وخبر؛ أي قل يا محمد هذه طريقي وسنتي ومنهاجي؛ قاله ابن زيد‏.‏ وقال الربيع‏:‏ دعوتي، مقاتل‏:‏ ديني، والمعنى واحد؛ أي الذي أنا عليه وأدعو إليه يؤدي إلى الجنة‏.‏ ‏}‏على بصيرة‏}‏ أي على يقين وحق؛ ومنه‏:‏ فلان مستبصر بهذا‏.‏ ‏}‏أنا‏}‏ توكيد‏.‏ ‏}‏ومن اتبعني‏}‏ عطف على المضمر‏.‏ ‏}‏وسبحان الله‏}‏ أي قل يا محمد‏{‏وسبحان الله‏}‏‏.‏ ‏}‏وما أنا من المشركين‏}‏ الذين يتخذون من دون الله أندادا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 109 ‏)‏

‏{‏وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى‏}‏ هذا رد على القائلين‏{‏لولا أنزل عليه ملك‏}‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏ أي أرسلنا رجالا ليس فيهم امرأة ولا جني ولا ملك؛ وهذا يرد ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن في النساء أربع نبيات حواء وآسية وأم موسى ومريم‏)‏‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏آل عمران‏}‏ شيء من هذا‏.‏ ‏}‏من أهل القرى‏}‏ يريد المدائن؛ ولم يبعث الله نبيا من أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على أهل البدو؛ ولأن أهل الأمصار أعقل وأحلم وأفضل وأعلم‏.‏ قال الحسن‏:‏ لم يبعث الله نبيا من أهل البادية قط، ولا من النساء، ولا من الجن‏.‏ وقال قتادة‏{‏من أهل القرى‏}‏ أي من أهل الأمصار؛ لأنهم أعلم وأحلم‏.‏ وقال العلماء‏:‏ من شرط الرسول أن يكون رجلا آدميا مدنيا؛ وإنما قالوا آدميا تحرزا؛ من قوله‏{‏يعوذون برجال من الجن‏}‏الجن‏:‏ 6‏]‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏أفلم يسيروا في الأرض فينظروا‏}‏ إلى مصارع الأمم المكذبة لأنبيائهم فيعتبروا‏.‏ ‏}‏ولدار الآخرة خير‏}‏ ابتداء وخبره‏.‏ وزعم الفراء أن الدار هي الآخرة؛ وأضيف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ، كيوم الخميس، وبارحة الأولى؛ قال الشاعر‏:‏

ولو أقوت عليك ديار عبس عرفت الذل عرفان اليقين

أي عرفانا يقينا؛ واحتج الكسائي بقولهم‏:‏ صلاة الأولى؛ واحتج الأخفش بمسجد الجامع‏.‏ قال النحاس‏:‏ إضافة الشيء إلى نفسه محال؛ لأنه إنما يضاف الشيء إلى غيره ليتعرف به؛ والأجود الصلاة الأولى، ومن قال صلاة الأولى فمعناه‏:‏ عند صلاة الفريضة الأولى؛ وإنما سميت الأولى لأنها أول ما صلي حين فرضت الصلاة، وأول ما أظهر؛ فلذلك قيل لها أيضا الظهر‏.‏ والتقدير‏:‏ ولدار الحال الآخرة خير، وهذا قول البصريين؛ والمراد بهذه الدار الجنة؛ أي هي خير للمتقين‏.‏ وقرئ‏{‏وللدار الآخرة‏}‏‏.‏ وقرأ نافع وعاصم ويعقوب وغيرهم‏.‏ ‏}‏أفلا تعقلون‏}‏ بالتاء على الخطاب‏.‏ الباقون بالياء على الخبر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 110 ‏)‏

‏{‏حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏حتى إذا استيأس الرسل‏}‏ تقدم القراءة فيه ومعناه‏.‏ ‏}‏وظنوا أنهم قد كذبوا‏}‏ وهذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم‏.‏ وهذا الباب عظيم، وخطره جسيم، ينبغي الوقوف، عليه لئلا يزل الإنسان فيكون في سواء الجحيم‏.‏ المعنى‏:‏ وما أرسلنا قبلك يا محمد إلا رجالا ثم لم نعاقب أممهم بالعذاب‏.‏ ‏}‏حتى إذا استيأس الرسل‏}‏ أي يئسوا من إيمان قومهم‏.‏ ‏}‏وظنوا أنهم قد كذبوا‏}‏ بالتشديد؛ أي أيقنوا أن قومهم كذبوهم‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ حسبوا أن من آمن بهم من قومهم كذبوهم، لا أن القوم كذبوا، ولكن الأنبياء ظنوا وحسبوا أنهم يكذبونهم؛ أي خافوا أن يدخل قلوب أتباعهم شك؛ فيكون ‏}‏وظنوا‏}‏ على بابه في هذا التأويل‏.‏ وقرأ ابن عباس وابن مسعود وأبو عبدالرحمن السلمي وأبو جعفر بن القعقاع والحسن وقتادة وأبو رجاء العطاردي وعاصم وحمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش وخلف ‏}‏كذبوا‏}‏ بالتخفيف؛ أي ظن القوم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب، ولم يصدقوا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ظن الأمم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا به من نصرهم‏.‏ وفي رواية عن ابن عباس؛ ظن الرسل أن الله أخلف ما وعدهم‏.‏ وقيل‏:‏ لم تصح هذه الرواية؛ لأنه لا يظن بالرسل هذا الظن، ومن ظن هذا الظن لا يستحق النصر؛ فكيف قال‏{‏جاءكم نصرنا‏}‏‏؟‏ ‏!‏ قال القشيري أبو نصر‏:‏ ولا يبعد إن صحت الرواية أن المراد خطر بقلوب الرسل هذا من غير أن يتحققوه في نفوسهم؛ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمل به‏)‏‏.‏ ويجوز أن يقال‏:‏ قربوا من ذلك الظن؛ كقولك‏:‏ بلغت المنزل، أي قربت منه‏.‏

وذكر الثعلبي والنحاس عن ابن عباس قال‏:‏ كانوا بشرا فضعفوا من طول البلاء، ونسوا وظنوا أنهم أخلفوا؛ ثم تلا‏{‏حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله‏}‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏ وقال الترمذي الحكيم‏:‏ وجهه عندنا أن الرسل كانت تخاف بعد ما وعد الله النصر، لا من تهمة لوعد الله، ولكن لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت، حدثا ينقض ذلك الشرط والعهد الذي عهد إليهم؛ فكانت إذا طالت عليهم المدة دخلهم الإياس والظنون من هذا الوجه‏.‏ وقال المهدوي عن ابن عباس‏:‏ ظنت الرسل أنهم قد أخلفوا على ما يلحق البشر؛ واستشهد بقول إبراهيم عليه السلام‏{‏رب أرني كيف تحيى الموتى‏}‏البقرة‏:‏ 260‏]‏ الآية‏.‏ والقراءة الأولى أولى‏.‏ وقرأ مجاهد وحميد - ‏}‏قد كذبوا‏}‏ بفتح الكاف والذال مخففا؛ على معنى‏:‏ وظن قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا، لما رأوا من تفضل الله عز وجل في تأخير العذاب‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ ولما أيقن الرسل أن قومهم قد كذبوا على الله بكفرهم جاء الرسل نصرنا‏.‏ وفي البخاري عن عروة عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله عز وجل‏{‏حتى إذا استيأس الرسل‏}‏ قال قلت‏:‏ أكذبوا أم كذبوا‏؟‏ قالت عائشة‏:‏ كذبوا‏.‏ قلت‏:‏ فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن‏؟‏ قالت‏:‏ أجل‏!‏ لعمري‏!‏ لقد استيقنوا بذلك؛ فقلت لها‏{‏وظنوا أنهم قد كذبوا‏}‏ قالت‏:‏ معاذ الله‏!‏ لم تكن الرسل تظن ذلك بربها‏.‏ قلت‏:‏ فما هذه الآية‏؟‏ قالت‏:‏ هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصرنا عند ذلك‏.‏ وفي قوله تعالى‏{‏جاءهم نصرنا‏}‏ قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ جاء الرسل نصر الله؛ قال مجاهد‏.‏ الثاني‏:‏ جاء قومهم عذاب الله؛ قاله ابن عباس‏.‏ ‏}‏فننجي من نشاء‏}‏ قيل‏:‏ الأنبياء ومن آمن معهم‏.‏ وروي عن عاصم ‏}‏فنجي من نشاء‏}‏ بنون واحدة مفتوحة الياء، و‏}‏من‏}‏ في موضع رفع، اسم ما لم يسم فاعله؛ واختار أبو عبيد هذه القراءة لأنها في مصحف عثمان، وسائر مصاحف البلدان بنون واحدة‏.‏ وقرأ ابن محيصن ‏}‏فنجا‏}‏ فعل ماض، و‏}‏من‏}‏ في موضع رفع لأنه الفاعل، وعلى قراءة الباقين نصبا على المفعول‏.‏ ‏}‏ولا يرد بأسنا‏}‏ أي عذابنا‏.‏ ‏}‏عن القوم المجرمين‏}‏ أي الكافرين المشركين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 111 ‏)‏

‏{‏لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏لقد كان في قصصهم عبرة‏}‏ أي في قصة يوسف وأبيه وإخوته، أو في قصص الأمم‏.‏ ‏}‏عبرة‏}‏ أي فكرة وتذكرة وعظة‏.‏ ‏}‏لأولي الألباب‏}‏ أي العقول‏.‏ وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي‏:‏ إن يعقوب عاش مائة سنة وسبعا وأربعين سنة، وتوفي أخوه عيصو معه في يوم واحد، وقبرا في قبر واحد؛ فذلك قوله‏{‏لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏ ‏}‏ما كان حديثا يفترى‏}‏ أي ما كان القرآن حديثا يفترى، أو ما كانت هذه القصة حديثا يفترى‏.‏ ‏}‏ولكن تصديق الذي بين يديه‏}‏ أي ولكن كان تصديق، ويجوز الرفع بمعنى لكن هو تصديق الذي بين يديه أي ما كان قبله من التوراة والإنجيل وسائر كتب الله تعالى؛ وهذا تأويل من زعم أنه القرآن‏.‏ ‏}‏وتفصيل كل شيء‏}‏ مما يحتاج العباد إليه من الحلال والحرام، والشرائع والأحكام‏.‏ ‏}‏وهدى ورحمة لقوم يؤمنون‏}‏‏.‏
 
سورة الرعد

مقدمة السورة

سورة الرعد مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ومدنية في قول الكلبي ومقاتل‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ مدنية إلا آيتين منها نزلتا بمكة؛ وهما قوله عز وجل‏{‏ولو أن قرآنا سيرت به الجبال‏}‏الرعد‏:‏ 31‏]‏ ‏[‏إلى آخرهما‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 1 ‏)‏

‏{‏المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏المر تلك آيات الكتاب‏}‏ تقدم القول فيها‏.‏ ‏}‏والذي أنزل إليك‏}‏ يعني وهذا القرآن الذي أنزل إليك‏.‏ ‏}‏من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏}‏ لا كما يقول المشركون‏:‏ إنك تأتي به من تلقاء نفسك؛ فاعتصم به، وأعمل بما فيه‏.‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت حين قال المشركون‏:‏ إن محمدا أتى بالقرآن من تلقاء نفسه‏.‏ ‏}‏والذي‏}‏ في موضع رفع عطفا على ‏}‏آيات‏}‏ أو على الابتداء، و‏}‏الحق‏}‏ خبره؛ ويجوز أن يكون موضعه جرا على تقدير‏:‏ وآيات الذي أنزل إليك، وارتفاع ‏}‏الحق‏}‏ على هذا على إضمار مبتدأ، تقديره‏:‏ ذلك الحق؛ كقوله تعالى‏{‏وهم يعلمون الحق‏}‏البقرة‏:‏146 - 147‏]‏ يعني ذلك الحق‏.‏ قال الفراء‏:‏ وإن شئت جعلت ‏}‏الذي‏}‏ خفضا نعتا للكتاب، وإن كانت فيه الواو كما يقال‏:‏ أتانا هذا الكتاب عن أبي حفص والفاروق؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

إلى الملك القرم وابن الهمام وليت الكتيبة في المزدحم

يريد‏:‏ إلى الملك القرم بن الهمام، ليث الكتيبة‏.‏ ‏}‏ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏}‏

الآية رقم ‏(‏ 2 ‏)‏

‏{‏الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها‏}‏ الآية‏.‏ لما بين تعالى أن القرآن حق، بين أن من أنزل قادر على الكمال؛ فانظروا في مصنوعاته لتعرفوا كمال قدرته؛ وقد تقدم هذا المعنى‏.‏ وفي قوله‏{‏بغير عمد ترونها‏}‏ قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها مرفوعة بغير عمد ترونها؛ قاله قتادة وإياس بن معاوية وغيرهما‏.‏ الثاني‏:‏ لها عمد، ولكنا لا نراه؛ قال ابن عباس‏:‏ لها عمد على جبل قاف؛ ويمكن أن يقال على هذا القول‏:‏ العمد قدرته التي يمسك بها السماوات والأرض، وهي غير مرئية لنا؛ ذكره الزجاج‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ هي توحيد المؤمن‏.‏ أعمدت السماء حين كادت تنفطر من كفر الكافر؛ ذكره الغزنوي‏.‏ والعمد جمع عمود؛ قال النابغة‏:‏

وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد

قوله تعالى‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ تقدم الكلام فيه‏.‏ ‏}‏وسخر الشمس والقمر‏}‏ أي ذللهما لمنافع خلقه ومصالح عباده؛ وكل مخلوق مذلل للخالق‏.‏ ‏}‏كل يجري لأجل مسمى‏}‏ أي إلى وقت معلوم؛ وهو فناء الدنيا، وقيام الساعة التي عندها تكور الشمس، ويخسف القمر، وتنكدر النجوم، وتنتثر الكواكب‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلها التي ينتهيان إليها لا يجاوزانها‏.‏ وقيل‏:‏ معنى الأجل المسمى أن القمر يقطع فلكه في شهر، والشمس في سنة‏.‏ ‏}‏يدبر الأمر‏}‏ أي يصرفه على ما يريد‏.‏ ‏}‏يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون‏}‏ ‏}‏يفصل الآيات‏}‏ أي يبينها أي من قدر على هذه الأشياء يقدر على الإعادة؛ ولهذا قال‏{‏لعلكم بلقاء ربكم توقنون‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 3 ‏)‏

‏{‏وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وهو الذي مد الأرض‏}‏ لما بين آيات السماوات بين آيات الأرض؛ أي بسط الأرض طولا وعرضا‏.‏ ‏}‏وجعل فيها رواسي‏}‏ أي جبالا ثوابت؛ واحدها راسية؛ لأن الأرض ترسو بها، أي تثبت؛ والإرساء الثبوت؛ قال عنترة‏:‏

فصبرت عارفة لذلك حرة ترسوا إذا نفس الجبان تطلع

وقال جميل‏:‏

أحبها والذي أرسى قواعده حبا إذا ظهرت آياته بطنا

وقال ابن عباس وعطاء‏:‏ أول جبل وضع على الأرض أبو قبيس‏.‏

مسألة‏:‏

في هذه الآية رد على من زعم أن الأرض كالكرة، ورد على من زعم أن الأرض تهوي أبوابها عليها؛ وزعم ابن الراوندي أن تحت الأرض جسما صعادا كالريح الصعادة؛ وهي منحدرة فاعتدل الهاوي والصعادي في الجرم والقوة فتوافقا‏.‏ وزعم آخرون أن الأرض مركب من جسمين، أحدهما منحدر، والآخر مصعد، فاعتدلا، فلذلك وقفت‏.‏ والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض وسكونها ومدها، وأن حركتها إنما تكون في العادة بزلزلة تصيبها‏.‏ وقوله تعالى‏{‏وأنهارا‏}‏ أي مياها جارية في الأرض، فيها منافع الخلق‏.‏ ‏}‏ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين‏}‏ بمعنى صنفين‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الزوج واحد، ويكون اثنين‏.‏ الفراء‏:‏ يعني بالزوجين ها هنا الذكر والأنثى؛ وهذا خلاف النص‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏}‏زوجين‏}‏ نوعان، كالحلو والحامض، والرطب واليابس، والأبيض والأسود، والصغير والكبير‏.‏ ‏}‏إن في ذلك لآيات‏}‏ أي دلالات وعلامات ‏}‏لقوم يتفكرون‏}‏

الآية رقم ‏(‏ 4 ‏)‏

‏{‏وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وفي الأرض قطع متجاورات‏}‏ ‏}‏وفي الأرض قطع متجاورات‏}‏ في الكلام حذف؛ المعنى‏:‏ وفي الأرض قطع متجاورات وغير متجاورات؛ كما قال‏{‏سرابيل تقيكم الحر‏}‏ والمعنى‏:‏ وتقيكم البرد، ثم حذف لعلم السامع‏.‏ والمتجاورات المدن وما كان عامرا، وغير متجاورات الصحارى وما كان غير عامر‏.‏ ‏}‏متجاورات‏}‏ أي قرى متدانيات، ترابها واحد، وماؤها واحد، وفيها زروع وجنات، ثم تتفاوت في الثمار والتمر؛ فيكون البعض حلوا، والبعض حامضا؛ والغصن الواحد من الشجرة قد يختلف الثمر فيه من الصغر والكبر واللون والمطعم، وإن انبسط الشمس والقمر على الجميع على نسق واحد؛ وفي هذا أدل دليل على وحدانيته وعظم صمديته، والإرشاد لمن ضل عن معرفته؛ فإنه نبه سبحانه بقوله‏{‏تسقى بماء واحد‏}‏ على أن ذلك كله ليس إلا بمشيئته وإرادته، وأنه مقدور بقدرته؛ وهذا أدل دليل على بطلان القول بالطبع؛ إذ لو كان ذلك بالماء والتراب والفاعل له الطبيعة لما وقع الاختلاف‏.‏ وقيل‏:‏ وجه الاحتجاج أنه أثبت التفاوت بين البقاع؛ فمن تربة عذبة، ومن تربة سبخة مع تجاورهما؛ وهذا أيضا من دلالات كمال قدرته؛ جل وعز تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا‏.‏

ذهبت الكفرة - لعنهم الله - إلى أن كل حادث يحدث بنفسه لا من صانع؛ وادعوا ذلك في الثمار الخارجة من الأشجار، وقد أقروا بحدوثها، وأنكروا محدثها، وأنكروا الأعراض‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ بحدوث الثمار لا من صانع، وأثبتوا للأعراض فاعلا؛ والدليل على أن الحادث لا بد له من محدث أنه يحدث في وقت، ويحدث ما هو من جنسه في وقت آخر؛ فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به، لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه؛ وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أن اختصاصه به لأجل مخصص خصصه به، ولولا تخصيصه إياه به لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده؛ واستيفاء هذا في علم الكلام‏.‏

قوله تعالى‏{‏وجناتٌ من أعناب‏}‏ قرأ الحسن ‏}‏وجناتٍ‏}‏ بكسر التاء، على التقدير‏:‏ وجعل فيها جنات، فهو محمول على قوله‏{‏وجعل فيها رواسي‏}‏‏.‏ ويجوز أن تكون مجرورة على الحمل على ‏}‏كل‏}‏ التقدير‏:‏ ومن كل الثمرات، ومن جنات‏.‏ الباقون ‏}‏جنات‏}‏ بالرفع على تقدير‏:‏ وبينهما جنات‏.‏ ‏}‏وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان‏}‏ بالرفع‏.‏ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عطفا على الجنات؛ أي على تقدير‏:‏ وفي الأرض زرع ونخيل‏.‏ وخفضها الباقون نسقا على الأعناب؛ فيكون الزرع والنخيل من الجنات؛ ويجوز أن يكون معطوفا على ‏}‏كل‏}‏ حسب ما تقدم في ‏}‏وجنات‏}‏‏.‏ وقرأ مجاهد والسلمي وغيرهما ‏}‏صنوان‏}‏ بضم الصاد، الباقون بالكسر؛ وهما لغتان؛ وهما جمع صنو، وهي النخلات والنخلتان، يجمعهن أصل واحد، وتتشعب منه رؤوس فتصير نخيلا؛ نظيرها قنوان، واحدها قنو وروى أبو إسحاق عن البراء قال‏:‏ الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق؛ النحاس‏:‏ وكذلك هو في اللغة؛ يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر صنوان‏.‏ والصنو المثل؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عم الرجل صنو أبيه‏)‏‏.‏ ولا فرق فيها بين التثنية والجمع ولا بالإعراب؛ فتعرب نون الجمع، وتكسر نون التثنية؛ قال الشاعر‏:‏

العلم والحلم خلتا كرم للمرء زين هما اجتمعا

صنوان لا يستتم حسنهما إلا بجمع ذا وذاك معا

قوله تعالى‏{‏يسقى بماء واحد‏}‏ كصالح بني آدم وخبيثهم؛ أبوهم واحد؛ قاله النحاس والبخاري‏.‏ وقرأ عاصم وابن عامر‏{‏يسقى‏}‏ بالياء، أي يسقى ذلك كله‏.‏ وقرأ الباقون بالتاء، لقوله‏{‏جنات‏}‏ واختاره أبو حاتم وأبو عبيدة؛ قال أبو عمرو‏:‏ والتأنيث أحسن؛ ‏}‏ونفضل بعضها على بعض في الأكل‏}‏ ولم يقل بعضه‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما ‏}‏ويُفَضِّل‏}‏ بالياء ردا على قوله‏{‏يدبر الأمر‏}‏الرعد‏:‏ 2‏]‏ و‏}‏يفصل‏}‏الرعد‏:‏ 2‏]‏ و‏}‏يغشي‏}‏الرعد‏:‏3‏]‏ الباقون بالنون على معنى‏:‏ ونحن نفضل‏.‏ وروى جابر بن عبدالله قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم ‏}‏وفي الأرض قطع متجاورات‏}‏ حتى بلغ قوله‏{‏يسقى بماء واحد‏}‏‏)‏ و‏}‏الأكل‏}‏ الثمر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني الحلو والحامض والفارسي والدقل‏.‏ وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى‏{‏ونفضل بعضها على بعض في الأكل‏}‏ قال‏:‏ الفارسي والدقل والحلو والحامض‏)‏ ذكره الثعلبي‏.‏ قال الحسن‏:‏ المراد بهذه الآية المثل؛ ضربه الله تعالى لبني آدم، أصلهم واحد، وهم مختلفون في الخير والشر‏.‏ والإيمان والكفر، كاختلاف الثمار التي تسقى بماء واحد؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

الناس كالنبت والنبت ألوان منها شجر الصندل والكافور والبان

ومنها شجر ينضج طول الدهر قطران

‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏}‏ أي لعلامات لمن كان له قلب يفهم عن الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 5 ‏)‏

‏{‏وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن تعجب فعجب قولهم‏}‏ أي إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعدما كنت عندهم الصادق الأمين فأعجب منه تكذيبهم بالبعث؛ والله تعالى لا يتعجب، ولا يجوز عليه التعجب؛ لأنه تغير النفس بما تخفى أسبابه، وإنما ذكر ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ أي إن عجبت يا محمد من إنكارهم الإعادة مع إقرارهم بأني خالق السماوات والأرض والثمار المختلفة من الأرض الواحدة فقولهم عجب يعجب منه الخلق؛ لأن الإعادة في معنى الابتداء‏.‏ وقيل‏:‏ الآية في منكري الصانع؛ أي إن تعجب من إنكارهم الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لا بد له من مغير فهو محل التعجب؛ ونظم الآية يدل على الأول والثاني؛ لقوله‏{‏أئذا كنا ترابا‏}‏ أي انبعث إذا كنا ترابا‏؟‏ ‏!‏‏.‏ ‏}‏أئنا لفي خلق جديد‏}‏ وقرئ ‏}‏إنا‏}‏‏.‏ و‏}‏الأغلال‏}‏ جمع غل؛ وهو طوق تشد به اليد إلى العنق، أي يغلون يوم القيامة؛ بدليل قوله‏{‏إذ الأغلال في أعناقهم‏}‏غافر‏:‏ 71‏]‏ إلى قوله‏{‏ثم في النار يسجرون‏}‏غافر‏:‏ 72‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 6 ‏)‏

‏{‏ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة‏}‏ أي لفرط إنكارهم وتكذيبهم يطلبون العذاب؛ قيل هو قولهم‏{‏اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء‏}‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ طلبوا العقوبة قبل العافية؛ وقد حكم سبحانه بتأخير العقوبة عن هذه الأمة إلى يوم القيامة‏.‏ وقيل‏{‏قبل الحسنة‏}‏ أي قبل الإيمان الذي يرجى به الأمان والحسنات‏.‏ ‏}‏وقد خلت من قبلهم المثلات‏}‏ العقوبات؛ الواحدة مثلة‏.‏ ورى عن الأعمش أنه قرأ ‏}‏المثلات‏}‏ بضم الميم وإسكان الثاء؛ وهذا جمع مثلة، ويجوز ‏}‏المثلات‏}‏ تبدل من الضمة فتحة لثقلها، وقيل‏:‏ يؤتى بالفتحة عوضا من الهاء‏.‏ وروي عن الأعمش أنه قرأ ‏}‏المثلات‏}‏ بفتح الميم وإسكان الثاء؛ فهذا جمع مثلة، ثم حذف الضمة لثقلها؛ ذكره جميعه النحاس رحمه الله‏.‏ وعلى قراءة الجماعة واحدة مثلة، نحو صدقة وصدقة؛ وتميم تضم الثاء والميم جميعا، واحدها على لغتهم مثلة، بضم الميم وجزم الثاء؛ مثل‏:‏ غرفة وغرفات، والفعل منه مثلت به أمثل مثلا، بفتح الميم وسكون الثاء‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب‏}‏ أي لذو تجاوز عن المشركين إذا أمنوا، وعن المذنبين إذا تابوا‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أرجى آية في كتاب الله تعالى ‏}‏وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم‏}‏‏.‏ ‏}‏وإن ربك لشديد العقاب‏}‏ إذا أصروا على الكفر‏.‏ وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ لما نزلت‏{‏وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لولا عفو الله ورحمته وتجاوزه لما هَنَأَ أحداً عيشٌ ولولا عقابه ووعيده وعذابه لاتكل كل أحد‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 7 ‏)‏

‏{‏ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويقول الذين كفروا لولا‏}‏ أي هلا ‏}‏أنزل عليه آية من ربه‏}‏‏.‏ لما اقترحوا الآيات وطلبوها قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‏{‏إنما أنت منذر‏}‏ أي معلم‏.‏ ‏}‏ولكل قوم هاد‏}‏ أي نبي يدعوهم إلى الله‏.‏ وقيل‏:‏ الهادي الله؛ أي عليك الإنذار، والله هادي، كل قوم إن أراد هدايتهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 8 ‏:‏ 9 ‏)‏

‏{‏الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال‏}‏

قوله تعالى‏{‏الله يعلم ما تحمل كل أنثى‏}‏ أي من ذكر وأنثى، صبيح وقبيح، صالح وطالح؛ وقد تقدم في سورة ‏}‏الأنعام‏}‏ أن الله سبحانه منفرد بعلم الغيب وحده لا شريك له؛ وذكرنا هناك حديث البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏مفاتيح الغيب خمس‏)‏ الحديث‏.‏ وفيه ‏(‏لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله‏)‏‏.‏ واختلف العلماء في تأويل قوله‏{‏وما تغيض الأرحام وما تزداد‏}‏ فقال قتادة‏:‏ المعنى ما تسقط قبل التسعة الأشهر، وما تزداد فوق التسعة؛ وكذلك قال ابن عباس‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إذا حاضت المرأة في حملها كان ذلك نقصانا في ولدها؛ فإن زادت على التسعة كان تماما لما نقص؛ وعنه‏:‏ الغيض ما تنقصه الأرحام من الدم، والزيادة ما تزداد منه‏.‏ وقيل‏:‏ الغيض والزياد‏.‏ يرجعان إلى الولد، كنقصان إصبع أو غيرها، وزيادة إصبع أو غيرها‏.‏ وقيل‏:‏ الغيض انقطاع دم الحيض‏.‏ ‏}‏وما تزداد‏}‏ بدم النفاس بعد الوضع‏.‏

في هذه الآية دليل على أن الحامل تحيض؛ وهو مذهب مالك والشافعي في أحد قوليه‏.‏ وقال عطاء والشعبي وغيرهما‏:‏ لا تحيض؛ وبه قال أبو حنيفة؛ ودليله الآية‏.‏ قال ابن عباس في تأويلها‏:‏ إنه‏.‏ حيض الحبالى، وكذلك روي عن عكرمة ومجاهد؛ وهو قول عائشة، وأنها كانت تفتي النساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصلاة؛ والصحابة إذ ذاك متوافرون، ولم ينكر منهم أحد عليها، فصار كالإجماع؛ قاله ابن القصار‏.‏ وذكر أن رجلين، تنازعا ولدا، فترافعا إلى عمر رضي الله عنه فعرضه على القافة، فألحقه القافة بهما، فعلاه عمر بالدرة، وسأل نسوة من قريش فقال‏:‏ انظرن ما شأن هذا الولد‏؟‏ فقلن‏:‏ إن الأول خلا بها وخلاها، فحاضت على الحمل، فظنت أن عدتها انقضت؛ فدخل بها الثاني، فانتعش الولد بماء الثاني؛ فقال عمر‏:‏ الله أكبر‏!‏ وألحقه بالأول، ولم يقل إن الحامل لا تحيض، ولا قال ذلك أحد من الصحابة؛ فدل أنه إجماع، والله أعلم‏.‏ واحتج المخالف بأن قال لو كان الحامل تحيض، وكان ما تراه المرأة من الدم حيضا لما صح استبراء الأمة بحيض؛ وهو إجماع وروي عن مالك في كتاب محمد ما يقتضي أنه ليس بحيض‏.‏

في هذه الآية دليل على أن الحامل قد تضع حملها لأقل من تسعة أشهر والأكثر، وأجمع العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر، وأن عبدالملك، بن مروان ولد لستة أشهر‏.‏ وهذه الستة الأشهر هي بالأهلة كسائر أشهر الشريعة؛ ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك، وأظنه في كتاب ابن حارث أنه إن نقص عن الأشهر الستة ثلاثة أيام فإن الولد يلحق لعلة نقص الأشهر وزيادتها؛ حكاه ابن عطية‏.‏

واختلف العلماء في أكثر الحمل؛ فروى ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت‏:‏ يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحول ظل المغزل؛ ذكره الدارقطني‏.‏ وقالت جميلة بنت سعد - أخت عبيد بن سعد، وعن الليث بن سعد - إن أكثره ثلاث سنين‏.‏ وعن الشافعي أربع سنين؛ وروي عن مالك في إحدى روايتيه، والمشهور عنه خمس سنين؛ وروي عنه لا حد له، ولو زاد على العشرة الأعوام؛ وهي الرواية الثالثة عنه‏.‏ وعن الزهري ست وسبع‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ومن الصحابة من يجعله إلى سبع؛ والشافعي‏:‏ مدة الغاية منها أربع سنين‏.‏ والكوفيون يقولون‏:‏ سنتان لا غير‏.‏ ومحمد بن عبدالحكم يقول‏:‏ سنة لا أكثر‏.‏ وداود يقول‏:‏ تسعة أشهر، لا يكون عنده حمل أكثر منها‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وهذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد، والرد إلى ما عرف من أمر النساء وبالله التوفيق‏.‏ روى الدارقطني عن الوليد بن مسلم قال‏:‏ قلت لمالك ابن أنس إني حدثت عن عائشة أنها قالت‏:‏ لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل، فقال‏:‏ سبحان الله‏!‏ من يقول هذا‏؟‏ ‏!‏ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان، تحمل وتضع في أربع سنين، امرأة صدق، وزوجها رجل صدق؛ حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين‏.‏ وذكره عن المبارك ابن مجاهد قال‏:‏ مشهور عندنا كانت امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين، وكانت تسمى حاملة الفيل‏.‏ وروى أيضا قال‏:‏ بينما مالك بن دينار يوما جالس إذ جاءه رجل فقال‏:‏ يا أبا يحيى‏!‏ ادع لامرأة حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد؛ فغضب مالك وأطبق المصحف ثم قال‏:‏ ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء‏!‏ ثم قرأ، ثم دعا، ثم قال‏:‏ اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجه عنها الساعة، وإن كان في بطنها جارية فأبدلها بها غلاما، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب، ورفع مالك يده، ورفع الناس أيديهم، وجاء الرسول إلى الرجل فقال‏:‏ أدرك امرأتك، فذهب الرجل، فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط، ابن أربع سنين، قد استوت أسنانه، ما قطعت سراره؛ وروي أيضا أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ إني غبت عن امرأتي سنتين فجئت وهي حبلى؛ فشاور عمر الناس في رجمها، فقال معاذ بن جبل‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل؛ فاتركها حتى تضع، فتركها، فوضعت غلاما قد خرجت ثنيتاه؛ فعرف الرجل الشبه فقال‏:‏ ابني ورب الكعبة‏!‏؛ فقال عمر‏:‏ عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ؛ لولا معاذ لهلك عمر‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ وضعتني أمي وقد حملت بي في بطنها سنتين، فولدتني وقد خرجت سني‏.‏ ويذكر عن مالك أنه حمل به في بطن أمه سنتين، وقيل‏:‏ ثلاث سنين‏.‏ ويقال‏:‏ إن محمد بن عجلان مكث في بطن أمه ثلاث سنين، فماتت به وهو يضطرب اضطرابا شديدا، فشق بطنها وأخرج وقد نبتت أسنانه‏.‏ وقال حماد بن سلمة‏:‏ إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين‏.‏ وذكر الغزنوي أن الضحاك ولد لسنتين، وقد طلعت سنه فسمي ضحاكا‏.‏ وقال عباد بن العوام‏:‏ ولدت جارة لنا لأربع سنين غلاما شعره إلى منكبيه، فمر به طير فقال‏:‏ كش‏.‏

قال ابن خويز منداد‏:‏ أقل الحيض والنفاس وأكثره وأقل الحمل وأكثره مأخوذ من طريق الاجتهاد؛ لأن علم ذلك استأثر الله به، فلا يجوز أن يحكم في شيء منه إلا بقدر ما أظهره لنا، ووجد ظاهرا في النساء نادرا أو معتادا؛ ولما وجدنا امرأة قد حملت أربع سنين وخمس سنين حكمنا بذلك، والنفاس والحيض لما لم نجد فيه أمرا مستقرا رجعنا فيه إلى ما يوجد في النادر منهن‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ نقل بعض المتساهلين من المالكيين أن أكثر الحمل تسعة أشهر؛ وهذا ما لم ينطق به قط إلا هالكي، وهم الطبائعيون الذين يزعمون أن مدبر الحمل في الرحم الكواكب السبعة؛ تأخذه شهرا شهرا، ويكون الشهر الرابع منها للشمس؛ ولذلك يتحرك ويضطرب، وإذا تكامل التداول في السبعة الأشهر بين الكواكب السبعة عاد في الشهر الثامن إلى زحل، فيبقله ببرده؛ فيا ليتني تمكنت من مناظرتهم أو مقاتلتهم‏!‏ ما بال المرجع بعد تمام الدور يكون إلى زحل دون غيره‏؟‏ الله أخبركم بهذا أم على الله تفترون‏؟‏ ‏!‏ وإذا جاز أن يعود إلى اثنين منها لم لا يجوز أن يعود التدبير إلى ثلاث أو أربع، أو يعود إلى جميعها مرتين أو ثلاثا‏؟‏ ‏!‏ ما هذا التحكم بالظنون الباطلة على الأمور الباطنة‏!‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وكل شيء عنده بمقدار‏}‏ يعني من النقصان والزيادة‏.‏ ويقال‏{‏بمقدار‏}‏ قدر خروج الولد من بطن أمه، وقد مكثه في بطنها إلى خروجه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ في الرزق والأجل‏.‏ والمقدار القدر؛ وعموم الآية يتناول كل ذلك، والله سبحانه أعلم‏.‏

قلت‏:‏ هذه الآية تمدح الله سبحانه وتعالى بها بأنه ‏}‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ أي هو عالم بما غاب عن الخلق، وبما شهدوه‏.‏ فالغيب مصدر بمعنى الغائب‏.‏ والشهادة مصدر بمعنى الشاهد؛ فنبه سبحانه على انفراده بعلم الغيب، والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق، فلا يجوز أن يشاركه في ذلك أحد؛ فأما أهل الطب الذين يستدلون بالأمارات والعلامات فإن قطعوا بذلك فهو كفر، وإن قالوا إنها تجربة تركوا وما هم عليه، ولم يقدح ذلك في الممدوح؛ فإن العادة يجوز انكسارها، والعلم لا يجوز تبدله‏.‏ و‏}‏الكبير‏}‏ الذي كل شيء دونه‏.‏ ‏}‏المتعال‏}‏ عما يقول المشركون، المستعلي على كل شيء بقدرته وقهره؛ وقد ذكرناهما في شرح الأسماء مستوفى، والحمد لله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 10 ‏)‏

‏{‏سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار‏}‏

قوله تعالى‏{‏سواء منكم من أسر القول ومن جهر به‏}‏ إسرار القول‏:‏ ما حدث به المرء نفسه، والجهر ما حدث به غيره؛ والمراد بذلك أن الله سبحانه يعلم ما أسره الإنسان من خير وشر، كما يعلم ما جهر به من خير وشر‏.‏ و‏}‏منكم‏}‏ يحتمل أن يكون وصفا لـ ‏}‏ سواء‏}‏ التقدير‏:‏ سير من أسر وجهر من جهر سواء منكم؛ ويجوز أن يتعلق ‏}‏بسواء‏}‏ على معنى‏:‏ يستوي منكم، كقولك‏:‏ مررت بزيد‏.‏ ويجوز أن يكون على تقدير‏:‏ سر من أسر منكم وجهر من جهر منكم‏.‏ ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ ذو سواء منكم من أسر القول ومن جهر به، كما تقول‏:‏ عدل زيد وعمرو أي ذوا عدل‏.‏ وقيل‏{‏سواء‏}‏ أي مستو، فلا يحتاج إلى تقدير حذف مضاف‏.‏ ‏}‏ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار‏}‏ ‏}‏بالنهار‏}‏ أي يستوي في علم الله السر والجهر، والظاهر في الطرقات، والمستخفي في الظلمات‏.‏ وقال الأخفش وقطرب‏:‏ المستخفي بالليل الظاهر؛ ومنه خفيت الشيء وأخفيته أي أظهرته؛ وأخفيت الشيء أي استخرجته؛ ومنه قيل للنباش‏:‏ المختفي‏.‏ وقال امرؤ القيس‏:‏

خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب

والسارب المتواري، أي الداخل سربا؛ ومنه قولهم‏:‏ انسرب الوحشي إذا دخل في كناسه‏.‏ وقال ابن عباس‏{‏مستخف‏}‏ مستتر، ‏}‏وسارب‏}‏ ظاهر‏.‏ مجاهد‏{‏مستخف‏}‏ بالمعاصي، ‏}‏وسارب‏}‏ ظاهر‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏}‏سارب‏}‏ ذاهب؛ قال الكسائي‏:‏ سرب يسرب سربا وسروبا إذا ذهب؛ وقال الشاعر‏:‏

وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيدة فهو سارب

أي ذاهب‏.‏ وقال أبو رجاء‏:‏ السارب الذاهب على وجهه في الأرض؛ قال الشاعر‏:‏

أني سربت وكنت غير سروب

وقال القتبي‏{‏سارب بالنهار‏}‏ أي منصرف في حوائجه بسرعة؛ من قولهم‏:‏ أنسرب الماء‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ خل سربه أي طريقه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 11 ‏)‏

‏{‏له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال‏}‏

قوله تعالى‏{‏له معقبات‏}‏ قوله تعالى‏{‏له معقبات‏}‏ أي لله ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار؛ فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار‏.‏ وقال‏{‏معقبات‏}‏ والملائكة ذكران لأنه جمع معقبة؛ يقال‏:‏ ملك معقب، وملائكة معقبة، ثم معقبات جمع الجمع‏.‏ وقرأ بعضهم - ‏}‏له معاقيب من بين يديه ومن خلفه‏}‏‏.‏ ومعاقيب جمع معقب؛ وقيل للملائكة معقبة على لفظ الملائكة وقيل‏:‏ أنث لكثرة ذلك منهم؛ نحو نسابة وعلامة وراوية؛ قال الجوهري وغيره‏.‏ والتعقب العود بعد البدء؛ قال الله تعالى‏{‏ولى مدبرا ولم يعقب‏}‏النمل‏:‏ 10‏]‏ أي لم يرجع؛ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏معقبات لا يخيب قائلهن - أو - فاعلهن‏)‏ فذكر التسبيح والتحميد والتكبير‏.‏ قال أبو الهيثم‏:‏ سمين ‏}‏معقبات‏}‏ لأنهن عادت مرة بعد مرة، فعل من عمل عملا ثم عاد إليه فقد عقب‏.‏ والمعقبات من الإبل اللواتي يقمن عند أعجاز الإبل المعتركات على الحوض؛ فإذا انصرفت ناقة دخلت مكانها أخرى‏.‏ وقوله‏{‏من بين يديه ومن خلفه‏}‏ أي المستخفي بالليل والسارب بالنهار‏.‏

قوله تعالى‏{‏يحفظونه من أمر الله‏}‏ اختلف في هذا الحفظ؛ فقيل‏:‏ يحتمل أن يكون توكيل الملائكة بهم لحفظهم من الوحوش والهوام والأشياء المضرة، لطفا منه به، فإذا جاء القدر‏.‏ خلوا بينه وبينه؛ قال ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما‏.‏ قال أبو مجلز‏:‏ جاء رجل من مراد إلى علي فقال‏:‏ احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك؛ فقال‏:‏ إن مع كل رجل ملكين يحفظانه ما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبين قدر الله، وإن الأجل حصن حصينة؛ وعلى هذا، ‏}‏يحفظونه من أمر الله‏}‏ أي بأمر الله وبإذنه؛ فـ ‏}‏من‏}‏ بمعنى الباء؛ وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض‏.‏ وقيل‏{‏من‏}‏ بمعنى عن؛ أي يحفظونه عن أمر الله، وهذا قريب من الأول؛ أي حفظهم عن أمر الله لا من عند أنفسهم؛ وهذا قول الحسن؛ تقول‏:‏ كسوته عن عري ومن عري؛ ومنه قوله عز وجل‏{‏أطعمهم من جوع‏}‏قريش‏:‏ 4‏]‏ أي عن جوع‏.‏ وقيل‏:‏ يحفظونه من ملائكة العذاب، حتى لا تحل به عقوبة؛ لأن الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر، فإن أصروا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النقمة، وتزول عنهم الحفظة المعقبات‏.‏ وقيل‏:‏ يحفظونه من الجن؛ قال كعب‏:‏ لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجن‏.‏ وملائكة العذاب من أمر الله؛ وخصهم بأن قال‏{‏من أمر الله‏}‏ لأنهم غير معاينين؛ كما قال‏{‏قل الروح من أمر ربي‏}‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ أي ليس مما تشاهدونه أنتم‏.‏ وقال الفراء‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، تقديره، له معقبات من أم الله من بين يديه ومن خلفه يحفظونه‏.‏ وهو مروي عن مجاهد وابن جريج والنخعي؛ وعلى أن ملائكة العذاب والجن من أمر الله لا تقديم فيه ولا تأخير‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ إن المعنى يحفظون عليه عمله؛ فحذف المضاف‏.‏ وقال قتادة‏:‏ يكتبون أقواله وأفعاله‏.‏ ويجوز إذا كانت المعقبات الملائكة أن تكون الهاء في ‏}‏له‏}‏ لله عز وجل، كما ذكرنا؛ ويجوز أن تكون للمستخفي، فهذا قول‏.‏

وقيل‏{‏له معقبات من بين يديه ومن خلفه‏}‏ يعني به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي أن الملائكة تحفظه من أعدائه؛ وقد جرى ذكر الرسول في قوله‏{‏لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر‏}‏الرعد‏:‏ 7‏]‏ أي سواء منكم من أسر القول ومن جهر به في أنه لا يضر النبي صلى الله عليه وسلم، بل له معقبات يحفظونه عليه السلام؛ ويجوز أن يرجع هذا إلى جميع الرسل؛ لأنه قد قال‏{‏ولكل قوم هاد‏}‏الرعد‏:‏ 7‏]‏ أي يحفظون الهادي من بين يديه ومن خلفه‏.‏ وقول رابع‏:‏ أن المراد‏.‏ بالآية السلاطين والأمراء الذين لهم قوم من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم؛ فإذا جاء أمر الله لم يغنوا عنهم من الله شيئا؛ قال ابن عباس وعكرمة؛ وكذلك قال الضحاك‏:‏ هو السلطان المتحرس من أمر الله، المشرك‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن في الكلام على هذا التأويل نفيا محذوفا، تقديره‏:‏ لا يحفظونه من أمر الله تعالى، ذكره الماوردي‏.‏ قال المهدوي‏:‏ ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى‏:‏ يحفظونه من أمر الله على ظنه وزعمه‏.‏ وقيل‏:‏ سواء من أسر القول ومن جهر به فله حراس وأعوان يتعاقبون عليه فيحملونه على المعاصي، ويحفظونه من أن ينجع فيه وعظ؛ قال القشيري‏:‏ وهذا لا يمنع الرب من الإمهال إلى أن يحق العذاب؛ وهو إذا غير هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار فيصير ذلك سببا للعقوبة؛ فكأنه الذي يحل العقوبة بنفسه؛ فقوله‏{‏يحفظونه من أمر الله‏}‏ أي من امتثال أمر الله‏.‏ وقال عبدالرحمن بن زيد‏:‏ المعقبات ما يتعاقب من أمر الله تعالى وقضائه في عباده؛ قال الماوردي‏:‏ ومن قال بهذا القول ففي تأويل قوله‏{‏يحفظونه من أمر الله‏}‏ وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ يحفظونه من الموت ما لم يأت أجل؛ قاله الضحاك‏.‏ الثاني‏:‏ يحفظونه من الجن والهوام المؤذية، ما لم يأت قدر؛ - قاله أبو أمامة وكعب الأحبار - فإذا جاء المقدور خلوا عنه؛ والصحيح أن المعقبات الملائكة، وبه قال الحسن ومجاهد وقتادة وابن جريج؛ وروي عن ابن عباس، واختاره النحاس، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار‏)‏ الحديث، رواه الأئمة‏.‏

وروى الأئمة عن عمرو عن ابن عباس قرأ - ‏}‏معقبات من بين يديه ووقباء من خلفه من أمر الله يحفظونه‏}‏ فهذا قد بين المعنى‏.‏ وقال كنانة العدوي‏:‏ دخل عثمان رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ أخبرني عن العبد كم معه من ملك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ملك عن يمينك يكتب الحسنات وآخر عن الشمال يكتب السيئات والذي على اليمين أمير على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أأكتب قال لا لعله يستغفر الله تعالى أو يتوب إليه فإذا قال ثلاثا قال نعم اكتب أراحنا الله تعالى منه فبئس القرين هو ما أقل مراقبته لله عز وجل وأقل استحياءه منا يقول الله تعالى ‏}‏ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد‏}‏ق‏:‏ 18‏]‏ وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله تعالى ‏}‏له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله‏}‏ وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك وملكان على شفتيك وليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد وآله وملك قاسم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي يتداولون ملائكة الليل على ملائكة النهار لأن ملائكة الليل ليسوا بملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس مع ابن آدم بالنهار وولده بالليل‏)‏‏.‏ ذكره الثعلبي‏.‏ قال الحسن‏:‏ المعقبات أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة الفجر‏.‏ واختيار الطبري‏:‏ أن المعقبات المواكب بين أيدي الأمراء وخلفهم؛ والهاء في ‏}‏له‏}‏ لهن؛ على ما تقدم‏.‏ وقال العلماء رضوان الله عليهم‏:‏ إن الله سبحانه جعل أوامره على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ قضى حلوله ووقوعه بصاحبه؛ فذلك لا يدفعه أحد ولا يغيره‏.‏ والآخر‏:‏ قضى مجيئه ولم يقض حلوله ووقوعه، بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة والحفظ‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم‏}‏ أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير، إما منهم أو من الناظر لهم، أو ممن هو منهم بسبب؛ كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة؛ فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير؛ كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ وقد‏(‏سئل أنهلك وفينا الصالحون‏؟‏ قال‏:‏ نعم إذا كثر الخبث‏)‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإذا أراد الله بقوم سوءا‏}‏ أي هلاكا وعذابا، ‏}‏فلا مرد له‏}‏ وقيل‏:‏ إذا أراد بهم بلاء من أمراض وأسقام فلا مرد لبلائه‏.‏ وله‏:‏ إذا أراد الله بقوم سوءا أعمى أبصارهم حتى يختاروا ما فيه البلاء ويعملوه؛ فيمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، حتى يبحث أحدهم عن حتفه بكفه، ويسعى بقدمه إلى إراقة دمه‏.‏ ‏}‏وما لهم من دونه من وال‏}‏ أي ملجأ؛ وهو معنى قول السدي‏.‏ وقيل‏:‏ من ناصر يمنعهم من عذابه؛ وقال الشاعر‏:‏

ما في السماء سوى الرحمن من وال

ووال وولي كقادر وقدير‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 12 ‏:‏ 13 ‏)‏

‏{‏هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال، ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال‏}‏

قوله تعالى‏{‏هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال‏}‏ أي بالمطر‏.‏ ‏}‏السحاب‏}‏ جمع، والواحدة سحابة، وسحب وسحائب في الجمع أيضا‏.‏ ‏}‏ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته‏}‏ قد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ القول في الرعد والبرق والصواعق فلا معنى للإعادة؛ والمراد بالآية بيان كمال قدرته؛ وأن تأخير العقوبة ليس عن عجز؛ أي يربكم البرق في السماء خوفا للمسافر؛ فإنه يخاف أذاه لما ينال من المطر والهول والصواعق؛ قال الله تعالى‏{‏أذى من مطر‏}‏النساء‏:‏ 102‏]‏ وطمعا للحاضر أن يكون عقبه مطر وخصب؛ قال معناه قتادة ومجاهد وغيرهما‏.‏ وقال الحسن‏:‏ خوفا من صواعق البرق، وطمعا في غيثه المزيل للقحط‏.‏ ‏}‏وينشئ السحاب الثقال‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أي بالماء‏.‏ ‏}‏ويسبح الرعد بحمده‏}‏ من قال إن الرعد صوت السحاب فيجوز أن يسبح الرعد بدليل خلق الحياة فيه؛ ودليل، صحة هذا القول قوله‏{‏والملائكة من خيفته‏}‏ فلو كان الرعد ملكا لدخل في جملة الملائكة‏.‏ ومن قال إنه ملك قال‏:‏ معنى‏.‏ ‏}‏من خيفته‏}‏ من خيفة الله؛ قاله الطبري وغيره‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إن الملائكة خائفون من الله ليس كخوف ابن آدم؛ لا يعرف واحدهم من على يمينه ومن على يساره، لا يشغلهم عن عبادة الله طعام ولا شراب؛ وعنه قال‏:‏ الرعد ملك يسوق السحاب، وإن بخار الماء لفي نقرة إبهامه، وإنه موكل بالسحاب يصرفه حيث يؤمر، وإنه يسبح الله؛ فإذا سبح الرعد لم يبق ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح، فعندها ينزل القطر، وعنه أيضا كان إذا سمع صوت الرعد قال‏:‏ سبحان الذي سبحت له‏.‏ وروى مالك عن عامر بن عبدالله عن أبيه أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال‏:‏ سبحانه الذي يسح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ثم يقول‏:‏ إن هذا وعيد لأهل الأرض شديد‏.‏ وقيل‏:‏ إنه ملك جالس على كرسي بين السماء والأرض، وعن يمينه سبعون ألف ملك وعن يساره مثل ذلك؛ فإذا أقبل على يمينه وسبح سبح الجميع من خوف الله، وإذا أقبل على يساره وسبح سبح الجميع من خوف الله‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء‏}‏ ذكر الماوردي عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب ومجاهد‏:‏ نزلت في يهودي قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أخبرني‏!‏ من أي شيء ربك؛ أمن لؤلؤ أم من ياقوت‏؟‏ فجاءت صاعقة فأحرقته‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في بعض كفار العرب؛ قال الحسن‏:‏ ‏(‏كان رجل من طواغيت العرب بعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرا يدعونه إلى الله ورسوله والإسلام فقال لهم‏:‏ أخبروني عن رب محمد ما هو، ومم هو، أمن فضة أم من حديد أم نحاس‏؟‏ فاستعظم القوم مقالته؛ فقال‏:‏ أجيب محمدا إلى رب لا يعرفه‏!‏ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه مرارا وهو يقول مثل هذا؛ فبينا النفر ينازعونه ويدعونه إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم، فرعدت وأبرقت ورمت بصاعقة، فأحرقت الكافر وهم جلوس؛ فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ أحترق صاحبكم، فقالوا‏:‏ من أين علمتم‏؟‏ قالوا‏:‏ أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء‏}‏‏)‏‏.‏ ذكره الثعلبي عن الحسن؛ والقشيري بمعناه عن أنس، وسيأتي‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت الآية في أربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة، وفي عامر بن الطفيل؛ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة العامريان يريدان النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد جالس في نفر من أصحابه، فدخلا المسجد، فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور، وكان من أجمل الناس؛ فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذا يا رسول الله عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك؛ فقال‏:‏ ‏(‏دعه فإن يرد الله به خيرا يهده‏)‏ فأقبل حتى قام عليه فقال؛ يا محمد مالي إن أسلمت‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين‏)‏‏.‏ قال‏:‏ أتجعل لي الأمر من بعدك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ليس ذاك إلي إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء‏)‏‏.‏ قال‏:‏ أفتجعلني على الوبر وأنت على المدر‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فما تجعل لي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها في سبيل الله‏)‏‏.‏ قال‏:‏ أو ليس لي أعنة الخيل اليوم‏؟‏ قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عامر أومأ إلى أربد‏:‏ إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه واضربه بالسيف، فجعل يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم ويراجعه؛ فاخترط أربد من سيفه شبرا ثم حبسه الله، فلم يقدر على سله، ويبست يده على سيفه؛ وأرسل الله عليه صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته؛ وولى عامر هاربا وقال‏:‏ يا محمد‏!‏ دعوت ربك على أربد حتى قتلته؛ والله لأملأنها عليك خيلا جردا، وفتيانا مردا؛ فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة‏)‏ يعني الأوس والخزرج؛ فنزل عامر بيت امرأة سلولية؛ وأصبح وهو يقول‏:‏ والله لئن أصحر لي محمد وصاحبه - يريد ملك الموت - لأنفذتهما برمحي؛ فأرسل الله ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التراب؛ وخرجت على ركبته غدة عظيمة في الوقت؛ فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول‏:‏ غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية؛ ثم ركب على فرسه فمات على ظهره‏)‏‏.‏ ورثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد فقال‏:‏

يا عين هلا بكيت أربد إذ قمـ ـنا وقام الخصوم في كبد

أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد

فجعني الرعد والصواعق بالفا رس يوم الكريهة النجد

وفيه قال‏:‏

إن الرزية لا رزية مثلها فقدان كل أخ كضوء الكوكب

يا أربد الخير الكريم جدوده أفردتني أمشي بقرن أعضب

وأسلم لبيد بعد ذلك رضي الله عنه‏.‏

مسألة‏:‏

روى أبان عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تأخذ الصاعقة ذاكرا لله عز وجل‏)‏‏.‏ وقال أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد يقول‏:‏ سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة فعلي ديته‏)‏‏.‏ وذكر الخطيب من حديث سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه عن جده قال‏:‏ كنا مع عمر في سفر فأصابنا رعد وبرد، فقال لنا كعب‏:‏ من قال حين يسمع الرعد‏:‏ سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد؛ ففعلنا فعوفينا؛ ثم لقيت عمر بن الخطاب رضى الله عنه فإذا بردة قد أصابت أنفه فأثرت به، فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ما هذا‏؟‏ قال بردة أصابت أنفي فأثرت، فقلت‏:‏ إن كعبا حين سمع الرعد قال لنا‏:‏ من قال حين يسمع الرعد سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد؛ فقلنا فعوفينا؛ فقال عمر‏:‏ أفلا قلتم لنا حتى نقولها‏؟‏ وقد تقدم هذا المعنى في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وهم يجادلون في الله‏}‏ يعني جدال اليهودي حين سأل عن الله تعالى‏:‏ من أي شيء هو‏؟‏ قال مجاهد‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ جدال أربد فيما هم به من قتل النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويجوز أن يكون، ‏}‏وهم يجادلون في الله‏}‏ حالا، ويجوز أن يكون منقطعا‏.‏ وروى أنس ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى عظيم من المشركين يدعوه إلى الله عز وجل، فقال لرسول الله‏:‏ أخبرني عن إلهك هذا‏؟‏ أهو من فضة أم من ذهب أم من نحاس‏؟‏ فاستعظم ذلك؛ فرجع إليه فأعلمه؛ فقال‏:‏ ارجع إليه فادعه فرجع إليه وقد أصابته صاعقة، وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نزل‏{‏وهم يجادلون في الله‏}‏ ‏}‏وهو شديد المحال‏}‏ قال ابن الأعرابي‏{‏المحال‏}‏ المكر، والمكر من الله عز وجل التدبير بالحق‏.‏ النحاس‏:‏ المكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر‏.‏ وروى ابن اليزيدي عن أبي زيد ‏}‏وهو شديد المحال‏}‏ أي النقمة‏.‏ وقال الأزهري‏{‏المحال‏}‏ أي القوة والشدة‏.‏ والمحل‏:‏ الشدة؛ الميم أصلية، وما حلت فلانا محالا أي قاويته حتى يتبين أينا أشد‏.‏ وقال أبو عبيد‏{‏المحال‏}‏ العقوبة والمكروه‏.‏ وقال ابن عرفة‏{‏المحال‏}‏ الجدال؛ يقال‏:‏ ما حل عن أمره أي جادل‏.‏ وقال القتيبي‏:‏ أي شديد الكيد؛ وأصله من الحيلة، جعل ميمه كميم المكان؛ وأصله من الكون، ثم يقال‏:‏ تمكنت‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ غلط ابن قتيبة أن الميم فيه زائدة؛ بل هي أصلية، وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية؛ مثل‏:‏ مهاد وملاك ومراس، وغير ذلك من الحروف‏.‏ ومفعل إذا كانت من بنات الثلاثة فإنه يجيء بإظهار الواو مثل‏:‏ مزود ومحول ومحور، وغيرها من الحروف؛ وقال‏:‏ وقرأ الأعرج ـ ‏}‏وهو شديد الَمحال‏}‏ بفتح الميم؛ وجاء تفسيره على هذه القراءة عن ابن عباس أنه الحول، ذكر هذا كله أبو عبيد الهروي، إلا ما ذكرناه أولا عن ابن الأعرابي؛ وأقاويل الصحابة والتابعين بمعناها؛ وهي ثمانية‏:‏ أولها‏:‏ شديد العداوة، قاله ابن عباس‏.‏ وثانيها‏:‏ شديد الحول، قاله ابن عباس أيضا‏.‏ وثالثها‏:‏ شديد الأخذ، قال علي بن أبي طالب‏.‏ ورابعها‏:‏ شديد الحقد، قاله ابن عباس‏.‏ وخامسها‏:‏ شديد القوة، قال مجاهد‏.‏ وسادسها‏:‏ شديد الغضب، قاله وهب بن منبه‏.‏ وسابعها‏:‏ شديد الهلاك بالمحل، وهو القحط؛ قاله الحسن أيضا‏.‏ وثامنها‏:‏ شديد الحيلة؛ قاله قتادة‏.‏ وقال أبو عبيدة معمر‏:‏ المحال والمماحلة المماكرة والمغالبة؛ وأنشد للأعشى‏:‏

فرع نبع يهتز في غصن المجـ ـد كثير الندى شديد المحال

وقال آخر‏:‏

ولبس بن أقوام فكل أعد له الشغازب والمحالا

وقال عبدالمطلب‏:‏

لا هم إن المرء يمـ ـنع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم ومحا لهم عدوا محالك

الآية رقم ‏(‏ 14 ‏)‏

‏{‏له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال‏}‏

قوله تعالى‏{‏له دعوة الحق‏}‏ أي لله دعوة الصدق‏.‏ قال ابن عباس وقتادة وغيرهما‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إن الله هو الحق، فدعاؤه دعوة الحق‏.‏ وقيل‏:‏ إن الإخلاص في الدعاء هو دعوة الحق؛ قال بعض المتأخرين‏.‏ وقيل‏:‏ دعوة الحق دعاؤه عند الخوف؛ فإنه لا يدعى فيه إلا إياه‏.‏ كما قال‏{‏ضل من تدعون إلا إياه‏}‏الإسراء‏:‏ 67‏]‏؛ قال الماوردي‏:‏ وهو أشبه بسياق الآية؛ لأنه قال‏{‏والذين يدعون من دونه‏}‏ يعني الأصنام والأوثان‏.‏ ‏}‏لا يستجيبون لهم بشيء‏}‏ أي لا يستجيبون لهم دعاء، ولا يسمعون لهم نداء‏.‏ ‏}‏إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه‏}‏ ضرب الله عز وجل الماء مثلا ليأسهم من الإجابة لدعائهم؛ لأن العرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض الماء باليد؛ قال‏:‏

فأصبحت فيما كان بيني وبينها من الود مثل القابض الماء باليد

وفي معنى هذا المثل ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أن الذي يدعو إلها من دون الله كالظمآن الذي يدعو الماء إلى فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه، ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا، لأن الماء لا يستجيب، وما الماء ببالغ إليه؛ قاله مجاهد‏.‏ الثاني‏:‏ أنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماء وقد بسط كفه فيه ليبلغ فاه وما هو ببالغه، لكذب ظنه، وفساد توهمه؛ قاله ابن عباس‏.‏ الثالث‏:‏ أنه كباسط كفه إلى الماء ليقبض عليه فلا يجمد في كفه شيء منه‏.‏ وزعم الفراء أن المراد بالماء ههنا البئر؛ لأنها معدن للماء، وأن المثل كمن مد يده إلى البئر بغير رشاء؛ وشاهده قول الشاعر‏:‏

فإن الماء ماء أبي وجدي وبئري ذو حفرت وذو طويت

قال علي رضي الله عنه‏:‏ هو كالعطشان على شفة البئر، فلا يبلغ قعر البئر، ولا الماء يرتفع إليه، ومعنى ‏}‏إلا كباسط‏}‏ إلا كاستجابة باسط كفيه ‏}‏إلى الماء‏}‏ فالمصدر مضاف إلى الباسط، ثم حذف المضاف؛ وفاعل المصدر المضاف مراد في المعنى وهو الماء؛ والمعنى‏:‏ إلا كإجابة باسط كفيه إلى الماء؛ واللام في قوله‏{‏ليبلغ فاه‏}‏ متعلقة بالبسط، وقوله‏{‏وما هو ببالغه‏}‏ كناية عن الماء؛ أي وما الماء ببالغ فاه‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏هو‏}‏ كناية عن الفم؛ أي ما الفم ببالغ الماء‏.‏ ‏}‏وما دعاء الكافرين إلا في ضلال‏}‏ أي ليست عبادة الكافرين الأصنام إلا في ضلال، لأنها شرك، وقيل‏:‏ إلا في ضلال أي يضل عنهم ذلك الدعاء، فلا يجدون منه سبيلا؛ كما قال‏{‏أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا‏}‏الأعراف‏:‏ 37‏]‏ وقال ابن عباس‏:‏ أي أصوات الكافرين محجوبة عن الله فلا يسمع دعاءهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 15 ‏)‏

‏{‏ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها‏}‏ قال الحسن وقتادة وغيرهما‏:‏ المؤمن يسجد طوعا، والكافر يسجر كرها بالسيف‏.‏ وعن قتادة أيضا‏:‏ يسجد الكافر كارها حين لا ينفه الإيمان‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ سجود الكافر كرها ما فيه من الخضوع وأثر الصنعة‏.‏ وقال ابن زيد‏{‏طوعا‏}‏ من دخل في الإسلام رغبة، و‏}‏كرها‏}‏ من دخل فيه رهبة بالسيف‏.‏ وقيل‏{‏طوعا‏}‏ من طالت مدة إسلامه فألف السجود، و‏}‏كرها‏}‏ من يكره نفسه لله تعالى؛ فالآية في المؤمنين، وعلى هذا يكون معنى ‏}‏والأرض‏}‏ وبعض من في الأرض‏.‏ قال القشري‏:‏ وفي الآية مسلكان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها عامة والمراد بها التخصيص؛ فالمؤمن يسجد طوعا، وبعض الكفار يسجدون إكراها وخوفا كالمنافقين؛ فالآية محمولة على هؤلاء، ذكره الفراء‏.‏ وقيل على هذا القول‏:‏ الآية في المؤمنين؛ منهم من يسجد طوعا لا يثقل عليه السجود، ومنهم من يثقل عليه؛ لأن التزام التكليف مشقة، ولكنهم يتحملون المشقة إخلاصا وإيمانا، إلى أن يألفوا الحق ويمرنوا عليه‏.‏ والمسلك الثاني‏:‏ وهو الصحيح - إجراء الآية على التعميم؛ وعلى هذا طريقان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن المؤمن يسجد طوعا، وأما الكافر فمأمور‏:‏ السجود مؤاخذ به‏.‏ والثاني‏:‏ وهو الحق - أن المؤمن يسجد ببدنه طوعا، وكل مخلوق من المؤمن والكافر يسجد من حيث إنه مخلوق، يسجد دلالة وحاجة إلى الصانع؛ وهذا كقوله‏{‏وإن من شيء إلا يسبح بحمده‏}‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏ وهو تسبيح دلالة لا تسبيح عبادة‏.‏

قوله تعالى‏{‏وظلالهم بالغدو والآصال‏}‏ أي ظلال الخلق ساجدة لله تعالى بالغدو والآصال؛ لأنها تبين في هذين الوقتين، وتميل من ناحية إلى ناحية؛ وذلك تصريف الله إياها على ما يشاء؛ وهو كقوله تعالى‏{‏أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون‏}‏النحل‏:‏ 48‏]‏ قال ابن عباس وغيره‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ظل المؤمن يسجد طوعا وهو طائع؛ وظل الكافر يسجد كرها وهو كاره‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ يجعل للظلال عقول تسجد بها وتخشع بها، كما جعل للجبال أفهام حتى خاطبت وخوطبت‏.‏ قال القشيري‏:‏ في هذا نظر؛ لأن الجبل عين، فيمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة، وأما الظلال فآثار وأعراض، ولا يتصور تقدير الحياة لها، والسجود بمعنى الميل؛ فسجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب؛ يقال‏:‏ سجدت النخلة أي مالت‏.‏ و‏}‏الآصال‏}‏ جمع أصل، والأصل جمع أصيل؛ وهو ما بين العصر إلى الغروب، ثم أصائل جمع الجمع؛ قال أبو ذؤيب الهذلي‏:‏

لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل

و‏}‏ظلالهم‏}‏ يجوز أن يكون معطوفا على ‏}‏من‏}‏ ويجوز أن يكون ارتفع بالابتداء والخبر محذوف؛ التقدير‏:‏ وظلالهم سجد بالغدو والآصال و‏}‏بالغدو‏}‏ يجوز أن يكون مصدرا، ويجوز أن يكون جمع غداة؛ يقوى كونه جمعا مقابلة الجمع الذي هو الآصال به‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 16 ‏)‏

‏{‏قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل من رب السماوات والأرض قل الله‏}‏ أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين‏{‏قل من رب السماوات والأرض‏}‏ ثم أمره أن يقول لهم‏:‏ هو الله إلزاما للحجة إن لم يقولوا ذلك، وجهلوا من هو‏.‏ ‏}‏قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا‏}‏ هذا يدل على اعترافهم بأن الله هو الخالق وإلا لم يكن للاحتجاج بقوله‏{‏قل أفاتخذتم من دونه أولياء‏}‏ معنى؛ دليله قوله‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله‏}‏الزمر‏:‏ 38‏]‏ أي فإذا اعترفتم فلم تعبدون غيره‏؟‏،‏!‏ وذلك الغير لا ينفع ولا يضر؛ وهو إلزام صحيح‏.‏ ثم ضرب لهم مثلا فقال‏{‏قل هل يستوي الأعمى والبصير‏}‏ فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق، والمشرك الذي لا يبصر الحق‏.‏ وقيل‏:‏ الأعمى مثل لما عبدوه من دون الله، والبصير مثل الله تعالى‏{‏أم هل تستوي الظلمات والنور‏}‏ أي الشرك والإيمان‏.‏ وقرأ ابن محيصن وأبو بكر والأعمش وحمزة والكسائي ‏}‏يسوي‏}‏ بالياء لتقدم الفعل؛ ولأن تأنيث ‏}‏الظلمات‏}‏ ليس بحقيقي‏.‏ الباقون بالتاء؛ واختاره أبو عبيد، قال‏:‏ لأنه لم يحل بين المؤنث والفعل حائل‏.‏ و‏}‏الظلمات والنور‏}‏ مثل الإيمان والكفر؛ ونحن لا نقف على كيفية ذلك‏.‏ ‏}‏أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم‏}‏ هذا من تمام الاحتجاج؛ أي خلق غير الله مثل خلقه فتشابه الخلق عليهم، فلا يدرون خلق الله من خلق آلهتهم‏.‏ ‏}‏قل الله خالق كل شيء‏}‏ أي قل لهم يا محمد‏{‏الله خالق كل شيء‏}‏، فلزم لذلك أن يعبده كل شيء‏.‏ والآية رد على المشركين والقدرية الذين زعموا أنهم خلقوا كما خلق الله‏.‏ ‏}‏وهو الواحد‏}‏ قبل كل شيء‏.‏ ‏}‏القهار‏}‏ الغالب لكل شيء، الذي يغلب في مراده كل مريد‏.‏ قال القشيري أبو نصر‏:‏ ولا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصانع؛ أي سلهم عن خالق السماوات والأرض، فإنه يسهل تقرير الحجة فيه عليهم، ويقرب الأمر من الضرورة؛ فإن عجز الجماد وعجز كل مخلوق عن خلق السماوات والأرض معلوم، وإذا تقرر هذا وبان أن الصانع هو الله فكيف يجوز اعتداد الشريك له‏؟‏ ‏!‏ وبين في أثناء الكلام أنه لو كان للعالم صانعان لاشتبه الخلق، ولم يتميز فعل هذا عن فعل ذلك، فبم يعلم أن الفعل من اثنين‏؟‏ ‏!‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 17 ‏)‏

‏{‏أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال‏}‏

قوله تعالى‏{‏أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا‏}‏ ضرب مثلا للحق والباطل؛ فشبه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الأودية، وتدفعه الرياح؛ فكذلك يذهب الكفر ويضمحل، عله، ما نبينه‏.‏ قال مجاهد‏{‏فسالت أودية بقدرها‏}‏ قال‏:‏ بقدر ملئها‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ بقدر صغرها وكبرها‏.‏ وقرأ الأشهب العقيلي والحسن ‏}‏بقدرها‏}‏ بسكون الدال، والمعنى واحد‏.‏ وقيل‏:‏ معناها بما قدر لها‏.‏ والأودية‏.‏ جمع الوادي؛ وسمي واديا لخروجه وسيلانه؛ فالوادي على هذا اسم للماء السائل‏.‏ وقال أبو علي‏{‏فسالت أودية‏}‏ توسع؛ أي سال ماؤها فحذف، قال‏:‏ ومعنى ‏}‏بقدرها‏}‏ بقدر مياهها؛ لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها‏.‏ ‏}‏فاحتمل السيل زبدا رابيا‏}‏ أي طالعا عاليا مرتفعا فوق الماء؛ وتم الكلام؛ قال مجاهد‏.‏ ثم قال‏{‏ومما يوقدون عليه في النار‏}‏ وهو المثل الثاني‏.‏ ‏}‏ابتغاء حلية‏}‏ أي حلية الذهب والفضة‏.‏ ‏}‏أو متاع زبد مثله‏}‏ قال مجاهد‏:‏ الحديد والنحاس والرصاص‏.‏ وقوله‏{‏زبد مثله‏}‏ أي يعلو هذه الأشياء زبد كما يعلو السيل؛ وإنما احتمل السيل الزبد لأن الماء خالطه تراب الأرض فصار ذلك زبدا، كذلك ما يوقد عليه في النار من الجوهر ومن الذهب والفضة مما ينبث في الأرض من المعادن فقد خالطه التراب؛ فإنما يوقد عليه ليذوب فيزايله تراب الأرض‏.‏ وقوله‏{‏كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء‏}‏ قال مجاهد‏:‏ جمودا‏.‏ وقال أبو عبيدة قال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ أجفأت القدر إذا غلت حتى ينصب زبدها، وإذا جمد في أسفلها‏.‏ والجفاء ما أجفاه الوادي أي رمى به‏.‏ وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ ‏}‏جفالا‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ يقال أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها، وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته‏.‏ ‏}‏وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هو الماء الخالص الصافي‏.‏ وقيل‏:‏ الماء وما خلص من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص؛ وهو أن المثلين ضربهما الله للحق في ثباته، والباطل في اضمحلاله، فالباطل وإن علا في بعض الأحوال فإنه يضمحل كاضمحلال الزبد‏.‏ والخبث‏.‏ وقيل‏:‏ المراد مثل ضربه الله للقرآن وما يدخل منه القلوب؛ فشبه القرآن بالمطر لعموم خيره وبقاء نفعه، وشبه القلوب بالأودية، يدخل فيها من القرآن مثل ما يدخل في الأودية بحسب سعتها وضيقها‏.‏ قال ابن عباس‏{‏أنزل من الماء ماء‏}‏ قال‏:‏ قرآنا، ‏}‏فسالت أودية بقدرها‏}‏ قال‏:‏ الأودية قلوب العباد‏.‏ قال صاحب ‏}‏سوق العروس‏}‏ إن صح هذا التفسير فالمعنى فيه أن الله سبحانه مثل القرآن بالماء‏.‏ ومثل القلوب بالأودية، ومثل المحكم بالصافي، ومثل المتشابه بالزبد‏.‏ وقيل‏:‏ الزبد مخايل النفس وغوائل الشك ترتفع من حيث ما فيها فتضطرب من سلطان تلعها، كما أن ماء السيل يجري صافيا فيرفع ما يجد في الوادي باقيا، وأما حلية الذهب والفضة فمثل الأحوال النية‏.‏ والأخلاق الزكية؛ التي بها جمال الرجال، وقوام صالح الأعمال، كما أن من الذهب والفضة زينة النساء‏.‏ وبهما قيمة الأشياء‏.‏ وقرأ جحيد وابن محيصن ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وحفص، ‏}‏يوقدون‏}‏ بالياء واختاره أبو عبيد؛ لقوله‏{‏ينفع الناس‏}‏ فأخبر، ولا مخاطبة هاهنا‏.‏ الباقون بالتاء لقوله في أول الكلام‏{‏أفاتخذتم من دونه أولياء‏}‏الرعد‏:‏ 16‏]‏ الآية‏.‏ وقوله‏{‏في النار‏}‏ متعلق بمحذوف، وهو في موضع الحال، وذو الحال الهاء التي في ‏}‏عليه‏}‏ التقدير‏:‏ ومما توقدون عليه ثابتا في النار أو كامئا‏.‏ وفي قوله‏{‏في النار‏}‏ ضمير مرفوع يعود إلى الهاء التي هي اسم ذي الحال ولا يستقيم أن يتعلق ‏}‏في النار‏}‏ بـ ‏}‏يوقدون‏}‏ من حيث لا يستقيم أوقدت عليه في النار؛ لأن الموقد عليه يكون في النار، فيصير قوله‏{‏في النار‏}‏ غير مقيد‏.‏ وقوله‏{‏ابتغاء حلية‏}‏ مفعول له‏.‏ ‏}‏زبد مثله‏}‏ ابتداء وخبر؛ أي زبد مثل زبد السيل‏.‏ وقيل‏:‏ إن خبر ‏}‏زبد‏}‏ قوله‏{‏في النار‏}‏ الكسائي‏{‏زبد‏}‏ ابتداء، و‏}‏مثله‏}‏ نعت له، والخبر في الجملة التي قبله، وهو ‏}‏مما يوقدون‏}‏‏.‏ ‏}‏كذلك يضرب الله الأمثال‏}‏ أي كما بين لكم هذه الأمثال فكذلك يضربها بينات‏.‏ تم الكلام‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 18 ‏)‏

‏{‏للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد‏}‏

قوله تعالى‏{‏للذين استجابوا لربهم‏}‏ أي أجابوا؛ واستجاب بمعنى أجاب؛ قال‏:‏

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وقد تقدم؛ أي أجاب إلى ما دعاه الله من التوحيد والنبوات‏.‏ ‏}‏الحسنى‏}‏ لأنها في نهاية الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ من الحسنى النصر في الدنيا، والنعيم المقيم غدا‏.‏ ‏}‏والذين لم يستجيبوا‏}‏ أي لم يجيبوا إلى الإيمان به‏.‏ ‏}‏لو أن لهم ما في الأرض جميعا‏}‏ أي من الأموال‏.‏ ‏}‏ومثله معه‏}‏ ملك لهم‏.‏ ‏}‏لافتدوا به‏}‏ من عذاب يوم القيامة؛ نظيره في ‏}‏آل عمران‏}‏ ‏}‏إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا‏}‏آل عمران‏:‏ 10‏]‏، ‏}‏إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به‏}‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏ حسب ما تقدم بيانه هناك‏.‏ ‏}‏أولئك لهم سوء الحساب‏}‏ أي لا يقبل لهم حسنة، ولا يتجاوز لهم عن سيئة‏.‏ وقال فرقد السبخي قال لي إبراهيم النخعي‏:‏ يا فرقد‏!‏ أتدري ما سوء الحساب‏؟‏ قلت لا‏!‏ قال أن يحاسب الرجل‏:‏ بذنبه كله لا يفقد منه شيء‏.‏ ‏}‏ومأواهم جهنم‏}‏ أي مسكنهم ومقامهم‏.‏ ‏}‏وبئس المهاد‏}‏ أي الفراش الذي مهدوا لأنفسهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 19 ‏)‏

‏{‏أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب‏}‏

قوله تعالى‏{‏أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى‏}‏ هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، وروي أنها نزلت في حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه، وأبي جهل لعنه الله‏.‏ والمراد بالعمى عمى القلب، والجاهل بالدين أعمى القلب‏.‏ ‏}‏إنما يتذكر أولو الألباب‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 20 ‏)‏

‏{‏الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين يوفون بعهد الله‏}‏ هذا من صفة ذوي الألباب، أي إنما يتذكر أولو الألباب الموفون بعهد الله‏.‏ والعهد اسم الجنس؛ أي بجميع عهود الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده؛ ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض، وتجنب جميع المعاصي‏.‏ وقوله‏{‏ولا ينقضون الميثاق‏}‏ يحتمل أن يريد به جنس المواثيق، أي إذا عقدوا في طاعة الله عهدا لم ينقضوه‏.‏ قال قتادة‏:‏ تقدم الله إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية؛ ويحتمل أن يشير إلى ميثاق بعينه، هو الذي أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب أبيهم آدم‏.‏ وقال القفال‏:‏ هو ما ركب في عقولهم من دلائل التوحيد والنبوات‏.‏

روى أبو داود وغيره عن عوف بن مالك قال‏:‏ ‏(‏كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أو ثمانية أو تسعة فقال‏:‏ ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا‏:‏ قد بايعناك حتى قالها ثلاثا؛ فبسطنا أيدينا فبايعناه، فقال قائل‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إنا قد بايعناك فعلى ماذا نبايعك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وتصلوا الصلوات الخمس وتسمعوا وتطيعوا وأسر كلمة خفية - قال‏:‏ لا تسألوا الناس شيئا‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ولقد كان بعضد، أولئك النفر يسقط - سوطه فما يسأل أحدا أن يناوله‏.‏ إياه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ من أعظم المواثيق في الذكر ألا يسأل سواه؛ فقد كان أبو حمزة الخراساني من كبار العباد سمع أن أناسا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يسألوا أحدا شيئا، الحديث؛ فقال أبو حمزة‏:‏ رب‏!‏ إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذ رأوه، وأنا أعاهدك ألا أسأل أحدا شيئا؛ قال‏:‏ فخرج حاجا من الشام يريد مكة فبينما هو يمشي في الطريق من الليل إذ بقي عن أصحابه لعذر ثم أتبعهم، فبينما هو يمشي إليهم إذ سقط في بئر على حاشية الطريق؛ فلما حل في قعره قال‏:‏ استغيث لعل أحدا يسمعني‏.‏ ثم قال‏:‏ إن الذي عاهدته يراني ويسمعني، والله‏!‏ لا تكلمت بحرف للبشر، ثم لم يلبث إلا يسيرا إذ مر بذلك البئر نفر، فلما رأوه على حاشية الطريق قالوا‏:‏ إنه لينبغي سد هذا البئر؛ ثم قطعوا خشبا ونصبوها على فم البئر وغطوها بالتراب؛ فلما رأى ذلك أبو حمزة قال‏:‏ هذه مهلكة، ثم أراد أن يستغيث بهم، ثم قال‏:‏ والله‏!‏ لا أخرج منها أبدا؛ ثم رجع إلى نفسه فقال‏:‏ أليس قد عاهدت من يراك‏؟‏ فسكت وتوكل، ثم استند في قعر البئر مفكرا في أمره، فإذا بالتراب يقع عليه؛ والخشب يرفع عنه، وسمع في أثناء ذلك من يقول‏:‏ هات يدك‏!‏ قال‏:‏ فأعطيته يدي فأقلني في مرة واحدة إلى فم البئر؛ فخرجت فلم أر أحدا؛ فسمعت هاتفا يقول‏:‏ كيف رأيت ثمرة التوكل؛ وأنشد‏:‏

نهاني حيائي منك أن أكشف الهوى فأغنيتني بالعلم منك عن الكشف

تلطفت في أمري فأبديت شاهدي إلى غائبي واللطف يدرك باللطف

تراءيت لي بالعلم حتى كأنما تخبرني بالغيب أنك في كف

أراني وبي من هيبتي لك وحشة فتؤنسني باللطف منك وبالعطف

وتحيي محبا أنت في الحب حتفه وذا عجب كيف الحياة مع الحتف

قال ابن العربي‏:‏ هذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام والكمال، فاقتدوا به إن شاء الله تهتدوا‏.‏ قال أبو الفرج الجوزي‏:‏ سكوت هذا الرجل في هذا المقام على التوكل بزعمه إعانة على نفسه، وذلك لا يحل؛ ولو فهم معنى التوكل لعلم أنه لا ينافي استغاثته في تلك الحالة؛ كما لم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوكل بإخفائه الخروج من مكة، واستئجاره دليلا، واستكتامه ذلك الأمر، واستتاره في الغار، وقوله لسراقة‏:‏ ‏(‏اخف عنا‏)‏‏.‏ فالتوكل الممدوح لا ينال بفعل محظور؛ وسكوت هذا الواقع في البئر محظور عليه، وبيان ذلك أن الله تعالى قد خلق للآدمي آلة يدفع عنه بها الضرر، وآلة يجتلب بها النفع، فإذا عطلها مدعيا للتوكل كان ذلك جهلا بالتوكل، وردا لحكمة التواضع؛ لأن التوكل إنما هو اعتماد القلب على الله تعالى، وليس من ضرورته قطع الأسباب؛ ولو أن إنسانا جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار؛ قاله سفيان الثوري وغيره، لأنه قد دل على طريقة السلامة، فإذا تقاعد عنها أعان على نفسه‏.‏ وقال أبو الفرج‏:‏ ولا التفات إلى قول أبي حمزة‏{‏فجاء أسد فأخرجني‏}‏ فإنه إن صح ذلك فقد يقع مثله اتفاقا وقد يكون لطفا من الله تعالى بالعبد الجاهل، ولا ينكر أن يكون الله تعالى لطف به، إنما ينكر فعله الذي هو كسبه، وهو إعانته على نفسه التي هي وديعة لله تعالى عنده، وقد أمره بحفظها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 21 ‏)‏

‏{‏والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب‏}‏

قوله تعالى‏{‏والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل‏}‏ ظاهر في صلة الأرحام، وهو قول قتادة وأكثر المفسرين، وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات‏.‏ ‏}‏ويخشون ربهم‏}‏ قيل‏:‏ في قطع الرحم‏.‏ وقيل‏:‏ في جميع المعاصي‏.‏ ‏}‏ويخافون سوء الحساب‏}‏ سوء الحساب الاستقصاء فيه والمناقشة؛ ومن نوقش الحساب عذب‏.‏ وقال ابن عباس وسعيد بن جبير‏:‏ معنى‏.‏ ‏}‏يصلون ما أمر الله به‏}‏ الإيمان بجميع الكتب والرسل كلهم‏.‏ الحسن‏:‏ هو صلة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويحتمل رابعا‏:‏ أن يصلوا الإيمان بالعمل الصالح؛ ‏}‏ويخشون ربهم‏}‏ فيما أمرهم بوصله، ‏}‏ويخافون سوء الحساب‏}‏ في تركه؛ والقول الأول يتناول هذه الأقوال كما ذكرنا، وبالله توفيقنا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 22 ‏)‏

‏{‏والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار‏}‏

قوله تعالى‏{‏والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم‏}‏ قيل‏{‏الذين‏}‏ مستأنف؛ لأن ‏}‏صبروا‏}‏ ماض فلا ينعطف على ‏}‏يوفون‏}‏ وقيل‏.‏‏:‏ هو من وصف من تقدم، ويجوز الوصف تارة بلفظ الماضي، وتارة بلفظ المستقبل؛ لأن المعنى من يفعل كذا فله كذا؛ ولما كان ‏}‏الذين‏}‏ يتضمن الشرط، والماضي في الشرط كالمستقبل جاز ذلك؛ ولهذا قال‏{‏الذين يوفون‏}‏ ثم قال‏{‏والذين صبروا‏}‏ ثم عطف عليه فقال‏{‏ويدرؤون بالحسنة السيئة‏}‏ قال ابن زيد‏:‏ صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصية الله‏.‏ وقال عطاء‏:‏ صبروا على الرزايا والمصائب، والحوادث والنوائب‏.‏ وقال أبو عمران الجوني‏:‏ صبروا على دينهم ابتغاء وجه الله ‏}‏وأقاموا الصلاة‏}‏ أدوها بفروضها وخشوعها في مواقيتها‏.‏ ‏}‏وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية‏}‏ يعني الزكاة المفروضة، عن ابن عباس، وقد مضى القول في هذا في ‏}‏البقرة‏}‏ وغيرها‏.‏ ‏}‏ويدرؤون بالحسنة السيئة‏}‏ أي يدفعون بالعمل الصالح السيء من الأعمال، قال ابن عباس‏.‏ ابن زيد‏:‏ يدفعون الشر بالخير‏.‏ سعيد بن جبير‏:‏ يدفعون المنكر بالمعروف‏.‏ الضحاك‏:‏ يدفعون الفحش بالسلام‏.‏ جويبر‏:‏ يدفعون الظلم بالعفو‏.‏ ابن شجرة‏:‏ يدفعون الذنب بالتوبة‏.‏ القتبي‏:‏ يدفعون سفه الجاهل بالحلم؛ فالسفه السيئة، والحلم الحسنة‏.‏ وقيل‏:‏ إذا هموا بسيئة رجعوا عنها واستغفروا‏.‏ وقيل‏:‏ يدفعون الشرك بشهادة أن لا إله إلا الله؛ فهذه تسعة أقوال، معناها كلها متقارب، والأول يتناولها بالعموم؛ ونظيره‏{‏إن الحسنات يذهبن السيئات‏}‏هود‏:‏ 114‏]‏ ومنه قول عليه السلام لمعاذ‏:‏ ‏(‏وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن‏)‏‏.‏ قوله تعالى‏{‏أولئك لهم عقبى الدار‏}‏ أي عاقبة الآخرة، وهي الجنة بدل النار، والدار غدا داران‏:‏ الجنة للمطيع، والنار للعاصي؛ فلما ذكر وصف المطيعين فدارهم الجنة لا محالة‏.‏ وقيل‏:‏ عني بالدار دار الدنيا؛ أي لهم جزاء ما عملوا من الطاعات في دار الدنيا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 23 ‏:‏ 24 ‏)‏

‏{‏جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار‏}‏

قوله تعالى‏{‏جنات عدن يدخلونها‏}‏ أي لهم جنات عدن؛ فـ ‏}‏جنات عدن‏}‏ بدل من ‏}‏عقبي‏}‏ ويجوز أن تكون تفسيرا لـ‏}‏عقبى الدار‏}‏ أي لهم دخول جنات عدن؛ لأن ‏}‏عقبى الدار‏}‏ حدث و‏}‏جنات عدن‏}‏ عين، والحدث إنما يفسر بحدث مثله؛ فالمصدر المحذوف مضاف إلى المفعول‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏جنات عدن‏}‏ خبر ابتداء محذوف‏.‏ و‏}‏جنات عدن‏}‏ وسط الجنة وقصبتها، وسقفها عرش الرحمن؛ قال القشيري أبو نصر عبدالملك‏.‏ وفي صحيح البخاري‏:‏ ‏(‏إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة‏)‏ فيحتمل أن يكون ‏}‏جنات‏}‏ كذلك إن صح فذلك خبر‏.‏ وقال عبدالله بن عمرو‏:‏ إن في الجنة قصرا يقال له عدن، حوله البروج والمروج؛ فيه ألف باب، على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد‏.‏ و‏}‏عدن‏}‏ مأخوذ من عدن بالمكان إذا أقام فيه؛ على ما يأتي بيانه في سورة ‏}‏الكهف‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ ‏}‏ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم‏}‏ يجوز أن يكون معطوفا على ‏}‏أولئك‏}‏ المعنى‏:‏ أولئك ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم لهم عقبى الدار‏.‏ ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير المرفوع في ‏}‏يدخلونها‏}‏ وحسن العطف لما حال الضمير المنصوب بينهما‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ يدخلونها ويدخلها من صلح من آبائهم، أي من كان صالحا، لا يدخلونها بالأنساب‏.‏ ويجوز أن يكون موضع ‏}‏من‏}‏ نصبا على تقدير‏:‏ يدخلونها مع من صلح من آبائهم، وإن لم يعمل مثل أعمالهم يلحقه الله بهم كرامة لهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هذا الصلاح الإيمان بالله والرسول، ولو كان لهم مع الإيمان طاعات أخرى لدخلوها بطاعتهم لا على وجه التبعية‏.‏ قال القشيري‏:‏ وفي هذا نظر؛ لأنه لا بد من الإيمان، فالقول في اشتراط العمل الصالح كالقول في اشتراط الإيمان‏.‏ فالأظهر أن هذا الصلاح في جملة الأعمال، والمعنى‏:‏ أن النعمة غدا تتم عليهم بأن جعلهم مجتمعين مع قراباتهم في الجنة، وإن دخلها كل إنسان بعمل نفسه؛ بل برحمة الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏والملائكة يدخلون عليهم من كل باب‏}‏ أي بالتحف والهدايا من عند الله تكرمة لهم‏.‏ ‏}‏سلام عليكم‏}‏ أي يقولون‏:‏ سلام عليكم؛ فأضمر القول، أي قد سلمتم من الآفات والمحن‏.‏ وقيل‏:‏ هو دعاء لهم بدوام السلامة، وإن كانوا سالمين، أي سلمكم الله، فهو خبر معناه الدعاء؛ ويتضمن الاعتراف بالعبودية‏.‏ ‏}‏بما صبرتم‏}‏ أي بصبركم؛ فـ‏}‏ما‏}‏ مع الفعل بمعنى المصدر، والباء في ‏}‏بما‏}‏ متعلقة بمعنى‏.‏ ‏}‏سلام عليكم‏}‏ ويجوز أن تتعلق بمحذوف؛ أي هذه الكرامة بصبركم، أي على أمر الله تعالى ونهيه؛ قال سعيد بن جبير‏.‏ وقيل‏:‏ على الفقر في الدنيا؛ قاله أبو عمران الجوني‏.‏ وقيل‏:‏ على الجهاد في سبيل الله؛ كما روي عن عبدالله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هل تدرون من يدخل الجنة من خلق الله‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسول أعلم؛ قال‏:‏ ‏(‏المجاهدون الذين تسد بهم الثغور وتتقي بهم المكاره فيموت أحدهم وحاجته في نفسه لا يستطيع لها قضاء فتأتيهم الملائكة فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار‏)‏‏.‏ وقال محمد بن إبراهيم‏:‏‏(‏كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول‏:‏ السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار‏)‏ وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان؛ وذكره البيهقي عن أبي هريرة قال‏:‏‏(‏كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي الشهداء، فإذا أتى فرضة الشعب يقول‏:‏ السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار‏)‏‏.‏ ثم كان أبو بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وكان عمر بعد أبي بكر يفعله، وكان عثمان بعد عمر يفعله‏.‏ وقال الحسن البصري رحمه الله‏{‏بما صبرتم‏}‏ عن فضول الدنيا‏.‏ وقيل‏{‏بما صبرتم‏}‏ على ملازمة الطاعة، ومفارقة المعصية؛ قال معناه الفضيل بن عياض‏.‏ ابن زيد‏{‏بما صبرتم‏}‏ عما تحبونه إذا فقدتموه‏.‏ ويحتمل سابعا - ‏}‏بما صبرتم‏}‏ عن اتباع الشهوات‏.‏ وعن عبدالله بن سلام وعلي بن الحسين رضي الله عنهم أنهما قالا‏:‏ إذا كان يوم القيامة ينادي مناد ليقم أهل الصبر؛ فيقوم ناس من الناس فيقال لهم‏:‏ انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون‏:‏ إلى أين‏؟‏ فيقولون‏:‏ إلى الجنة؛ قالوا‏:‏ قبل الحساب‏؟‏ قالوا نعم‏!‏ فيقولون‏:‏ من أنتم‏؟‏ فيقولون‏:‏ نحن أهل الصبر، قالوا‏:‏ وما كان صبركم‏؟‏ قالوا‏:‏ صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معاصي الله وصبرناها على البلاء والمحن في الدنيا‏.‏ قال علي بن الحسين‏:‏ فتقول لهم الملائكة‏:‏ ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين‏.‏ وقال ابن سلام‏:‏ فتقول لهم الملائكة‏{‏سلام عليكم بما صبرتم‏}‏‏.‏ ‏}‏فنعم عقبى الدار‏}‏ أي نعم عاقبة الدار التي كنتم فيها؛ عملتم فيها ما أعقبكم هذا الذي أنتم فيه؛ فالعقبى على هذا اسم، و‏}‏الدار‏}‏ هي الدنيا‏.‏ وقال أبو عمران الجوني‏{‏فنعم عقبى الدار‏}‏ الجنة عن النار‏.‏ وعنه‏{‏فنعم عقبى الدار‏}‏ الجنة عن الدنيا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 25 ‏)‏

‏{‏والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار‏}‏

قوله تعالى‏{‏والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه‏}‏ لما ذكر الموفين بعهده، والمواصلين لأمره، وذكر ما لهم ذكر عكسهم‏.‏ نقض الميثاق‏:‏ ترك أمره‏.‏ وقيل‏:‏ إهمال عقولهم، فلا يتدبرون بها ليعرفوا الله تعالى‏.‏ ‏}‏ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل‏}‏ أي من الأرحام‏.‏ والإيمان بجميع الأنبياء‏.‏ ‏}‏ويفسدون في الأرض‏}‏ أي بالكفر وارتكاب المعاصي ‏}‏أولئك لهم اللعنة‏}‏ أي الطرد والإبعاد من الرحمة‏.‏ ‏}‏ولهم سوء الدار‏}‏ أي سوء المنقلب، وهو جهنم‏.‏ وقال سعد بن أبي وقاص‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو ‏!‏ إنهم الحرورية‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 26 ‏)‏

‏{‏الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع‏}‏

قوله تعالى‏{‏الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏}‏ لما ذكر عاقبة المؤمن وعاقبة المشرك بين أنه تعالى الذي يبسط الرزق ويقدر في الدنيا، لأنها دار امتحان؛ فبسط الرزق على الكافر لا يدل على كرامته، والتقتير على بعض المؤمنين لا يدل على إهانتهم‏.‏ ‏}‏ويقدر‏}‏ أي يضيق؛ ومنه ‏}‏ومن قدر عليه رزقه‏}‏الطلاق‏:‏ 7‏]‏ أي ضيق‏.‏ وقيل‏{‏يقدر‏}‏ يعطي بقدر الكفاية‏.‏ ‏}‏وفرحوا بالحياة الدنيا‏}‏ يعني مشركي مكة؛ فرحوا بالدنيا ولم يعرفوا غيرها، وجهلوا ما عند الله؛ وهو معطوف على ‏}‏ويفسدون في الأرض‏}‏‏.‏ وفي الآية تقديم وتأخير؛ التقدير‏:‏ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض وفرحوا بالحياة الدنيا‏.‏ ‏}‏وما الحياة الدنيا في الآخرة‏}‏ أي في جنبها‏.‏ ‏}‏إلا متاع‏}‏ أي متاع من الأمتعة، كالقصعة والسكرجة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ شيء قليل ذاهب؛ من متع النهار إذا ارتفع؛ فلا بد له من زوال‏.‏ ابن عباس‏:‏ زاد كزاد الراعي‏.‏ وقيل‏:‏ متاع الحياة الدنيا ما يستمتع بها منها‏.‏ وقيل‏:‏ ما يتزود منها إلى الآخرة، من التقوى والعمل الصالح، ‏}‏ولهم سوء الدار‏}‏ ثم ابتدأ‏.‏ ‏}‏الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏}‏ أي يوسع ويضيق‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 27 ‏)‏

‏{‏ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏ بين في مواضع أن اقتراح الآيات على الرسل جهل، بعد أن رأوا آية واحدة تدل على الصدق، والقائل، عبدالله بن أبي أمية وأصحابه حين طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات‏.‏ ‏}‏قل إن الله يضل من يشاء‏}‏ عز وجل ‏}‏يضل من يشاء‏}‏ أي كما أضلكم بعد ما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها يضلكم عند نزول غيرها‏.‏ ‏}‏ويهدي إليه من أناب‏}‏ أي من رجع‏.‏ والهاء في ‏}‏إليه‏}‏ للحق، أو للإسلام، أو لله عز وجل؛ على تقدير‏:‏ ويهدي إلى دينه وطاعته من رجع إليه بقلبه‏.‏ وقيل‏:‏ هي للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 28 ‏)‏

‏{‏الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين آمنوا‏}‏ ‏}‏الذين‏}‏ في موضع نصب، لأنه مفعول؛ أي يهدي الله الذين أمنوا‏.‏ وقيل بدل من قوله‏{‏من أناب‏}‏ فهو في محل نصب أيضا‏.‏ ‏}‏وتطمئن قلوبهم بذكر الله‏}‏ أي تسكن وتستأنس بتوحيد الله فتطمئن؛ قال‏:‏ أي وهم تطمئن قلوبهم على الدوام بذكر الله بألسنتهم؛ قال قتادة‏:‏ وقال مجاهد وقتادة وغيرهما‏:‏ بالقرآن‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ بأمره‏.‏ مقاتل‏:‏ بوعده‏.‏ ابن عباس‏:‏ بالحلف باسمه، أو تطمئن بذكر فضله وإنعامه؛ كما تَْوجل بذكر عدله وانتقامه وقضائه‏.‏ وقيل‏{‏يذكر الله‏}‏ أي يذكرون الله ويتأملون آياته فيعرفون كمال قدرته عن بصيرة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ألا بذكر الله تطمئن القلوب‏}‏ أي قلوب المؤمنين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هذا في الحلف؛ فإذا حلف خصمه بالله سكن قلبه‏.‏ وقيل‏{‏بذكر الله‏}‏ أي بطاعة الله‏.‏ وقيل‏:‏ بثواب الله‏.‏ وقيل‏:‏ بوعد الله‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 29 ‏)‏

‏{‏الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم‏}‏ ابتداء وخبره‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لهم طوبى، فـ‏}‏طوبى‏}‏ رفع بالابتداء، ويجوز أن يكون موضعه نصبا على تقدير‏:‏ جعل لهم طوبى، ويعطف عليه ‏}‏وحسن مآب‏}‏ على الوجهين المذكورين، فترفع أو تنصب‏.‏ وذكر عبدالرزاق‏:‏ أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن أبي يزيد البكالي عن عتبة بن عبدالسلمي قال‏:‏ ‏(‏جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الجنة وذكر الحوض فقال‏:‏ فيها فاكهة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم شجرة تدعى طوبى‏)‏ قال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ أي شجر أرضنا تشبه‏؟‏ قال ‏(‏لا تشبه شيئا من شجر أرضك أأتيت الشام هناك شجرة تدعي الجوزة تنبت على ساق ويفترش أعلاها‏)‏‏.‏ قال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ فما عظم أصلها‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما‏)‏‏.‏ وذكر الحديث، وقد كتبناه بكمال في أبواب الجنة من كتاب ‏}‏التذكرة‏}‏، والحمد لله‏.‏ وذكر ابن المبارك قال‏:‏ أخبرنا معمر عن الأشعث عن عبدالله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال‏:‏ في الجنة شجرة يقال لها طوبى؛ يقول الله تعالى لها‏:‏ تفتقي لعبدي عما شاء؛ فتفتق له عن فرس بسرجه ولجامه وهيئته كما شاء، وتفتق عن الراحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما شاء، وعن النجائب والثياب‏.‏ وذكر ابن وهب من حديث شهر بن حوشب عن أبي أمامة الباهلي قال‏{‏طوبى‏}‏ شجرة في الجنة ليس منها دار إلا وفيها غصن منها، ولا طير حسن إلا هو فيها، ولا ثمرة إلا هي منها؛ وقد قيل‏:‏ إن أصلها في قصر النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ثم تنقسم فروعها على منازل أهل الجنة، كما انتشر منه العلم والإيمان على جميع أهل الدنيا‏.‏ وقال ابن عباس‏{‏طوبى لهم‏}‏ فرح لهم وقرة عين؛ وعنه أيضا أن ‏}‏طوبى‏}‏ اسم الجنة بالحبشية؛ وقال سعيد بن جبير‏.‏ الربيع بن أنس‏:‏ هو البستان بلغة الهند؛ قال القشيري‏:‏ إن صح هذا فهو وفاق بين اللغتين‏.‏ وقال قتادة‏{‏طوبى لهم‏}‏ حسنى لهم‏.‏ عكرمة‏:‏ نعمى لهم‏.‏ إبراهيم النخعي‏:‏ خير لهم، وعنه أيضا كرامة من الله لهم‏.‏ الضحاك‏:‏ غبطة لهم‏.‏ النحاس‏:‏ وهذه الأقوال متقاربة؛ لأن طوبى فعلى من الطيب؛ أي العيش الطيب لهم؛ وهذه الأشياء ترجع إلى الشيء الطيب‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ طوبى فعلى من الطيب، وهي الحالة المستطابة لهم؛ والأصل طيبي، فصارت الياء واوا لسكونها وضم ما قبلها، كما قالوا‏:‏ موسر وموقن‏.‏

قلت‏:‏ والصحيح أنها شجرة؛ للحديث المرفوع الذي ذكرناه، وهو صحيح على ما ذكره السهيلي؛ ذكره أبو عمر في التمهيد، ومنه نقلناه؛ وذكره أيضا الثعلبي في تفسيره؛ وذكر أيضا المهدوي والقشيري عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة‏)‏ ومن أراد زيادة على هذه الأخبار فليطالع الثعلبي‏.‏ وقال ابن عباس‏{‏طوبى‏}‏ شجرة في الجنة أصلها في دار علي، وفي دار كل مؤمن منها غصن‏.‏ وقال أبو جعفر محمد بن علي‏:‏‏(‏سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى‏{‏طوبى لهم وحسن مآب‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏شجرة أصلها في داري وفروعها في الجنة‏)‏ ثم سئل عنها مرة أخرى فقال‏:‏ ‏(‏شجرة أصلها في دار علي وفروعها في الجنة‏)‏‏.‏ فقيل له‏:‏ يا رسول الله‏!‏ سئلت عنها فقلت‏:‏ ‏(‏أصلها في داري وفروعها في الجنة‏)‏ ثم سئلت عنها فقلت‏:‏ ‏(‏أصلها في دار علي وفروعها في الجنة‏)‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن داري ودار علي غدا في الجنة واحدة في مكان واحد‏)‏ وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هي شجرة أصلها في داري وما من دار من دوركم إلا مدلى فيها غصن منها‏)‏ ‏}‏وحسن مآب‏}‏ آب إذا رجح‏.‏ وقيل‏:‏ تقدير الكلام الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله وعملوا الصالحات طوبى لهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 30 ‏)‏

‏{‏كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب‏}‏

قوله تعالى‏{‏كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم‏}‏ أي أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء من قبلك؛ قاله الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ شبه الإنعام على من أرسل إليه محمد عليه السلام بالإنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله‏.‏ ‏}‏لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك‏}‏ يعني القرآن‏.‏ ‏}‏وهم يكفرون بالرحمن‏}‏ قال مقاتل وابن جريج‏:‏ نزلت في صلح الحديبية حين أرادوا أن يكتبوا كتاب الصلح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي‏:‏ ‏(‏اكتب بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏ فقال سهيل بن عمرو والمشركون‏:‏ ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب؛ اكتب باسمك اللهم، وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي‏:‏ ‏(‏اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله‏)‏ فقال مشركو قريش‏:‏ لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك وصددناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب‏:‏ هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله؛ فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ دعنا نقاتلهم؛ فقال‏:‏ ‏(‏لا ولكن اكتب ما يريدون‏)‏ فنزلت‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اسجدوا للرحمن‏)‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏‏}‏ قالوا وما الرحمن‏}‏ فنزلت‏.‏ ‏}‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ الذي أنكرتم‏.‏ ‏}‏هو ربي لا إله إلا هو‏}‏ ولا معبود سواه؛ هو واحد بذاته؛ وإن اختلفت أسماء صفاته‏.‏ ‏}‏عليه توكلت‏}‏ واعتمدت ووثقت‏.‏ ‏}‏وإليه متاب‏}‏ أي مرجعي غدا، واليوم أيضا عليه توكلت ووثقت، رضا بقضائه، وتسليما لأمره‏.‏ وقيل‏:‏ سمع أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الحجر ويقول‏:‏ ‏(‏يا الله يا رحمن‏)‏ فقال‏:‏ كان محمد ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إلهين؛ فنزلت هذه الآية، ونزل‏.‏ ‏}‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن‏}‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 31 ‏)‏

‏{‏ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو أن قرآنا سيرت به الجبال‏}‏ هذا متصل بقوله‏{‏لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏يونس‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وذلك أن نفرا من مشركي مكة فيهم أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية المخزوميان جلسوا خلف الكعبة، ثم أرسلوا إلى رسول الله فأتاهم؛ فقال له عبدالله‏:‏ إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن، فأذهبها عنا حتى تنفسح؛ فإنها أرض ضيقة، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا، حتى نغرس ونزرع؛ فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حين سخر له الجبال تسير معه، وسخر لنا الريح فنركبها إلى الشام نقضي عليها ميرتنا وحوائجنا، ثم نرجع من يومنا؛ فقد كان سليمان سحرت له الريح كما زعمت؛ فلست بأهون على ربك من سليمان بن داود، وأحي لنا قصيا جدك، أو من شئت أنت من موتانا نسأله؛ أحق ما تقول أنت أم باطل‏؟‏ فإن عيسى كان يحيى الموتى، ولست بأهون على الله منه؛ فأنزل الله تعالى‏{‏ولو أن قرآنا سيرت به الجبال‏}‏ الآية؛ قال معناه الزبير بن العوام ومجاهد وقتادة والضحاك؛ والجواب محذوف تقديره‏:‏ لكان هذا القرآن، لكن حذف إيجازا، لما في ظاهر الكلام من الدلالة عليه؛ كما قال امرؤ القيس‏:‏

فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسا

يعني لهان علي؛ هذا معنى قول قتادة؛ قال‏:‏ لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعله قرآنكم‏.‏ وقيل‏:‏ الجواب متقدم، وفي الكلام تقديم وتأخير؛ أي وهم يكفرون بالرحمن لو أنزلنا القرآن وفعلنا بهم ما اقترحوا‏.‏ الفراء‏:‏ يجوز أن يكون الجواب لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن‏.‏ الزجاج‏{‏ولو أن قرآنا‏}‏ إلى قوله‏{‏الموتى‏}‏ لما آمنوا، والجواب المضمر هنا ما أظهر في قوله‏{‏ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة‏}‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏ إلى قوله‏{‏ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله‏}‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏‏.‏ ‏}‏بل لله الأمر جميعا‏}‏ أي هو المالك لجميع الأمور، الفاعل لما يشاء منها، فليس ما تلتمسونه مما يكون بالقرآن، إنما يكون بأمر الله‏.‏

قوله تعالى‏{‏أفلم ييئس الذين آمنوا‏}‏ قال الفراء قال الكلبي‏{‏ييأس‏}‏ بمعنى يعلم، لغة النخع؛ وحكاه القشيري عن ابن عباس؛ أي أفلم يعلموا؛ وقاله الجوهري في الصحاح‏.‏ وقيل‏:‏ هو لغة هوازن؛ أي أفلم يعلم؛ عن ابن عباس ومجاهد والحسن‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ أفلم يعلموا ويتبينوا، وأنشد في ذلك أبو عبيدة لمالك بن عوف النصري‏:‏

أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

ييسرونني من الميسر، وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ ويروى يأسرونني من الأسر‏.‏ وقال رباح بن عدي‏:‏

ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

في كتاب الرد ‏}‏أني أنا ابنه‏}‏ وكذا ذكره الغزنوي‏:‏ ألم يعلم؛ والمعنى على هذا‏:‏ أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا الآيات‏.‏ وقيل‏:‏ هو من اليأس المعروف؛ أي أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار، لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم؛ لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات طمعا في إيمان الكفار‏.‏ وقرأ علي وابن عباس‏{‏أفلم يتبين الذين آمنوا‏}‏ من البيان‏.‏ قال القشيري‏:‏ وقيل لابن عباس المكتوب ‏}‏أفلم ييئس‏}‏ قال‏:‏ أظن الكاتب كتبها وهو ناعس؛ أي زاد بعض الحروف حتى صار ‏}‏ييئس‏}‏‏.‏ قال أبو بكر الأنباري‏:‏ روي عن عكرمة عن ابن أبي‏:‏ نجيح أنه قرأ - ‏}‏أفلم يتبين الذين آمنوا‏}‏ وبها احتج من زعم أنه الصواب في التلاوة؛ وهو باطل عن بن عباس، لأن مجاهدا وسعيد بن جبير حكيا الحرف عن ابن عباس، على ما هو في المصحف بقراءة أبي عمرو وروايته عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس؛ ثم إن معناه‏:‏ أفلم يتبين؛ فإن كان مراد الله تحت اللفظة التي خالفوا بها الإجماع فقراءتنا تقع عليها، وتأتي بتأويلها، وإن أراد الله المعنى الآخر الذي اليأس فيه ليس من طريق العلم فقد سقط مما أوردوا؛ وأما سقوطه يبطل القرآن، ولزوم أصحابه البهتان‏.‏ ‏}‏أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ مخففة من القيلة، أي أنه لو يشاء الله ‏}‏لهدى الناس جميعا‏}‏ وهو يرد على القدرية وغيرهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة‏}‏ أي داهية تفجؤهم بكفرهم؛ وعتوهم؛ ويقال‏:‏ قرعه أمر إذا أصابه، والجمع قوارع؛ والأصل في القرع الضرب؛ قال‏:‏

أفني تلادي وما جمعت من نشب قرع القواقيز أفواه الأباريق

أي لا يزال الكافرون تصيبهم داهية مهلكة من صاعقة كما أصاب أربد أو من قتل أو من أسر أو جدب، أو غير ذلك من العذاب والبلاء؛ كما نزل بالمستهزئين، وهم رؤساء المشركين‏.‏ وقال عكرمة عن ابن عباس‏:‏ القارعة النكبة‏.‏ وقال ابن عباس أيضا وعكرمة‏:‏ القارعة الطلائع والسرايا التي كان ينفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ‏}‏أو تحل‏}‏ أي القارعة‏.‏ ‏}‏قريبا من دارهم‏}‏ قاله قتادة والحسن‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أو تحل أنت قريبا من دارهم‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت الآية بالمدينة؛ أي لا تزال تصيبهم القوارع فتنزل بساحتهم أو بالقرب منهم كقرى المدينة ومكة‏.‏ ‏}‏حتى يأتي وعد الله‏}‏ في فتح مكة؛ قاله مجاهد وقتادة وقيل‏:‏ نزلت بمكة؛ أي تصيبهم القوارع، وتخرج عنهم إلى المدينة يا محمد، فتحل قريبا من دارهم، أو تحل بهم محاصرا لهم؛ وهذه المحاصرة لأهل الطائف، ولقلاع خيبر، ويأتي وعد الله بالإذن لك في قتالهم وقهرهم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ وعد الله يوم القيامة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 32 ‏)‏

‏{‏ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم‏}‏ تقدم معنى الاستهزاء في ‏}‏البقرة‏}‏ ومعنى الإملاء في ‏}‏آل عمران‏}‏ أي سخر بهم، وأزري عليهم؛ فأمهلت الكافرين مدة ليؤمن من كان في علمي أنه يؤمن منهم؛ فلما حق القضاء أخذتهم بالعقوبة‏.‏ ‏}‏فكيف كان عقاب‏}‏ أي فكيف رأيتم ما صنعت بهم، فكذلك أصنع بمشركي قومك‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 33 ‏)‏

‏{‏أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد‏}‏

قوله تعالى‏{‏أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت‏}‏ ليس هذا القيام القيام الذي هو ضد القعود، بل هو بمعنى التولي لأمور الخلق؛ كما يقال‏:‏ قام فلان بشغل كذا؛ فإنه قائم على كل نفس بما كسبت أي يقدرها على الكسب، ويخلقها ويرزقها ويحفظها ويجازيها على عملها؛ فالمعنى‏:‏ أنه حافظ لا يغفل، والجواب محذوف؛ والمعنى‏:‏ أفمن هو حافظ لا يغفل كمن يغفل‏.‏ وقيل‏{‏أفمن هو قائم‏}‏ أي عالم؛ قاله الأعمش‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فلولا رجال من قريش أعزة سرقتم ثياب البيت والله قائم

أي عالم؛ فالله عالم بكسب كل نفس‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بذلك الملائكة الموكلون ببني آدم، عن الضحاك‏.‏ ‏}‏وجعلوا‏}‏ حال؛ أي أوقد جعلوا، أو عطف على ‏}‏استهزئ‏}‏ أي استهزؤوا وجعلوا؛ أي سموا ‏}‏لله شركاء‏}‏ يعني أصناما جعلوها آلهة‏.‏ ‏}‏قل سموهم‏}‏ أي قل لهم يا محمد‏{‏سموهم‏}‏ أي بينوا أسماءهم، على جهة التهديد؛ أي إنما يسمون‏:‏ اللات والعزى ومناة وهبل‏.‏ ‏}‏أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض‏}‏ ‏}‏أم‏}‏ استفهام توبيخ، أي أتنبئونه؛ وهو على التحقيق عطف على استفهام متقدم في المعنى؛ لأن قوله‏{‏سموهم‏}‏ معناه‏:‏ ألهم أسماء الخالقين‏.‏ ‏}‏أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض‏}‏‏؟‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه‏.‏ ‏}‏أم بظاهر من القول‏}‏ يعلمه‏؟‏ فإن قالوا‏:‏ بباطن لا يعلمه أحالوا، وإن قالوا‏:‏ بظاهر يعلمه فقل لهم‏:‏ سموهم؛ فإذا سموهم اللات والعزى فقل لهم‏:‏ إن الله لا يعلم لنفسه شريكا‏.‏ وقيل‏{‏أم تنبئونه‏}‏ عطف على قوله‏{‏أفمن هو قائم‏}‏ أي أفمن هو قائم، أم تنبئون الله بما لا يعلم؛ أي أنتم تدعون لله شريكا، والله لا يعلم لنفسه شريكا؛ أفتنبئونه بشريك له في الأرض وهو لا يعلمه‏!‏ وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك في غير الأرض لأنهم ادعوا له شركاء في الأرض‏.‏ ومعنى‏.‏ ‏}‏أم بظاهر من القول‏}‏‏:‏ الذي أنزل الله على أنبيائه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ معناه بباطل من القول؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

أعيرتنا ألبانها ولحومها وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر

أي باطل‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ بكذب من القول‏.‏ ويحتمل خامسا - أن يكون الظاهر من القول حجة يظهرونها بقولهم؛ ويكون معنى الكلام‏:‏ أتجبرونه بذلك مشاهدين، أم تقولون محتجين‏.‏ ‏}‏بل زين للذين كفروا مكرهم‏}‏ أي دع هذا‏!‏ بل زين للذين كفروا مكرهم قيل‏:‏ استدراك‏.‏ على هذا الوجه، أي ليس لله شريك، لكن زين للذين كفروا مكرهم‏.‏ وقرأ ابن عباس ومجاهد - ‏}‏بل زين للذين كفروا مكرهم‏}‏ مسمى الفاعل، وعلى قراءة الجماعة فالذي زين للكافرين مكرهم الله تعالى، وقيل‏:‏ الشيطان‏.‏ ويجوز أن يسمى الكفر مكرا؛ لأن مكرهم بالرسول كان كفرا‏.‏ ‏}‏وصدوا عن السبيل‏}‏ أي صدهم الله؛ وهي قراءة حمزة والكسائي‏.‏ الباقون بالفتح؛ أي صدوا غيرهم؛ واختاره أبو حاتم، اعتبارا بقوله‏{‏ويصدون عن سبيل الله‏}‏الأنفال‏:‏ 47‏]‏ وقوله‏{‏هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام‏}‏الفتح‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقراءة الضم أيضا حسنة في ‏}‏زين‏}‏ و‏}‏صدوا‏}‏ لأنه معلوم أن الله فاعل، ذلك في مذهب أهل السنة؛ ففيه إثبات القدر، وهو اختيار أبي عبيد‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة - ‏}‏وصِدوا‏}‏ بكسر الصاد؛ وكذلك‏.‏ ‏}‏هذه بضاعتنا ردت إلينا‏}‏يوسف‏:‏ 65‏]‏ بكسر الراء أيضا على ما لم يسم فاعله؛ وأصلها صددوا ورددت، فلما أدغمت الدال الأولى في الثانية نقلت حركتها على ما قبلها فانكسر‏.‏ ‏}‏ومن يضلل الله‏}‏ بخذلانه‏.‏ ‏}‏فما له من هاد‏}‏ أي موفق؛ وفي هذا إثبات قراءة الكوفيين ومن تابعهم؛ لقوله‏{‏، ومن يضلل الله‏}‏ فكذلك قوله‏{‏وصدوا‏}‏‏.‏ ومعظم القراء يقفون على الدال من غير الياء؛ وكذلك ‏}‏وال‏}‏ و‏}‏واق‏}‏؛ لأنك تقول في الرجل‏:‏ هذا قاض ووال وهاد، فتحذف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين‏.‏ وقرئ ‏}‏فما له من هادي‏}‏ و‏}‏والي‏}‏ و‏}‏واقي‏}‏ بالياء؛ وهو على لغة من يقول‏:‏ هذا داعي وواقي بالياء؛ لأن حذف الياء في حالة الوصل لالتقائها مع التنوين، وقد أمنا هذا في الوقف؛ فردت الياء فصار هادي ووالي وواقي‏.‏ وقال الخليل في نداء قاض‏:‏ يا قاضي بإثبات الياء؛ إذ لا تنوين مع النداء، كما لا تنوين في نحو الداعي والمتعالي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 34 ‏)‏

‏{‏لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق‏}‏

قوله تعالى‏{‏لهم عذاب في الحياة الدنيا‏}‏ أي للمشركين الصادين‏:‏ بالقتل والسبي والإسار، وغير ذلك من الأسقام والمصائب‏.‏ ‏}‏ولعذاب الآخرة أشق‏}‏ أي أشد؛ من قولك‏:‏ شق علي كذا يشق‏.‏ ‏}‏وما لهم من الله من واق‏}‏ أي مانع يمنعهم من عذابه ولا دافع‏.‏ و‏}‏من‏}‏ زائدة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 35 ‏)‏

‏{‏مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار‏}‏

قوله تعالى‏{‏مثل الجنة التي وعد المتقون‏}‏ اختلف النحاة في رفع ‏}‏مثل‏}‏ فقال سيبويه‏:‏ ارتفع بالابتداء والخبر محذوف؛ والتقدير‏:‏ وفيما يتلى عليكم مثل الجنة‏.‏ وقال الخليل‏:‏ ارتفع الابتداء وخبره ‏}‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي صفة الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار؛ كقولك‏:‏ قولي يقوم زيد؛ فقولي مبتدأ، ويقوم زيد خبره؛ والمثل بمعنى الصفة موجود؛ قال الله تعالى‏{‏ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل‏}‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ وقال‏{‏ولله المثل الأعلى‏}‏النحل‏:‏ 60‏]‏ أي الصفة العليا؛ وأنكره أبو علي وقال‏:‏ لم يسمع مثل بمعنى الصفة؛ إنما معناه الشبه؛ ألا تراه يجري مجراه في مواضعه ومتصرفاته، كقولهم‏:‏ مررت برجل مثلك؛ كما تقول‏:‏ مررت برجل شبهك؛ قال‏:‏ ويفسد أيضا من جهة المعنى؛ لأن مثلا إذا كان معناه صفة كان تقدير الكلام‏:‏ صفة الجنة التي فيها أنهار، وذلك غير مستقيم؛ لأن الأنهار في الجنة نفسها لا صفتها وقال الزجاج‏:‏ مثل الله عز وجل لنا ما غاب عنا بما نراه؛ والمعنى‏:‏ مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار؛ وأنكره أبو علي فقال‏:‏ لا يخلو المثل على قوله أن يكون الصفة أو الشبه، وفي كلا الوجهين لا يصح ما قاله؛ لأنه إذا كان بمعنى الصفة لم يصح، لأنك إذا قلت‏:‏ صفة الجنة جنة، فجعلت الجنة خبرا لم يستقم ذلك؛ لأن الجنة لا تكون الصفة، وكذلك أيضا شبه الجنة جنة؛ ألا ترى أن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين، وهو حدث؛ والجنة غير حدث؛ فلا يكون الأول الثاني‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المثل مقحم للتأكيد؛ والمعنى‏:‏ الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار؛ والعرب تفعل ذلك كثيرا بالمثل؛ كقوله‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏:‏ أي ليس هو كشيء‏.‏ وقيل التقدير‏:‏ صفة الجنة التي وعد المتقون صفة جنة ‏}‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ وقيل معناه‏:‏ شبه الجنة التي وعد المتقون في الحسن والنعمة والخلود كشبه النار في العذاب والشدة والخلود؛ قاله مقاتل‏.‏ ‏}‏أكلها دائم وظلها‏}‏ لا ينقطع؛ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏إذا أخذت ثمرة عادت مكانها أخرى‏)‏ وقد بيناه في ‏}‏التذكرة‏}‏‏.‏ ‏}‏وظلها‏}‏ أي وظلها كذلك؛ فحذف؛ أي ثمرها لا ينقطع، وظلها لا يزول؛ وهذا رد على الجهمية في زعمهم أن نعيم الجنة يزول ويفني‏.‏ ‏}‏تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار‏}‏ أي عاقبة أمر المكذبين وآخرتهم النار يدخلونها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 36 ‏)‏

‏{‏والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب‏}‏

قوله تعالى‏{‏والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك‏}‏ أي بعض من أوتي الكتاب يفرح بالقرآن، كابن سلام وسلمان، والذين جاؤوا من الحبشة؛ فاللفظ عام، والمراد الخصوص‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يفرحون بنور القرآن؛ وقاله مجاهد وابن زيد‏.‏ وعن مجاهد أيضا أنهم مؤمنو أهل الكتاب‏.‏ وقيل‏:‏ هم جماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى يفرحون بنزول القرآن لتصديقه كتبهم‏.‏ وقال أكثر العلماء‏:‏ كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في أول ما أنزل، فلما أسلم عبدالله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة؛ فسألوا النبي عن ذلك؛ فأنزل الله تعالى‏{‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى‏}‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏ فقالت قريش‏:‏ ما بال محمد يدعو إلى إله واحد فأصبح اليوم يدعو إلهين، الله والرحمن‏!‏ والله ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب؛ فنزلت‏{‏وهم بذكر الرحمن هم كافرون‏}‏الأنبياء‏:‏ 36‏]‏ ‏}‏وهم يكفرون بالرحمن‏}‏الرعد‏:‏ 30‏]‏ ففرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرحمن؛ فأنزل الله تعالى‏{‏والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك‏}‏‏.‏ ‏}‏ومن الأحزاب‏}‏ يعني مشركي مكة، ومن لم يؤمن من اليهود والنصارى والمجوس‏.‏ وقيل‏:‏ هم العرب المتحزبون على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ ومن أعداء المسلمون من ينكر بعض ما في القرآن؛ لأن فيهم من كان يعترف ببعض الأنبياء، وفيهم من كان يعترف بأن الله خالق السماوات والأرض‏.‏ ‏}‏قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به‏}‏ قراءة الجماعة بالنصب عطفا على ‏}‏أعبد‏}‏‏.‏ وقرأ أبو خالد بالرفع على الاستئناف أي أفرده بالعبادة وحده لا شريك له، وأتبرأ عن المشركين، ومن قال‏:‏ المسيح ابن الله وعزير ابن الله، ومن اعتقد التشبيه كاليهود‏.‏ ‏}‏إليه أدعو‏}‏ أي إلى عبادته أدعو الناس‏.‏ ‏}‏وإليه مآب‏}‏ أي أرجع في أموري كلها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 37 ‏)‏

‏{‏وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك أنزلناه حكما عربيا‏}‏ أي وكما أنزلنا عليك القرآن فأنكره بعض الأحزاب كذلك أنزلناه حكما عريبا؛ وإذا وصفه بذلك لأنه أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربي، فكذب الأحزاب بهذا الحكم أيضا‏.‏ وقيل نظم الآية‏:‏ وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلنا إليك القرآن حكما عربيا، أي بلسان العرب؛ ويريد بالحكم ما فيه من الأحكام‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالحكم العربي القرآن كله؛ لأنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم‏.‏ ‏}‏ولئن اتبعت أهواءهم‏}‏ أي أهواء المشركين في عبادة ما دون الله، وفي التوجيه إلى غير الكعبة‏.‏ ‏}‏بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق‏}‏ أي ناصر ينصرك‏.‏ ‏}‏ولا واق‏}‏ يمنعك من عذابه؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد الأمة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 38 ‏)‏

‏{‏ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب‏}‏

قيل‏:‏ إن اليهود عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج، وعيرته بذلك وقالوا‏:‏ ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيا لشغله أم النبوة عن النساء؛ فأنزل الله هذه والآية، وذكرهم أمر داود وسليمان فقال‏{‏ولقد أرسلنا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية‏}‏ أي جعلناهم بشرا يقصون ما أحل الله من شهوات الدنيا، وإنما التخصيص في الوحي‏.‏

هذه الآية تدل على الترغيب في النكاح والحض عليه، وتنهي عن التبتل، وهو ترك النكاح، وهذه سنة المرسلين كما نصت عليه هذه الآية، والسنة واردة بمعناها؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم‏)‏ الحديث‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏آل عمران‏}‏ وقال‏:‏ ‏(‏من تزوج فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الثاني‏)‏‏.‏ ومعنى ذلك أن النكاح يعف عن الزني، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما الجنة فقال‏:‏ ‏(‏من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة ما بين لحييه وما بين رجليه‏)‏ خرجه الموطأ وغيره‏.‏ وفي صحيح البخاري عن أنس قال‏:‏ ‏(‏جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا‏:‏ وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم‏!‏ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‏.‏ فقال أحدهم‏:‏ أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال الآخر‏:‏ إني أصوم الدهر فلا أفطر‏.‏ وقال الآخر‏:‏ أنا أعتزل النساء فلا أتزوج؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال‏:‏ ‏(‏أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني‏)‏‏.‏ خرجه مسلم بمعناه؛ وهذا أبين‏.‏ وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏‏(‏أراد عثمان أن يتبتل فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولو أجاز له ذلك لاختصينا، وقد تقدم في ‏}‏آل عمران‏}‏ الحض على طلب الولد والرد على من جهل ذلك‏.‏ وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول‏:‏ إني لأتزوج المرأة وما لي فيها من حاجة، وأطؤها وما أشتهيها؛ قيل له‏:‏ وما يحملك على ذلك يا أمير المؤمنين‏؟‏ قال‏:‏ حبي أن يخرج الله مني من يكاثر به النبي صلى الله عليه وسلم النبيين يوم القيامة؛ وإني سمعته يقول‏:‏ ‏(‏عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأحسن أخلاقا وأنتق أرحاما وإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة‏)‏ يعني بقول‏:‏ ‏(‏أنتق أرحاما‏)‏ أقبل للولد؛ ويقال للمرأة الكثيرة الولد ناتق؛ لأنها ترمي بالأولاد رميا‏.‏ وخرج أبو داود عن معقل بن يسار قال‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها‏؟‏ قال ‏}‏لا‏}‏ ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال‏:‏ ‏(‏تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم‏)‏‏.‏ صححه أبو محمد عبدالحق وحسبك‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله‏}‏ عاد الكلام إلى ما اقترحوا من الآيات - ما تقدم ذكره في هذه السورة - فأنزل الله ذلك فيهم؛ وظاهر الكلام حظر ومعناه النفي؛ لأنه لا يحظر على أحد ما لا يقدر عليه‏.‏ ‏}‏لكل أجل كتاب‏}‏ أي لكل أمر قضاه الله كتاب عند الله؛ قال الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ فيه تقديم وتأخير، المعنى‏:‏ لكل كتاب أجل؛ قال الفراء والضحاك؛ أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤقت، ووقت معلوم؛ نظيره‏.‏ ‏}‏لكل نبأ مستقر‏}‏الأنعام‏:‏ 67‏]‏؛ بين أن المراد ليس على اقتراح الأمم في نزول العذاب، بل لكل أجل كتاب‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لكل مدة كتاب مكتوب، وأمر مقدر لا تقف عليه الملائكة‏.‏ وذكر الترمذي الحكيم في ‏}‏نوادر الأصول‏}‏ عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال‏:‏ لما ارتقى موسى صلوات الله عليه وسلامه طور سيناء رأى الجبار في إصبعه خاتما، فقال‏:‏ يا موسى ما هذا‏؟‏ وهو أعلم به، قال‏:‏ شيء من حلي الرجال، قال‏:‏ فهل عليه شيء من أسمائي مكتوب أو كلامي‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فاكتب عليه ‏}‏لكل أجل كتاب‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب‏}‏

قوله تعالى‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏}‏ أي يمحو من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به‏.‏ ‏}‏ويثبت‏}‏ ما يشاء؛ أي يؤخره إلى وقته؛ يقال‏:‏ محوت الكتاب محوا، أي أذهبت أثره‏.‏ ‏}‏ويثبت‏}‏ أي ويثبته؛ كقوله‏{‏والذاكرين الله كثيرا والذاكرات‏}‏الأحزاب‏:‏ 35‏]‏ أي والذاكرات الله‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ‏}‏ويثبت‏}‏ بالتخفيف، وشدد الباقون؛ وفي قراءة ابن عباس، واختيار أبي حاتم وأبي عبيد لكثرة من قرأ بها؛ لقول‏{‏يثبت الله الذين آمنوا‏}‏إبراهيم‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا السعادة والشقاوة والموت‏)‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا أشياء؛ الخَلق والخُلق والأجل والرزق والسعادة والشقاوة؛ وعنه‏:‏ هما كتابان سوى أم الكتاب، يمحو الله منهما ما يشاء ويثبت‏.‏ ‏}‏وعنده أم الكتاب‏}‏ الذي لا يتغير منه شيء‏.‏ قال القشيري‏:‏ وقيل السعادة والشقاوة والخلق والخلق والرزق لا تتغير؛ فالآية فيما عدا هذه الأشياء؛ وفي هذا القول نوع تحكم‏.‏

قلت‏:‏ مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد، وإنما يؤخذ‏:‏ توقيفا، فإن صح فالقول به يجب ويوقف عنده، وإلا فتكون الآية عامة في جميع الأشياء، وهو الأظهر والله أعلم؛ وهذا يروي معناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وأبي وائل وكعب الأحبار وغيرهم، وهو قول الكلبي‏.‏ وعن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول‏:‏ اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة والذنب فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني في السعداء؛ فإنك‏:‏ تمحو ما تشاء وتثبت؛ وعندك أم الكتاب‏.‏ وكان أبو وائل يكثر أن يدعو‏:‏ اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامح واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب‏.‏ وقال كعب لعمر بن الخطاب‏:‏ لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة‏.‏ ‏}‏يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب‏}‏‏.‏ وقال مالك بن دينار في المرأة التي دعا لها‏:‏ اللهم إن كان في بطنها جارية فأبدلها غلاما فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب‏.‏ وقد تقدم في الصحيحين عن أبي هريرة قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من سره أن يبسط له رزقه وينسأ له أثره فليصل رحمه‏)‏‏.‏ ومثله عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من أحب‏)‏ فذكره بلفظه سواء؛ وفيه تأويلان‏:‏ أحدهما‏:‏ معنوي، وهو ما يبقى بعده من الثناء الجميل والذكر الحسن، والأجر المتكرر، فكأنه لم يمت‏.‏ والآخر‏:‏ يؤخر أجله المكتوب في اللوح المحفوظ؛ والذي في علم الله ثابت لا تبدل له، كما قال‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب‏}‏‏.‏ وقيل لابن عباس لما روى الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من أحب أن يمد الله في عمره وأجله ويبسط له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه‏)‏ كيف يزاد في العمر والأجل‏؟‏ ‏!‏ فقال‏:‏ قال الله عز وجل‏{‏هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده‏}‏الأنعام‏:‏ 2‏]‏‏.‏ فالأجل الأول أجل العبد من حين ولادته إلى حين موته، والأجل الثاني‏:‏ يعني المسمى عنده - من حين وفاته إلى يوم يلقاه في البرزخ لا يعلمه إلا الله؛ فإذا اتقى العبد ربه ووصل رحمه زاده الله في أجل عمره الأول من أجل البرزخ؛ ما شاء، وإذا عصى وقطع رحمه نقصه الله من أجل عمره في الدنيا ما شاء، فيزيده في البرزخ فإذا تحتمل الأجل في علمه السابق امتنع الزيادة والنقصان؛ لقوله تعالى‏{‏فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏الأعراف‏:‏ 34‏]‏ فتوافق الخبر والآية؛ وهذه زيادة في نفس العمر وذات الأجل على ظاهر اللفظ، في اختيار حبر الأمة، والله أعلم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يحكم الله أمر السنة في رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، إلا الحياة والموت، والشقاء والسعادة؛ وقد مضى القول فيه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب؛ وروى معناه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم سئل الكلبي عن هذه الآية فقال‏:‏ يكتب القول كله، حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قولك‏:‏ أكلت وشربت ودخلت وخرجت ونحوه، وهو صادق، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب‏.‏ وقال قتادة وابن زيد وسعيد بن جبير‏:‏ يمحو الله ما يشاء من الفرائض والنوافل فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أم الكتاب؛ ونحوه ذكره النحاس والمهدوي عن ابن عباس؛ قال النحاس‏:‏ وحدثنا بكر بن سهل، قال حدثنا أبو صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ‏}‏يمحو الله ما يشاء‏}‏ يقول‏:‏ يبدل الله من القرآن ما يشاء فينسخه، ‏}‏ويثبت‏}‏ ما يشاء فلا يبدله، ‏}‏وعنده أم الكتاب‏}‏ يقول‏:‏ جملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ والمنسوخ‏.‏ وقال سعيد بن جبير أيضا‏:‏ يغفر ما يشاء - يعني - من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفره‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ يمحو ما يشاء - يعني بالتوبة - جميع الذنوب ويثبت بدل الذنوب حسنات قال تعالى‏{‏إلا من تاب وأمن وعمل عملا صالحا‏}‏الفرقان‏:‏ 70‏]‏ الآية‏.‏ وقال الحسن‏{‏يمحو الله ما يشاء‏}‏ من جاء أجله، ‏}‏ويثبت‏}‏ من لم يأت أجله‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يمحو الآباء، ويثبت الأبناء‏.‏ وعنه أيضا‏.‏ ينسى الحفظة من الذنوب ولا ينسي‏.‏ وقال السدي‏{‏يمحو الله ما يشاء‏}‏ يعني‏:‏ القمر، ‏}‏ويثبت‏}‏ يعني‏:‏ الشمس؛ بيانه قوله‏{‏فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة‏}‏الإسراء‏:‏ 12‏]‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ هذا في الأرواح حالة النوم؛ يقبضها عند النوم، ثم إذا أراد موته فجأة أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه؛ بيانه قوله‏{‏الله يتوفى الأنفس حين موتها‏}‏ الآية ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وقال علي بن أبي طالب يمحو الله ما يشاء من القرون، كقوله‏{‏ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون‏}‏يس‏:‏ 31‏]‏ ويثبت ما يشاء منها، كقوله‏{‏ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين‏}‏المؤمنون‏:‏ 31‏]‏ فيمحو قرنا، ويثبت قرنا‏.‏ وقيل‏:‏ هو الرجل يعمل الزمن الطويل بطاعة الله، ثم يعمل بمعصية الله فيموت على ضلاله؛ فهو الذي يمحو، والذي يثبت‏:‏ الرجل يعمل بمعصية الله الزمان الطويل ثم يتوب، فيمحوه الله من ديوان السيئات، ويثبته في ديوان الحسنات؛ ذكره الثعلبي والماوردي عن ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ يمحو الله ما يشاء - يعني الدنيا - ويثبت الآخرة‏.‏ وقال قيس بن عباد في اليوم العاشر من رجب‏:‏ هو اليوم الذي يمحو الله فيه ما يشاء، ويثبت فيه ما يشاء، وقد تقدم عن مجاهد أن ذلك يكون في رمضان‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام، من درة بيضاء، لها دفتان من ياقوتة حمراء، لله فيه كل يوم ثلاثمائة وستون نظرة، يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء‏.‏ وروي أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله سبحانه يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل فينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء‏)‏‏.‏ والعقيدة أنه لا تبديل لقضاء الله؛ وهذا المحو والإثبات مما سبق به القضاء، وقد تقدم أن من القضاء ما يكون واقعا محتوما، وهو الثابت؛ ومنه ما يكون مصروفا بأسباب، وهو الممحو، والله أعلم‏.‏ وقال الغزنوي‏:‏ وعندي أن ما في اللوح خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة؛ فيحتمل التبديل؛ لأن إحاطة الخلق بجميع علم الله محال؛ وما في علمه من تقدير الأشياء لا يبدل‏.‏ ‏}‏وعنده أم الكتاب‏}‏ أصل ما كتب من الآجال وغيرها‏.‏ وقيل‏:‏ أم الكتاب اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه يجري فيه التبديل‏.‏ وقيل‏:‏ إنما يجري في الجرائد الأخر‏.‏ وسئل ابن عباس عن أم الكتاب فقال‏:‏ علم الله ما هو خالق، وما خلقه عاملون؛ فقال لعلمه‏:‏ كن كتابا، ولا تبديل في علم الله، وعنه أنه الذكر؛ دليله قوله تعالى‏{‏ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر‏}‏الأنبياء‏:‏ 105‏]‏ وهذا يرجع معناه إلى الأول؛ وهو معنى قول كعب‏.‏ قال كعب الأحبار‏:‏ أم الكتاب علم الله تعالى بما خلق وبما هو خالق‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 40 ‏)‏

‏{‏وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ زائدة، والتقدير‏:‏ وإن نرينك بعض الذي نعدهم، أي من العذاب لقوله‏{‏لهم عذاب في الحياة الدنيا‏}‏الرعد‏:‏ 34‏]‏ وقوله‏{‏ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة‏}‏الرعد‏:‏ 31‏]‏ أي إن أريناك بعض ما وعدناهم ‏}‏أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ‏}‏ فليس عليك إلا البلاغ؛ أي التبليغ؛ ‏}‏وعلينا الحساب‏}‏ أي الجزاء والعقوبة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 41 ‏)‏

‏{‏أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب‏}‏

قوله تعالى‏{‏أولم يروا‏}‏ يعني، أهل مكة، ‏}‏أنا نأتي الأرض‏}‏ أي نقصدها‏.‏ ‏}‏ننقصها من أطرافها‏}‏ اختلف فيه؛ فقال ابن عباس ومجاهد‏{‏ننقصها من أطرافها‏}‏ موت علمائها وصلحائها قال القشيري‏:‏ وعلى هذا فالأطراف الأشراف؛ وقد قال ابن الأعرابي‏:‏ الطرف والطرف الرجل الكريم؛ ولكن هذا القول بعيد، لأن مقصود الآية‏:‏ أنا أريناهم النقصان في أمورهم، ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز؛ إلا أن يحمل قول ابن عباس على موت أحبار اليهود والنصارى‏.‏ وقال مجاهد أيضا وقتادة والحسن‏:‏ هو ما يغلب عليه المسلمون مما في أيدي المشركين؛ وروي ذلك عن ابن عباس، وعنه أيضا هو خراب الأرض حتى يكون العمران في ناحية منها؛ وعن مجاهد‏:‏ نقصانها خرابها وموت أهلها‏.‏ وذكر وكيع بن الجراح عن طلحة بن عمير عن عطاء بن أبي رباح في قول الله تعالى‏{‏أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها‏}‏ قال‏:‏ ذهاب فقهائها وخيار أهلها‏.‏ قال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ قول عطاء في تأويل الآية حسن جدا؛ تلقاه أهل العلم بالقبول‏.‏

قلت‏:‏ وحكاه المهدوي عن مجاهد وابن عمر، وهذا نص القول الأول نفسه، روى سفيان عن منصور عن مجاهد، ‏}‏ننقصها من أطرفها‏}‏ قال‏:‏ موت الفقهاء والعلماء؛ ومعروف في اللغة أن الطرف الكريم من كل شيء؛ وهذا خلاف ما ارتضاه أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم من قول ابن عباس‏.‏ وقال عكرمة والشعبي‏:‏ هو النقصان وقبض الأنفس‏.‏ قال أحدهما‏:‏ ولو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك‏.‏ وقال الآخر‏:‏ لضاق عليك حش تتبرز فيه‏.‏ قيل‏:‏ المراد به هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وهلاك أرضهم بعدهم؛ والمعنى‏:‏ أو لم تر قريش هلاك من قبلهم، وخراب أرضهم بعدهم‏؟‏‏!‏ أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ذلك؛ وروي ذلك أيضا عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج‏.‏ وعن ابن عباس أيضا أنه بركات الأرض وثمارها وأهلها‏.‏ وقيل‏:‏ نقصها بجور ولاتها‏.‏

قلت‏:‏ وهذا صحيح معنى؛ فإن الجور والظلم يخرب البلاد، بقتل أهلها وانجلائهم عنها، وترفع من الأرض البركة، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏والله يحكم لا معقب لحكمه‏}‏ أي ليس يتعقب حكمه أحد بنقص ولا تغير‏.‏ ‏}‏وهو سريع الحساب‏}‏ أي الانتقام من الكافرين، سريع الثواب للمؤمن‏.‏ وقيل‏:‏ لا يحتاج‏.‏ في حسابه إلى روية قلب، ولا عقد بنان؛ حسب ما تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ بيانه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 42 ‏)‏

‏{‏وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقد مكر الذين من قبلهم‏}‏ أي من قبل مشركي مكة، مكروا بالرسل وكادوا لهم وكفروا بهم‏.‏ ‏}‏فلله المكر جميعا‏}‏ أي هو مخلوق له مكر الماكرين، فلا يضر إلا بإذنه‏.‏ وقيل‏:‏ فلله خير المكر؛ أي يجازيهم به‏.‏ ‏}‏يعلم ما تكسب كل نفس‏}‏ من خير وشر، فيجازي عليه‏.‏ ‏}‏وسيعلم الكفار‏}‏ كذا قراءه نافع وابن كثير وأبي عمرو‏.‏ الباقون‏{‏الكفار‏}‏ على الجمع‏.‏ وقيل‏:‏ عني به أبو جهل‏.‏ ‏}‏لمن عقبى الدار‏}‏ أي عاقبة دار الدنيا ثوابا وعقابا، أو لمن الثواب والعقاب في الدار الآخرة؛ وهذا تهديد ووعيد‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 43 ‏)‏

‏{‏ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويقول الذين كفروا لست مرسلا‏}‏ قال قتادة‏:‏ هم مشركو العرب؛ أي لست بنبي ولا رسول، وإنما أنت متقول؛ أي لما لم يأتهم بما اقترحوا قالوا ذلك‏.‏ ‏}‏قل كفى بالله‏}‏ أي قل لهم يا محمد‏{‏كفى بالله شهيدا بيني وبينكم‏}‏ بصدقي وكذبكم‏.‏ ‏}‏ومن عنده علم الكتاب‏}‏ وهذا إحجاج على مشركي العرب لأنهم كانوا يرجعون إلى أهل الكتاب - من آمن منهم - في التفاسير‏.‏ وقيل‏:‏ كانت شهادتهم قاطعة لقول الخصوم؛ وهم مؤمنو أهل الكتاب كعبدالله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري والنجاشي وأصحابه، قاله قتادة وسعيد بن جبير‏.‏ وروى الترمذي عن ابن أخي عبدالله بن سلام قال‏:‏ لما أريد قتل عثمان جاء عبدالله بن سلام فقال له عثمان‏:‏ ما جاء بك‏؟‏ قال‏:‏ جئت في نصرتك؛ قال‏:‏ أخرج إلى الناس فاطردهم عني، فإنك خارج خير لي من داخل؛ قال فخرج عبدالله بن سلام إلى الناس فقال‏:‏ أيها الناس‏!‏ إنه كان اسمي في الجاهلية فلان، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله، ونزلت في آيات من كتاب الله؛ فنزلت في‏.‏ ‏}‏وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ ونزلت في‏.‏ ‏}‏قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب‏}‏ الحديث‏.‏ وقد كتبناه بكماله في كتاب ‏}‏التذكرة‏}‏‏.‏ وقال فيه أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن غريب‏.‏ وكان اسمه الجاهلية حصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله‏.‏ وقال أبو بشر‏:‏ قلت لسعيد بن جبير ‏}‏ومن عنده علم الكتاب‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ هو عبدالله بن سلام‏.‏

قلت‏:‏ وكيف يكون عبدالله بن سلام وهذه السورة مكية وابن سلام ما أسلم إلا بالمدينة‏؟‏‏!‏ ذكره الثعلبي‏.‏ وقال القشيري‏:‏ وقال ابن جبير السورة مكية وابن سلام أسلم بالمدينة بعد هذه السورة؛ فلا يجوز أن تحمل هذه الآية على ابن سلام؛ فمن عنده علم الكتاب جبريل؛ وهو قول ابن عباس‏.‏ وقال الحسن ومجاهد والضحاك‏:‏ هو الله تعالى؛ وكانوا يقرؤون ‏}‏ومن عنده علم الكتاب‏}‏ وينكرون على من يقول‏:‏ هو عبدالله بن سلام وسلمان؛ لأنهم يرون أن السورة مكية، وهؤلاء أسلموا بالمدينة‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ‏}‏ومن عنده علم الكتاب‏}‏ وإن كان في الرواية ضعف، وروى ذلك سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وروى محبوب عن إسماعيل بن محمد اليماني أنه قرأ كذلك - ‏}‏ومِن عنده‏}‏ بكسر الميم والعين والدال ‏}‏علم الكتاب‏}‏ بضم العين ورفع الكتاب‏.‏ وقال عبدالله بن عطاء‏:‏ قلت، لأبي جعفر بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبدالله بن سلام فقال‏:‏ إنما ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وكذلك قال محمد ابن الحنفية‏.‏ وقيل‏:‏ جميع المؤمنين، والله أعلم‏.‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ أما من قال إنه علي فعول على أحد وجهين‏:‏ إما لأنه عنده أعلم المؤمنين وليس كذلك؛ بل أبو بكر وعمر وعثمان أعلم منه‏.‏ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏(‏أنا مدينة العلم وعلي بابها‏)‏ وهو حديث باطل؛ النبي صلى الله عليه وسلم علم وأصحابه أبوابها؛ فمنهم الباب المنفسح، ومنهم المتوسط، على قدر منازلهم في العلوم‏.‏ وأما من قال إنهم جميع المؤمنين فصدق؛ لأن كل مؤمن يعلم الكتاب، ويدرك وجه إعجازه، ويشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بصدقه‏.‏

قلت‏:‏ فالكتاب على هذا هو القرآن‏.‏ وأما من قال هو عبدالله بن سلام فعوَّل، على حديث الترمذي؛ وليس يمتنع أن ينزل في عبدالله بن سلام شيئا ويتناول جميع المؤمنين لفظا؛ ويعضده من النظام أن قوله تعالى‏{‏ويقول الذين كفروا‏}‏ يعني قريشا؛ فالذين عندهم علم الكتاب هم المؤمنون من اليهود والنصارى، الذين هم إلى معرفة النبوة والكتاب أقرب من عبدة الأوثان‏.‏ قال النحاس‏:‏ وقول من قال هو عبدالله بن سلام وغيره يحتمل أيضا؛ لأن البراهين إذا صحت وعرفها من قرأ الكتب التي أنزلت قبل القرآن كان أمرا مؤكدا؛ والله أعلم بحقيقة ذلك‏.‏
 
سورة إبراهيم

مقدمة

سورة إبراهيم مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وجابر‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ إلا آيتين منها مدنيتين وقيل‏:‏ ثلاث، نزلت في الذين حاربوا الله ورسوله وهي قوله تعالى‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا‏}‏إبراهيم‏:‏ 28‏]‏ إلى قوله‏{‏فإن مصيركم إلى النار‏}‏إبراهيم‏:‏ 30‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 1 ‏)‏

‏{‏الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد‏}‏

قوله تعالى‏{‏الر كتاب أنزلناه إليك‏}‏ تقدم معناه‏.‏ ‏}‏لتخرج الناس‏}‏ أي بالكتاب، وهو القرآن، أي بدعائك إليه‏.‏ ‏}‏من الظلمات إلى النور‏}‏ أي من ظلمات الكفر الضلالة والجهل إلى نور الإيمان والعلم؛ وهذا على التمثيل؛ لأن الكفر بمنزلة الظلمة؛ والإسلام بمنزلة النور‏.‏ وقيل‏:‏ من البدعة إلى السنة، ومن الشك إلى اليقين، والمعنى‏.‏ متقارب‏.‏ ‏}‏بإذن ربهم‏}‏ أي بتوفيقه إياهم ولطفه بهم، والباء في ‏}‏بإذن ربهم‏}‏ متعلقة بـ ‏}‏تخرج‏}‏ وأضيف الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الداعي والمنذر الهادي‏.‏ ‏}‏إلى صراط العزيز الحميد‏}‏ هو كقولك‏:‏ خرجت إلى زيد العاقل الفاضل من غير واو، لأنهما شيء واحد؛ والله هو العزيز الذي لا مثل له ولا شبيه‏.‏ وقيل‏{‏العزيز‏}‏ الذي لا يغلبه غالب‏.‏ وقيل‏{‏العزيز‏}‏ المنيع في ملكه وسلطانه‏.‏ ‏}‏الحميد‏}‏ أي المحمود بكل لسان، والممجد في كل مكان على كل حال‏.‏ وروى مقسم عن ابن عباس قال‏:‏ كان قوم آمنوا بعيسى ابن مريم، وقوم كفروا به، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر الذين آمنوا بعيسى؛ فنزلت هذه الآية، ذكره الماوردي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 2 ‏)‏

‏{‏الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد‏}‏

قوله تعالى‏{‏الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ أي ملكا وعبيدا واختراعا وخلقا‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وغيرهما‏{‏الله‏}‏ بالرفع على الابتداء ‏}‏الذي‏}‏ خبره‏.‏ وقيل‏{‏الذي‏}‏ صفة، والخبر مضمر؛ أي الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض قادر على كل شيء‏.‏ الباقون بالخفض نعتا للعزيز الحميد فقدم النعت على المنعوت؛ كقولك‏:‏ مررت بالظريف زيد‏.‏ وقيل‏:‏ على البدل من ‏}‏الحميد‏}‏ وليس صفة؛ لأن اسم الله صار كالعلم فلا يوصف؛ كما لا يوصف بزيد وعمرو، بل يجوز أن يوصف به من حيث المعنى؛ لأن معناه أنه المنفرد بقدرة الإيجاد‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ والخفض على التقديم والتأخير، مجازه‏:‏ إلى صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السماوات وما في الأرض‏.‏ وكان يعقوب إذا وقف على ‏}‏الحميد‏}‏ رفع، وإذا وصل خفض على النعت‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ من خفض وقف على ‏}‏وما في الأرض‏}‏‏.‏ ‏}‏وويل للكافرين من عذاب شديد‏}‏ قد تقدم معنى الويل في ‏}‏البقرة‏}‏ وقال الزجاج‏:‏ هي كلمة تقال للعذاب والهلكة‏.‏ ‏}‏من عذاب شديد‏}‏ أي من جهنم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 3 ‏)‏

‏{‏الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين يستحبون الحياة الدنيا‏}‏ أي يختارونها على الآخرة، والكافرون يفعلون ذلك‏.‏ فـ ‏}‏الذين‏}‏ في موضع خفض صفة لهم‏.‏ وقيل‏:‏ في موضع رفع خبر ابتداء مضمر، أي هم الذين وقيل‏{‏الذين يستحبون‏}‏ مبتدأ وخبره‏.‏ ‏}‏أولئك‏}‏‏.‏ وكل من آثر الدنيا وزهرتها، واستحب البقاء في نعيمها على النعيم في الآخرة، وصد عن سبيل الله - أي صرف الناس عنه وهو دين الله، الذي جاءت به الرسل، في قول ابن عباس وغيره - فهو داخل في هذه الآية؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون‏)‏ وهو حديث صحيح‏.‏ وما أكثر ما هم في هذه الأزمان، والله المستعان‏.‏ وقيل‏{‏يستحبون‏}‏ أي يلتمسون الدنيا من غير وجهها، لأن نعمة الله لا تلتمس إلا بطاعته دون معصيته‏.‏ ‏}‏ويبغونها عوجا‏}‏ أي يطلبون لها زيغا وميلا لموافقة أهوائهم، وقضاء حاجاتهم وأغراضهم‏.‏ والسبيل تذكر وتؤنث‏.‏ والموج بكسر العين في الدين والأمر والأرضي، وفي كل ما لم يكن قائما؛ وبفتح العين في كل ما كان قائما، كالحائط والرمح ونحوه؛ وقد تقدم في ‏}‏آل عمران‏}‏ وغيرها‏.‏ ‏}‏أولئك في ضلال بعيد‏}‏ أي ذهاب عن الحق بعيد عنه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 4 ‏)‏

‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما أرسلنا من رسول‏}‏ أي قبلك يا محمد ‏}‏إلا بلسان قومه‏}‏ أي بلغتهم، ليبينوا لهم أمر دينهم؛ ووحد اللسان وإن أضافه إلى القوم لأن المراد اللغة؛ فهي اسم جنس يقع على القليل والكثير؛ ولا حجة للعجم وغيرهم في هذه الآية؛ لأن كل من ترجم له ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة يفهمها لزمته الحجة، وقد قال الله تعالى‏{‏وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا‏}‏سبأ‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أرسل كل نبي إلى أمته بلسانها وأرسلني الله إلى كل أحمر وأسود من خلقه‏)‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار‏)‏‏.‏ خرجه مسلم، وقد تقدم‏.‏ ‏}‏فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء‏}‏ رد على القدرية في نفوذ المشيئة، وهو مستأنف، وليس بمعطوف على ‏}‏ليبين‏}‏ لأن الإرسال إنما وقع للتبيين لا للإضلال‏.‏ ويجوز النصب في ‏}‏يضل‏}‏ لأن الإرسال صار سببا للإضلال؛ فيكون كقوله‏{‏ليكون لهم عدوا وحزنا‏}‏القصص‏:‏ 8‏]‏ وإنما صار الإرسال سببا للإضلال لأنهم كفروا به لما جاءهم؛ فصار كأنه سبب لكفرهم ‏}‏وهو العزيز الحكيم‏}‏ تقدم معناه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 5 ‏)‏

‏{‏ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد أرسلنا موسى بآياتنا‏}‏ أي بحجتنا وبراهيننا؛ أي بالمعجزات الدالة على صدقه‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هي التسع الآيات‏.‏ ‏}‏أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور‏}‏ نظيره قوله تعالى‏:‏ لنبينا عليه السلام أول السورة‏{‏لتخرج الناس من الظلمات إلى النور‏}‏‏{‏أن‏}‏ هنا بمعنى أي، كقوله تعالى‏{‏وانطلق الملأ منهم أن امشوا‏}‏ص‏:‏ 6‏]‏ أي امشوا‏.‏

قوله تعالى‏{‏وذكرهم بأيام الله‏}‏ أي قل لهم قولا يتذكرون به أيام الله تعالى‏.‏ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة‏:‏ بنعم الله عليهم؛ وقاله أبي بن كعب ورواه مرفوعا؛ أي بما أنعم الله عليهم من النجاة من فرعون ومن التيه إلى سائر النعم، وقد تسمى النعم الأيام؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم‏:‏

وأيام لنا غر طوال

وعن ابن عباس أيضا ومقاتل‏:‏ بوقائع الله في الأمم السالفة؛ يقال‏:‏ فلان عالم بأيام العرب، أي بوقائعها‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ يعني الأيام التي انتقم فيها من الأمم الخالية؛ وكذلك روى ابن وهب عن مالك قال‏:‏ بلاؤه‏.‏ وقال الطبري‏:‏ وعظهم بما سلف في الأيام الماضية لهم، أي بما كان في أيام الله من النعمة والمحنة؛ وقد كانوا عبيدا مستذلين؛ واكتفى بذكر الأيام عنه لأنها كانت معلومة عندهم‏.‏ وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏بينا موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله وأيام الله بلاؤه ونعماؤه‏)‏ وذكر حديث الخضر؛ ودل هذا على جواز الوعظ المرفق للقلوب، المقوي لليقين‏.‏ الخالي من كل بدعة، والمنزه عن كل ضلالة وشبهة‏.‏ ‏}‏إن في ذلك‏}‏ أي في التذكير بأيام الله ‏}‏لآيات‏}‏ أي دلالات‏.‏ ‏}‏لكل صبار‏}‏ أي كثير الصبر على طاعة الله، وعن معاصيه‏.‏ ‏}‏شكور‏}‏ لنعم الله‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو العبد؛ إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر‏.‏ وروى عن النبي أنه قال‏:‏ ‏(‏الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر - ثم تلا هذه الآية - ‏}‏إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور‏}‏‏.‏‏)‏ ونحوه عن الشعبي موقوفا‏.‏ وتواري الحسن البصري عن الحجاج سبع سنين، فلما بلغه موته قال‏:‏ اللهم قد أمته فأمت سنته، وسجد شكرا، وقرأ‏{‏إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور‏}‏‏.‏ وإنما خص بالآيات كل صبار شكور؛ لأنه يعتبر بها ولا يغفل عنها؛ كما قال‏{‏إنما أنت منذر من يخشاها‏}‏النازعات‏:‏ 45‏]‏ وإن كان منذرا للجميع‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 6 ‏)‏

‏{‏وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم‏}‏

تقدم معناه في ‏}‏البقرة‏}‏ مستوفى والحمد لله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 7 ‏)‏

‏{‏وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ تأذن ربكم‏}‏ قيل‏:‏ هو من قول موسى لقومه‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول الله؛ أي واذكر يا محمد إذ قال ربك كذا‏.‏ و‏}‏تأذن‏}‏ وأذن بمعنى أعلم؛ مثل أوعد وتوعد؛ روي معنى ذلك عن الحسن وغيره‏.‏ ومنه الأذان، لأنه إعلام؛ قال الشاعر‏:‏

فلم نشعر بضوء الصبح حتى سمعنا في مجالسنا الأذينا

وكان ابن مسعود يقرأ‏{‏وإذ قال ربكم‏}‏ والمعنى واحد‏.‏ ‏}‏لئن شكرتم لأزيدنكم‏}‏ أي لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي‏.‏ الحسن‏:‏ لئن شكرتم نعمتي لأزيدنكم من طاعتي‏.‏ ابن عباس‏:‏ لئن وحدتم وأطعتم لأزيدنكم من الثواب، والمعنى متقارب في هذه الأقوال؛ والآية نص في أن الشكر سبب المزيد؛ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ ما للعلماء في معنى الشكر‏.‏ وسئل بعض الصلحاء عن الشكر لله فقال‏:‏ ألا تتقوى بنعمه على معاصيه‏.‏ وحكي عن داود عليه السلام أنه قال‏:‏ أي رب كيف أشكرك، وشكري لك نعمة مجددة منك علي‏.‏ قال‏:‏ يا داود الآن شكرتني‏.‏ قلت‏:‏ فحقيقة الشكر على هذا الاعتراف بالنعمة للمنعم‏.‏ وألا يصرفها في غير طاعته؛ وأنشد الهادي وهو يأكل‏:‏

أنالك رزقه لتقوم فيه بطاعته وتشكر بعض حقه

فلم تشكر لنعمته ولكن قويت على معاصيه برزقه

فغص باللقمة، وخنقته العبرة‏.‏ وقال جعفر الصادق‏:‏ إذا سمعت النعمة الشكر فتأهب للمزيد‏.‏ ‏}‏ولئن كفرتم إن عذابي لشديد‏}‏ أي جحدتم حقي‏.‏ وقيل‏:‏ نعمي؛ وعد بالعذاب على الكفر، كما وعد بالزيادة على الشكر، وحذفت الفاء التي في جواب الشرط من ‏}‏إن‏}‏ للشهرة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 8 ‏)‏

‏{‏وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد‏}‏ أي لا يلحقه بذلك نقص، بل هو الغني‏.‏ ‏(‏الحميد‏)‏ أي المحمود‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 9 ‏)‏

‏{‏ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود‏}‏ النبأ الخبر، والجمع الأنباء؛ قال‏:‏

ألم يأتيك والأنباء تنمي

ثم قيل‏:‏ هو من قول موسى‏.‏ وقيل‏:‏ من قول الله؛ أي واذكر يا محمد إذ قال ربك كذا‏.‏ وقيل‏:‏ هو ابتداء خطاب من الله تعالى‏.‏ وخبر قوم نوح وعاد وثمود مشهور قصه الله في كتابه‏.‏ وقوله‏{‏والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله‏}‏ أي لا يحصي عددهم إلا الله، ولا يعرف نسبهم إلا الله، والنسابون وإن نسبوا إلى آدم فلا يدعون إحصاء جميع الأمم، وإنما ينسبون البعض؛ ويمسكون عن نسب البعض؛ وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع النسابين ينسبون إلى معد بن عدنان ثم زادوا فقال‏:‏ ‏(‏كذب النسابون إن الله يقول‏{‏لا يعلمهم إلا الله‏}‏‏)‏‏.‏ وقد روي عن عروة بن الزبير أنه قال‏:‏ ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان وإسماعيل‏.‏ وقال بن عباس‏:‏ بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون‏.‏ وكان ابن مسعود يقول حين يقرأ‏{‏لا يعلمهم إلا الله‏}‏‏.‏ كذب النسابون‏.‏ ‏}‏جاءتهم رسلهم بالبينات‏}‏ أي بالحجج والدلالات‏.‏ ‏}‏فردوا أيديهم في أفواههم‏}‏ أي جعل أولئك القوم أيدي أنفسهم في أفواههم ليعضوها غيظا مما جاء به الرسل؛ إذ كان فيه تسفيه أحلامهم، وشتم أصنامهم؛ قاله بن مسعود، ومثله قاله عبدالرحمن بن زيد؛ وقرأ‏{‏عضوا عليكم الأنامل من ‏‏الغيظ‏}‏آل عمران‏:‏ 119‏]‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ كانوا إذا قال لهم نبيهم أنا رسول الله إليكم أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم‏:‏ أن اسكت، تكذيبا له، وردا لقوله؛ وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى‏.‏ والضميران للكفار؛ والقول الأول أصحها إسنادا؛ قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله في قوله تعالى‏{‏فردوا أيديهم في أفواههم‏}‏ قال‏:‏ عضوا عليها غيظا؛ وقال الشاعر‏:‏

لو أن سلمى أبصرت تخددي ودقة في عظم ساقي ويدي

وبعد أهلي وجفاء عودي عضت من الوجد بأطراف اليد

وقد مضى هذا المعنى في ‏}‏آل عمران‏}‏ مجودا، والحمد لله‏.‏ وقال مجاهد وقتادة‏:‏ ردوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم؛ فالضمير الأول للرسل، والثاني للكفار‏.‏ وقال الحسن وغيره‏:‏ جعلوا أيديهم في أفواه الرسل ردا لقولهم؛ فالضمير الأول على هذا للكفار، والثاني للرسل‏.‏ وقيل معناه‏:‏ أومأوا للرسل أن يسكتوا‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم‏.‏ وقيل‏:‏ رد الرسل أيدي القوم في أفواههم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الأيدي هنا النعم؛ أي ردوا نعم الرسل بأفواههم، أي بالنطق والتكذيب، ومجيء الرسل بالشرائع نعم؛ والمعنى‏:‏ كذبوا بأفواههم ما جاءت به الرسل‏.‏ و‏}‏في‏}‏ بمعنى الباء؛ يقال‏:‏ جلست في البيت وبالبيت؛ وحروف الصفات يقام بعضها مقام بعض‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ هو ضرب مثل؛ أي لم يؤمنوا ولم يجيبوا؛ والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت‏:‏ قد رد يده في فيه‏.‏ وقاله الأخفش أيضا‏.‏ وقال القتبي‏:‏ لم نسمع أحدا من العرب يقول‏:‏ رد يده في فيه إذا ترك ما أمر به؛ وقاله المغني‏:‏ عضوا على الأيدي حنقا وغيظا؛ لقول الشاعر‏:‏

تردون في فيه غش الحسو د حتى يعض علي الأكفا

يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وكفيه‏.‏ وقال آخر‏:‏

قد أفني أنامل أزمة فأضحى يعض علي الوظيفا

وقالوا‏:‏ - يعني الأمم للرسل‏{‏وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به‏}‏ أي بالإرسال على زعمكم، لا أنهم أقروا أنهم أرسلوا‏.‏ ‏}‏وإنا لفي شك‏}‏ أي في ريب ومرية‏.‏ ‏}‏مما تدعوننا إليه‏}‏ من التوحيد‏.‏

قوله تعالى‏{‏مريب‏}‏ أي موجب للريبة؛ يقال‏:‏ أربته إذ فعلت أمرا من أوجب ريبة وشكا؛ أي نظن أنكم تطلبون الملك والدنيا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 10 ‏)‏

‏{‏قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالت رسلهم أفي الله شك‏}‏ استفهام معناه الإنكار؛ أي لا شك في الله؛ أي في توحيده؛ قال قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ في طاعته‏.‏ ويحتمل وجها ثالثا‏:‏ أفي قدرة الله شك‏؟‏ ‏!‏ لأنهم متفقون عليها ومختلفون فيما عداها؛ يدل عليه قوله‏{‏فاطر السماوات والأرض‏}‏ خالقها ومخترعها ومنشئها وموجدها بعد العدم؛ لينبه على قدرته فلا تجوز العبادة إلا له‏.‏ ‏}‏يدعوكم‏}‏ أي إلى طاعته بالرسل والكتب‏.‏ ‏}‏ليغفر لكم من ذنوبكم‏}‏ قال أبو عبيد‏{‏من‏}‏ زائدة‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ هي للتبعيض؛ ويجوز أن يذكر البعض والمراد منه الجميع‏.‏ وقيل‏{‏من‏}‏ للبدل وليست بزائدة ولا مبعضة؛ أي لتكون المغفرة بدلا من الذنوب‏.‏ ‏}‏ويؤخركم إلى أجل مسمى‏}‏ يعني الموت، فلا يعذبكم في لدنيا‏.‏ ‏}‏قالوا إن أنتم‏}‏ أي ما أنتم‏.‏ ‏}‏إلا بشر مثلنا‏}‏ في الهيئة والصورة؛ تأكلون مما نأكل، وتشربون مما نشرب، ولستم ملائكة‏.‏ ‏}‏تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا‏}‏ من الأصنام والأوثان ‏}‏فأتونا بسلطان مبين‏}‏ أي بحجة ظاهرة؛ وكان محالا منهم؛ فإن الرسل ما دعوا إلا ومعهم المعجزات‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 11 ‏)‏

‏{‏قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم‏}‏ أي في الصورة والهيئة كما قلتم‏.‏ ‏}‏ولكن الله يمن على من يشاء من عباده‏}‏ أي يتفضل عليه بالنبوة‏.‏ وقيل؛ بالتوفيق، والحكمة والمعرفة والهداية‏.‏ وقال سهل بن عبدالله‏:‏ بتلاوة القرآن وفهم ما فيه‏.‏

قلت‏:‏ وهذا قول حسن، وقد خرج الطبري من حديث ابن عمر قال قلت لأبي ذر‏:‏ يا عم أوصني؛ قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال‏:‏ ‏(‏ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا ولله فيه صدقة يمن بها على من يشاء من عباده وما من الله تعالى على عباده بمثل أن يلهمهم ذكره‏)‏‏.‏ ‏}‏وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان‏}‏ أي بحجة وآية‏.‏ ‏}‏إلا بإذن الله‏}‏ أي بمشيئته، وليس ذلك في قدرتنا؛ أي لا نستطيع أن نأتي بحجة كما تطلبون إلا بأمره وقدرته؛ فلفظه؛ لفظ الخبر، ومعناه النفي، لأنه لا يحظر على أحد ما لا يقدر عليه‏.‏ ‏}‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏ تقدم معناه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 12 ‏)‏

‏{‏وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما لنا ألا نتوكل على الله‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ استفهام في موضع رفع بالابتداء، و‏}‏لنا‏}‏ الخبر؛ وما بعدها في موضع الحال؛ التقدير‏:‏ أي شيء لنا في ترك التوكل على الله‏.‏ ‏}‏وقد هدانا سبلنا‏}‏ أي الطريق الذي يوصل إلى رحمته، وينجي من سخطه ونقمته‏.‏ ‏}‏ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون‏}‏ ‏}‏ولنصبرنَّ‏}‏ لام قسم؛ مجازه‏:‏ والله لنصبرن ‏}‏على ما آذيتمونا‏}‏ به، أي من الإهانة والضرب، والتكذيب والقتل، ثقة بالله أنه يكفينا ويثيبنا‏.‏ ‏}‏وعلى الله فليتوكل المتوكلون‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 13 ‏:‏ 14 ‏)‏

‏{‏وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا‏}‏ اللام لام قسم؛ أي والله لنخرجنكم‏.‏ ‏}‏أو لتعودن‏}‏ أي حتى تعودوا أو إلا أن تعودوا؛ قاله الطبري وغيره‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهو غير مفتقر إلى هذا التقدير؛ فإن ‏}‏أو‏}‏ على بابها من التخيير؛ خير الكفار الرسل بين أن يعودوا في ملتهم أو يخرجوهم من أرضهم؛ وهذه سيرة الله تعالى في رسله وعباده؛ ألا ترى إلى قوله‏{‏وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا‏.‏ سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا‏}‏الإسراء‏:‏ 76 - 77‏]‏ وقد تقدم هذا المعنى في ‏}‏الأعراف‏}‏ وغيرها‏.‏ ‏}‏في ملتنا‏}‏ أي إلى ديننا، ‏}‏فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد‏}‏ أي مقامه بين يدي يوم القيامة؛ فأضيف المصدر إلى الفاعل‏.‏ والمقام مصدر كالقيام؛ يقال‏:‏ قام قياما ومقاما؛ وأضاف ذلك إليه لاختصاصه به‏.‏ والمقام بفتح الميم مكان الإمامة، وبالضم فعل الإقامة؛ و‏}‏ذلك لمن خاف مقامي‏}‏ أي قيامي عليه، ومراقبتي له؛ قال الله تعالى‏{‏أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت‏}‏‏.‏ ‏[‏الرعد 33‏]‏ وقال الأخفش‏{‏ذلك لمن خاف مقامي‏}‏ أي عذابي، ‏}‏وخاف وعيد‏}‏ أي القرآن وزواجره‏.‏ وقيل‏:‏ إنه العذاب‏.‏ والوعيد الاسم من الوعد‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 15 ‏)‏

‏{‏واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏واستفتحوا‏}‏ أي واستنصروا؛ أي أذن للرسل في الاستفتاح على قومهم، والدعاء بهلاكهم؛ قاله ابن عباس وغيره، وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ ومنه الحديث‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي يستنصر‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ استفتحت الأمم بالدعاء كما قالت قريش‏{‏اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك‏}‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ الآية‏.‏ وروي عن ابن عباس‏.‏ وقيل قال الرسول‏:‏ ‏(‏إنهم كذبوني فافتح بيني وبينهم فتحا‏)‏ وقالت الأمم‏:‏ إن كان هؤلاء صادقين فعذبنا، عن ابن عباس أيضا؛ نظيره ‏}‏ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين‏}‏العنكبوت‏:‏ 29‏]‏ ‏}‏ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين‏}‏الأعراف‏:‏ 77‏]‏‏.‏ ‏}‏وخاب كل جبار عنيد‏}‏ الجبار المتكبر الذي لا يري لأحد عليه حقا؛ هكذا هو عند أهل اللغة؛ ذكره النحاس‏.‏ والعنيد المعاند للحق والمجانب له، عن ابن عباس وغيره؛ يقال‏:‏ عند عن قومه أي تباعد عنهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو من العند، وهو الناحية وعاند فلان أي أخذ في ناحية معرضا؛ قال الشاعر‏:‏

إذا نزلت فاجعلوني وسطا إني كبير لا أطيق العندا

وقال الهروي‏:‏ قوله تعالى‏{‏جبار عنيد‏}‏ أي جائر عن القصد؛ وهو العنود والعنيد والعاند؛ وفي حديث ابن عباس وسئل عن المستحاضة فقال‏:‏ إنه عرق عاند‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ هو الذي عند وبغى كالإنسان يعاند؛ فهذا العرق في كثرة ما يخرج منه بمنزلته‏.‏ وقال شمر‏:‏ العاند الذي لا يرقأ‏.‏ وقال عمر يذكر سيرته‏:‏ أضم العنود؛ قال الليث‏:‏ العنود من الإبل الذي لا يخالطها إنما هو في ناحية أبدا؛ أراد من هم بالخلاف أو بمفارقة الجماعة عطفت به إليها‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ العنيد المتكبر‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ هو الشامخ بأنفه‏.‏ وقيل‏:‏ العنود والعنيد الذي يتكبر على الرسل وبذهب عن طريق الحق فلا يسلكها؛ تقول العرب‏:‏ شر الإبل العنود الذي يخرج عن الطريق‏.‏ وقيل‏:‏ العنيد العاصي‏.‏ وقال قتادة‏:‏ العنيد الذي أبي أن يقول لا إله إلا الله‏.‏

قلت‏:‏ والجبار والعنيد في الآية بمعنى واحد، وإن كان اللفظ مختلفا، وكل متباعد عن الحق جبار وعنيد أي متكبر‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد به في الآية أبو جهل؛ ذكره المهدوي‏.‏ وحكى الماوردي في كتاب ‏}‏أدب الدنيا والدين‏}‏ أن الوليد بن يزيد بن عبدالملك تفاءل يوما في المصحف فخرج له قوله عز وجل‏{‏واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد‏}‏ فمزق المصحف وأنشأ يقول‏:‏

أتوعد كل جبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد

فلم يلبث إلا أياما حتى قتل شر قتلة، وصلب رأسه على قصره، ثم على سور بلده‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 16 ‏)‏

‏{‏من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد‏}‏

قوله تعالى‏{‏من ورائه جهنم‏}‏ أي من وراء ذلك الكافر جهنم، أي من بعد هلاكه‏.‏ ووراء بمعنى بعد؛ قال النابغة‏:‏

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب

أي بعد الله جل جلاله؛ وكذلك قوله تعالى‏{‏ومن ورائه عذاب غليظ‏}‏ أي من بعده؛ وقوله تعالى‏{‏ويكفرون بما وراءه‏}‏البقرة‏:‏ 91‏]‏ أي بما سواه؛ قاله الفراء‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ بما بعده‏:‏ وقيل‏{‏من ورائه‏}‏ أي من أمامه، ومنه قول الشاعر‏:‏

ومن ورائك يوم أنت بالغه لا حاضر معجز عنه ولا بادي

وقال آخر‏:‏

أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا

وقال لبيد‏:‏

ليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحني عليها الأصابع

يريد أمامي‏.‏ وفي التنزيل‏{‏كان وراءهم ملك‏}‏الكهف‏:‏ 79‏]‏ أي أمامهم، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة وأبو علي قطرب وغيرهما‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ هو كما يقال هذا الأمر من ورائك، أي سوف يأتيك، وأنا من وراء فإن أي في طلبه وسأصل إليه‏.‏ وقال النحاس في قول ‏}‏من ورائه جهنم‏}‏ أي من أمامه، وليس من الأضداد ولكنه من تواري؛ أي استتر‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ إن وراء تكون بمعنى خلف وأمام فهو من الأضداد، وقاله أبو عبيدة أيضا، واشتقاقهما مما توارى واستتر، فجهنم توارى ولا تظهر، فصارت من وراء لأنها لا ترى، حكاه ابن الأنباري وهو حسن‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويسقى من ماء صديد‏}‏ أي من ماء مثل الصديد، كما يقال للرجل الشجاع أسد، أي مثل الأسد، وهو تمثيل وتشبيه‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما يسيل من أجسام أهل النار من القيح والدم‏.‏ وقال محمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس‏:‏ هو غسالة أهل النار، وذلك ماء يسيل من فروج الزناة والزواني‏.‏ وقيل‏:‏ هو من ماء كرهته تصد عنه، فيكون الصديد مأخوذا من الصد‏.‏ وذكر ابن المبارك، أخبرنا صفوان بن عمرو عن عبيدالله بن بسر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏{‏ويسقي من ماء صديد يتجرعه‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره يقول الله‏{‏وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم‏}‏محمد‏:‏ 15‏]‏ ويقول الله‏{‏وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب‏}‏‏)‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏)‏ خرجه الترمذي، وقال‏:‏ حديث غريب، وعبيدالله بن بسر الذي روى عنه صفوان بن عمرو حديث أبي أمامة لعله أن يكون أخا عبدالله بن بسر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 17 ‏)‏

‏{‏يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ‏}‏

قوله تعالى‏{‏يتجرعه‏}‏ أي يتحساه جرعا لا مرة واحدة لمرارته وحرارته‏.‏ ‏}‏ولا يكاد يسيغه‏}‏ أي يبتلعه؛ يقال‏:‏ جرع الماء واجترعه وتجرعه بمعنى‏.‏ وساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغا إذا كان سلسا سهلا، وأساغه الله إساغة‏.‏ و‏}‏يكاد‏}‏ صلة؛ أي يسيغه بعد إبطاء، قال الله تعالى‏{‏وما كادوا يفعلون‏}‏البقرة‏:‏ 71‏]‏ أي فعلوا بعد إبطاء، ولهذا قال‏{‏يصهر به ما في بطونهم والجلود‏}‏الحج‏:‏ 20‏]‏ فهذا يدل على الإساغة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يجيزه ولا يمر به‏.‏ ‏}‏ويأتيه الموت من كل مكان‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي يأتيه أسباب الموت من كل جهة عن يمينه وشماله، ومن فوقه وتحته ومن قدامه وخلفه، كقول‏{‏لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل‏}‏الزمر‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقال إبراهيم التيمي‏:‏ يأتيه من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره؛ للآلام التي في كل مكان من جسد‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إنه ليأتيه الموت من كل ناحية ومكان حتى من إبهام رجليه‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سماها موتا، وهي من أعظم الموت‏.‏ وقيل‏:‏ إنه لا يبقى عضو من أعضائه إلا وكل به نوع من العذاب؛ لو مات سبعين مرة لكان أهون عليه من نوع منها في فرد لحظة؛ إما حية تنهشه؛ أو عقرب تلسعه، أو نار تسفعه، أو قيد برجليه، أو غل في عنقه، أو سلسلة يقرن بها، أو تابوت يكون فيه، أو زقوم أو حميم، أو غير ذلك من العذاب، وقال محمد بن كعب‏:‏ إذا دعا الكافر في جهنم بالشراب فرآه مات موتات، فإذا دنا منه مات موتات، فإذا شرب منه مات موتات؛ فذلك قوله‏{‏ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت‏}‏‏.‏ قال الضحاك‏:‏ لا يموت فيستريح‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ تعلق روحه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة؛ ونظيره قوله‏{‏لا يموت فيها ولا يحيا‏}‏طه‏:‏ 74‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ يخلق الله في جسده آلا ما كل واحد منها كألم الموت‏.‏ وقيل‏:‏

قوله تعالى‏{‏وما هو بميت‏}‏ لتطاول شدائد الموت به، وامتداد سكراته عليه؛ ليكون ذلك زيادة في عذابه‏.‏

قلت‏:‏ ويظهر من هذا أنه يموت، وليس كذلك؛ لقوله تعالى‏{‏لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها‏}‏فاطر‏:‏ 36‏]‏ وبذلك وردت السنة؛ فأحوال الكفار أحوال من استولى عليه سكرات الموت دائما، والله أعلم‏.‏ ‏}‏ومن ورائه‏}‏ أي من أمامه‏.‏ ‏}‏عذاب غليظ‏}‏ أي شديد متواصل الآلام غير فتور؛ ومنه قوله‏{‏وليجدوا فيكم غلظة‏}‏التوبة‏:‏ 123‏]‏ أي شدة وقوة‏.‏ وقال فضيل بن عياض في قول الله تعالى‏{‏ومن ورائه عذاب غليظ‏}‏ قال‏:‏ حبس الأنفاس‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 18 ‏)‏

‏{‏مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد‏}‏ اختلف النحويون في رفع ‏}‏مثل‏}‏ فقال سيبويه‏:‏ ارتفع بالابتداء والخبر مضمر؛ التقدير‏:‏ وفيما يتلى عليكم أو يقص ‏}‏مثل الذين كفروا بربهم‏}‏ ثم ابتدأ فقال‏{‏أعمالهم كرماد‏}‏ أي كمثل رماد ‏}‏اشتدت به الريح‏}‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أي مثل الذين كفروا فيما يتلى عليكم أعمالهم كرماد، وهو عند الفراء على إلغاء المثل، التقدير‏:‏ والذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد‏.‏ وعنه أيضا أنه على حذف مضاف؛ التقدير‏:‏ مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد؛ وذكر الأول عنه المهدوي، والثاني القشيري والثعلبي ويجوز أن يكون مبتدأ كما يقال‏:‏ صفة فلان أسمر؛ فـ‏}‏مثل‏}‏ بمعنى صفة‏.‏ ويجوز في الكلام جر ‏}‏أعمالهم‏}‏ على بدل الاشتمال من ‏}‏الذين‏}‏ واتصل هذا بقوله‏{‏وخاب جبار عنيد‏}‏ والمعنى‏:‏ أعمالهم محبطة غير مقبولة‏.‏ والرماد ما بقي بعد احتراق الشيء؛ فضرب الله هذه الآية مثلا لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف‏.‏ والعصف شدة الريح؛ وإنما كان ذلك لأنهم أشركوا فيها غير الله تعالى‏.‏ وفي وصف اليوم بالعصوف ثلاثة أقاويل‏:‏ أحدها‏:‏ أن العصوف وإن كان للريح فإن اليوم قد يوصف به؛ لأن الريح تكون فيه، فجاز أن يقال‏:‏ يوم عاصف، كما يقال‏:‏ يوم حار ويوم بارد، والبرد والحر فيهما‏.‏ والثاني‏:‏ أن يريد ‏}‏في يوم عاصف‏}‏ الريح؛ لأنها ذكرت في أول الكلمة، كما قال الشاعر‏:‏

إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف

يريد كاسف الشمس فحذف؛ لأنه قد مر ذكره؛ ذكرهما الهروي‏.‏ والثالث‏:‏ أنه من نعت الريح؛ غير أنه لما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه كما قيل‏:‏ جحر ضب خرب؛ ذكره الثعلبي والماوردي‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن أبي بكر ‏}‏في يوم عاصف‏}‏‏.‏ ‏}‏لا يقدرون‏}‏ يعني الكفار‏.‏ ‏}‏مما كسبوا على شيء‏}‏ يريد في الآخرة؛ أي من ثواب ما عملوا من البر في الدنيا، لإحباطه بالكفر‏.‏ ‏}‏ذلك هو الضلال البعيد‏}‏ أي الخسران الكبير؛ وإنما جعله كبيرا بعيدا لفوات استدراكه بالموت‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 19 ‏)‏

‏{‏ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق‏}‏ الرؤية هنا رؤية القلب؛ لأن المعنى‏:‏ ألم ينته علمك إليه؛‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي - ‏}‏خالق السماوات والأرض‏}‏‏.‏ ومعنى ‏}‏بالحق‏}‏ ليستدل بها على قدرته‏.‏ ‏}‏إن يشأ يذهبكم‏}‏ أيها الناس؛ أي هو قادر على الإفناء كما قدر على إيجاد الأشياء؛ فلا تعصوه فإنكم إن عصيتموه ‏}‏يذهبكم ويأت بخلق جديد‏}‏ أفضل وأطوع منكم؛ إذ لو كانوا مثل الأولين فلا فائدة في الإبدال‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 20 ‏)‏

‏{‏وما ذلك على الله بعزيز‏}‏

أي منيع متعذر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 21 ‏)‏

‏{‏وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص‏}‏

قوله تعالى‏{‏وبرزوا لله جميعا‏}‏ أي برزوا من قبورهم، يعني يوم القيامة‏.‏ والبروز الظهور‏.‏ والبراز المكان الواسع لظهوره؛ ومنه امرأة برزة أي تظهر للناس؛ فمعنى، ‏}‏برزوا‏}‏ ظهروا من قبورهم‏.‏ وجاء بلفظ؛ الماضي ومعناه الاستقبال، وأتصل هذا بقوله‏{‏وخاب كل جبار عنيد‏}‏ أي وقاربوا لما استفتحوا فأهلكوا، ثم بعثوا للحساب فبرزوا لله جميعا لا يسترهم عنه ساتر‏.‏ ‏}‏لله‏}‏ لأجل أمر الله إياهم بالبروز‏.‏ ‏}‏فقال الضعفاء‏}‏ يعني الأتباع ‏}‏للذين استكبروا‏}‏ وهم القادة‏.‏ ‏}‏إنا كنا لكم تبعا‏}‏ يجوز أن يكون تبع مصدرا؛ التقدير‏:‏ ذوي تبع‏.‏ ويجوز أن يكون تابع؛ مثل حارس وحرس، وخادم وخدم، وراصد ورصد، وباقر وبقر‏.‏ ‏}‏فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء‏}‏ أي دافعون ‏}‏عنا من عذاب الله من شيء‏}‏ أي شيئا، و‏}‏من‏}‏ صلة؛ يقال‏:‏ أغنى عنه إذا دفع عنه الأذى، وأغناه إذا أوصل إليه النفع‏.‏ ‏}‏قالوا لو هدانا الله لهديناكم‏}‏ أي لو هدانا الله إلى الإيمان لهديناكم إليه‏.‏ وقيل‏:‏ لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها‏.‏ وقيل؛ لو نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه‏.‏ ‏}‏سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص‏}‏ ‏}‏سواء علينا‏}‏ هذا ابتداء خبره ‏}‏أجزعنا‏}‏ أي‏{‏سواء علينا ‏}‏أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص‏}‏ أي من مهرب وملجأ‏.‏ ويجوز أن يكون بمعنى المصدر، وبمعنى الاسم؛ يقال‏:‏ حاص فلان عن كذا أي فر وزاغ يحيص حيصا وحيوصا وحيصانا؛ والمعنى‏:‏ ما لنا وجه نتباعد به عن النار‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يقول أهل النار إذا اشتد بهم العذاب تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا هلم فلنجزع فيجزعون ويصيحون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا ‏}‏سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص‏}‏‏)‏‏.‏ وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ ذكر لما أن أهل النار يقول بعضهم لبعض‏:‏ يا هؤلاء‏!‏ قد نزل بكم من البلاء والعذاب ما قد ترون، فهلم فلنصبر؛ فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا؛ فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا؛ فطال صبرهم فجزعوا، فنادوا‏{‏سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص‏}‏ أي منجي، فقام إبليس عند ذلك فقال‏{‏إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم‏}‏ يقول‏:‏ لست بمغن عنكم شيئا ‏}‏وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل‏}‏ الحديث بطوله، وقد كتبناه في كتاب ‏{‏التذكرة‏}‏ بكماله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 22 ‏)‏

‏{‏وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقال الشيطان لما قضي الأمر‏}‏ قال الحسن‏:‏ يقف إبليس يوم القيامة خطيبا في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعا‏.‏ ومعنى‏{‏لما قضي الأمر‏}‏ أي حصل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، على ما يأتي بيانه في ‏}‏مريم‏}‏ عليها السلام‏.‏ ‏}‏إن الله وعدكم وعد الحق‏}‏ يعني البعث والجنة والنار وثواب المطيع وعقاب العاصي فصدقكم وعده، ووعدتكم أن لا بعث ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فأخلفتكم‏.‏ وروي ابن المبارك من حديث عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال‏:‏ ‏(‏فيقول عيسى أدلكم على النبي الأمي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي من أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكافرون قد وجه المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فاشفع لنا فإنك أضللتنا فيثور مجلسه من أنتن ريح شمها أحد ثم يعظم نحيبهم ويقول عند ذلك‏{‏إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم‏}‏ الآية‏)‏‏.‏ ‏}‏وعد الحق‏}‏ هو إضافة الشيء إلى نعته كقولهم‏:‏ مسجد الجامع؛ قال الفراء قال البصريون‏:‏ وعدكم وعد اليوم الحق أو وعدكم وعد الوعد الحق فصدقكم؛ فحذف المصدر لدلالة الحال‏.‏ ‏}‏وما كان لي عليكم من سلطان‏}‏ أي من حجة وبيان؛ أي ما أظهرت لكم حجة على ما وعدتكم وزينته لكم في الدنيا، ‏}‏إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي‏}‏ أي أغويتكم فتابعتموني‏.‏ وقيل‏:‏ لم أقهركم على ما دعوتكم إليه‏.‏ ‏}‏إلا أن دعوتكم‏}‏ هو استثناء منقطع؛ أي لكن دعوتكم بالوسواس فاستجبتم لي باختياركم، ‏}‏فلا تلوموني ولوموا أنفسكم‏}‏ وقيل‏{‏وما كان لي عليكم من سلطان‏}‏ أي على قلوبكم وموضع إيمانكم لكن دعوتكم فاستجبتم لي؛ وهذا على أنه خطب العاصي المؤمن والكافر الجاحد؛ وفيه نظر؛ لقوله‏{‏لما قضي الأمر‏}‏ فإنه يدل على أنه خطب الكفار دون العاصين الموحدين؛ والله أعلم‏.‏ ‏}‏فلا تلوموني ولوموا أنفسكم‏}‏ إذا جئتموني من غير حجة‏.‏ ‏}‏ما أنا بمصرخكم‏}‏ أي بمغيثكم‏.‏ ‏}‏وما أنتم بمصرخي‏}‏ أي بمغيثي‏.‏ والصارخ والمستصرخ هو الذي يطلب النصرة والمعاونة، والمصرخ هو المغيث‏.‏ قال سلامة بن جندل‏.‏

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع وكان الصراخ له قرع الظنابيب

وقال أمية بن أبي الصلت‏:‏

ولا تجزعوا إني لكم غير مصرخ وليس لكم عندي غناء ولا نصر

يقال‏:‏ صرخ فلان أي استغاث يصرخ صرخا وصراخا وصرخة‏.‏ واصطرخ بمعنى صرخ‏.‏ والتصرخ تكلف الصراخ‏.‏ والمصرخ المغيث، والمستصرخ المستغيث؛ تقول منه‏:‏ استصرخني فأصرخته‏.‏ والصريخ صوت المستصرخ‏.‏ والصريخ أيضا الصارخ، وهو المغيث والمستغيث، وهو من الأضداد؛ قاله الجوهري‏.‏ وقراءة العامة ‏}‏بمصرخي‏}‏ بفتح الياء‏.‏ وقرأ الأعمش وحمزة ‏}‏بمصرخي‏}‏ بكسر الياء‏.‏ والأصل فيها بمصرخيين فذهبت النون للإضافة، وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة، فمن نصب فلأجل التضعيف، ولأن ياء الإضافة إذا سكن ما قبلها تعين فيها الفتح مثل‏:‏ هواي وعصاي، فإن تحرك ما قبلها جاز الفتح والإسكان، مثل‏:‏ غلامي وغلامتي، ومن كسر فلالتقاء الساكنين حركت إلى الكسر، لأن الياء أخت الكسرة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ قراءة حمزة وهم منه، وقل من سلم منهم عن خطأ‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هذه قراءة رديئة ولا وجه لها إلا وجه ضعيف‏.‏ وقال قطرب‏:‏ هذه لغة بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء‏.‏ القشيري‏:‏ والذي يغني عن هذا أن ما يثبت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يقال فيه هو خطأ أو قبيح أو رديء، بل هو في القرآن فصيح، وفيه ما هو أفصح منه، فلعل هؤلاء أرادوا أن غير هذا الذي قرأ به حمزة أفصح‏.‏ ‏}‏إني كفرت بما أشركتموني من قبل‏{‏ أي كفرت بإشراككم إياي مع الله تعالى في الطاعة؛ فـ ‏}‏ما‏}‏ بمعنى المصدر‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ إني كفرت اليوم بما كنتم تدعونه في الدنيا من الشرك بالله تعالى‏.‏ قتادة‏:‏ إني عصيت الله‏.‏ الثوري‏:‏ كفرت بطاعتكم إياي في الدنيا‏.‏ ‏}‏إن الظالمين لهم عذاب أليم‏}‏‏.‏ وفي هذه الآيات رد على القدرية والمعتزلة والإمامية ومن كان على طريقهم؛ انظر إلى قول المتبوعين‏{‏لو هدانا الله لهديناكم‏}‏ وقول إبليس‏{‏إن الله وعدكم وعد الحق‏}‏ كيف اعترفوا بالحق في صفات الله تعالى وهم في دركات النار؛ كما قال في موضع آخر‏{‏كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها‏}‏الملك‏:‏ 8‏]‏ إلى قوله‏{‏فاعترفوا بذنبهم‏}‏الملك‏:‏ 11‏]‏ واعترافهم في دركات لظى بالحق ليس بنافع، وإنما ينفع الاعتراف صاحبه في الدنيا؛ قال الله عز وجل‏{‏وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم‏}‏التوبة‏:‏ 102‏]‏ و‏}‏عسى‏}‏ من الله واجبة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 23 ‏)‏

‏{‏وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات‏}‏ أي في جنات لأن دخلت لا يتعدى؛ كما لا يتعدى نقيضه وهو خرجت، ولا يقاس عليه؛ قاله المهدوي‏.‏ ولما أخبر تعالى بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة أيضا‏.‏ وقراءة الجماعة ‏}‏أدخل‏}‏ على أنه فعل مبني للمفعول‏.‏ وقرأ الحسن ‏}‏وأدخل‏}‏ على الاستقبال والاستئناف‏.‏ ‏}‏بإذن ربهم‏}‏ أي بأمره‏.‏ وقيل‏:‏ بمشيئته وتيسيره‏.‏ وقال‏{‏بإذن ربهم‏}‏ ولم يقل‏:‏ بإذني تعظيما وتفخيما‏.‏ ‏}‏تحيتهم فيها سلام‏}‏ تقدم في ‏}‏يونس‏}‏‏.‏ والحمد لله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 24 ‏:‏ 25 ‏)‏

‏{‏ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم تر كيف ضرب الله مثلا‏}‏ لما ذكر تعالى مثل أعمال الكفار وأنها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، ذكر مثل أقوال المؤمنين وغيرها، ثم فسر ذلك المثل فقال‏{‏كلمة طيبة‏}‏ التمر، فحذف لدلالة الكلام عليه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ الكلمة الطيبة لا إله إلا الله والشجرة الطيبة المؤمن‏.‏ وقال مجاهد وابن جريج‏:‏ الكلمة الطيبة الإيمان‏.‏ عطية العوفي والربيع بن أنس‏:‏ هي المؤمن نفسه‏.‏ وقال مجاهد أيضا وعكرمة‏:‏ الشجرة النخلة؛ فيجز أن يكون المعنى‏:‏ أصل الكلمة في قلب المؤمن - وهو الإيمان - شبهه بالنخلة في المنبت، وشبه ارتفاع عمله في السماء بارتفاع فروع النخلة، وثواب الله له بالثمر‏.‏ وروي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة الإيمان عروقها والصلاة أصلها والزكاة فروعها والصيام أغصانها والتأذي في الله نباتها وحسن الخلق ورقها والكف عن محارم الله ثمرتها‏)‏‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ أصل النخلة ثابت في الأرض؛ أي عروقها تشرب من الأرض وتسقيها السماء من فوقها، فهي زاكية نامية‏.‏ وخرج الترمذي من حديث أنس بن مالك قال‏:‏ أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع فيه رطب، فقال‏:‏ ‏(‏مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفروعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها - قال - هي النخلة ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار - قال - هي الحنظل‏)‏‏.‏ وروي عن أنس قوله وقال‏:‏ وهو أصح‏.‏ وخرج الدارقطني عن ابن عمر قال‏:‏‏(‏قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏}‏ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أتدرون ما هي‏)‏ فوقع في نفسي أنها النخلة‏.‏ قال السهيلي ولا يصح فيها ما روي عن علي بن أبي طالب أنها جوزة الهند؛ لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر ‏(‏إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المؤمن خبروني ما هي - ثم قال - هي النخلة‏)‏ خرجه مالك ‏}‏الموطأ‏}‏ من رواية ابن القاسم وغيره إلا يحيى فإنه أسقطه من روايته‏.‏ وخرجه أهل الصحيح وزاد فيه الحارث بن أسامة زيادة تساوي رحلة؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏وهى النخلة لا تسقط لها أنملة وكذلك المؤمن لا تسقط له دعوة‏)‏‏.‏ فبين معنى الحديث والمماثلة

قلت‏:‏ وذكر الغزنوي عنه عليه السلام‏:‏ ‏(‏مثل المؤمن كالنخلة إن صاحبته نفعك وإن جالسته نفعك وإن شاورته نفعك كالنخلة كل شيء منها ينتفع به‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏كلوا من عمتكم‏)‏ يعني النخلة خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام، وكذلك أنها برأسها تبقي، وبقلبها تحيا، وثمرها بامتزاج الذكر والأنثى‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنها لما كانت أشبه الأشجار بالإنسان شبهت به؛ وذلك أن كل شجرة إذا قطع رأسها تشعبت الغصون من جوانب، والنخلة إذا قطع رأسها يبست وذهبت أصلا؛ ولأنها تشبه الإنسان وسائر الحيوان في الالتقاح لأنها لا تحمل حتى تلقح قال النبي صلى الله عليه وسلم‏{‏خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة‏)‏‏.‏ والإبار اللقاح وسيأتي في سورة ‏}‏الحجر‏}‏ بيانه‏.‏ ولأنها من فضلة طينة آدم‏.‏ ويقال‏:‏ إن الله عز وجل لما صور آدم من الطين فضلت قطعة طين فصورها بيده وغرسها في جنة عدن‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أكرموا عمتكم‏)‏ قالوا‏:‏ ومن عمتنا يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏النخلة‏)‏‏.‏ ‏}‏تؤتي أكلها كل حين‏}‏ قال الربيع‏{‏كل حين‏}‏ غدوة وعشية كذلك يصعد عمل المؤمن أول النهار وآخره؛ وقاله ابن عباس‏.‏ وعنه ‏}‏تؤتي أكلها كل حين‏}‏ قال‏:‏ هو شجرة جوزة الهند لا تتعطل من ثمرة، تحمل في كل شهر، شبه عمل المؤمن لله عز وجل في كل وقت‏:‏ لنخلة التي تؤتي أكلها في أوقات مختلفة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ كل ساعة من ليل أو نهار شتاء وصيفا يوكل في جميع الأوقات، وكذلك المؤمن لا يخلو من الخير في الأوقات كلها‏.‏ وقال النحاس‏:‏ وهذه الأقوال متقاربة غير متناقضة، لأن الحين عند جميع أهل اللغة إلا من شذ منهم بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره، وأنشد الأصمعي بيت النابغة‏:‏

تناذرها الراقون من سوء سمها تطلقه حينا وحينا تراجع

فهذا يبين لك أن الحين بمعنى الوقت، فالإيمان ثابت في قلب المؤمن، وعمله وقوله وتسبيحه عال مرتفع في السماء ارتفاع فروع النخلة، وما يكسب من بركة الإيمان وثوابه كما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السنة كلها، من الرطب والبسر والبلح والزهو والتمر والطلع‏.‏ وفي رواية عن ابن عباس‏:‏ إن الشجرة شجرة في الجنة تثمر في كل وقت‏.‏ و‏(‏مثلا‏)‏ مفعول بـ‏}‏ضرب‏}‏، ‏}‏وكلمة‏}‏ بدل منه، والكاف في قوله‏:‏ ‏(‏كشجرة‏)‏ في موضع نصب على الحال من ‏}‏كلمة‏}‏ التقدير‏:‏ كلمة طيبة مشبهة بشجرة طيبة

قوله تعالى‏{‏تؤتي أكلها كل حين‏}‏ لما كانت الأشجار تؤتي أكلها كل سنة مرة كان في ذلك بيان حكم الحين؛ ولهذا قلنا‏:‏ من حلف ألا يكلم فلانا حينا، ولا يقول كذا حينا إن الحين سنة‏.‏ وقد ورد الحين في موضع آخر يراد به أكثر من ذلك لقوله تعالى‏{‏هل أتى على الإنسان حين من الدهر‏}‏الإنسان‏:‏ 1‏]‏ قيل في ‏}‏التفسير‏}‏‏:‏ أربعون عاما‏.‏ وحكى عكرمة أن رجلا قال‏:‏ إن فعلت كذا وكذا إلى حين فغلامه حر، فأتى عمر بن عبدالعزيز فسأل، فسألني عنها فقلت‏:‏ إن من الحين حينا لا يدرك، قوله‏{‏وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين‏}‏الأنبياء‏:‏ 111‏]‏ فأرى أن تمسك ما بين صرام النخلة إلى حملها، فكأنه أعجبه؛ وهو قول أبي حنيفة في الحين أنه ستة أشهر اتباعا لعكرمة وغيره‏.‏ وقد مضى ما للعلماء في الحين في ‏}‏البقرة‏}‏ مستوفى والحمد لله‏.‏ ‏}‏ويضرب الله الأمثال‏}‏ أي الأشباه ‏}‏للناس لعلهم يتذكرون‏}‏ ويعتبرون؛ وقد تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 26 ‏)‏

‏{‏ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار‏}‏

الكلمة الخبيثة كلمة الكفر‏.‏ وقيل‏:‏ الكافر نفسه‏.‏ والشجرة الخبيثة شجرة الحنظل كما في حديث أنس، وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وعن ابن عباس أيضا‏:‏ أنها شجرة لم تخلق على الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ هي شجرة الثوم؛ عن ابن عباس أيضا‏.‏ وقيل‏:‏ الكمأة أو الطحلبة‏.‏ وقيل‏:‏ الكشوث، وهي شجرة لا ورق لها ولا عروق في الأرض؛ قال الشاعر‏:‏

وهم كشوث فلا أصل ولا ورق

‏{‏اجتثت من فوق الأرض‏}‏ اقتلعت من أصلها؛ قال ابن عباس؛ ومنه قول لقيط‏:‏

والجلاء الذي تجتث أصلكم فمن رأى مثل ذا يوما ومن سمعا

وقال المؤرج‏:‏ أخذت جثتها وهي نفسها، والجثة شخص الإنسان قاعدا أو قائما‏.‏ وجثه قلعه، واجتثه اقتلعه من فوق الأرض؛ أي ليس لها أصل راسخ يشرب بعروقه من الأرض‏.‏ ‏}‏ما لها من قرار‏}‏ أي من أصل في الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ من ثبات؛ فكذلك الكافر لا حجة له ولا ثبات ولا خير فيه، وما يصعد له قول طيب ولا عمل صالح‏.‏ وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة في قوله تعالى‏{‏ضرب الله مثلا كلمة طيبة‏}‏ قال‏:‏ لا إله إلا الله ‏}‏كشجرة طيبة‏}‏ قال‏:‏ المؤمن، ‏}‏أصلها ثابت‏}‏ لا إله إلا الله ثابتة في قلب المؤمن؛ ‏}‏ومثل كلمة خبيثة‏}‏ قال‏:‏ الشرك، ‏}‏شجرة خبيثة‏}‏ قال‏:‏ المشرك؛ ‏}‏اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار‏}‏ أي ليس للمشرك أصل يعمل عليه‏.‏ وقيل‏:‏ يرجع المثل إلى الدعاء إلى الإيمان، والدعاء إلى الشرك؛ لأن الكلمة يفهم منها القول والدعاء إلى الشيء‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 27 ‏)‏

‏{‏يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء‏}‏

قوله تعالى‏{‏يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو لا إله إلا الله‏.‏ وروى النسائي عن البراء قال قال‏{‏يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ نزلت في عذاب القبر؛ يقال‏:‏ من ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ ربي الله وديني دين محمد، فذلك قوله‏{‏يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد جاء هكذا موقوفا في بعض طرق مسلم عن البراء أنه قول، والصحيح فيه الرفع كما في صحيح مسلم وكتاب النسائي وأبي داود وابن ماجة وغيرهم، عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذكر البخاري؛ حدثنا جعفر بن عمر، قال حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا أقعد المؤمن في قبره أتاه آت ثم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله ‏}‏يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏‏.‏ وقد بينا هذا الباب في كتاب ‏(‏التذكرة‏)‏ وبينا هناك من يفتن في قبره ويسأل، فمن أراد الوقوف عليه تأمله هناك‏.‏ وقال سهل بن عمار‏:‏ رأيت يزيد بن هارون في المنام بعد موته، فقلت له‏:‏ ما فعل الله بك‏؟‏ فقال‏:‏ أتاني في قبري ملكان فظان غليظان، فقالا‏:‏ ما دينك ومن ربك ومن نبيك‏؟‏ فأخذت بلحيتي البيضاء وقلت‏:‏ ألمثلي يقال هذا وقد علمت الناس جوابكما ثمانين سنة‏؟‏‏!‏ فذهبا وقالا‏:‏ أكتبت عن حريز بن عثمان‏؟‏ قلت نعم‏!‏ فقالا‏:‏ إنه كان يبغض عليا فأبغضه الله‏.‏ وقيل‏:‏ معنى، ‏}‏يثبت الله‏}‏ يديمهم الله على القول الثابت، ومنه قول عبدالله بن رواحة‏:‏

يثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصرا كالذي نصرا

وقيل‏:‏ يثبتهم في الدارين جزاء لهم على القول الثابت‏.‏ وقال القفال وجماعة‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ أي في القبر؛ لأن الموتى في الدنيا إلى أن يبعثوا، ‏}‏وفي الآخرة‏}‏ أي عند الحساب؛ وحكاه الماوردي عن البراء قال‏:‏ المراد بالحياة الدنيا المساءلة في القبر، وبالآخرة المساءلة في القيامة‏{‏ويضل الله الظالمين‏}‏ أي عن حجتهم في قبورهم كما ضلوا في الدنيا بكفرهم فلا يلقنهم كلمة الحق، فإذا سئلوا في قبورهم قالوا‏:‏ لا ندري؛ فيقول‏:‏ لا دريت ولا تليت؛ وعند ذلك يضرب بالمقامع على ما ثبت في الأخبار؛ وقد ذكرنا ذلك في كتاب ‏{‏التذكرة‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ يمهلهم حتى يزدادوا ضلالا في الدنيا‏.‏ ‏}‏ويفعل الله ما يشاء‏}‏ من عذاب قوم وإضلال قوم‏.‏ وقيل‏:‏ إن سبب نزول هذه الآية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف مساءلة منكر ونكير وما يكون من جواب الميت قال عمر‏:‏ يا رسول الله معي عقلي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ قال‏:‏ كفيت إذا؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 28 ‏)‏

‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا‏}‏ أي جعلوا بدل نعمة الله عليهم الكفر في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، حين بعثه الله منهم وفيهم فكفروا، والمراد مشركو قريش وأن الآية نزلت فيهم؛ عن ابن عباس وعلي وغيرهما‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في المشركين الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر‏.‏ قال أبو الطفيل‏:‏ سمعت عليا رضي الله عنه يقول‏:‏ هم قريش الذين نحروا يوم بدر‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في الأفجرين من قريش بني مخزوم وبني أمية، فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين؛ وأما بنو مخزوم فأهلكوا يوم بدر؛ قال علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما‏.‏ وقول رابع‏:‏ أنهم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه حين لطم فجعل له عمر القصاص بمثلها، فلم يرض وأنف فارتد متنصرا ولحق بالروم في جماعة من قومه؛ عن ابن عباس وقتادة‏.‏ ولما صار إلى بلد الروم ندم فقال‏:‏

تنصرت الأشراف من عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

تكنفني منها لجاج ونخوة وبعت لها العين الصحيحة بالعور

فيا ليتني أرعى المخاض ببلدة ولم أنكر القول الذي قاله عمر

وقال الحسن‏:‏ إنها عامة في جميع المشركين‏.‏ ‏}‏وأحلوا قومهم‏}‏ أي أنزلوهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هم قادة المشركين يوم بدر‏.‏ ‏}‏وأحلوا قومهم‏}‏ أي الذين اتبعوهم‏.‏ ‏}‏دار البوار‏}‏ قيل‏:‏ جهنم؛ قال ابن زيد‏.‏ وقيل‏:‏ يوم بدر؛ قال علي بن أبي طالب ومجاهد‏.‏ والبوار الهلاك؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

فلم أر مثلهم أبطال حرب غداة الحرب إذ خيف البوار

الآية رقم ‏(‏ 29 ‏)‏

‏{‏جهنم يصلونها وبئس القرار‏}‏

قوله تعالى‏{‏جهنم يصلونها‏}‏ بين أن دار البوار جهنم كما قال ابن زيد، وعلى هذا لا يجوز الوقف على ‏}‏دار البوار‏}‏ لأن جهنم منصوبة على الترجمة عن ‏}‏دار البوار‏}‏ فلو رفعها رافع بإضمار، على معنى‏:‏ هي جهنم، أو بما عاد من الضمير في ‏}‏يصلونها‏}‏ لحسن الوقف على ‏}‏دار البوار‏}‏‏.‏ ‏}‏وبئس القرار‏}‏ أي المستقر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 30 ‏)‏

‏{‏وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار‏}‏

قوله تعالى‏{‏وجعلوا لله أندادا‏}‏ أي أصناما عبدوها؛ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ ‏}‏ليضلوا عن سبيله‏}‏ أي عن دينه‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، وكذلك في الحج ‏}‏ليضل عن سبيل الله‏}‏الحج‏:‏ 9‏]‏ ومثله في ‏}‏لقمان‏}‏ و‏}‏الزمر‏}‏ وضمها الباقون على معنى ليضلوا الناس عن سبيله، وأما من فتح فعلى معنى أنهم هم يضلون عن سبيل الله على اللزوم، أي عاقبتم إلى الإضلال والضلال؛ فهذه لام العاقبة‏.‏ ‏}‏قل تمتعوا‏}‏ وعيد لهم، وهو إشارة إلى تقليل ما هم فيه من ملاذ الدنيا إذ هو منقطع‏.‏ ‏}‏فإن مصيركم إلى النار‏}‏ أي مردكم ومرجعكم إلى عذاب جهنم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 31 ‏)‏

‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا‏}‏ أي إن أهل مكة بدلوا نعمة الله بالكفر، فقل لمن آمن وحقق عبوديته أن ‏}‏يقيموا الصلاة‏}‏ يعني الصلوات الخمس، أي قل لهم أقيموا، والأمر معه شرط مقدر، تقول‏:‏ أطع الله يدخلك الجنة؛ أي إن أطعته يدخلك الجنة؛ هذا قول الفراء‏.‏ وقال الزجاج‏{‏يقيموا‏}‏ مجزوم بمعنى اللام، أي ليقيموا فأسقطت اللام لأن الأمر دل على الغائب بـ ‏}‏قل‏}‏‏.‏ قال‏:‏ ويحتمل أن يقال‏{‏يقيموا‏}‏ جواب أمر محذوف؛ أي قل لهم أقيموا الصلاة يقيموا الصلاة‏.‏ ‏}‏وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية‏}‏ يعني الزكاة؛ عن ابن عباس وغيره‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ السر ما خفي والعلانية ما ظهر‏.‏ وقال القاسم بن يحيى‏:‏ إن السر التطوع والعلانية الفرض، وقد مضى هذا المعنى في ‏}‏البقرة‏}‏ مجودا عند قوله‏{‏إن تبدوا الصدقات فنعما هي‏}‏البقرة‏:‏ 271‏]‏‏.‏ ‏}‏من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال‏}‏ وأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم الله وأنعم به عليهم وحذرهم من الإمساك إلى أن يجيء يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة، كما قال‏{‏فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق‏}‏المنافقون‏:‏ 0 1‏]‏‏.‏ والخلة‏:‏ خالص المودة، مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين جمع خلة كقلة وقلال‏.‏ قال‏:‏

فلست بمقلي الخلال ولا قالي

الآية رقم ‏(‏ 32 ‏:‏ 33 ‏)‏

‏{‏الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار‏}‏

قوله تعالى‏{‏الله الذي خلق السماوات والأرض‏}‏ أي أبدعها واخترعها على غير مثال سبق‏.‏ ‏}‏وأنزل من السماء‏}‏ أي من السحاب‏.‏ ‏}‏ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم‏}‏ أي من الشجر ثمرات ‏}‏رزقا لكم‏}‏‏.‏ ‏}‏وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره‏}‏ تقدم معناه في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ ‏}‏وسخر لكم الأنهار‏}‏ يعني البحار العذبة لتشربوا منها وتسقوا وتزرعوا، والبحار المالحة لاختلاف المنافع من الجهات‏.‏ ‏}‏وسخر لكم الشمس والقمر دائبين‏}‏ أي في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره، والدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة جارية‏.‏ وقيل‏:‏ دائبين في السير امتثالا لأمر الله، والمعنى يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران؛ روي معناه عن ابن عباس‏.‏ ‏}‏وسخر لكم الليل والنهار‏}‏ أي لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار، كما قال‏{‏ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله‏}‏القصص‏:‏ 73‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 34 ‏)‏

‏{‏وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار‏}‏

قوله تعالى‏{‏وآتاكم من كل ما سألتموه‏}‏ أي أعطاكم من كل مسؤول سألتموه شيئا؛ فحذف؛ عن الأخفش‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وآتاكم من كل ما سألتموه، ومن كل ما لم تسألوه فحذف، فلم نسأل شمسا ولا قمرا ولا كثيرا من نعمه التي ابتدأنا بها‏.‏ وهذا كما قال‏{‏سرابيل تقيكم الحر‏}‏النحل‏:‏ 81‏]‏ على ما يأتي‏.‏ وقيل‏{‏من‏}‏ زائدة؛ أي أتاكم كل ما سألتموه‏.‏ وقرأ ابن عباس والضحاك وغيرهما ‏}‏وآتاكم من كل‏}‏ بالتنوين ‏}‏ما سألتموه‏}‏ وقد رويت هذه القراءة عن الحسن والضحاك وقتادة؛ هي على النفي أي من كل ما لم تسألوه؛ كالشمس والقمر وغيرهما‏.‏ وقيل‏:‏ من كل شيء ما سألتموه أي الذي ما سألتموه‏.‏ ‏}‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏ أي نعم الله‏.‏ ‏}‏لا تحصوها‏}‏ ولا تطيقوا عدها، ولا تقوموا بحصرها لكثرتها، كالسمع والبصر وتقويم الصور إلى غير ذلك من العافية والرزق؛ نعم لا تحصى وهذه النعم من الله، فلم تبدلون نعمة الله بالكفر‏؟‏‏!‏ وهلا استعنتم بها على الطاعة‏؟‏‏!‏ ‏}‏إن الإنسان لظلوم كفار‏}‏ الإنسان لفظ جنس وأراد به الخصوص؛ قال ابن عباس‏:‏ أراد أبا جهل‏.‏ وقيل‏:‏ جميع الكفار‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 35 ‏)‏

‏{‏وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا‏}‏ يعني مكة وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ ‏}‏واجنبني وبني أن نعبد الأصنام‏}‏ أي اجعلني جانبا عن عبادتها، وأراد بقوله‏:‏ ‏(‏بني‏)‏ بنيه من، صلبه وكانوا ثمانية، فما عبد أحد منهم صنما‏.‏ وقيل‏:‏ هو دعاء لمن أراد الله أن يدعو له‏.‏ وقرأ الجحدري وعيسى ‏}‏وأجنبني‏}‏ بقطع الألف والمعنى واحد؛ يقال‏:‏ جنبت ذلك الأمر؛ وأجنبته وجنبته إياه فتجانبه وأجتنبه أي تركه‏.‏ وكان إبراهيم التيمي يقول في قصصه‏:‏ من يأمن البلاء بعد الخليل حين يقول ‏}‏وأجنبني وبني أن نعبد الأصنام‏}‏ كما عبدها أبي وقومي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 36 ‏)‏

‏{‏رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏رب إنهن أضللن كثيرا من الناس‏}‏ لما كانت سببا للإضلال أضاف الفعل إليهن مجازا؛ فإن الأصنام جمادات لا تفعل‏.‏ ‏}‏فمن تبعني‏}‏ في التوحيد‏.‏ ‏}‏فإنه مني‏}‏ أي من أهل ديني‏.‏ ‏}‏ومن عصاني‏}‏ أي أصر على الشرك‏.‏ ‏}‏فإنك غفور رحيم‏}‏ قيل‏:‏ قال هذا قبل أن يعرفه الله أن الله لا يغفر أن يشرك به‏.‏ وقيل‏:‏ غفور رحيم لمن تاب من معصيته قبل الموت‏.‏ وقال مقاتل بن حيان‏{‏ومن عصاني‏}‏ فيما دون الشرك‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 37 ‏)‏

‏{‏ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون‏}‏

روى البخاري عن ابن عباس‏:‏‏(‏أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل؛ اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد؛ وليس، بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك؛ ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل؛ فقالت‏:‏ يا إبراهيم‏!‏ أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له‏:‏ الله أمرك بهذا‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قالت إذا لا يضيعنا؛ ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند التثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات، ورفع يديه فقال‏{‏ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع‏}‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏ حتى بلغ ‏}‏يشكرون‏}‏ وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال بتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، ثم جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليه، فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات؛ قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فذلك سعي الناس بينهم‏)‏ فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت‏:‏ صه‏!‏ تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت‏:‏ قد أسمعت، إن كان عندك غواث‏!‏ فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف؛ قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال‏:‏ لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا‏)‏ قال‏:‏ فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك‏:‏ لا تخافي الضيعة فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله‏)‏ وذكر الحديث بطوله‏.‏

مسألة‏:‏

لا يجوز لأحد أن يتعلق بهذا في طرح ولده وعياله بأرض مضيعة اتكالا على العزيز الرحيم، واقتداء بفعل إبراهيم الخليل، كما تقول غلاة الصوفية في حقيقة التوكل، فإن إبراهيم فعل ذلك بأمر الله لقوله الحديث‏:‏ آلله أمرك بهذا‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ وقد روي أن سارة لما غارت من هاجر بعد أن ولدت إسماعيل خرج بها إبراهيم عليه السلام إلى مكة، فروي أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة، وترك ابنه وأمته هنا لك وركب منصرفا من يومه، فكان ذلك كله بوحي من الله تعالى، فلما ولي دعا بضمن هذه الآية‏.‏

لما أراد الله تأسيس الحال، وتمهيد المقام، وخط الموضع للبيت المكرم، والبلد المحرم، أرسل الملك فبحث عن الماء وأقامه مقام الغذاء، وفي الصحيح‏:‏ أن أبا ذر رضي الله عنه اجتزأ به ثلاثين بين يوم وليلة، قال أبو ذر‏:‏ ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكني، وما أجد على كبدي سخفة جوع؛ وذكر الحديث‏.‏ وروي الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ماء زمزم لما شرب له إن شربته تشتفي به شفاك الله وإن شربته لشبعك أشبعك الله به وإن شربته لقطع ظمئك قطعه وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل‏)‏‏.‏ وروي أيضا عن عكرمة قال‏:‏ كان ابن عباس إذا شرب من زمزم قال‏:‏ اللهم إني أسألك علما نافعا، ورزقا واسعا، وشفاء من كل داء‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا موجود فيه إلى يوم القيامة لمن صحت نيته، وسلمت طويته، ولم يكن به مكذبا، ولا يشربه مجربا، فإن الله مه المتوكلين، وهو يفضح المجربين‏.‏ وقال أبو عبدالله محمد بن علي الترمذي وحدثني أبي رحمه الله قال‏:‏ دخلت الطواف في ليلة ظلماء فأخذني من البول ما شغلني، فجعلت أعتصر حتى آذاني، وخفت إن خرجت من المسجد أن أطأ بعض تلك الأقدام، وذلك أيام الحج؛ فذكرت هذا الحديث، فدخلت زمزم فتضلعت منه، فذهب عني إلى الصباح‏.‏ وروي عن عبدالله بن عمرو‏:‏ إن في زمزم عينا في الجنة من قبل الركن‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن ذريتي‏}‏ ‏}‏من‏}‏ في قوله تعالى‏{‏من ذريتي‏}‏ للتبعيض أي أسكنت بعض ذريتي؛ يعني إسماعيل وأمه، لأن إسحاق كان بالشام‏.‏ وقيل‏:‏ هي صلة؛ أي أسكنت ذريتي‏.‏ ‏}‏عند بيتك المحرم‏}‏ يدل على أن البيت كان قديما على ما روي قبل الطوفان، وقد مضى هذا المعنى في سورة ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ أضاف البيت إليه لأنه لا يملكه غيره، ووصفه بأنه محرم، أي يحرم فيه ما يستباح في غيره من جماع واستحلال‏.‏ وقيل‏:‏ محرم على الجبابرة، وأن تنتهك حرمته، ويستخف بحقه، قاله قتادة وغيره‏.‏ وقد مضى القول في هذا في ‏}‏المائدة‏}‏‏.‏ ‏}‏ربنا ليقيموا الصلاة‏}‏ خصها من جملة الدين لفضلها فيه، ومكانها منه، وهي عهد اله عند العباد؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خمس صلوات كتبهن الله على العباد‏)‏‏.‏ الحديث‏.‏ واللام في ‏}‏ليقيموا الصلاة‏}‏ لام كي؛ هذا هو الظاهر فيها وتكون متعلقة بـ‏}‏أسكنت‏}‏ ويصح أن تكون لام أمر، كأنه رغب إلى الله أن يأتمنهم وأن يوفقهم لإقامة الصلاة‏.‏

تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها؛ لأن معنى ‏}‏ربنا ليقيموا الصلاة‏}‏ أي أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه‏.‏ وقد اختلف العلماء هل الصلاة بمكة أفضل أو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فذهب عامة أهل الأثر إلى أن المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بمائة صلاة، واحتجوا بحديث عبدالله بن الزبيرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة مسجدي هذا بمائة صلاة‏}‏‏.‏ قال الإمام الحافظ أبو عمر‏:‏ وأسند هذا الحديث حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن عبدالله بن الزبير وجوده، ولم يخلط في لفظه ولا في معناه، وكان ثقة‏.‏ قال ابن أبي‏.‏ خيثمة سمعت يحيى بن معين يقول‏:‏ حبيب المعلم ثقة‏.‏ وذكر عبدالله بن أحمد قال سمعت أبي يقول‏:‏ حبيب المعلم ثقة ما أصح حديثه‏!‏ وسئل أبو زرعة الرازي عن حبيب المعلم فقال‏:‏ بصري ثقة‏.‏

قلت‏:‏ وقد خرج حديث حبيب المعلم هذا عن عطاء بن أبي رباح عن عبدالله بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم الحافظ أبو حاتم محمد بن حاتم التميمي البستي في المسند الصحيح له، فالحديث صحيح وهو الحجة عند التنازع والاختلاف‏.‏ والحمد لله‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وقد روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن الزبير؛ رواه موسى الجهني عن نافع عن ابن عمرو؛ وموسى الجهني الكوفي ثقة، أثنى عليه القطان وأحمد ويحيى وجماعتهم‏.‏ وروى عنه شعبة‏.‏ والثوري ويحيى بن سعيد‏.‏ وروى حكيم بن سيف، حدثنا عبيدالله بن عمر؛ عن عبدالكريم عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف فيمن سواه‏)‏‏.‏ وحكيم بن سيف هذا شيخ من أهل الرقة قد روى عنه أبو زرعة الرازي، وأخذ عنه ابن وضاح، وهو عندهم شيخ صدوق لا بأس به‏.‏ فإن كان حفظ فهما حديثان، وإلا فالقول قول حبيب المعلم‏.‏ وروى محمد بن وضاح، حدثنا يوسف بن عدي عن عمر بن عبيد عن عبدالملك عن عطاء عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل‏)‏‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وهذا كله نص في موضع الخلاف قاطع له عند من ألهم رشده، ولم تمل به عصيته‏.‏ وذكر ابن حبيب عن مطرف وعن أصبغ عن ابن وهب أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على ما في هذا الباب‏.‏ وقد اتفق مالك وسائر العلماء على أن صلاة العيدين يبرز لهما في كل بلد إلا مكة فإنها تصلي في المسجد الحرام‏.‏ وكان عمر وعلي وابن مسعود وأبو الدرداء وجابر يفضلون مكة ومسجدها وهم أولى بالتقليد ممن بعدهم؛ وإلى هذا ذهب الشافعي‏.‏ وهو قول عطاء والمكيين والكوفيين، وروي مثله عن مالك؛ ذكر ابن وهب في جامعه عن مالك أن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض قال‏:‏ يا رب هذه أحب إليك أن تعبد فيها‏؟‏ قال‏:‏ بل مكة‏.‏ والمشهور عنه وعن أهل المدينة تفضيل المدينة، واختلف أهل البصرة والبغداديون في ذلك؛ فطائفة تقول مكة، وطائفة تقول المدينة‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم‏}‏ الأفئدة جمع فؤاد وهي القلوب، وقد يعبر عن القلب بالفؤاد كما قال الشاعر‏:‏

وإن فؤادا قادني بصبابة إليك على طول المدى لصبور

وقيل‏:‏ جمع وفد، والأصل أوفدة، فقدمت الفاء وقلبت الواو ياء كما هي، فكأنه قال‏:‏ واجعل وفودا من الناس تهوي إليهم؛ أي تنزع؛ يقال‏:‏ هوي نحوه إذا مال، وهوت الناقة تهوي هويا فهي هاوية إذا عدت عدوا شديدا كأنها في هواء بئر، وقوله‏{‏تهوي إليهم‏}‏ مأخوذ منه‏.‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس، ولكن قال‏{‏من الناس‏}‏ فهم المسلمون؛ فقوله‏{‏تهوي إليهم‏}‏ أي تحن إليهم، وتحن إلى زيارة البيت‏.‏ وقرأ مجاهد ‏}‏تهوَى إليهم‏}‏ أي تهواهم وتجلهم‏.‏ ‏}‏وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون‏}‏ فاستجاب الله دعاءه، وأنبت لهم بالطائف سائر الأشجار، وبما يجلب إليهم من الأمصار‏.‏ وفي صحيح البخاري عن ابن عباس الحديث الطويل وقد ذكرنا بعضه‏:‏ ‏(‏فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت‏:‏ خرج يبتغي لنا، ثم سألهم عن عيشهم وهيئتهم فقالت‏:‏ نحن بشر، نحن في ضيق وشدة؛ فشكت إليه، قال‏:‏ فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئا فقال‏:‏ هل جاءكم من أحد‏!‏ قالت‏:‏ نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشتنا فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال فهل أوصاك بشيء‏:‏ قالت‏:‏ أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول‏:‏ غير عتبة بابك؛ قال‏:‏ ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك؛ فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده، ودخل على امرأته فسألها عنه فقالت‏:‏ خرج يبتغي لنا‏.‏ قال‏:‏ كيف أنتم‏؟‏ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت‏:‏ نحن بخير وسعة وأثنت على الله‏.‏ قال ما طعامكم‏؟‏ قالت‏:‏ اللحم‏.‏ قال فما شرابكم‏؟‏ قالت‏:‏ الماء‏.‏ قال‏:‏ اللهم بارك لهم في اللحم والماء‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه؛ وذكر الحديث‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ قول إبراهيم ‏}‏فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم‏}‏ سأل أن يجعل الله الناس يهوون السكنى بمكة، فيصير بيتا محرما، وكل ذلك كان والحمد لله‏.‏ وأول من سكنه جرهم‏.‏ ففي البخاري - بعد قوله‏:‏ وإن الله لا يضيع أهله - وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، وكذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم قافلين من طريق كذا، فنزلوا بأسفل مكة، فرأوا طائرا عائفا فقالوا‏:‏ إن هذا الطائر ليدور على ماء‏!‏ لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء؛ فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء، فأخبروهم بالماء فأقبلوا‏.‏ قال‏:‏ وأم إسماعيل عند الماء؛ فقالوا‏:‏ أتأذنين لنا أن ننزل عندك‏؟‏ قالت‏:‏ نعم ولكن لا حق لكم في الماء‏.‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فألفي ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس‏)‏ فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، شب الغلام، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته؛ الحديث‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 38 ‏)‏

‏{‏ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء‏}‏

قوله تعالى‏{‏ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن‏}‏ أي، ليس يخفى عليك شيء من أحوالنا‏.‏ وقال ابن عباس ومقاتل‏:‏ تعلم جميع ما أخفيه وما أعلنه من الوجه بإسماعيل وأمه حيث أسكنا بواد غير ذي زرع‏.‏ ‏}‏وما يخفي على الله من شيء في الأرض ولا في السماء‏}‏ قيل‏:‏ هو من قول إبراهيم‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول الله تعالى لما قال إبراهيم‏{‏ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن‏}‏ قال الله‏{‏وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

‏{‏الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء‏}‏

أي على كبر سني وسن امرأتي؛ قال ابن عباس‏:‏ ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة‏.‏ وإسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ بشر إبراهيم بإسحاق بعد عشر ومائة سنة‏.‏ ‏}‏إن ربي لسميع الدعاء‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 40 ‏:‏ 41 ‏)‏

‏{‏رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب‏}‏

قوله تعالى‏{‏رب اجعلني مقيم الصلاة‏}‏ أي من الثابتين على الإسلام والتزام أحكامه‏.‏ ‏}‏ومن ذريتي‏}‏ أي واجعل من ذريتي من يقيمها‏.‏ ‏}‏ربنا وتقبل دعاء‏}‏ أي عبادتيكما قال‏{‏وقال ربكم ادعوني أستجب لكم‏}‏غافر‏:‏ 60‏]‏‏.‏ وقال عليه السلام‏{‏الدعاء مخ العبادة‏)‏ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ ‏}‏ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين‏}‏ قيل‏:‏ استغفر إبراهيم لوالديه قبل أن يثبت عنده أنهما عدوان لله‏.‏ قال القشيري‏:‏ ولا يبعد أن تكون أمه مسلمة لأن الله ذكر عذره في استغفاره لأبيه دون أمه‏.‏ قلت‏:‏ وعلى هذا قراءة سعيد بن جبير، ‏}‏رب اغفر لي ولوالدي‏}‏ يعني‏.‏ أباه‏.‏ وقيل‏:‏ استغفر لهما طمعا في إيمانهما‏.‏ وقيل‏:‏ استغفر لهما بشرط أن يسلما‏.‏ وقيل‏:‏ أراد آدم وحواء‏.‏ وقد روي أن العبد إذا قال‏:‏ اللهم اغفر لي ولوالدي وكان أبواه قد ماتا كافرين انصرفت المغفرة إلى آدم وحواء لأنهما والدا الخلق أجمع‏.‏ وقيل‏:‏ إنه أراد ولديه إسماعيل وإسحاق‏.‏ وكان إبراهيم النخعي يقرأ‏{‏ولولدي‏}‏ يعني ابنيه، وقيل‏:‏ إنه أراد ولديه إسماعيل وإسحاق‏.‏ وكان إبراهيم ‏}‏وللمؤمنين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏{‏للمؤمنين‏}‏ كلهم وهو أظهر‏.‏ ‏}‏يوم يقوم الحساب‏}‏ أي يوم يقوم الناس للحساب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 42 ‏)‏

‏{‏ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون‏}‏ وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أجبه من أفعال المشركين ومخالفتهم دين إبراهيم؛ أي أصبر إبراهيم، وأعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم، بل سنة الله إمهال العصاة مدة‏.‏ قال ميمون بن مهران‏:‏ هذا وعبد للظالم، وتعزية للمظلوم‏.‏ ‏}‏إنما يؤخرهم‏}‏ يعني مشركي مكة يمهلهم ويؤخر بهم‏.‏ وقراءة العامة ‏}‏يؤخرهم‏}‏ بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله ‏}‏ولا تحسبن الله‏}‏‏.‏ وقرأ الحسن والسلمي وروي عن أبي عمرو أيضا ‏}‏نؤخرهم‏}‏ بالنون للتعظيم‏.‏ ‏}‏ليوم تشخص فيه الأبصار‏}‏ أي لا تغمض من هول ما تراه في ذلك اليوم، قاله الفراء‏.‏ يقال‏:‏ شخص الرجل بصره وشخص البصر نفسه أي سما وطمح من هول ما يرى‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يرمضون‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 43 ‏)‏

‏{‏مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء‏}‏

قوله تعالى‏{‏مهطعين‏}‏ أي مسرعين؛ قاله الحسن وقتادة وسعيد بن جبير؛ مأخوذ من أهطع يهطع إذا أسرع ومنه قوله تعالى‏{‏مهطعين إلى الداع‏}‏القمر‏:‏ 8‏]‏ أي مسرعين‏.‏ قال الشاعر‏:‏

بدجلة دارهم ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع

وقيل‏:‏ المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع؛ أي ناظرين من غير أن يطرفوا؛ قاله ابن عباس، وقال مجاهد والضحاك‏{‏مهطعين‏}‏ أي مديمي النظر‏.‏ وقال النحاس‏:‏ والمعروف في اللغة أن يقال‏:‏ أهطع إذا أسرع؛ قال أبو عبيد‏:‏ وقد يكون الوجهان جميعا يعني الإسراع مع إدامة النظر‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ المهطع الذي لا يرفع رأسه‏.‏ ‏}‏مقنعي رؤوسهم‏}‏ أي رافعي رؤوسهم ينظرون في ذل‏.‏ وإقناع الرأس رفعه؛ قال ابن عباس ومجاهد‏.‏ قال ابن عرفة والقتبي وغيرهما‏:‏ المقنع الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه؛ ومنه الإقناع في الصلاة وأقنع صوته إذا رفعه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ وجوه الناس يومئذ إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد‏.‏ وقيل‏:‏ ناكسي رؤوسهم؛ قال المهدوي‏:‏ ويقال أقنع إذا رفع رأسه، وأقنع إذا رأسه ذلة وخضوعا، والآية محتملة الوجهين، وقاله المبرد، والقول الأول أعرف في اللغة؛ قال الراجز‏:‏

أنغض نحوي رأسه وأقنعا كأنما أبصر شيئا أطمعا

وقال الشماخ يصف إبلا‏:‏

يباكرن العضاه بمقنعات نواجذهن كالحدأ الوقيع

يعني‏:‏ برؤوس مرفوعات إليها لتتناولهن‏.‏ ومنه قيل‏:‏ مقنعة لارتفاعها‏.‏ ومنه قنع الرجل إذا رضي؛ أي رفع رأسه عن السؤال‏.‏ وقنع إذا سأل أي أتى ما يتقنع منه؛ عن النحاس‏.‏ وفم مقنع أي معطوفة أسنانه إلى داخل‏.‏ ورجل مقنع بالتشديد؛ أي عليه بيضة قاله الجوهري‏.‏ ‏}‏لا يرتد إليهم طرفهم‏}‏ أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة النظر‏.‏ يقال‏:‏ طرف الرجل يطرف طرفا إذا أطبق جفنه على الآخر، فسمي النظر طرفا لأنه به يكون‏.‏ والطرف العين‏.‏ قال عنترة‏:‏

وأغض طرفي ما بدت جارتي حتى يواري جارتي مأواها

وقال جميل‏:‏

وأقصر طرفي دون جمل كرامة لجمل وللطرف الذي أنا قاصره

قوله تعالى‏{‏وأفئدتهم هواء‏}‏ أي لا تغني شيئا من شدة الخوف‏.‏ ابن عباس‏:‏ خالية من كل خير‏.‏ السدي‏:‏ خرجت قلوبهم من صدورهم فنشبت في حلوقهم؛ وقال مجاهد ومرة وابن زيد‏:‏ خاوية خربة متخرقة ليس فيها خير ولا عقل؛ كقولك في البيت الذي ليس فيه شيء‏:‏ إنما هو هواء؛ وقال ابن عباس‏:‏ والهواء في اللغة المجوف الخالي؛ ومنه قول حسان‏:‏

ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوفة نخب هواء

وقال زهير يصف صغيرة الرأس‏:‏

كأن الرجل منها فوق صعل من الظلمان جؤجؤه هواء

فارغ أي خال؛ وفي التنزيل‏{‏وأصبح فؤاد أم موسى فارغا‏}‏القصص‏:‏ 10‏]‏ أي من كل شيء إلا من هم موسى‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام إضمار؛ أي ذات هواء وخلاء‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 44 ‏)‏

‏{‏وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأنذر الناس‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أراد أهل مكة‏.‏ ‏}‏يوم يأتيهم العذاب‏}‏ وهو يوم القيامة؛ أي خوفهم ذلك اليوم‏.‏ وإنما خصهم بيوم العذاب وإن كان يوم الثواب، لأن الكلام خرج مخرج التهديد للعاصي‏.‏ ‏}‏فيقول الذين ظلموا‏}‏ أي في ذلك اليوم ‏}‏ربنا أخرنا‏}‏ أي أمهلنا‏.‏ ‏}‏إلى أجل قريب‏}‏ سألوه الرجوع إلى الدنيا حين ظهر الحق في الآخرة‏.‏ ‏}‏نجب دعوتك ونتبع الرسل‏}‏ أي إلى الإسلام فيجابوا‏{‏أولم تكونوا أقسمتم من قبل‏}‏ يعني في دار الدنيا‏.‏ ‏}‏ما لكم من زوال‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هو قسم قريش أنهم لا يبعثون‏.‏ ابن جريج‏:‏ هو ما حكاه عنهم في قوله‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت‏}‏النحل‏:‏ 38‏]‏‏.‏ ‏}‏ما لكم من زوال‏}‏ فيه تأويلان‏:‏ أحدهما‏:‏ ما لكم من انتقال عن الدنيا إلى الآخرة؛ أي لا تبعثون ولا تحشرون؛ وهذا قول مجاهد‏.‏ الثاني‏{‏ما لكم من زوال‏}‏ أي من العذاب‏.‏ وذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله أربعة، فإذا كان في الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا، يقولون‏{‏ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل‏}‏غافر‏:‏ 11‏]‏ فيجيبهم الله ‏}‏ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وأن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير‏}‏غافر‏:‏ 12‏]‏ ثم يقولون‏{‏ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون‏}‏السجدة‏:‏ 12‏]‏ فيجيبهم الله تعالى‏{‏فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون‏}‏السجدة‏:‏ 14‏]‏ ثم يقولون‏{‏ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل‏}‏ فيجيبهم الله تعالى ‏}‏أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال‏}‏ فيقولون‏{‏ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل‏}‏فاطر‏:‏ 37‏]‏ فيجيبهم الله تعالى‏{‏أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير‏}‏فاطر‏:‏ 37‏]‏‏.‏ ويقولون‏{‏ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين‏}‏المؤمنون‏:‏ 106‏]‏ فيجيبهم الله تعالى‏{‏اخسؤوا فيها ولا تكلمون‏}‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ فلا يتكلمون بعدها أبدا؛ خرجه ابن المبارك في ‏{‏دقائقه‏}‏ بأطول من هذا - وقد كتبناه في كتاب ‏{‏التذكرة‏}‏ وزاد في الحديث ‏}‏وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال‏.‏ وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال‏}‏إبراهيم‏:‏44 - 45‏]‏ قال هذه الثالثة، وذكر الحديث وزاد بعد قوله‏{‏اخسؤوا فيها ولا تكلمون‏}‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء، وأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجه بعضهم في وجه بعض، وأطبقت عليهم؛ وقال‏:‏ فحدثني الأزهر بن أبي الأزهر أنه ذكر له أن ذلك قوله‏{‏هذا يوم لا ينطقون‏.‏ ولا يؤذن لهم فيعتذرون‏}‏المرسلات‏:‏35 - 36‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 45 ‏)‏

‏{‏وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال‏}‏

قوله تعالى‏{‏وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال‏}‏ أي في بلاد ثمود ونحوها فهلا اعتبرتم بمساكنهم، بعد ما تبين لكم ما فعلنا بهم، وبعد أن ضربنا لكم الأمثال في القرآن‏.‏ وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي ‏}‏ونبين لكم‏}‏ بنون والجزم على أنه مستقبل ومعناه الماضي؛ وليناسب قوله‏{‏كيف فعلنا بهم‏}‏‏.‏ وقراءة الجماعة، ‏}‏وتبين‏}‏ وهي مثلها في المعنى؛ لأن ذلك لا تبين لهم إلا بتبيين الله إياهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 46 ‏)‏

‏{‏وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقد مكروا مكرهم‏}‏ أي بالشرك بالله وتكذيب الرسل والمعاندة؛ عن ابن عباس وغيره‏.‏ ‏}‏وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال‏}‏ ‏}‏إن‏}‏ بمعنى ‏}‏ما‏}‏ أي ما كان مكرهم لتزول منه الجبال لضعفه ووهنه؛ ‏}‏وإن‏}‏ بمعنى ‏}‏ما‏}‏ في القرآن في مواضع خمسة‏:‏ أحدها هذا‏.‏ الثاني‏{‏فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك‏}‏يونس‏:‏ 94‏]‏‏.‏ الثالث‏{‏لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا‏}‏الأنبياء‏:‏ 17‏]‏ أي ما كنا‏.‏ الرابع‏{‏قل إن كان للرحمن ولد‏}‏الزخرف‏:‏ 81‏]‏‏.‏ الخامس‏{‏ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه‏}‏الأحقاف‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وقرا الجماعة ‏}‏وإن كان‏}‏ بالنون‏.‏ وقرأ عمرو بن علي وابن مسعود وأبي ‏}‏وإن كاد‏}‏ بالدال‏.‏ والعامة على كسر اللام في ‏}‏لتزول‏}‏ على أنها لام الجحود وفتح اللام الثانية نصيبا‏.‏ وقرأ بن محيصن وابن جريج والكسائي ‏}‏لتزول‏}‏ بفتح اللام الأول على أنها لام الابتداء ورفع الثانية ‏}‏وإن‏}‏ مخففة من الثقيلة، ومعنى هذه القراءة استعظام مكرهم؛ أي ولقد عظم مكرهم حتى كادت الجبال تزول منه؛ قال الطبري‏:‏ الاختيار القراءة الأولى؛ لأنها لو كانت زالت لم تكن ثابتة؛ قال أبو بكر الأنباري‏:‏ ولا حجة على مصحف المسلمين في الحديث الذي حدثناه أحمد بن الحسين‏:‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبدالرحمن بن دانيل قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول‏:‏ إن جبارا من الجبابرة قال لا أنتهي حتى أعلم من في السماوات، فعمد إلى فراخ نسور، فأمر أن تطعم اللحم، حتى اشتدت وعضلت واستعلجت أمر بأن يتخذ تابوت يسع فيه رجلين؛ وأن يجعل فيه عصا في رأسها لحم شديد حمرته، وأن يستوثق من أرجل النسور بالأوتاد؛ وتشد إلى قوائم التابوت، ثم جلس هو وصاحب له من التابوت وأثار النسور، فلما رأت اللحم طلبته، فجعلت ترفع التابوت حتى بلغت به ما شاء الله؛ فقال الجبار لصاحبه‏:‏ افتح الباب فانظر ما ترى‏؟‏ فقال‏:‏ أرى الجبال كأنها ذباب، فقال‏:‏ أغلق الباب؛ ثم صعدت بالتابوت ما شاء الله أن تصعد، فقال الجبار لصاحبه‏:‏ افتح الباب فانظر ما ترى‏؟‏ فقال‏:‏ ما أرى إلا السماء وما تزداد منا إلا بعدا، فقال‏:‏ نكس العصا فنكسها، فانقضت النسور‏.‏ فلما وقع التابوت على الأرض سمعت له هدة كادت الجبال تزول عن مراتبها منها؛ قال‏:‏ فسمعت عليا رضي الله عنه يقرأ ‏}‏وإن كان مكرهم لتزول‏}‏ بفتح اللام الأولى من ‏}‏لتزول‏}‏ وضم الثانية‏.‏ وقد ذكر الثعلبي هذا الخبر بمعناه، وأن الجبار هو النمرود الذي حاج إبراهيم في ربه، وقال عكرمة‏:‏ كان معه في التابوت غلام أمرد، وقد حمل القوس والنبل فرمى بهما فعاد إليه ملطخا بالدماء وقال‏:‏ كفيت نفسك إله السماء‏.‏ قال عكرمة‏:‏ تلطخ بدم سمكة من السماء، فذفت نفسها إليه من بحر في الهواء معلق‏.‏ وقيل‏:‏ طائر من الطير أصابه السهم ثم أمر نمرود صاحبه أن يضرب العصا وأن ينكس اللحم، فهبطت النسور بالتابوت، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور ففزعت، وظنت أنه قد حدث بها حدث من السماء، وأن الساعة قد قامت، فذلك قوله‏{‏وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال‏}‏‏.‏ قال القشيري‏:‏ وهذا جائز بتقدير خلق الحياة في الجبال‏.‏ وذكر الماوردي عن ابن عباس‏:‏ أن النمرود بن كنعان بنى الصرح في قرية الرس من سواد الكوفة، وجعل طول خمسة آلاف ذراع وخمسين ذراعا، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع وخمسة وعشرين ذراعا، وصعد منه مع النسور، فلما علم أنه لا سبيل له إلى السماء اتخذه حصنا، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه‏.‏ فأتى الله بنيانه من القواعد، فتداعي الصرح عليهم فهلكوا جميعا، فهذا معنى ‏}‏وقد مكروا مكرهم‏}‏ وفي الجبال التي عني زوالها بمكرهم وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ جبال الأرض‏.‏ الثاني‏:‏ الإسلام والقرآن، لأنه لثبوته ورسوخه كالجبال‏.‏ وقال القشيري‏{‏وعند الله مكرهم‏}‏ أي هو عالم بذلك فيجازيهم أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف‏.‏ ‏}‏وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال‏}‏ بكسر اللام؛ أي ما كان مكرهم مكرا يكون له أثر وخطر عند الله تعالى، فالجبال مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏{‏وإن كان مكرهم‏}‏ في تقديرهم ‏}‏لتزول منه الجبال‏}‏ وتؤثر في إبطال الإسلام‏.‏ وقرئ ‏}‏لتزول منه الجبال‏}‏ بفتح اللام الأولى وضم الثانية؛ أي كان مكرا عظيما تزول منه الجبال، ولكن الله حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كقوله تعالى‏{‏ومكروا مكرا كبارا‏}‏نوح‏:‏ 22‏]‏ والجبال لا تزول ولكن العبارة عن تعظيم الشيء هكذا تكون‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 47 ‏)‏

‏{‏فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله‏}‏ اسم الله تعالى و‏}‏مخلف‏}‏ مفعولا تحسب؛ و‏}‏رسله‏}‏ مفعول ‏}‏وعده‏}‏ وهو على الاتساع، والمعنى‏:‏ مخلف وعده رسله؛ قال الشاعر‏:‏

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه وسائره باد إلى الشمس أجمع

قال القتبي‏:‏ هو من المقدم الذي يوضحه التأخير، والمؤخر الذي يوضحه التقديم، وسواء في قولك‏:‏ مخلف وعده رسله، ومخلف رسله وعده‏.‏ ‏}‏إن الله عزيز ذو انتقام‏}‏ أي من أعدائه‏.‏ ومن أسمائه المنتقم وقد بيناه في ‏}‏الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 48 ‏)‏

‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار‏}‏

قوله تعالى‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض‏}‏ أي اذكر يوم تبدل الأرض، فتكون متعلقة بما قبله‏.‏ وقيل‏:‏ هو صفة لقول‏{‏يوم يقوم الحساب‏}‏إبراهيم‏:‏ 41‏]‏‏.‏ واختلف في كيفية تبديل الأرض، فقال كثير من الناس‏:‏ إن تبدل الأرض عبارة عن تغير صفاتها، وتسوية آكامها، ونسف جبالها، ومد أرضها؛ ورواه ابن مسعود رضي الله عنه؛ خرجه ابن ماجة في سننه وذكره ابن المبارك من حديث شهر بن حوشب، قال حدثني ابن عباس قال‏:‏ إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وزيد في سعتها كذا وكذا؛ وذكر الحديث‏.‏ وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏تبدل الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في الثانية في مثل مواضعهم من الأولى من كان في بطنها ففي بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها‏)‏ ذكره الغزنوي‏.‏ وتبديل السماء تكوير شمسها وقمرها، وتناثر نجومها؛ قال ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ اختلاف أحوالها، فمرة كالمهل ومرة كالدهان؛ حكاه ابن الأنباري؛ وقد ذكرنا هذا الباب مبينا في كتاب ‏{‏التذكرة‏}‏ وذكرنا ما للعلماء في ذلك، وأن الصحيح إزالة هذه الأرض حسب ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ روى مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه حبر من أحبار اليهود فقال‏:‏ السلام عليك؛ وذكر الحديث، وفيه‏:‏ فقال اليهودي أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏في الظلمة دون الجسر‏)‏‏.‏ وذكر الحديث‏.‏ وخرج عن عائشة قالت‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات‏}‏ فأين الناس يومئذ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏على الصراط‏)‏‏.‏ خرجه ابن ماجة بإسناد مسلم سواء، وخرجه الترمذي عن عائشة وأنها هي لسائلة، قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح؛ فهذه الأحاديث تنص على أن السماوات والأرض تبدل وتزال، ويخلق الله أرضا أخرى يكون الناس عليها بعد كونهم على الجسر‏.‏ وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد‏)‏‏.‏ وقال جابر‏:‏ سألت أبا جعفر محمد بن علي عن قول الله عز وجل‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض‏}‏ قال‏:‏ تبدل خبرة يأكل منها الخلق يوم القيامة، ثم قرأ‏{‏وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام‏}‏الأنبياء‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ إنه تبدل بأرض غيرها بيضاء كالفضة لم يعمل عليها خطيئة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ بأرض من فضة بيضاء‏.‏ وقال علي رضي الله عنه‏:‏ تبدل الأرض يومئذ من فضة والسماء من ذهب وهذا تبديل للعين، وحسبك‏.‏ ‏}‏وبرزوا لله الواحد القهار‏}‏ أي من قبورهم، وقد تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 49 ‏)‏

‏{‏وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد‏}‏

قوله تعالى‏{‏وترى المجرمين‏}‏ وهم المشركون‏.‏ ‏}‏يومئذ‏}‏ أي يوم القيامة‏.‏ ‏}‏مقرنين‏}‏ أي مشدودين ‏}‏في الأصفاد‏}‏ وهي الأغلال والقيود، وأحدها صفد وصفد‏.‏ ويقال‏:‏ صفدته صفدا أي قيدته والاسم الصفد، فإذا أردت التكثير قلت‏:‏ صفدته تصفيدا؛ قال عمرو بن كلثوم‏:‏

فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا

أي مقيدينا‏.‏ وقال حسان‏:‏

من كل مأسور يشد صفاده صقر إذا لاقى الكريهة حام

أي غله، وأصفدته إصفادا أعطيته‏.‏ وقيل‏:‏ صفدته وأصفدته جاريان في القيد والإعطاء جميعا؛ قال النابغة‏:‏

فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد

فالصفد العطاء؛ لأنه يقيد ويعبد، قال أبو الطيب‏:‏

وقيدت نفسي في ذراك محبة ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا

قيل‏:‏ يقرن كل كافر مع شيطان في غل، بيانه قوله‏{‏احشروا الذين ظلموا وأزواجهم‏}‏الصافات‏:‏ 22‏]‏ يعني قرناءهم من الشياطين‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم الكفار يجمعون في الأصفاد كما اجتمعوا في الدنيا على المعاصي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 50 ‏)‏

‏{‏سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار‏}‏

قوله تعالى‏{‏سرابيلهم من قطران‏}‏ أي قميصهم، عن ابن دريد وغيره، واحدها سربال، والفعل تسربلت وسربلت غيري؛ قال كعب بن مالك‏:‏

تلقاكم عصب حول النبي لهم من نسج داود في الهيجا سرابيل

‏{‏من قطران‏}‏ يعني قطران الإبل الذي تهنأ به؛ قال الحسن‏.‏ وذلك أبلغ لاشتعال النار فيهم‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من فطران ودرع من جرب‏.‏ وروي عن حماد أنهم قالوا‏:‏ هو النحاس‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر‏{‏قطران‏}‏ بفتح القاف وتسكين الطاء‏.‏ وفيه قراءة ثالثة‏:‏ كسر القاف وجزم الطاء؛ ومنه قول أبي النجم‏:‏

جون كان العرق المنتوحا لبسه القطران والمسوحا

وقراءة رابعة‏{‏من قطران‏}‏ رويت عن ابن عباس وأبي هريرة وعكرمة وسعيد بن جبير ويعقوب؛ والقطر النحاس والصفر المذاب؛ ومنه قوله تعالى‏{‏آتوني أفرغ عليه قطرا‏}‏الكهف‏:‏ 96‏]‏‏.‏ والآن‏:‏ الذي قد انتهى إلى حره؛ ومنه قوله تعالى‏{‏وبين حميم آن‏}‏‏.‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 44‏]‏‏.‏ ‏}‏وتغشى وجوههم النار‏}‏ أي تضرب ‏}‏وجوههم النار‏}‏ فتغشيها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 51 ‏)‏

‏{‏ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ليجزي الله كل نفس ما كسبت‏}‏ أي بما كسبت‏.‏ ‏}‏إن الله سريع الحساب‏}‏ تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏

‏{‏هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب‏}‏

قوله تعالى‏{‏هذا بلاغ للناس‏}‏ أي هذا الذي أنزلنا إليك بلاغ؛ أي تبليغ وعظة‏.‏ ‏}‏ولينذروا به‏}‏ أي ليخوفوا عقاب الله عز وجل، وقرئ‏.‏ ‏}‏ولينذروا‏}‏ بفتح الياء والذال، يقال‏:‏ نذرت بالشيء أنذر إذا علمت به فاستعددت له، ولم يستعملوا منه مصدرا كما لم يستعملوا من عسى وليس، وكأنهم استغنوا بأن والفعل كقولك‏:‏ سرني أن نذرت بالشيء‏.‏ ‏}‏وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب‏}‏ أي وليعلموا وحدانية الله بما أقام من الحجج والبراهين‏.‏ ‏}‏وليذكر أولو الألباب‏}‏ أي وليتعظ أصحاب العقول‏.‏ وهذه اللامات في ‏}‏ولينذروا‏}‏ ‏}‏وليعلموا‏}‏ ‏}‏وليذكر‏}‏ متعلقة بمحذوف، التقدير‏:‏ ولذلك أنزلناه‏.‏ وروي يمان بن رئاب أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏ وسئل بعضهم هل لكتاب الله عنوان‏؟‏ فقال‏:‏ نعم؛ قيل‏:‏ وأين هو‏؟‏ قال قوله تعالى‏{‏هذا بلاغ للناس ولينذروا به‏}‏ إلى آخرها‏.‏ تم تفسير سورة إبراهيم عليه السلام والحمد لله‏.‏
 
سورة الحجر

الآية رقم ‏(‏ 1 ‏)‏

‏{‏الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين‏}‏

تقدم معناه‏.‏ و‏}‏الكتاب‏}‏ قيل فيه‏:‏ إنه اسم لجنس الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل، ثم قرنهما بالكتاب المبين‏.‏ وقيل‏:‏ الكتاب هو القرآن، جمع له بين الاسمين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 2 ‏)‏

‏{‏ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين‏}‏

‏{‏رب‏}‏ لا تدخل على الفعل، فإذا لحقتها ‏}‏ما‏}‏ هيأتها للدخول على الفعل تقول‏:‏ ربما قام زيد، وربما يقوم زيد‏.‏ ويجوز أن تكون ‏}‏ما‏}‏ نكرة بمعنى شيء، و‏}‏يود‏}‏ صفة له؛ أي رب شيء يود الكافر‏.‏ وقرأ نافع وعاصم ‏}‏ربما‏}‏ مخفف الباء‏.‏ الباقون مشددة، وهما لغتان‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ أهل الحجاز يخففون ربما؛ قال الشاعر‏:‏

ربَّما ضربة بسيف صقيل بين بصرى وطعنة نجلاء

وتميم وقيس وربيعة يثقلونها‏.‏ وحكي فيها‏:‏ رَبَّمَا ورَبَمَا، ورُّبَّتَمَا ورُّبَتَمَا، بتخفيف الباء وتشديدها أيضا‏.‏ وأصلها أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير؛ أي يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين؛ قاله الكوفيون‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

ألا ربما أهدت لك العين نظرة قصاراك منها أنها عنك لا تجدي

وقال بعضهم‏:‏ هي للتقليل في هذا الموضع؛ لأنهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها؛ لشغلهم بالعذاب، والله أعلم‏.‏ قال‏{‏ربما يود‏}‏ وهي إنما تكون لما وقع؛ لأنه لصدق الوعد كأنه عيان قد كان‏.‏ وخرج الطبراني أبو القاسم من حديث جابر بن عبدالله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن ناسا من أمتي يدخلون النار بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم تخالفونا فيه من تصديقكم وإيمانكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله من النار - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - ‏}‏ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين‏}‏‏)‏‏.‏ قال الحسن‏}‏ إذا رأى المشركون المسلمين وقد دخلوا الجنة ومأواهم في النار تمنوا أنهم كانوا مسلمين‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هذا التمني إنما هو عند المعاينة في الدنيا حين تبين لهم الهدي من الضلالة‏.‏ وقيل‏:‏ في القيامة إذا رأوا كرامة المؤمنين وذل الكافرين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 3 ‏)‏

‏{‏ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذرهم يأكلوا ويتمتعوا‏}‏ تهديد لهم‏.‏ ‏}‏ويلههم الأمل‏}‏ أي يشغلهم عن الطاعة‏.‏ يقال‏:‏ ألهاه عن كذا أي شغله‏.‏ ولهي هو عن الشيء يلهى‏.‏ ‏}‏فسوف يعلمون‏}‏ إذا رأوا القيامة وذاقوا وبال ما صنعوا‏.‏ وهذه الآية منسوخة بالسيف‏.‏

في مسند البزار عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أربعة من الشقاء جمود العين وقساوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا‏)‏‏.‏ وطول الأمل داء عضال ومرض مزمن، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه واشتد علاجه، ولم يفارقه داء ولا نجح فيه دواء، بل أعيا الأطباء ويئس من برئه الحكماء والعلماء‏.‏ وحقيقة الأمل‏:‏ الحرص على الدنيا والانكباب عليها، والحب لها والإعراض عن الآخرة‏.‏ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ويهلك أخرها بالبخل والأمل‏)‏‏.‏ ويروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قام على درج مسجد دمشق فقال‏:‏ ‏(‏يا أهل دمشق، ألا تسمعون من أخ لكم ناصح، إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيرا ويبنون مشيدا ويأملون بعيدا، فأصبح جمعهم بورا وبنيانهم قبورا وأملهم غرورا‏.‏ هذه عاد قد ملأت البلاد أهلا ومالا وخيلا ورجالا، فمن يشتري مني اليوم تركتهم بدرهمين‏!‏ وأنشد‏:‏

يا ذا المؤمل أمالا وإن بعدت منه ويزعم أن يحظى بأقصاها

أنى تفوز بما ترجوه ويك وما أصبحت في ثقة من نيل أدناها

وقال الحسن‏:‏ ‏(‏ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل‏)‏‏.‏ وصدق رضي الله عنه‏!‏ فالأمل يكسل عن العمل ويورث التراخي والتواني، ويعقب التشاغل والتقاعس، ويخلد إلى الأرض ويميل إلى الهوى‏.‏ وهذا أمر قد شوهد بالعيان فلا يحتاج إلى بيان ولا يطلب صاحبه ببرهان؛ كما أن قصر الأمل يبعث على العمل، ويحيل على المبادرة، ويحث على المسابقة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 4 ‏)‏

‏{‏وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم‏}‏

أي أجل مؤقت كتب لهم في اللوح المحفوظ‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 5 ‏)‏

‏{‏ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون‏}‏

‏{‏من‏}‏ صلة؛ كقولك‏:‏ ما جاءني من أحد‏.‏ أي لا تتجاوز أجلها فتزيد عليه، ولا تتقدم قبله‏.‏ ونظيره قوله تعالى‏{‏فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏الأعراف‏:‏ 34‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 6 ‏:‏ 7 ‏)‏

‏{‏وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين‏}‏

قاله كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم على وجهة الاستهزاء، ثم طلبوا منه إتيان الملائكة دلالة على صدقه‏.‏ و‏}‏لوما‏}‏ تحضيض على الفعل كلولا وهلا‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الميم في ‏}‏لوما‏}‏ بدل من اللام في لولا‏.‏ ومثله استولى على الشيء واستومى عليه، ومثله خالمته وخاللته، فهو خلي وخلمي؛ أي صديقي‏.‏ وعلى هذا يجوز ‏}‏لوما‏}‏ بمعنى الخبر، تقول‏:‏ لوما زيد لضرب عمرو‏.‏ قال الكسائي‏:‏ لولا ولوما سواء في الخبر والاستفهام‏.‏

قال ابن مقبل‏:‏

لوما الحياء ولوما الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عَوَري

يريد لولا الحياء‏.‏ وحكى النحاس لوما ولولا وهلا واحد‏.‏ وأنشد أهل اللغة على ذلك‏:‏

تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا

أي هلا تعدون الكمي المقنعا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 8 ‏)‏

‏{‏ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين‏}‏

قرأ حفص وحمزة والكسائي ‏}‏ما ننزل الملائكة إلا بالحق‏}‏ واختاره أبو عبيد‏.‏ وقرأ أبو بكر والمفضل ‏}‏ما تُنَزَّل الملائكة‏}‏‏.‏ الباقون ‏}‏ما يَنَزَّل الملائكة‏}‏ وتقديره‏:‏ ما تتنزل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا، وقد شدد التاء البزي، واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله‏{‏تنزل الملائكة والروح‏}‏القدر‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ومعنى ‏}‏إلا بالحق‏}‏ إلا بالقرآن‏.‏ وقيل بالرسالة؛ عن مجاهد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إلا بالعذاب إن لم يؤمنوا‏.‏ ‏}‏وما كانوا إذا منظرين‏}‏ أي لو تنزلت الملائكة بإهلاكهم لما أمهلوا ولا قبلت لهم توبة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لو تنزلت الملائكة تشهد لك فكفروا بعد ذلك لم ينظروا‏.‏ وأصل ‏}‏إذا‏}‏ إذ أن - ومعناه حينئذ - فضم إليها أن، واستثقلوا الهمزة فحذفوها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 9 ‏)‏

‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذكر‏}‏ يعني القرآن‏.‏ ‏}‏وإنا له لحافظون‏}‏ من أن يزاد فيه أو ينقص منه‏.‏ قال قتادة وثابت البناني‏:‏ حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلا أو تنقص منه حقا؛ فتولى سبحانه حفظه فلم يزل محفوظا، وقال في غيره‏{‏بما استحفظوا‏}‏المائدة‏:‏ 44‏]‏، فوكل حفظه إليهم فبدلوا وغيروا‏.‏ أنبأنا الشيخ الفقيه الإمام أبو القاسم عبدالله عن أبيه الشيخ الفقيه الإمام المحدث أبي الحسن علي بن خلف بن معزوز الكومي التلمساني قال‏:‏ قرئ على الشيخة العالمة فخر النساء شهدة بنت أبي نصر أحمد بن الفرج الدينوري وذلك بمنزلها بدار السلام في آخر جمادى الآخرة من سنة أربع وستين وخمسمائة، قيل لها‏:‏ أخبركم الشيخ الأجل العامل نقيب النقباء أبو الفوارس طراد بن محمد الزيني قراءة عليه وأنت تسمعين سنة تسعين وأربعمائة، أخبرنا علي بن عبدالله بن إبراهيم حدثنا أبو علي عيسى بن محمد بن أحمد بن عمر بن عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج المعروف بالطوماري حدثنا الحسين بن فهم قال‏:‏ سمعت يحيى بن أكثم يقول‏:‏ كان للمأمون - وهو أمير إذ ذاك - مجلس نظر، فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب حسن الوجه طيب الرائحة، قال‏:‏ فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، قال‏:‏ فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال له‏:‏ إسرائيلي‏؟‏ قال نعم‏.‏ قال له‏:‏ أسلم حتى أفعل بك وأصنع، ووعده‏.‏ فقال‏:‏ ديني ودين آبائي‏!‏ وانصرف‏.‏ قال‏:‏ فلما كان بعد سنة جاءنا مسلما، قال‏:‏ فتكلم على الفقه فأحسن الكلام؛ فلما تقوض المجلس دعاه المأمون وقال‏:‏ ألست صاحبنا بالأمس‏؟‏ قال له‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فما كان سبب إسلامك‏؟‏ قال‏:‏ انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنت تراني حسن الخط، فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني، وعمدت إلى الإنجيل فكتب نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة فاشتريت مني، وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها؛ فعلمت أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي‏.‏ قال يحيى بن أكثم‏:‏ فحججت تلك السنة فلقيت سفيان بن عيينة فذكرت له الخبر فقال لي‏:‏ مصداق هذا في كتاب الله عز وجل‏.‏ قال قلت‏:‏ في أي موضع‏؟‏ قال‏:‏ في قول الله تبارك وتعالى في التوراة والإنجيل‏{‏بما استحفظوا من كتاب الله‏}‏المائدة‏:‏ 44‏]‏، فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عز وجل‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ فحفظه الله عز وجل علينا فلم يضع‏.‏ وقيل‏{‏وإنا له لحافظون‏}‏ أي لمحمد صلى الله عليه وسلم من أن يتقول علينا أو نتقول عليه‏.‏ أو ‏}‏وإنا له لحافظون‏}‏ من أن يكاد أو يقتل‏.‏ نظيره ‏}‏والله يعصمك من الناس‏}‏المائدة‏:‏ 67‏]‏‏.‏ و‏}‏نحن‏}‏ يجوز أن يكون موضعه رفعا بالابتداء و‏}‏نزلنا‏}‏ الخبر‏.‏ والجملة خبر ‏}‏إن‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏نحن‏}‏ تأكيدا لاسم ‏}‏إن‏}‏ في موضع نصب، ولا تكون فاصلة لأن الذي بعدها ليس بمعرفة وإنما هو جملة، والجمل تكون نعوتا للنكرات فحكمها حكم النكرات‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 10 ‏)‏

‏{‏ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين‏}‏

المعنى‏:‏ ولقد أرسلنا من قبلك رسلا، فحذف‏.‏ والشيع جمع شيعة وهي الأمة، أي في أممهم؛ قاله ابن عباس وقتادة‏.‏ الحسن‏:‏ في فرقهم‏.‏ والشيعة‏:‏ الفرقة والطائفة من الناس المتآلفة المتفقة الكلمة‏.‏ فكأن الشيع الفرق؛ ومنه قوله تعالى‏{‏أو يلبسكم شيعا‏}‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وأصله مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار يوقد به الكبار - كما تقدم في ‏}‏الأنعام‏}‏‏.‏ - وقال الكلبي‏:‏ إن الشيع هنا القرى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 11 ‏)‏

‏{‏وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون‏}‏

تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي كما فعل بك هؤلاء المشركون فكذلك فعل بمن قبلك من الرسل‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 12 ‏:‏ 13 ‏)‏

‏{‏كذلك نسلكه في قلوب المجرمين، لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين‏}‏

قوله تعالى‏{‏كذلك نسلكه‏}‏ أي الضلال والكفر والاستهزاء والشرك‏.‏ ‏}‏في قلوب المجرمين‏}‏ من قومك؛ عن الحسن وقتادة وغيرهما‏.‏ أي كما سلكناه في قلوب من تقدم من شيع الأولين كذلك نسلكه في قلوب مشركي قومك حتى لا يؤمنوا بك، كما لم يؤمن من قبلهم برسلهم‏.‏ وروى ابن جريج عن مجاهد قال‏:‏ نسلك التكذيب‏.‏ والسلك‏:‏ إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط‏.‏ يقال‏:‏ سلكه يسلكه سلكا وسلوكا، وأسلكه إسلاكا‏.‏ وسلك الطريق سلوكا وسلكا وأسلكه دخله، والشيء في غيره مثله، والشيء كذلك والرمح، والخيط في الجوهر؛ كله فعل وأفعل‏.‏ وقال عدي بن زيد‏:‏

وقد سلكوك في يوم عصيب

والسلك ‏(‏بالكسر‏)‏ الخيط‏.‏ وفي الآية رد على القدرية والمعتزلة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى نسلك القرآن في قلوبهم فيكذبون به‏.‏ وقال الحسن ومجاهد وقتادة القول الذي عليه أكثر أهل التفسير، وهو ألزم حجة على المعتزلة‏.‏ وعن الحسن أيضا‏:‏ نسلك الذكر إلزاما للحجة؛ ذكره الغزنوي‏.‏ ‏}‏وقد خلت سنة الأولين‏}‏ أي مضت سنة الله بإهلاك الكفار، فما أقرب هؤلاء من الهلاك‏.‏ وقيل‏{‏خلت سنة الأولين‏}‏ بمثل ما فعل هؤلاء من التكذيب والكفر، فهم يقتدون بأولئك‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 14 ‏:‏ 15 ‏)‏

‏{‏ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون‏}‏

يقال‏:‏ ظل يفعل كذا، أي يفعله بالنهار‏.‏ والمصدر الظلول‏.‏ أي لو أجيبوا إلى ما اقترحوا من الآيات لأصروا على الكفر وتعللوا بالخيالات؛ كما قالوا للقرآن المعجز‏:‏ إنه سحر‏.‏ ‏}‏يعرجون‏}‏ من عرج يعرج أي صعد‏.‏ والمعارج المصاعد‏.‏ أي لو صعدوا إلى السماء وشاهدوا الملكوت والملائكة لأصروا على الكفر؛ عن الحسن وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في ‏}‏عليهم‏}‏ للمشركين‏.‏ وفي ‏}‏فظلوا‏}‏ للملائكة، تذهب وتجيء‏.‏ أي لو كشف لهؤلاء حتى يعاينوا أبوابا في السماء تصعد فيها الملائكة وتنزل لقالوا‏:‏ رأينا بأبصارنا ما لا حقيقة له؛ عن ابن عباس وقتادة‏.‏ ومعنى ‏}‏سكرت‏}‏ سدت بالسحر؛ قاله ابن عباس والضحاك‏.‏ وقال الحسن‏:‏ سحرت‏.‏ الكلبي‏:‏ أغشيت أبصارنا؛ وعنه أيضا عميت‏.‏ قتادة‏:‏ أخذت‏.‏ وقال المؤرج‏:‏ دير بنا من الدوران؛ أي صارت أبصارنا سكرى‏.‏ جويبر‏:‏ خدعت‏.‏ وقال أبو عمرو بن العلاء‏{‏سكرت‏}‏ غشيت وغطيت‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

وطلعت شمس عليها مغفر وجعلت عين الحرور تسكر

وقال مجاهد‏{‏سكرت‏}‏ حبست‏.‏ ومنه قول أوس بن حجر‏:‏

فصرت على ليلة ساهره فليست بطلق ولا ساكره

قلت‏:‏ وهذه أقوال متقاربة يجمعها قولك‏:‏ منعت‏.‏ قال ابن عزيز‏{‏سكرت أبصارنا‏}‏ سدت أبصارنا؛ هو من قولك، سكرت النهر إذا سددته‏.‏ ويقال‏:‏ هو من سكر الشراب، كأن العين يلحقها ما يلحق الشارب إذا سكر‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏}‏سكرت‏}‏ بالتخفيف، والباقون بالتشديد‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ سكرت ملئت‏.‏ قال المهدوي‏:‏ والتخفيف والتشديد في ‏}‏سكرت‏}‏ ظاهران، التشديد للتكثير والتخفيف يؤدي عن معناه‏.‏ والمعروف أن ‏}‏سكر‏}‏ لا يتعدى‏.‏ قال أبو علي‏:‏ يجوز أن يكون سمع متعديا في البصر‏.‏ ومن قرأ ‏}‏سكرت‏}‏ فإنه شبه ما عرض لأبصارهم بحال السكران، كأنها جرت مجرى السكران لعدم تحصيله‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه بالتخفيف (1)‏ سكر الشراب، وبالتشديد أخذت، ذكرهما الماوردي‏.‏ وقال النحاس‏:‏ والمعروف من قراءة مجاهد والحسن ‏}‏سكرت‏}‏ بالتخفيف‏.‏ قال الحسن‏:‏ أي سحرت وحكى أبو عبيد عن أبي عبيدة أنه يقال‏:‏ سحرت أبصارهم إذا غشيها سمادير حتى لا يبصروا‏.‏ وقال الفراء‏:‏ من قرأ ‏}‏سكرت‏}‏ أخذه من سكور الريح‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذه الأقوال متقاربة‏.‏ والأصل فيها ما قال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله تعالى، قال‏:‏ هو من السكر في الشراب‏.‏ وهذا قول حسن؛ أي غشيهم ما غطى أبصارهم كما غشي السكران ما غطى عقله‏.‏ وسكور الريح سكونها وفتورها؛ فهو يرجع إلى معنى التحيير‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 16 ‏)‏

‏{‏ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين‏}‏

لما ذكر كفر الكافرين وعجز أصنامهم ذكر كمال قدرته ليستدل بها على وحدانيته‏.‏ والبروج‏:‏ القصور والمنازل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أي جعلنا في السماء بروج الشمس والقمر؛ أي منازلهما‏.‏ وأسماء هذه البروج‏:‏ الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت‏.‏ والعرب تعد المعرفة لمواقع النجوم وأبوابها من أجل العلوم، ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب‏.‏ وقالوا‏:‏ الفلك اثنا عشر برجا، كل برج ميلان ونصف‏.‏ وأصل البروج الظهور ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في النساء‏.‏ وقال الحسن وقتادة‏:‏ البروج النجوم، وسميت بذلك لظهورها‏.‏ وارتفاعها‏.‏ وقيل‏:‏ الكواكب العظام؛ قال أبو صالح‏:‏ يعني السبعة السيارة‏.‏ وقال قوم‏{‏بروجا‏}‏؛ أي قصورا وبيوتا فيها الحرس، خلقها الله في السماء‏.‏ فالله أعلم‏.‏ ‏}‏وزيناها‏}‏ يعني السماء؛ كما قال في سورة الملك‏{‏ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح‏}‏الملك‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ‏}‏للناظرين‏}‏ للمعتبرين والمتفكرين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 17 ‏)‏

‏{‏وحفظناها من كل شيطان رجيم‏}‏

أي مرجوم‏.‏ والرجم الرمي بالحجارة‏.‏ وقيل‏:‏ الرجم اللعن والطرد‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ كل رجيم في القرآن فهو بمعنى الشتم‏.‏ وزعم الكلبي أن السماوات كلها لم تحفظ من الشياطين إلى زمن عيسى، فلما بعث الله تعالى عيسى حفظ منها ثلاث سماوات إلى مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفظ جميعها بعد بعثه وحرست منهم بالشهب‏.‏ وقاله ابن عباس رضي الله عنه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏وقد كانت الشياطين لا يحجبون عن السماء، فكانوا يدخلونها ويلقون أخبارها على الكهنة، فيزيدون عليها تسعا فيحدثون بها أهل الأرض؛ الكلمة حق والتسع باطل؛ فإذا رأوا شيئا مما قالوه صدقوهم فيما جاؤوا به، فلما ولد عيسى بن مريم عليهما السلام منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلها، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب؛ على ما يأتي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 18 ‏)‏

‏{‏إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين‏}‏

أي لكن من استرق السمع، أي الخطفة اليسيرة، فهو استثناء منقطع‏.‏ وقيل، هو متصل، أي إلا ممن استرق السماع‏.‏ أي حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئا من الوحي وغيره؛ إلا من استرق السمع فإنا لم نحفظها منه أن تسمع الخبر من أخبار السماء سوى الوحي، فأما الوحي فلا تسمع منه شيئا؛ لقوله‏{‏إنهم عن السمع لمعزولون‏}‏الشعراء‏:‏ 212‏]‏‏.‏ وإذا استمع الشياطين إلى شيء ليس بوحي فإنهم يقذفونه إلى الكهنة في أسرع من طرفة عين، ثم تتبعهم الشهب فتقتلهم أو تخبلهم؛ ذكره الحسن وابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأتبعه شهاب مبين‏}‏ أتبعه‏:‏ أدركه ولحقه‏.‏ شهاب‏:‏ كوكب مضيء‏.‏ وكذلك شهاب ثاقب‏.‏ وقوله‏{‏بشهاب قبس‏}‏النمل‏:‏ 7‏]‏ بشعلة نار في رأس عود؛ قاله ابن عزيز‏.‏ وقال ذو الرمة‏:‏

كأنه كوكب في إثر عفرية مسوم في سواد الليل منقضب

وسمي الكوكب شهابا لبريقه، يشبه النار‏.‏ وقيل‏:‏ شهاب لشعلة من نار، قبس لأهل الأرض، فتحرقهم ولا تعود إذا أحرقت كما إذا أحرقت النار لم تعد، بخلاف الكوكب فإنه إذا أحرق عاد إلى مكانه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع فينفرد المارد منها فيعلو، فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو أنفه أو ما شاء الله فيلتهب، فيأتي أصحابه وهو يلتهب فيقول‏:‏ إنه كان من الأم كذا وكذا، فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة فيزيدون عليها تسعا، فيحدثون بها أهل الأرض؛ الكلمة حق والتسع باطل‏.‏ فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بكل ما جاؤوا به من كذبهم‏.‏ وسيأتي هذا المعنى مرفوعا في سورة ‏}‏سبأ‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

واختلف في الشهاب هل يقتل أم لا‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ الشهاب يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل‏.‏ وقال الحسن وطائفة‏:‏ يقتل؛ فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم؛ فعلى هذا لا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء، ولذلك انقطعت الكهانة‏.‏ والثاني‏:‏ أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن؛ ولذلك ما يعودون إلى استراقه، ولو لم يصل لانقطع الاستراق وانقطع الإحراق؛ ذكره الماوردي

قلت‏:‏ والقول الأول أصح على ما يأتي بيانه في ‏}‏الصافات‏}‏‏.‏ واختلف هل كان رمي بالشهب قبل المبعث؛ فقال الأكثرون نعم‏.‏ وقيل لا، وإنما ذلك بعد المبعث‏.‏ وسيأتي بيان هذه المسألة في سورة ‏}‏الجن‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وفي ‏}‏الصافات‏}‏ أيضا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والرمي بالشهب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم مما حدث بعد مولده؛ لأن الشعراء في القديم لم يذكروه في أشعارهم، ولم يشبهوا الشيء السريع به كما شبهوا بالبرق وبالسيل‏.‏ ولا يبعد أن يقال‏:‏ انقضاض الكواكب كان في قديم الزمان ولكنه لم يكن رجوما للشياطين، ثم صار رجوما حين ولد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال العلماء‏:‏ نحن نرى انقضاض الكواكب، فيجوز أن يكون ذلك كما نرى ثم يصير نارا إذا أدرك الشيطان‏.‏ ويجوز أن يقال‏:‏ يرمون بشعلة من نار من الهوى فيخيل إلينا أنه نجم سرى‏.‏ والشهاب في اللغة النار الساطعة‏.‏ وذكر أبو داود عن عامر الشعبي قال‏:‏ لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجمت الشياطين بنجوم لم تكن ترجم بها قبل، فأتوا عبد ياليل بن عمرو الثقفي فقالوا‏:‏ إن الناس قد فزعوا وقد أعتقوا رقيقهم وسيبوا أنعامهم لما رأوا في النجوم‏.‏ فقال لهم - وكان رجلا أعمى - ‏:‏ لا تعجلوا، وانظروا فإن كانت النجوم التي تعرف فهي عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهي من حدث‏.‏ فنظروا فإذا هي نجوم لا تعرف، فقالوا‏:‏ هذا من حدث‏.‏ فلم يلبثوا حتى سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 19 ‏:‏ 20 ‏)‏

‏{‏والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏والأرض مددناها‏}‏ هذا من نعمه أيضا، ومما يدل على كمال قدرته‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ بسطناها على وجه الماء؛ كما قال‏{‏والأرض بعد ذلك دحاها‏}‏النازعات‏:‏ 30‏]‏ أي بسطها‏.‏ وقال‏{‏والأرض فرشناها فنعم الماهدون‏}‏الذاريات‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وهو يرد على من زعم أنها كالكرة‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏وألقينا فيها رواسي‏}‏ جبالا ثابتة لئلا تتحرك بأهلها‏.‏ ‏}‏وأنبتنا فيها من كل شيء موزون‏}‏ أي مقدر معلوم؛ قاله ابن عباس وسعيد بن جبير‏.‏ وإنما قال ‏}‏موزون‏}‏ لأن الوزن يعرف به مقدار الشيء‏.‏ قال الشاعر‏:‏

قد كنت قبل لقائكم ذا مِرَّة عندي لكل مخاصم ميزانه

وقال قتادة‏:‏ موزون يعني مقسوم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ موزون معدود؛ ويقال‏:‏ هذا كلام موزون؛ أي منظوم غير منتثر‏.‏ فعلى هذا أي أنبتنا في الأرض ما يوزن من الجواهر والحيوانات والمعادن‏.‏ وقد قال الله عز وجل في الحيوان‏{‏وأنبتها نباتا حسنا‏}‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏‏.‏ والمقصود من الإنبات الإنشاء والإيجاد‏.‏ وقيل‏{‏أنبتنا فيها‏}‏ أي في الجبال ‏}‏من كل شيء موزون‏}‏ من الذهب والفضة والنحاس والرصاص والقصدير، حتى الزرنيخ والكحل، كل ذلك يوزن وزنا‏.‏ روي معناه عن الحسن وابن زيد‏.‏ وقيل‏:‏ أنبتنا في الأرض الثمار مما يكال ويوزن‏.‏ وقيل‏:‏ ما يوزن فيه الأثمان لأنه أجل قدرا وأعم نفعا مما لا ثمن له‏.‏ ‏}‏وجعلنا لكم فيها معايش‏}‏ يعني المطاعم والمشارب التي يعيشون بها؛ واحدها معيشة ‏(‏بسكون الياء‏)‏‏.‏ ومنه قول جرير‏:‏

تكلفني معيشة آل زيد ومن لي بالمرقق والصناب

والأصل معيشة على مفعلة ‏(‏بتحريك الياء‏)‏‏.‏ وقد تقدم في الأعراف‏.‏ وقيل‏:‏ إنها الملابس؛ قاله الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ إنها التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة‏.‏ قال الماوردي‏:‏ وهو الظاهر‏.‏ ‏}‏ومن لستم له برازقين‏}‏ يريد الدواب والأنعام؛ قاله مجاهد‏.‏ وعنده أيضا هم العبيد والأولاد الذين قال الله فيهم‏{‏نحن نرزقهم وإياكم‏}‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏ ولفظ ‏}‏من‏}‏ يجوز أن يتناول العبيد والدواب إذا اجتمعوا؛ لأنه إذا اجتمع من يعقل وما لا يعقل، غلب من يعقل‏.‏ أي جعلنا لكم فيها معايش وعبيدا وإماء ودواب وأولادا نرزقهم ولا ترزقونهم‏.‏ فـ ‏}‏من‏}‏ على هذا التأويل في موضع نصب؛ قال معناه مجاهد وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ أراد به الوحش‏.‏ قال سعيد‏:‏ قرأ علينا منصور ‏}‏ومن لستم له برازقين‏}‏ قال‏:‏ الوحش‏.‏ فـ ‏}‏من‏}‏ على هذا تكون لما لا يعقل؛ مثل ‏}‏فمنهم من يمشي على بطنه‏}‏النور‏:‏ 45‏]‏ الآية‏.‏ وهي في محل خفض عطفا على الكاف والميم في قوله‏{‏لكم‏}‏‏.‏ وفيه قبح عند البصريين؛ فإنه لا يجوز عندهم عطف الظاهر على المضمر إلا بإعادة حرف الجر؛ مثل مررت به ويزيد‏.‏ ولا يجوز مررت به وزيد إلا في الشعر‏.‏ كما قال‏:‏

فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب

وقد مضى هذا المعنى في ‏}‏البقرة‏}‏ وسورة ‏}‏النساء‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 21 ‏)‏

‏{‏وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن من شيء إلا عندنا خزائنه‏}‏ أي وإن من شيء من أرزاق الخلق ومنافعهم إلا عندنا خزائنه؛ يعني المطر المنزل من السماء، لأن به نبات كل شيء‏.‏ قال الحسن‏:‏ المطر خزائن كل شيء‏.‏ وقيل‏:‏ الخزائن المفاتيح، أي في السماء مفاتيح الأرزاق؛ قاله الكلبي‏.‏ والمعنى واحد‏.‏ ‏}‏وما ننزله إلا بقدر معلوم‏}‏ أي ولكن لا ننزله إلا على حسب مشيئتنا وعلى حسب حاجة الخلق إليه؛ كما قال‏{‏ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء‏}‏الشورى‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وروي عن ابن مسعود والحكم بن عيينة وغيرهما أنه ليس عام أكثر مطرا من عام، ولكن الله يقسمه كيف شاء، فيمطر قوم ويحرم آخرون، وربما كان المطر‏.‏ في البحار والقفار‏.‏

والخزائن جمع الخزانة، وهو الموضع الذي يستر فيه الإنسان ماله والخزانة أيضا مصدر خزن يخزن‏.‏ وما كان في خزانة الإنسان كان معدا له‏.‏ فكذلك ما يقدر عليه الرب فكأنه معد عنده؛ قاله القشيري‏.‏ وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال‏:‏ في العرش مثال كل شيء خلقه الله في البر والبحر‏.‏ وهو تأويل قوله تعالى‏{‏وإن من شيء إلا عندنا خزائنه‏}‏‏.‏ والإنزال بمعنى الإنشاء والإيجاد؛ كقوله‏{‏وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج‏}‏ وقوله‏{‏وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد‏}‏الحديد‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ الإنزال بمعنى الإعطاء، وسماه إنزالا لأن أحكام الله إنما تنزل من السماء‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 22 ‏)‏

‏{‏وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأرسلنا الرياح‏}‏ قراءة العامة ‏}‏الرياح‏}‏ بالجمع‏.‏ وقرأ حمزة بالتوحيد؛ لأن معنى الريح الجمع أيضا وإن كان لفظها لفظ الواحد‏.‏ كما يقال‏:‏ جاءت الريح من كل جانب‏.‏ كما يقال‏:‏ أرض سباسب وثوب أخلاق‏.‏ وكذلك تفعل العرب في كل شيء اتسع‏.‏ وأما وجه قراءة العامة فلأن الله تعالى نعتها بـ ‏}‏لواقح‏}‏ وهي جمع‏.‏ ومعنى لواقح حوامل؛ لأنها تحمل الماء والتراب والسحاب والخير والنفع‏.‏ قال الأزهري‏:‏ وجعل الريح لاقحا لأنها تحمل السحاب؛ أي تقله وتصرفه ثم تمريه فتستدره، أي تنزله؛ قال الله تعالى‏{‏حتى إذا أقلت سحابا ثقالا‏}‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏ أي حملت‏.‏ وناقة لاقح ونوق لواقح إذا حملت الأجنة في بطونها‏.‏ وقيل‏:‏ لواقح بمعنى ملقحة وهو الأصل، ولكنها لا تلقح إلا وهي في نفسها لاقح، كأن الرياح لقحت بخير‏.‏ وقيل‏:‏ ذوات لقح، وكل ذلك صحيح؛ أي منها ما يلقح الشجر؛ كقولهم‏:‏ عيشة راضية؛ أي فيها رضا، وليل نائم؛ أي فيه نوم‏.‏ ومنها ما تأتي بالسحاب‏.‏ يقال‏:‏ لقحت الناقة ‏(‏بالكسر‏)‏ لقحا ولقاحا ‏(‏بالفتح‏)‏ فهي لاقح‏.‏ وألقحها الفحل أي ألقى إليها الماء فحملته؛ فالرياح كالفحل للسحاب‏.‏ قال الجوهري‏:‏ ورياح لواقح ولا يقال ملاقح، وهو من النوادر‏.‏ وحكى المهدوي عن أبي عبيدة‏:‏ لواقح بمعنى ملاقح، ذهب إلى أنه جمع ملقحة وملقح، ثم حذفت زوائده‏.‏ وقيل‏:‏ هو جمع لاقحة ولاقح، على معنى ذات اللقاح على النسب‏.‏ ويجوز أن يكون معنى لاقح حاملا‏.‏ والعرب تقول للجنوب‏:‏ لاقح وحامل، وللشمال حامل وعقيم‏.‏ وقال عبيد بن عمير‏:‏ يرسل الله المبشرة فتقم الأرض قما، ثم يرسل المثيرة فتثير السحاب، ثم يرسل المؤلفة فتؤلفه، ثم يبعث اللواقح فتلقح الشجر‏.‏ وقيل‏:‏ الريح الملاقح التي تحمل الندى فتمجه في السحاب، فإذا اجتمع فيه صار مطرا‏.‏ وعن أبي هريرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏الريح الجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح التي ذكرها الله في كتابه وفيها منافح للناس‏)‏‏.‏ وروي عنه عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏ما هبت جنوب إلا أنبع الله بها عينا غدقة‏)‏‏.‏ وقال أبو بكر بن عياش‏:‏ لا تقطر قطرة من السحاب إلا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيها؛ فالصبا تهيجه، والدبور تلقحه، والجنوب تدره، والشمال تفرقه‏.‏

روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب وابن عبدالحكم عن مالك - واللفظ لأشهب - قال مالك‏:‏ قال الله تعالى‏{‏وأرسلنا الرياح لواقح‏}‏ فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل، ولا أدري ما ييبس في أكمامه، ولكن يحبب حتى يكون لو يبس حينئذ لم يكن فساد الأخير فيه‏.‏ ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت ما يثبت، وليس ذلك بأن تورد‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ إنما عول مالك في هذا التفسير على تشبيه لقاح الشجر بلقاح الحمل، وأن الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه الروح كان بمنزلة تحبب الثمر وتسنبله؛ لأنه سمي باسم تشترك فيه كل حاملة وهو اللقاح، وعليه جاء الحديث ‏(‏نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد‏)‏‏.‏ قال ابن عبدالبر‏:‏ الإبار عند أهل العلم في النخل التلقيح، وهو أن يؤخذ شيء من طلع ‏(2) النخل فيدخل بين ظهراني طلع الإناث‏.‏ ومعنى ذلك في سائر الثمار طلوع الثمرة من التين وغيره حتى تكون الثمرة مرئية منظورا إليها‏.‏ والمعتبر عند مالك وأصحابه فيما يذكر من الثمار التذكير، وفيما لا يذكر أن يثبت من نواره ما يثبت ويسقط ما يسقط‏.‏ وحد ذلك في الزرع ظهوره من الأرض؛ قاله مالك‏.‏ وقد روي عنه أن إباره أن يحبب‏.‏ ولم يختلف العلماء أن الحائط إذا انشق طلع إناثه فأخر إباره وقد أبر غيره ممن حال مثل حاله، أن حكمه حكم ما أبر؛ لأنه قد جاء عليه وقت الإبار وثمرته ظاهرة بعد تغيبها في الحب‏.‏ فإن أبر بعض الحائط كان ما لم يؤبر تبعا له‏.‏ كما أن الحائط إذا بدا صلاحه كان سائر الحائط تبعا لذلك الصلاح في جواز بيعه‏.‏

روى الأئمة كلهم عن ابن عمر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع‏.‏ ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع‏)‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ إنما لم يدخل الثمر المؤبر مع الأصول في البيع إلا بالشرط؛ لأنه عين موجودة يحاط بها أمن سقوطها غالبا‏.‏ بخلاف التي لم تؤبر؛ إذ ليس سقوطها مأمونا فلم يتحقق لها وجود، فلم يجز للبائع اشتراطها ولا استثناؤها؛ لأنها كالجنين‏.‏ وهذا هو المشهور من مذهب مالك‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز استثناؤها؛ هو قول الشافعي‏.‏

لو اشتري النخل وبقي الثمر للبائع جاز لمشتري الأصل شراء الثمرة قبل طيبها على مشهور قول مالك، ويرى لها حكم التبعية وإن أفردت بالعقد‏.‏ وعنه في رواية‏:‏ لا يجوز‏.‏ وبذلك قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأهل الظاهر وفقهاء الحديث‏.‏ وهو الأظهر من أحاديث النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها‏.‏

ومما يتعلق بهذا الباب النهي عن بيع الملاقح؛ والملاقح الفحول من الإبل، الواحد ملقح‏.‏ والملاقح أيضا الإناث التي في بطونها أولادها، الواحدة ملقحة ‏(‏بفتح القاف‏)‏‏.‏ والملاقيح ما في بطون النوق من الأجنة، الواحدة ملقوحة؛ من قولهم‏:‏ لقحت؛ كالمحموم من حم، والمجنون من جن‏.‏ وفي هذا جاء النهي‏.‏ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه ‏(‏نهى عن المجر وهو بيع ما في بطون الإناث‏.‏ ونهى عن المضامين والملاقيح‏)‏‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ المضامين ما في البطون، وهي الأجنة‏.‏ والملاقيح ما في أصلاب الفحول‏.‏ وهو قول سعيد بن المسيب وغيره‏.‏ وقيل بالعكس‏:‏ إن المضامين ما في ظهور الجمال، والملاقيح ما في بطون الإناث‏.‏ وهو قول ابن حبيب وغيره‏.‏ وأي الأمرين كان، فعلماء المسلمين مجمعون على أن ذلك لا يجوز‏.‏ وذكر المزني عن ابن هشام شاهدا بأن الملاقيح ما في البطون لبعض الأعراب‏:‏

منيتي ملاقحا في الأبطن تنتج ما تلقح بعد أزمن

وذكر الجوهري على ذلك شاهدا قول الراجز‏:‏

إنا وجدنا طرد الهوامل خيرا من التنان والمسائل

وعدة العام وعام قابل ملقوحة في بطن ناب حامل

قوله تعالى‏{‏وأنزلنا من السماء‏}‏ أي من السحاب‏.‏ وكل ما علاك فأظلك يسمى سماء‏.‏ وقيل‏:‏ من جهة السماء‏.‏ ‏}‏ماء‏}‏ أي قطرا‏.‏ ‏}‏فأسقيناكموه‏}‏ أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم‏.‏ وقيل‏:‏ سقى وأسقى بمعنى‏.‏ وقيل بالفرق، وقد تقدم‏.‏ ‏}‏وما أنتم له بخازنين‏}‏ أي ليست خزائنه عندكم؛ أي نحن الخازنون لهذا الماء ننزله إذا شئنا ونمسكه إذا شئنا‏.‏ ومثله ‏}‏وأنزلنا من السماء ماء طهورا‏}‏الفرقان‏:‏ 48‏]‏، ‏}‏وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون‏}‏المؤمنون‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقال سفيان‏:‏ لستم بمانعين المطر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 23 ‏)‏

‏{‏وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون‏}‏

أي الأرض ومن عليها، ولا يبقى شيء سوانا‏.‏ نظيره ‏}‏إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون‏}‏مريم‏:‏ 40‏]‏‏.‏ فملك كل شيء لله تعالى‏.‏ ولكن ملك عباده أملاكا فإذا ماتوا انقطعت الدعاوى، فكان الله وارثا من هذا الوجه‏.‏ وقيل‏:‏ الإحياء في هذه الآية إحياء النطفة في الأرحام‏.‏ فأما البعث فقد ذكره بعد هذا في قوله‏{‏وإن ربك هو يحشرهم‏}‏الحجر‏:‏ 25‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 24 ‏)‏

‏{‏ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين‏}‏ فيه ثمان تأويلات‏{‏المستقدمين‏}‏ في الخلق إلى اليوم، و‏}‏المستأخرين‏}‏ الذين لم يخلقوا بعد؛ قاله قتادة وعكرمة وغيرهما‏.‏ الثاني - ‏}‏المستقدمين‏}‏ الأموات، و‏}‏المستأخرين‏}‏ الأحياء؛ قاله ابن عباس والضحاك‏.‏ الثالث‏{‏المستقدمين‏}‏ من تقدم أمة محمد، و‏}‏المستأخرين‏}‏ أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ قاله مجاهد‏.‏ الرابع - ‏}‏المستقدمين‏}‏ في الطاعة والخير، و‏}‏المستأخرين‏}‏ في المعصية والشر؛ قاله الحسن وقتادة أيضا‏.‏ الخامس - ‏}‏المستقدمين‏}‏ في صفوف الحرب، و‏}‏المستأخرين‏}‏ فيها؛ قاله سعيد بن المسيب‏.‏ السادس‏{‏المستقدمين‏}‏ من قتل في الجهاد، و‏}‏المستأخرين‏}‏ من لم يقتل، قاله القرظي‏.‏ السابع‏{‏المستقدمين‏}‏ أول الخلق، و‏}‏المستأخرين‏}‏ آخر الخلق، قال الشعبي‏.‏ الثامن‏{‏المستقدمين‏}‏ في صفوف الصلاة، و‏}‏المستأخرين‏}‏ فيها بسبب النساء‏.‏ وكل هذا معلوم الله تعالى؛ فإنه عالم بكل موجود ومعدوم، وعالم بمن خلق وما هو خالقه إلى يوم القيامة‏.‏ إلا أن القول الثامن هو سبب نزول الآية؛ لما رواه النسائي والترمذي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال‏{‏كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطه، فأنزل الله عز وجل ‏}‏ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين‏}‏‏.‏ وروي عن أبي الجوزاء ولم يذكر ابن عباس‏.‏ وهو أصح‏.‏

هذا يدل على فضل أول الوقت في الصلاة وعلى فضل الصف الأول؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا‏)‏‏.‏ فإذا جاء الرجل عند الزوال فنزل في الصف الأول مجاور الإمام، حاز ثلاث مراتب في الفضل‏:‏ أول الوقت، والصف الأول، ومجاورة الإمام‏.‏ فإن جاء عند الزوال فنزل في الصف الآخر أو فيما نزل عن الصف الأول، فقد حاز فضل أول الوقت وفاته فضل الصف الأول والمجاورة‏.‏ فإن جاء وقت الزوال ونزل في الصف الأول دون ما يلي الإمام فقد حاز فضل أول الوقت وفضل الصف الأول، وفاته مجاورة الإمام‏.‏ فإن جاء بعد الزوال ونزل في الصف الأول فقد فاته فضيلة أول الوقت، وحاز فضيلة الصف الأول ومجاورة الإمام‏.‏ وهكذا‏.‏ ومجاورة الإمام لا تكون لكل أحد، وإنما هي كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليلني منكم أولو الأحلام والنهى‏)‏ الحديث‏.‏ فيما يلي الإمام ينبغي أن يكون لمن كانت هذه صفته، فإن نزلها غيره أخر وتقدم وهو إلى الموضع؛ لأنه حقه بأمر صاحب الشرع، كالمحراب هو موضع الإمام تقدم أو تأخر؛ قاله ابن العربي‏.‏

قلت‏:‏ وعليه يحمل قول عمر رضي الله عنه‏:‏ تأخر يا فلان، تقدم يا فلان؛ ثم يتقدم فيكبر‏.‏ وقد روي عن كعب أن الرجل من هذه الأمة ليخر ساجدا فيغفر لمن خلفه‏.‏ وكان كعب يتوخى الصف المؤخر من المسجد رجاء ذلك، ويذكر أنه وجده كذلك في التوراة‏.‏ ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول‏.‏ وسيأتي في سورة ‏}‏الصافات‏}‏ زيادة بيان لهذا الباب إن شاء الله تعالى‏.‏

وكما تدل هذه الآية على فضل الصف الأول في الصلاة، فكذلك تدل على فضل الصف الأول في القتال؛ فإن القيام في نحر العدو، وبيع العبد نفسه من الله تعالى لا يوازيه عمل؛ فالتقدم إليه أفضل، ولا خلاف فيه ولا خفاء به‏.‏ ولم يكن أحد يتقدم في الحرب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أشجع الناس‏.‏ قال البراء‏:‏ كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 25 ‏)‏

‏{‏وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن ربك هو يحشرهم‏}‏ أي للحساب والجزاء‏.‏ ‏}‏إنه حكيم عليم‏}‏ تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 26 ‏)‏

‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد خلقنا الإنسان‏}‏ يعني آدم عليه السلام‏.‏ ‏}‏من صلصال‏}‏ أي من طين يابس؛ عن ابن عباس وغيره‏.‏ والصلصال‏:‏ الطين الحر خلط بالرمل فصار يتصلصل إذا جف، فإذا طبخ بالنار فهو الفخار؛ عن أبي عبيدة‏.‏ وهو قول أكثر المفسرين‏.‏ وأنشد أهل اللغة‏:‏

كعدو المصلصل الجوال

وقال مجاهد‏:‏ هو الطين المنتن؛ واختاره الكسائي‏.‏ قال‏:‏ وهو من قول العرب‏:‏ صل اللحم وأصل إذا أنتن - مطبوخا كان أو نيئا - يصل صلولا‏.‏ قال الحطيئة‏:‏

ذاك فتى يبذل ذا قدره لا يفسد اللحم لديه الصلول

وطين صلال ومصلال؛ أي يصوت إذا نقرته كما يصوت الحديد‏.‏ فكان أول ترابا، أي متفرق الأجزاء ثم بل فصار طينا؛ ثم ترك حتى أنتن فصار حمأ مسنونا؛ أي متغيرا، ثم يبس فصار صلصالا؛ على قول الجمهور‏.‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ بيان هذا‏.‏ والحمأ‏:‏ الطين الأسود، وكذلك الحمأة بالتسكين؛ تقول منه‏:‏ حمئت البئر حمأ ‏(‏بالتسكين‏)‏ إذا نزعت حمأتها‏.‏ وحمئت البئر حمأ ‏(‏بالتحريك‏)‏ كثرت حمأتها‏.‏ وأحماتها إحماء ألقيت الحمأة؛ عن ابن السكيت‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الحمأة ‏(‏بسكون الميم‏)‏ مثل الكمأة‏.‏ والجمع حمء، مثل تمرة وتمر‏.‏ والحمأ المصدر، مثل الهلع والجزع، ثم سمي به‏.‏ والمسنون المتغير‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏هو التراب المبتل المنتن، فجعل صلصالا كالفخار‏)‏‏.‏ ومثله قول مجاهد وقتادة، قالا‏:‏ المنتن المتغير؛ من قولهم‏:‏ قد أسن الماء إذا تغير؛ ومنه ‏}‏يتسنه‏}‏البقرة‏:‏ 259‏]‏ و‏}‏ماء غير آسن‏}‏محمد‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ومنه قول أبي قيس بن الأسلت‏:‏

سقت صداي رضابا غير ذي أسن كالمسك فت على ماء العناقيد

وقال الفراء‏:‏ هو المتغير، وأصله من قولهم‏:‏ سننت الحجر على الحجر إذا حككته به‏.‏ وما يخرج من الحجرين يقال له السنانة والسنين؛ ومنه المسن‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ثم خاصرتها إلى القبة الحمراء تمشي في مرمر مسنون

أي محكول مملس‏.‏ حكي أن يزيد بن معاوية قال لأبيه‏:‏ ألا ترى عبدالرحمن بن حسان يشبب بابنتك‏.‏ فقال معاوية‏:‏ وما قال‏؟‏ فقال قال‏:‏

هي زهراء مثل لؤلوة الغواص ميزت من جوهر مكنون

فقال معاوية‏:‏ صدق‏!‏ فقال يزيد‏:‏ (3)‏‏:‏

وإذا ما نسبتها لم تجدها في سناء من المكارم دون

فقال‏:‏ صدق‏!‏ فقال‏:‏ أين قوله‏:‏ ثم خاصرتها‏.‏‏.‏‏.‏ البيت‏.‏ فقال معاوية‏:‏ كذب‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ المسنون المصبوب، وهو من قول العرب‏:‏ سننت الماء وغيره على الوجه إذا صببته‏.‏ والسن الصب‏.‏ وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏المسنون الرطب‏)‏؛ وهذا بمعنى المصبوب؛ لأنه لا يكون مصبوبا إلا وهو رطب‏.‏ النحاس‏:‏ وهذا قول حسن؛ لأنه يقال‏:‏ سننت الشيء أي صببته‏.‏ قال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ ومنه الأثر المروي عن عمر أنه كان يسن الماء على وجهه ولا يشنه‏.‏ والشن ‏(‏بالشين‏)‏ تفريق الماء، وبالسين المهملة صبه من غير تفريق‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ المسنون المصور‏.‏ أخذ من سنة الوجه وهو صورته‏.‏ وقال ذو الرمة‏:‏

تريك سنة وجه مفرقة ملساء ليس لها خال ولا ندب

وقال الأخفش‏:‏ المسنون‏.‏ المنصوب القائم؛ من قولهم‏:‏ وجه مسنون إذا كان فيه طول‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الصلصال للتراب المدقق؛ حكاه المهدوي‏.‏ ومن قال‏:‏ إن الصلصال هو المنتن فأصله صلال، فأبدل من إحدى اللامين‏.‏ ‏}‏من حمأ‏}‏ مفسر لجنس الصلصال؛ كقولك‏:‏ أخذت هذا من رجل من العرب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 27 ‏)‏

‏{‏والجان خلقناه من قبل من نار السموم‏}‏

قوله تعالى‏{‏والجان خلقناه من قبل‏}‏ أي من قبل خلق آدم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يعني إبليس، خلقه الله تعالى قبل آدم عليه السلام‏.‏ وسمي جانا لتواريه عن الأعين‏.‏ وفي صحيح مسلم من حديث ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لما صور الله تعالى آدم عليه السلام في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يمالك‏)‏‏.‏ ‏}‏من نار السموم‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ ‏(‏نار السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءا من نار جهنم‏)‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏السموم الريح الحارة التي تقتل‏)‏‏.‏ وعنه ‏(‏أنها نار لا دخان لها‏)‏، والصواعق تكون منها، وهي نار تكون بين السماء والحجاب‏.‏ فإذا أحدث الله أمرا اخترقت الحجاب فهوت الصاعقة إلى ما أمرت‏.‏ فالهدة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب‏.‏ وقال الحسن‏:‏ نار السموم نار دونها حجاب، والذي تسمعون من انغطاط السحاب صوتها‏.‏ وعن ابن عباس أيضا قال‏:‏ ‏(‏كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة - قال - ‏:‏ وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار‏.‏

قلت‏:‏ هذا فيه نظر؛ فإنه يحتاج إلى سند يقطع العذر؛ إذ مثله لا يقال من جهة الرأي‏.‏ وقد خرج مسلم من حديث عروة عن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم‏)‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏(‏خلقت الملائكة من نور‏)‏ يقتضي العموم‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ مارج من نار نار لا دخان لها خلق منها الجان‏.‏ والسموم الريح الحارة تؤنث؛ يقال منه‏:‏ سم يومنا فهو يوم مسموم، والجمع سمائم‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ‏(‏السموم بالنهار وقد تكون بالليل، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار‏)‏‏.‏ القشيري‏:‏ وسميت الريح الحارة سموما لدخولها في مسام البدن‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 28 ‏:‏ 29 ‏)‏

‏{‏وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ قال ربك للملائكة‏}‏ تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ ‏}‏إني خالق بشرا من صلصال‏}‏ من طين ‏}‏فإذا سويته‏}‏ أي سويت خلقه وصورته‏.‏ ‏}‏ونفخت فيه من روحي‏}‏ النفخ إجراء الريح في الشيء‏.‏ والروح جسم لطيف، أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم‏.‏ وحقيقته إضافة خلق إلى خالق؛ فالروح خلق من خلقه أضافه إلى نفسه تشريفا وتكريما؛ كقوله‏:‏ ‏(‏أرضي وسمائي وبيتي وناقة الله وشهر الله‏)‏‏.‏ ومثله ‏}‏وروح منه‏}‏ وقد تقدم في ‏}‏النساء‏}‏ مبينا‏.‏ وذكرنا في كتاب ‏(‏التذكرة‏)‏ الأحاديث الواردة التي تدل على أن الروح جسم لطيف، وأن النفس والروح اسمان لمسمى واحد‏.‏ وسيأتي ذلك إن شاء الله‏.‏ ومن قال إن الروح هو الحياة قال أراد‏:‏ فإذا ركبت فيه الحياة‏.‏ ‏}‏فقعوا له ساجدين‏}‏ أي خروا له ساجدين‏.‏ وهو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة‏.‏ ولله أن يفضل من يريد؛ ففضل الأنبياء على الملائكة‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ هذا المعنى‏.‏ وقال القفال‏:‏ كانوا أفضل من آدم، وامتحنهم بالسجود له تعريضا لهم للثواب الجزيل‏.‏ وهو مذهب المعتزلة‏.‏ وقيل‏:‏ أمروا بالسجود لله عند آدم، وكان آدم قبلة لهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 30 ‏:‏ 31 ‏)‏

‏{‏فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين‏}‏

قوله تعالى ‏}‏فسجد الملائكة كلهم أجمعون‏.‏ إلا إبليس‏}‏ فيه مسألتان‏:‏ الأولى‏:‏ لا شك أن إبليس كان مأمورا بالسجود؛ لقول‏{‏ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك‏}‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ وإنما منعه من ذلك الاستكبار والاستعظام؛ كما تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ بيانه‏.‏ ثم قيل‏:‏ كان من الملائكة؛ فهو استثناء من الجنس‏.‏ وقال قوم‏:‏ لم يكن من الملائكة؛ فهو استثناء منقطع‏.‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ هذا كله مستوفى‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الجان أبو الجن وليسوا شياطين‏.‏ والشياطين ولد إبليس؛ لا يموتون إلا مع إبليس‏.‏ والجن يموتون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر‏.‏ فآدم أبو الإنس‏.‏ والجان أبو الجن‏.‏ وإبليس أبو الشياطين؛ ذكره الماوردي‏.‏ والذي تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ خلاف هذا، فتأمله هناك‏.‏

الثانية‏:‏ الاستثناء من الجنس غير الجنس صحيح عند الشافعي، حتى لو قال‏:‏ لفلان علي دينار إلا ثوبا، أو عشرة أثواب إلا قفيز حنطة، وما جانس ذلك كان مقبولا، ولا يسقط عنه من المبلغ قيمة الثوب والحنطة‏.‏ ويستوي في ذلك المكيلات والموزونات والمقدرات‏.‏ وقال مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما‏:‏ استثناء المكيل من الموزون والموزون من المكيل جائز، حتى لو استثنى الدراهم من الحنطة والحنطة من الدراهم قبل‏.‏ فأما إذا استثنى المقومات من المكيلات أو الموزونات، والمكيلات من المقومات، مثل أن يقول‏:‏ علي عشرة دنانير إلا ثوبا، أو عشرة أثواب إلا دينارا لا يصح الاستثناء، ويلزم المقر جميع المبلغ‏.‏ وقال محمد بن الحسن‏:‏ الاستثناء من غير الجنس لا يصح، ويلزم المقر جملة ما أقر به‏.‏ والدليل لقول الشافعي أن لفظ الاستثناء يستعمل في الجنس وغير الجنس؛ قال الله تعالى‏{‏لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما‏.‏ إلا قيلا سلاما سلاما‏}‏الواقعة‏:‏ 25 - 26‏]‏ فاستثنى السلام من جملة اللغو‏.‏ ومثله ‏}‏فسجد الملائكة كلهم أجمعون‏.‏ إلا إبليس‏}‏ وإبليس من جملة الملائكة؛ قال الله تعالى‏{‏إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه‏}‏الكهف‏:‏ 50‏]‏ وقال الشاعر‏:‏

وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس

فاستثنى اليعافير وهي ذكور الظباء، والعيس وهي الجمال البيض من الأنيس؛ ومثله قول:‏

‏[‏حلفت يمينا غير ذي مثنوية ولا علم إلا حسن ظن بصاحب‏]‏

الآية رقم ‏(‏ 32 ‏:‏ 35 ‏)‏

‏{‏قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين، قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون، قال فاخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال يا إبليس ما لك‏}‏ أي ما المانع لك‏.‏ ‏}‏ألا تكون مع الساجدين‏}‏ أي في ألا تكون‏.‏ ‏}‏قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون‏}‏ بين تكبره وحسده، وأنه خير منه، إذ هو من نار والنار تأكل الطين؛ كما تقدم في ‏}‏الأعراف‏}‏ بيانه‏.‏ ‏}‏قال فاخرج منها‏}‏ أي من السماوات، أو من جنة عدن، أو من جملة الملائكة‏.‏ ‏}‏فإنك رجيم‏}‏ أي مرجوم بالشهب‏.‏ وقيل‏:‏ ملعون مشؤوم‏.‏ وقد تقدم هذا كله مستوفى في البقرة والأعراف‏.‏ ‏}‏وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين‏}‏ أي لعنتي، كما في سورة ‏}‏ص‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 36 ‏:‏ 38 ‏)‏

‏{‏قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين، إلى يوم الوقت المعلوم‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون‏}‏ هذا السؤال من إبليس لم يكن عن ثقته منه بمنزلته عند الله تعالى، وأنه أهل أن يجاب له دعاء؛ ولكن سأل تأخير عذابه زيادة في بلائه؛ كفعل الآيس من السلامة‏.‏ وأراد بسؤاله الإنظار إلى يوم يبعثون‏:‏ أجلا يموت؛ لأن يوم البعث لا موت فيه ولا بعده‏.‏ قال الله تعالى‏{‏فإنك من المنظرين‏}‏ يعني من المؤجلين‏.‏ ‏}‏إلى يوم الوقت المعلوم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏أراد به النفخة الأولى‏)‏، أي حين تموت الخلائق‏.‏ وقيل‏:‏ الوقت المعلوم الذي استأثر الله بعلمه، ويجهله إبليس‏.‏ فيموت إبليس ثم يبعث؛ قال الله تعالى‏{‏كل من عليها فان‏}‏الرحمن‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وفي كلام الله تعالى له قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ كلمه على لسان رسوله‏.‏

الثاني‏:‏ كلمه تغليظا في الوعيد لا على وجه التكرمة والتقريب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

‏{‏قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض‏}‏ تقدم معنى الإغواء والزينة في الأعراف‏.‏ وتزيينه هنا يكون بوجهين‏:‏ إما بفعل المعاصي، وإما بشغلهم بزينة الدنيا عن فعل الطاعة‏.‏ ومعنى‏{‏ولأغوينهم أجمعين‏}‏ أي لأضلنهم عن طريق الهدى‏.‏ وروى ابن لهيعة عبدالله عن دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن إبليس قال يا رب وعزتك وجلالك لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسامهم فقال الرب وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 40 ‏)‏

‏{‏إلا عبادك منهم المخلصين‏}‏

قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتح اللام؛ أي الذين استخلصتهم وأخلصتهم‏.‏ وقرأ الباقون بكسر اللام؛ أي الذين أخلصوا لك العبادة من فساد أو رياء‏.‏ حكى أبو ثمامة أن الحواريين سألوا عيسى عليه السلام عن المخلصين لله فقال‏:‏ ‏(‏الذي يعمل ولا يحب أن يحمده الناس‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 41 ‏)‏

‏{‏قال هذا صراط علي مستقيم‏}‏

قال عمر بن الخطاب‏:‏ معناه هذا صراط يستقيم بصاحبه حتى يهجم به على الجنة‏.‏ الحسن‏{‏علي‏}‏ بمعنى إلي‏.‏ مجاهد والكسائي‏:‏ هذا على الوعيد والتهديد؛ كقولك لمن تهدده‏:‏ طريقك علي ومصيرك إلي‏.‏ وكقوله‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏الفجر‏:‏ 14‏]‏‏.‏ فكان معنى الكلام‏:‏ هذا طريق مرجعه إلي فأجازي كلا بعمله، يعني طريق العبودية‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى علي أن أدل على الصراط المستقيم بالبيان والبرهان‏.‏ وقيل‏:‏ بالتوفيق والهداية‏.‏ وقرأ ابن سيربن وقتادة والحسن وقيس بن عباد وأبو رجاء وحميد ويعقوب ‏}‏هذا صراط علي مستقيم‏}‏ برفع ‏}‏علي‏}‏ وتنوينه؛ ومعناه رفيع مستقيم، أي رفيع في الدين والحق‏.‏ وقيل‏:‏ رفيع أن ينال، مستقيم أن يمال‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 42 ‏)‏

‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏}‏ قال العلماء‏:‏ يعني على قلوبهم‏.‏ وقال ابن عيينة‏:‏ أي في أن يلقيهم في ذنب يمنعهم عفوي ويضيقه عليهم‏.‏ وهؤلاء الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم‏.‏

قلت‏:‏ لعل قائلا يقول‏:‏ قد أخبر الله عن صفة آدم وحواء عليهما السلام بقوله‏{‏فأزلهما الشيطان‏}‏البقرة‏:‏ 36‏]‏، وعن جملة من أصحاب نبيه بقوله‏{‏إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا‏}‏آل عمران‏:‏ 155‏]‏ فالجواب ما ذكر، وهو أنه ليس له سلطان على قلوبهم، ولا موضع إيمانهم، ولا يلقيهم في ذنب يؤول إلى عدم القبول، بل تزيله التوبة وتمحوه الأوبة‏.‏ ولم يكن خروج آدم عقوبة لما تناول؛ على ما تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ بيانه‏.‏ وأما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى القول عنهم في آل عمران‏.‏ ثم إن قوله سبحانه‏{‏ليس لك عليهم سلطان‏}‏ يحتمل أن يكون خاصا فيمن حفظه الله، ويحتمل أن يكون في أكثر الأوقات والأحوال، وقد يكون في تسلطه تفريج كربة وإزالة غمة؛ كما فعل ببلال، إذ أتاه يهديه كما يهدي الصبي حتى نام، ونام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس، وفزعوا وقالوا‏:‏ ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا‏؟‏ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس في النوم تفريط‏)‏ ففرج عنهم‏.‏ ‏}‏إلا من اتبعك من الغاوين‏}‏ أي الضالين المشركين‏.‏ أي سلطانه على هؤلاء؛ دليله ‏}‏إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون‏}‏النحل‏:‏ 100‏]‏‏.‏

وهذه الآية والتي قبلها دليل على جواز استثناء القليل من الكثير والكثير من القليل؛ مثل أن يقول‏:‏ عشرة إلا درهما‏.‏ أو يقول‏:‏ عشرة إلا تسعة‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ لا يجوز أن يستثنى إلا قدر النصف فما دونه‏.‏ وأما استثناء الأكثر من الجملة فلا يصح‏.‏ ودليلنا هذه الآية، فإن فيها استثتاء ‏}‏الغاوين‏}‏ من العباد والعباد من الغاوين، وذلك يدل على أن استثناء الأقل من الجملة واستثناء الأكثر من الجملة جائز‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 43 ‏:‏ 44 ‏)‏

‏{‏وإن جهنم لموعدهم أجمعين، لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن جهنم لموعدهم أجمعين‏}‏ يعني إبليس ومن اتبعه‏.‏ ‏}‏لها سبعة أبواب‏}‏ أي أطباق، طبق فوق طبق ‏}‏لكل باب منهم‏}‏ أي لكل طبقة ‏}‏منهم جزء مقسوم‏}‏ أي حظ معلوم‏.‏ ذكر ابن المبارك قال‏:‏ أخبرنا إبراهيم أبو هارون الغنوي قال‏:‏ سمعت حطان بن عبدالله الرقاشي يقول سمعت عليا رضي الله عنه يقول‏:‏ هل تدرون كيف أبواب جهنم‏؟‏ قلنا‏:‏ هي مثل أبوابنا‏.‏ قال لا، هي هكذا بعضها فوق بعض، - زاد الثعلبي‏:‏ ووضع إحدى يديه على الأخرى‏:‏ وأن الله وضع الجنان على الأرض، والنيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنم، وفوقها الحطمة، وفوقها سقر، وفوقها الجحيم، وفوقها لظى، وفوقها السعير، وفوقها الهاوية، وكل باب أشد حرا من الذي يليه سبعين مرة‏.‏

قلت‏:‏ كذا وقع هذا التفسير‏.‏ والذي عليه الأكثر من العلماء أن جهنم أعلى الدركات، وهي مختصة بالعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي التي تخلى من أهلها فتصفق الرياح أبوابها‏.‏ ثم لظى، ثم الحطمة، ثم سعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية‏.‏ قال الضحاك‏:‏ في الدرك الأعلى المحمديون، وفي الثاني النصارى، وفي الثالث اليهود، وفي الرابع الصابئون، وفي الخامس المجوس، وفي السادس مشركو العرب، وفي السابع المنافقون وآل فرعون ومن كفر من أهل المائدة‏.‏ قال الله تعالى‏{‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏}‏النساء‏:‏ 145‏]‏ - وقد تقدم في النساء - ، وقال‏{‏أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏}‏غافر‏:‏46‏]‏‏.‏ وقسم معاذ بن جبل رضي الله عنه العلماء السوء من هذه الأمة تقسيما على تلك الأبواب؛ ذكرناه في كتاب (4)‏ وروى الترمذي من حديث ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل سيفه على أمتي‏)‏ قال‏:‏ حديث غريب‏.‏

وقال أبي بن كعب‏:‏ ‏(‏لجهنم سبعة أبواب باب منها للحرورية‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ بين كل بابين مسيرة سبعين سنة، كل باب أشد حرا من الذي فوقه بسبعين ضعفا، وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة‏.‏ وروى سلام الطويل عن أبي سفيان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله الله تعالى‏{‏لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم‏}‏ جزء أشركوا بالله، وجزء شكوا في الله، وجزء غفلوا عن الله، وجزء آثروا شهواتهم على الله، وجزء شفوا غيظهم بغضب الله، وجزء صيروا رغبتهم بحظهم من الله، وجزء عتوا على الله‏.‏ ذكره الحليمي أبو عبدالله الحسين بن الحسن في كتاب (5)‏ له، وقال‏:‏ فإن كان ثابتا فالمشركون بالله هم الثنوية‏.‏ والشاكون هم الذين لا يدرون أن لهم إلها أو لا إله لهم، ويشكون في شريعته أنها من عنده أم لا‏.‏ والغافلون عن الله هم الذين يجحدونه أصلا ولا يثبتونه، وهم الدهرية‏.‏ والمؤثرون شهواتهم على الله هم المنهمكون في المعاصي؛ لتكذيبهم رسل الله وأمره ونهيه‏.‏ والشافون غيظهم بغضب الله هم القاتلون أنبياء الله وسائر الداعين إليه، المعذبون من ينصح لهم أو يذهب غير مذهبهم‏.‏ والمصيرون رغبتهم بحظهم من الله هم المنكرون بالبعث والحساب؛ فهم يعبدون ما يرغبون فيه، لهم جميع حظهم من الله تعالى‏.‏ والعاتون على الله الذين لا يبالون بأن يكون ما هم فيه حقا أو باطلا، فلا يتفكرون ولا يعتبرون ولا يستدلون‏.‏ والله أعلم بما أراد رسوله صلى الله عليه وسلم إن ثبت الحديث‏.‏ ويروى أن سلمان الفارسي رضي الله عنه لما سمع هذه الآية ‏}‏وإن جهنم لموعدهم أجمعين‏}‏ فر ثلاثة أيام من الخوف لا يعقل، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال‏:‏ يا رسول الله، أنزلت هذه الآية ‏}‏وإن جهنم لموعدهم أجمعين‏}‏‏؟‏ فوالذي بعثك بالحق لقد قطعت قلبي؛ فأنزل الله تعالى ‏}‏إن المتقين في جنات وعيون‏}‏الحجر‏:‏ 45‏]‏‏.‏ وقال بلال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مسجد المدينة وحده، فمرت به امرأة أعرابية فصلت خلفه ولم يعلم بها، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ‏}‏لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم‏}‏ فخرت الأعرابية مغشيا عليها، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم وجبتها فانصرف ودعا بماء فصب على وجهها حتى أفاقت وجلست، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا هذه مالك‏)‏‏؟‏ فقالت‏:‏ أهذا شيء من كتاب الله المنزل، أو تقوله من تلقاء نفسك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا أعرابيه، بل هو من كتاب الله تعالى المنزل‏)‏ فقالت‏:‏ كل عضو من أعضائي يعذب على كل باب منها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يا أعرابية، بل لكل باب منهم جزء مقسوم يعذب أهل كل منها على قدر أعمالهم‏)‏ فقالت‏:‏ والله إني امرأة مسكينة، ما لي مال، وما لي إلا سبعة أعبد، أشهدك يا رسول الله، أن كل عبد منهم عن كل باب من أبواب جهنم حر لوجه الله تعالى‏:‏ فأتاه جبريل فقال‏.‏ ‏}‏يا رسول الله، بشر الأعرابية أن الله قد حرم عليها أبواب جهنم كلها وفتح لها أبواب الجنة كلها‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 45 ‏:‏ 46 ‏)‏

‏{‏إن المتقين في جنات وعيون، ادخلوها بسلام آمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن المتقين في جنات وعيون‏}‏ أي الذين اتقوا الفواحش والشرك‏.‏ و‏}‏في جنات‏}‏ أي بساتين‏.‏ ‏}‏وعيون‏}‏ هي الأنهار الأربعة‏:‏ ماء وخمر ولبن وعسل‏.‏ وأما العيون المذكورة في سورة ‏}‏الإنسان‏}‏‏:‏ الكافور والزنجبيل والسلسبيل، وفي ‏}‏المطففين‏}‏‏:‏ التسنيم، فيأتي ذكرها وأهلها إن شاء الله‏.‏ وضم العين من ‏}‏عيون‏}‏ على الأصل، والكسر مراعاة للياء، وقرئ بهما - ‏}‏ادخلوها بسلام آمنين‏}‏ قراءة العامة ‏}‏ادخلوها‏}‏ بوصل الألف وضم الخاء، من دخل يدخل، على الأمر‏.‏ تقديره‏:‏ قيل ادخلوها‏.‏ وقرأ الحسن وأبو العالية ورويس عن يعقوب ‏}‏ادخلوها‏}‏ بضم التنوين ووصل الألف وكسر الخاء على الفعل المجهول، من أدخل‏.‏ أي أدخلهم الله إياها‏.‏ ومذهبهم كسر التنوين في مثل ‏}‏برحمة ادخلوا الجنة‏}‏الأعراف‏:‏ 49‏]‏ وشبهه؛ إلا أنهم ههنا ألقوا حركة الهمزة على التنوين؛ إذ هي ألف قطع، ولكن فيه انتقال من كسر إلى ضم ثم من ضم إلى كسر فيثقل على اللسان‏.‏ ‏}‏بسلام‏}‏ أي بسلامة من كل داء وآفة‏.‏ وقيل‏:‏ بتحية من الله لهم‏.‏ ‏}‏آمنين‏}‏ أي من الموت والعذاب والعزل والزوال‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 47 ‏:‏ 48 ‏)‏

‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين، لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان، فيشربون من إحدى العينين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل، ثم يدخلون العين الأخرى فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم وتصفو وجههم، وتجري عليهم نضرة النعيم؛ ونحوه عن علي رضي الله عنه‏.‏ وقال علي بن الحسين‏:‏ نزلت في أبي بكر وعمر وعلي والصحابة، يعني ما كان بينهم في الجاهلية من الغل‏.‏ والقول الأول أظهر، يدل عليه سياق الآية‏.‏ وقال علي رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من هؤلاء‏)‏‏.‏ والغل‏:‏ الحقد والعداوة؛ يقال منه‏:‏ غل يغل‏.‏ ويقال من الغلول وهو السرقة من المغنم‏:‏ غل يغل‏:‏ ويقال من الخيانة‏:‏ أغل يغل‏.‏ كما قال‏:‏

جزى الله عنا حمزة بنة نوفل جزاء مغل بالأمانة كاذب

وقد مضى هذا في آل عمران‏.‏ ‏}‏إخوانا على سرر متقابلين‏}‏ أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض تواصلا وتحاببا؛ عن مجاهد وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ الأسرة تدور كيفما شاؤوا، فلا يرى أحد قفا أحد‏.‏ وقيل‏{‏متقابلين‏}‏ قد أقبلت عليهم الأزواج وأقبلوا عليهن بالود‏.‏ وسرر جمع سرير‏.‏ مثل جديد وجدد‏.‏ وقيل‏:‏ هو من السرور؛ فكأنه مكان رفيع ممهد للسرور‏.‏ والأول أظهر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر‏)‏، السرير ما بين صنعاء إلى الجابية وما بين عدن إلى أيلة‏.‏ ‏}‏وإخوانا‏}‏ نصب على الحال من ‏}‏المتقين‏}‏ أو من المضمر في ‏}‏ادخلوها‏}‏، أو من المضمر في ‏}‏آمنين‏}‏، أو يكون حالا مقدرة من الهاء والميم في ‏}‏صدورهم‏}‏‏.‏ ‏}‏لا يمسهم فيها نصب‏}‏ أي إعياء وتعب‏.‏ ‏}‏وما هم منها بمخرجين‏}‏ دليل على أن نعيم الجنة دائم لا يزول، وأن أهلها فيها باقون‏.‏ أكلها دائم؛ ‏}‏إن هذا لرزقنا ما له من نفاد‏}‏ص‏:‏ 54‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 49 ‏:‏ 50 ‏)‏

‏{‏نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم‏}‏

هذه الآية وزان قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد‏)‏ أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة‏.‏ وقد تقدم في الفاتحة‏.‏ وهكذا ينبغي للإنسان أن يذكر نفسه وغيره فيخوف ويرجى، ويكون الخوف في الصحة أغلب عليه منه في المرض‏.‏ وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الصحابة وهم يضحكون فقال‏:‏ ‏(‏أتضحكون وبين أيديكم الجنة والنار‏)‏ فشق ذلك عليهم فنزلت الآية‏.‏ ذكره الماوردي والمهدوي‏.‏ ولفظ الثعلبي عن ابن عمر قال‏:‏ اطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك فقال‏:‏ ‏(‏مالكم تضحكون لا أراكم تضحكون‏)‏ ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع القهقرى فقال لنا‏:‏ ‏(‏إني لما خرجت جاءني جبريل فقال يا محمد لم تقنط عبادي من رحمتي ‏}‏نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم‏.‏ وأن عذابي هو العذاب الأليم‏}‏‏.‏ فالقنوط إياس، والرجاء إهمال، وخير الأمور أوساطها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 51 ‏:‏ 54 ‏)‏

‏{‏ونبئهم عن ضيف إبراهيم، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون، قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم، قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ونبئهم عن ضيف إبراهيم‏}‏ ضيف إبراهيم‏:‏ الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط‏.‏ وقد تقدم ذكرهم‏.‏ وكان إبراهيم عليه السلام يكنى أبا الضيفان، وكان لقصره أربعة أبواب لكيلا يفوته أحد‏.‏ وسمي الضيف ضيفا لإضافته إليك ونزوله عليك‏.‏ وقد مضى من حكم الضيف في ‏}‏هود‏}‏ ما يكفي والحمد لله‏.‏ ‏}‏إذ دخلوا عليه‏}‏ جمع الخبر لأن الضيف اسم يصلح للواحد والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث كالمصدر‏.‏ ضافه وأضافه أماله؛ ومنه الحديث ‏(‏حين تضيف الشمس للغروب‏)‏، وضيفوفة السهم، والإضافة والنحوية‏.‏ ‏}‏فقالوا سلاما‏}‏ أي سلموا سلاما‏.‏ ‏}‏قال إنا منكم وجلون‏}‏ أي فزعون خائفون، وإنما قال هذا بعد أن قرب العجل ورآهم لا يأكلون، على ما تقدم في هود‏.‏ وقيل‏:‏ أنكر السلام ولم يكن في بلادهم رسم السلام‏.‏ ‏}‏قالوا لا توجل‏}‏ أي قالت الملائكة لا تخف‏.‏ ‏}‏إنا نبشرك بغلام عليم‏}‏ أي حليم؛ قاله مقاتل‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ عالم‏.‏ وهو إسحاق‏.‏ ‏}‏قال أبشرتموني على أن مسني الكبر‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ مصدرية؛ أي علي مس الكبر إياي وزوجتي، وقد تقدم في هود وإبراهيم، حيث يقول‏{‏فبم تبشرون‏}‏ استفهام تعجب‏.‏ وقيل‏:‏ استفهام حقيقي‏.‏ وقرأ الحسن ‏}‏توجل‏}‏ بضم التاء‏.‏ والأعمش ‏}‏بشرتموني‏}‏ بغير ألف، ونافع وشيبة ‏}‏تبشرون‏}‏ بكسر النون والتخفيف؛ مثل، ‏}‏أتحاجوني‏}‏ وقد تقدم تعليله‏.‏ وقرأ ابن كثير وابن محيصن ‏}‏تبشرون‏}‏ بكسر النون مشددة، تقديره تبشرونني، فأدغم النون في النون‏.‏ الباقون ‏}‏تبشرون‏}‏ بنصب النون بغير إضافة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 55 ‏)‏

‏{‏قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا بشرناك بالحق‏}‏ أي بما لا خلف فيه، وأن الولد لابد منه‏.‏ ‏}‏فلا تكن من القانطين‏}‏ أي من الآيسين من الولد، وكان قد أيس من الولد لفرط الكبر‏.‏ وقراءة العامة ‏}‏من القانطين‏}‏ بالألف‏.‏ وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب ‏}‏من القنطين‏}‏ بلا ألف‏.‏ وروي عن أبي عمرو‏.‏ وهو مقصور من ‏}‏القانطين‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون من لغة من قال‏:‏ قنط يقنط؛ مثل حذر يحذر‏.‏ وفتح النون وكسرها من ‏}‏يقنط‏}‏ لغتان قرئ بهما‏.‏ وحكى فيه ‏}‏يقنط‏}‏ بالضم‏.‏ ولم يأت فيه ‏}‏قنط يقنط‏}‏ومن فتح النون في الماضي والمستقبل فإنه جمع بين اللغتين، فأخذ في الماضي بلغة من قال‏:‏ قنَط يقنِط، وفي المستقبل بلغة من قال‏:‏ قنِظ يقنَط؛ ذكره المهدوي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 56 ‏)‏

‏{‏قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون‏}‏

أي المكذبون الذاهبون عن طريق الصواب‏.‏ يعني أنه استبعد الولد لكبر سنه لا أنه قنط من رحمة الله تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 57 ‏:‏ 60 ‏)‏

‏{‏قال فما خطبكم أيها المرسلون، قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين، إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين‏}‏

لما علم أنهم ملائكة - إذ أخبروه بأمر خارق للعادة وهو بشراهم بالولد - قال‏:‏ فما خطبكم‏؟‏ والخطب الأمر الخطير‏.‏ أي فما أمركم وشأنكم وما الذي جئتم به‏.‏ ‏}‏قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين‏}‏ أي مشركين ضالين‏.‏ وفي الكلام إضمار؛ أي أرسلنا إلى قوم مجرمين لنهلكهم‏.‏ ‏}‏إلا آل لوط‏}‏ أتباعه وأهل دينه‏.‏ ‏}‏إنا لمنجوهم‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏}‏لمنْجُوهم‏}‏ بالتخفيف من أنجى‏.‏ الباقون‏:‏ بالتشديد من نجى، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم‏.‏ والتنجية والإنجاء التخليص‏.‏ ‏}‏إلا امرأته‏}‏ استثنى من آل لوط امرأته وكانت كافرة فالتحقت بالمجرمين في الهلاك‏.‏ وقد تقدمت قصة قوم لوط في ‏}‏الأعراف‏}‏ وسورة ‏}‏هود‏}‏ بما فيه كفاية‏.‏ ‏}‏قدرنا إنها لمن الغابرين‏}‏ أي قضينا وكتبنا إنها لمن الباقين في العذاب‏.‏ والغابر‏:‏ الباقي‏.‏ قال‏:‏

لا تكسع الشول بأغبارها إنك لا تدري من الناتج

الأغبار بقايا اللبن‏.‏ وقرأ أبو بكر والمفضل ‏}‏قَدَرنا‏}‏ بالتخفيف هنا وفي النمل، وشدد الباقون‏.‏ الهروي‏:‏ يقال قدَّر وقدَر، بمعنى‏.‏

لا خلاف بين أهل اللسان وغيرهم أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي؛ فإذا قال رجل‏:‏ له علي عشرة دراهم إلا أربعة إلا درهما؛ ثبت الإقرار بسبعة؛ لأن الدرهم مستثنى من الأربعة، وهو مثبت لأنه مستثنى من منفي، وكانت الأربعة منفية لأنها مستثناة من موجب وهو العشرة، فعاد الدرهم إلى الستة فصارت سبعة‏.‏ وكذلك لو قال‏:‏ علي خمسة دراهم إلا درهم إلا ثلثيه؛ كان عليه أربعة دراهم وثلث‏.‏ وكذلك إذا قال‏:‏ لفلان علي عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة؛ كان الاستثناء الثاني راجعا إلى ما قبله، والثالث إلى الثاني فيكون عليه درهمان؛ لأن العشرة إثبات والثمانية إثبات فيكون مجموعها ثمانية عشر‏.‏ والتسعة نفي والسبعة نفي فيكون ستة عشر تسقط من ثمانية عشر ويبقى درهمان، وهو القدر الواجب بالإقرار لا غير‏.‏ فقوله سبحانه‏{‏إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين‏.‏ إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين‏.‏ إلا امرأته‏}‏ فاستثنى آل لوط من القوم المجرمين، ثم قال‏{‏إلا امرأته‏}‏ فاستثناها من آل لوط، فرجعت في التأويل إلى القوم المجرمين كما بينا‏.‏ وهكذا الحكم في الطلاق، لو قال لزوجته‏:‏ أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة طلقت اثنتين؛ لأن الواحدة رجعت إلى الباقي من المستثنى منه وهي الثلاث‏.‏ وكذا كل ما جاء من هذا فتفهمه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 61 ‏:‏ 65 ‏)‏

‏{‏فلما جاء آل لوط المرسلون، قال إنكم قوم منكرون، قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون، وأتيناك بالحق وإنا لصادقون، فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلما جاء آل لوط المرسلون، قال إنكم قوم منكرون‏}‏ أي لا أعرفكم‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا شبابا ورأى جمالا فخاف عليهم من فتنة قومه؛ فهذا هو الإنكار‏.‏ ‏}‏قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون‏}‏ أي يشكون أنه نازل بهم، وهو العذاب‏.‏ ‏}‏وأتيناك بالحق‏}‏ أي بالصدق‏.‏ وقيل‏:‏ بالعذاب‏.‏ ‏}‏وإنا لصادقون‏}‏ أي في هلاكهم‏.‏ ‏}‏فأسر بأهلك بقطع من الليل‏}‏ تقدم في ‏}‏هود‏}‏‏.‏ ‏}‏واتبع أدبارهم‏}‏ أي كن من ورائهم لئلا يتخلف منهم أحد فيناله العذاب‏.‏ ‏}‏ولا يلتفت منكم أحد‏}‏ نهوا عن الالتفات ليجدوا في السير ويتباعدوا عن القرية قبل أن يفاجئهم الصبح‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا يتخلف‏.‏ ‏}‏وامضوا حيث تؤمرون‏}‏ قال ابن عباس ‏(‏يعني الشام‏)‏‏.‏ مقاتل‏.‏ يعني صفد، قرية من قرى لوط‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مضى إلى أرض الخليل بمكان يقال له اليقين، وإنما سمي اليقين لأن إبراهيم لما خرجت الرسل شيعهم، فقال لجبريل‏:‏ من أين يخسف بهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏من هاهنا‏)‏ وحد له حدا، وذهب جبريل، فلما جاء لوط‏.‏ جلس عند إبراهيم وارتقبا ذلك العذاب، فلما اهتزت الأرض قال إبراهيم‏:‏ ‏(‏أيقنت بالله‏)‏ فسمي اليقين‏.‏
 
عودة
أعلى