تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن"

سورة الفيل

الآية رقم ‏(‏1‏)‏

‏{‏ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم تر‏}‏ أي ألم تخبر‏.‏ وقيل‏:‏ ألم تخبر‏.‏ وقيل ألم تعلم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ألم تسمع‏؟‏ واللفظ استفهام، والمعنى تقرير‏.‏ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه عام؛ أي ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل؛ أي قد رأيتم ذلك، وعرفتم موضع مِنَتِي عليكم، فما لكم لا تؤمنون‏؟‏ و‏{‏كيف‏}‏ في موضع نصب بـ ‏{‏فعل ربك‏}‏ لا ‏{‏بألم تر كيف‏}‏ في معنى الاستفهام‏.‏ ‏{‏بأصحاب الفيل‏}‏ الفيل معروف، والجمع أفيال‏:‏ وفيول، وفيلة‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ ولا تقل أفيلة‏.‏ والأنثى فيلة وصاحبه فيال‏.‏ قال سيبوبه‏:‏ يجوز أن يكون أصل فيل فُعلاً، فكسر من أجل الياء؛ كما قالوا‏:‏ أبيض وبيض‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ هذا لا يكون في الواحد، إنما يكون في الجمع‏.‏ ورجل فيل الرأي، أي ضعيف الرأي‏.‏ والجمع أفيال‏.‏ ورجل فال؛ أي ضعيف الرأي، مخطئ الفراسة‏.‏ وقد فال الرأي يفيل فيولة، وفيل رأيه تفييلا‏:‏ أي ضعفه، فهو فيل الرأي‏.‏

في قصة أصحاب الفيل؛ وذلك أن أبرهة بنى القليس بصنعاء، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، وكان نصرانيا، ثم كتب إلى النجاشي‏:‏ إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب فلما تحدث العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي، غضب رجل من النسأة، فخرج حتى أتى الكنيسة، فقعد فيها - أي أحدث - ثم خرج فلحق بأرضه؛ فأخبر بذلك أبرهة، فقال‏:‏ من صنع هذا‏؟‏ فقيل‏:‏ صنعه رجل من أهل هذا البيت، الذي تحج إليه العرب بمكة، لما سمع قولك‏:‏ أصرف إليها حج العرب غضب، فجاء فقعد فيها‏.‏ أي أنها ليست لذلك بأهل‏.‏ فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه، وبعث رجلا كان عنده إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة؛ فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل؛ فزاد أبرهة ذلك غضبا وحنقا، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج معه بالفيل؛ وسمعت بذلك العرب، فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم، حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام‏.‏ فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم، يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة، وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريد من هدمه وإخرابه؛ فأجابه من أجابه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله، فهزم ذو نفر وأصحابه، وأخذ له ذو نفر فأتي به أسيرا؛ فلما أراد قتله قال له ذو نفر‏:‏ أيها الملك لا تقتلني، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي؛ فتركه من القتل، وحبسه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلا حليما‏.‏ ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك، يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتي خثعم‏:‏ شهران وناهس، ومن تبعه من قبائل العرب؛ فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نفيل أسيرا؛ فأتي به، فلما هم بقتله قال له نفيل‏:‏ أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم‏:‏ شهران وناهس، بالسمع والطاعة؛ فخلى سبيله‏.‏ وخرج به معه يدله، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف، فقالوا له‏:‏ أيها الملك، إنما نحن عبيدك؛ سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة، نحن نبعث معك من يدلك عليه؛ فتجاوز عنهم‏.‏ وبعثوا معه أبا رغال، حتى أنزله المغمس فلما أنزله به مات أبو رغال هناك، فرجمت قبره العرب؛ فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس، وفيه يقول الشاعر‏:‏

وارجم قبره في كل عام كرجم الناس قبر أبي رغال

فلما نزل أبرهة بالمغمس، بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له، حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها ماتتي بعير لعبدالمطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها؛ فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله؛ ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك‏.‏ وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، وقال له‏:‏ سل عن سيد هذا البلد وشريفهم، ثم قل له‏:‏ إن الملك يقول‏:‏ إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لي بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم؛ فإن هو لم يرد حربي فأتني به‏.‏ فلما دخل حناطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها؛ فقيل له‏:‏ عبدالمطلب بن هاشم؛ فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة؛ فقال له عبدالمطلب‏:‏ والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك منه طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، أو كما قال، فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته، وإن يحل بينه وبينه، فوالله ما عندنا دفع عنه‏.‏ فقال له حناطة‏:‏ فانطلق إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك؛ فانطلق معه عبدالمطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر؛ فسأل عن ذي نفر، وكان صديقا له، حتى دخل عليه وهو في محبسه، فقال له‏:‏ يا ذا نفر، هل عندك من غناء فيما نزل بنا‏؟‏ فقال له ذو نفر؛ وما غناء رجل أسير بيدي ملك، ينتظر أن يقتله غدوا وعشيا ما عندي غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي، فسأرسل إليه، وأوصيه بك، وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك؛ فقال حسبي‏.‏ فبعث ذو نفر إلى أنيس، فقال له‏:‏ إن عبدالمطلب سيد قريش، وصاحب عين مكة، ويطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه، وانفعه عنده بما استطعت؛ فقال‏:‏ أفعل‏.‏ فكلم أنيس أبرهة، فقال له‏:‏ أيها الملك، هذا سيد قريش ببابك، يستأذن عليك، وهو صاحب عين مكة، يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال؛ فأذن له عليك، فيكلمك في حاجته‏.‏ قال‏:‏ فأذن له أبرهة‏.‏

وكان عبدالمطلب أوسم الناس، وأعظمهم وأجملهم، فلما رآه أبرهة أجله، وأعظمه عن أن يجلسه تحته؛ فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه‏.‏ ثم قال لترجمانه‏:‏ قل له‏:‏ حاجتك‏؟‏ فقال له ذلك الترجمان، فقال‏:‏ حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي‏.‏ فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه‏:‏ قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودبن آبائك، قد جئت لهدمه‏؟‏ لا تكلمني فيه‏.‏ قال له عبدالمطلب‏:‏ إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه‏.‏ قال‏:‏ ما كان ليمتنع مني قال أنت وذاك‏.‏ فرد عليه إبله‏.‏ وانصرف عبدالمطلب إلى قريش، فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب، تخوفا عليهم معرة الجيش‏.‏ ثم قام عبدالمطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش، يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبدالمطلب وهو أخذ بحلقة باب الكعبة‏:‏

لا هم إن العبد يمـ ـنع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدوا محالك

إن يدخلوا البلد الحرا م فأمر ما بدا لك

يقول‏:‏ أي‏:‏ شيء ما بدا لك، لم تكن تفعله بنا‏.‏ والحلال‏:‏ جمع حل‏.‏ والمحال‏:‏ القوة وقيل‏:‏ إن عبدالمطلب لما أخذ بحلقة باب الكعبة قال‏:‏

يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا

إن عدو البيت من عاداكا إنهم لن يقهروا قواكا

وقال عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي‏:‏

لا هم أخز الأسودين مقصود الأخذ الهجمة فيها التقليد

بين حراء وثبير فالبيد يحبسها وهي أولات التطريد

فضمها إلى طماطم سود قد أجمعوا ألا يكون معبود

ويهدموا البيت الحرام المعمود والمروتين والمشاعر السود

أخفره يا رب وأنت محمود

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم أرسل عبدالمطلب حلقة باب الكعبة، ثم انطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها، ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها‏.‏ فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبأ جيشه، وكان اسم الفيل محمودا، وأبرهة مجمع لهدم البيت، ثم الانصراف إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب، حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال له‏:‏ ابرك محمود، وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام‏.‏ ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل‏.‏ وخرج نفيل بن حبيب يشتد، حتى أصعد في الجبل‏.‏ وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى؛ فأدخلوا محاجن لهم في مراقه، فبزغوه بها ليقوم، فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك‏.‏ وأرسل الله عليهم طيرا من البحر، أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار‏:‏ حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك؛ وليس كلهم أصابت‏.‏ وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي جاؤوا منها، ويسألون عن نفيل بن حبيب، ليدلهم على الطريق إلى اليمن‏.‏ فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمه‏:‏

أين المفر والإله الطالب والأشرم المغلوب ليس الغالب

وقال أيضا‏:‏

حمدت الله إذ أبصرت طيرا وخفت حجارة تلقى علينا

فكل القوم يسأل عن نفيل كأن علي للحبشان دينا

فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك على كل سهل، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تمث قيحا ودما؛ حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى أنصدع صدره عن قلبه؛ فيما يزعمون‏.‏

وقال الكلبي ومقاتل بن سليمان - يزيد أحدهما وينقص - ‏:‏ سبب الفيل ما روي أن فتية من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي، فنزلوا على ساحل البحر إلى بيعة للنصارى، تسميها النصاري الهيكل، فأوقدوا نارا لطعامهم وتركوها وارتحلوا؛ فهبت ريح عاصف على النار فأضرمت البيعة نارا، فاحترقت، فأتى الصريخ إلى النجاشي فأخبره، فاستشاط غضبا‏.‏ فأتاه أبرهة بن الصباح وحجر بن شرحبيل وأبو يكسوم الكنديون؛ وضمنوا له إحراق الكعبة وسبي مكة‏.‏ وكان النجاشي هو الملك، وأبرهة صاحب الجيش، وأبو يكسوم نديم الملك، وقيل وزير، وحجر بن شرحبيل من قواده، وقال مجاهد‏:‏ أبو يكسوم هو أبرهة بن الصباح‏.‏ فساروا ومعهم الفيل‏.‏ قال الأكثرون‏:‏ هو فيل واحد‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هي ثمانية فيلة‏.‏ ونزلوا بذي المجاز، واستاقوا سرح مكة، وفيها إبل عبدالمطلب‏.‏ وأتى الراعي نذيرا، فصعد الصفا، فصاح‏:‏ واصباحاه ثم أخبر الناس بمجيء الجيش والفيل‏.‏ فخرج عبدالمطلب، وتوجه إلى أبرهة، وسأله في إبله‏.‏ واختلف في النجاشي، هل كان معهم؛ فقال قوم كان معهم‏.‏ وقال الأكثرون‏:‏ لم يكن معهم‏.‏ ونظر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية البحر؛ فقال عبدالمطلب‏:‏ إن هذه الطير غريبة بأرضنا، وما هي بنجدية ولا تهامية ولا حجازية وإنها أشباه اليعاسيب‏.‏ وكان في مناقيرها وأرجلها حجارة؛ فلما أطلت على القوم ألقتها عليهم، حتى هلكوا‏.‏ قال عطاء بن أبي رباج‏:‏ جاءت الطير عشية؛ فباتت ثم صبحتهم بالغداة فرمتهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ في مناقيرها حصى كحصى الخذف، أمام كل فرقة طائر يقودها، أحمر المنقار، أسود الرأس، طويل العنق‏.‏ فلما جاءت عسكر القوم وتوافت، أهالت ما في مناقيرها على من تحتها، مكتوب على كل حجر اسم صاحبه المقتول به‏.‏ وقيل‏:‏ كان كل حجر مكتوب‏:‏ من أطاع الله نجا، ومن عصاه غوى‏.‏ ثم انصاعت راجعة من حيث جاءت‏.‏ وقال العوفي‏:‏ سألت عنها أبا سعيد الخدري، فقال‏:‏ حمام مكة منها‏.‏ وقيل‏:‏ كان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها، ويقع في دماغه، ويخرق الفيل والدابة‏.‏ ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه‏.‏ وكان أصحاب الفيل ستين ألفا، لم يرجع منهم ألا أميرهم، رجع ومعه شرذمة لطيفة‏.‏ فلما أخبروا بما رأوا هلكوا‏.‏ وقال الواقدي‏:‏ أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبرهة هو الأشرم، سمي بذلك لأنه تفاتن مع أرياط، حتى تزاحفا، ثم اتفقا على أن يلتقيا بشخصيهما، فمن غلب فله الأمر‏.‏ فتبارزا - وكان أرياط جسيما عظيما، في يده حربة، وأبرهة قصيرا حادرا ذا دين في النصرانية، ومع أبرهة وزير له يقال له عتودة - فلما دنوا ضرب أرياط بحربته رأس أبرهة، فوقعت على جبينه، فشرمت عينه وأنفه وجبينه وشفته؛ فلذلك سمي الأشرم‏.‏ وحمل عتودة على أرياط فقتله‏.‏ فاجتمعت الحبشة لأبرهة؛ فغضب النجاشي، وحلف ليحزن ناصية أبرهة، ويطأن بلاده‏.‏ فجز أبرهة ناصيته وملأ مزودا من تراب أرضه، وبعث بهما إلى النجاشي، وقال‏:‏ إنما كان عبدك، وأنا عبدك، وأنا أقوم بأمر الحبشة، وقد جززت ناصيتي، وبعثت إليك بتراب أرضي، لتطأه وتبر في يمينك؛ فرضي عنه النجاشي‏.‏ ثم بنى أبرهة كنيسة بصنعاء، ليصرف إليها حج العرب؛ على ما تقدم‏.‏

قال مقاتل‏:‏ كان عام الفيل قبل مولد النبي صلى الله عليه بأربعين سنة‏.‏ وقال الكلبي وعبيد بن عمير‏:‏ كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث وعشرين سنة‏.‏ والصحيح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏(‏ولدت عام الفيل‏)‏‏.‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏يوم الفيل‏)‏‏.‏ حكاه الماوردي في التفسير له‏.‏ وقال في كتاب أعلام النبوة‏:‏ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وكان بعد الفيل بخمسين يوما‏.‏ ووافق من شهور الروم العشرين من أسباط، في السنة الثانية عشرة من ملك هرمز بن أنوشروان‏.‏ قال‏:‏ وحكى أبو جعفر الطبري أن مولد النبي صلى الله عليه وسلم كان لاثنتين وأربعين سنة من ملك أنوشروان‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه عليه السلام حملت به أمه آمنة في يوم عاشوراء من المحرم، وولد يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان؛ فكانت مدة حمله ثمانية أشهر كملا ويومين من التاسع‏.‏ وقيل‏:‏ إنه ولد يوم عاشوراء من شهر المحرم؛ حكاه ابن شاهين أبو حفص، في فضائل يوم عاشوراء له‏.‏ ابن العربي‏:‏ قال ابن وهب عن مالك‏:‏ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وقال قيس بن مخرمة‏:‏ ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل‏.‏ وقد روى الناس عن مالك أنه قال‏:‏ من مروءة الرجل ألا يخبر بسنه؛ لأنه إن كان صغيرا استحقروه وإن كان كبيرا استهرموه‏.‏ وهذا قول ضعيف؛ لأن مالكا لا يخبر بسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكتم سنه؛ وهو من أعظم العلماء قدوة به‏.‏ فلا بأس بأن يخبر الرجل بسنه كان كبيرا أو صغيرا‏.‏ وقال عبدالملك بن مروان لعتاب بن أسيد‏:‏ أنت أكبر أم النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم أكبر منه، وأنا أسن منه؛ ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس، وقيل لبعض القضاة‏:‏ كم سنك‏؟‏ قال‏:‏ سن عتاب بن أسيد حين ولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وكان سنه يومئذ دون العشرين‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت قبله وقبل التحدي؛ لأنها كانت توكيدا لأمره، وتمهيدا لشأنه‏.‏ ولما تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السورة، كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الوقعة؛ ولهذا قال‏{‏ألم تر‏}‏ ولم يكن بمكة أحد إلا وقد رأى قائد الفيل وسائقه أعميين يتكففان الناس‏.‏ وقالت عائشة رضي الله عنها مع حداثة سنها‏:‏ لقد رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين يستطعمان الناس‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ رأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب نحوا من قفيزين من تلك الحجارة، سودا مخططة بحمرة‏.‏

الآية رقم ‏(‏2‏)‏

‏{‏ألم يجعل كيدهم في تضليل‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم يجعل كيدهم في تضليل‏}‏ أي في إبطال وتضييع؛ لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشا بالقتل والسبي، والبيت بالتخريب والهدم‏.‏ فحكي عن عبدالمطلب أنه بعث ابنه عبدالله على فرس له، ينظر ما لقوا من تلك الطير، فإذا القوم مشدخين جميعا، فرجع يركض فرسه، كاشفا عن فخذه، فلما رأى ذلك أبوه قال‏:‏ إن ابني هذا أفرس العرب‏.‏ وما كشف عن فخذه إلا بشيرا أو نذيرا‏.‏ فلما دنا من ناديهم بحيث يسمعهم الصوت، قالوا‏:‏ ما وراءك‏؟‏ قال‏:‏ هلكوا جميعا‏.‏ فخرج عبدالمطلب وأصحابه، فأخذوا أموالهم‏.‏ وكانت أموال بني عبدالمطلب منها، وبها تكاملت رياسة عبدالمطلب؛ لأنه احتمل ما شاء من صفراء وبيضاء، ثم خرج أهل مكة بعده ونهبوا‏.‏ وقيل‏:‏ إن عبدالمطلب حفر حفرتين فملأهما من الذهب والجوهر، ثم قال لأبي مسعود الثقفي وكان خليلا لعبدالمطلب - ‏:‏ اختر أيهما شئت‏.‏ ثم أصاب الناس من أموالهم حتى ضاقوا ذرعا، فقال عبدالمطلب عند ذلك‏:‏

أنت منعت الحبش والأفيالا وقد رعوا بمكة الأجبالا

وقد خشينا منهم القتالا وكل أمر لهم معضالا

شكرا وحمدا لك ذا الجلالا

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما رد الله الحبشة عن مكة عظمت العرب قريشا، وقالوا‏:‏ هم‏:‏ أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوهم‏.‏ وقال عبدالله بن عمرو بن مخزوم، في قصة أصحاب الفيل‏:‏

أنت الجليل ربنا لم تدنس أنت حبست الفيل بالمغمس

من بعد ما هم بشر مبلس حبسته في هيئة المكركس

وما لهم من فرج ومنفس

والمكركس‏:‏ المنكوس المطروح‏.‏

الآية رقم ‏(‏3‏)‏

‏{‏وأرسل عليهم طيرا أبابيل‏}‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ كانت طيرا من السماء لم ير قبلها، ولا بعدها مثلها‏.‏ وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إنها طير بين السماء والأرض تعشش وتفرخ‏)‏‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ كانت لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب وقال عكرمة‏:‏ كانت طيرا خضرا، خرجت من البحر، لها رؤوس كرؤوس السباع‏.‏ ولم تر قبل ذلك ولا بعده‏.‏ وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ هي أشبه شيء بالخطاطيف‏.‏ وقيل‏:‏ بل كانت أشباه الوطاويط، حمراء وسوداء‏.‏ وعن سعيد بن جبير أيضا‏:‏ هي طير خضر لها مناقير صفر‏.‏ وقيل‏:‏ كانت بيضا‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ هي طير سود بحرية، في مناقيرها وأظفارها الحجارة‏.‏ وقيل‏:‏ إنها العنقاء المُغرِب التي تضرب بها الأمثال؛؛ قال عكرمة‏{‏أبابيل‏}‏ أي مجتمعة‏.‏ وقيل‏:‏ متتابعة، بعضها في إثر بعض؛ قال ابن عباس ومجاهد‏.‏ وقيل مختلفة متفرقة، تجيء من كل ناحية من ها هنا وها هنا؛ قال ابن مسعود وابن زيد والأخفش‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذه الأقوال متفقة، وحقيقة المعنى‏:‏ أنها جماعات عظام‏.‏ يقال‏:‏ فلان يؤبل على فلان؛ أي يعظم عليه ويكثر؛ وهو مشتق من الإبل‏.‏ واختلف في واحد أبابيل؛ فقال الجوهري‏:‏ قال الأخفش يقال‏:‏ جاءت إبلك أبابيل؛ أي فرقا، وطيرا أبابيل‏.‏ قال‏:‏ وهذا يجيء في معنى التكثير، وهو من الجمع الذي لا واحد له‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ واحده أبول‏.‏ مثل عجول‏.‏ وقال بعضهم - وهو المبرد - ‏:‏ إبيل مثل سكين‏.‏ فال‏:‏ ولم أجد العرب تعرف له واحدا في غير الصحاح‏.‏ وقيل في واحده إبال‏.‏ وقال رؤبة بن العجاج في الجمع‏:‏

ولعبتْ طيرٌ بهم أبابيلْ فصيروا مثل كعصف مأكول

وقال الأعشى‏:‏

طريق وجبار رواء أصوله عليه أبابيل من الطير تنعب

وقال آخر‏:‏

كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

وقال آخر‏:‏

تراهم إلى الداعي سراعا كأنهم أبابيل طير تحت دجن مسخن

قال الفراء‏:‏ لا واحد له من لفظه‏.‏ وزعم الرؤاسي - وكان ثقة - أنه سمع في واحدها ‏{‏إبالة‏}‏ مشددة‏.‏ وحكى الفراء ‏{‏إبالة‏}‏ مخففا‏.‏ قال‏:‏ سمعت بعض العرب يقول‏:‏ ضغث على إبالة‏.‏ يريد‏:‏ خصبا على خصب‏.‏ قال‏:‏ ولو قال قائل إيبال كان صوابا؛ مثل دينار ودنانير‏.‏ وقال إسحاق بن عبدالله بن الحارث بن نوفل‏:‏ الأبابيل‏:‏ مأخوذ من الإبل المؤبلة؛ وهي الأقاطيع‏.‏

الآية رقم ‏(‏4‏)‏

‏{‏ترميهم بحجارة من سجيل‏}‏

في الصحاح‏{‏حجارة من سجيل‏}‏ قالوا‏:‏ حجارة من طين، طبخت بنار جهنم، مكتوب فيها أسماء القوم؛ لقوله تعالى‏{‏لنرسل عليهم حجارة من طين‏}‏ مسومة‏}‏الذاريات‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وقال عبدالرحمن بن أبزى‏{‏من سجيل‏}‏‏:‏ من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط‏.‏ وقيل من الجحيم‏.‏ وهي ‏{‏سجين‏}‏ ثم أبدلت اللام نونا؛ كما قالوا في أصيلان أصيلال‏.‏ قال ابن مقبل‏:‏

ضربا تواصت به الأبطال سجينا

وإنما هو سجيلا‏.‏ وقال الزجاج‏{‏من سجيل‏}‏ أي مما كتب عليهم أن يعذبوا به؛ مشتق من السجل‏.‏ وقد مضى القول في سجيل في هود مستوفى‏.‏ قال عكرمة‏:‏ كانت ترميهم بحجارة معها، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري لم ير قبل ذلك اليوم‏.‏ وكان الحجر كالحمصة وفوق العدسة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده، فكان ذلك أول الجدري‏.‏ وقراءة العامة ‏{‏ترميهم‏}‏ بالتاء، لتأنيث جماعة الطير‏.‏ وقرأ الأعرج وطلحة ‏{‏يرميهم‏}‏ بالياء؛ أي يرميهم الله؛ دليله قوله تعالى‏{‏ولكن الله رمى‏}‏الأنفال‏:‏ 17‏ ويجوز أن يكون راجعا إلى الطير، لخلوها من علامات التأنيث، ولأن تأنيثها غير حقيقي‏.‏

الآية رقم ‏(‏5‏)‏

‏{‏فجعلهم كعصف مأكول‏}‏

أي جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب، فرمت به من أسفل‏.‏ شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزائه‏.‏ روى معناه عن ابن زيد وغيره‏.‏ وقد مضى القول في العصف في سورة الرحمن ومما يدل على أنه ورق الزرع قول علقمة‏:‏

تسقي مذانب قد مالت عصيفتها حدورها من أتى الماء مطموم

وقال رؤبة بن العجاج‏:‏

ومسهم ما مس أصحاب الفيل ترميهم حجارة من سجيل

ولعبت طير بهم أبابيل فصيروا مثل كعصف مأكول

العصف‏:‏ جمع، واحدته عصفة وعصافة، وعصيفة‏.‏ وأدخل الكاف في ‏{‏كعصف‏}‏ للتشبيه مع مثل، نحو قوله تعالى‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏الشورى‏:‏ 11‏‏.‏ ومعنى ‏{‏مأكول‏}‏ حبه‏.‏ كما يقال‏:‏ فلان حسن؛ أي حسن وجهه‏.‏ وقال ابن عباس‏{‏فجعلهم كعصف مأكول‏}‏ أن المراد به قشر البر؛ يعني الغلاف الذي تكون فيه حبة القمح‏.‏ ويروى أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه، فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ لما رمت الطير بالحجارة، بعث الله ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدة، فكانت لا تقع على أحد إلا هلك، ولم يسلم منهم إلا رجل من كندة؛ فقال‏:‏

فإنك لو رأيت ولم تريه لدى جنب المغمس ما لقينا

خشيت الله إذ قد بث طيرا وظل سحابة مرت علينا

وباتت كلها تدعو بحق كأن لها على الحبشان دينا

ويروى أنها لم تصبهم كلهم، لكنها أصابت من شاء الله منهم‏.‏ وقد تقدم أن أميرهم رجع وشرذمة لطيفة معه، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا‏.‏ فالله أعلم‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ لما رد الله الحبشة عن مكة، عظمت العرب قريشا وقالوا‏:‏ أهل الله، قاتل عنهم، وكفاهم مؤونة عدوهم، فكان ذلك نعمة من الله عليهم
 
سورة قريش

الآية رقم ‏(‏1‏)‏

‏{‏لإيلاف قريش‏}‏

قيل‏:‏ إن هذه السورة متصلة بالتي قبلها في المعنى‏.‏ يقول‏:‏ أهلكت أصحاب الفيل لإيلاف قريش؛ أي لتأتلف، أو لتتفق قريش، أو لكي تأمن قريش فتؤلف رحلتيها‏.‏ وممن عد السورتين واحدة أبي بن كعب، ولا فصل بينهما في مصحفه‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ كان لنا إمام لا يفصل بينهما، ويقرؤهما معا‏.‏ وقال عمرو بن ميمون الأودي‏:‏ صلينا المغرب خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقرأ في الأولى‏{‏والتين والزيتون‏}‏التين‏:‏ 1‏‏ وفي الثانية ‏{‏ألم تر كيف‏}‏الفيل‏:‏ 1‏ و‏{‏لإيلاف قريش‏}‏قريش‏:‏ 1‏‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هذه السورة متصلة بالسورة الأولى؛ لأنه ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة، ثم قال‏{‏لإيلاف قريش‏}‏ أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش‏.‏ وذلك أن قريشا كانت تخرج في تجارتها، فلا يُغار عليها ولا تُقرب في الجاهلية‏.‏ يقولون هم أهل بيت الله جل وعز؛ حتى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة، ويأخذ حجارتها، فيبني بها بيتا في اليمن يحج الناس إليه، فأهلكهم الله عز وجل، فذكرهم نعمته‏.‏ أي فجعل الله ذلك لإيلاف قريش، أي ليألفوا الخروج ولا يجتزأ عليهم؛ وهو معنى قول مجاهد وابن عباس في رواية سعيد بن جبير عنه‏.‏ ذكره النحاس‏:‏ حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمرو بن علي قال‏:‏ حدثني عامر بن إبراهيم - وكان ثقة من خيار الناس - قال حدثني خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة، قال‏:‏ حدثني أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله تعالى‏{‏لإيلاف قريش‏}‏ قال‏:‏ نعمتي على قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف‏.‏ قال‏:‏ كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف‏.‏ وعلى هذا القول يجوز الوقف على رءوس الآي وإن لم يكن الكلام تاما؛ على ما نبينه أثناء السورة‏.‏ وقيل‏:‏ ليست بمتصلة؛ لأن بن السورتين ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏ وذلك دليل على انقضاء السورة وافتتاح الأخرى، وأن اللام متعلقة بقوله تعالى‏{‏فليعبدوا‏}‏ أي فليعبدوا هؤلاء رب هذا البيت، لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف للامتيار‏.‏ وكذا قال الخليل‏:‏ ليست متصلة؛ كأنه قال‏:‏ أَلَّف الله قريشا إيلافا فليعبدوا رب هذا البيت‏.‏ وعمل ما بعد الفاء فيما قبلها لأنها زائدة غير عاطفة؛ كقولك‏:‏ زيدا فاضرب‏.‏ وقيل‏:‏ اللام في قوله تعالى‏{‏لإيلاف قريش‏}‏ لام التعجب؛ أي اعجبوا لإيلاف قريش؛ قاله الكسائي والأخفش‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى إلى‏.‏ وقرأ ابن عامر‏{‏لائلاف قريش‏}‏ مهموزا مختلسا بلا ياء‏.‏ وقرأ أبو جعفر والأعرج ‏{‏ليلاف‏}‏ بلا همز طلبا للخفة‏.‏ الباقون ‏{‏لإيلاف‏}‏ بالياء مهموزا مشبعا؛ من آلفت أولف إيلافا‏.‏ قال الشاعر‏:‏

المنعمين إذا النجوم تغيرت والظاعنين لرحلة الإيلاف

ويقال‏:‏ ألفته إلفا وإلافا‏.‏ وقرأ أبو جعفر أيضا‏{‏لإلف قريش‏}‏ وقد جمعهما من قال‏:‏

زعمتم أن إخوتكم قريش لهم إلف وليس لكم إلاف

قال الجوهري‏:‏ وفلان قد ألف هذا الموضع بالكسر يألف إلفا، وآلفه إياه غيره‏.‏ ويقال أيضا‏:‏ آلفت الموضع أولفه إيلافا‏.‏ وكذلك‏:‏ آلفت الموضع أولفه مؤالفة وإلافا؛ فصار صورة أفعل وفاعل في الماضي واحدة‏.‏ وقرأ عكرمة ‏{‏ليألف‏}‏ بفتح اللام على الأمر وكذلك هو في مصحف ابن مسعود‏.‏ وفتح لام الأمر لغة حكاها ابن مجاهد وغيره‏.‏ وكان عكرمة يعيب على من يقرأ ‏{‏لإيلاف‏}‏‏.‏ وقرأ بعض أهل مكة ‏{‏إلاف قريش‏}‏ استشهد بقول أبي طالب يوصي أخاه أبا لهب برسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

فلا تتركنه ما حييت لمعظم وكن رجلا ذا نجدة وعفاف

تذود العدا عن عصبة هاشمية إلافهم في الناس خير إلاف

وأما قريش فهم بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر‏.‏ فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي دون بني كنانة ومن فوقه‏.‏ وربما قالوا‏:‏ قريشي، وهو القياس؛ قال الشاعر‏:‏

بكل قريشي عليه مهابة

فإن أردت بقريش الحي صرفته، وإن أردت به القبيلة لم تصرفه؛ قال الشاعر‏:‏

وكفى قريش المعضلات وسادها

والتقريش‏:‏ الاكتساب، وتقرشوا أي تجمعوا‏.‏ وقد كانوا متفرقين في غير الحرم، فجمعهم قصي ابن كلاب في الحرم، حتى اتخذوه مسكنا‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أبونا قصي كان يدعي مجمعا به جمع الله القبائل من فهر

وقد قيل‏:‏إن قريشا بنو فهر بن مالك بن النضر‏.‏ فكل من لم يلده فهر فليس بقرشي‏.‏ والأول أصح وأثبت‏.‏ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنا ولد النضر بن كنانة لا نقفوا أُمنا، ولا ننتفي من أبينا‏)‏‏.‏ وقال وائلة بن الأسقع‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم‏)‏‏.‏ صحيح ثابت، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما‏.‏ واختلف في تسميتهم قريشا على أقوال‏:‏ أحدهما‏:‏ لتجمعهم بعد التفرق، والتقرش‏:‏ التجمع والالتئام‏.‏ قال أبو جلدة اليشكري‏:‏

إخوة قرشوا الذنوب علينا في حديث من دهرهم وقديم

الثاني‏:‏ لأنهم كانوا تجارا يأكلون من مكاسبهم‏.‏ والتقرش‏:‏ التكسب‏.‏ وقد قرش يقرش قرشا‏:‏ إذا كسب وجمع‏.‏ قال الفراء‏:‏ وبه سميت قريش‏.‏ الثالث‏:‏ لأنهم كانوا يفتشون الحاج من ذي الخلة، فيسدون خلته‏.‏ والقرش‏:‏ التفتيش‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أيها الشامت المقرش عنا عند عمرو فهل له إبقاء

الرابع‏:‏ ما روي أن معاوية سأل ابن عباس لم سميت قريش قريشا‏؟‏ فقال‏:‏ لدابة في البحر من أقوى دوابه يقال لها القرش؛ تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تُعلى‏.‏ وأنشد قول تبع‏:‏

قريش هي التي تسكن البحـ ـر بها سميت قريش قريشا

تأكل الرث والسمين ولا تتـ ـرك فيها لذي جناحين ريشا

هكذا في البلاد حي قريش يأكلون البلاد أكلا كميشا

ولهم آخر الزمان نبي يكثر القتل فيهم والخموشا

الآية رقم ‏(‏2‏)‏

‏{‏إيلافهم رحلة الشتاء والصيف‏}‏

قرأ مجاهد وحميد ‏{‏إلفهم‏}‏ ساكنة اللام بغير ياء‏.‏ وروي نحوه عن ابن كثير‏.‏ وكذلك روت أسماء أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ‏{‏إلفهم‏}‏‏.‏ وروي عن ابن عباس وغيره‏.‏ وقرأ أبو جعفر والوليد عن أهل الشام وأبو حيوة ‏{‏إلافهم‏}‏ مهموزا مختلسا بلا ياء‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم ‏{‏إئلافهم‏}‏ بهمزتي، الأولى مكسورة والثانية ساكنة‏.‏ والجمع بين الهمزتين في الكلمتين شاذ‏.‏ الباقون ‏{‏إيلافهم‏}‏ بالمد والهمز؛ وهو الاختيار، وهو بدل من الإيلاف الأول للبيان‏.‏ وهو مصدر آلف‏:‏ إذا جعلته يألف‏.‏ وألف هو إلفا؛ على ما تقدم ذكره من القراءة؛ أي وما قد ألفوه من رحلة الشتاء والصيف‏.‏ روى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى‏{‏إيلافهم رحلة الشتاء والصيف‏}‏ قال‏:‏ لا يشق عليهم رحلة شتاء ولا صيف، مِنةً منهُ على قريش‏.‏ وقال الهروي وغيره‏:‏ وكان أصحاب الإيلاف أربعة إخوة‏:‏ هاشم، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل؛ بنو عبد مناف‏.‏ فأما هاشم فإنه كان يؤلف ملك الشام؛ أي أخذ منه حبلا وعهدا يأمن به في تجارته إلى الشام‏.‏ وأخوه عبد شمس كان يؤلف إلى الحبشة‏.‏ والمطلب إلى اليمن‏.‏ ونوفل إلى فارس‏.‏ ومعنى يؤلف يجير‏.‏ فكان هؤلاء الإخوة يسمون المجيرين‏.‏ فكان تجار قريش يختلفون إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم‏.‏ قال الزهري‏:‏ الإيلاف‏:‏ شبه الإجارة بالخفارة؛ يقال‏:‏ آلف يؤلف‏:‏ إذا أجار الحمائل بالخفارة‏.‏ والحمائل‏:‏ جمع حمولة‏.‏ قال‏:‏ والتأويل‏:‏ أن قريشا كانوا سكان الحرم، ولم يكن لهم زرع ولا ضرع، وكانوا يميرون في الشتاء والصيف آمنين، والناس يُتَخطفون من حولهم، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا‏:‏ نحن أهل حرم الله، فلا يتعرض الناس لهم‏.‏ وذكر أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في تفسيره‏:‏ حدثنا سعيد بن محمد، عن بكر بن سهل الدمياطي، بإسناده إلى ابن عباس، في قول الله عز وجل‏{‏لإيلاف قريش‏}‏ إلفهم رحلة الشتاء والصيف‏.‏ وذلك أن قريشا كانوا إذا أصابت واحدا منهم مخمصة، جرى هو وعياله إلى موضع معروف، فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا؛ حتى كان عمرو بن عبد مناف، وكان سيد زمانه، وله ابن يقال له أسد، وكان له ترب من بني مخزوم، يحبه ويلعب معه‏.‏ فقال له‏:‏ نحن غدا نعتفد، قال ابن فارس‏:‏ هذه لفظة في هذا الخبر لا أدري‏:‏ بالدال هي أم بالراء؛ فإن كانت بالراء فلعلها من العفر، وهو التراب، وإن كان بالدال، فما أدري معناها، وتأويله على ما أظنه‏:‏ ذهابهم إلى ذلك الخباء، وموتهم واحدا بعد واحد‏.‏ قال‏:‏ فدخل أسد على أمه يبكي، وذكر ما قاله تربه‏.‏ قال‏:‏ فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق، فعاشوا به أياما‏.‏ ثم إن تربه أتاه أيضا فقال‏:‏ نحن غدا نعتفد، فدخل أسد على أبيه يبكي، وخبره خبر تربه، فاشتد ذلك على عمرو بن عبد مناف، فقام خطيبا في قريش وكانوا يطيعون أمره، فقال‏:‏ إنكم أحدثتم حدثا تقلون فيه وتكثر العرب، وتذلون وتعز العرب، وأنتم أهل حرم الله وجل وعز، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم‏.‏ فقالوا‏:‏ نحن لك تبع‏.‏ قال‏:‏ ابتدئوا بهذا الرجل - يعني أبا ترب أسد - فأغنوه عن الاعتفاد، ففعلوا‏.‏ ثم إنه نحر البدن، وذبح الكباش والمعز، ثم هشم الثريد، وأطعم الناس؛ فسمي هاشما‏.‏ وفيه قال الشاعر‏:‏

عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف

ثم جمع كل بني أب على رحلتين‏:‏ في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم؛ فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش، وهو قول شاعرهم‏:‏

والخالطون فقيرهم بغنيهم حتى يصير فقيرهم كالكافي

فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فقال‏{‏فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع‏}‏ بصنيع هاشم‏{‏وآمنهم من خوف‏}‏ أن تكثر العرب ويقلوا‏.‏

قوله تعالى‏{‏رحلة الشتاء والصيف‏}‏ ‏{‏رحلة‏}‏ نصب بالمصدر؛ أي ارتحالهم رحلة؛ أو بوقوع ‏{‏إيلافهم‏}‏ عليه، أو على الظرف‏.‏ ولو جعلتها في محل الرفع، على معنى هما رحلة الشتاء والصيف، لجاز‏.‏ والأول أولى‏.‏ والرحلة الارتحال‏.‏ وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء، لأنها بلاد حامية، والرحلة الأخرى في الصيف إلى الشام، لأنها بلاد باردة‏.‏ وعن ابن عباس أيضا قال‏:‏ كانوا يشتون بمكة لدفئها، ويصيفون بالطائف لهوائها‏.‏ وهذه من أجل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء، وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف؛ فذكرهم الله تعالى هذه النعمة‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

تشتي بمكة نعمة ومصيفها بالطائف

اختار القاضي أبو بكر بن العربي وغيره من العلماء‏:‏ أن قوله تعالى‏{‏لإيلاف‏}‏ متعلق بما قبله‏.‏ ولا يجوز أن يكون متعلقا بما بعده، وهو قوله تعالى‏{‏فليعبدوا رب هذا البيت‏}‏ قال‏:‏ وإذا ثبت أنه متعلق بالسورة الأخرى - وقد قطع عنه بكلام مبتدأ، واستئناف بيان وسطر ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏،فقد تبين جواز الوقف في القراءة للقراء قبل تمام الكلام، وليست المواقف التي ينتزع بها القراء شرعا عن النبي صلى الله عليه وسلم مرويا، وإنما أرادوا به تعليم الطلبة المعاني، فإذا علموها وقفوا حيث شاءوا‏.‏ فأما الوقف عند انقطاع النفس فلا خلاف فيه، ولا تعد ما قبله إذا اعتراك ذلك، ولكن ابدأ من حيث وقف بك نفسك‏.‏ هذا رأيي فيه، ولا دليل على ما قالوه، بحال، ولكني أعتمد الوقف على التمام، كراهية الخروج عنهم‏.‏

قلت‏:‏ ومن الدليل على صحة هذا، قراءة النبي صلى الله عليه وسلم‏{‏الحمد لله رب العالمين‏}‏ ثم يقف‏.‏ ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ ثم يقف‏.‏ وقد مضى في مقدمة الكتاب‏.‏ وأجمع المسلمون أن الوقف عند قوله‏{‏كعصف مأكول‏}‏الفيل‏:‏ 5‏‏ ليس بقبيح‏.‏ وكيف يقال إنه قبيح وهذه السورة تقرأ في الركعة الأولى والتي بعدها في الركعة الثانية، فيتخللها من قطع القراءة أركان‏؟‏ وليس أحد من العلماء يكره ذلك، وما كانت العلة فيه إلا أن قوله تعالى‏{‏فجعلهم كعصف مأكول‏}‏الفيل‏:‏ 5‏انتهاء آية‏.‏ فالقياس على ذلك‏:‏ ألا يمتنع الوقف عند أعجاز الآيات سواء كان الكلام يتم، والغرض ينتهي، أو لا يتم، ولا ينتهي‏.‏ وأيضا فإن الفواصل حلية وزينة للكلام المنظوم، ولولاها لم يتبين المنظوم من المنثور‏.‏ ولا خفاء أن الكلام المنظوم أحسن؛ فثبت بذلك أن الفواصل من محاسن المنظوم، فمن أظهر فواصله بالوقوف عليها فقد أبدى محاسنه، وترك الوقوف يخفي تلك المحاسن، ويشبه المنثور بالمنظوم‏,‏ وذلك إخلال بحق المقروء‏.‏

قال مالك‏:‏ الشتاء نصف السنة، والصيف نصفها، ولم أزل أرى ربيعة بن أبي عبدالرحمن ومن معه، لا يخلعون عمائمهم حتى تطلع الثريا، وهو يوم التاسع عشر من بشنس، وهو يوم خمسة وعشرين من عدد الروم أو الفرس‏.‏ وأراد بطلوع الثريا أن يخرج السعاة، ويسير الناس بمواشيهم إلى مياههم، وأن طلوع الثريا أول الصيف ودبر الشتاء‏.‏ وهذا مما لا خلاف فيه بين أصحابه عنه‏.‏ وقال عنه أشهب وحده‏:‏ إذا سقطت الهقعة نقص الليل،، فلما جعل طلوع الثريا أول الصيف، وجب أن يكون له في مطلق السنة ستة أشهر، ثم يستقبل الشتاء من بعد ذهاب الصيف ستة أشهر‏.‏ وقد سئل محمد بن عبدالحكم عمن حلف ألا يكلم أمرأ حتى يدخل الشتاء‏؟‏ فقال‏:‏ لا يكلمه حتى يمضى سبعة عشر من هاتور‏.‏ ولو قال يدخل الصيف، لم يكلمه حتى يمضى سبعة عشر من بشنس‏.‏ قال القرظي‏:‏ أما ذكر هذا عن محمد في بشنس، فهو سهو، إنما هو تسعة عشر من بشنس، لأنك إذ حسبت المنازل على ما هي عليه، من ثلاث عشرة ليلة كل منزلة، علمت أن ما بين تسع عشرة من هاتور لا تنقضي منازل إلا بدخول تسع عشرة من بشنس‏.‏ والله أعلم‏.‏

قال قوم‏:‏ الزمان أربعة أقسام‏:‏ شتاء، وربيع، وصيف، وخريف‏.‏ وقال قوم‏:‏ هو شتاء، وصيف، وقيظ، وخريف‏.‏ والذي قاله مالك أصح؛ لأن الله قسم الزمان قسمين ولم يجعل لهما ثالثا‏.‏

الثالثة‏:‏ لما امتن الله تعالى على قريش برحلتين، شتاء وصيفا، على ما تقدم، كان فيه دليل على جواز تصرف الرجل في الزمانين بين محلين، يكون حالهما في كل زمان أنعم من الآخر؛ كالجلوس في المجلس البحري في الصيف، وفي القبلي في الشتاء، وفي اتخاذ البادهنجات والخيش للتبريد، واللبد واليانوسة للدفء‏.‏

الآية رقم ‏(‏3‏)‏

‏{‏فليعبدوا رب هذا البيت‏}‏

أمرهم الله تعالى بعبادته وتوحيده، لأجل إيلافهم رحلتين‏.‏ ودخلت الفاء لأجل ما في الكلام من معنى الشرط، لأن المعنى‏:‏ إما لا فليعبدوه لإيلافهم؛ على معنى أن نعم الله تعالى عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لشأن هذه الواحدة، التي هي نعمة ظاهرة‏.‏ والبيت‏:‏ الكعبة‏.‏ وفي تعريف نفسه لهم بأنه رب هذا البيت وجهان‏:‏ أحدهما لأنه كانت لهم أوثان فيميز نفسه عنها‏.‏ الثاني‏:‏ لأنهم بالبيت شرفوا على سائر العرب، فذكر لهم ذلك، تذكيرا لنعمته‏.‏ وقيل‏{‏فليعبدوا رب هذا البيت‏}‏ أي ليألفوا عبادة رب الكعبة، كما كانوا يألفون الرحلتين‏.‏ قال عكرمة‏:‏ كانت قريش قد ألفوا رحلة إلى بصرى ورحلة إلى اليمن، فقيل لهم‏{‏ فليعبدا رب هذا البيت‏}‏ أي يقيموا بمكة‏.‏ رحلة الشتاء، إلى اليمن، والصيف‏:‏ إلى الشام‏.‏

الآية رقم ‏(‏4‏)‏

‏{‏الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذي أطعمهم من جوع‏}‏ أي بعد جوع‏.‏ ‏{‏وآمنهم من خوف‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال‏{‏رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات‏}‏البقرة‏:‏ 126‏‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ كانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها من بعض، فأمنت قريش من ذلك المكان الحرم - وقرأ - ‏{‏أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء‏}‏القصص‏:‏ 57‏.‏ وقيل‏:‏ شق عليهم السفر في الشتاء والصيف، فألقى الله في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاما في السفن، فحملوه؛ فخافت قريش منهم، وظنوا أنهم قدموا لحربهم، فخرجوا إليهم متحرزين، فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام، وأغاثوهم بالأقوات؛ فكان أهل مكة يخرجون إلى جدة بالإبل والحمر، فيشترون الطعام، على مسيرة ليلتين‏.‏ وقيل‏:‏ هذا الإطعام هو أنهم لما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم، فقال‏:‏ ‏(‏اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف‏)‏ فاشتد القحط، فقالوا‏:‏ يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون‏.‏ فدعا فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمين؛ فحملوا الطعام إلى مكة، وأخصب أهلها‏.‏ وقال الضحاك والربيع وشريك وسفيان‏{‏وآمنهم من خوف‏}‏ أي من خوف الجذام، لا يصيبهم ببلدهم الجذام‏.‏ وقال الأعمش‏{‏وآمنهم من خوف‏}‏ أي من خوف الحبشة مع الفيل‏.‏ وقال علي رضي الله عنه‏{‏وآمنهم من خوف‏}‏ أن تكون الخلافة إلاًّ فيهم‏.‏ وقيل‏:‏ أي كفاهم أخذ الإيلاف من الملوك‏.‏ فالله أعلم، واللفظ يعم‏.‏
 
سورة الماعون

الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 2‏)‏

‏{‏أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏أرأيت الذي يكذب بالدين‏}‏ أي بالجزاء والحساب في الآخرة؛ وقد تقدم في الفاتحة ‏.‏ و‏{‏أرأيت‏}‏ بإثبات الهمزة الثانية؛ إذ لا يقال في أرأيت‏:‏ ريت، ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفا؛ ذكره الزجاج‏.‏ وفي الكلام حذف؛ والمعنى‏:‏ أرأيت الذي يكذب بالدين‏:‏ أمصيب هو أم مخطئ‏.‏ واختلف فيمن نزل هذا فيه؛ فذكر أبو صالح عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت في العاص بن وائل السهمي؛ وقاله الكلبي ومقاتل‏.‏ وروى الضحاك عنه قال‏:‏ نزلت في رجل من المنافقين‏.‏ وقال السدي‏:‏ نزلت في الوليد بن المغيرة‏.‏ وقيل في أبي جهل‏.‏ الضحاك‏:‏ في عمرو بن عائذ‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ نزلت في أبي سفيان، وكان ينحر في كل أسبوع جزورا، فطلب منه يتيم شيئا، فقرعه بعصاه؛ فأنزل الله هذه السورة‏.‏ و‏{‏يدع‏}‏ أي يدفع، كما قال‏{‏يدعون إلى نار جهنم دعا‏}‏الطور‏:‏ 13‏]‏ وقد تقدم‏.‏ وقال الضحاك عن ابن عباس‏{‏فذلك الذي يدع اليتيم‏}‏ أي يدفعه عن حقه‏.‏ قتادة‏:‏ يقهره ويظلمه‏.‏ والمعنى متقارب‏.‏ وقد تقدم في سورة النساء أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار، ويقولون‏:‏ إنما يحوز المال من يطعن بالسنان، ويضرب بالحسام‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من ضم يتيما من المسلمين حتى يستعني فقد وجبت له الجنة‏)‏‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في غير موضع‏.‏

الآية رقم ‏(‏3‏)‏

‏{‏ولا يحض على طعام المسكين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا يحض على طعام المسكين‏}‏ أي لا يأمر به، من أجل بخله وتكذيبه بالجزاء‏.‏ وهو مثل قوله تعالى في سورة الحاقة‏{‏ولا يحض على طعام المسكين‏}‏الحاقة‏:‏ 34‏]‏ وقد تقدم‏.‏ وليس الذم عاما حتى يتناول من تركه عجزا، ولكنهم كانوا يبخلون ويعتذرون لأنفسهم، ويقولون‏{‏أنطعم من لو يشاء الله أطعمه‏}‏يس‏:‏ 47‏]‏، فنزلت هذه الآية فيهم، وتوجه الذم إليهم‏.‏ فيكون معنى الكلام‏:‏ لا يفعلونه إن قدروا، ولا يحثون عليه إن عسروا‏.‏

الآية رقم ‏(‏4 ‏:‏ 7‏)‏

‏{‏فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراؤون، ويمنعون الماعون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فويل للمصلين‏}‏ أي عذاب لهم‏.‏ وقد تقدم في غير موضع‏.‏ ‏{‏الذين هم عن صلاتهم ساهون‏{‏ فروى الضحاك عن ابن عباس قال هو المصلي الذي إن صلى لم يرج لها ثوابا، وإن تركها لم يخش عليها عقابا‏.‏ وعنه أيضا‏:‏ الذين يؤخرونها عن أوقاتها‏.‏ وكذا روى المغيرة عن إبراهيم، قال‏:‏ ساهون بإضاعة الوقت‏.‏ وعن أبي العالية‏:‏ لا يصلونها لمواقيتها، ولا يتمون ركوعها ولا سجودها‏.‏

قلت‏:‏ ويدل على هذا قوله تعالى‏{‏فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة‏}‏مريم‏:‏ 59‏]‏ حسب ما تقدم بيانه في سورة مريم عليها السلام‏.‏ وروي عن إبراهيم أيضا‏:‏ أنه الذي إذا سجد قام برأسه هكذا ملتفتا‏.‏ وقال قطرب‏:‏ هو ألا يقرأ ولا يذكر الله‏.‏ وفي قراءة عبدالله ‏{‏الذين هم عن صلاتهم لاهون‏}‏‏.‏ وقال سعد بن أبي وقاص‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏{‏فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون‏}‏ - قال - ‏:‏ ‏(‏الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، تهاونا بها‏)‏‏.‏ وعن ابن عباس أيضا‏:‏ هم المنافقون يتركون الصلاة سرا، يصلونها علانية ‏{‏وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى‏}‏النساء‏:‏ 142‏]‏ ‏.‏‏.‏ الآية‏.‏ ويدل على أنها في المنافقين قوله‏{‏الذين هم يراؤون‏}‏، وقال ابن وهب عن مالك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ولو قال في صلا‏:‏الم وقال عطاء‏:‏ الحمد لله الذي قال ‏{‏عن صلاتهم‏}‏ ولم يقل في صلاتهم‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ أي فرق بين قوله‏{‏عن صلاتهم‏}‏، وبين قولك‏:‏ في صلاتهم‏؟‏ قلت‏:‏ معنى ‏{‏عن‏}‏ أنهم ساهون عنها سهو ترك لها، وقلة التفات إليها، وذلك فعل المنافقين، أو الفسقة الشطار من المسلمين‏.‏ ومعنى ‏{‏في‏}‏ أن السهو يعتريهم فيها، بوسوسة شيطان، أو حديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته، فضلا عن غيره؛ ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ لأن السلامة من السهو محال، وقد سها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته والصحابة‏:‏ وكل من لا يسهو في صلاته، فذلك رجل لا يتدبرها، ولا يعقل قراءتها، وإنما همه في أعدادها؛ وهذا رجل يأكل القشور، ويرمي اللب‏.‏ وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسهو في صلاته إلا لفكرته في أعظم منها؛ اللهم إلا أنه قد يسهو في صلاته من يقبل على وسواس الشيطان إذا قال له‏:‏ اذكر كذا، اذكر كذا؛ لما لم يكن يذكر، حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى‏.‏

قوله تعالى‏{‏الذين هم يراؤون‏}‏ أي يري الناس أنه يصلي طاعة وهو يصلي تقية؛ كالفاسق، يرى أنه يصلي عبادة وهو يصلي ليقال‏:‏ إنه يصلي‏.‏ وحقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس‏.‏ وأولها تحسين السمت؛ وهو من أجزاء النبوة، ويريد بذلك الجاه والثناء‏.‏ وثانيها‏:‏ الرياء بالثياب القصار والخشنة؛ ليأخذ بذلك هيئة الزهد في الدنيا‏.‏ وثالثها‏:‏ الرياء بالقول، بإظهار التسخط على أهل الدنيا؛ وإظهار الوعظ والتأسف على ما يفوت من الخير والطاعة‏.‏ ورابعها‏:‏ الرياء بإظهار الصلاة والصدقة، أو بتحسين الصلاة لأجل رؤية الناس؛ وذلك يطول، وهذا دليله؛ قاله ابن العربي‏.‏

قلت‏:‏ قد تقدم في سورة النساء وهود وآخر الكهف القول في الرياء وأحكامه وحقيقته بما فيه كفاية‏.‏ والحمد لله‏.‏

ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة؛ فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ولا غمة في فرائض الله‏)‏ لأنها أعلام الإسلام، وشعائر الدين، ولأن تاركها يستحق الذم والمقت؛ فوجب إماطة التهمة بالإظهار، وإن كان تطوعا فحقه أن يخفي؛ لأنه لا يلام تركه ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصدا للاقتداء به كان جميلا‏.‏ وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين، فتثني عليه بالصلاح‏.‏ وعن بعضهم أنه رأى رجلا في المسجد قد سجد سجدة الشكر فأطالها؛ فقال‏:‏ ما أحسن هذا لو كان في بيتك‏.‏ وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في سورة البقرة‏{‏ عند قوله تعالى‏{‏إن تبدوا الصدقات‏}‏البقرة‏:‏ 271‏]‏، وفي غير موضع‏.‏ والحمد لله على ذلك‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويمنعون الماعون‏}‏ فيه اثنا عشر قولا‏:‏ الأول‏:‏ أنه زكاة أموالهم‏.‏ كذا روى الضحاك عن ابن عباس‏.‏ وروى عن علي رضي الله عنه مثل ذلك، وقاله مالك‏.‏ والمراد به المنافق يمنعها‏.‏ وقد روى أبو بكر بن عبدالعزيز عن مالك قال‏:‏ بلغني أن قوله الله تعالى‏{‏فويل للمصلين‏.‏ الذين هم على صلاتهم ساهون‏.‏ الذين هم يراؤون‏.‏ ويمنعون الماعون‏}‏ قال‏:‏ إن المنافق إذا صلى صلى رياءً، وإن فاتته لم يندم عليها، ‏{‏ويمنعون الماعون‏}‏ الزكاة التي فرض الله عليهم‏.‏ قال زيد بن أسلم‏:‏ لو خفيت لهم الصلاة كما خفيت لهم الزكاة ما صلوا‏.‏ القول الثاني‏:‏ أن ‏{‏الماعون‏}‏ المال، بلسان قريش؛ قاله ابن شهاب وسعيد بن المسيب‏.‏ وقول ثالث‏:‏ أنه اسم جامع لمنافع البيت كالفأس والقدر والنار وما أشبه ذلك؛ قاله ابن مسعود، وروي عن ابن عباس أيضا‏.‏ قال الأعشى‏:‏

بأجود منه بما عونه إذا ما سماؤهم لم تغم

الرابع‏:‏ ذكر الزجاج وأبو عبيد والمبرد أن الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة، حتى الفأس والقدر والدلو والقداحة، وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير؛ وأنشدوا بيت الأعشى‏.‏ قالوا‏:‏ والماعون في الإسلام‏:‏ الطاعة والزكاة؛ وأنشدوا قول الراعي‏:‏

أخليفة الرحمن إنا معشر حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

عرب نرى لله من أموالنا حق الزكاة منزلا تنزيلا

قوم على الإسلام لما يمنعوا ما عونهم ويضيعوا التهليلا

يعني الزكاة‏.‏ الخامس‏:‏ أنه العارية؛ وروي عن ابن عباس أيضا‏.‏ السادس‏:‏ أنه المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم؛ قاله محمد بن كعب والكلبي‏.‏ السابع‏:‏ أنه الماء والكلأ‏.‏ الثامن‏:‏ الماء وحده‏.‏ قال الفراء‏:‏ سمعت بعض العرب يقول‏:‏ الماعون‏:‏ الماء؛ وأنشدني فيه‏:‏

يمج صبيره الماعون صبا

الصبير‏:‏ السحاب‏.‏ التاسع‏:‏ أنه منع الحق؛ قاله عبدالله بن عمر‏.‏ العاشر‏:‏ أنه المستغل من منافع الأموال؛ مأخوذ من المعن وهو القليل؛ حكاه الطبري ابن عباس‏.‏ قال قطرب‏:‏ أصل الماعون من القلة‏.‏ والمعن‏:‏ الشيء القليل؛ تقول العرب‏:‏ ماله سعنة ولا معنة؛ أي شيء قليل‏.‏ فسمى الله تعالى الزكاة والصدقة ونحوهما من المعروف، ماعونا؛ لأنه قليل من كثير‏.‏ ومن الناس من قال‏:‏ الماعون‏:‏ أصله معونة، والألف عوض من الهاء؛ حكاه الجوهري‏.‏ ابن العربي‏:‏ الماعون‏:‏ مفعول من أعان يعين، والعون‏:‏ هو الإمداد بالقوة والآلات والأسباب الميسرة للأمر‏.‏ الحادي عشر‏:‏ أنه الطاعة والانقياد‏.‏ حكى الأخفش عن أم أعرابي فصيح‏:‏ لو قد نزلنا لصنعت بناقتك صنيعا تعطيك الماعون؛ أي تنقاد لك وتعطيك‏.‏ قال الراجز‏:‏

متى تصادفهن في البرين يخضعن أو يعطين بالماعون

وقيل‏:‏ هو ما لا يحل منعه، كالماء والملح والنار؛ لأن عائشة رضوان الله عليها قالت‏:‏ قلت يا رسول الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الماء والنار والملح‏)‏ قلت‏:‏ يا رسول الله هذا الماء، فما بال النار والملح‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا عائشة من أعطى نارا فكأنما تصدق بجميع ما طبخ بتلك النار، ومن أعطى ملحا فكأنما تصدق بجميع ما طيب به ذلك الملح، ومن سقى شربة من الماء حيث يوجد الماء، فكأنما أعتق ستين نسمة‏.‏ ومن سقى شربة من الماء حيث لا يوجد، فكأنما أحيا نفسا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا‏)‏‏.‏ ذكره الثعلبي في تفسيره، وخرجه ابن ماجه في سننه‏.‏ وفي إسناده لين؛ وهو القول الثاني عشر‏.‏ الماوردي‏:‏ ويحتمل أنه المعونة بما خف فعله وقد ثقله الله‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقيل لعكرمة مولى ابن عباس‏:‏ من منع شيئا من المتاع كان له الويل‏؟‏ فقال‏:‏ لا، ولكن من جمع ثلاثهن فله الويل؛ يعني‏:‏ ترك الصلاة، والرياء، والبخل بالماعون‏.‏

قلت‏:‏ كونها في المنافقين أشبه، وبهم أخلق؛ لأنهم جمعوا الأوصاف الثلاثة‏:‏ ترك الصلاة، والرياء، والبخل بالمال؛ قال الله تعالى‏{‏وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا‏}‏النساء‏:‏ 142‏]‏، وقال‏{‏ولا ينفقون إلا وهم كارهون‏}‏‏.‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وهذه أحوالهم ويبعد أن توجد من مسلم محقق، وإن وجد بعضها فيلحقه جزء من التوبيخ، وذلك في منع الماعون إذا تعين؛ كالصلاة إذا تركها‏.‏ والله أعلم‏.‏ إنما يكون منعا قبيحا في المروءة في غير حال الضرورة‏.‏ والله أعلم‏.‏
 
سورة الكوثر

الآية رقم ‏(‏1‏)‏

‏{‏إنا أعطيناك الكوثر‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنا أعطيناك الكوثر‏}‏ قراءة العامة‏.‏ ‏{‏إنا أعطيناك‏}‏ بالعين‏.‏ وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف‏{‏أنطيناك‏}‏ بالنون؛ وروته أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهي لغة في العطاء؛ أنطيته‏:‏ أعطيته‏.‏ و‏{‏الكوثر‏}‏‏:‏ فوعل من الكثرة؛ مثل النوفل من النفل، والجوهر من الجهر‏.‏ والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد والقدر والخطر كوثرا‏.‏ قال سفيان‏:‏ قيل لعجوز رجع ابنها من السفر‏:‏ بم آب ابنك‏؟‏ قالت بكوثر؛ أي بمال كثير‏.‏ والكوثر من الرجال‏:‏ السيد الكثير الخير‏.‏ قال الكميت‏:‏

وأنت كثير يا ابن مروان طيب وكان أبوك ابن العقائل كوثرا

والكوثر‏:‏ العدد الكثير من الأصحاب والأشياع‏.‏ والكوثر من الغبار‏:‏ الكثير‏.‏ وقد تكوثر إذا كثر؛ قال الشاعر‏:‏

وقد ثار الموت حتى تكوثرا

واختلف أهل التأويل في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم على ستة عشر قولا‏:‏ الأول‏:‏ أنه نهر في الجنة؛ رواه البخاري عن أنس والترمذي أيضا وقد ذكرناه في كتاب التذكرة‏.‏ و‏"‏روى الترمذي أيضا عن ابن عمر‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الكوثر‏:‏ نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج‏)‏‏.‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ الثاني‏:‏ أنه حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف؛ قاله عطاء‏.‏ ‏"‏وفي صحيح مسلم عن أنس‏‏ قال‏:‏ بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما فقلنا‏:‏ ما أضحكك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ نزلت على آنفا سورة - فقرأ - بسم الله الرحمن الرحيم‏{‏إنا أعطيناك الكوثر‏.‏ فصل لربك وأنحر‏.‏ إن شانئك هو الأبتر‏}‏ - ثم قال - أتدرون ما الكوثر‏؟‏‏.‏ قلنا الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول إنه من أمتي، فيقال إنك لا تدري ما أحدث بعدك‏.‏

والأخبار في حوضه في الموقف كثيرة، ذكرناها في كتاب التذكرة ‏.‏ وأن على أركانه الأربعة خلفاءه الأربعة؛ رضوان الله عليهم‏.‏ وأن من أبغض واحدا منهم لم يسقه الآخر، وذكرنا هناك من يُطرد عنه‏.‏ فمن أراد الوقوف على ذلك تأمله هناك‏.‏ ثم يجوز أن يسمى ذلك النهر أو الحوض كوثرا، لكثرة الواردة والشاربة من أمة محمد عليه السلام هناك‏.‏ ويسمى به لما فيه من الخير الكثير والماء الكثير‏.‏ الثالث‏:‏ أن الكوثر النبوة والكتاب؛ قاله عكرمة‏.‏ الرابع‏:‏ القرآن؛ قاله الحسن‏.‏ الخامس‏:‏ الإسلام؛ حكاه المغيرة‏.‏ السادس‏:‏ تيسير القرآن وتخفيف الشرائع؛ قاله الحسين بن الفضل‏.‏ السابع‏:‏ هو كثرة الأصحاب والأمة والأشياع؛ قاله أبو بكر بن عياش ويمان ابن رئاب‏.‏ الثامن‏:‏ أنه الإيثار؛ قال ابن كيسان‏.‏ التاسع‏:‏ أنه رفعة الذكر‏.‏ حكاه الماوردي‏.‏ العاشر‏:‏ أنه نور في قلبك دلك علي، وقطعك عما سواي‏.‏ وعنه‏:‏ هو الشفاعة؛ وهو الحادي عشر‏.‏ وقيل‏:‏ معجزات الرب هدي بها أهل الإجابة لدعوتك؛ حكاه الثعلبي، وهو الثاني عشر‏.‏ الثالث عشر‏:‏ قال هلال بن يساف‏:‏ هو لا إله إلا الله محمد رسول الله‏.‏ وقيل‏:‏ الفقه في الدين‏.‏ وقيل‏:‏ الصلوات الخمس؛ وهما الرابع عشر والخامس عشر‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ هو العظيم من الأمر؛ وذكر بيت لبيد‏:‏

وصاحب ملحوب فجعنا بفقده وعند الرداع بيت آخر كوثر

أي عظيم‏.‏

قلت‏:‏ أصح هذه الأقوال الأول والثاني؛ لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الكوثر‏.‏ وسمع أنس قوما يتذاكرون الحوض فقال‏:‏ ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض، لقد تركت عجائز خلفي، ما تصلي امرأة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي حوضه يقول الشاعر‏:‏

يا صاحب الحوض من يدانيكا وأنت حقا حبيب باريكا

وجميع ما قيل بعد ذلك في تفسيره قد أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة على حوضه، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا‏.‏

الآية رقم ‏(‏2‏)‏

‏{‏فصل لربك وانحر‏}‏

قوله تعالى‏{‏فصل‏}‏ أي أقم الصلاة المفروضة عليك؛ كذا رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏ وقال قتادة وعطاء وعكرمة‏{‏فصل لربك‏}‏ صلاة العيد ويوم النحر‏.‏ ‏{‏وانحر‏}‏ نسكك‏.‏ وقال أنس‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحر ثم يصلي، فأمر أن يصلي ثم ينحر‏.‏ وقال سعيد بن جبير أيضا‏:‏ صل لربك صلاة الصبح المفروضة بجمع، وانحر البدن بمني، وقال سعيد بن جبير أيضا‏:‏ نزلت في الحديبية حين حصر النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت، فأمره الله تعالى أن يصلي وينحر البدن وينصرف؛ ففعل ذلك‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ أما من قال‏:‏ إن المراد بقوله تعالى‏{‏فصل‏}‏‏:‏ الصلوات الخمس؛ فإنها ركن العبادات، وقاعدة الإسلام، وأعظم دعائم الدين‏.‏ وأما من قال‏:‏ إنها صلاة الصبح بالمزدلفة؛ فلأنها مقرونة بالنحر، وهو في ذلك اليوم، ولا صلاة فيه قبل النحر غيرها؛ فخصها بالذكر من جملة الصلوات لاقترانها بالنحر‏{‏‏.‏

قلت‏:‏ وأما من قال إنها صلاه العيد؛ فذلك بغير مكة؛ إذ ليس بمكة صلاة عيد بإجماع، فيما حكاه ابن عمر‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ فأما مالك فقال‏:‏ ما سمعت فيه شيئا، والذي يقع في نفسي أن المراد بذلك صلاة يوم النحر، والنحر بعدها‏.‏ وقال علي رضي الله عنه ومحمد بن كعب‏:‏ المعنى ضع اليمني على اليسرى حذاء النحر في الصلاة‏.‏ وروي عن ابن عباس أيضا‏.‏ وروي عن علي أيضا‏:‏ أن يرفع يديه في التكبير إلى نحوه‏.‏ وكذا قال جعفر بن علي‏{‏فصل لربك وانحر‏}‏ قال‏:‏ يرفع يديه أول ما يكبر للإحرام إلى النحر‏.‏ وعن علي رضي الله عنه قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏فصل لربك وانحر‏}‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل‏:‏ ‏(‏ما هذه النحيرة التي أمرني الله بها‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ليست بنحيرة، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة، أن ترفع يديك إذا كبرت، وإذا رفعت رأسك من الركوع، وإذا سجدت، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السموات السبع، وإن لكل شيء زينة، وإن زينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيره‏)‏‏.‏ وعن أبي صالح عن ابن عباس قال‏:‏ استقبل القبلة بنحرك؛ وقاله الفراء والكلبي وأبو الأحوص‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

أبا حكم ما أنت عم مجالد وسيد أهل الأبطح المتناحر

أي المتقابل‏.‏ قال الفراء‏:‏ سمعت بعض العرب يقول‏:‏ منازلنا تتناحر؛ أي نتقابل، نحر هذا بنحر هذا؛ أي قبالته‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ هو انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب؛ من قولهم‏:‏ منازلهم تتناحر؛ أي تتقابل‏.‏ وروي عن عطاء قال‏:‏ أمره أن يستوي بين السجدتين جالسا حتى يبدو نحره‏.‏ وقال سليمان التيمي‏:‏ يعني وارفع يدك بالدعاء إلى نحرك‏.‏ وقيل‏{‏فصل‏}‏ معناه‏:‏ واعبد‏.‏ وقال محمد بن كعب القرظي‏{‏إنا أعطيناك الكوثر‏.‏ فصل لربك وأنحر‏}‏ يقول‏:‏ إن ناسا يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله؛ وقد أعطيناك الكوثر، فلا تكن صلاتك ولا نحرك إلا لله‏.‏ قاله ابن العربي‏:‏ والذي عندي أنه أراد‏:‏ أعبد ربك، وانحر له، فلا يكن عملك إلا لمن خصك بالكوثر، وبالحري أن يكون جميع العمل يوازي هذه الخصوصية من الكوثر، وهو الخير الكثير، الذي أعطاكه الله، أو النهر الذي طينه مسك، وعدد آنيته نجوم السماء؛ أما أن يوازي هذا صلاة يوم النحر، وذبح كبش أو بقرة أو بدنة، فذلك يبعد في التقدير والتدبير، وموازنة الثواب للعبادة‏.‏ والله أعلم‏.‏

قد مضى القول في سورة الصافات في الأضحية وفضلها، ووقت ذبحها؛ فلا معنى لإعادة ذلك‏.‏ وذكرنا أيضا في سورة الحج جملة من أحكامها‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ ومن عجيب الأمر‏:‏ أن الشافعي قال‏:‏ إن من ضحى قبل الصلاة أجزأه، والله تعالى يقول في كتابه‏{‏فصل لربك وأنحر‏}‏، فبدأ بالصلاة قبل النحر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري وغيره، عن البراء بن عازب، قال‏:‏ ‏(‏أول ما نبدأ به في يومنا هذا‏:‏ نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعل فقد أصاب نسكنا، ومن ذبح قبل، فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء‏)‏‏.‏ وأصحابه ينكرونه، وحبذا الموافقة‏.‏

وأما ما روي عن علي عليه السلام‏{‏ فصل لربك وانحر‏}‏ قال‏:‏ وضع اليمين على الشمال في الصلاة خرجه الدار قطني، فقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال‏:‏ الأول‏:‏ لا توضع فريضة ولا نافلة؛ لأن ذلك من باب الاعتماد‏.‏ ولا يجوز في الفرض، ولا يستحب في النفل‏.‏ الثاني‏:‏ لا يفعلها في الفريضة، ويفعلها في النافلة استعانة؛ لأنه موضع ترخص‏.‏ الثالث‏:‏ يفعلها في الفريضة والنافلة‏.‏ وهو الصحيح؛ لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمني على اليسرى من حديث وائل بن حجر وغيره‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وبه قال مالك وأحمد وإسحاق، وحكي ذلك عن الشافعي‏.‏ واستحب ذلك أصحاب الرأي‏.‏ ورأت جماعة إرسال اليد‏.‏ وممن روينا ذلك عنه ابن المنذر والحسن البصري وإبراهيم النخعي‏.‏

قلت‏:‏ وهو مروي أيضا عن مالك‏.‏ قال ابن عبدالبر‏:‏ إرسال اليدين، ووضع اليمني على الشمال، كل ذلك من سنة الصلاة‏.‏

واختلفوا في الموضع الذي توضع عليه اليد؛ فروى عن علي بن أبي طالب‏:‏ أنه وضعهما على صدره‏.‏ وقال سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل‏:‏ فوق السرة‏.‏ وقال‏:‏ لا بأس إن كانت تحت السرة‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ توضع تحت السرة‏.‏ وروي ذلك عن علي وأبي هريرة والنخعي وأبي مجلز‏.‏ وبه قال سفيان الثوري وإسحاق‏.‏

وأما رفع اليدين في التكبير عند الافتتاح والركوع والرفع من الركوع والرفع من الركوع والسجود، فاختلف في ذلك؛ ف‏"‏روى الدار قطني من حديث حميد‏ عن أنس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا دخل في الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا سجد‏.‏ لم يروه عن حميد مرفوعا إلا عبدالوهاب الثقفي‏.‏ والصواب‏:‏ من فعل أنس‏.‏ وفي الصحيحين من حديث ابن عمر، قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه، حتى تكونا حذو منكبيه، ثم يكبر، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك حين يرفع رأسه من الركوع، ويقول سمع الله لمن حمده‏.‏ ولا يفعل ذلك حين يرفع رأسه من السجود‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وهذا قول الليث بن سعد، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور‏.‏ وحكى ابن وهب عن مالك هذا القول‏.‏ وبه أقوال؛ لأنه الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ يرفع المصلي يديه حين يفتتح الصلاة، ولا يرفع فيما سوى ذلك‏.‏ هذا قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي‏.‏

قلت‏:‏ وهو المشهور من مذهب مالك؛ لحديث ابن مسعود؛ خرجه الدار قطني من حديث إسحاق بن أبي إسرائيل، قال‏:‏ حدثنا محمد بن جابر عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال‏:‏ صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فلم يرفعوا أيديهم إلا أولا عند التكبيرة الأولى في افتتاح الصلاة‏.‏ قال إسحاق‏:‏ به نأخذ في الصلاة كلها‏.‏ قال الدار قطني‏:‏ تفرد به محمد بن جابر وكان ضعيفا عن حماد عن إبراهيم‏.‏ وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلا عن عبدالله، من فعله، غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو الصواب‏.‏ وقد روى يزيد بن أبي زياد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن البراء‏:‏ أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، ثم لم يعد إلى شيء من ذلك حتى فرغ من الصلاة‏.‏ قال ‏"‏الدار قطني‏"‏‏:‏ وإنما لقن يزيد في آخر عمره‏:‏ ثم لم يعد؛ فتلقنه وكان قد اختلط‏.‏ وفي مختصر ما ليس في المختصر عن مالك‏:‏ لا يرفع اليدين في شيء من الصلاة‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ ولم أر مالكا برفع يديه عند الإحرام، قال‏:‏ وأحب إلي ترك رفع اليدين عند الإحرام‏.‏

الآية رقم ‏(‏3‏)‏

‏{‏إن شانئك هو الأبتر‏}‏

أي مبغضك؛ وهو العاص بن وائل‏.‏ وكانت العرب تسمي من كان له بنون وبنات، ثم مات البنون وبقي البنات‏:‏ أبتر‏.‏ فيقال‏:‏ إن العاص وقف مع النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه، فقال له جمع من صناديد قريش‏:‏ مع من كنت واقفا‏؟‏ فقال‏:‏ مع ذلك الأبتر‏.‏ وكان قد توفي قبل ذلك عبدالله بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من خديجة؛ فأنزل الله جل شأنه‏{‏إن شانئك هو الأبتر‏}‏0 أي المقطوع ذكره، من خير الدنيا والآخرة‏.‏ وذكر عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ كان أهل الجاهلية إذا مات ابن الرجل قالوا‏:‏ بتر فلان‏.‏ فلما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل إلى أصحابه، فقال‏:‏ بتر محمد؛ فأنزل الله جل ثناؤه‏{‏إن شانئك هو الأبتر‏}‏ يعني بذلك أبا جهل‏.‏ وقال شمر بن عطية‏:‏ هو عقبة بن أبي معيط‏.‏ وقيل‏:‏ إن قريشا كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده‏:‏ قد بتر فلان‏.‏ فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه القاسم‏:‏ بمكة، وإبراهيم بالمدينة، قالوا‏:‏ بتر محمد، فليس له من يقوم بأمره من بعده؛ فنزلت هذه الآية؛ قال السدي وابن زيد‏.‏ وقيل‏:‏ إنه جواب لقريش حين قالوا لكعب بن الأشرف لما قدم مكة‏:‏ نحن أصحاب السقاية والسدانة والحجابة واللواء، وأنت سيد أهل المدينة، فنحن خير أم هذا الصنيبر الأبيتر من قومه‏؟‏ قال كعب‏:‏ بل أنتم خير؛ فنزلت في كعب‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت‏}‏النساء‏:‏ 51‏ الآية‏.‏ ونزلت في قريش‏{‏إن شانئك هو الأبتر‏}‏؛ قاله ابن عباس أيضا وعكرمة‏.‏ وقيل‏:‏ إن الله عز وجل لما أوحى إلى رسوله، ودعا قريشا إلى الإيمان، قالوا‏:‏ انبتر منا محمد؛ أي خالفنا وانقطع عنا‏.‏ فأخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم هم المبتورون؛ قاله أيضا عكرمة وشهر بن حوشب‏.‏ قال أهل اللغة‏:‏ الأبتر من الرجال‏:‏ الذي لا ولد له، ومن الدواب الذي لا ذنب له‏.‏ وكل أمر انقطع من الخير أثره، فهو أبتر‏.‏ والبتر‏:‏ القطع‏.‏ بترت الشيء بترا‏:‏ قطعته قبل الإتمام‏.‏ والانبتار‏:‏ الانقطاع‏.‏ والباتر‏:‏ السيف القاطع‏.‏ والأبتر‏:‏ المقطوع الذنب‏.‏ تقول منه‏:‏ بتر بالكسر يبتر بترا‏.‏ وفي الحديث ‏(‏ما هذه البتيراء‏)‏‏.‏ وخطب زياد خطبته البتراء؛ لأنه لم يمجد الله فيها، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ابن السكيت‏:‏ الأبتران‏:‏ العير والعبد؛ قال سميا أبترين لقلة خيرهما‏.‏ وقد أبتره الله‏:‏ أي صيره أبتر‏.‏ ويقال‏:‏ رجل أباتر بضم الهمزة‏:‏ الذي يقطع رحمه قال الشاعر‏:‏

لئيم نزت في أنفه خنزوانة على قطع ذي القربى أحذُّ أُباتر

والبترية‏:‏ فرقة من الزيدية؛ نسبوا إلى المغيرة بن سعد، ولقبه الأبتر‏.‏ وأما الصنبور فلفظ مشترك‏.‏ قيل‏:‏ هو النخلة تبقى منفردة، ويدق أسفلها ويتقشر؛ يقال‏:‏ صنبرا أسفل النخلة‏.‏ وقيل‏:‏ هو الرجل الفرد الذي لا ولد له ولا أخ‏.‏ وقيل‏:‏ هو مثعب الحوض خاصة؛ حكاه أبو عبيد‏.‏ وأنشد‏:‏

ما بين صنبور إلى الإزاء

والصنبور‏:‏ قصبة تكون في الإداوة من حديد أو رصاص يشرب منها‏.‏ حكى جميعه الجوهري رحمه الله‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم
 
سورة الكافرون

وفي الترمذي من حديث أنس‏:‏ أنها تعدل ثلث القرآن‏.‏ وفي كتاب الرد لأبي بكر الأنباري‏:‏ أخبرنا عبدالله بن ناجية قال‏:‏ حدثنا يوسف قال حدثنا القعنبي وأبو نعيم عن موسى بن وردان عن أنس، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏ تعدل ربع القرآن‏)‏‏.‏ ورواه موقوفا عن أنس‏.‏ وخرج الحافظ أبو محمد عبدالغني بن سعيد عن ابن عمر قال‏:‏ صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الفجر في سفر، فقرأ ‏{‏قل يأيها الكافرون‏}‏‏.‏ و‏{‏قل هو الله أحد‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏قرأت بكم ثلث القرآن وربعه‏)‏‏.‏ وروى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أتحب يا جبير إذا خرجت سفرا أن تكون من أمثل أصحابك هيئة وأكثرهم زادا‏)‏‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فاقرأ هذه السور الخمس من أول ‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏الكافرون‏:‏ 1‏]‏ إلى - ‏{‏قل أعوذ برب الناس‏}‏الناس‏:‏ 1‏]‏ وافتتح قراءتك ببسم الله الرحمن الرحيم‏)‏‏.‏قال‏:‏ فوالله لقد كنت غير كثير المال، إذا سافرت أكون أبذهم هيئة، وأقلهم زادا، فمذ قرأتهن صرت من أحسنهم هيئة، وأكثرهم زادا، حتى أرجع من سفري ذلك‏.‏ وقال فروة بن نوفل الأشجعي‏:‏ قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أوصني قال‏:‏ ‏(‏أقرأ عند منامك ‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏ فإنها براءة من الشرك‏)‏‏.‏ خرجه أبو بكر الأنباري وغيره‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ليس في القرآن أشد غيظا لإبليس منها؛ لأنها توحيد وبراءة من الشرك‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ كان يقال ‏{‏لقل يأيها الكافرون‏}‏، و‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ المقشقشتان؛ أي أنهما تبرئان من النفاق‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ كما يقشقش الهناء الجرب فيبرئه‏.‏ وقال ابن السكيت‏:‏ يقال للقرح والجدري إذا يبس وتقرف، وللجرب في الإبل إذا قفل‏:‏ قد توسف جلده، وتوسف جلده، وتقشقش جلده‏.‏

الآية رقم ‏(‏1 : 5)‏

‏{‏قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏

ذكر ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس‏:‏ أن سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبدالمطلب، وأمية بن خلف؛ لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شاركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه‏.‏ وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه؛ فأنزل الله عز وجل ‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏‏.‏

وقال أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو استلمت بعض هذه الآلهة لصدقناك؛ فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه السورة فيئسوا منه، وآذوه، وآذوا أصحابه‏.‏ والألف واللام ترجع إلى معنى المعهود وإن كانت للجنس من حيث إنها كانت للجنس من حيث إنها كانت صفة لأي؛ لأنها مخاطبة لمن سبق في علم الله تعالى أنه سيموت على كفره، فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم‏.‏ ونحوه عن الماوردي‏:‏ نزلت جوابا، وعني بالكافرين قوما معينين‏.‏ لا جميع الكافرين؛ لأن منهم من آمن، فعبد الله، ومنهم من مات أو قتل على كفره‏.‏، وهم المخاطبون بهذا القول، وهم المذكورون‏.‏ قال أبو بكر بن الأنباري‏:‏ وقرأ من طعن في القرآن‏:‏ قل للذين كفروا ‏{‏لا أعبد ما تعبدون‏}‏ وزعم أن ذلك هو الصواب، وذلك افتراء على رب العالمين، وتضعيف لمعنى هذه السورة، وإبطال ما قصده الله من أن يذل نبيه للمشركين بخطابه إياهم بهذا الخطاب الزري، وإلزامهم ما يأنف منه كل ذي لب وحجا‏.‏ وذلك أن الذي يدعيه من اللفظ الباطل، قراءتنا تشتمل عليه في المعنى، وتزيد تأويلا ليس عندهم في باطلهم وتحريفهم‏.‏ فمعنى قراءتنا‏:‏ قل للذين كفروا‏:‏ يأيها الكافرون؛ دليل صحة هذا‏:‏ أن العربي إذا قال لمخاطبه قل لزيد أقبل إلينا، فمعناه قل لزيد يا زيد أقبل إلينا‏.‏ فقد وقعت قراءتنا على كل ما عندهم، وسقط من باطلهم أحسن لفظ وأبلغ معنى؛ إذ كان الرسول عليه السلام يعتمدهم في ناديهم، فيقول لهم‏{‏يأيها الكافرون‏}‏‏.‏ وهو يعلم أنهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر، ويدخلوا في جملة أهله إلا وهو محروس ممنوع من أن تنبسط عليه منهم يد، أو تقع به من جهتهم أذية‏.‏ فمن لم يقرأ ‏{‏قل يأيها الكافرون‏}‏ كما أنزلها الله، أسقط آية لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وسبيل أهل الإسلام ألا يسارعوا إلى مثلها، ولا يعتمدوا نبيهم باختزال الفضائل عنه، التي منحه الله إياها، وشرفه بها‏.‏

وأما وجه التكرار فقد قيل إنه للتأكيد في قطع أطماعهم؛ كما تقول‏:‏ والله لا أفعل كذا، ثم والله لا أفعله‏.‏ قال أكثر أهل المعاني‏:‏ نزل القرآن بلسان العرب، ومن مذاهبهم التكرار إرادة التأكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز؛ لأن خروج الخطيب والمتكلم من شيء إلى شيء أولى من اقتصاره في المقام على شيء واحد؛ قال الله تعالى‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏}‏الرحمن‏:‏ 13‏]‏‏.‏ ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏المطففين‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ‏{‏كلا سيعلمون، ثم كلا سيعلمون‏}‏النبأ‏:‏ 4 - 5‏]‏‏.‏ و‏{‏فإن مع العسر يسرا‏.‏ إن مع العسر يسرا‏}‏الشرح‏:‏5 - 6‏]‏‏.‏ كل هذا على التأكيد‏.‏ وقد يقول القائل‏:‏ إرم إرم، اعجل اعجل؛ ومنه قوله عليه السلام في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏فلا آذن، ثم لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني‏)‏‏.‏‏"‏ خرجه مسلم‏"‏‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

هلا سألت جموع كندة يوم ولوا أين أينا

وقال آخر‏:‏

يا لبكر انشروا لي كليبا يا لبكر أين أين الفرار

وقال آخر‏:‏

يا علقمة يا علقمة يا علقمة خير تميم كلها وأكرمه

وقال آخر‏:‏

يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع

وقال آخر‏:‏

ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثلاث تحيات وإن لم تكلم

ومثله كثير‏.‏ وقيل‏:‏ هذا على مطابقة قولهم‏:‏ تعبد آلهتنا ونعبد إلهك، ثم نعبد آلهتنا ونعبد إلهك، ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك، فنجري على هذا أبدا سنة وسنة‏.‏ فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده؛ أي إن هذا لا يكون أبدا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ نحن نعطيك من المال ما تكون به أغنى رجل بمكة، ونزوجك من شئت، ونطأ عقبك؛ أي نمشي خلفك، وتكف عن شتم آلهتنا، فإن لم تفعل فنحن نعرض عليك خصلة واحدة هي لنا ولك صلاح، تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة، ونحن نعبد إلهك سنة؛ فنزلت السورة‏.‏ فكان التكرار في ‏{‏لا أعبد ما تعبدون‏}‏؛ لأن القوم كرروا عليه مقالهم مرة بعد مرة‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقيل‏:‏ إنما كرر بمعنى التغليظ‏.‏ وقيل‏:‏ أي ‏{‏لا أعبد‏}‏ الساعة ‏{‏ما تعبدون‏.‏ ولا أنتم عابدون‏}‏ الساعة ‏{‏ما أعبد‏}‏‏.‏ ثم قال‏{‏ولا أنا عابد‏}‏ في المستقبل ‏{‏ما عبدتم‏.‏ ولا أنتم‏}‏ في المستقبل ‏{‏عابدون ما أعبد‏}‏‏.‏ قاله الأخفش والمبرد‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم كانوا يعبدون الأوثان، فإذا ملوا وثنا، وسئموا العبادة له، رفضوه، ثم أخذوا وثنا غيره بشهوة نفوسهم، فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه ورفعوا تلك، فعظموها ونصبوها آلهة يعبدونها؛ فأمر عليه السلام أن يقول لهم‏{‏لا أعبد ما تعبدون‏}‏ اليوم من هذه الآلهة التي بين أيدكم‏.‏ ثم قال‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ أي وإنما أنتم تعبدون الوثن الذي اتخذتموه، وهو عندكم الآن‏.‏ ‏{‏ولا أنا عابد ما عبدتم‏}‏ أي بالأمس من الآلهة التي رفضتموها، وأقبلتم على هذه‏.‏ ‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ فإني أعبد إلهي‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله تعالى‏{‏لا أعبد ما تعبدون‏.‏ ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ في الاستقبال‏.‏ وقوله‏{‏ولا أنا عابد ما عبدتم‏}‏ على نفي العبادة منه لما عبدوا في الماضي‏.‏ ثم قال‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ على التكرير في اللفظ دون المعنى، من قبل أن التقابل يوجب أن يكون‏:‏ ولا أنتم عابدون ما عبدت، فعدل عن لفظ عبدت إلى أعبد، إشعارا بأن ما عبد في الماضي هو الذي يعبد في المستقبل، مع أن الماضي والمستقبل قد يقع أحدهما موقع الآخر‏.‏ وأكثر ما يأتي ذلك في أخبار الله عز وجل‏.‏ وقال‏{‏ما أعبد‏}‏، ولم يقل‏:‏ من أعبد؛ ليقابل به ‏{‏ولا أنا عابد ما عبدتم‏}‏ وهي أصنام وأوثان، ولا يصلح فيها إلا ‏{‏ما‏}‏ دون ‏{‏من‏}‏ فحمل الأول على الثاني، ليتقابل الكلام ولا يتنافى‏.‏ وقد جاءت ‏{‏ما‏}‏ لمن يعقل‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ سبحان ما سخركن لنا‏.‏ وقيل‏:‏ إن معنى الآيات وتقديرها‏:‏ قل يا أيها الكافرون لا أعبد الأصنام التي تعبدونها، ولا أنتم عابدون الله عز وجل الذي أعبده؛ لإشراككم به، واتخاذكم الأصنام، فإن زعمتم أنكم تعبدونه، فأنتم كاذبون؛ لأنكم تعبدونه مشركين‏.‏ فأنا لا أعبد ما عبدتم، أي مثل عبادتكم؛ ‏{‏فما‏}‏ مصدرية‏.‏ وكذلك ‏{‏ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ مصدرية أيضا؛ معناه ولا أنتم عابدون مثل عبادتي، التي هي توحيد‏.‏



الآية رقم ‏(‏6‏)‏

‏{‏لكم دينكم ولي دين‏}‏

فيه معنى التهديد؛ وهو كقوله تعالى‏{‏لنا أعمالنا ولكم أعمالكم‏}‏القصص‏:‏ 55‏]‏ أي إن رضيتم بدينكم، فقد رضينا بديننا‏.‏ وكان هذا قبل الأمر بالقتال، فنسخ بآية السيف‏.‏ وقيل‏:‏ السورة كلها منسوخة‏.‏ وقيل‏:‏ ما نسخ منها شيء لأنها خبر‏.‏ ومعنى ‏{‏لكم دينكم‏}‏ أي جزاء دينكم، ولي جزاء ديني‏.‏ وسمى دينهم دينا، لأنهم اعتقدوه وتولوه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لكم جزاؤكم ولي جزائي؛ لأن الدين الجزاء‏.‏ وفتح الياء من ‏{‏ولي دين‏}‏ نافع، والبزي عن ابن كثير باختلاف عنه، وهشام عن ابن عامر، وحفص عن عاصم‏.‏ وأثبت الياء في‏{‏ديني‏}‏ في الحالين نصر بن عاصم وسلام ويعقوب؛ قالوا‏:‏ لأنها اسم مثل الكاف في قمت‏.‏ الباقون بغير ياء، مثل قوله تعالى‏{‏فهو يهدين‏}‏الشعراء‏:‏ 78‏]‏‏}‏فاتقوا الله وأطيعون‏}‏آل عمران‏:‏ 50‏]‏ ونحوه، اكتفاء بالكسرة، واتباعا لخط المصحف، فإنه وقع فيه بغير ياء‏.‏
 
سورة النصر

الآية رقم ‏(‏1‏)‏

‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏

النصر‏:‏ العون مأخوذ من قولهم‏:‏ قد نصر الغيث الأرض‏:‏ إذا أعان على نباتها، من قحطها‏.‏ قال الشاعر‏:‏

إذا انسلخ الشهر الحرام فودعي بلاد تميم وأنصري أرض عامر

ويروى‏:‏

إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي بلاد تميم وأنصري أرض عامر

يقال‏:‏ نصره على عدوه ينصره نصرا؛ أي أعانه‏.‏ والاسم النصرة، واستنصره على عدوه‏:‏ أي سأله أن ينصره عليه‏.‏ وتناصروا‏:‏ نصر بعضهم بعضا‏.‏ ثم قيل‏:‏ المراد بهذا النصر نصر الرسول على قريش؛ الطبري‏.‏ وقيل‏:‏ نصره على من قاتله من الكفار؛ فإن عاقبة النصر كانت له‏.‏ وأما الفتح فهو فتح مكة؛ عن الحسن ومجاهد وغيرهما‏.‏ وقال ابن عباس وسعيد بن جبير‏:‏ هو فتح المدائن والقصور‏.‏ وقيل‏:‏ فتح سائر البلاد‏.‏ وقيل‏:‏ ما فتحه عليه من العلوم‏.‏ و‏{‏إذا‏}‏ بمعنى قد؛ أي قد جاء نصر الله؛ لأن نزولها بعد الفتح‏.‏ ويمكن أن يكون معناه‏:‏ إذا يجيئك‏.‏

الآية رقم ‏(‏2‏)‏

‏{‏ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ورأيت الناس‏}‏ أي العرب وغيرهم‏.‏ ‏{‏يدخلون في دين الله أفواجا‏}‏ أي جماعات‏:‏ فوجا بعد فوج‏.‏ وذلك لما فتحت مكة قالت العرب‏:‏ أما إذا ظفر محمد بأهل الحرم، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان‏.‏ فكانوا يسلمون أفواجا‏:‏ أمة أمة‏.‏ قال الضحاك‏:‏ والأمة‏:‏ أربعون رجلا‏.‏ وقال عكرمة ومقاتل‏:‏ أراد بالناس أهل اليمن‏.‏ وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين، بعضهم يؤذنون، وبعضهم يقرؤون القرآن، وبعضهم يهللون؛ فسر النبي صلى الله عليه وسلم لك، وبكى عمر وابن عباس‏.‏ وروى عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ وجاء أهل اليمن رقيقة أفئدتهم، لينة طباعهم، سخية قلوبهم، عظيمة خشيتهم، فدخلوا في دين الله أفواجا‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أتاكم أهل اليمن، هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة الفقه يمان، والحكمة يمانية‏)‏‏.‏ وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمين‏)‏ وفيه تأويلان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه الفرج؛ لتتابع إسلامهم أفواجا‏.‏ والثاني‏:‏ معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صلى الله عليه وسلم بأهل اليمن، وهم الأنصار‏.‏ وروى جابر بن عبدالله قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون منه أفواجا‏)‏ ذكره الماوردي، ولفظ الثعلبي‏:‏ وقال أبو عمار حدثني جابر لجابر، قال‏:‏ سألني جابر عن حال الناس، فأخبرته عن حال اختلافهم وفرقتهم؛ فجعل يبكي ويقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون من دين الله أفواجا ‏(‏

الآية رقم ‏(‏3‏)‏

‏{‏فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا‏}‏

قوله تعالى‏{‏فسبح بحمد ربك واستغفره‏}‏ أي إذا صليت فأكثر من ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ معنى سبح‏:‏ صل؛ عن ابن عباس‏{‏بحمد ربك‏}‏ أي حامدا له على ما آتاك من الظفر والفتح‏.‏ ‏{‏واستغفره‏}‏ أي سل الله الغفران‏.‏ وقيل‏{‏فسبح‏}‏ المراد به‏:‏ التنزيه؛ أي نزهه عما لا يجوز عليه مع شكرك له‏.‏ ‏{‏واستغفره‏}‏ أي سل الله الغفران مع مداومة الذكر‏.‏ والأول أظهر‏.‏ ‏"‏روى الأئمة واللفظ للبخاري عن عائشة رضي الله عنها‏"‏ قالت‏:‏ ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ إلا يقول‏:‏ ‏(‏ سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي‏)‏ وعنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده‏:‏ ‏(‏سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي‏)‏‏.‏ يتأول القرآن‏.‏ وفي غير الصحيح‏:‏ وقالت أم سلمة‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال‏:‏ ‏(‏سبحان الله وبحمده، استغفر الله وأتوب إليه - قال - فإني أمرت بها - ثم قرأ - ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ إلى آخرها‏)‏‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ اجتهد النبي بعد نزولها، حتى تورمت قدماه‏.‏ ونحل جسمه، وقل تبسمه، وكثر بكاؤه‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قط أشد اجتهادا في أمور الآخرة ما كان منه عند نزولها‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص، ففرحوا واستبشروا، وبكى العباس؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما يبكيك يا عم‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعيت إليك نفسك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إنه لكما تقول‏)‏؛ فعاش بعدها ستين يوما، ما رئي فيها ضاحكا مستبشرا‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في منى بعد أيام التشريق، حجة الوداع، فبكى عمر والعباس، فقيل لهما‏:‏ إن هذا يوم فرح، فقالا‏:‏ بل فيه نعي النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ صدقتما، نعيت إليّ نفسي‏)‏‏.‏‏"‏ وفي البخاري وغيره عن ابن عباس‏"‏ قال‏:‏ كان عمر بن الخطاب يأذن لأهل بدر، ويأذن لي معهم‏.‏ قال‏:‏ فوجد بعضهم من ذلك، فقالوا‏:‏ يأذن لهذا الفتى معنا ومن أبنائنا من هو مثله فقال لهم عمر‏:‏ إنه من قد علمتم‏.‏ قال‏:‏ فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورة‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ فقالوا‏:‏ أمر الله جل وعز نبيه صلى الله عليه وسلم إذا فتح عليه أن يستغفره، وأن يتوب إليه‏.‏ فقال‏:‏ ما تقول يا ابن عباس‏؟‏ قلت‏:‏ ليس كذلك، ولكن أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم حضور أجله، فقال‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏، فذلك علامة موتك‏.‏ ‏{‏فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا‏}‏‏.‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ تلومونني عليه‏؟‏ وفي البخاري فقال عمر‏:‏ ما أعلم منها إلا ما تقول‏.‏ رواه الترمذي، قال‏:‏ كان عمر يسألني مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عبدالرحمن بن عوف‏:‏ أتسأله ولنا بنون مثله‏؟‏ فقال له عمر‏:‏ إنه من حيث نعلم‏.‏ فسأله عن هذه الآية‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏‏.‏ فقلت‏:‏ إنما هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلمه إياه؛ وقرأ السورة إلى آخرها‏.‏ فقال له عمر‏:‏ والله ما أعلم منها إلا ما تعلم‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ فإن قيل‏:‏ فماذا يغفر للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤمر بالاستغفار‏؟‏ قيل له‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه‏:‏ ‏(‏رب اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني‏.‏ اللهم اغفر لي خطئي وعمدي، وجهلي وهزلي، وكل ذلك عندي‏.‏ اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أعلنت وما أسررت، أنت المقدم وأنت المؤخر، إنك على شيء قدير‏)‏‏.‏ فكان صلى الله عليه وسلم يستقصر نفسه لعظم ما أنعم الله به عليه، ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذنوبا‏.‏ ويحتمل أن يكون بمعنى‏:‏ كن متعلقا به، سائلا راغبا، متضرعا على رؤية التقصير في أداء الحقوق؛ لئلا ينقطع إلى رؤية الأعمال‏.‏ وقيل‏:‏ الاستغفار تَعَبُدٌ يجب إتيانه، لا للمغفرة، بل تعبدا‏.‏ وقيل‏:‏ ذلك تنبيه لأمته، لكيلا يأمنوا ويتركوا الاستغفار‏.‏ وقيل‏{‏واستغفره‏}‏ أي استغفر لأمتك‏.‏

قوله تعالى‏{‏إنه كان توابا‏}‏ أي على المسبحين والمستغفرين، يتوب عليهم ويرحمهم، ويقبل توبتهم‏.‏ وإذا كان عليه السلام وهو معصوم يؤمر بالاستغفار، فما الظن بغيره‏؟‏ ‏"‏روى مسلم عن عائشة‏"‏ قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قوله‏:‏ ‏(‏سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏خَبّرني ربي أني سأرى علامة في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ - فتح مكة - ‏{‏ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا‏.‏ فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا‏}‏‏)‏‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع؛ ثم نزلت ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي‏}‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ فعاش بعدهما النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين يوما‏.‏ ثم نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يوما‏.‏ ثم نزل ‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏}‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما‏.‏ ثم نزل ‏{‏واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله‏}‏ فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما‏.‏ وقال مقاتل سبعة أيام‏.‏ وقيل غير هذا مما تقدم في البقرة بيانه، والحمد الله‏.‏
 
سورة المسد

الآية رقم ‏(‏1‏)‏

‏{‏تبت يدا أبي لهب وتب‏}‏

قوله تعالى‏{‏تبت يدا أبي لهب‏}‏ ‏"‏في الصحيحين وغيرهما واللفظ لمسلم‏"‏ عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏الشعراء‏:‏ 214‏]‏ ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف‏:‏ يا صباحاه‏!‏ فقالوا‏:‏ من هذا الذي يهتف‏؟‏ قالوا محمد‏.‏ فاجتمعوا إليه‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبدالمطلب‏)‏ فاجتمعوا إليه‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ ما جربنا عليك كذبا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد‏)‏‏.‏ فقال أبو لهب‏:‏ تبا لك، وأما جمعتنا إلا لهذا‏!‏ ثم قام، فنزلت هذه السورة‏{‏تبت يدا أبي لهب وقد تب‏}‏ كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة‏.‏ زاد الحميدي وغيره‏:‏ فلما سمعت امرأته ما نزل في زوجها وفيها من القرآن، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر رضي الله عنه، وفي يدها فهر من حجارة، فلما وقفت عليه أخذ الله بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر‏.‏ فقالت‏:‏ يا أبا بكر، إن صاحبك قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، والله إني لشاعرة‏:‏

مذمما عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا

ثم انصرفت‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، أما تراها رأتك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما رأتني، لقد أخذ الله بصرها عني‏)‏‏.‏ وكانت قريش إنما تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم مذمما؛ يسبونه، وكان يقول‏:‏ ‏(‏ألا تعجبون لما صرف الله عني من أذى قريش، يسبون ويهجون مذمما وأنا محمد‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن سبب نزولها ما حكاه عبدالرحمن بن زيد أن أبا لهب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ماذا أُعطى إن آمنت بك يا محمد‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏كما يُعطى المسلمون‏)‏ قال ما لي عليهم فضل‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وأي شيء تبغي‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ تبا لهذا من دين، أن أكون أنا وهؤلاء سواء؛ فأنزل الله تعالى فيه‏.‏ ‏{‏تبت يدا أبي لهب وتب‏}‏‏.‏ وقول ثالث حكاه عبدالرحمن بن كيسان قال‏:‏ كان إذا وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وقد انطلق إليهم أبو لهب فيسألونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون له‏:‏ أنت أعلم به منا‏.‏ فيقول لهم أبو لهب‏:‏ إنه كذاب ساحر‏.‏ فيرجعون عنه ولا يلقونه‏.‏ فأتى وفد، ففعل معهم مثل ذلك، فقالوا‏:‏ لا ننصرف حتى نراه، ونسمع كلامه‏.‏ فقال لهم أبو لهب‏:‏ إنا لم نزل نعالجه فتبا له وتعسا‏.‏ فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتأب لذلك؛ فأنزل الله تعالى‏{‏تبت يدا أبي لهب‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ السورة‏.‏ وقيل‏:‏ إن أبا لهب أراد أن يرمي النبي صلى الله عليه وسلم بحجر، فمنعه الله من ذلك، وأنزل الله تعالى‏{‏تبت يدا أبي لهب وتب‏}‏ للمنع الذي وقع به‏.‏ ومعنى ‏{‏تبت‏}‏‏:‏ خسرت؛ قال قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ خابت؛ قال ابن عباس‏.‏ وقيل ضلت؛ قال عطاء‏.‏ وقيل‏:‏ هلكت؛ قاله ابن جبير‏.‏ وقال يمان بن رئاب‏:‏ صفرت من كل خبر‏.‏ حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان رحمه الله سمع الناس هاتفا يقول‏:‏

لقد خلوك وانصرفوا فما آبوا ولا رجعوا

ولم يوفوا بنذرهم فيا تبا لما صنعوا

وخص اليدين بالتباب، لأن العمل أكثر ما يكون بهما؛ أي خسرتا وخسر هو‏.‏ وقيل‏:‏ المراد باليدين نفسه‏.‏ وقد يعبر عن النفس باليد، كما قال الله تعالى‏{‏بما قدمت يداك‏}‏الحج‏:‏10‏]‏‏.‏ أي نفسك‏.‏ وهذا مَهيَع كلام العرب؛ تعبر ببعض الشيء عن كله؛ تقول‏:‏ أصابته يد الدهر، ويد الرزايا والمنايا؛ أي أصابه كل ذلك‏.‏ قال الشاعر‏:‏

لما أكبت يد الرزايا عليه نادى ألا مجير

‏{‏وتب‏}‏ قال الفراء‏:‏ التب الأول‏:‏ دعاء والثاني خبر؛ كما يقال‏:‏ أهلكه الله وقد هلك‏.‏ وفي قراءة عبدالله وأُبي ‏{‏وقد تب‏}‏ وأبو لهب اسمه عبد العزى، وهو ابن عبدالمطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وامرأته العوراء أم جميل، أخت أبي سفيان بن حرب، وكلاهما، كان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال طارق بن عبدالله المحاربي‏:‏ إني بسوق ذي المجاز، إذ أنا بإنسان يقول‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا‏)‏، وإذا رجل خلفه يرميه، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول‏:‏ يا أيها الناس، إنه كذاب فلا تصدقوه‏.‏ فقلت من هذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ محمد، زعم أنه نبي‏.‏ وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب‏.‏ وروى عطاء عن ابن عباس قال‏:‏ قال أبو لهب‏:‏ سحركم محمد إن أحدنا ليأكل الجذعة، ويشرب العس من اللبن فلا يشبع، وإن محمدا قد أشبعكم من فخذ شاة، وأرواكم من عس لبن‏.‏

قوله تعالى‏{‏أبي لهب‏}‏ قيل‏:‏ سمي باللهب لحسنه، وإشراق وجهه‏.‏ وقد ظن قوم أن في هذا دليلا على تكنية المشرك؛ وهو باطل، وإنما كناه الله بأبي لهب - عند العلماء - لمعان أربعة‏:‏ الأول‏:‏ أنه كان اسمه عبد العزى، والعزى‏:‏ صنم، ولم يضف الله في كتابه العبودية إلى صنم‏.‏ الثاني‏:‏ أنه كان بكنيته أشهر منه باسمه؛ فصرح بها‏.‏ الثالث‏:‏ أن الاسم أشرف من الكنية، فحطه الله عز وجل عن الأشرف إلى الأنقص؛ إذا لم يكن بد من الإخبار عنه، ولذلك دعا الله تعالى الأنبياء بأسمائهم، ولم يكن عن أحد منهم‏.‏ ويدلك على شرف الاسم على الكنية‏:‏ أن الله تعالى يُسمى ولا يُكنى، وإن كان ذلك لظهوره وبيانه؛ واستحالة نسبة الكنية إليه، لتقدسه عنها‏.‏ الرابع - أن الله تعالى أراد أن يحقق نسبته، بأن يدخله النار، فيكون أبا لها، تحقيقا للنسب، وإمضاء للفأل والطيرة التي اختارها لنفسه‏.‏ وقد قيل‏:‏ اسمه كنيته‏.‏ فكان أهله يسمونه أبا لهب، لتلهب وجهه وحسنه؛ فصرفهم الله عن أن يقولوا‏:‏ أبو النور، وأبو الضياء، الذي هو المشترك بين المحبوب والمكروه، وأجرى على ألسنتهم أن يضيفوه إلى اللهب الذي هو مخصوص بالمكروه المذموم، وهو النار‏.‏ ثم حقق ذلك بأن يجعلها مقره‏.‏ وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير وابن‏.‏ محيصن‏.‏ ‏{‏أبي لهب‏}‏ بإسكان الهاء‏.‏ ولم يختلفوا في ‏{‏ذات لهب‏}‏ إنها مفتوحة؛ لأنهم راعوا فيها رؤوس الآي‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لما خلق الله عز وجل القلم قال له‏:‏ اكتب ما هو كائن، وكان فيما كتب ‏{‏تبت يدا أبي لهب‏}‏‏.‏ وقال منصور‏:‏ سئل الحسن عن قوله تعالى‏{‏تبت يدا أبي لهب‏}‏‏.‏ هل كان في أم الكتاب‏؟‏ وهل كان أبو لهب يستطيع ألا يصلى النار‏؟‏ فقال‏:‏ والله ما كان يستطيع ألا يصلاها، وإنها لفي كتاب الله من قبل أن يخلق أبو لهب وأبواه‏.‏ ويؤيده قول موسى لآدم‏:‏ ‏(‏أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، خيبت الناس، وأخرجتهم من الجنة‏.‏ قال آدم‏:‏ وأنت موسى الذي اصطفاك بكلامه، وأعطاك التوراة، تلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلق الله السموات والأرض‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فحج آدم موسى‏)‏‏.‏ وقد تقدم هذا‏.‏ وفي حديث همام عن أبي هريرة أن آدم قال لموسى‏:‏ ‏(‏بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني‏؟‏ قال‏:‏ بألفي عام قال‏:‏ فهل وجدت فيها‏{‏وعصى آدم ربه فغوى‏}‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ أفتلومني على أمر وكتب الله على أن أفعله من قبل أن أخلق بألفي عام‏.‏ فحج آدم موسى‏)‏‏.‏ وفي حديث طاووس وابن هرمز والأعرج عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏بأربعين عاما‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏2‏)‏

‏{‏ما أغنى عنه ماله وما كسب‏}‏

أي ما دفع عنه عذاب الله ما جمع من المال، ولا ما كسب من جاه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ من الولد؛ وولد الرجل من كسبه‏.‏ وقرأ الأعمش ‏{‏وما اكتسب‏}‏ ورواه عن ابن مسعود‏.‏ وقال أبو الطفيل‏:‏ جاء بنو أبي لهب يختصمون عند ابن عباس، فاقتتلوا، فقام ليحجز بينهم، فدفعه بعضهم، فوقع على الفراش، فغضب ابن عباس وقال‏:‏ أخرجوا عني الكسب الخبيث؛ يعني ولده‏.‏ وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه‏)‏‏.‏ خرجه أبو داود‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لما أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بالنار، قال أبو لهب‏:‏ إن كان ما يقول ابن أخي حقا فإني أفدي نفسي بمالي وولدي؛ فنزل‏{‏ما أغنى عنه ماله وما كسب‏}‏‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ في قوله‏{‏ما أغنى‏}‏‏:‏ يجوز أن تكون نفيا، ويجوز أن تكون استفهاما؛ أي أي شيء أغنى عنه‏؟‏ و‏{‏ما‏}‏ الثانية‏:‏ يجوز أن تكون بمعنى الذي، ويجوز أن تكون مع الفعل مصدرا؛ أي ما أغنى عنه ماله وكسبه‏.‏

الآية رقم ‏(‏3‏)‏

‏{‏سيصلى نارا ذات لهب‏}‏

أي ذات اشتعال وتلهب‏.‏ وقد مضى في سورة المرسلات القول فيه‏.‏ وقراءة العامة‏{‏سيصلى‏}‏ بفتح الياء‏.‏ وقرأ أبو رجاء والأعمش‏:‏ بضم الياء‏.‏ ورواها محبوب عن إسماعيل عن ابن كثير، وحسين عن أبي بكر عن عاصم، ورويت عن الحسن‏.‏ وقرأ أشهب العقيلي وأبو سمال العدوي ومحمد بن السميقع ‏{‏سيُصلى‏}‏ بضم الياء، وفتح الصاد، وتشديد اللام؛ ومعناها سيصليه الله؛ من قوله‏{‏وتصلية جحيم‏}‏الواقعة‏:‏ 94‏]‏‏.‏ والثانية من الإصلاء؛ أي يصليه الله؛ من قوله‏{‏فسوف نصليه نارا‏}‏النساء‏:‏ 30‏]‏‏.‏ والأولى هي الاختيار؛ لإجماع الناس عليها؛ وهي من قوله‏{‏إلا من هو صال الجحيم‏}‏الصافات‏:‏163‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏4‏)‏

‏{‏وامرأته حمالة الحطب‏}‏

قوله تعالى‏{‏وامرأته‏}‏ أم جميل‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ العوراء أم قبيح، وكانت عوراء‏.‏ ‏{‏حمالة الحطب‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي‏:‏ كانت تمشي بالنميمة بين الناس؛ تقول العرب‏:‏ فلان يحطب على فلان‏:‏ إذا ورش عليه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

إن بني الأدرم حمالو الحطب هم الوشاة في الرضا وفي الغضب

عليهم اللعنة تترى والحرب

وقال آخر‏:‏

من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب

يعني‏:‏ لم تمش بالنمائم، وجعل الحطب رطبا ليدل على التدخين، الذي هو زيادة في الشر‏.‏ وقال أكثم بن صيفي لبنيه‏:‏ إياكم والنميمة فإنها نار محرقة، وإن النمام ليعمل في ساعة مالا يعمل الساحر في شهر‏.‏ أخذه بعض الشعراء فقال‏:‏

إن النميمة نار ويك محرقة ففر عنها وجانب من تعاطاها

ولذلك قيل‏:‏ نار الحقد لا تخبو‏.‏ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يدخل الجنة نمام‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها‏)‏‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه‏)‏‏.‏ وقال كعب الأحبار‏:‏ أصاب بني إسرائيل قحط، فخرج بهم موسى عليه السلام ثلاث مرات فلم يستسقوا‏.‏ فقال موسى‏:‏ ‏(‏إلهي عبادك‏)‏ فأوحى الله إليه‏:‏ ‏(‏إني لا أستجيب لك ولا لمن معك لأن فيهم رجلا نماما، قد أصر على النميمة‏)‏‏.‏ فقال موسى‏:‏ ‏(‏يا رب من هو حتى نخرجه من بيننا‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا موسى أنهاك عن النميمة وأكون نماما‏)‏ قال‏:‏ فتابوا بأجمعهم، فسقوا‏.‏ والنميمة من الكبائر، لا خلاف في ذلك؛ حيت قال الفضيل بن عياض‏:‏ ثلاث تهد العمل الصالح ويفطرون الصائم، وينقضن الوضوء‏:‏ الغيبة، والنميمة، والكذب‏.‏ وقال عطاء بن السائب‏:‏ ذكرت للشعبي قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يدخل الجنة سافك دم، ولا مشاء بنميمة، ولا تاجر يربي‏)‏ فقلت‏:‏ يا أبا عمرو، قرن النمام بالقاتل وآكل الربا‏؟‏ فقال‏:‏ وهل تسفك الدماء، وتنتهب الأموال، وتهيج الأمور العظام، إلا من أجل النميمة‏.‏

وقال قتادة وغيره‏:‏ كانت تعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر‏.‏ ثم كانت مع كثرة ما لها تحمل الحطب على ظهرها؛ لشدة بخلها، فعيرت بالبخل‏.‏ وقال ابن زيد والضحاك‏:‏ كانت تحمل العضاه والشوك، فتطرحه بالليل على طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ وقاله ابن عباس‏.‏ قال الربيع‏:‏ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يطوه كما يطأ الحرير‏.‏ وقال مرة الهمداني‏:‏ كانت أم جميل تأتي كل يوم بإباله من الحسك، فتطرحها على طريق المسلمين، فبينما هي حاملة ذات يوم حزمة أعيت، فقعدت على حجر لتستريح، فجذبها الملك من خلفها فأهلكها‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ حمالة الخطايا والذنوب؛ من قولهم‏:‏ فلان يحتطب على ظهره؛ دليله قوله تعالى‏{‏وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم‏}‏الأنعام‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى حمالة الحطب في النار؛ وفيه بعد‏.‏ وقراءة العامة ‏{‏حمالة‏}‏ بالرفع، على أن يكون خبرا ‏{‏وامرأته‏}‏ مبتدأ‏.‏ ويكون ‏{‏في جيدها حبل من مسد‏}‏ جملة في موضع الحال من المضمر في ‏{‏حمالة‏}‏‏.‏ أو خبرا ثانيا‏.‏ أو يكون ‏{‏حمالة الحطب‏}‏ نعتا لامرأته‏.‏ والخبر ‏{‏في جيدها حبل من مسد‏}‏؛ فيوقف - على هذا - على ‏{‏ذات لهب‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏وامرأته‏}‏ معطوفة على المضمر في ‏{‏سيصلى‏}‏ فلا يوقف على ‏{‏ذات لهب‏}‏ ويوقف على ‏{‏وامرأته‏}‏ وتكون ‏{‏حمالة الحطب‏}‏ خبر ابتداء محذوف‏.‏ وقرأ عاصم ‏{‏حمالة الحطب‏}‏ بالنصب على الذم، كأنها اشتهرت بذلك، فجاءت الصفة للذم لا للتخصيص، كقوله تعالى‏{‏حمالة الحطب‏}‏ بالنصب على الذم، وقرأ أبو قلابة ‏{‏حاملة الحطب‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏5‏)‏

‏{‏في جيدها حبل من مسد‏}‏

قوله تعالى‏{‏في جيدها‏}‏ أي عنقها‏.‏ وقال امرؤ القيس‏:‏

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش إذا هي نصته ولا بمعطل

‏{‏حبل من مسد‏}‏ أي من ليف؛ قال النابغة‏:‏

مقذوفة بدخيس النحض بازلها له صريف صريف القعو بالمسد

وقال آخر‏:‏

يا مسد الحوص تعوذ مني إن كنت لدنا لينا فإني

ما شئت من أشمط مقسئن

وقد يكون من جلود الإبل، أو من أوبارها؛ قال الشاعر‏:‏

ومسد أمر من أيانق لسن بأنياب ولا حقائق

وجمع الجيد أجياد، والمسد أمساد‏.‏ أبو عبيدة‏:‏ هو حبل يكون من صوف‏.‏ قال الحسن‏:‏ هي حبال من شجر تنبت باليمن تسمى المسد، وكانت تفتل‏.‏ قال الضحاك وغيره‏:‏ هذا في الدنيا؛ فكانت تعير النبي صلى الله عليه وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف، فخنقها الله جل وعز به فأهلكها؛ وهو في الآخرة حبل من نار‏.‏ وقال ابن عباس في رواية أبي صالح‏{‏في جيدها حبل من مسد‏}‏ قال‏:‏ سلسلة ذرعها سبعون ذراعا - وقاله مجاهد وعروة بن الزبير‏:‏ تدخل من فيها، وتحرج من أسفلها، ويلوى سائرها على عنقها‏.‏ وقال قتادة‏.‏ ‏{‏حبل من مسد‏}‏ قال‏:‏ قلادة من ودع‏.‏ الودع‏:‏ خرز بيض تخرج من البحر، تتفاوت في الصغر والكبر‏.‏ قال الشاعر‏:‏

والحلم حلم صبي يمرث الودعة

والجمع‏:‏ ودعات‏.‏ الحسن‏:‏ إنما كان خرزا في عنقها‏.‏ سعيد بن المسيب‏:‏ كانت لها قلادة فاخرة من جوهر، فقالت‏:‏ واللات والعزى لأنفقتها في عداوة محمد‏.‏ ويكون ذلك عذابا في جيدها يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ إن ذلك إشارة إلى الخذلان؛ يعني أنها مربوطة عن الإيمان بما سبق لها من الشقاء، كالمربوط في جيده بحبل من مسد‏.‏ والمسد‏:‏ الفتل‏.‏ يقال‏:‏ مسد حبلة يمسده مسدا؛ أي أجاد فتله‏.‏ قال‏:‏

يمسد أعلى لحمه ويأرمه

يقول‏:‏ إن البقل يقوي ظهر هذا الحمار ويشده‏.‏ ودابة ممسودة الخلق‏:‏ إذا كانت شديدة الأسر‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ومسدٍ أُمِرَّ من أيانق صهب عتاق ذات مخ زاهق

لسن بأنياب ولا حقائق

ويروى‏:‏

ولا ضعاف مخهن زاهق

قال الفراء‏:‏ هو مرفوع والشعر مكفأ‏.‏ يقول‏:‏ بل مخهن مكتنز؛ رفعه على الابتداء‏.‏ قال‏:‏ ولا يجوز أن يريد ولا ضعاف زاهق مخهن‏.‏ كما لا يجوز أن تقول‏:‏ مررت برجل أبوه قائم؛ بالخفض‏.‏ وقال غيره‏:‏ الزاهق هنا‏:‏ بمعنى الذاهب كأنه قال‏:‏ ولا ضعاف مخهن، ثم رد الزاهق على الضعاف‏.‏ ورجل ممسود‏:‏ أي مجدول الخلق‏.‏ وجارية حسنة المسد والعصب والجدل والأرم؛ وهي ممسودة ومعصوبة ومجدولة ومأرومة‏.‏ والمساد، على فعال‏:‏ لغة في المساب، وهي نحى السمن، وميقاء العسل‏.‏ قال جميعه الجوهري‏.‏ وقد أعترض فقيل‏:‏ إن كان ذلك حبلها الذي تحتطب به، فكيف يبقى في النار‏؟‏ وأجيب عنه بأن الله عز وجل قادر على تجديده كلما احترق‏.‏ والحكم ببقاء أبي لهب وأمراته في النار مشروط ببقائهما على الكفر إلى الموافاة؛ فلما ماتا على الكفر صدق الإخبار عنهما‏.‏ ففيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فامرأته خنقها الله بحبلها، وأبو لهب رماه الله بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال، بعد أن شجته أم الفضل‏.‏ وذلك أنه لما قدم الحيسمان مكة يخبر خبر بدر؛ قال له أبو لهب‏:‏ أخبرني خبر الناس‏.‏ قال‏:‏ نعم، والله ما هو إلا أن لقينا القوم، فمنحناهم أكتافنا، يضعون السلاح منا حيث شاؤوا، ومع ذلك ما لمست الناس‏.‏ لقينا رجالا بيضا على خيل بلق، لا والله ما تبقي منا؛ يقول‏:‏ ما تبقي شيئا‏.‏ قال أبو رافع‏:‏ وكنت غلاما للعباس أنحت الأقداح في صفة زمزم، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، فرفعت طنب الحجرة، فقلت‏:‏ تلك والله الملائكة‏.‏ قال‏:‏ فرفع أبو لهب يده، فضرب وجهي ضربة منكرة، وثاورته، وكنت رجلا ضعيفا، فاحتملني، فضرب بي الأرض، وبرك على صدري يضربني‏.‏ وتقدمت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فتأخذه وتقول‏:‏ استضعفتَه أن غاب عنه سيده‏!‏ وتضربه بالعمود على رأسه فتفلقه شجة منكرة‏.‏ فقام يجر رجليه ذليلا، ورماه الله بالعدسة، فمات، وأقام ثلاثة أيام يدفن حتى أنتن؛ ثم إن ولده غسلوه بالماء، قذفا من بعيد، مخافة عدوى العدسة‏.‏ وكانت قريش تتقيها كما يتقي الطاعون‏.‏ ثم احتملوه إلى أعلى مكة، فأسندوه إلى جدار، ثم رضموا عليه الحجارة‏.‏
 
سورة الإخلاص

الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 4‏)‏

‏{‏قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ أي الواحد الوتر، الذي لا شبيه له، ولا نظير ولا صاحبة، ولا ولد ولا شريك‏.‏ وأصل‏{‏أحد‏}‏‏:‏ وحد؛ قلبت الواو همزة‏.‏ ومنه قول النابغة‏:‏

بذي الجليل على مستأنس وحد

وقد تقدم في سورة البقرة الفرق بين واحد وأحد، وفي كتاب الأسنى، في شرح أسماء الله الحسي أيضا مستوفى‏.‏ والحمد لله‏.‏ و‏{‏أحد‏}‏ مرفوع، على معنى‏:‏ هو أحد‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ قل‏:‏ الأمر والشأن‏:‏ الله أحد‏.‏ وقيل‏{‏أحد‏}‏ بدل من قوله‏{‏الله‏}‏‏.‏ وقرأ جماعة ‏{‏أحد الله‏}‏ بلا تنوين، طلبا للخفة، وفرارا من التقاء الساكنين؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

ولا ذاكر الله إلا قليلا

‏{‏الله الصمد‏}‏ أي الذي يصمد إليه في الحاجات‏.‏ كذا روى الضحاك عن ابن عباس، قال‏:‏ الذي يصمد إليه في الحاجات؛ كما قال عز وجل‏{‏ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون‏}‏النحل‏:‏ 53‏.‏ قال أهل اللغة‏:‏ الصمد‏:‏ السيد الذي يصمد إليه في النوازل والحوائج‏.‏ قال‏:‏

ألا بكر الناعي بخير بني أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد

وقال قوم‏:‏ الصمد‏:‏ الدائم الباقي، الذي لم يزل ولا يزال‏.‏ وقيل‏:‏ تفسيره ما بعده ‏{‏لم يلد ولم يولد‏}‏‏.‏ قال أبي بن كعب‏:‏ الصمد‏:‏ الذي لا يلد ولا يولد؛ لأنه ليس شيء إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا يورث‏.‏ وقال علي وابن عباس أيضا وأبو وائل شقيق بن سلمة وسفيان‏:‏ الصمد‏:‏ هو السيد الذي قد أنتهى سؤدده في أنواع الشرف والسؤدد؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

علوته بحسام ثم قلت له خذها حذيف فأنت السيد الصمد

وقال أبو هريرة‏:‏ إنه المستغني عن كل أحدا، والمحتاج إليه كل أحد‏.‏ وقال السدي‏:‏ إنه‏:‏ المقصود في الرغائب، والمستعان به في المصائب‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ إنه‏:‏ الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ إنه‏:‏ الكامل الذي لا عيب فيه؛ ومنه قول الزبرقان‏:‏

سيروا جميعا بنصف الليل واعتمدوا ولا رهينة إلا سيد صمد

وقال الحسن وعكرمة والضحاك وابن جبير‏:‏ الصمد‏:‏ المصمت الذي لا جوف له؛ قال الشاعر‏:‏

شهاب حروب لا تزال جياده عوابس يعلكن الشكيم المصمدا

قلت‏:‏ قد أتينا على هذه الأقوال مبينة في الصمد، في كتاب الأسنى وأن الصحيح منها‏.‏ ما شهد له الاشتقاق؛ وهو القول الأول، ذكره الخطابي‏.‏ وقد أسقط من هذه السورة من أبعده الله وأخزاه، وجعل النار مقامة ومثواه، وقرأ ‏{‏الله الواحد الصمد‏}‏ في الصلاة، والناس يستمعون، فاسقط‏{‏قل هو‏}‏، وزعم أنه ليس من القرآن‏.‏ وغير لفظ ‏{‏أحد‏}‏، وأدعى أن هذا الصواب، والذي عليه الناس هو الباطل والمحال، فأبطل معنى الآية؛ لأن أهل التفسير قالوا‏:‏ نزلت الآية جوابا لأهل الشرك لما قالوا لرسول الله صلى‏:‏ صف لنا ربك، أمن ذهب هو أم من نحاس أم من صفر‏؟‏ فقال الله عز وجل ردا عليهم‏{‏قل هو والله أحد‏}‏ ففي ‏{‏هو‏}‏ دلالة على موضع الرد، ومكان الجواب؛ فإذا سقط بطل معنى الآية، وصح الافتراء على الله عز وجل، والتكذيب لرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

و‏"‏روى الترمذي عن أبي بن كعب‏:‏ أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ انسب لنا ربك؛ فأنزل الله عز وجل‏{‏قل هو الله أحد‏.‏ الله الصمد‏}‏‏.‏ والصمد‏:‏ الذي لم يلد ولم يولد؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وأن الله تعالى لا يموت ولا يورث‏.‏ ‏{‏ولم يكن له كفوا أحد‏}‏ قال‏:‏ لم يكن له شبيه ولا عدل، وليس كمثله شيء‏.‏ وروي عن أبي العالية‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر آلهتهم فقالوا‏:‏ انسب لنا ربك‏.‏ قال‏:‏ فأتاه جبريل بهذه السورة ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏، فذكر نحوه، ولم يذكر فيه عن أبي بن كعب، وهذا صحيح؛ قاله الترمذي‏.‏

قلت‏:‏ ففي هذا الحديث إثبات لفظ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ وتفسير الصمد، وقد تقدم‏.‏ وعن عكرمة نحوه‏.‏ وقال ابن عباس‏{‏لم يلد‏}‏ كما ولدت مريم، ولم يولد كما ولد عيس وعزير‏.‏ وهو رد على النصارى، وعلى من قال‏:‏ عزير ابن الله‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولم يكن له كفوا أحد‏}‏ أي لم يكن له مثلا أحد‏.‏ وفيه تقدم وتأخير؛ تقديره‏:‏ ولم يكن له كفوا أحد؛ فقدم خبر كان على اسمها، لينساق أو آخر الآي على نظم واحد‏.‏ وقرئ ‏{‏كفوا‏}‏ بضم الفاء وسكونها، وقد تقدم في البقرة أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم، فإنه يجوز في عينه الضم والإسكان؛ إلا قوله تعالى‏{‏وجعلوا له من عباده جزءا‏}‏الزخرف‏:‏15‏ لعلة تقدمت‏.‏ وقرأ حفص ‏{‏كفوا‏}‏ مضموم الفاء غير مهموز‏.‏ وكلها لغات فصيحة‏.‏

القول في الأحاديث الواردة في فضل هذه السورة؛ وفيه ثلاث مسائل‏:‏

الأولى‏:‏ ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري‏:‏ أن رجلا سمع رجلا يقرأ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ يرددها؛ فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، وكان الرجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن‏)‏‏.‏ وعنه قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ ‏(‏أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة‏)‏ فشق ذلك عليهم، وقالوا‏:‏ أينا يطيق ذلك يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏الله الواحد الصمد ثلث القرآن‏)‏‏"‏ خرجه مسلم من حديث أبي الدرداء بمعناه‏"‏‏.‏ وخرج عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن‏)‏، فحشد من حشد؛ ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ ثم دخل فقال بعضنا لبعض‏:‏ إني أرى هذا خبرا جاءه من السماء، فذاك الذي أدخله‏.‏ ثم خرج فقال‏:‏ ‏(‏إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن‏)‏ قال بعض العلماء‏:‏ إنها عدلت ثلث القرآن لأجل هذا الاسم، الذي هو ‏{‏الصمد‏}‏، فإنه لا يوجد في غيرها من السور‏.‏ وكذلك ‏{‏أحد‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن القرآن أنزل أثلاثا، ثلثا منه أحكام، وثلثا منه وعد ووعيد، وثلثا منه أسماء وصفات، وقد جمعت ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ أحد الأثلاث، وهو الأسماء والصفات‏.‏ ودل على هذا التأويل ما في صحيح مسلم، من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏(‏إن الله جل وعز جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ جزءا من أجزاء القرآن‏)‏‏.‏ وهذا نص؛ وبهذا المعنى سميت سورة الإخلاص، والله أعلم‏.‏

الثانية‏:‏ ‏"‏روى مسلم عن عائشة‏"‏‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم ‏{‏بقل هو الله أحد‏}‏؛ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏سلوه لأي شيء يصنع ذلك‏)‏‏؟‏ فسألوه فقال‏:‏ لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أخبروه أن الله عز وجل يحبه‏)‏‏.‏ و‏"‏روى الترمذي عن أنس بن مالك‏"‏ قال‏:‏ كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورة يقرؤها لهم في الصلاة فقرأ بها، افتتح ‏{‏بقل هو الله أحد‏}‏؛ حتى يفرغ منها، ثم يقرأ بسورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه، فقالوا‏:‏ إنك تقرأ بهذه السورة، ثم لا ترى منها تجزيك حتى تقرأ بسورة أخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعوا وتقرأ بسورة أخرى‏؟‏ قال‏:‏ ما أنا بتاركها وإن أحببتم أن أؤمكم بها فعلت، وإن كرهتم تركتكم؛ وكانوا يرونه أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم اخبروه الخبر، فقال‏:‏ ‏(‏يا فلان ما يمنعك مما يأمر به أصحابك‏؟‏ وما يحملك أن تقرأ هذه السورة في كل ركعة‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، إني أحبها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن حبها أدخلك الجنة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ حديث حسن غريب صحيح‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ فكان هذا دليلا على أنه يجوز تكرار سورة في كل ركعة‏.‏ وقد رأيت على باب الأسباط فيما يقرب منه، إماما من جملة الثمانية والعشرين إماما، كان يصلي فيه التراويح في رمضان بالأتراك؛ فيقرأ في كل ركعة ‏{‏الحمد لله‏}‏ و‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ حتى يتم التراويح؛ تخفيفا عليه، ورغبة في فضلها وليس من السنة ختم القرآن في رمضان‏.‏

قلت‏:‏ هذا نص قول مالك، قال مالك‏:‏ وليس ختم القرآن في المساجد بسنة‏.‏

الثالثة‏:‏ ‏"‏روى الترمذي عن أنس بن مالك‏"‏ قال‏:‏ أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وجبت‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ وما وجبت‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الجنة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حدثنا محمد بن مرزوق البصري قال حدثنا حاتم بن ميمون أبو سهل عن ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من قرأ كل يوم مائتي مرة قل هو الله أحد، محي عنه ذنوب خمسين سنة، إلا أن يكون عليه دين‏)‏‏.‏ وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏من أراد أن ينام على فراشه، فنام على يمينه، ثم قرأ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ مائة مرة، فإذا كان يوم القيامة يقول الرب‏:‏ يا عبدي، ادخل على يمينك الجنة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث غريب من حديث، ثابت عن أنس‏.‏ ‏"‏وفي مسند أبي محمد الدارمي، عن أنس بن مالك،‏"‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قرأ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ خمسين مرة، غفرت له ذنوب خمسين سنة‏)‏ قال‏:‏ وحدثنا عبدالله بن يزيد قال حدثنا حيوة قال‏:‏ أخبرني أبو عقيل‏:‏ أنه سمع سعيد بن المسيب يقول‏:‏ إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من قرأ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ عشرة مرات بني له قصر في الجنة‏.‏ ومن قرأها عشرين مرة بني له بها قصران في الجنه‏.‏ ومن قرأها ثلاثين مرة بني له بها ثلاثة قصور في الجنة‏)‏‏.‏ فقال عمر بن الخطاب‏:‏ والله يا رسول الله إذا لنكثرن قصورنا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الله أوسع من ذلك‏)‏ قال أبو محمد‏:‏ أبو عقيل زهرة بن معبد، وزعموا أنه كان من الأبدال‏.‏ وذكر أبو نعيم الحافظ من حديث أبي العلاء يزيد بن عبدالله بن الشخير عن أبيه، قال‏:‏ والرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قرأ قل هو الله أحد في مرضه الذي يموت فيه، لم يفتن في قبره‏.‏ وأمن من ضغطة القبر‏.‏ وحملته الملائكة يوم القيامة بأكفها، حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث غريب من حديث يزيد، تفرد به نصر بن حماد البجلي‏.‏

وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ عن عيسى بن أبي فاطمة الرازي قال‏:‏ سمعت مالك بن أنس يقول‏:‏ إذا نقس بالناقوس اشتد غضب الرحمن، فتنزل الملائكة، فيأخذون بأقطار الأرض، فلا يزالون يقرؤون ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ حتى يسكن غضبه جل وعز‏.‏ وخرج من حديث محمد بن خالد الجندي عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من دخل يوم الجمعة المسجد، فصلى أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب و‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ خمسين مرة فذلك مائتا مرة في أربع ركعات، لم يمت حتى يرى منزله في الجنة أو يرى له‏)‏‏.‏ وقال أبو عمر مولى جرير بن عبدالله البجلي، عن جرير قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قرأ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ حين يدخل منزله، نفت الفقر عن أهل ذلك المنزل وعن الجيران‏)‏ وعن أنسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قرأ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ مرة بورك عليه، ومن قرأها مرتين بورك عليه وعلى أهله، ومن قرأها ثلاث مرات بورك عليه وعلى جميع جيرانه، ومن قرأها اثنتي عشرة بني الله له اثني عشر قصرا في الجنة، وتقول الحفظة انطلقوا بنا ننظر إلى قصر أخينا، فإن قرأها مائة مرة كفر الله عنه ذنوب خمسين سنة، ما خلا الدماء والأموال، فإن قرأها أربعمائة مرة كفر الله عنه ذنوب مائة سنة، فإن قرأها ألف مرة لم يمت حتى يرى مكانه في الجنة أو يرى له‏)‏‏.‏ وعن سهل بن سعد الساعدي قال‏:‏ شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر وضيق المعيشة؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا دخلت البيت فسلم إن كان فيه أحد، وإن لم يكن فيه أحد فسلم علي، واقرأ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ مرة واحدة‏)‏ ففعل الرجل فأدر الله عليه الرزق، حتى أفاض عليه جيرانه‏.‏ وقال أنس‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فطلعت الشمس بيضاء لها شعاع ونور، لم أرها فيما مضى طلعت قط كذلك، فأتى جبريل، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا جبريل، مالي أرى الشمس طلعت بيضاء بشعاع لم أرها طلعت كذلك فيما مضى قط‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ذلك لأن معاوية الليثي توفي بالمدينة اليوم، فبعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه‏)‏‏.‏ قال ‏(‏ومم ذلك‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏كان يكثر قراءة ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ آناء الليل وآناء النهار، وفي ممشاه وقيامه وقعوده، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الأرض‏.‏ فتصلي عليه‏)‏‏؟‏ قال ‏[‏نعم‏]‏ فصلى عليه ثم رجع‏.‏ ذكره الثعلبي، والله أعلم‏.‏
 
سورة الفلق

المقدمة

هذه السورة وسورة الناس و الإخلاص ‏:‏ تعوذ بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سحرته اليهود؛ على ما يأتي‏.‏ وقيل‏:‏ إن المعوذتين كان يقال لهما المقشقشتان؛ أي تبرئان من النفاق‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وزعم ابن مسعود أنهما دعاء تعوذ به، وليستا من القرآن؛ خالف به الإجماع من الصحابة وأهل البيت‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ لم يكتب عبدالله بن مسعود في مصحفه المعوذتين؛ لأنه كان يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين - رضي الله عنهما - بهما، فقدر أنهما بمنزلة‏:‏ أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة‏.‏ قال أبو بكر الأنباري‏:‏ وهذا مردود على ابن قتيبة؛ لأن المعوذتين من كلام رب العالمين، المعجز لجميع المخلوقين؛ و‏{‏أعيذكما بكلمات الله التامة‏}‏ من قول البشر بين‏.‏ وكلام الخالق الذي هو آية لمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وحجة له باقية على جميع الكافرين، لا يلتبس بكلام الآدميين، على مثل عبدالله بن مسعود الفصيح اللسان، العالم باللغة، العارف بأجناس الكلام، وأفانين القول‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ لم يكتب عبدالله المعوذتين لأنه أمن عليهما من النسيان، فأسقطهما وهو يحفظهما؛ كما أسقط فاتحة الكتاب من مصحفه، وما يشك في حفظه وإتقانه لها‏.‏ فرد هذا القول على قائله، واحتج عليه بأنه قد كتب‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏، و‏{‏إنا أعطيناك الكوثر‏}‏، و‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ وهن يحرين مجرى المعوذتين في أنهن غير طوال، والحفظ إليهن أسرع، ونسيانهن مأمون، وكلهن يخالف فاتحة الكتاب؛ إذ الصلاة لا تتم إلا بقراءتها‏.‏ وسبيل كل ركعة أن تكون المقدمة فيها قبل ما يقرأ من بعدها، فاسقاط فاتحة الكتاب من المصحف، على معنى الثقة ببقاء حفظها، والأمن نسيانها، صحيح، وليس من السور ما يجري في هذا المعنى مجراها، ولايسلك به طريقها‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في سورة‏{‏الفاتحة ‏.‏ والحمد لله‏.‏

الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 5‏)‏

‏{‏قل أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد، ومن شر حاسد إذا حسد‏}‏

‏"‏روى النسائي عن عقبة بن عامر‏"‏، قال‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكب، فوضعت يدي على قدمه، فقلت‏:‏ أقرئني سورة ‏[‏هود‏]‏ أقرئني سورة يوسف‏.‏ فقال لي‏:‏ ‏(‏ولن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من ‏{‏قل أعوذ برب الفلق ‏}‏‏)‏‏.‏ وعنه قال‏:‏ بينا أنا أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والأبواء، إذ غشتنا ريح مظلمة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ ‏{‏بأعوذ برب الفلق‏}‏، و‏{‏ أعوذ برب الناس ‏}‏، ويقول‏:‏ ‏(‏يا عقبة، تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما‏)‏‏.‏ قال‏:‏ وسمعته يقرأ بهما في الصلاة‏.‏ و‏"‏روى النسائي عن عبدالله‏"‏ قال‏:‏ أصابنا طش وظلمة، فانتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج‏.‏ ثم ذكر كلاما معناه‏:‏ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي بنا، فقال‏:‏ قل‏.‏ فقلت‏:‏ ما أقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي، وحين تصبح ثلاثا، يكفك كل شيء‏)‏ وعن عقبة بن عامر الجهني قال‏:‏ قال لي رسول الله صلىالله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قل‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ ما أقول‏؟‏ قال قل‏:‏ ‏(‏قل هو الله أحد‏.‏ قل أعوذ برب الفلق‏.‏ قل أعوذ برب الناس - فقرأهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ لم يتعوذ الناس بمثلهن، أو لا يتعوذ الناس بمثلهن‏)‏‏.‏ وفي حديث ابن عباس ‏{‏قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس،‏}‏ هاتين السورتين ‏.‏‏"‏ وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى قرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث، كلما أشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عنه بيده، رجاء بركتها‏.‏ النفث‏:‏ النفخ ليس معه ريق‏.‏

ثبت في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى سحره يهودي من يهود بني زريق، يقال له لبيد بن الأعصم، حتى يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء ولا يفعله، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث - في غير الصحيح‏:‏ سنة - ثم قال‏:‏ ‏(‏يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه‏.‏ أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي‏:‏ ما شأن الرجل‏؟‏ قال‏:‏ مطبوب‏.‏ قال ومن طبه‏؟‏ قال لبيد بن الأعصم‏.‏ قال في ماذا‏؟‏ قال في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر، تحت راعوفة في بئر ذي أوران‏)‏ فجاء البئر واستخرجه‏.‏ انتهى الصحيح‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏أما شعرت يا عائشة أن الله تعالى أخبرني بدائي‏)‏‏.‏ ثم بعث عليا والزبير وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء تلك البئر كأنه نقاعة الحناء، ثم رفعوا الصخرة وهي الراعوفة - صخرة تترك أسفل البئر يقوم عليها المائح، وأخرجوا الجف، فإذا مشاطة رأس إنسان، وأسنان من مشط، وإذا وتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبر، فأنزل الله تعالى هاتين السورتين، وهما إحدى عشرة آية على عدد تلك العقد، وأمر أن يتعوذ بهما؛ فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة، حتى انحلت العقدة الأخيرة، فكأنما أنشط من عقال، وقال‏:‏ ليس به بأس‏.‏ وجعل جبريل يرقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول‏:‏ ‏(‏باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر حاسد وعين، والله يشفيك‏)‏‏.‏ فقالوا‏:‏ يا رسول الله، ألا نقتل الخبيث‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن أثير على الناس شرا‏)‏‏.‏ وذكر القشيري في تفسيره أنه ورد في الصححاح‏:‏ أن غلاما من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فدست إليه اليهود، ولم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمشاطة بضم الميم‏:‏ ما يسقط من الشعر عند المشط‏.‏ وأخذ عدة من أسنان مشطه، فأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وكان الذي تولى ذلك لبيد بن الأعصم اليهودي‏.‏ وذكر نحو ما تقدم عن ابن عباس‏.‏ وقد تقدم في البقرة القول في السحر وحقيقته، وما ينشأ عنه من الآلام والمفاسد، وحكم الساحر؛ فلا معنى لإعادته‏.‏

قوله تعالى الفلق اختلف فيه؛ فقيل‏:‏ سجن في جهنم؛ قال ابن عباس‏.‏ وقال أبي بنكعب‏:‏ بيت في جهنم إذا فتح صاح أهل النار من حره‏.‏ وقال الحبلي أبو عبدالرحمن‏:‏ هو اسم من أسماء جهنم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ واد في جهنم‏.‏ وقال عبدالله بن عمر‏:‏ شجرة في النار‏.‏ سعيد بن جبير‏:‏ جب في النار‏.‏ النحاس‏:‏ يقال لما اطمأن من الأرض فلق؛ فعلى هذا يصح هذا القول‏.‏ وقال جابر بن عبدالله والحسن وسعيد بن جبيرأيضا ومجاهد وقتادة والقرظبي وابن زيد‏:‏ الفلق، الصبح‏.‏ وقال ابن عباس‏.‏ تقول العرب‏:‏ هو أبين من فلق الصبح وفرق الصبح‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

يا ليلة لم أنمها بت مرتفقا أرعى النجوم إلى أن نور الفلق

وقيل‏:‏ الفلق‏:‏ الجبال والصخور تنفرد بالمياه؛ أي تتشقق‏.‏ وقيل‏:‏ هو التفليق بين الجبال والصخور؛ لأنها تتشقق من خوف الله عز وجل‏.‏ قال زهير‏:‏

ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت أيدي الركاب بهم من راكس فلقا

الراكس‏:‏ بطن الوادي‏.‏ وكذلك هو في قول النابغة‏:‏

أتاني ودوني راكس فالضواجع

والراكس أيضا‏:‏ الهادي، وهو الثور وسط البيدر، تدور عليه الثيران في الدياسة‏.‏ وقيل‏:‏ الرحم تنقلق بالحيوان‏.‏ وقيل‏:‏ إنه كل ما انفلق عن جميع ما خلق من الحيوان والصبح والحب والنوى، وكل شيء من نبات وغيره؛ قاله الحسن وغيره‏.‏ قال الضحاك‏:‏ الفلق الخلق كله؛ قال‏:‏

وسوس يدعو مخلصا رب الفلق سرا وقد أون تأوين العقق

قلت‏:‏ هذا القول يشهد له الاشتقاق؛ فإن الفلق الشق‏.‏ فلقت الشيء فاقا أي شققته‏.‏ والتفليق مثله‏.‏ يقال‏:‏ فلقته فانفلق وتفلق‏.‏ فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونوى وماء فهو فلق؛ قال اللة تعالى‏{‏فالق الإصباح‏}‏الأنعام‏:‏ 96‏]‏ قال‏{‏فالق الحب والنوى‏}‏الأنعام‏:‏ 95‏]‏‏.‏ وقال ذو الرمة يصف الثور الوحشي‏:‏

حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق هاديه في أخريات الليل منتصب

يعني بالفلق هنا‏:‏ الصبح بعينه‏.‏ والفلق أيضا‏:‏ المطمئن من الأرض بين الربوتين، وجمعه‏:‏ فلقان؛ مثل خلق وخلقان، وربما قال‏:‏ كان ذلك بفالق كذا وكذا؛ يريدون المكان المنحدر بين الربوتين، والفلق أيضا مقطرة السجان‏.‏ فأما الفلق بالكسر‏:‏ فالداهية والأمر العجب؛ تقول منه‏:‏ أفلق الرجل وأفتلق‏.‏ وشاعر مفلق، وقد جاء بالفلق أي بالداهية‏.‏ والفلق أيضا‏:‏ القضيب يشق باثنين، فيعمل منه قوسان، يقال لكل واحدة منهما فلق، وقولهم‏:‏ جاء بعلق فلق؛ وهي الداهية؛ لا يجرى مجرى عمر‏.‏ يقال منه‏:‏ أعلقت وأفلقت؛ أي جئت بعلق فلق‏.‏ ومر يفتلق في عدوه؛ أي يأتي بالعجب من شدته‏.‏

قوله تعالى‏{‏من شر ما خلق‏}‏ قيل‏:‏ هو إبليس وذريته‏.‏ وقيل جهنم‏.‏ وقيل‏:‏ هوعام؛ أي من شر كل ذي شر خلقه الله عز وجل‏.‏ ‏{‏ومن شر غاسق إذا وقب‏}‏ اختلف فيه؛ فقيل‏:‏ هو الليل‏.‏ والغسق‏:‏ أول ظلمة الليل؛ يقال منه‏:‏ غسقا الليل يغسق أي أظلم‏.‏ قال ابن قيس الرقيات‏:‏

إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا

وقال آخر‏:‏

يا طيف هند لقد أبقيت لي أرقا إذ جئتنا طارقا والليل قد غسقا

هذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم‏.‏ و‏{‏وقب‏}‏ على هذا التفسير‏:‏ أظلم؛ قاله ابن عباس‏.‏ والضحاك‏:‏ دخل‏.‏ قتادة‏:‏ ذهب‏.‏ يمان بن رئاب‏:‏ سكن‏.‏ وقيل‏:‏ نزل؛ يقال‏:‏ وقب العذاب على الكافرين؛ نزل‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وقب العذاب عليهم فكأنهم لحقتهم نار السموم فاحصدوا

وقال الزجاج‏:‏ قيل الليل غاسق لأنه أبرد من النهار‏.‏ والغاسق‏:‏ البارد‏.‏ والغسق‏:‏ البرد؛ ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوام من أماكنها، وينبعث أهل الشر على العبث والفساد‏.‏ وقيل‏:‏ الغاسق‏:‏ الثريا؛ وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين، وإذا طلعت ارتفع ذلك؛ قال عبدالرحمن بن زيد‏.‏ وقيل‏:‏ هو الشمس إذا غربت؛ قاله ابن شهاب‏.‏ وقيل‏:‏ هو القمر‏.‏ قال القتبي‏{‏إذا وقب‏}‏ القمر‏:‏ إذا دخل في ساهوره، وهو كالغلاف له، وذلك إذا خسف به‏.‏ وكل شيء أسود فهو غسق‏.‏ وقال قتادة‏{‏إذا وقب‏}‏ إذا غاب‏.‏ وهو أصح؛ لأن في الترمذي عن عائشة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر، فقال‏:‏ ‏(‏يا عائشة، استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب‏)‏‏.‏ قال أبو عيس‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وقال أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث‏:‏ وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر‏.‏ وأنشد‏:‏

أراحني الله من أشياء أكرهها منها العجوز ومنها الكلب والقمر

هذا يبوح وهذا يستضاء به وهذه ضمرز قوامة السحر

وقيل‏:‏ الغاسق‏:‏ الحية إذا لدغت‏.‏ وكأن الغاسق نابها؛ لأن السم يغسق منه؛ أي يسيل‏.‏ ووقب نابها‏:‏ إذا دخل في اللديغ‏.‏ وقيل‏:‏ الغاسق‏:‏ كل هاجم يضر، كائنا ما كان؛ من قولهم‏:‏ غسقت القرحة‏:‏ إذا جرى صديدها‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن شر النفاثات في العقد‏}‏ يعني الساحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها‏.‏ شبه النفخ كما يعمل من يرقي‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أعوذ بربي من النافثات في عضه العاضه المعضه

وقال متمم بن نويرة‏:‏

نفثت في الخيط شبيه الرقى من خشية الجنة والحاسد

وقال عنترة‏:‏

فإن يبرأ فلم أنفث عليه وإن يفقد فحق له الفقود

و‏"‏روى النسائي عن أبي هريرة‏"‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من عقد عقدة ثم نفث فيها، فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه‏)‏‏.‏ واختلف في النفث عند الرقي فمنعه قوم، وأجازه آخرون‏.‏ قال عكرمة‏:‏ لا ينبغي للراقي أن ينفث، ولا يمسح ولا يعقد‏.‏ قال إبراهيم‏:‏ كانوا يكرهون النفث في الرقي‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ دخلت، على الضحاك وهو وجع، فقلت‏:‏ ألا أعوذك يا أبا محمد‏؟‏ قال‏:‏ لا شيء من ذلك ولكن لا تنفث؛ فعوذته بالمعوذتين‏.‏ وقال ابن جريج قلت لعطاء‏:‏ القرآن ينفخ به أو ينفث‏؟‏ قال‏:‏ لا شيء من ذلك ولكن تقرؤه هكذا‏.‏ ثم قال بعد‏:‏ انفث إن شئت‏.‏ وسئل محمد بن سيرين عن الرقيه ينفث فيها، فقال‏:‏ لا أعلم بها بأسا، وإذا اختلفوا فالحاكم بينهم السنة‏.‏ روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث في الرقية؛ رواه الأئمة، وقد ذكرناه أول السورة وفي الإسراء ‏.‏ وعن محمد بن حاطب أن يده احترقت فأتت به أمه النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل ينفث عليها ويتكلم بكلام؛ زعم أنه لم يحفظه‏.‏ وقال محمد بن الأشعث‏:‏ ذهب بي إلى عائشة رضي الله عنها وفي عيني سوء، فرقتني ونفثت‏.‏

وأما ما روي عن عكرمة من قوله‏:‏ لا ينبغي للراقي أن ينفث، فكأنه ذهب فيه إلى أن الله تعالى جعل النفث في العقد مما يستعاذ به، فلا يكون بنفسه عوذة‏.‏ وليس هذا هكذا؛ لأن النفث في العقد إذا كان مذموما لم يجب أن يكون النفث بلا عقد مذموما‏.‏ ولأن النفث في العقد إنما أريد به السحر المضر بالأرواح، وهذا النفث لاستصلاح الأبدان، فلا يقاس ما ينفع بما يضر‏.‏ وأما كراهة عكرمة المسح فخلاف السنة‏.‏ قال علي رضي الله عنه‏:‏ اشتكيت، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول‏:‏ اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان متأخرا فاشفني وعافني، وإن كان بلاء فصبرني‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏كيف قلت‏)‏‏؟‏ فقلت له‏:‏ فمسحني بيده، ثم قال‏:‏ ‏(‏اللم اشفه‏)‏ فما عاد ذلك الوجع بعد‏.‏ وقرأ عبدالله بن عمرو وعبدالرحمن بن سابط وعيسى بن عمر ورويس عن يعقوب ‏{‏من شر النافثات‏}‏ في وزن ‏(‏فاعلات‏)‏‏.‏ ورويت عن عبدالله بن القاسم مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما‏.‏ وروي أن نساء سحرن النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة، فأنزل الله المعوذتين إحدى عشرة آية‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ كن من اليهود؛ يعني السواحر المذكورات‏.‏ وقيل‏:‏ هن بنات لبيد بن الأعصم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن شر حاسد إذا حسد‏}‏ قد تقدم في سورة النساء معنى الحسد، وأنه تمنى زوال نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها‏.‏ والمنافسة هي تمني مثلها وإن لم تزل‏.‏ فالحسد شر مذموم‏.‏ والمنافسة مباحة وهي الغبطة‏.‏ وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏المؤمن يغبط، والمنافق يحسد‏)‏‏.‏‏"‏ وفي الصحيحين‏"‏‏:‏ ‏(‏لا حسد إلا في اثنتين‏)‏ يريد لا غبطة وقد مضى في سورة النساء والحمد لله‏.‏

قلت‏:‏ قال العلماء‏:‏ الحاسد لايضر إلا اذا ظهر حسده بفعل أو قول، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فيتبع مساوئه، ويطلب عثراته‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا حسدت فلا تبغ‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وقد تقدم‏.‏ والحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض، فحسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل‏.‏ والحاسد ممقوت مبغوض مطرود ملعون ولقد أحسن من قال‏:‏

قل للحسود إذا تنفس طعنة يا ظالما وكأنه مظلوم

هذه سورة دالة على أن الله سبحانه خالق كل شر، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من جميع الشرور‏.‏ فقال‏{‏من شر ما خلق‏}‏‏.‏ وجعل خاتمة ذلك الحسد، تنبيها على عظمه، وكثرة ضرره‏.‏ والحاسد عدو نعمة الله‏.‏ قال بعض الحكماء‏:‏ بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره‏.‏ وثانيها‏:‏ أنه ساخط لقسمة ربه، كأنه يقول‏:‏ لم قسمت هذه القسمة‏؟‏ وثالثها‏:‏ أنه ضاد فعل الله، أي إن فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو يبخل بفضل الله‏.‏ ورابعها‏:‏ أنه خذل أولياء الله، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم‏.‏ وخامسها‏:‏ أنه أعان عدوه إبليس‏.‏ وقيل‏:‏ الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة ألا لعنة وبغضاء، ولا ينال في الخلوة إلا جزعا وغما، ولا ينال في الآخرة إلا حزنا واحتراقا، ولا ينال من الله إلا بعدا ومقتا‏.‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم‏:‏ آكل الحرام، ومكثر الغيبة، ومن كان في قلبه غل أو حسد للمسلمين‏)‏‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم
 
سورة الناس

المقدمة

مثل الفلق لأنها إحدى المعوذتين‏.‏ و‏"‏روى الترمذي عن عقبة بن عامر الجهني‏"‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقد أنزل الله على آيات لم ير مثلهن‏{‏قل أعوذ برب الناس‏}‏ إلى آخر السورة ‏{‏وقل أعوذ برب الفلق‏}‏ إلى آخر السورة‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏‏"‏ ورواه مسلم‏.‏‏"‏

الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 3‏)‏

‏{‏قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل أعوذ برب الناس‏}‏ أي مالكهم ومصلح أمورهم‏.‏ وإنما ذكر أنه رب الناس، وإن كان ربا لجميع الخلق لأمرين‏:‏ أحدهما‏:‏ لأن الناس معظمون؛ فأعلم بذكرهم أنه رب لهم وإن عظموا‏.‏ الثاني‏:‏ لأنه أمر بالاستعاذة من شرهم، فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم‏.‏ وإنما قال‏{‏ملك الناس إله الناس‏}‏ لأن في الناس ملوكا يذكر أنه ملكهم‏.‏ وفي الناس من يعبد غيره، فذكر أنه إلههم ومعبودهم، وأنه الذي يجب أن يستعاذ به ويلجأ إليه، دون الملوك والعظماء‏.‏

الآية رقم ‏(‏4‏)‏

‏{‏من شر الوسواس الخناس‏}‏

يعني‏:‏ من شر الشيطان‏.‏ والمعنى‏:‏ من شر ذي الوسواس؛ فحذف المضاف؛ قال الفراء‏:‏ وهو بفتح الواو‏)‏ عنى الاسم؛ أي الموسوس‏.‏ وبكسر الواو المصدر؛ يعني الوسوسة‏.‏ وكذا الزلزال والزلزال‏.‏ والوسوسة‏:‏ حديث النفس‏.‏ يقال‏:‏ وسوست إليهم نفسه وسوسة ووسوسة بكسر الواو‏.‏ ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلي‏:‏ وسواس‏.‏ وقال ذو الرمة‏:‏

فبات بشئزه ثاد ويسهره تذؤب الريح والوسواس والهضب

وقال الأعشى‏:‏

تسمع للحلى وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل

وقيل‏:‏ إن الوسواس الخناس ابن لإبليس، جاء به إلى حواء، ووضعه بين يديها وقال‏:‏ اكفليه‏.‏ فجاء آدم عليه السلام فقال‏:‏ ما هذا ‏(‏يا حواء‏)‏ قالت‏:‏ جاء عدونا بهذا وقال لي‏:‏ اكفليه‏.‏ فقال‏:‏ ألم أقل لك لا تطيعيه في شيء، هو الذي غرنا حتى وقعنا في المعصية‏؟‏ وعمد إلى الولد فقطعه أربعة أرباع، وعلق كل ربع على شجرة، غيظا له؛ فجاء إبليس فقال‏:‏ يا حواء، أين ابني‏؟‏ فأخبرته بما صنع به آدم عليه السلام فقال‏:‏ يا خناس، فحيي فأجابه‏.‏ فجاء به إلى حواء وقال‏:‏ اكفليه؛ فجاء آدم عليه السلام فحرقه بالنار، وذر رماده في البحر؛ فجاء إبليس ‏(‏عليه اللعنة‏)‏ فقال‏:‏ يا حواء، أين ابني‏؟‏ فأخبرته بفعل آدم إياه؛ فذهب إلى البحر، فقال‏:‏ يا خناس، فحيي فأجابه‏.‏ فجاء به إلى حواء الثالثة، وقال‏:‏ أكفليه‏.‏ فنظر؛ إليه آدم، فذبحه وشواه، وأكلاه جميعا‏.‏ فجاء إبليس فسألها فأخبرته ‏(‏حواء‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ يا خناس، فحيي فأجابه ‏(‏فجاء به‏)‏ من جوف آدم وحواء‏.‏ فقال إبليس‏:‏ هذا الذي أردت، وهذا مسكنك في صدر ولد آدم؛ فهو ملتقم قلب آدم ما دام غافلا يوسوس، فإذا ذكر الله لفظ قلبه وانخنس‏.‏ ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول بإسناد عن وهب بن منبه‏.‏ وما أظنه يصح، والله تعالى أعلم‏.‏ ووصف بالخناس لأنه كثير الاختفاء؛ ومنه قوله تعالى‏{‏فلا أقسم بالخنس‏}‏التكوير‏:‏ 15‏]‏ يعني النجوم، لاختفائها بعد ظهورها‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه يخنس إذا ذكر العبد الله؛ أي يتأخر‏.‏ وفي الخبر ‏(‏إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا غفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس‏)‏ أي تأخر وأقصر‏.‏ وقال قتادة‏{‏الخناس‏}‏ الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا غفل الإنسان وسوس له، وإذا ذكر العبد ربه خنس‏.‏ يقال‏:‏ خنسته فخنس؛ أي أخرته فتأخر‏.‏ وأخنسته أيضا‏.‏ ومنه قول أبي العلاء الحضرمي - أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

وإن دحسوا بالشر فاعف تكرما وإن خنسوا عند الحديث فلا تسل

الدحس‏:‏ الإفساد‏.‏ وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا نسي الله التقم قلبه فوسوس‏)‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إذا ذكر الله العبد خنس من قلبه فذهب، وإذا غفل التقم قلبه فحدثه ومناه‏.‏ وقال إبراهيم التيمي‏:‏ أول ما يبدو الوسواس من قبل الوضوء‏.‏ وقيل‏:‏ سمي خناسا لأنه يرجع إذا غفل العبد عن ذكر الله‏.‏ والخنس‏:‏ الرجوع‏.‏ وقال الراجز‏:‏

وصاحب يمتعس امتعاسا يزداد إن حييته خناسا

وقد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى‏{‏الوسواس الخناس‏}‏ وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه الراجع بالوسوسة عن الهدى‏.‏ الثاني‏:‏ أنه الخارج بالوسوسة من اليقين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 5‏)‏

‏{‏الذي يوسوس في صدور الناس‏}‏

قال مقاتل‏:‏ إن الشيطان في صورة خنزير، يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، سلطه الله على ذلك؛ فذلك قوله تعالى‏{‏الذي يوسوس في صدور الناس‏}‏‏"‏‏.‏ وفي الصحيح‏"‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم‏)‏‏.‏ وهذا يصحح ما قاله مقاتل‏.‏

وروى شهر بن حوشب عن أبي ثعلبة الخشني قال‏:‏ سألت الله أن يريني الشيطان ومكانه من ابن آدم فرأيته، يداه في يديه، ورجلاه في رجليه، ومشاعبه في جسده؛ غير أن له خطما كخطم الكلب، فإذا ذكر الله خنس ونكس، وإذا سكت عن ذكر الله أخذ بقلبه‏.‏ فعلى ما وصف أبو ثعلبة، أنه متشعب في الجسد؛ أي في كل عضو منه شعبة‏.‏

وروي عن عبدالرحمن بن الأسود أو غيره من التابعين أنه قال - وقد كبر سنه - ‏:‏ ما أمنت الزنى، وما يؤمنني أن يدخل الشيطان ذكره فيوتده‏!‏ فهذا القول ينبئك أنه متشعب في الجسد، وهذا معنى قول مقاتل‏.‏

ووسوسته‏:‏ هو الدعاء لطاعته بكلام خفي، يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوت‏.‏

الآية رقم ‏(‏6‏)‏

‏{‏من الجنة والناس‏}‏

أخبر أن الموسوس قد يكون من الناس‏.‏ قال الحسن‏:‏ هما شيطانان؛ أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إن من الجن شياطين، وإن من الإنس شياطين؛ فتعوذ بالله من شياطين الإنس والجن‏.‏ وروي عن أبي ذر أنه قال لرجل‏:‏ هل تعوذت بالله من شياطين الإنس‏؟‏ فقال‏:‏ أو من الإنس شياطين‏؟‏ قال‏:‏ نعم؛ لقوله تعالى‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن‏}‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏ وذهب قوم إلى أن الناس هنا يراد به الجن‏.‏ سموا ناسا كما سموا رجلا في قوله‏{‏وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن‏}‏الجن‏:‏ 6‏]‏ - وقوما ونفرا‏.‏ فعلى هذا يكون ‏{‏والناس‏}‏ عطفا على ‏{‏الجنة‏}‏، ويكون التكرير لاختلاف اللفظين‏.‏ وذكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدث‏:‏ جاء قوم من الجن فوقفوا‏.‏ فقيل‏:‏ من أنتم‏؟‏ فقالوا‏:‏ ناس من الجن‏.‏ وهو معنى قول الفراء‏.‏ وقيل‏:‏ الوسواس هو الشيطان‏.‏ وقوله‏{‏من الجنة‏}‏ بيان أنه من الجن ‏{‏والناس‏}‏ معطوف على الوسواس‏.‏ والمعنى‏:‏ قل أعوذ برب الناس من شر الوسواس، الذي هو من الجنة، ومن شر الناس‏.‏ فعلى هذا أمر بأن يستعيذ من شر الإنس والجن‏.‏ والجنة‏:‏ جمع جني؛ كما يقال‏:‏ إنس وإنسي‏.‏ والهاء لتأنيث الجماعة‏.‏ وقيل‏:‏ إن إبليس يوسوس في صدور الجن، كما يوسوس في صدور الناس‏.‏ فعلى هذا يكون ‏{‏في صدور الناس‏}‏ عاما في الجميع‏.‏ و‏{‏من الجنة والناس‏}‏ بيان لما يوسوس في صدره‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏من شر الوسواس‏}‏ أي الوسوسة التي تكون من الجنة والناس، وهو حديث النفس‏.‏ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به‏)‏‏.‏‏"‏ رواه أبو هريرة، أخرجه مسلم‏.‏‏"‏ فالله تعالى أعلم بالمراد من ذلك‏.‏

مساعدة بشأن بعض الأسماء

من أجل الاستفادة القصوى من قدرة البحث في القواميس، فقد تم حذف ‏{‏الفراغ‏}‏ بعد كلمة ‏{‏عبد‏}‏ إذا كان يتلوها اسم من أسماء الله تعالى، فعند ‏{‏النقر‏}‏ مرتين على أحد من هذه الأسماء بالطريقة الجديدة، يجري بحث القواميس عن الاسم بكامله مثال‏:‏ عبدالله، وذلك لا يمكن بوجود الفراغ بعد ‏{‏عبد‏}‏‏)‏‏.‏ وهذا الاصطلاح أنسب كذلك وأكثر جدوى بشأن البحث العادي‏.‏

عبد الله‏:‏ انظر‏:‏ عبدالله

عبد الأعلى‏:‏ انظر‏:‏ عبدالأعلى

عبد الإله‏:‏ انظر‏:‏ عبدالإله

عبد الباسط‏:‏ انظر‏:‏ عبدالباسط

عبد البر‏:‏ انظر‏:‏ عبدالبر

عبد الجبار‏:‏ انظر‏:‏ عبدالجبار

عبد الحليم‏:‏ انظر‏:‏ عبدالحليم

عبد ربه‏:‏ انظر‏:‏ عبدربه

عبد الرحيم‏:‏ انظر‏:‏ عبدالرحيم

عبد الرزاق‏:‏ انظر‏:‏ عبدالرزاق

عبد الحكم‏:‏ انظر‏:‏ عبدالحكم

عبد الحميد‏:‏ انظر‏:‏ عبدالحميد

عبد الحق‏:‏ انظر‏:‏ عبدالحق

عبد الرحمن‏:‏ انظر‏:‏ عبدالرحمن

عبد السلام‏:‏ انظر‏:‏ عبدالسلام

عبد العال‏:‏ انظر‏:‏ عبدالعال

عبد العزيز‏:‏ انظر‏:‏ عبدالعزيز

عبد العظيم‏:‏ انظر‏:‏ عبدالعظيم

عبد الغني‏:‏ انظر‏:‏ عبدالغني

عبد القادر‏:‏ انظر‏:‏ عبدالقادر

عبد الكبير‏:‏ انظر‏:‏ عبدالكبير

عبد الكريم‏:‏ انظر‏:‏ عبدالكريم

عبد اللطيف‏:‏ انظر‏:‏ عبداللطيف

عبد المطلب‏:‏ انظر‏:‏ عبدالمطلب

عبد الملك‏:‏ انظر‏:‏ عبدالملك

عبد المجيد‏:‏ انظر‏:‏ عبدالمجيد

عبد المؤمن‏:‏ انظر‏:‏ عبدالمؤمن

عبد الواحد‏:‏ انظر‏:‏ عبدالواحد

عبد الوارث‏:‏ انظر‏:‏ عبدالوارث

عبد الوهاب‏:‏ انظر‏:‏ عبدالوهاب

عبيد الله‏:‏ انظر‏:‏ عبيدالله

‏[‏انتهى الكتاب‏]‏

‏انتهى الكتاب بحمد الله‏

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين‏.‏

ربنا عاملنا بلطفك ورحمتك ما أبقيتنا، وتعطف علينا في عرصات الآخرة يا خير مأمول، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، آمين‏.‏ ‏
 
سبب نشر هذا الموضوع؟
انه في ذمنا هذا كثرت تفسيرات القرأن الكريم وكل شخص يقوم بتفسير القرأن علي مصالحه الشخصيه مثل التنظيمات الأرهابيه التي تتخذ القرأن ساتر لجرائمها وتقتل الناس الابرياء باسم الاسلام والاسلام منهم برئ
برائه الذئب من دم ابن يعقوب فكان من الواجب نشر هذا الموضوع من مصدر موثوق فيه جدآ


وسوف اقوم بنشر تفاصيل الديانه اليهوديه
وتفاصيل الديانه المسيحيه

ادعولي ب التوفيق
واتمني ان اكون قديت الامانه في نشر تفسير القرأن الكريم بالشكل الذي يليق به
وشكرآ
 
مجهود ممتاز على مدار اكثر من اسبوع
جعله الله فى ميزان حسناتك
 
عودة
أعلى