تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن"

الآية رقم ‏(‏ 85 ‏:‏ 86 ‏)‏

‏{‏وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين، وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإسماعيل وإدريس‏{‏ وهو أخنوخ وقد تقدم‏.‏ ‏{‏وذا الكفل‏{‏ أي واذكرهم‏.‏ وخرج الترمذي الحكيم في ‏{‏نوادر الأصول‏{‏ وغيره من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كان في بني إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا يتورع من ذنب عمله فاتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك قالت من هذا العمل والله ما عملته قط قال أأكرهتك قالت لا ولكن حملني عليه الحاجة قال اذهبي فهو لك والله لا أعصى الله بعدها أبدا ثم مات من ليلته فوجدوا مكتوبا على باب داره إن الله قد غفر لذي الكفل‏)‏ وخرجه أبو عيسى الترمذي أيضا ولفظه‏.‏ ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عد سبع موات - ‏[‏لم أحدث به‏]‏ ولكني سمعته أكثر من ذلك؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏كان ذو الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك أأكرهتك قالت لا ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة فقال تفعلين أنت هذا وما فعلته اذهبي فهي لك وقال والله لا أعصي الله بعدها أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه إن الله قد غفر لذي الكفل‏)‏ قال‏:‏ حديث حسن‏.‏ وقيل إن اليسع لما كبر قال‏:‏ لو استخلفت رجلا على الناس أنظر كيف يعمل‏.‏ فقال‏:‏ من يتكفل لي بثلاث‏:‏ بصيام النهار وقيام الليل وإلا يغضب وهو يقضي‏؟‏ فقال رجل من ذرية العيص‏:‏ أنا؛ فرده ثم قال مثلها من الغد؛ فقال الرجل‏:‏ أنا؛ فاستخلفه فوفي فأثنى الله عليه فسمي ذا الكفل؛ لأنه تكفل بأمر؛ قال أبو موسى ومجاهد وقتادة‏.‏ وقال عمرو بن عبدالرحمن بن الحارث وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن ذا الكفل لم يكن نبيا، ولكنه كان عبدا صالحا فتكفل بعمل رجل صالح عند موته، وكان يصلي، لله كل يوم مائة صلاة فأحسن الله الثناء عليه قال كعب‏:‏ كان في بني إسرائيل ملك كافر فمر ببلاده رجل صالح فقال‏:‏ والله إن خرجت من هذه البلاد حتى أعرض على هذا الملك الإسلام‏.‏ فعرض عليه فقال‏:‏ ما جزائي‏؟‏ قال‏:‏ الجنة - ووصفها له - قال‏:‏ من يتكفل لي بذلك‏؟‏ قال‏:‏ أنا؛ فأسلم الملك وتخلى عن المملكة وأقبل على طاعة ربه حتى مات، فدفن فأصبحوا فوجدوا يده خارجة من القبر وفيها رقعة خضراء مكتوب فيها بنور أبيض‏:‏ إن الله قد غفر لي وأدخلني الجنة ووفى عن كفالة فلان؛ فأسرع الناس إلى ذلك الرجل بأن يأخذ عليهم الإيمان، ويتكفل لهم بما تكفل به للملك، ففعل ذلك فأمنوا كلهم فسمي ذا الكفل‏.‏ وقيل‏:‏ كان رجلا عفيفا يتكفل بشأن كل إنسان وقع في بلاء أو تهمة أو مطالبة فينجيه الله على يديه‏.‏ وقيل‏:‏ سمي ذا الكفل لأن الله تعالى تكفل له في سعيه وعمله بضعف عمل غيره من الأنبياء الذين كانوا في زمانه‏.‏ والجمهور على أنه ليس بنبي‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو نبي قبل إلياس‏.‏ وقيل‏:‏ هو زكريا بكفالة مريم‏.‏ ‏{‏كل من الصابرين‏{‏ أي على أمر الله والقيام بطاعته واجتناب معاصيه‏.‏ ‏{‏وأدخلناهم في رحمتنا‏{‏ أي في الجنة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 87 ‏:‏ 88 ‏)‏

‏{‏وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وذا النون‏{‏ أي واذكر ‏{‏ذا النون‏{‏ وهو لقب ليونس بن متى لابتلاع النون إياه‏.‏ والنون الحوت‏.‏ وفي حديث عثمان رضي الله عنه أنه رأى صبيا مليحا فقال‏:‏ دسموا نونته كي لا تصيبه العين‏.‏ روى ثعلب عن ابن الأعرابي‏:‏ النونة النقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير، ومعنى دسموا سودوا‏.‏

قوله تعالى‏{‏إذ ذهب مغاضبا‏{‏ قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير‏:‏ مغاضبا لربه عز وجل‏.‏ واختاره الطبري والقتبي واستحسنه المهدوي، وروي عن ابن مسعود‏.‏ وقال النحاس‏:‏ وربما أنكره هذا من لا يعرف اللغة وهو قول صحيح‏.‏ والمعنى‏:‏ مغاضبا من أجل ربه، كما تقول‏:‏ غضبت لك أي من أجلك‏.‏ والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصي‏.‏ وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة‏:‏ ‏(‏اشترطي لهم الولاء‏)‏ من هذا‏.‏ وبالغ القتبي في نصرة هذا القول‏.‏ وفي الخبر في وصف يونس‏:‏ إنه كان ضيق الصدر فلما حمل أعباء النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فمضى على وجهه مضي الآبق الناد‏.‏ وهذه المغاضبة كانت صغيرة‏.‏ ولم يغضب على الله ولكن غضب لله إذ رفع العذاب عنهم‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ أبق من ربه أي من أمر ربه حتى أمره بالعودة إليهم بعد رفع العذاب عنهم‏.‏ فإنه كان يتوعد قومه بنزول العذاب في وقت معلوم، وخرج من عندهم في ذلك الوقت، فأظلهم العذاب فتضرعوا فرفع عنهم ولم يعلم يونس بتوبتهم؛ فلذلك ذهب مغاضبا وكان من حقه ألا يذهب إلا بإذن محدد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أمره الله تعالى بالمسيرة إلى قومه فسأل أن ينظر ليتأهب، فأعجله الله حتى سأل أن يأخذ نعلا ليلبسها فلم ينظر، وقيل له‏:‏ الأمر أعجل من ذلك - وكان في خلقه ضيق - فخرج مغاضبا لربه، فهذا قول وقول النحاس أحسن ما قيل في تأويله‏.‏ أي خرج مغاضبا من أجل ربه، أي غضب على قومه من أجل كفرهم بربه وقيل‏:‏ إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارا بنفسه، ولم يصبر على أذاهم وقد كان الله أمره بملازمتهم والدعاء، فكان ذنبه خروجه من بينهم من غير إذن من الله‏.‏ روي عن ابن عباس والضحاك، وأن يونس كان شابا ولم يحمل أثقال النبوة؛ ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم‏{‏ولا تكن كصاحب الحوت‏}‏القلم‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وعن الضحاك أيضا خرج مغاضبا لقومه؛ لأن قومه لما لم يقبلوا منه وهو رسول من الله عز وجل كفروا بهذا فوجب أن يغاضبهم، وعلى كل أحد أن يغاضب من عصى الله عز وجل‏.‏ وقالت فرقة منهم الأخفش‏:‏ إنما خرج مغاضبا للملك الذين كان على قومه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أراد شعيا النبي والملك الذي كان في وقته اسمه حزقيا أن يبعثوا يونس إلى ملك نينوى، وكان غزا بني إسرائيل وسبى الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بني إسرائيل، وكان الأنبياء في ذلك الزمان يوحى إليهم، والأمر والسياسة إلى ملك قد اختاروه فيعمل على وحي ذلك النبي، وكان أوحى الله لشعيا‏:‏ أن قل لحزقيا الملك أن يختار نبيا قويا أمينا من بني إسرائيل فيبعثه إلى أهل نينوى فيأمرهم بالتخلية عن بني إسرائيل فإني ملق في قلوب ملوكهم وجبابرتهم التخلية عنهم‏.‏ فقال يونس لشعيا‏:‏ هل أمرك الله بإخراجي‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فهل سماني لك‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال فها هنا أنبياء أمناء أقوياء‏.‏ فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي الملك وقومه، فأتى بحر الروم وكان من قصته ما كان؛ فابتلي ببطن الحوت لتركه أمر شعيا؛ ولهذا قال الله تعالى‏{‏فالتقمه الحوت وهو مليم‏}‏الصافات‏:‏ 142‏]‏ والمليم من فعل ما يلام عليه‏.‏ وكان ما فعله إما صغيرة أو ترك الأولى‏.‏ وقيل‏:‏ خرج ولم يكن نبيا في ذلك الوقت ولكن أمره ملك من ملوك بني إسرائيل أن يأتي نينوى؛ ليدعو أهلها بأمر شعيا فأنف أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله، فخرج مغاضبا للملك؛ فلما نجا من بطن الحوت بعثه الله إلى قومه فدعاهم وآمنوا به‏.‏ وقال القشيري‏:‏ والأظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه، وبعد رفع العذاب عن القوم بعد ما أظلهم؛ فإنه كره رفع العذاب عنهم‏.‏

قلت‏:‏ هذا أحسن ما قيل فيه على ما يأتي بيانه في ‏{‏والصافات‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ إنه كان من أخلاق قومه قتل من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتل فغضب، وخرج فارا على وجهه حتى ركب في سفينة فسكنت ولم تجر‏.‏ فقال أهلها‏:‏ أفيكم آبق‏؟‏ فقال‏:‏ أنا هو‏.‏ وكان من قصته ما كان، وابتلي ببطن الحوت تمحيصا من الصغيرة كما قال في أهل أحد‏{‏حتى إذا فشلتم‏}‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏ إلى قوله‏{‏وليمحص الله الذين آمنوا‏}‏آل عمران‏:‏ 141‏]‏ فمعاصي الأنبياء مغفورة، ولكن قد يجري تمحيص ويتضمن ذلك زجرا عن المعاودة‏.‏ وقول رابع‏:‏ إنه لم يغاضب ربه، ولا قومه، ولا الملك، وأنه من قولهم غضب إذا أنف‏.‏ وفاعل قد يكون من واحد؛ فالمعنى أنه لما وعد قومه بالعذاب وخرج عنهم تابوا وكشف عنهم العذاب، فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك فخرج أبقا‏.‏ وينشد هذا البيت‏:‏

وأغضب أن تهجي تميم بداوم

أي آنف‏.‏ وهذا فيه نظر؛ فإنه يغال لصاحب هذا القول‏:‏ إن تلك المغاضبة وإن كانت من الأنفة، فالأنفة لا بد أن يخالطها الغضب وإن ذلك دق على من كان‏؟‏‏!‏ وأنت تقول لم يغضب على ربه ولا على قومه‏.‏

قوله تعالى‏{‏فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات‏{‏ قيل‏:‏ معناه استنزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته‏.‏ وهذا قول مردود مرغوب عنه؛ لأنه كفر‏.‏ روي عن سعيد بن جبير حكاه عنه المهدوي، والثعلبي عن الحسن وذكر الثعلبي وقال عطاء وسعيد بن جبير وكثير من العلماء معناه‏:‏ فظن أن لن نضيق عليه‏.‏ الحسن‏:‏ هو من قوله تعالى‏{‏الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏}‏الرعد‏:‏ 26‏]‏ أي يضيق‏.‏ وقوله ‏{‏ومن قدر عليه رزقه‏}‏الطلاق‏:‏ 7‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الأشبه بقول سعيد والحسن وقدر وقدر وقتر وقتر بمعنى، أي ضيق وهو قول ابن عباس فيما ذكره الماوردي والمهدوي‏.‏ وقيل‏:‏ هو من القدر الذي هو القضاء والحكم؛ أي فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة؛ قال قتادة ومجاهد والفراء‏.‏ مأخوذ من القدر وهو الحكم دون القدرة والاستطاعة‏.‏ وروي عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، أنه قال في قول الله عز وجل‏{‏فظن أن لن نقدر عليه‏{‏ هو من التقدير ليس من القدرة، يقال منه‏:‏ قدر الله لك الخير يقدره قدرا، بمعنى قدر الله لك الخير‏.‏ وأنشد ثعلب‏:‏

فليست عشيات اللوى برواجع لنا أبدا ما أورق السلم النضر

ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر

يعني ما تقدره وتقضي به يقع‏.‏ وعلى هذين التأويلين العلماء‏.‏ وقرأ عمر بن عبدالعزيز والزهري‏{‏فظن أن لن نُقدِّر عليه‏{‏ بضم النون وتشديد الدال من التقدير‏.‏ وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس‏.‏ وقرأ عبيد بن عمير وقتادة والأعرج‏{‏أن لن يقدر عليه‏{‏ بضم الياء مشددا على، الفعل المجهول‏.‏ وقرأ يعقوب وعبدالله بن أبي إسحاق والحسن وابن عباس أيضا ‏{‏يُقْدَر عليه‏{‏ بياء مضمومة وفتح الدال مخففا على الفعل المجهول‏.‏ وعن الحسن أيضا ‏{‏فظن أن لن يقدر عليه‏{‏‏.‏ الباقون ‏{‏نقدر‏{‏ بفتح النون وكسر الدال وكله بمعنى التقدير‏.‏

قلت‏:‏ وهذان التأويلان تأولهما العلماء في قول الرجل الذي لم يعمل خيرا قط لأهله إذا مات فحرقوه ‏(‏فوالله لئن قدر الله على‏)‏ الحديث فعلى التأويل الأول يكون تقديره‏:‏ والله لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزائي على ذنوبي ليكونن ذلك، ثم أمر أن يحرق بإفراط خوفه‏.‏ وعلى التأويل الثاني‏:‏ أي لن كان سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين غيري‏.‏ وحديثه خرجه الأئمة في الموطأ وغيره‏.‏ والرجل كان مؤمنا موحدا‏.‏ وقد جاء في بعض طرقه ‏(‏لم يعمل خيرا إلا التوحيد‏)‏ وقد قال حين قال الله تعالى‏:‏ لم فعلت هذا‏؟‏ قال‏:‏ من خشيتك يا رب‏.‏ والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق؛ قال الله تعالى‏{‏إنما يخشى الله من عباده العلماء‏{‏‏.‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن معنى ‏{‏فظن أن لن نقدر عليه‏{‏ الاستفهام وتقديره‏:‏ أفظن، فحذف ألف الاستفهام إيجازا؛ وهو قول سليمان ‏{‏أبو‏{‏ المعتمر‏.‏ وحكى القاضي منذر بن سعيد‏:‏ أن بعضهم قرأ ‏{‏أفظن‏{‏ بالألف‏.‏

قوله تعالى‏{‏فنادى في الظلمات‏{‏ اختلف العلماء في جمع الظلمات ما المراد به، فقالت فرقة منهم ابن عباس وقتادة‏:‏ ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الحوت‏.‏ وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبيدالله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبدالله بن مسعود في بيت المال قال‏:‏ لما ابتلع الحوت يونس عليه السلام أهوى به إلى قرار الأرض، فسمع يونس تسبيح الحصى فنادى في الظلمات ظلمات ثلاث‏:‏ ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر ‏{‏أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‏{‏ ‏{‏فنبذناه بالعراء وهو سقيم‏}‏الصافات‏:‏ 145‏]‏ كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش‏.‏ وقالت فرقة منهم سالم بن أبي الجعد‏:‏ ظلمة البحر، وظلمة حوت التقم الحوت الأول‏.‏ ويصح أن يعبر بالظلمات عن جوف الحوت الأول فقط؛ كما قال‏{‏في غيابة الجب‏}‏يوسف‏:‏ 10‏]‏ وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ‏.‏ وذكر الماوردي‏:‏ أنه يحتمل أن يعبر بالظلمات عن ظلمة الخطيئة، وظلمة الشدة، وظلمة الوحدة‏.‏ وروي‏:‏ أن الله تعالى أوحى إلى الحوت‏{‏لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله طعامك‏{‏ وروي‏:‏ أن يونس عليه السلام سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر‏.‏ وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا العباس بن يزيد العبدي حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا جعفر بن سليمان عن عوف عن سعيد بن أبي الحسن قال‏:‏ لما التقم الحوت يونس عليه السلام ظن أنه قد مات فطول رجليه فإذا هو لم يمت فقام إلى عادته يصلي فقال في دعائه‏{‏واتخذت لك مسجدا حيث لم يتخذه أحد‏{‏‏.‏ وقال أبو المعالي‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا تفضلوني على يونس بن متى‏)‏ المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت‏.‏ وهذا يدل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في ‏{‏البقرة‏{‏ و‏{‏الأعراف‏{‏‏.‏ ‏{‏أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‏{‏ يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم وقيل‏:‏ في الخروج من غير أن يؤذن له‏.‏ ولم يكن ذلك من الله عقوبة؛ لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان ذلك تمحيصا‏.‏ وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان؛ ذكره الماوردي‏.‏ وقيل‏:‏ من الظالمين في دعائي على قومي بالعذاب‏.‏ وقد دعا نوح على قومه فلم يؤاخذ‏.‏ وقال الواسطي في معناه‏:‏ نزه ربه عن الظلم وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافا واستحقاقا‏.‏ ومثل هذا قول آدم وحواء‏{‏ربنا ظلمنا أنفسنا‏}‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏ إذ كانا السبب في وضعهما أنفسهما في غير الموضع الذي أنزلا فيه‏.‏

روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏دعاء ذي النون في بطن الحوت‏{‏ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‏{‏ لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له‏)‏ وقد قيل‏:‏ إنه اسم الله الأعظم ورواه سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي الخبر‏:‏ في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه كما به وينجيه كما أنجاه، وهو قوله‏{‏وكذلك ننجي المؤمنين‏{‏ وليس ههنا صريح دعاء وهو وإنما هو مضمون قوله‏{‏إني كنت من الظالمين‏{‏ فاعترف بالظلم فكان تلويحا‏.‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك ننجي المؤمنين‏{‏ أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم‏.‏ وذلك قوله‏{‏فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون‏}‏الصافات‏:‏ 143 - 144‏]‏ وهذا حفظ من الله عز وجل لعبده يونس رعى له حق تعبده، وحفظ زمام ما سلف له من الطاعة‏.‏ وقال الأستاذ أبو إسحاق‏:‏ صحب ذو النون الحوت أياما قلائل فإلي يوم القيامة يقال له ذو النون، فما ظنك بعيد عبده سبعين سنة يبطل هذا عنده‏!‏ لا يظن به ذلك‏.‏ ‏{‏من الغم‏{‏ أي من بطن الحوت‏.‏ قوله تعالى‏{‏وكذلك ننجي المؤمنين‏{‏ قراءة العامة بنونين من أنجي ينجي‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏نجي‏{‏ بنون واحدة وجيم مشددة وتسكين الياء على الفعل الماضي وإضمار المصدر أي وكذلك نجي النجاء المؤمنين؛ كما تقول‏:‏ ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا وأنشد‏:‏

ولو ولدت قفيرة جرو كلب لسب بذلك الجرو الكلابا

أراد لسب السب بذلك الجرو‏.‏ وسكنت ياؤه على لغة من يقول بقي ورضي فلا يحرك الياء‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏وذروا ما بقي من الربا‏}‏البقرة‏:‏ 278‏]‏ استثقالا لتحريك ياء قبلها كسرة‏.‏ وأنشد‏:‏

خمر الشيب لمتي تخميرا وحدا بي إلى القبور البعيرا

ليت شعري إذا القيامة قامت ودعي بالحساب أين المصيرا

سكن الياء في دعي استثقالا لتحريكها وقبلها كسرة وفاعل حدا المشيب؛ أي وحدا المشيب البعير؛ ليت شعري المصير أين هو‏.‏ هذا تأويل الفراء وأبي عبيد وثعلب في تصويب هذه القراءة‏.‏ وخطأها أبو حاتم والزجاج وقالوا‏:‏ هو لحن؛ لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله؛ وإنما يقال‏:‏ نجي المؤمنون‏.‏ كما يقال‏:‏ كرم الصالحون‏.‏ ولا يجوز ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا؛ لأنه لا فائدة ‏[‏فيه‏]‏ إذ كان ضرب يدل على الضرب‏.‏ ولا يجوز أن يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله تعالى‏.‏ ولأبي عبيد قول آخر - وقال القتبي - وهو أنه أدغم النون في الجيم‏.‏ النحاس‏:‏ وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين؛ لبعد مخرج النون من مخرج الجيم فلا تدغم فيها، ولا يجوز في ‏{‏من جاء بالحسنة‏{‏ ‏{‏مجاء بالحسنة‏{‏ قال النحاس‏:‏ ولم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن سليمان‏.‏ قال‏:‏ الأصل ننجي فحذف إحدى النونين؛ لاجتماعهما كما تحذف إحدى التاءين؛ لاجتماعهما نحو قوله عز وجل‏{‏ولا تفرقوا‏}‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏ والأصل تتفرقوا‏.‏ وقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية ‏{‏وكذلك نجى المؤمنين‏{‏ أي نجى الله المؤمنين؛ وهي حسنة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 89 ‏:‏ 90 ‏)‏

‏{‏وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين، فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وزكريا إذ نادى ربه‏{‏ أي واذكر زكريا‏.‏ وقد تقدم في ‏{‏آل عمران‏{‏ ذكره‏.‏ ‏{‏رب لا تذرني فردا‏{‏ أي منفردا لا ولد لي وقد تقدم‏.‏ ‏{‏وأنت خير الوارثين‏{‏ أي خير من يبقي بعد كل من يموت؛ وإنما قال ‏{‏وأنت خير الوارثين‏{‏ لما تقدم من قوله‏{‏يرثني‏}‏مريم‏:‏ 6‏]‏ أي أعلم أنك، لا تضيع دينك ولكن لا تقطع هذه الفضيلة التي هي القيام بأمر الذين عن عقبي‏.‏ كما تقدم في ‏{‏مريم‏{‏ بيانه‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاستجبنا له‏{‏ أي أجبنا دعاءه‏{‏ووهبنا له يحيى‏{‏‏.‏ تقدم‏.‏ ‏{‏وأصلحنا له زوجه‏{‏ قال قتادة وسعيد بن جبير وأكثر المفسرين‏:‏ إنها كانت عاقرا فجعلت ولودا‏.‏ وقال ابن عباس وعطاء‏:‏ كانت سيئة الخلق، طويلة اللسان، فأصلحها الله فجعلها حسنة الخلق‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن تكون جمعت المعنيين فجعلت حسنة الخلق ولودا‏.‏ ‏{‏إنهم‏{‏ يعني الأنبياء المسلمين في هذه السورة ‏{‏إنهم كانوا يسارعون في الخيرات‏{‏ وقيل‏:‏ الكناية راجعة إلى زكريا وامرأته ويحيى‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويدعوننا رغبا ورهبا‏{‏ أي يفزعون إلينا فيدعوننا في حال الرخاء وحال الشدة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى يدعون وقت تعبدهم وهم بحال رغبة ورجاء ورهبة وخوف، لأن الرغبة والرهبة متلازمان‏.‏ وقيل‏:‏ الرغب رفع بطون الأكف إلى السماء، والرهب رفع ظهورها؛ قاله خصيف؛ وقال ابن عطية‏:‏ وتلخيص‏.‏ أن عادة كل داع من البشر أن يستعين بيديه فالرغب من حيث هو طلب يحسن منه أن يوجه باطن الراح نحو المطلوب منه، إذ هو موضع إعطاء أو بها يتملك، والرهب من حيث هو دفع يحسن معه طرح ذلك، والإشارة إلى ذهابه وتوقيه بنفض اليد ونحوه‏.‏

روى الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يسمح بهما وجهه وقد مضى في ‏{‏الأعراف‏{‏ الاختلاف في رفع الأيدي، وذكرنا هذا الحديث وغيره هناك‏.‏ وعلى القول بالرفع فقد اختلف الناس في صفته وإلى أين‏؟‏ فكان بعضهم يختار أن يبسط كفيه رافعهما حذو صدره وبطونهما إلى وجهه؛ روي عن ابن عمر وابن عباس‏.‏ وكان علي يد بباطن كفيه؛ وعن أنس مثله، وهو ظاهر حديث الترمذي‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها وامسحوا بها وجوهكم‏)‏‏.‏ وروي عن ابن عمر وابن الزبير برفعهما إلى وجهه، واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري؛ قال‏:‏ وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فجعل يدعو وجعل ظهر كفيه مما يلي وجهه، ورفعهما فوق ثدييه وأسفل من منكبيه وقيل حتى يحاذي بهما وجهه وظهورهما مما يلي وجهه‏.‏ قال أبو جعفر الطبري والصواب أن يقال‏:‏ إن كل هذه الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم متفقة غير مختلفة المعاني، وجائز أن يكون ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لاختلاف أحوال الدعاء كما قال ابن عباس‏:‏ إذا أشار أحدكم بإصبع واحد فهو الإخلاص وإذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه وظاهرهما مما يلي وجهه فهو الابتهال‏.‏ قال الطبري وقد روى قتادة عن أنس قال‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بظهر كفيه وباطنهما‏.‏ و‏{‏رغبا ورهبا‏{‏ منصوبان على المصدر؛ أي يرغبون رغبا ويرهبون رهبا‏.‏ أو على المفعول من أجله؛ أي للرغب والرهب‏.‏ أو على الحال‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف ‏{‏ويدعونا‏{‏ بنون واحدة‏.‏ وقرأ الأعمش بضم الراء وإسكان الغين والهاء مثل السقم والبخل، والعدم والضرب لغتان وابن وثاب والأعمش أيضا ‏{‏رغبا ورهبا‏{‏ بالفتح في الراء والتخفيف في الغين والهاء، وهما لغتان‏.‏ مثل نهر ونهر وصخر وصخر‏.‏ ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو‏.‏ ‏{‏وكانوا لنا خاشعين‏{‏ أي متواضعين خاضعين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 91 ‏)‏

‏{‏والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏والتي أحصنت فرجها‏{‏ أي واذكر مريم التي أحصنت فرجها وإنما ذكرها وليست من الأنبياء ليتم ذكر عيسى عليه السلام ولهذا قال‏{‏وجعلناها وابنها آيه للعالمين‏{‏ ولم يقل آيتين لأن معنى الكلام‏:‏ وجعلنا شأنهما وأمرهما آية للعالمين‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إن الآية فيهما واحدة؛ لأنها ولدته من غير فحل وعلى مذهب سيبويه التقدير‏:‏ وجعلنا آيه للعالمين وجعلنا ابنها آية للعالمين ثم حذف‏.‏ وعلى مذهب الفراء‏:‏ وجعلناها آية للعالمين وابنها؛ مثل قوله جل ثناؤه‏{‏والله ورسوله أحق أن يرضوه‏{‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن من آياتها أنها أول امرأة قبلت في النذر في المتعبد‏.‏ ومنها أن الله عز وجل غذاها برزق من عنده لم يجره على يد عبد من عبيدة‏.‏ وقيل‏:‏ إنها لم تلقم ثديا قط‏.‏ و‏{‏أحصنت‏{‏ يعني عفت فامتنعت من الفاحشة‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد بالفرج فرج القميص؛ أي لم تعلق بثوبها ريبة؛ أي إنها طاهرة الأثواب‏.‏ وفروج القميص أربعة‏:‏ الكمان والأعلى والأسفل‏.‏ قال السهيلي‏:‏ فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا؛ فإنه من لطيف الكناية لأن القرآن أنزه معنى، وأوزن لفظا، وألطف إشارة، وأحسن عبارة من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهل، لا سيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس، فأضف القدس إلى القدوس، ونزه المقدسة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس‏.‏ ‏{‏فنفخنا فيها من روحنا‏{‏ يعني أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها، فأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها‏.‏ وقد مضى هذا في ‏{‏النساء‏{‏ و‏{‏مريم‏{‏ فلا معنى للإعادة‏.‏ ‏{‏آية‏{‏ أي علامة وأعجوبة للخلق، وعلما لنبوة عيسى، ودلالة على نفوذ قدرتنا فيما نشاء‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 92 ‏)‏

‏{‏إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن هذه أمتكم أمة واحدة‏{‏ لما ذكر الأنبياء قال‏:‏ هؤلاء كلهم مجتمعون على التوحيد؛ فالأمة هنا بمعنى الدين الذي هو الإسلام؛ قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما‏.‏ فأما المشركون فقد خالفوا الكل‏.‏ ‏{‏وأنا ربكم‏{‏ أي إلهكم وحدي‏.‏ ‏{‏فاعبدوني‏{‏ أي أفردوني بالعبادة‏.‏ وقرأ عيسى بن عمرو وابن أبي إسحاق‏{‏إن هذه أمتكم أمة واحدة‏{‏ ورواها حسين عن أبي عمرو‏.‏ الباقون ‏{‏أمة واحدة‏{‏ بالنصب على القطع بمجيء النكرة بعد تمام الكلام؛ قال الفراء‏.‏ الزجاج‏:‏ انتصب ‏{‏أمة‏{‏ على الحال؛ أي في حال اجتماعها على الحق؛ أي هذه أمتكم ما دامت أمة واحدة واجتمعتم على التوحيد فإذا تفرقتم وخالفتم فليس من خالف الحق من جملة أهل الدين الحق؛ وهو كما تقول‏:‏ فلان صديقي عفيفا أي ما دام عفيفا فإذا خالف العفة لم يكن صديقي‏.‏ وأما الرفع فيجوز أن يكون على البدل من ‏{‏أمتكم‏{‏ أو على إضمار مبتدأ؛ أي إن هذه أمتكم، هذه أمة واحدة‏.‏ أو يكون خبرا بعد خبر‏.‏ ولو نصبت ‏{‏أمتكم‏{‏ على البدل من ‏{‏هذه‏{‏ لجاز ويكون ‏{‏أمة واجدة‏{‏ خبر ‏{‏إن‏{‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 93 ‏:‏ 94 ‏)‏

‏{‏وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون، فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وتقطعوا أمرهم بينهم‏{‏ أي تفرقوا في الدين؛ قال الكلبي‏.‏ الأخفش‏:‏ اختلفوا فيه‏.‏ والمراد المشركون؛ ذمهم لمخالفة الحق، واتخاذهم آلهة من دون الله‏.‏ قال الأزهري‏:‏ أي تفرقوا في أمرهم؛ فنصب ‏{‏أمرهم‏{‏ بحذف ‏{‏في‏{‏‏.‏ فالمتقطع على هذا لازم وعلى الأول متعد‏.‏ والمراد جميع الخلق؛ أي جعلوا أمرهم في أديانهم قطعا وتقسموه بينهم، فمن موحد، ومن يهودي، ومن نصراني، ومن عابد ملك أو صنم‏.‏ ‏{‏كل إلينا راجعون‏{‏ أي إلى حكمنا فنجازيهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن‏{‏ ‏{‏من‏{‏ للتبعيض لا للجنس إذ لا قدرة للمكلف أن يأتي بجميع الطاعات فرضها ونفلها؛ فالمعنى‏:‏ من يعمل شيئا من الطاعات فرضا أو نفلا وهو موحد مسلم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏فلا كفران لسعيه‏{‏ أي لا جحود لعمله، أي لا يضيع جزاؤه ولا يغطي والكفر ضده الإيمان‏.‏ والكفر أيضا جحود النعمة، وهو ضد الشكر‏.‏ وقد كفره كفورا وكفرانا‏.‏ وفي ابن مسعود ‏{‏فلا كفر لسعيه‏{‏‏.‏ ‏{‏وإنا له كاتبون‏{‏ لعمله حافظون‏.‏ نظيره ‏{‏أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى‏}‏آل عمران‏:‏ 195‏]‏ أي كل ذلك محفوظ ليجازي به‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 95 ‏:‏ 97 ‏)‏

‏{‏وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون، حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون‏{‏ قراءة زيد بن ثابت وأهل المدينة ‏{‏وحرام‏{‏ وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم‏.‏ وأهل الكوفة ‏{‏وحرم‏{‏ ورويت عن علي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم‏.‏ وهما مثل حل وحلال‏.‏ وقد روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ‏{‏وحرم‏{‏ بفتح الحاء والميم وكسر الراء‏.‏ وعن ابن عباس أيضا وعكرمة وأبي العالية ‏{‏وحرم‏{‏ بضم الراء وفتح الحاء والميم‏.‏ وعن ابن عباس أيضا ‏{‏وحرم‏{‏ وعنه أيضا ‏{‏وحرم‏{‏، ‏{‏وحرم‏{‏‏.‏ وعن عكرمة أيضا ‏{‏وحرم‏{‏‏.‏ عن قتادة ومطر الوارق ‏{‏وحرم‏{‏ تسع قراءات‏.‏ وقرأ السلمي ‏{‏على قرية أهلكتها‏{‏‏.‏ واختلف في ‏{‏لا‏{‏ في ‏{‏لا يرجعون‏{‏ فقيل‏:‏ هي صلة؛ روي ذلك عن ابن عباس، واختاره أبو عبيد؛ أي وحرام قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك‏.‏ وقيل‏:‏ ليست بصلة، وإنما هي ثابتة ويكون الحرام بمعنى الواجب؛ أي وجب على قرية؛ كما قالت الخنساء‏:‏

وإن حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوه إلا بكيت على صخر

تريد أخاها؛ فــ ‏{‏لا‏{‏ ثابتة على هذا القول‏.‏ قال النحاس‏:‏ والآية مشكلة ومن أحسن ما قيل فيها وأجله ما رواه ابن عيينة وابن علية وهشيم وابن إدريس ومحمد بن فضيل وسليمان بن حيان ومعلى عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن بن عباس في قول الله عز وجل‏{‏وحرام على قرية أهلكناها‏{‏ قال‏:‏ وجب انهم لا يرجعون؛ قال‏:‏ لا يتوبون‏.‏ قال أبو جعفر‏:‏ واشتقاق هذا بين في اللغة، وشرحه‏:‏ أن معنى حرم الشيء حظر ومنع منه، كما أن معنى أحل أبيح ولم يمنع منه، فإذا كان ‏{‏حرام‏{‏ و‏{‏حرم‏{‏ بمعنى واجب فمعناه أنه قد ضيق الخروج منه ومنع فقد دخل في باب المحظور بهذا؛ فأما قول أبي عبيدة‏:‏ إن ‏{‏لا‏{‏ زائدة فقد رده عليه جماعة؛ لأنها لا تزاد في مثل هذا الموضع، ولا فيما يقع فيه إشكال، ولو كانت زائدة لكان التأويل بعيدا أيضا؛ لأنه إن أراد وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا فهذا ما لا فائدة فيه، وإن أراد التوبة فالتوبة لا تحرم‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام إضمار أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها، أو بالختم على قلوبها أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون؛ قال الزجاج وأبو علي؛ و‏{‏لا‏{‏ غير زائدة‏.‏ وهذا هو معنى قول ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏{‏حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج‏{‏ تقدم القول فيهم‏.‏ وفي الكلام حذف، أي حتى إذا فتح سد يأجوج ومأجوج، مثل ‏{‏واسأل القرية‏}‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏ ‏{‏وهم من كل حدب ينسلون‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ من كل شرف يقبلون؛ أي لكثرتهم ينسلون من كل ناحية‏.‏ والحدب ما ارتفع من الأرض، والجمع الحداب مأخوذ من حدبة الظهر؛ قال عنترة‏:‏

فما رعشت يداي ولا ازدهاني تواترهم إلي إلي من الحداب

وقيل‏{‏ينسلون‏{‏ يخرجون؛ ومنه قول امرئ القيس‏:‏

فسلي ثيابي من ثيابك تنسل

وقيل‏:‏ يسرعون؛ ومنه قول النابغة‏:‏

عسلان الذئب أمسى قاربا برد الليل عليه فنسل

يقال‏:‏ عسل الذئب يعسل عسلا وعسلانا إذا أعنق وأسرع‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏كذب عليك العسل‏)‏ أي عليك بسرعة المشي‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ والنسلان مشية الذئب إذا أسرع؛ يقال‏:‏ نسل فلان في العدو ينسل بالكسر والضم نسلا ونسولا ونسلانا؛ أي أسرع‏.‏ ثم قيل في الذين ينسلون من كل حدب‏:‏ إنهم يأجوج ومأجوج، وهو الأظهر؛ وهو قول ابن مسعود وابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ جميع الخلق؛ فإنهم يحشرون إلى أرض الموقف، وهم يسرعون من كل صوب‏.‏ وقرئ في الشواذ ‏{‏وهم من كل جدث ينسلون‏{‏ أخذا من قوله‏{‏فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون‏}‏يس‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وحكى هذه القراءة المهدوي عن ابن مسعود والثعلبي عن مجاهد وأبي الصهباء‏.‏

قوله تعالى‏{‏واقترب الوعد الحق‏{‏ يعني القيامة‏.‏ وقال الفراء والكسائي وغيرهما‏:‏ الواو زائدة مقحمة؛ والمعنى‏:‏ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق ‏{‏فاقترب‏{‏ جواب ‏{‏إذا‏{‏‏.‏ وأنشد الفراء‏:‏

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

أي انتحى، والواو زائدة؛ ومنه قوله تعالى‏{‏وتله للجبين‏.‏ وناديناه‏}‏الصافات‏:‏ 103 - 104‏]‏ أي للجبين ناديناه‏.‏ وأجاز الكسائي أن يكون جواب ‏{‏إذا‏{‏ ‏{‏فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا‏{‏ ويكون قوله‏{‏واقترب الوعد الحق‏{‏ معطوفا على الفعل الذي هو شرط‏.‏ وقال البصريون‏:‏ الجواب محذوف والتقدير‏:‏ قالوا يا ويلنا؛ وهو قول الزجاج، وهو قول حسن‏.‏ قال الله تعالى‏{‏والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏}‏الزمر‏:‏ 3‏]‏ المعنى‏:‏ قالوا ما نعبدهم، وحذف القول كثير‏.‏ ‏{‏فإذا هي شاخصة‏{‏ ‏{‏هي‏{‏ ضمير الأبصار، والأبصار المذكورة بعدها تفسير لها كأنه قال‏:‏ فإذا أبصار الذين كفروا شخصت عند مجيء الوعد‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

لعمر أبيها لا تقول ظعينتي ألا فرَّ عني مالك بن أبي كعب

فكنى عن الظعينة في أبيها ثم أظهرها‏.‏ وقال الفراء‏{‏هي‏{‏ عماد، مثل ‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار‏}‏الحج‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن الكلام تم قول ‏{‏هي‏{‏ التقدير‏:‏ فإذا هي؛ بمعنى القيامة بارزة واقعة؛ أي من قربها كأنها آتية حاضرة ابتداء فقال‏{‏أبصار الذين كفروا‏{‏ على تقديم الخبر على الابتداء؛ أي أبصار الذين كفروا شاخصة من هذا اليوم؛ أي من هوله لا تكاد تطرف؛ يقولون‏:‏ يا ويلنا إنا كنا ظالمين ووضعنا العبادة في غير موضعها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 98 ‏)‏

‏{‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنكم وما تعبدون‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ آية لا يسألني الناس عنها‏!‏ لا أدري أعرفوها فلم يسألوا عنها، أو جهلوها فلا يسألون عنها؛ فقيل‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏{‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون‏{‏ لما أنزلت شق على كفار قريش، وقالوا‏:‏ شتم آلهتنا، وأتوا ابن الزبعرى وأخبروه، فقال‏:‏ لو حضرته لرددت عليه‏.‏ قالوا‏:‏ وما كنت تقول‏؟‏ قال‏:‏ كنت أقول له‏:‏ هذا المسيح تعبده اليهود تعبد عزيرا أفهما من حصب جهنم‏؟‏ فعجبت قريش من مقالته، ورأوا أن محمدا قد خصم؛ فأنزل الله تعالى‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون‏}‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ وفيه نزل ‏{‏ولما ضرب ابن مريم مثلا‏}‏الزخرف‏:‏ 57‏]‏ يعني ابن الزبعرى ‏{‏إذا قومك منه يصدون‏}‏الزخرف‏:‏ 57‏]‏ بكسر الصاد؛ أي يضجون؛ وسيأتي‏.‏

هذه الآية أصل القول بالعموم وأن له صيغا مخصوصة، خلافا لمن قال‏:‏ ليست له صيغة موضوعة للدلالة عليه، وهو باطل بما دلت عليه هذه الآية وغيرها؛ فهذا عبدالله بن الزبعرى قد فهم ‏{‏ما‏{‏ في جاهليته جميع من عبد، ووافقه على ذلك قريش وهم العرب الفصحاء، واللسن البلغاء، ولو لم تكن للعموم لما صح أن يستثنى منها، وقد وجد ذلك فهي للعموم وهذا واضح‏.‏

قراءة العامة بالمهملة أي إنكم يا معشر الكفار والأوثان التي تعبدونها من دون الله وقود جهنم؛ قال ابن عباس قال مجاهد وعكرمة وقتادة‏:‏ حطبها‏.‏ وقرأ علي بن أبي طالب وعائشة رضوان الله عليهما ‏{‏حطمت جهنم‏{‏ بالطاء‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏{‏حضب‏{‏ بالضاد المعجمة؛ قال الفراء‏:‏ يريد الحصب‏.‏ قال‏:‏ وذكر لنا أن الحضب في لغة أهل اليمن الحطب، وكل ما هيجت به النار وأوقدتها به فهو حضب؛ ذكره الجوهري‏.‏ والموقد محضب‏.‏ وقال أبو عبيدة في قوله تعالى‏{‏حصب جهنم‏{‏ كل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به‏.‏ ويظهر من هذه الآية أن الناس من الكفار وما يعبدون من الأصنام حطب لجهنم‏.‏ ونظير هذه الآية قوله تعالى‏{‏فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة‏}‏البقرة‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد بالحجارة حجارة الكبريت؛ على ما تقدم في ‏{‏البقرة‏{‏ وأن النار لا تكون على الأصنام عذابا ولا عقوبة؛ لأنها لم تذنب، ولكن تكون عذابا على من عبدها‏:‏ أول شيء بالحسرة، ثم تجمع على النار فتكون نارها أشد من كل نار، ثم يعذبون بها‏.‏ وقيل‏:‏ تحمى فتلصق بهم زيادة في تعذيبهم وقيل‏:‏ إنما جعلت في النار تبكيتا لعبادتهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏أنتم لها واردون‏{‏ أي فيها داخلون‏.‏ والخطاب للمشركين عبده الأصنام؛ أي أنتم واردوها مع الأصنام‏.‏ ويجوز أن يقال‏:‏ الخطاب للأصنام وعبدتها؛ لأن الأصنام وإن كانت جمادات فقد يخبر عنها بكنايات الآدميين‏.‏ وقال العلماء‏:‏ لا يدخل في هذا عيسى ولا عزير ولا الملائكة صلوات الله عليهم؛ لأن ‏{‏ما‏{‏ لغير الآدميين‏.‏ فلو أراد ذلك لقال‏{‏ومن‏{‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ولأن المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة دون غيرهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 99 ‏:‏ 100 ‏)‏

‏{‏لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون، لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون‏}‏

قوله تعالى‏{‏لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها‏{‏ أي لو كانت الأصنام آلهة لما ورد عابدوها النار‏.‏ وقيل‏:‏ ما وردها العابدون والمعبودون؛ ولهذا قال‏{‏وكل فيها خالدون‏{‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏لهم فيها زفير‏{‏ أي لهؤلاء الذين وردوا النار من الكفار والشياطين؛ فأما الأصنام فعلى الخلاف فيها؛ هل يحييها الله تعالى ويعذبها حتى يكون لها زفير أو لا‏؟‏ قولان‏:‏ والزفير صوت نفس المغموم يخرج من القلب‏.‏ وقد تقدم في ‏{‏هود‏{‏‏.‏ ‏{‏وهم فيها لا يسمعون‏{‏ قيل‏:‏ في الكلام حذف؛ والمعنى وهم فيها لا يسمعون شيئا؛ لأنهم يحشرون صما، كما قال الله تعالى‏{‏ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما‏}‏الإسراء‏:‏ 97‏]‏‏.‏ وفي سماع الأشياء روح وأنس، فمنع الله الكفار ذلك في النار‏.‏ وقيل‏:‏ لا يسمعون ما يسرهم، بل يسمعون صوت من يتولى تعذيبهم من الزبانية‏.‏ وقيل‏:‏ إذا قيل لهم ‏{‏اخسئوا فيها ولا تكلمون‏}‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ يصيرون حينئذ صما بكما؛ كما قال ابن مسعود‏:‏ إذا بقي من يخلد في النار في جهنم جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت التوابيت في توابيت أخرى فيها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئا، ولا يرى أحد منهم أن في النار من يعذب غيره‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 101 ‏:‏ 103 ‏)‏

‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى‏{‏ أي الجنة ‏{‏أولئك عنها‏{‏ أي عن النار‏.‏ ‏{‏مبعدون‏{‏ فمعنى الكلام الاستثناء؛ ولهذا قال بعض أهل العلم‏{‏إن‏{‏ ههنا بمعنى ‏{‏إلا‏{‏ وليس في القرآن غيره‏.‏ وقال محمد بن حاطب‏:‏ سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ هذه الآية على المنبر ‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى‏{‏ فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن عثمان منهم‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏لا يسمعون حسيسها‏{‏ أي حس النار وحركة لهبها‏.‏ والحسيس والحس الحركة‏.‏ وروى ابن جريج عن عطاء قال قال أبو راشد الحروري لابن عباس‏{‏لا يسمعون حسيسها‏{‏ فقال ابن عباس‏:‏ أمجنون أنت‏؟‏ فأين قوله تعالى‏{‏وإن منكم إلا واردها‏{‏ وقوله تعالى‏{‏فأوردهم النار‏}‏هود‏:‏ 98‏]‏ وقوله‏{‏إلى جهنم وردا‏}‏مريم‏:‏ 86‏]‏‏.‏ ولقد كان من دعاء من مضى‏:‏ اللهم أخرجني من النار سالما، وأدخلني الجنة فائزا‏.‏ وقال أبو عثمان النهدي‏:‏ على الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون‏:‏ حس حس‏.‏ وقيل‏:‏ إذا دخل أهل الجنة لم يسمعوا حس أهل النار وقبل ذلك يسمعون؛ فالله أعلم‏.‏ ‏{‏وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون‏{‏ أي دائمون وهم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين‏.‏ وقال ‏{‏ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون‏}‏فصلت‏:‏ 31‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏لا يحزنهم الفزع الأكبر‏{‏ وقرأ أبو جعفر وابن محيصن ‏{‏لا يحزنهم‏{‏ بضم الياء وكسر الزاي‏.‏ الباقون بفتح الياء وضم الزاي‏.‏ قال اليزيدي‏:‏ حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما‏.‏ والفزع الأكبر أهوال يوم القيامة والبعث؛ عن ابن عباس‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار‏.‏ وقال ابن جريح وسعيد بن جبير والضحاك‏:‏ هو إذا أطبقت النار على أهلها، وذبح الموت بين الجنة والنار وقال ذو النون المصري‏:‏ هو القطيعة والفراق‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاثة يوم القيامة في كثيب من المسك الأذفر ولا يحزنهم الفزع الأكبر رجل أم قوما محتسبا وهم له رضوان ورجل أذن لقوم محتسبا ورجل ابتلى برق الدنيا فلم يشغله عن طاعة ربه‏)‏‏.‏ وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن‏:‏ مررت برجل يضرب غلاما له، فأشار إليّ الغلام، فكلمت مولاه حتى عفا عنه؛ فلقيت أبا سعيد الخدري فأخبرته، فقال‏:‏ يا ابن أخي من أغاث مكروبا أعتقه الله من النار يوم الفزع الأكبر‏)‏ سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وتتلقاهم الملائكة‏{‏ أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم‏{‏هذا يومكم الذي كنتم توعدون‏{‏ وقيل‏:‏ تستقبلهم ملائكة الرحمة عند خروجهم من القبور عن ابن عباس ‏{‏هذا يومكم‏{‏ أي ويقولون لهم؛ فحذف‏.‏ ‏{‏الذي كنتم توعدون‏{‏ فيه الكرامة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 104 ‏)‏

‏{‏يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين‏}‏

قوله تعالى‏{‏يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب‏{‏ قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والأعرج والزهري ‏{‏تُطوى‏{‏ بتاء مضمومة ‏{‏السماء‏{‏ رفعا على ما لم يسم فاعله‏.‏ مجاهد ‏{‏يطوي‏{‏ على معنى يطوي الله السماء‏.‏ الباقون ‏{‏نطوي‏{‏ بنون العظمة‏.‏ وانتصاب ‏{‏يوم‏{‏ على البدل من الهاء المحذوفة في الصلة؛ التقدير‏:‏ الذي كنتم توعدونه يوم نطوي السماء‏.‏ أو يكون منصوبا بـ ‏{‏نعيد‏{‏ من قول ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده‏{‏‏.‏ أو بقول‏{‏لا يحزنهم‏{‏ أي لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم الذي نطوي فيه السماء‏.‏ أو على إضمار واذكر، وأراد بالسماء الجنس؛ دليله‏{‏والسموات مطويات بيمنه‏}‏الزمر‏:‏ 67‏]‏‏.‏ ‏{‏كطي السجل للكتاب‏{‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ أي كطي الصحيفة على ما فيها؛ فاللام بمعنى ‏{‏على‏{‏‏.‏ وعن ابن عباس أيضا اسم كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي؛ لأن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفون ليس هذا منهم، ولا في أصحابه من اسمه السجل‏.‏ وقال ابن عباس أيضا وابن عمر والسدي‏{‏السجل‏{‏ ملك، وهو الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه‏.‏ ويقال‏:‏ إنه في السماء الثالثة، ترفع إليه أعمال العباد، يرفعها إليه الحفظة الموكلون بالخلق في كل خميس واثنين، وكان من أعوانه فيما ذكروا هاروت وماروت‏.‏ والسجل الصك، وهو اسم مشتق من السجالة وهي الكتابة؛ وأصلها من السجل وهو الدلو؛ تقول‏:‏ ساجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا، ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة‏.‏ وقد سجل الحاكم تسجيلا‏.‏ وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب‏:‏

من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب

ثم بني هذا الاسم على فعل مثل حمر وطمر وبلي‏.‏ وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير ‏{‏كطي السجل‏{‏ بضم السين والجيم وتشديد اللام‏.‏ وقرأ الأعمش وطلحة ‏{‏كطي السجل‏{‏ بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام‏.‏ قال النحاس‏:‏ والمعنى واحد إن شاء الله تعالى‏.‏ والتمام عند قوله‏{‏للكتاب‏{‏‏.‏ والطي في هذه الآية يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ الدرج الذي هو ضد النشر، قال الله تعالى‏{‏والسموات مطويات بيمينه‏}‏الزمر‏:‏ 67‏]‏‏.‏ والثاني‏:‏ الإخفاء والتعمية والمحو؛ لأن الله تعالى يمحو ويطمس رسومها ويكدر نجومها‏.‏ قال الله تعالى‏{‏إذا الشمس كورت‏.‏ وإذا النجوم انكدرت‏}‏التكوير‏:‏ 1 - 2‏]‏ ‏{‏وإذا السماء كشطت‏}‏التكوير‏:‏ 11‏]‏‏.‏ ‏{‏للكتاب‏{‏ وتم الكلام‏.‏ وقراءة الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحي وخلف‏{‏للكتب‏{‏ جمعا ثم استأنف الكلام فقال‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده‏{‏ أي نحشرهم حفاة عراة غرلا كما بدؤوا في البطون‏.‏ وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا أول الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام - ثم قرأ - ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده‏{‏ أخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال‏:‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين‏{‏ ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ وقد ذكرنا هذا الباب في كتاب ‏{‏التذكرة‏{‏ مستوفى‏.‏ وذكر سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ يرسل الله عز وجل ماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت منه لحمانهم وجسمانهم كما تنبت الأرض بالثرى‏.‏ وقرأ ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده‏{‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ المعنى‏.‏ نهلك كل شيء ونفنيه كما كان أول مرة؛ وعلى هذا فالكلام متصل بقوله‏{‏يوم نطوي السماء‏{‏ أي نطويها فنعيدها إلى الهلاك والفناء فلا تكون شيئا‏.‏ وقيل‏:‏ نفني السماء ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها؛ كقول‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات‏}‏إبراهيم‏:‏ 48‏]‏ والقول الأول أصح وهو نظير قوله‏{‏ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة‏}‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏ وقوله عز وجل‏{‏وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة‏{‏ ‏{‏وعدا‏{‏ نصب على المصدر؛ أي وعدنا وعدا ‏{‏علينا‏{‏ إنجازه والوفاء به أي من البعث والإعادة ففي الكلام حذف‏.‏ ثم أكد ذلك بقول جل ثناؤه‏{‏إنا كنا فاعلين‏{‏ قال الزجاج‏:‏ معنى ‏{‏إنا كنا فاعلين‏{‏ إنا كنا قادرين على ما نشاء‏.‏ وقيل ‏{‏إنا كنا فاعلين‏{‏ أي ما وعدناكم وهو كما قال‏{‏كان وعده مفعولا‏}‏المزمل‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقيل‏{‏كان‏{‏ للإخبار بما سبق من قضائه‏.‏ وقيل‏:‏ صلة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 105 ‏:‏ 106 ‏)‏

‏{‏ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد كتبنا في الزبور‏{‏ الزبور والكتاب واحد؛ ولذلك جاز أن يقال للتوراة والإنجيل زبور‏.‏ زبرت أي كتبت وجمعة زبر‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏{‏الزبور‏{‏ التوراة والإنجيل والقرآن‏.‏ ‏{‏من بعد الذكر‏{‏ الذي في السماء ‏{‏أن الأرض‏{‏ أرض الجنة ‏{‏يرثها عبادي الصالحون‏{‏ رواه سفيان عن الأعمش عن سعيد بن جبير‏.‏ الشعبي‏{‏الزبور‏{‏ زبور داود، و‏{‏الذكر‏{‏ توراة موسى عليه السلام‏.‏ مجاهد وابن زيد ‏{‏الزبور‏{‏ كتب الأنبياء عليهم السلام، و‏{‏الذكر‏{‏ أم الكتاب الذي عند الله في السماء‏.‏ وقال ابن عباس‏{‏الزبور‏{‏ الكتب التي أنزلها الله من بعد موسى على أنبيائه، و‏{‏الذكر‏{‏ التوراة المنزلة على موسى‏.‏ وقرأ حمزة ‏{‏في الزبور‏{‏ بضم الزاي جمع زبر ‏{‏أن الأرض يرثها عبادي الصالحون‏{‏ أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة كما قال سعيد بن جبير؛ لأن الأرض في الدنيا قال قد يرثها الصالحون وغيرهم‏.‏ وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما‏.‏ وقال مجاهد وأبو العالية‏:‏ ودليل هذا التأويل قوله تعالى‏{‏وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض‏}‏الزمر‏:‏ 74‏]‏ وعن ابن عباس أنها الأرض المقدسة‏.‏ وعنه أيضا‏:‏ أنها أرض الأمم الكافرة ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالفتوح‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد بذلك بنو إسرائيل؛ بدليل قوله تعالى‏{‏وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها‏}‏الأعراف‏:‏ 137‏]‏ وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرأ حمزة ‏{‏عبادي الصالحون‏{‏ بتسكين الياء‏.‏ ‏{‏إن في هذا‏{‏ أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه‏.‏ وقيل‏:‏ إن في القرآن ‏{‏لبلاغا لقوم عابدين‏{‏ قال أبو هريرة وسفيان الثوري‏:‏ هم أهل الصلوات الخمس‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏{‏عابدين‏{‏ مطيعين‏.‏ والعابد المتذلل الخاضع‏.‏ قال القشيري‏:‏ ولا يبعد أن يدخل فيه كل عاقل؛ لأنه من حيث الفطرة متذلل للخالق، وهو بحيث لو تأمل القرآن واستعمله لأوصله ذلك إلى الجنة‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان‏.‏ وهذا هو القول الأول بعينه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 107 ‏:‏ 109 ‏)‏

‏{‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون، فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏{‏ قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ أراد بالعالمين المؤمنين خاصة‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد‏{‏ فلا يجوز الإشراك به‏.‏ ‏{‏فهل أنتم مسلمون‏{‏ أي منقادون لتوحيد الله تعالى؛ أي فأسلموا؛ كقوله تعالى‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏المائدة‏:‏ 91‏]‏ أي انتهوا‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإن تولوا‏{‏ أي إن أعرضوا عن الإسلام ‏{‏فقل آذنتكم على سواء‏{‏ أي أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا؛ كقوله تعالى‏{‏وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء‏}‏الأنفال‏:‏ 58‏]‏ أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضا، أي استويت أنت وهم فليس لفريق عهد ملتزم في حق الفريق الآخر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء في العلم به، ولم أظهر لأحد شيئا كتمته عن غيره‏.‏ ‏{‏وإن أدري‏{‏ ‏{‏إن‏{‏ نافيه بمعنى ‏{‏ما‏{‏ أي وما أدري‏.‏ ‏{‏أقريب أم بعيد ما توعدون‏{‏ يعني أجل يوم القيامة لا يدريه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب؛ قاله ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ آذنتكم بالحرب ولكني لا أدري متى يؤذن لي في محاربتكم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 110 ‏:‏ 112 ‏)‏

‏{‏إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون‏{‏ أي من الشرك وهو المجازي عليه‏.‏ ‏{‏وإن أدري لعله‏{‏ أي لعل الإمهال ‏{‏فتنة لكم‏{‏ أي اختبار ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم‏.‏ ‏{‏ومتاع إلى حين‏{‏ قيل‏:‏ إلى انقضاء المدة‏.‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية في منامه يلون الناس، فخرج الحكم من عنده فأخبر بني أمية بذلك؛ فقالوا له‏:‏ ارجع فسله متى يكون دلك‏.‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون‏{‏ ‏{‏وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين‏{‏ يقول لنبيه عليه السلام قل لهم ذلك‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال رب احكم بالحق‏{‏ ختم السورة بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفويض الأمر إليه وتوقع الفرج من عنده، أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وانصرني عليهم‏.‏ روى سعيد عن قتادة قال‏:‏ كانت الأنبياء تقول‏{‏ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق‏}‏الأعراف‏:‏ 89‏]‏ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول‏{‏رب احكم بالحق‏{‏ فكان إذا لقي العدو يقول وهو يعلم أنه على الحق وعدوه على الباطل ‏{‏رب احكم بالحق‏{‏ أي اقض به‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الصفة ههنا أقيمت مقام الموصوف والتقدير‏:‏ رب احكم بحكمك الحق‏.‏ و‏{‏رب‏{‏ في موضع نصب، لأنه نداء مضاف‏.‏ وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن ‏{‏قل ربُّ احكم بالحق‏{‏ بضم الباء‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا لحن عند النحويين؛ لا يجوز عندهم رجل أقبل، حتى تقول يا رجل أقبل أو ما أشبهه‏.‏ وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب ‏{‏قال ربي أَحكَم بالحق‏{‏ بقطع الألف مفتوحة الكاف والميم مضمومة‏.‏ أي قال محمد ربي أحكم بالحق من كل حاكم‏.‏ وقرأ الجحدري ‏{‏قل ربي أحكم‏{‏ على معنى أحكم الأمور بالحق‏.‏ ‏{‏وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون‏{‏ أي تصفونه من الكفر والتكذيب‏.‏ وقرأ المفضل والسلمي ‏{‏على ما يصفون‏{‏ بالياء على الخبر‏.‏ الباقون بالتاء على الخطاب‏.‏
 
سورة الحج

مقدمة السورة

وهي مكية، سوى ثلاث آيات‏:‏ قوله تعالى‏{‏هذان خصمان‏}‏الحج‏:‏ 19‏]‏ إلى تمام ثلاث آيات، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏ وعن ابن عباس أيضا ‏(‏أنهن أربع آيات‏)‏، قوله ‏{‏عذاب الحريق‏}‏الحج‏:‏ 22‏]‏ وقال الضحاك وابن عباس أيضا‏:‏ ‏(‏هي مدنية‏)‏ - وقاله قتادة - إلا أربع آيات‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي‏}‏الحج‏:‏ 52‏]‏ إلى ‏{‏عذاب يوم عقيم‏}‏الحج‏:‏ 55‏]‏ فهن مكيات‏.‏ وعد النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ السورة مختلطة، منها مكي ومنها مدني‏.‏ وهذا هو الأصح؛ لأن الآيات تقتضي ذلك، لأن ‏{‏يا أيها الناس‏{‏ مكي، و‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏{‏ مدني‏.‏ الغزنوي‏:‏ وهي من أعاجيب السور، نزلت ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، ناسخا ومنسوخا، محكما ومتشابها؛ مختلف العدد‏.‏

قلت‏:‏ وجاء في فضلها ما رواه الترمذي وأبو داود والدارقطني عن عقبة بن عامر قال قلت‏:‏ يا رسول الله، فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما‏)‏‏.‏ لفظ الترمذي‏.‏ وقال‏:‏ هذا حديث حسن ليس إسناده بالقوي‏.‏

واختلف أهل العلم في هذا؛ فروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وابن عمر أنهما قالا‏{‏فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين‏{‏‏.‏ وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق‏.‏ ورأى بعضهم أن فيها سجدة واحدة؛ وهو قول سفيان الثوري‏.‏ روى الدارقطني عن عبدالله بن ثعلبة قال‏:‏ رأيت عمر بن الخطاب سجد في الحج سجدتين؛ قلت في الصبح‏؟‏ قال في الصبح‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 1 ‏)‏

‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم‏}‏

روى الترمذي عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت ‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم - إلى قوله - ولكن عذاب الله شديد‏{‏ قال‏:‏ أنزلت عليه هذا الآية وهو في سفر فقال‏:‏ ‏(‏أتدرون أي يوم ذلك‏؟‏ فقالوا‏:‏ الله ورسول أعلم؛ قال‏:‏ ذاك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار قال يا رب وما بعث النار قال تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة‏)‏‏.‏ فأنشأ المسلمون يبكون؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قاربوا وسددوا فإنه لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية - قال - فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير - ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - فكبروا؛ ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة - فكبروا؛ ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة‏)‏ فكبروا‏.‏ قال‏:‏ لا أدري قال الثلثين أم لا‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح، قد روي من غير وجه الحسن عن عمران بن حصين‏.‏ وفيه‏:‏ فيئس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اعملوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن مات من بني آدم وبني إبليس قال‏:‏ فسري عن القوم بعض الذي يجدون؛ فقال‏:‏ ‏(‏اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة‏)‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك - قال - يقول أخرج بعث النار قال وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فذاك حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل، حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد‏.‏ قال‏:‏ فاشتد ذلك عليهم؛ قالوا‏:‏ يا رسول الله، أينا ذلك الرجل‏؟‏ فقال‏:‏ أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجل‏)‏‏.‏ وذكر الحديث بنحو ما تقدم في حديث عمران بن حصين‏.‏ وذكر أبو جعفر النحاس قال‏:‏ حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم - إلى - ولكن عذاب الله شديد‏{‏ قال‏:‏ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له، فرفع بها صوته حتى ثاب إليه أصحابه فقال‏:‏ ‏(‏أتدرون أي يوم هذا هذا يوم يقول الله عز وجل لآدم صلى الله عليه وسلم يا آدم قم فابعث بعث أهل النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة‏.‏ فكبر ذلك على المسلمين؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ سددوا وقاربوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الحمار وإن معكم خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن هلك من كفرة الجن والأنس‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم‏{‏ المراد بهذا النداء المكلفون؛ أي اخشوه في أوامره أن تتركوها، ونواهيه أن تقدموا عليها‏.‏ والاتقاء‏:‏ الاحتراس من المكروه؛ وقد تقدم في أول ‏{‏البقرة‏{‏ القول فيه مستوفى، فلا معنى لإعادته‏.‏ والمعنى‏:‏ احترسوا بطاعته عن عقوبته‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن زلزلة الساعة شيء عظيم‏{‏ الزلزلة شدة الحركة؛ ومنه ‏{‏وزلزلوا حتى يقول الرسول‏}‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏ وأصل الكلمة من زل عن الموضع؛ أي زال عنه وتحرك‏.‏ وزلزل الله قدمه؛ أي حركها‏.‏ وهذه اللفظة تستعمل في تهويل الشيء‏.‏ وقيل‏:‏ هي الزلزلة المعروفة التي هي إحدى شرائط الساعة، التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة؛ هذا قول الجمهور‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذه الزلزلة تكون في النصف من شهر رمضان، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها، فالله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 2 ‏)‏

‏{‏يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد‏}‏

قوله تعالى‏{‏يوم ترونها‏{‏ الهاء في ‏{‏ترونها‏{‏ عائدة عند الجمهور على الزلزلة؛ ويقوي هذا قوله عز وجل‏{‏ تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها‏{‏ والرضاع والحمل إنما هو في الدنيا‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الزلزلة في يوم القيامة؛ واحتجوا بحديث عمران بن حصين الذي ذكرناه، وفيه‏:‏ ‏(‏أتدرون أي يوم ذلك‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وهو الذي يقتضيه سياق مسلم في حديث أبي سعيد الخدري‏.‏

قوله‏{‏تذهل‏{‏ أي تشتغل؛ قاله قطرب‏.‏ وأنشد‏:‏

ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله

وقيل تنسى‏.‏ وقيل تلهو؛ وقيل تسلو؛ والمعنى متقارب‏.‏ ‏{‏عما أرضعت‏{‏ قال المبرد‏{‏ما‏{‏ بمعنى المصدر؛ أي تذهل عن الإرضاع‏.‏ قال‏:‏ وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا؛ إذ ليس بعد البعث حمل وإرضاع‏.‏ إلا أن يقال‏:‏ ما ماتت حاملا تبعث حاملا فتضع حملها للهول‏.‏ ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك‏.‏ ويقال‏:‏ هذا كما قال الله عز وجل‏{‏يوما يجعل الولدان شيبا‏}‏المزمل‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ تكون مع النفخة الأولى‏.‏ وقيل‏:‏ تكون مع قيام الساعة، حتى يتحرك الناس من قبورهم في النفخة الثانية‏.‏ ويحتمل أن تكون الزلزلة في الآية عبارة عن أهوال يوم القيامة؛ كما قال تعالى‏{‏مستهم البأساء والضراء وزلزلوا‏}‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏ وكما قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏اللهم اهزمهم وزلزلهم‏)‏‏.‏ وفائدة ذكر هول ذلك اليوم التحريض على التأهب له والاستعداد بالعمل الصالح‏.‏ وتسمية الزلزلة بـ ‏{‏شيء‏{‏ إما لأنها حاصلة متيقن وقوعها، فيستسهل لذلك أن تسمى شيئا وهي معدومة؛ إذ اليقين يشبه الموجدات‏.‏ وإما على المآل؛ أي هي إذا وقعت شيء عظيم‏.‏ وكأنه لم يطلق الاسم الآن، بل المعنى أنها إذا كانت فهي إذا شيء عظيم، ولذلك تذهل المراضع وتسكر الناس؛ كما قال‏:‏

قوله تعالى‏{‏ وترى الناس سكارى‏{‏ أي من هولها ومما يدركهم من الخوف والفزع‏.‏ ‏{‏ وما هم بسكارى‏{‏ من الخمر‏.‏ وقال أهل المعاني‏:‏ وترى الناس كأنهم سكارى‏.‏ يدل عليه قراءة أبي زرعة هرم بن عمرو بن جرير بن عبدالله ‏{‏وترى الناس‏{‏ بضم التاء؛ أي تظن ويخيل إليك‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏سكرى‏{‏ بغير ألف‏.‏ الباقون ‏{‏سكارى‏{‏ وهما لغتان لجمع سكران؛ مثل كسلى وكسالى‏.‏ والزلزلة‏:‏ التحريك العنيف‏.‏ والذهول‏.‏ الغفلة عن الشيء بطروء ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ المعنى تترك ولدها للكرب الذي نزل بها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 3 ‏)‏

‏{‏ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد‏}‏

قوله تعالى‏{‏ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم‏{‏ قيل‏:‏ المراد النضر بن الحارث، قال‏:‏ إن الله عز وجل غير قادر على إحياء من قد بلي وعاد ترابا‏.‏ ‏{‏ويتبع‏{‏ أي في قوله ذلك‏.‏ ‏{‏ كل شيطان مريد‏{‏ متمرد‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 4 ‏)‏

‏{‏كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير‏}‏

قال قتادة ومجاهد‏:‏ أي من تولى الشيطان‏.‏ ‏{‏فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير‏{‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 5 ‏)‏

‏{‏يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن كنتم في ريب‏{‏ متضمنة التوقيف‏.‏ وقرأ الحسن بن أبي الحسن ‏{‏البعث‏{‏ بفتح العين؛ وهي لغة في ‏{‏البعث‏{‏ عند البصريين‏.‏ وهي عند الكوفيين بتخفيف ‏{‏بعث‏{‏‏.‏ والمعنى‏:‏ يا أيها الناس إن كنتم في شك من الإعادة‏.‏ ‏{‏فإنا خلقناكم‏{‏ أي خلقنا أباكم الذي هو أصل البشر، يعني آدم عليه السلام ‏{‏من تراب‏{‏‏.‏ ‏{‏ثم‏{‏ خلقنا ذريته‏.‏ ‏{‏من نطفة‏{‏ وهو المني؛ سمي نطفة لقلته، وهو القليل من الماء، وقد يقع على الكثير منه؛ ومنه الحديث ‏(‏حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جورا‏)‏‏.‏ أراد بحر المشرق وبحر المغرب‏.‏ والنطف‏:‏ القطر‏.‏ نطف ينطف وينطف‏.‏ وليلة نطوفة دائمة القطر‏.‏ ‏{‏ثم من علقة‏{‏ وهو الدم الجامد‏.‏ والعلق الدم العبيط؛ أي الطري‏.‏ وقيل‏:‏ الشديد الحمرة‏.‏ ‏{‏ثم من مضغة‏{‏ وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ؛ ومنه الحديث ‏(‏ألا وإن في الجسد مضغة‏)‏‏.‏ وهذه الأطوار أربعة أشهر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح‏)‏، فذلك عدة المتوفى عنها زوجها؛ أربعة أشهر وعشر‏.‏

روى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثنا داود عن عامر عن علقمة عن ابن مسعود وعن ابن عمر أن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال‏{‏يا رب، ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، ما الأجل والأثر، بأي أرض تموت‏؟‏ فيقال له انطلق إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب، فتخلق فتأكل رزقها وتطأ أثرها فإذا جاء أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قدر لها؛ ثم قرأ عامر ‏{‏يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب‏{‏‏.‏ وفي الصحيح عن أنس بن مالك - ورفع الحديث - قال‏:‏ ‏(‏إن الله قد وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة‏.‏ أي رب علقة‏.‏ أي رب مضغة‏.‏ فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد‏.‏ فما الرزق فما الأجل‏.‏ فيكتب كذلك في بطن أمه‏)‏‏.‏ وفي الصحيح أيضا عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم يقول أي رب أذكر أم أنثى‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ وفي الصحيح عن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ‏(‏إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ فهذا الحديث مفسر للأحاديث الأول؛ فإنه فيه‏:‏ ‏(‏يجمع أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح‏)‏ فهذه أربعة أشهر وفي العشر ينفخ الملك الروح، وهذه عدة المتوفى عنها زوجها كما قال ابن عباس‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه‏)‏ قد فسره ابن مسعود، سئل الأعمش‏:‏ ما يجمع في بطن أمه‏؟‏ فقال‏:‏ حدثنا خيثمة قال قال عبدالله‏:‏ إذا وقعت النطفة في الرحم فأراد أن يخلق منها بشرا طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يوما ثم تصير دما في الرحم؛ فذلك جمعها، وهذا وقت كونها علقة‏.‏

نسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية، وأن ما صدر عنه فعل ما في المضغة كان عند التصوير والتشكيل بقدرة الله وخلقه واختراعه؛ ألا تراه سبحانه قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية، وقطع عنها نسب جميع الخليقة فقال‏{‏ولقد خلقناكم ثم صورناكم‏}‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏.‏ ثم جعلناه نطفة في قرار مكين‏}‏المؤمنون‏:‏ 12 - 13‏]‏‏.‏ وقال‏{‏يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة‏{‏‏.‏ وقال تعالى‏{‏هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن‏}‏التغابن‏:‏ 2‏]‏‏.‏ ثم قال‏{‏وصوركم فأحسن صوركم‏}‏غافر‏:‏ 64‏]‏‏.‏ وقال‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم‏}‏التين‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقال‏{‏خلق الإنسان من علق‏}‏العلق‏:‏ 2‏]‏‏.‏ إلى غير ذلك من الآيات، مع ما دلت عليه قاطعات البراهين أن لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين‏.‏ وهكذا القول في قوله‏{‏ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح‏{‏ أي أن النفخ سبب خلق الله فيها الروح والحياة‏.‏ وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة؛ فإنه بإحداث الله تعالى لا بغيره‏.‏ فتأمل هذا الأصل وتمسك به، ففيه النجاة من مذاهب أهل الضلال الطبعيين وغيرهم‏.‏

لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوما، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس؛ كما بيناه بالأحاديث‏.‏ وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع، وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات؛ وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وهذا الدخول في الخامس يحقق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة إذا لم يظهر حمل‏.‏

النطفة ليست بشيء يقينا، ولا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة إذا لم تجتمع في الرحم، فهي كما لو كانت في صلب الرجل؛ فإذا طرحته علقة فقد تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال يتحقق به أنه ولد‏.‏ وعلى هذا فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل، تبرأ به الرحم، وتنقضي به العدة، ويثبت به لها حكم أم الولد‏.‏ وهذا مذهب مالك رضي الله عنه وأصحابه‏.‏ وقال الشافعي رضي الله عنه‏:‏ لا اعتبار بإسقاط العلقة، وإنما الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط؛ فإن خفي التخطيط وكان لحما فقولان بالنقل والتخريج، والمنصوص أنه تنقضي به العدة ولا تكون أم ولد‏.‏ قالوا‏:‏ لأن العدة تنقضي بالدم الجاري، فبغيره أولى‏.‏

قوله تعالى‏{‏مخلقة وغير مخلقة‏{‏ قال الفراء‏{‏مخلقة‏{‏ تامة الخلق، ‏{‏وغير مخلقة‏{‏ السقط‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏{‏مخلقة‏{‏ قد بدأ خلقها، ‏{‏وغير مخلقة‏{‏ لم تصور بعد‏.‏ ابن زيد‏:‏ المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، وغير مخلقة التي لم يخلق فيها شيء‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ إذا رجعنا إلى أصل الاشتقاق فإن النطفة والعلقة والمضغة مخلقة؛ لأن الكل خلق الله تعالى، وإن رجعنا إلى التصوير الذي هو منتهى الخلقة كما قال الله تعالى‏{‏ثم أنشأناه خلقا آخر‏}‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏ فذلك ما قال ابن زيد‏.‏ قلت‏:‏ التخليق من الخلق، وفيه معنى الكثرة، فما تتابع عليه الأطوار فقد خلق خلقا بعد خلق، وإذا كان نطفة فهو مخلوق؛ ولهذا قال الله تعالى‏{‏ثم أنشأناه خلقا آخر‏}‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏ والله أعلم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن قوله‏{‏مخلقة وغير مخلقة‏{‏ يرجع إلى الولد بعينه لا إلى السقط؛ أي منهم من يتم الرب سبحانه مضغته فيخلق له الأعضاء أجمع، ومنهم من يكون خديجا ناقصا غير تمام‏.‏ وقيل‏:‏ ‏(‏المخلقة أن تلد المرأة لتمام الوقت‏)‏‏.‏ ابن عباس‏:‏ المخلقة ما كان حيا، وغير المخلقة السقط‏.‏ قال‏.‏

أفي غير المخلقة البكاء فأين الحزم ويحك والحياء

أجمع العلماء على أن الأمة تكون أم ولد بما تسقطه من ولد تام الخلق‏.‏ وعند مالك والأوزاعي وغيرهما بالمضغة كانت مخلقة أو غير مخلقة‏.‏ قال مالك‏:‏ إذا علم أنها مضغة‏.‏ وقال الشافعي وأبو حنيفة‏:‏ إن كان قد تبين له شيء من خلق بني آدم أصبع أو عين أو غير ذلك فهي له أم ولد‏.‏ وأجمعوا على أن المولود إذا استهل صارخا يصلى عليه؛ فإن لم يستهل صارخا لم يصل عليه عند مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم‏.‏ وروي عن ابن عمر أنه يصلى عليه؛ وقال ابن المسيب وابن سيرين وغيرهما‏.‏ وروي عن المغيرة بن شعبة أنه ‏(‏كان يأمر بالصلاة على السقط، ويقول سموهم واغسلوهم وكفنوهم وحنطوهم؛ فإن الله أكرم بالإسلام كبيركم وصغيركم، ويتلو هذه الآية ‏{‏فإنا خلقناكم من تراب - إلى - وغير مخلقة‏{‏‏.‏‏)‏ قال ابن العربي‏:‏ لعل المغيرة بن شعبة أراد بالسقط ما تبين خلقه فهو الذي يسمى، وما لم يتبين خلقه فلا وجود له‏.‏ وقال بعض السلف‏:‏ يصلى عليه متى نفخ فيه الروح وتمت له أربعة أشهر‏.‏ وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا استهل المولود ورث‏)‏‏.‏ الاستهلال‏:‏ رفع الصوت؛ فكل مولود كان ذلك منه أو حركة أو عطاس أو تنفس فإنه يورث لوجود ما فيه من دلالة الحياة‏.‏ وإلى هذا ذهب سفيان الثوري والأوزاعي والشافعي‏.‏ قال الخطابي‏:‏ وأحسنه قول أصحاب الرأي‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل‏.‏ وروي عن محمد بن سيرين والشعبي والزهري وقتادة‏.‏

قال مالك رضي الله عنه‏:‏ ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة أو ما يعلم أنه ولد إذا ضرب بطنها ففيه الغرة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا شيء فيه حتى يتبين من خلقه‏.‏ قال مالك‏:‏ إذا سقط الجنين فلم يستهل صارخا ففيه الغرة‏.‏ وسواء تحرك أو عطس فيه الغرة أبدا، حتى يستهل صارخا ففيه الدية كاملة‏.‏ وقال الشافعي رضي الله عنه وسائر فقهاء الأمصار‏:‏ إذا علمت حياته بحركة أو بعطاس أو باستهلاك أو بغير ذلك مما تستيقن به حياته ففيه الدية‏.‏

ذكر القاضي إسماعيل أن عدة المرأة تنقضي بالسقط الموضوع، واحتج عليه بأنه حمل، وقال قال الله تعالى‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏{‏‏.‏ قال القاضي إسماعيل‏:‏ والدليل على ذلك أنه يرث أباه، فدل على وجوده خلقا وكونه ولدا وحملا‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ ولا يرتبط به شيء من هذه الأحكام إلا أن يكون مخلقا‏.‏

قلت‏:‏ ما ذكرناه من الاشتقاق وقول عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه‏)‏ يدل على صحة ما قلناه، ولأن مسقطة العلقة والمضغة يصدق على المرأة إذا ألقته أنها كانت حاملا وضعت ما استقر في رحمها، فيشملها قوله تعالى‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏ ولأنها وضعت مبدأ الولد عن نطفة متجسدا كالمخطط، وهذا بين‏.‏

روى ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد حدثنا يزيد عن عبدالملك النوفلي عن يزيد بن رومان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس أخلفه ‏[‏خلفي‏]‏‏)‏‏.‏ وأخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث له عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة فقال‏:‏ ‏(‏أحب إلي من ألف فارس أخلفه ورائي‏)‏‏.‏

‏{‏لنبين لكم‏{‏ يريد‏:‏ كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم‏.‏ ‏{‏ونقر في الأرحام‏{‏ قرئ بنصب ‏{‏نقر‏{‏ و‏{‏نخرج‏{‏، رواه أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم قال قال أبو حاتم‏:‏ النصب على العطف‏.‏ وقال الزجاج‏{‏نقر‏{‏ بالرفع لا غير؛ لأنه ليس المعنى‏:‏ فعلنا ذلك لنقر في الأرحام ما نشاء، وإنما خلقهم عز وجل ليدلهم على الرشد والصلاح‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لنبين لهم أمر البعث؛ فهو اعتراض بين الكلامين‏.‏ وقرأت هذه الفرقة بالرفع ‏{‏ونقر‏{‏؛ المعنى‏:‏ ونحن نقر‏.‏ وهي قراءة الجمهور‏.‏ وقرئ‏{‏ويقر‏{‏ و‏{‏يخرجكم‏{‏ بالياء، والرفع على هذا سائغ‏.‏ وقرأ‏.‏ ابن وثاب ‏{‏ما نشاء‏{‏ بكسر النون‏.‏ والأجل المسمى يختلف بحسب جنين جنين؛ فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حيا‏.‏ وقال ‏{‏ما نشاء‏{‏ ولم يقل من نشاء لأنه يرجع إلى الحمل؛ أي يقر في الأرحام ما نشاء من الحمل ومن المضغة وهي جماد فكنى عنها بلفظ ما‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم نخرجكم طفلا‏{‏ أي أطفالا؛ فهو اسم جنس‏.‏ وأيضا فإن العرب قد تسمي الجمع باسم الواحد؛ قال الشاعر‏:‏

يلحينني في حبها ويلمنني إن العواذل ليس لي بأمير

ولم يقل أمراء‏.‏ وقال المبرد‏:‏ وهو اسم يستعمل مصدرا كالرضا والعدل، فيقع على الواحد والجمع؛ قال الله تعالى‏{‏أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء‏}‏النور‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وقال الطبري‏:‏ وهو نصب على التمييز، كقوله تعالى‏{‏فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا‏}‏النساء‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ثم نخرج كل واحد منكم طفلا‏.‏ والطفل يطلق من وقت انفصال الولد إلى البلوغ‏.‏ وولد كل وحشية أيضا طفل‏.‏ ويقال‏:‏ جارية طفل، وجاريتان طفل وجوار طفل، وغلام طفل، وغلمان طفل‏.‏ ويقال أيضا‏:‏ طفل وطفلة وطفلان وطفلتان وأطفال‏.‏ ولا يقال‏:‏ طفلات‏.‏ وأطفلت المرأة صارت ذات طفل‏.‏ والمطفلة‏:‏ الظبية معها طفلها، وهي قريبة عهد بالنتاج‏.‏ وكذلك الناقة، ‏[‏والجمع‏]‏ مطافل ومطافيل‏.‏ والطفل ‏(‏بالفتح في الطاء‏)‏ الناعم؛ يقال‏:‏ جارية طفلة أي ناعمة، وبنان طفل‏.‏ وقد طفل الليل إذا أقبل ظلامه‏.‏ والطفل ‏(‏بالتحريك‏)‏‏:‏ بعد العصر إذا طفلت الشمس للغروب‏.‏ والطفل ‏(‏أيضا‏)‏‏:‏ مطر؛ قال‏:‏

لوهد جاده طفل الثريا

قوله تعالى‏{‏ثم لتبلغوا أشدكم‏{‏ قيل‏:‏ إن ‏{‏ثم‏{‏ زائدة كالواو في قوله ‏{‏حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها‏}‏الزمر‏:‏ 73‏]‏؛ لأن ثم من حروف النسق كالواو‏.‏ ‏{‏أشدكم‏{‏ كمال عقولكم ونهاية قواكم‏.‏ وقد مضى في ‏{‏الأنعام‏{‏ بيانه‏.‏ ‏{‏ومنكم من يرد إلى أرذل العمر‏{‏ أي أخسه وأدونه، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل؛ ولهذا قال‏{‏لكيلا يعلم من بعد علم شيئا‏{‏ كما قال في سورة يس‏{‏ومن نعمره ننكسه في الخلق‏}‏يس‏:‏ 68‏]‏‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول‏:‏ ‏(‏اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر‏)‏‏.‏ أخرجه النسائي عن سعد، وقال‏:‏ وكان يعلمهن بنيه كما يعلم المكتب الغلمان‏.‏ وقد مضى في النحل هذا المعنى‏.‏

قوله تعالى‏{‏وترى الأرض هامدة‏{‏ ذكر دلالة أقوى على البعث فقال في الأول‏{‏فإنا خلقناكم من تراب‏{‏ فخاطب جمعا‏.‏ وقال في الثاني‏{‏وترى الأرض‏{‏ فخاطب واحدا، فانفصل اللفظ عن اللفظ، ولكن المعنى متصل من حيث الاحتجاج على منكري البعث‏.‏ ‏{‏هامدة‏{‏ يابسة لا تنبت شيئا؛ قال ابن جريج‏.‏ وقيل‏:‏ دارسة‏.‏ والهمود الدروس‏.‏ قال الأعشى‏:‏

قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا وأرى ثيابك باليات همدا

الهروي‏{‏هامدة‏{‏ أي جافة ذات تراب‏.‏ وقال شمر‏:‏ يقال‏:‏ همد شجر الأرض إذا بلي وذهب‏.‏ وهمدت أصواتهم إذا سكنت‏.‏ وهمود الأرض ألا يكون فيها حياة ولا نبت ولا عود ولم يصبها مطر‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏حتى كاد يهمد من الجوع‏)‏ أي يهلك‏.‏ يقال‏:‏ همد الثوب يهمد إذا بلي‏.‏ وهمدت النار تهمد‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت‏{‏ أي تحركت‏.‏ والاهتزاز‏:‏ شدة الحركة؛ يقال‏:‏ هززت الشيء فاهتز؛ أي حركته فتحرك‏.‏ وهز الحادي الإبل هزيزا فاهتزت هي إذا تحركت في سيرها بحدائه‏.‏ واهتز الكوكب في انقضاضه‏.‏ وكوكب هاز‏.‏ فالأرض تهتز بالنبات؛ لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة خفية؛ فسماه اهتزازا مجازا‏.‏ وقيل‏:‏ اهتز نباتها، فحذف المضاف؛ قال المبرد، واهتزازه شدة حركته، كما قال الشاعر‏:‏

تثنى إذا قامت وتهتز إن مشت كما اهتز غصن البان في ورق خضر

والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض‏.‏ ‏{‏وربت‏{‏ أي ارتفعت وزادت‏.‏ وقيل‏:‏ انتفخت؛ والمعنى واحد، وأصله الزيادة‏.‏ ربا الشيء يربو ربوا أي زاد؛ ومنه الربا والربوة‏.‏ وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس ‏{‏وربأت‏{‏ أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الربيئة، وهو الذي يحفظ القوم على شيء مشرف؛ فهو رابئ وربيئة على المبالغة‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

بعثنا ربيئا قبل ذاك مخملا كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقي

‏{‏وأنبتت‏{‏ أي أخرجت‏.‏ ‏{‏من كل زوج‏{‏ أي لون‏.‏ ‏{‏بهيج‏{‏ أي حسن؛ عن قتادة‏.‏ أي يبهج من يراه‏.‏ والبهجة الحسن؛ يقال‏:‏ رجل ذو بهجة‏.‏ وقد بهج ‏(‏بالضم‏)‏ بهاجة وبهجة فهو بهيج‏.‏ وأبهجني أعجبني بحسنه‏.‏ ولما وصف الأرض بالإنبات دل على أن قوله‏{‏اهتزت وربت‏{‏ يرجع إلى الأرض لا إلى النبات‏.‏ والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 6 ‏:‏ 7 ‏)‏

‏{‏ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك بأن الله هو الحق‏{‏ لما ذكر افتقار الموجودات إليه وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره في قوله‏{‏يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث - إلى قوله - بهيج‏{‏‏.‏ قال بعد ذلك‏{‏ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير‏.‏ وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور‏{‏‏.‏ فنبه سبحانه وتعالى بهذا على أن كل ما سواه وإن كان موجودا حقا فإنه لا حقيقة له من نفسه؛ لأنه مسخر مصرف‏.‏ والحق الحقيقي‏:‏ هو الموجود المطلق الغني المطلق؛ وأن وجود كل ذي وجود عن وجوب وجوده؛ ولهذا قال في آخر السورة‏{‏وأن ما يدعون من دونه هو الباطل‏}‏الحج‏:‏ 62‏]‏‏.‏ والحق الموجود الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، وهو الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ ذو الحق على عباده‏.‏ وقيل‏:‏ الحق بمعنى في أفعاله‏.‏ وقال الزجاج‏{‏ذلك‏{‏ في موضع رفع؛ أي الأمر ما وصف لكم وبين‏.‏ ‏{‏بأن الله هو الحق‏{‏ أي لأن الله هو الحق‏.‏ وقال‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏ذلك‏{‏ نصبا؛ أي فعل الله ذلك بأنه هو الحق‏.‏ ‏{‏وأنه يحيي الموتى‏{‏ أي بأنه ‏{‏وأنه على كل شيء قدير‏{‏ أي وبأنه قادر على ما أراد‏.‏ ‏{‏وأن الساعة آتية‏{‏ عطف على قوله‏{‏ذلك بأن الله هو الحق‏{‏ من حيث اللفظ، وليس عطفا في المعنى؛ إذ لا يقال فعل الله ما ذكر بأن الساعة آتية، بل لابد من إضمار فعل يتضمنه؛ أي وليعلموا أن الساعة آتية ‏{‏لا ريب فيها‏{‏ أي لا شك‏.‏ ‏{‏وأن الله يبعث من في القبور‏{‏ يريد للثواب والعقاب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 8 ‏:‏ 10 ‏)‏

‏{‏ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق، ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير‏{‏ أي نير بين الحجة‏.‏ نزلت في النضر بن الحارث‏.‏ وقيل‏:‏ في أبي جهل بن هشام؛ قال ابن عباس‏.‏ ‏(‏والمعظم على أنها نزلت في النضر بن الحارث كالآية الأولى، فهما في فريق واحد، والتكرير للمبالغة في الذم؛ كما تقول للرجل تذمه وتوبخه‏:‏ أنت فعلت هذا‏!‏ أنت فعلت هذا‏!‏ ويجوز أن يكون التكرير لأنه وصفه في كل آية بزيادة؛ فكأنه قال‏:‏ إن النضر بن الحارث يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد، والنضر بن الحارث يجادل في الله من غير علم ومن غير هدى وكتاب منير؛ ليضل عن سبيل الله‏)‏‏.‏ وهو كقولك‏:‏ زيد يشتمني وزيد يضربني؛ وهو تكرار مفيد؛ قال القشيري‏.‏ وقد قيل‏:‏ نزلت فيه بضع عشرة آية‏.‏ فالمراد بالآية الأولى إنكاره البعث، وبالثانية إنكاره النبوة، وأن القرآن منزل من جهة الله‏.‏ وقد قيل‏:‏ كان من قول النضر بن الحارث أن الملائكة بنات الله، وهذا جدال في الله تعالى‏{‏من‏{‏ في موضع رفع بالابتداء‏.‏ والخبر في قوله‏{‏ومن الناس‏{‏‏.‏ ‏{‏ثاني عطفه‏{‏ نصب على الحال‏.‏ ويتأول على معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏(‏هو النضر بن الحارث، لوى عنقه مرحا وتعظما‏)‏‏.‏ والمعنى الآخر‏:‏ وهو قول الفراء‏:‏ أن التقدير‏:‏ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ثاني عطفه، أي معرضا عن الذكر؛ ذكره النحاس‏.‏ وقال مجاهد وقتادة‏:‏ لاويا عنقه كفرا‏.‏ ابن عباس‏:‏ معرضا عما يدعى إليه كفرا‏.‏ والمعنى واحد‏.‏ وروى الأوزاعي عن مخلد بن حسين عن هشام بن حسان عن ابن عباس في قوله عز وجل‏:‏ ‏(‏‏{‏ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله‏{‏ قال‏:‏ هو صاحب البدعة‏.‏ المبرد‏)‏‏:‏ العطف ما انثنى من العنق‏.‏ وقال المفضل‏:‏ والعطف الجانب؛ ومنه قولهم‏:‏ فلان ينظر في أعطافه، أي في جوانبه‏.‏ وعطفا الرجل من لدن رأسه إلى وركه‏.‏ وكذلك عطفا كل شيء جانباه‏.‏ ويقال‏:‏ ثنى فلان عني عطفه إذا أعرض عنك‏.‏ فالمعنى‏:‏ أي هو معرض عن الحق في جداله ومول عن النظر في كلامه؛ وهو كقوله تعالى‏{‏ولى مستكبرا كأن لم يسمعها‏}‏لقمان‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وقوله تعالى‏{‏لووا رؤوسهم‏}‏المنافقون‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقوله‏{‏أعرض ونأى بجانبه‏}‏الإسراء‏:‏ 83‏]‏‏.‏ وقوله‏{‏ذهب إلى أهله يتمطى‏}‏القيامة‏:‏ 33‏]‏‏.‏ ‏{‏ليضل عن سبيل الله‏{‏ أي عن طاعة الله تعالى‏.‏ وقرئ ‏{‏ليضل‏{‏ بفتح الياء‏.‏ واللام لام العاقبة؛ أي يجادل فيضل؛ كقوله تعالى‏{‏ليكون لهم عدوا وحزنا‏}‏القصص‏:‏ 8‏]‏‏.‏ أي فكان لهم كذلك‏.‏ ونظيره ‏{‏إذا فريق منكم بربهم يشركون‏.‏ ليكفروا‏}‏النحل‏:‏ 54 - 55‏]‏‏.‏ ‏{‏له في الدنيا خزي‏{‏ أي هوان وذل بما يجري له من الذكر القبيح على ألسنة المؤمنين إلى يوم القيامة؛ كما قال‏{‏ولا تطع كل حلاف مهين‏}‏القلم‏:‏ 10‏]‏ الآية‏.‏ وقوله تعالى‏{‏تبت يدا أبي لهب وتب‏}‏المسد‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ الخزي ههنا القتل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قتل النضر بن الحارث يوم بدر صبرا؛ كما تقدم في آخر الأنفال‏.‏ ‏{‏ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق‏{‏ أي نار جهنم‏.‏ ‏{‏ذلك بما قدمت يداك‏{‏ أي يقال له في الآخرة إذا دخل النار‏:‏ ذلك العذاب بما قدمت يداك من المعاصي والكفر‏.‏ وعبر باليد عن الجملة؛ لأن اليد التي تفعل وتبطش للجملة‏.‏ و‏{‏ذلك‏{‏ بمعنى هذا، كما تقدم في أول البقرة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 11 ‏)‏

‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف‏{‏ ‏{‏من‏{‏ في موضع رفع بالابتداء، والتمام ‏{‏انقلب على وجهه‏{‏ على قراءة الجمهور ‏{‏خسر‏{‏‏.‏ وهذه الآية خبر عن المنافقين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد شيبة بن ربيعة كان قد أسلم قبل أن يظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما أوحى إليه ارتد شيبة بن ربيعة‏.‏ وقال أبو سعيد الخدري‏:‏ أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله؛ فتشاءم بالإسلام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقلني‏!‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن الإسلام لا يقال‏)‏ فقال‏:‏ إني لم أصب في ديني هذا خيرا‏!‏ ذهب بصري ومالي وولدي‏!‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا يهودي إن الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب‏)‏؛ فأنزل الله تعالى‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف‏{‏‏.‏ وروى إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف‏{‏ قال‏:‏ كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال هذا دين صالح؛ فإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء‏)‏‏.‏ وقال المفسرون‏:‏ نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون؛ فإن نالوا رخاء أقاموا، وإن نالتهم شدة ارتدوا‏.‏ وقيل نزلت في النضر بن الحارث‏.‏ وقال ابن زيد وغيره‏:‏ نزلت في المنافقين‏.‏ ومعنى ‏{‏على حرف‏{‏ على شك؛ قاله مجاهد وغيره‏.‏ وحقيقته أنه على ضعف في عبادته، كضعف القائم على حرف مضطرب فيه‏.‏ وحرف كل شيء طرفه وشفيره وحده؛ ومنه حرف الجبل، وهو أعلاه المحدد‏.‏ وقيل‏{‏على حرف‏{‏ أي على وجه واحد، وهو أن يعبده على السراء دون الضراء؛ ولو عبدوا الله على الشكر في السراء والصبر على الضراء لما عبدوا الله على حرف‏.‏ وقيل‏{‏على حرف‏{‏ على شرط؛ وذلك أن شيبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يظهر أمره‏:‏ ادع لي ربك أن يرزقني مالا وإبلا وخيلا وولدا حتى أومن بك وأعدل إلى دينك؛ فدعا له فرزقه الله عز وجل ما تمنى؛ ثم أراد الله عز وجل فتنته واختباره وهو أعلم به فأخذ منه ما كان رزقه بعد أن أسلم فارتد عن الإسلام فأنزل الله تبارك وتعالى فيه‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف‏{‏ يريد شرط‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه‏.‏ وبالجملة فهذا الذي يعبد الله على حرف ليس داخلا بكليته؛ وبين هذا بقوله‏{‏فإن أصابه خير‏{‏ صحة جسم ورخاء معيشة رضي وأقام على دينه‏.‏ ‏{‏وإن أصابته فتنة‏{‏ أي خلاف ذلك مما يختبر به‏.‏ ‏{‏انقلب على وجهه‏{‏ أي ارتد فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر‏.‏ ‏{‏خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين‏{‏ قرأ مجاهد وحميد بن قيس والأعرج والزهري وابن أبي إسحاق - وروي عن يعقوب - ‏{‏خاسر الدنيا‏{‏ بألف، نصبا على الحال، وعليه فلا يوقف على ‏{‏وجهه‏{‏‏.‏ وخسرانه الدنيا بأن لاحظ في غنيمة ولا ثناء، والآخرة بأن لا ثواب له فيها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 12 ‏)‏

‏{‏يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏يدعو من دون الله‏{‏ أي هذا الذي يرجع إلى الكفر يعبد الصنم الذي ولا ينفع ولا يضر‏.‏ ‏{‏ذلك هو الضلال البعيد‏{‏ قال الفراء‏:‏ الطويل‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 13 ‏)‏

‏{‏يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير‏}‏

قوله تعالى‏{‏يدعو لمن ضره أقرب من نفعه‏{‏ أي هذا الذي انقلب على وجهه يدعو من ضره أدنى من نفعه؛ أي في الآخرة لأنه بعبادته دخل النار، ولم ير منه نفعا أصلا، ولكنه قال‏:‏ ضره أقرب من نفعه ترفيعا للكلام؛ كقوله تعالى‏{‏وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين‏}‏سبأ‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ يعبدونهم توهم أنهم يشفعون لهم غدا كما؛ قال الله تعالى‏{‏ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏يونس‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏{‏ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏}‏الزمر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وقال الفراء والكسائي والزجاج‏:‏ معنى الكلام القسم والتأخير؛ أي يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه‏.‏ فاللام مقدمه في غير موضعها‏.‏ و‏{‏من‏{‏ في موضع نصب بـ ‏{‏يدعو‏{‏ واللام جواب القسم‏.‏ و‏{‏ضره‏{‏ مبتدأ‏.‏ و‏{‏أقرب‏{‏ خبره‏.‏ وضعف النحاس تأخير الكلام وقال‏:‏ وليس للام من التصرف ما يوجب أن يكون فيها تقديم ولا تأخير‏.‏ قلت‏:‏ حق اللام التقديم وقد تؤخر؛ قال الشاعر‏:‏

خالي لأنت ومن جرير خال ينل العلاء ويكرم الأخوالا

أي لخالي أنت؛ وقد تقدم‏.‏ النحاس‏:‏ وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال‏:‏ في الكلام حذف؛ والمعنى يدعو لمن ضره أقرب من نفعه إلها‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأحسب هذا القول غلطا على محمد بن يزيد؛ لأنه لا معنى له، لأن ما بعد اللام مبتدأ فلا يجوز نصب إله، وما أحسب مذهب محمد بن يزيد إلا قول الأخفش، وهو أحسن ما قيل في الآية عندي، والله أعلم، قال‏{‏يدعو‏{‏ بمعنى يقول‏.‏ و‏{‏من‏{‏ مبتدأ وخبره محذوف، والمعنى يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه‏.‏

قلت‏:‏ وذكر هذا القول القشيري رحمه الله عن الزجاج والمهدوي عن الأخفش، وكمل إعرابه فقال‏{‏يدعو‏{‏ بمعنى يقول، و‏{‏من‏{‏ مبتدأ، و‏{‏ضره‏{‏ مبتدأ ثان، و‏{‏أقرب‏{‏ خبره، والجملة صلة ‏{‏من‏{‏، وخبر ‏{‏من‏{‏ محذوف، والتقدير يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه؛ ومثله قول عنترة‏:‏

يدعون عنتر والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم

قال القشيري‏:‏ والكافر الذي يقول الصنم معبودي لا يقول ضره أقرب من نفعه؛ ولكن المعنى يقول الكافر لمن ضره أقرب من نفعه في قول المسلمين معبودي وإلهي‏.‏ وهو كقوله تعالى‏{‏يا أيها الساحر ادع لنا ربك‏}‏الزخرف‏:‏ 49‏]‏؛ أي يا أيها الساحر عند أولئك الذين يدعونك ساحرا‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون ‏{‏يدعو‏{‏ في موضع الحال، وفيه هاء محذوفة؛ أي ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، أي في حال دعائه إياه؛ ففي ‏{‏يدعو‏{‏ هاء مضمرة، ويوقف على هذا على ‏{‏يدعو‏{‏‏.‏ وقوله‏{‏لمن ضره أقرب من نفعه‏{‏ كلام مستأنف مرفوع بالابتداء، وخبره ‏{‏لبئس المولى‏{‏ وهذا لأن اللام لليمين والتوكيد فجعلها أول الكلام‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏ذلك‏{‏ بمعنى الذي، ويكون في محل النصب بوقوع ‏{‏يدعو‏{‏ عليه؛ أي الذي هو الضلال البعيد يدعو؛ كما قال‏{‏وما تلك بيمنك يا موسى‏{‏ أي ما الذي‏.‏ ثم قوله ‏{‏لمن ضره‏{‏ كلام مبتدأ، و‏{‏لبئس المولى‏{‏ خبر المبتدأ؛ وتقدير الآية على هذا‏:‏ يدعو الذي هو الضلال البعيد؛ قدم المفعول وهو الذي؛ كما تقول‏:‏ زيدا يضرب؛ واستحسنه أبو علي‏.‏ وزعم الزجاج أن النحويين أغفلوا هذا القول؛ وأنشد‏:‏

عدس ما لعباد عليك إمارة نجوت وهذا تحملين طليق

أي والذي‏.‏ وقال الزجاج أيضا والفراء‏:‏ يجوز أن يكون ‏{‏يدعو‏{‏ مكررة على ما قبلها، على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء، ولا تعديه إذ قد عديته أولا؛ أي يدعو من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره يدعو؛ مثل ضربت زيدا ضربت، ثم حذفت يدعو الآخرة اكتفاء بالأولى‏.‏ قال الفراء‏:‏ ويجوز ‏{‏لمن ضره‏{‏ بكسر اللام؛ أي يدعو إلى من ضره أقرب من نفعه، قال الله عز وجل‏{‏بأن ربك أوحى لها‏{‏ أي إليها‏.‏ وقال الفراء أيضا والقفال‏:‏ اللام صلة؛ أي يدعو من ضره أقرب من نفعه؛ أي يعبده‏.‏ وكذلك هو في قراءة عبدالله بن مسعود‏.‏ ‏{‏لبئس المولى‏{‏ أي في التناصر ‏{‏ولبئس العشير‏{‏ أي المعاشر والصاحب والخليل‏.‏ مجاهد‏:‏ يعني الوثن‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 14 ‏)‏

‏{‏إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار‏{‏ لما ذكر حال المشركين وحال المنافقين والشياطين ذكر حال المؤمنين في الآخرة أيضا‏.‏ ‏{‏إن الله يفعل ما يريد‏{‏ أي يثيب من يشاء ويعذب من يشاء؛ فللمؤمنين الجنة بحكم وعده الصدق وبفضله، وللكافرين النار بما سبق من عدله؛ لا أن فعل الرب معلل بفعل العبيد‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 15 ‏)‏

‏{‏من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ‏}‏

قوله تعالى‏{‏من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء‏{‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ من أحسن ما قيل فيها أن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه‏.‏ ‏{‏فليمدد بسبب إلى السماء‏{‏ أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء‏.‏ ‏{‏ثم ليقطع‏{‏ أي ثم ليقطع النصر إن تهيأ له ‏{‏فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ‏{‏ وحيلته ما يغيظه من نصر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر‏.‏ وكذا قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏إن الكناية في ‏{‏ينصره الله‏{‏ ترجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو وإن لم يجر ذكره فجميع الكلام دال عليه؛ لأن الإيمان هو الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، والانقلاب عن الدين انقلاب عن الدين الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي من كان يظن ممن يعادي محمدا صلى الله عليه وسلم ومن يعبد الله على حرف أنا لا ننصر محمدا فليفعل كذا وكذا‏)‏‏.‏ وعن ابن عباس أيضا ‏(‏أن الهاء تعود على ‏{‏من‏{‏ والمعنى‏:‏ من كان يظن أن الله لا يرزقه فليختنق، فليقتل نفسه؛ إذ لا خير في حياة تخلو من عون الله‏)‏‏.‏ والنصر على هذا القول الرزق؛ تقول العرب‏:‏ من ينصرني نصره الله؛ أي من أعطاني أعطاه الله‏.‏ ومن ذلك قول العرب‏:‏ أرض منصورة؛ أي ممطورة‏.‏ قال الفقعسي‏:‏

وإنك لا تعطي امرأ فوق حقه ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره

وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏{‏من كان يظن أن لن ينصره الله‏{‏ أي لن يرزقه‏.‏ وهو قول أبي عبيدة‏.‏ وقيل‏:‏ إن الهاء تعود على الدين؛ والمعنى‏:‏ من كان يظن أن لن ينصر الله دينه‏.‏ ‏{‏فليمدد بسبب‏{‏ أي بحبل‏.‏ والسبب ما يتوصل به إلى الشيء‏.‏ ‏{‏إلى السماء‏{‏ إلى سقف البيت‏.‏ ابن زيد‏:‏ هي السماء المعروفة‏.‏ وقرأ الكوفيون ‏{‏ثم ليقطع‏{‏ بإسكان اللام‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا بعيد في العربية؛ لأن ‏{‏ثم‏{‏ ليست مثل الواو والفاء، لأنها يوقف، عليها وتنفرد‏.‏ وفي قراءة عبدالله ‏{‏فليقطعه ثم لينظر هل يذهبن كيده ما يغيظه‏{‏‏.‏ قيل‏{‏ما‏{‏ بمعنى الذي؛ أي هل يذهبن كيده الذي يغيظه، فحذف الهاء ليكون أخف‏.‏ وقيل‏{‏ما‏{‏ بمعنى المصدر؛ أي هل يذهبن كيده غيظه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 16 ‏)‏

‏{‏وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك أنزلناه آيات بينات‏{‏ يعني القرآن‏.‏ ‏{‏وأن الله‏{‏ أي وكذلك أن الله ‏{‏يهدي من يريد‏{‏ علق وجود الهداية بإرادته؛ فهو الهادي لا هادي سواه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 17 ‏)‏

‏{‏إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين آمنوا‏{‏ أي بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏والذين هادوا‏{‏ اليهود، وهم المنتسبون إلى ملة موسى عليه السلام‏.‏ ‏{‏والصابئين‏{‏ هم قوم يعبدون النجوم‏.‏ ‏{‏والنصارى‏{‏ هم المنتسبون إلى ملة عيسى‏.‏ ‏{‏والمجوس‏{‏ هم عبدة النيران القائلين أن للعالم أصلين‏:‏ نور وظلمة‏.‏ قال قتادة‏:‏ الأديان خمسة، أربعة للشيطان وواحد للرحمن‏.‏ وقيل‏:‏ المجوس في الأصل النجوس لتدينهم باستعمال النجاسات؛ والميم والنون يتعاقبان كالغيم والغين، والأيم والأين‏.‏ وقد مضى في البقرة هذا كله مستوفى‏.‏ ‏{‏والذين أشركوا‏{‏ هم العرب عبدة الأوثان‏.‏ ‏{‏إن الله يفصل بينهم يوم القيامة‏{‏ أي يقضي ويحكم؛ فللكافرين النار، وللمؤمنين الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ هذا الفصل بأن يعرفهم المحق من المبطل بمعرفة ضرورية، واليوم يتميز المحق عن المبطل بالنظر والاستدلال‏.‏ ‏{‏إن الله على كل شيء شهيد‏{‏ أي من أعمال خلقه وحركاتهم وأقوالهم، فلا يعزب عنه شيء منها، سبحانه‏!‏ وقوله ‏{‏إن الله يفصل بينهم‏{‏ خبر ‏{‏إن‏{‏ في قوله ‏{‏إن الذين آمنوا‏{‏ كما تقول‏:‏ إن زيدا إن الخير عنده‏.‏ وقال الفراء‏:‏ ولا يجوز في الكلام إن زيدا إن أخاه منطلق؛ وزعم أنه إنما جاز في الآية لأن في الكلام معنى المجازاة؛ أي من آمن ومن تهود أو تنصر أو صبأ يفصل بينهم، وحسابهم على الله عز وجل‏.‏ ورد أبو إسحاق على الفراء هذا القول، واستقبح قوله‏:‏ لا يجوز إن زيدا إن أخاه منطلق؛ قال‏:‏ لأنه لا فرق بين زيد وبين الذين، و‏{‏إن‏{‏ تدخل على كل مبتدأ فتقول إن زيدا هو منطلق، ثم تأتي بإن فتقول‏:‏ إن زيدا إنه منطلق‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

إن الخليفة إن الله سربله سربال عز به ترجى الخواتيم

الآية رقم ‏(‏ 18 ‏)‏

‏{‏ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض‏{‏ هذه رؤية القلب؛ أي ألم تر بقلبك وعقلك‏.‏ وتقدم معنى السجود في ‏{‏البقرة‏{‏، وسجود الجماد في ‏{‏النحل‏{‏‏.‏ ‏{‏والشمس‏{‏ معطوفة على ‏{‏من‏{‏‏.‏ وكذا ‏{‏والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس‏{‏‏.‏ ثم قال‏{‏وكثير حق عليه العذاب‏{‏ وهذا مشكل من الإعراب، كيف لم ينصب ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل؛ مثل ‏{‏والظالمين أعد لهم عذابا أليما‏{‏‏؟‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 31‏]‏ فزعم الكسائي والفراء أنه لو نصب لكان حسنا، ولكن اختير الرفع لأن المعنى وكثير أبي السجود، فيكون ابتداء وخبرا، وتم الكلام عند قوله ‏{‏وكثير من الناس‏{‏‏.‏ ويجوز أن يكون معطوفا، على أن يكون السجود التذلل والانقياد لتدبير الله عز وجل من ضعف وقوة وصحة وسقم وحسن وقبح، وهذا يدخل فيه كل شيء‏.‏ ويجوز أن ينتصب على تقدير‏:‏ وأهان كثيرا حق عليه العذاب، ونحوه‏.‏ وقيل‏:‏ تم الكلام عند قوله ‏{‏والدواب‏{‏ ثم ابتدأ فقال ‏{‏وكثير من الناس‏{‏ في الجنة ‏{‏وكثير حق عليه العذاب‏{‏‏.‏ وكذا روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏(‏المعنى وكثير من الناس في الجنة وكثير حق عليه العذاب‏)‏؛ ذكره ابن الأنباري‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ ما في السماوات نجم ولا قمر ولا شمس إلا يقع ساجدا لله حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيرجع من مطلعه‏)‏‏.‏ قال القشيري‏:‏ وورد هذا في خبر مسند في حق الشمس؛ فهذا سجود حقيقي، ومن ضرورته تركيب الحياة والعقل في هذا الساجد‏.‏

قلت‏:‏ الحديث المسند الذي أشار إليه خرجه مسلم، وسيأتي في سورة ‏{‏يس‏{‏ عند قوله تعالى‏{‏والشمس تجري لمستقر لها‏}‏يس‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وقد تقدم في البقرة معنى السجود لغة ومعنى‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن يهن الله فما له من مكرم‏{‏ أي من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏إن تهاون بعبادة الله صار إلى النار‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن الله يفعل ما يشاء‏{‏ يريد أن مصيرهم إلى النار فلا اعتراض لأحد عليه‏.‏ وحكى الأخفش والكسائي والفراء ‏{‏ومن يهن الله فما له من مكرم‏{‏ أي إكرام‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 19 ‏:‏ 21 ‏)‏

‏{‏هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد‏}‏

قوله تعالى‏{‏هذان خصمان اختصموا في ربهم‏{‏ خرج مسلم عن قيس بن عباد قال‏:‏ سمعت أبا ذر يقسم قسما إن ‏{‏هذان خصمان اختصموا في ربهم‏{‏ إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر‏:‏ حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة‏.‏ وبهذا الحديث ختم مسلم رحمه الله كتابه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏نزلت هذه الآيات الثلاث على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة في ثلاثة نفر من المؤمنين وثلاثة نفر كافرين‏)‏، وسماهم، كما ذكر أبو ذر‏.‏ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏إني لأول من يجثو للخصومة بين يدي الله يوم القيامة؛ يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه‏)‏؛ ذكره البخاري‏.‏ وإلى هذا القول ذهب هلال بن يساف وعطاء بن يسار وغيرهما‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ المراد بالخصمين الجنة والنار؛ اختصمتا فقالت النار‏:‏ خلقني لعقوبته‏.‏ وقالت الجنة خلقني لرحمته‏.‏

قلت‏:‏ وقد ورد بتخاصم الجنة والنار حديث عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏احتجت الجنة والنار فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله تعالى لهذه أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال لهذه أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها‏)‏‏.‏ خرجه البخاري ومسلم والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ ‏(‏هم أهل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أولى بالله منكم، وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم‏.‏ وقال المؤمنون‏:‏ نحن أحق بالله منكم، آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل إليه من كتاب، وأنتم تعرفون نبينا وتركتموه وكفرتم به حسدا؛ فكانت هذه خصومتهم‏)‏، وأنزلت فيهم هذه الآية‏.‏ وهذا قول قتادة، والقول الأول أصح رواه البخاري عن حجاج بن منهال عن هشيم عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر، ومسلم عن عمرو بن زرارة عن هشيم، ورواه سليمان التيمي عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن علي قال‏:‏ فينا نزلت هذه الآية وفي مبارزتنا يوم بدر ‏{‏هذان خصمان اختصموا في ربهم - إلى قوله - عذاب الحريق‏{‏‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏هذان خصمان‏{‏ بتشديد النون من ‏{‏هذان‏{‏‏.‏ وتأول الفراء الخصمين على أنهما فريقان أهل دينين، وزعم أن الخصم الواحد المسلمون والآخر اليهود والنصارى، اختصموا في دين ربهم؛ قال‏:‏ فقال ‏{‏اختصموا‏{‏ لأنهم جمع، قال‏:‏ ولو قال ‏{‏اختصما‏{‏ لجاز‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا تأويل من لا دراية له بالحديث ولا بكتب أهل التفسير؛ لأن الحديث في هذه الآية مشهور، رواه سفيان الثوري وغيره عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال‏:‏ سمعت أبا ذر يقسم قسما إن هذه الآية نزلت في حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة‏.‏ وهكذا روى أبو عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس‏.‏ وفيه قول رابع ‏(‏أنهم المؤمنون كلهم والكافرون كلهم من أي ملة كانوا‏)‏؛ قاله مجاهد والحسن وعطاء بن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي‏.‏ وهذا القول بالعموم يجمع المنزل فيهم وغيرهم‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في الخصومة في البعث والجزاء؛ إذ قال به قوم وأنكره قوم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فالذين كفروا‏{‏ يعني من الفرق الذين تقدم ذكرهم‏.‏ ‏{‏قطعت لهم ثياب من نار‏{‏ أي خيطت وسويت؛ وشبهت النار بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب‏.‏ وقوله ‏{‏قطعت‏{‏ أي تقطع لهم في الآخرة ثياب من نار؛ وذكر بلفظ الماضي لأن ما كان من أخبار الآخرة فالموعود منه كالواقع المحقق؛ قال الله تعالى‏{‏وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس‏}‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ أي يقول الله تعالى‏.‏ ويحتمل أن يقال قد أعدت الآن تلك الثياب لهم ليلبسوها إذا صاروا إلى النار‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏{‏من نار‏{‏ من نحاس؛ فتلك الثياب من نحاس قد أذيبت وهي السرابيل المذكورة في ‏{‏قطران‏}‏إبراهيم‏:‏ 50‏]‏ وليس في الآنية شيء إذا حمي يكون أشد حرا منه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أن النار قد أحاطت بهم كإحاطة الثياب المقطوعة إذا لبسوها عليهم؛ فصارت من هذا الوجه ثيابا لأنها بالإحاطة كالثياب؛ مثل ‏{‏وجعلنا الليل لباسا‏}‏النبأ‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ‏{‏يصب من فوق رؤوسهم الحميم‏{‏ أي الماء الحار المغلى بنار جهنم‏.‏ وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان‏)‏‏.‏ قال‏:‏ حديث حسن صحيح غريب‏.‏ ‏{‏يصهر‏{‏ يذاب‏.‏ ‏{‏به ما في بطونهم‏{‏ والصهر إذابة الشحم‏.‏ والصهارة ما ذاب منه؛ يقال‏:‏ صهرت الشيء فانصهر، أي أذبته فذاب، فهو صهير‏.‏ قال ابن أحمر يصف فرخ قطاة‏:‏

تروي لقى ألقي في صفصف تصهره الشمس فما ينصهر

أي تذيبه الشمس فيصبر على ذلك‏.‏ ‏{‏والجلود‏{‏ أي وتحرق الجلود، أو تشوى الجلود؛ فإن الجلود لا تذاب؛ ولكن يضم في كل شيء ما يليق به، فهو كما تقول‏:‏ أتيته فأطعمني ثريدا، إي والله ولبنا قارصا؛ أي وسقاني لبنا‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

علفتها تبنا وماء باردا

‏{‏ولهم مقامع من حديد‏{‏ أي يضربون بها ويدفعون؛ الواحدة مقمعة، ومقمع أيضا كالمحجن، يضرب به على رأس الفيل‏.‏ وقد قمعته إذا ضربته بها‏.‏ وقمعته وأقمعته بمعنى؛ أي قهرته وأذللته فانقمع‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ أقمعت الرجل عني إقماعا إذا طلع عليك فرددته عنك‏.‏ وقيل‏:‏ المقامع المطارق، وهي المرازب أيضا‏.‏ وفي الحديث ‏(‏بيد كل ملك من خزنة جهنم مرزبة لها شعبتان فيضرب الضربة فيهوي بها سبعين ألفا‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ المقامع سياط من نار، وسميت بذلك لأنها تقمع المضروب، أي تذلله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 22 ‏)‏

‏{‏كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق‏}‏

قوله تعالى‏{‏كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم‏{‏ أي من النار‏.‏ ‏{‏أعيدوا فيها‏{‏ بالضرب بالمقامع‏.‏ وقال أبو ظبيان‏:‏ ذكر لنا أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش بهم وتفور فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان إليها بالمقامع‏.‏ وقيل‏:‏ إذا اشتد غمهم فيها فروا؛ فمن خلص منهم إلى شفيرها أعادتهم الملائكة فيها بالمقامع، ويقولون لهم ‏{‏وذوقوا عذاب الحريق‏{‏ أي المحرق؛ مثل الأليم والوجيع‏.‏ وقيل‏:‏ الحريق الاسم من الاحتراق‏.‏ تحرق الشيء بالنار واحترق، والاسم الحرقة والحريق‏.‏ والذوق‏:‏ مماسة يحصل معها إدراك الطعم؛ وهو هنا توسع، والمراد به إدراكهم الألم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 23 ‏)‏

‏{‏إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار‏{‏ لما ذكر أحد الخصمين وهو الكافر ذكر حال الخصم الآخر وهو المؤمن‏.‏ ‏{‏يحلون فيها من أساور من ذهب‏{‏ ‏{‏من‏{‏ صلة‏.‏ والأساور جمع أسورة، وأسورة واحدها سوار؛ وفيه ثلاث لغات‏:‏ ضم السين وكسرها وإسوار‏.‏ قال المفسرون‏:‏ لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان جعل الله ذلك لأهل الجنة، وليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة‏:‏ سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ‏.‏ قال هنا وفي فاطر‏{‏من أساور من ذهب ولؤلؤا‏}‏فاطر‏:‏ 33‏]‏ وقال في سورة الإنسان‏{‏وحلوا أساور من فضة‏}‏الإنسان‏:‏ 21‏]‏‏.‏ وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ تحلى النساء بالذهب والرجال بالفضة‏.‏ وفيه نظر، والقرآن يرده‏.‏ ‏{‏ولؤلؤا‏{‏ قرأ نافع وابن القعقاع وشيبة وعاصم هنا وفي سورة الملائكة ‏{‏لؤلؤا‏{‏ بالنصب، على معنى ويخلون لؤلؤا؛ واستدلوا بأنها مكتوبة في جميع المصاحف هنا بألف‏.‏ وكذلك قرأ يعقوب والجحدري وعيسى بن عمر بالنصب هنا والخفض في ‏{‏فاطر‏{‏ اتباعا للمصحف، ولأنها كتبت ههنا بألف وهناك بغير ألف‏.‏ الباقون بالخفض في الموضعين‏.‏ وكان أبو بكر لا يهمز ‏{‏اللولؤ‏{‏ في كل القرآن؛ وهو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف‏.‏ قال القشيري‏:‏ والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ؛ ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت‏.‏

قلت‏:‏ وهو ظاهر القرآن بل نصه‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ من قرأ ‏{‏ولؤلؤ‏{‏ بالخفض وقف عليه ولم يقف على الذهب‏.‏ وقال السجستاني‏:‏ من نصب ‏{‏اللؤلؤ‏{‏ فالوقف الكافي ‏{‏من ذهب‏{‏؛ لأن المعنى ويحلون لؤلؤا‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وليس كما قال، لأنا إذا خفضنا ‏{‏اللؤلؤ‏{‏ نسقناه على لفظ الأساور، وإذا نصبناه نسقناه على تأويل الأساور، وكأنا قلنا‏:‏ يحلون فيها أساور ولؤلؤا، فهو في النصب بمنزلته في الخفض، فلا معنى لقطعه من الأول‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولباسهم فيها حرير‏{‏ أي وجميع ما يلبسونه من فرشهم ولباسهم وستورهم حرير، وهو أعلى مما في الدنيا بكثير‏.‏ وروى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب فيها في الآخرة - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة‏)‏‏.‏ فإن قيل‏:‏ قد سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه الأشياء الثلاثة وأنه يحرمها في الآخرة؛ فهل يحرمها إذا دخل الجنة‏؟‏ قلنا‏:‏ نعم‏!‏ إذا لم يتب منها حرمها في الآخرة وإن دخل الجنة؛ لاستعجاله ما حرم الله عليه في الدنيا‏.‏ لا يقال‏:‏ إنما يحرم ذلك في الوقت الذي يعذب في النار أو بطول مقامه في الموقف، فأما إذا دخل الجنة فلا؛ لأن حرمان شيء من لذات الجنة لمن كان في الجنة نوع عقوبة ومؤاخذة والجنة ليست بدار عقوبة، ولا مؤاخذة فيها بوجه‏.‏ فإنا نقول‏:‏ ما ذكرتموه محتمل، لولا ما جاء ما يدفع هذا الاحتمال ويرده من ظاهر الحديث الذي ذكرناه‏.‏ وما رواه الأئمة من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة‏)‏‏.‏ والأصل التمسك بالظاهر حتى يرد نص يدفعه، بل قد ورد نص على صحة ما ذكرناه، وهو ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده‏:‏ حدثنا هشام عن قتادة عن داود السراج عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو‏)‏‏.‏ وهذا نص صريح وإسناده صحيح‏.‏ فإن كان ‏(‏وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو‏)‏ من قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو الغاية في البيان، وإن كان من كلام الراوي على ما ذكر فهو أعلى بالمقال وأقعد بالحال، ومثله لا يقال بالرأي، والله أعلم‏.‏ وكذلك ‏(‏من شرب الخمر ولم يتب‏)‏ و‏(‏من استعمل آنية الذهب والفضة‏)‏ وكما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه، وليس ذلك بعقوبة كذلك لا يشتهي خمر الجنة ولا حريرها ولا يكون ذلك عقوبة‏.‏ وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة مستوفى، والحمد لله، وذكرنا فيها أن شجر الجنة وثمارها يتفتق عن ثياب الجنة، وقد ذكرناه في سورة الكهف‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 24 ‏)‏

‏{‏وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد‏}‏

قوله تعالى‏{‏وهدوا إلى الطيب من القول‏{‏ أي أرشدوا إلى ذلك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏يريد لا إله إلا الله والحمد لله‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ القرآن، ثم قيل‏:‏ هذا في الدنيا، هدوا إلى الشهادة، وقراءة القرآن‏.‏ ‏{‏وهدوا إلى صراط الحميد‏{‏ أي إلى صراط الله‏.‏ وصراط الله‏:‏ دينه وهو الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ هدوا في الآخرة إلى الطيب من القول، وهو الحمد لله؛ لأنهم يقولون غدا الحمد لله الذي هدانا لهذا، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن؛ فليس في الجنة لغو ولا كذب فما يقولونه فهو طيب القول‏.‏ وقد هدوا في الجنة إلى صراط الله، إذ ليس في الجنة شيء من مخالفة أمر الله‏.‏ وقيل‏:‏ الطيب من القول ما يأتيهم من الله من البشارات الحسنة‏.‏ ‏{‏وهدوا إلى صراط الحميد‏{‏ أي إلى طريق الجنة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 25 ‏)‏

‏{‏إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين كفروا ويصدون‏{‏ أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عام الحديبية، وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع؛ إلا أن يريد صدهم لأفراد من الناس، فقد وقع ذلك في صدر المبعث‏.‏ والصد‏:‏ المنع؛ أي وهم يصدون‏.‏ وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي‏.‏ وقيل‏:‏ الواو زائدة ‏{‏ويصدون‏{‏ خبر ‏{‏إن‏{‏‏.‏ وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله ‏(‏والباد‏)‏ تقديره‏:‏ خسروا إذا هلكوا‏.‏ وجاء ‏{‏ويصدون‏{‏ مستقبلا إذ هو فعل يديمونه؛ كما جاء قوله تعالى‏{‏الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله‏}‏الرعد‏:‏ 28‏]‏؛ فكأنه قال‏:‏ إن الذين كفروا من شأنهم الصد‏.‏ ولو قال إن الذين كفروا وصدروا لجاز‏.‏ قال النحاس‏:‏ وفي كتابي عن أبي إسحاق قال وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر ‏{‏نذقه من عذاب أليم‏{‏‏.‏ قال أبو جعفر‏:‏ وهذا غلط، ولست أعرف ما الوجه فيه؛ لأنه جاء بخبر ‏{‏إن‏{‏ جزما، وأيضا فإنه جواب الشرط، ولو كان خبر ‏{‏إن‏{‏ لبقي الشرط بلا جواب، ولا سيما والفعل الذي في الشرط مستقبل فلا بد له من جواب‏.‏

قوله تعالى‏{‏والمسجد الحرام‏{‏ قيل‏:‏ إنه المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن؛ لأنه لم يذكر غيره‏.‏ وقيل‏:‏ الحرم كله؛ لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجا عنه؛ قال الله تعالى‏{‏وصدوكم عن المسجد الحرام‏}‏الفتح‏:‏ 25‏]‏ وقال‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام‏}‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وهذا صحيح، لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك‏.‏ ‏{‏الذي جعلناه للناس‏{‏ أي للصلاة والطواف والعبادة؛ وهو كقوله تعالى‏{‏إن أول بيت وضع للناس‏}‏آل عمران‏:‏ 96‏]‏‏.‏ ‏{‏سواء العاكف فيه والباد‏{‏ العاكف‏:‏ المقيم الملازم‏.‏ والبادي‏:‏ أهل البادية ومن يقدم عليهم‏.‏ يقول‏:‏ سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه الحاضر والذي يأتيه من البلاد؛ فليس أهل مكة أحق من النازح إليه‏.‏ وقيل‏:‏ إن المساواة إنما هي في دوره ومنازله، ليس المقيم فيها أولى من الطارئ عليها‏.‏ وهذا على أن المسجد الحرام الحرم كله؛ وهذا قول مجاهد ومالك؛ رواه عنه ابن القاسم‏.‏ وروي عن عمر وابن عباس وجماعة ‏(‏إلى أن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى‏)‏‏.‏ وقال ذلك سفيان الثوري وغيره، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة؛ فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال‏:‏ أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله‏؟‏ فقال‏:‏ إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب‏.‏ وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء، وكانت الفساطيط تضرب في الدور‏.‏ وروي عن مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد؛ وهذا هو العمل اليوم‏.‏ وقال بهذا جمهور من الأمة‏.‏

وهذا الخلاف يبنى على أصلين‏:‏ أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم للناس‏.‏ وللخلاف سببان‏:‏ أحدهما هل فتح مكة كان عنوة فتكون مغنومة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسمها وأقرها لأهلها ولمن جاء بعدهم؛ كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض السواد وعفا لهم عن الخراج كما عفا عن سبيهم واسترقاقهم إحسانا إليهم دون سائر الكفار فتبقى على ذلك لاتباع ولا تكرى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به‏.‏ وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي‏.‏ أو كان فتحها صلحا - وإليه ذهب الشافعي - فتبقى ديارهم بأيديهم، وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاؤوا‏.‏ وروي عن عمر أنه اشترى دار صفوان بن أمية بأربعة آلاف وجعلها سجنا، وهو أول من حبس في السجن في الإسلام، على ما تقدم بيانه في آية المحاربين من سورة ‏{‏المائدة‏{‏‏.‏ وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة‏.‏ وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول‏:‏ لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة‏.‏

قلت‏:‏ الصحيح ما قاله مالك؛ وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد‏.‏ وروى الدارقطني عن علقمة بن نضلة قال‏:‏ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن‏.‏ وزاد في رواية‏:‏ وعثمان‏.‏ وروي أيضا عن علقمة بن نضلة الكناني قال‏:‏ كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما السوائب، لا تباع؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن‏.‏ وروي أيضا عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها - وقال - من أكل من أجر بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا‏)‏‏.‏ قال الدارقطني‏:‏ كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ووهم فيه، ووهم أيضا في قوله عبيدالله بن أبي يزيد وإنما هو ابن أبي زياد القداح، والصحيح أنه موقوف، وأسند الدارقطني أيضا عن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله‏:‏ ‏(‏مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها‏)‏‏.‏ وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ قلت يا رسول الله؛ ألا أبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك من الشمس‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا، إنما هو مناخ من سبق إليه‏)‏‏.‏ وتمسك الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى‏{‏الذين أخرجوا من ديارهم‏{‏ الحج‏:‏ 40‏]‏ فأضافها إليهم‏.‏ وقال عليه السلام يوم الفتح‏:‏ ‏(‏من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏)‏‏.‏

قرأ جمهور الناس ‏{‏سواء‏{‏ بالرفع، وهو على الابتداء، و‏{‏العاكف‏{‏ خبره‏.‏ وقيل‏:‏ الخبر ‏{‏سواء‏{‏ وهو مقدم؛ أي العاكف فيه والبادي سواء؛ وهو قول أبي علي، والمعنى‏:‏ الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا العاكف فيه والبادي سواء‏.‏ وقرأ حفص عن عاصم ‏{‏سواء‏{‏ بالنصب، وهي قراءة الأعمش‏.‏ وذلك يحتمل أيضا وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون مفعولا ثانيا لجعل، ويرتفع ‏{‏العاكف‏{‏ به لأنه مصدر، فأعمل عمل اسم الفاعل لأنه في معنى مستو‏.‏ والوجه الثاني‏:‏ أن يكون حالا من الضمير في جعلناه‏.‏ وقرأت فرقة ‏{‏سواء‏{‏ بالنصب ‏{‏العاكف‏{‏ بالخفض، و‏{‏البادي‏{‏ عطفا على الناس، التقدير‏:‏ الذي جعلناه للناس العاكف والبادي‏.‏ وقراءة ابن كثير في الوقف والوصل بالياء، ووقف أبو عمرو بغير ياء ووصل بالياء‏.‏ وقرأ نافع بغير ياء في الوصل والوقف‏.‏ وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام، واختلفوا في مكة؛ وقد ذكرناه‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن يرد فيه بإلحاد بظلم‏{‏ شرط، وجوابه ‏{‏نذقه من عذاب أليم‏{‏‏.‏ والإلحاد في اللغة‏:‏ الميل؛ إلا أن الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد‏.‏ واختلف في الظلم؛ فروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس ‏(‏‏{‏ومن يرد فيه بإلحاد بظلم‏{‏ قال‏:‏ الشرك‏)‏‏.‏ وقال عطاء‏:‏ الشرك والقتل‏.‏ وقيل‏:‏ معناه صيد حمامه، وقطع شجره؛ ودخول غير محرم‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ ‏(‏كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان‏:‏ لا والله‏!‏ وبلى والله‏!‏ وكلا والله‏!‏ ولذلك كان له فسطاطان، أحدهما في الحل والآخر في الحرم؛ فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل، صيانة للحرم عن قولهم كلا والله وبلى والله، حين عظم الله الذنب فيه‏)‏‏.‏ وكذلك كان لعبدالله بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، وإذا أراد أن يصلي صلى في الحرم، فقيل له في ذلك فقال‏:‏ إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول كلا والله وبلى والله، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فتكون المعصية معصيتين، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام؛ وهكذا الأشهر الحرم سواء‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وروى أبو داود عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه‏)‏‏.‏ وهو قول عمر بن الخطاب‏.‏ والعموم يأتي على هذا كله‏.‏

ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله‏.‏ وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا‏:‏ لو هم رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو ‏(‏بعدن أبين‏)‏ لعذبه الله‏.‏

قلت‏:‏ هذا صحيح، وقد جاء هذا المعنى في سورة ‏{‏ن والقلم‏{‏ القلم‏:‏ 1‏]‏ مبينا، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

الباء في ‏{‏بإلحاد‏{‏ زائدة كزيادتها في قوله تعالى‏{‏تنبت بالدهن‏}‏المؤمنون‏:‏20‏]‏؛ وعليه حملوا قول الشاعر‏:‏

نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

أراد‏:‏ نرجو الفرج‏.‏ وقال الأعشى‏:‏

ضمنت برزق عيالنا أرماحنا

أي رزق‏:‏ وقال آخر‏:‏

ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد

أي ما لاقت؛ والباء زائدة، وهو كثير‏.‏ وقال الفراء‏:‏ سمعت أعرابيا وسألته عن شيء فقال‏:‏ أرجو بذاك، أي أرجو ذاك‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

بواد يمان ينبت الشث صدرة وأسفله بالمرخ والشبهان

أي المرخ‏.‏ وهو قول الأخفش، والمعنى عنده‏:‏ ومن يرد فيه إلحادا بظلم‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد، والباء مع أن تدخل وتحذف‏.‏ ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ ومن برد الناس فيه بإلحاد‏.‏ وهذا الإلحاد والظلم يجمع المعاصي من الكفر إلى الصغائر؛ فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه‏.‏ ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة‏.‏ هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم‏.‏ وقد ذكرناه آنفا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 26 ‏)‏

‏{‏وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت‏{‏ أي واذكر إذ بوأنا لإبراهيم؛ يقال‏:‏ بوأته منزلا وبوأت له‏.‏ كما يقال‏:‏ مكنتك ومكنت لك؛ فاللام في قوله‏{‏لإبراهيم‏{‏ صلة للتأكيد؛ كقوله‏{‏ردف لكم‏}‏النمل‏:‏ 72‏]‏، وهذا قول الفراء‏.‏ وقيل‏{‏بوأنا لإبراهيم مكان البيت‏{‏ أي أريناه أصله ليبنيه، وكان قد درس بالطوفان وغيره، فلما جاءت مدة إبراهيم عليه السلام أمره الله ببنيانه، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرا، فبعث الله ريحا فكشفت عن أساس آدم عليه السلام؛ فرتب قواعده عليه؛ حسبما تقدم بيانه في ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ وقيل‏{‏بوأنا‏{‏ نازلة منزلة فعل يتعدى باللام؛ كنحو جعلنا، أي جعلنا لإبراهيم مكان البيت مبوأ‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

كم من أخ لي ماجد بوأته بيدي لحدا

‏{‏أن لا تشرك‏{‏ هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام في قول الجمهور‏.‏ وقرأ عكرمة ‏{‏أن لا يشرك‏{‏ بالياء، على نقل معنى القول الذي قيل له‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة، بمعنى لئلا يشرك‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏أن‏{‏ مخففة من الثقيلة‏.‏ وقيل مفسرة‏.‏ وقيل زائدة؛ مثل ‏{‏فلما أن جاء البشير‏}‏يوسف‏:‏ 96‏]‏‏.‏ وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت؛ أي هذا كان الشرط على أبيكم ممن بعده وأنتم، فلم تفوا بل أشركتم‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الخطاب من قول ‏{‏أن لا تشرك‏{‏ لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج‏.‏ والجمهور على أن ذلك لإبراهيم؛ وهو الأصح‏.‏ وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء‏.‏ وقيل‏:‏ عنى به التطهير عن الأوثان؛ كما قال تعالى‏{‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان‏}‏الحج‏:‏ 30‏]‏؛ وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى نزه بيتي عن أن يعبد فيه صنم‏.‏ وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه‏.‏ وقد مضى ما للعلماء في تنزيه المسجد الحرام وغيره من المساجد بما فيه كفاية في سورة ‏{‏التوبة‏{‏‏.‏ والقائمون هم المصلون‏.‏ وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها، وهو القيام والركوع والسجود‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 27 ‏)‏

‏{‏وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأذن في الناس بالحج‏{‏ قرأ جمهور الناس ‏{‏وأذن‏{‏ بتشديد الذال‏.‏ وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيصن ‏{‏وآذن‏{‏ بتخفيف الذال ومد الألف‏.‏ ابن عطية‏:‏ وتصحف هذا على ابن جني، فإنه حكى عنهما ‏{‏وآذن‏{‏ على أنه فعل ماض، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفا على ‏{‏بوأنا‏{‏‏.‏ والأذان الإعلام، وقد تقدم في ‏{‏التوبة‏{‏‏.‏

لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل له‏:‏ أذن في الناس بالحج، قال‏:‏ يا رب‏!‏ وما يبلغ صوتي‏؟‏ قال‏:‏ أذن وعلي الإبلاغ؛ فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح‏:‏ يا أيها الناس‏!‏ إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار، فحجوا؛ فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء‏:‏ لبيك اللهم لبيك‏!‏ فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة؛ إن أجاب مرة فمرة، وإن أجاب مرتين فمرتين؛ وجرت التلبية على ذلك؛ قاله ابن عباس وابن جبير‏.‏ وروي عن أبي الطفيل قال قال لي ابن عباس‏:‏ ‏(‏أتدري ما كان أصل التلبية‏؟‏ قلت لا‏!‏ قال‏:‏ لما أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى؛ فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شيء‏:‏ لبيك اللهم لبيك‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن الخطاب لإبراهيم عليه السلام تم عند قوله ‏{‏السجود‏{‏، ثم خاطب الله عز وجل محمدا عليه الصلاة والسلام فقال ‏{‏وأذن في الناس بالحج‏{‏ أي أعلمهم أن عليهم الحج‏.‏ وقول ثالث‏:‏ إن الخطاب من قوله ‏{‏أن لا تشرك‏{‏ مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا قول أهل النظر؛ لأن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك‏.‏ وههنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو ‏{‏أن لا تشرك بي‏{‏ بالتاء، وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم عليه السلام غائب، فالمعنى على هذا‏:‏ وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله تعالى وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده‏.‏ وقرأ جمهور الناس ‏{‏بالحج‏{‏ بفتح الحاء‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها‏.‏ وقيل‏:‏ إن نداء إبراهيم من جملة ما أمر به من شرائع الدين‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏يأتوك رجالا وعلى كل ضامر‏{‏ وعده إجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، وإنما قال ‏{‏يأتوك‏{‏ وإن كانوا يأتون الكعبة لأن المنادي إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجا فكأنما أتى إبراهيم؛ لأنه أجاب نداءه، وفيه تشريف إبراهيم‏.‏ ابن عطية‏{‏رجالا‏{‏ جمع راجل مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب‏.‏ وقيل‏:‏ الرجال جمع رجل، والرجل جمع راجل؛ مثل تجار وتجر وتاجر، وصحاب وصحب وصاحب‏.‏ وقد يقال في الجمع‏:‏ رجال، بالتشديد؛ مثل كافر وكفار‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق وعكرمة ‏{‏رجالا‏{‏ بضم الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع، ورويت عن مجاهد‏.‏ وقرأ مجاهد ‏{‏رجالى‏{‏ على وزن فعالى؛ فهو مثل كسالى‏.‏ قال النحاس‏:‏ في جمع راجل خمسة أوجه، ورجالة مثل ركاب، وهو الذي روي عن عكرمة، ورجال مثل قيام، ورجلة، ورجل، ورجالة‏.‏ والذي روي عن مجاهد رجالا غير معروف، والأشبه به أن يكون غير منون مثل كسالى وسكارى، ولو نون لكان على فعال، وفعال في الجمع قليل‏.‏ وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي‏.‏ ‏{‏وعلى كل ضامر يأتين‏{‏ لأن معنى ‏{‏ضامر‏{‏ معنى ضوامر‏.‏ قال الفراء‏:‏ ويجوز ‏{‏يأتي‏{‏ على اللفظ‏.‏ والضامر‏:‏ البعير المهزول الذي أتعبه السفر؛ يقال‏:‏ ضمر يضمر ضمورا؛ فوصفها الله تعالى بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة‏.‏ وذكر سبب الضمور فقال‏{‏يأتين من كل فج عميق‏{‏ أي أثر فيها طول السفر‏.‏ ورد الضمير إلى الإبل تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها؛ كما قال‏{‏والعاديات ضبحا‏}‏العاديات‏:‏ 1‏]‏ في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في سبيل الله‏.‏

قال بعضهم‏:‏ إنما قال ‏{‏رجالا‏{‏ لأن الغالب خروج الرجال إلى الحج دون الإناث؛ فقول ‏{‏رجالا‏{‏ من قولك‏:‏ هذا رجل؛ وهذا فيه بعد؛ لقوله ‏{‏وعلى كل ضامر‏{‏ يعني الركبان، فدخل فيه الرجال والنساء‏.‏ ولما قال تعالى‏{‏رجالا‏{‏ وبدأ بهم دل ذلك على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏ما آسى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشيا، فإني سمعت الله عز وجل يقول ‏{‏يأتوك رجالا‏{‏‏)‏‏.‏ وقال ابن أبي نجيح‏:‏ حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين‏.‏ وقرأ أصحاب ابن مسعود ‏{‏يأتون‏{‏ وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحاك، والضمير للناس‏.‏

لا خلاف في جواز‏.‏ الركوب والمشي، واختلفوا في الأفضل منهما؛ فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكثرة النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب‏.‏ وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل لما فيه من المشقة على النفس، ولحديث أبي سعيد قال‏:‏ حج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، وقال‏:‏ ‏(‏اربطوا أوساطكم بأزركم‏)‏ ومشى خلط الهرولة؛ خرجه ابن ماجه في سننه‏.‏ ولا خلاف في أن الركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل؛ للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

استدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط‏.‏ قال مالك في الموازية‏:‏ لا أسمع للبحر ذكرا، وهذا تأنس، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه؛ وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس في السفن؛ ولابد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلا وإما على ضامر؛ فإنما ذكرت حالتا الوصول؛ وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوي‏.‏ فأما إذا اقترن به عدو وخوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصا، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاما‏.‏ ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشيء من هذه الأعذار؛ وهذا ضعيف‏.‏

قلت‏:‏ وأضعف من ضعيف، وقد مضى في ‏{‏البقرة‏{‏ بيانه‏.‏ والفج‏:‏ الطريق الواسعة، والجمع فجاج‏.‏ وقد مضى في ‏{‏الأنبياء‏{‏‏.‏ والعميق معناه البعيد‏.‏ وقراءة الجماعة ‏{‏يأتين‏{‏‏.‏ وقرأ أصحاب عبدالله ‏{‏يأتون‏{‏ وهذا للركبان و‏{‏يأتين‏{‏ للجمال؛ كأنه قال‏:‏ وعلى إبل ضامرة يأتين ‏{‏من كل فج عميق‏{‏ أي بعيد؛ ومنه بئر عميقة أي بعيدة القعر؛ ومنه‏:‏

وقاتم الأعماق خاوي المخترق

واختلفوا في الواصل إلى البيت، هل يرفع يديه عند رؤيته أم لا؛ فروى أبو داود قال‏:‏ سئل جابر بن عبدالله عن الرجل يرى البيت ويرفع يديه فقال‏:‏ ما كنت أرى أن أحدا يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نكن نفعله‏.‏ وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ترفع الأيدي في سبع مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت والصفا والمروة والموقفين والجمرتين‏)‏‏.‏ وإلى حديث ابن عباس هذا ذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وضعفوا حديث جابر؛ لأن مهاجرا المكي راوية مجهول‏.‏ وكان ابن عمر يرفع يديه عند رؤية البيت‏.‏ وعن ابن عباس مثله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 28 ‏:‏ 29 ‏)‏

‏{‏ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير، ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق‏}‏

قوله تعالى‏{‏ليشهدوا‏{‏ أي أذن بالحج يأتوك رجالا وركبانا ليشهدوا؛ أي ليحضروا‏.‏ والشهود الحضور‏.‏ ‏{‏منافع لهم‏{‏ أي المناسك، كعرفات والمشعر الحرام‏.‏ وقيل المغفرة‏.‏ وقيل التجارة‏.‏ وقيل هو عموم؛ أي ليحضروا منافع لهم، أي ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة؛ قال مجاهد وعطاء واختاره ابن العربي؛ فإنه يجمع ذلك كله من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وأخرى‏.‏ ولا خلاف في أن المراد بقوله‏{‏ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم‏}‏البقرة‏:‏ 198‏]‏ التجارة‏.‏ ‏{‏ويذكروا اسم الله في أيام معلومات‏{‏ قد مضى في ‏{‏البقرة‏{‏ الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات‏.‏ والمراد بذكر اسم الله ذكر التسمية عند الذبح والنحر؛ مثل قولك‏:‏ باسم الله والله أكبر، اللهم منك ولك‏.‏ ومثل قولك عند الذبح ‏{‏إن صلاتي ونسكي‏}‏الأنعام‏:‏162‏]‏ الآية‏.‏ وكان الكفار يذبحون على أسماء أصنامهم، فبين الرب أن الواجب الذبح على اسم الله؛ وقد مضى في ‏{‏الأنعام‏{‏‏.‏

واختلف العلماء في وقت الذبح يوم النحر؛ فقال مالك رضي الله عنه‏:‏ بعد صلاة الإمام وذبحه؛ إلا أن يؤخر تأخيرا يتعدى فيه فيسقط الاقتداء به‏.‏ وراعى أبو حنيفة الفراغ من الصلاة دون ذبح‏.‏ والشافعي دخول وقت الصلاة ومقدار ما توقع فيه الخطبتين؛ فاعتبر الوقت دون الصلاة، هذه رواية المزني عنه، وهو قول الطبري‏.‏ وذكر الربيع عن البويطي قال قال الشافعي‏:‏ ولا يذبح أحد حتى يذبح الإمام إلا أن يكون ممن لا يذبح، فإذا صلى وفرغ من الخطبة حل الذبح‏.‏ وهذا كقول مالك‏.‏ وقال أحمد‏:‏ إذا انصرف الإمام فاذبح‏.‏ وهو قول إبراهيم‏.‏ وأصح هذه الأقوال قول مالك؛ لحديث جابر بن عبدالله قال‏:‏ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم خرجه مسلم والترمذي وقال‏:‏ وفي الباب عن جابر وجندب وأنس وعويمر بن أشقر وابن عمر وأبي زيد الأنصاري، وهذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم ألا يضحى بالمصر حتى يصلي الإمام‏.‏ وقد احتج أبو حنيفة بحديث البراء، وفيه‏:‏ ‏(‏ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين‏)‏‏.‏ خرجه مسلم أيضا‏.‏ فعلق الذبح على الصلاة ولم يذكر الذبح، وحديث جابر يقيده‏.‏ وكذلك حديث البراء أيضا، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا‏)‏ الحديث‏.‏ وقال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ لا أعلم خلافا بين العلماء أن من ذبح قبل الصلاة وكان من أهل المصر أنه غير مضح؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم‏)‏‏.‏

وأما أهل البوادي ومن لا أمام له فمشهور مذهب مالك يتحرى وقت ذبح الإمام، أو أقرب الأئمة إليه‏.‏ وقال ربيعة وعطاء فيمن لا إمام له‏:‏ إن ذبح قبل طلوع الشمس لم يجزه، ويجزيه إن ذبح بعده‏.‏ وقال أهل الرأي‏:‏ يجزيهم من بعد الفجر‏.‏ وهو قول ابن المبارك، ذكره عنه الترمذي‏.‏ وتمسكوا بقوله تعالى‏{‏ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏{‏، فأضاف النحر إلى اليوم‏.‏ وهل اليوم من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس، قولان‏.‏ ولا خلاف أنه لا يجزى ذبح الأضحية قبل طلوع الفجر من يوم النحر‏.‏

واختلفوا كم أيام النحر‏؟‏ فقال مالك‏:‏ ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده‏.‏ وبه قال أبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل، وروي ذلك عن أبي هريرة وأنس بن مالك من غير اختلاف عنهما‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ أربعة، يوم النحر وثلاثة بعده‏.‏ وبه قال الأوزاعي، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وروي عنهم أيضا مثل قول مالك وأحمد‏.‏ وقيل‏:‏ ‏(‏هو يوم النحر خاصة وهو العاشر من ذي الحجة‏)‏؛ وروي عن ابن سيرين‏.‏ وعن سعيد بن جبير وجابر بن زيد أنهما قالا‏:‏ النحر في الأمصار يوم واحد وفي منى ثلاثة أيام‏.‏ وعن الحسن البصري في ذلك ثلاث روايات‏:‏ إحداها كما قال مالك، والثانية كما قال الشافعي، والثالثة إلى آخر يوم من ذي الحجة؛ فإذا أهل هلال المحرم فلا أضحى‏.‏

قلت‏:‏ وهو قول سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبدالرحمن، ورويا حديثا مرسلا مرفوعا خرجه الدارقطني‏:‏ الضحايا إلى هلال ذي الحجة؛ ولم يصح، ودليلنا قوله تعالى‏{‏في أيام معلومات‏{‏ الآية، وهذا جمع قلة؛ لكن المتيقن منه الثلاثة، وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به‏.‏ قال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم أضحى، وأجمعوا أن لا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة، ولا يصح عندي في هذه إلا قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ قول مالك والكوفيين‏.‏ والآخر‏:‏ قول الشافعي والشاميين؛ وهذان القولان مرويان عن الصحابة فلا معنى للاشتغال بما خالفهما؛ لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة ولا في قول الصحابة، وما خرج عن هذين فمتروك لهما‏.‏ وقد روي عن قتادة قول سادس، وهو أن الأضحى يوم النحر وستة أيام بعده؛ وهذا أيضا خارج عن قول الصحابة فلا معنى له‏.‏ واختلفوا في ليالي النحر هل تدخل مع الأيام فيجوز فيها الذبح أولا؛ فروي عن مالك في المشهور أنها لا تدخل فلا يجوز الذبح بالليل‏.‏ وعليه جمهور أصحابه وأصحاب الرأي؛ لقوله تعالى‏{‏ويذكروا اسم الله في أيام‏{‏ فذكر الأيام، وذكر الأيام دليل على أن الذبح في الليل لا يجوز‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور‏:‏ الليالي داخلة في الأيام ويجزى الذبح فيها‏.‏ وروي عن مالك وأشهب نحوه، ولأشهب تفريق بين الهدي والضحية، فأجاز الهدي ليلا ولم يجز الضحية ليلا‏.‏ قوله تعالى‏{‏على ما رزقهم‏{‏ أي على ذبح ما رزقهم‏.‏ ‏{‏من بهيمة الأنعام‏{‏ والأنعام هنا الإبل والبقر والغنم‏.‏ وبهيمة الأنعام هي الأنعام، فهو كقولك صلاة الأولى، ومسجد الجامع‏.‏

قوله تعالى‏{‏فكلوا منها‏{‏ أمر معناه الندب عند الجمهور‏.‏ ويستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق بالأكثر، مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل‏.‏ وشذت طائفة فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية‏.‏ ولقول عليه السلام‏:‏ ‏(‏فكلوا وادخروا وتصدقوا‏)‏‏.‏ قال الكيا‏:‏ قوله تعالى‏{‏فكلوا منها وأطعموا‏{‏ يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه ولا التصدق بجميعه‏.‏

دماء الكفارات لا يأكل منها أصحابها‏.‏ ومشهور مذهب مالك رضي الله عنه أنه لا يأكل من ثلاث‏:‏ جزاء الصيد، ونذر المساكين وفدية الأذى، ويأكل مما سوى ذلك إذا بلغ محله واجبا كان أو تطوعا، ووافقه على ذلك جماعة من السلف وفقهاء الأمصار‏.‏

فإن أكل مما منع منه فهل يغرم قدر ما أكل أو يغرم هديا كاملا؛ قولان في مذهبنا، وبالأول قال ابن الماجشون‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهو الحق، لا شيء عليه غيره‏.‏ وكذلك لو نذر هديا للمساكين فيأكل منه بعد أن بلغ محله لا يغرم إلا ما أكل - خلافا للمدونة - لأن النحر قد وقع، والتعدي إنما هو على اللحم، فيغرم قدر ما تعدى فيه‏.‏

قوله تعالى‏{‏وليوفوا نذورهم‏{‏ يدل على وجوب إخراج النذر إن كان دما أو هديا أو غيره، ويدل ذلك على أن النذر لا يجوز أن يأكل منه وفاء بالنذر، وكذلك جزاء الصيد وفدية الأذى؛ لأن المطلوب أن يأتي به كاملا من غير نقص لحم ولا غيره، فإن أكل من ذلك كان عليه هدي كامل‏.‏ والله أعلم‏.‏

هل يغرم قيمة اللحم أو يغرم طعاما؛ ففي كتاب محمد عن عبدالملك أنه يغرم طعاما‏.‏ والأول أصح؛ لأن الطعام إنما هو في مقابلة الهدي كله عند تعذره عبادة، وليس حكم التعدي حكم العبادة‏.‏

فإن عطب من هذا الهدي المضمون الذي هو جزاء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين شيء قبل محله أكل منه صاحبه وأطعم منه الأغنياء والفقراء ومن أحب، ولا يبيع من لحمه ولا جلده ولا من قلائده شيئا‏.‏ قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ لأن الهدي المضمون إذا عطب قبل أن يبلغ محله كان عليه بدله، ولذلك جاز أن يأكل منه صاحبه ويطعم‏.‏ فإذا عطب الهدي التطوع قبل أن يبلغ محله لم يجز أن يأكل منه ولا يطعم؛ لأنه لما لم يكن عليه بدله خيف أن يفعل ذلك بالهدي وينحر من غير أن يعطب، فاحتيط على الناس، وبذلك مضى العمل‏.‏ وروى أبو داود عن ناجية الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بهدي وقال‏:‏ ‏(‏إن عطب منها شيء فانحره ثم اصبغ نعله في دمه ثم خل بينه وبين الناس‏)‏‏.‏ وبهذا الحديث قال مالك والشافعي في أحد قوليه، وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي ومن اتبعهم في الهدي التطوع‏:‏ لا يأكل منها سائقها شيئا، ويخلى بينها وبين الناس يأكلونها‏.‏ وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك‏)‏‏.‏ وبظاهر هذا النهي قال ابن عباس والشافعي في قوله الآخر، واختاره ابن المنذر، فقالا‏:‏ لا يأكل منها ولا أحد من أهل رفقته‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ قوله عليه السلام ‏(‏ولا يأكل منها أحد ولا أحد من أهل رفقتك‏)‏ لا يوجد إلا في حديث ابن عباس‏.‏ وليس ذلك في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية‏.‏ وهو عندنا أصح من حديث ابن عباس، وعليه العمل عند الفقهاء‏.‏ ويدخل في قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏خل بينها وبين الناس‏)‏ أهل رفقته وغيرهم‏.‏ وقال الشافعي وأبو ثور‏:‏ ما كان من الهدي أصله واجبا فلا يأكل منه، وما كان تطوعا ونسكا أكل منه وأهدى وادخر وتصدق‏.‏ والمتعة والقرآن عنده نسك‏.‏ ونحوه مذهب الأوزاعي‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ يأكل من هدي المتعة والتطوع، ولا يأكل مما سوى ذلك مما وجب بحكم الإحرام‏.‏ وحكي عن مالك‏:‏ لا يأكل من دم الفساد‏.‏ وعلى قياس هذا لا يأكل من دم الجبر؛ كقول الشافعي والأوزاعي‏.‏ تمسك مالك بأن جزاء الصيد جعله الله للمساكين بقوله تعالى‏{‏أو كفارة طعام مساكين‏}‏المائدة‏:‏ 95‏]‏‏.‏ وقال في فدية الأذى‏{‏ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏}‏البقرة‏:‏ 196‏]‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة‏:‏ ‏(‏أطعم ستة مساكين مدين لكل مسكين أو صم ثلاثة أيام أو انسك شاة‏)‏‏.‏ ونذر المساكين مصرح به، وأما غير ذلك من الهدايا فهو باق على أصل قوله‏{‏والبدن جعلناها لكم من شعائر الله‏{‏ إلى قوله ‏{‏فكلوا منها‏}‏الحج‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه من الهدي الذي جاء به وشربا من مرقه‏.‏ وكان عليه السلام قارنا في أصح الأقوال والروايات؛ فكان هديه على هذا واجبا، فما تعلق به أبو حنيفة غير صحيح‏.‏ والله أعلم‏.‏ وإنما أذن الله سبحانه من الأكل من الهدايا لأجل أن العرب كانت لا ترى أن تأكل من نسكها، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم؛ فلا جرم كذلك شرع وبلغ، وكذلك فعل حين أهدى وأحرم صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏فكلوا منها‏{‏ قال بعض العلماء‏:‏ قوله تعالى‏{‏فكلوا منها‏{‏ ناسخ لفعلهم، لأنهم كانوا يحرمون لحوم الضحايا على أنفسهم ولا يأكلون منها - كما قلناه في الهدايا - فنسخ الله ذلك بقوله‏{‏فكلوا منها‏{‏ وبقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من ضحى فليأكل من أضحيته‏)‏ ولأنه عليه السلام أكل من أضحيته وهديه‏.‏ وقال الزهري‏:‏ من السنة أن تأكل أولا من الكبد‏.‏

ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب أن يتصدق بالثلث ويطعم الثلث ويأكل هو وأهله الثلث‏.‏ وقال ابن القاسم عن مالك‏:‏ ليس عندنا في الضحايا قسم معلوم موصوف‏.‏ قال مالك في حديثه‏:‏ وبلغني عن ابن مسعود، وليس عليه العمل‏.‏ روى الصحيح وأبو داود قال‏:‏ ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ثم قال‏:‏ ‏(‏يا ثوبان، أصلح لحم هذه الشاة‏)‏ قال‏:‏ فما زلت أطعمه منها حتى قدم المدينة‏.‏ وهذا نص في الفرض‏.‏ واختلف قول الشافعي؛ فمرة قال‏:‏ يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله تعالى‏{‏فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير‏{‏ فذكر شخصين‏.‏ وقال مرة‏:‏ يأكل ثلثا ويهدي ثلثا ويطعم ثلثا، لقوله تعالى‏{‏فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر‏}‏الحج‏:‏ 36‏]‏ فذكر ثلاثة‏.‏

المسافر يخاطب بالأضحية كما يخاطب بها الحاضر؛ إذ الأصل عموم الخطاب بها، وهو قول كافة العلماء‏.‏ وخالف في ذلك أبو حنيفة والنخعي، وروي عن علي؛ والحديث حجة عليهم‏.‏ واستثنى مالك من المسافرين الحاج بمنى، فلم ير عليه أضحية، وبه قال النخعي‏.‏ وروي ذلك عن الخليفتين أبي بكر وعمر وجماعة من السلف رضي الله عنهم؛ لأن الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدي‏.‏ فإذا أراد أن يضحي جعله هديا، والناس غير الحاج إنما أمروا بالأضحية ليتشبهوا بأهل منى فيحصل لهم حظ من أجرهم‏.‏

اختلف العلماء في الادخار على أربعة أقوال‏.‏ روي عن علي وابن عمر رضي الله عنهما من وجه صحيح أنه لا يدخر من الضحايا بعد ثلاث‏.‏ وروياه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي‏.‏ وقالت جماعة‏:‏ ما روي من النهي عن الادخار منسوخ؛ فيدخر إلى أي وقت أحب‏.‏ وبه قال أبو سعيد الخدري وبريدة الأسلمي، وقالت فرقة‏:‏ يجوز الأكل منها مطلعا‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إن كانت بالناس حاجة إليها فلا يدخر، لأن النهي إنما كان لعلة وهي قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت‏)‏ ولما ارتفعت ارتفع المنع المتقدم لارتفاع موجبه، لا لأنه منسوخ‏.‏ وتنشأ هنا مسألة أصولية‏:‏ وهي الفرق بين رفع الحكم بالنسخ ورفعه لارتفاع علته‏.‏ أعلم أن المرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدا، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم لعود العلة؛ فلو قدم على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى؛ ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الأحاديث الواردة في هذا الباب بالمنع والإباحة صحاح ثابتة‏.‏ وقد جاء المنع والإباحة معا؛ كما هو منصوص في حديث عائشة وسلمة بن الأكوع وأبي سعيد الخدري رواها الصحيح‏.‏ وروى الصحيح عن أبي عبيد مولى ابن أزهر أنه شهد العيد مع عمر بن الخطاب قال‏:‏ ثم صليت العيد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ قال‏:‏ فصلى لنا قبل الخطبة ثم خطب الناس فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوها‏.‏ وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث‏.‏ قال سالم‏:‏ فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث‏.‏ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنا كنا نهيناكم عن لحومها فوق ثلاث لكي تسعكم جاء الله بالسعة فكلوا وادخروا واتجروا إلا أن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل‏)‏‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ وهذا القول أحسن ما قيل في هذا حتى تتفق الأحاديث ولا تضاد، ويكون قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعثمان محصور، لأن الناس كانوا في شدة محتاجين، ففعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمت الدافة‏.‏ والدليل على هذا ما حدثنا إبراهيم بن شريك قال‏:‏ حدثنا أحمد قال حدثنا ليث قال حدثني الحارث بن يعقوب عن يزيد بن أبي يزيد عن امرأته أنها سألت عائشة رضي الله عنها عن لحوم الأضاحي فقالت‏:‏ قدم علينا علي بن أبي طالب من سفر فقدمنا إليه منه، فأبى أن يأكل حتى يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال‏{‏كل من ذي الحجة إلى ذي الحجة‏)‏‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ من قال بالنهي عن الادخار بعد ثلاث لم يسمع الرخصة‏.‏ ومن قال بالرخصة مطلقا لم يسمع النهي عن الادخار‏.‏ ومن قال بالنهي والرخصة سمعهما جميعا فعمل بمقتضاهما‏.‏ والله أعلم‏.‏ وسيأتي في سورة ‏{‏الكوثر‏{‏ الاختلاف في وجوب الأضحية وندبيتها وأنها ناسخة لكل ذبح تقدم، إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأطعموا البائس الفقير‏{‏ ‏{‏الفقير‏{‏ من صفة البائس، وهو الذي ناله البؤس وشدة الفقر؛ يقال‏:‏ بئس يبأس بأسا إذا افتقر؛ فهو بائس‏.‏ وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم يكن فقيرا؛ ومنه قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لكن البائس سعد بن خولة‏)‏‏.‏ ويقال‏:‏ رجل بئيس أي شديد‏.‏ وقد بؤس يبؤس بأسا إذ اشتد؛ ومنه قوله تعالى‏{‏وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس‏}‏الأعراف‏:‏ 165‏]‏ أي شديد‏.‏ وكلما كان التصدق بلحم الأضحية أكثر كان الأجر أوفر‏.‏ وفي القدر الذي يجوز أكله خلاف قد ذكرناه؛ فقيل النصف؛ لقوله‏{‏فكلوا‏{‏، ‏{‏وأطعموا‏{‏ وقيل الثلثان؛ لقوله‏:‏ ‏(‏ألا فكلوا وادخروا واتجروا‏)‏ أي اطلبوا الأجر بالإطعام‏.‏ واختلف في الأكل والإطعام؛ فقيل واجبان‏.‏ وقيل مستحبان‏.‏ وقيل بالفرق بين الأكل والإطعام؛ فالأكل مستحب والإطعام واجب؛ وهو قول الشافعي‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم ليقضوا تفثهم‏{‏ أي ثم ليقضوا بعد نحر الضحايا والهدايا ما بقي عليهم من أمر الحج؛ كالحلق ورمي الجمار وإزالة شعث ونحوه‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ أي ليزيلوا عنهم أدرانهم‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ التفث الأخذ من الشارب وقص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة؛ وهذا عند الخروج من الإحرام‏.‏ وقال النضر بن شميل‏:‏ التفث في كلام العرب إذهاب الشعث وسمعت الأزهري يقول‏:‏ التفث في كلام العرب لا يعرف إلا من قول ابن عباس وأهل التفسير‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ‏(‏هو إزالة قشف الإحرام‏.‏ وقيل‏:‏ التفث مناسك الحج كلها‏)‏، رواه ابن عمر وابن عباس‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ لو صح عنهما لكان حجة لشرف الصحبة والإحاطة باللغة، قال‏:‏ وهذه اللفظة غريبة لم يجد أهل العربية فيها شعرا ولا أحاطوا بها خبرا؛ لكني تتبعت التفث لغة فرأيت أبا عبيدة معمر بن المثنى قال‏:‏ إنه قص الأظفار وأخذ الشارب، وكل ما يحرم على المحرم إلا النكاح‏.‏ قال‏:‏ ولم يجيء فيه شعر يحتج به‏.‏ وقال صاحب العين‏:‏ التفث هو الرمي والحلق والتقصير والذبح وقص الأظفار والشارب والإبط‏.‏ وذكر الزجاج والفراء نحوه، ولا أراه أخذوه إلا من قول العلماء‏.‏ وقال قطرب‏:‏ تفث الرجل إذا كثر وسخه‏.‏ قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا

وما أشار إليه قطرب هو الذي قال ابن وهب عن مالك، وهو الصحيح في التفث‏.‏ وهذه صورة إلقاء التفث لغة، وأما حقيقته الشرعية فإذا نحر الحاج أو المعتمر هديه وحلق رأسه وأزال وسخه وتطهر وتنقى ولبس فقد أزال تفثه ووفى نذره؛ والنذر ما لزم الإنسان والتزمه‏.‏ قلت‏:‏ ما حكاه عن قطرب وذكر من الشعر قد ذكره في تفسيره الماوردي وذكر بيتا آخر فقال‏:‏

قضوا تفثا ونحبا ثم ساروا إلى نجد وما انتظروا عليا

وقال الثعلبي‏:‏ وأصل التفث في اللغة الوسخ؛ تقول العرب للرجل تستقذره‏:‏ ما أتفثك؛ أي ما أوسخك وأقذرك‏.‏ قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا وينزعوا عنهم قملا وصئبانا

الماوردي‏:‏ قيل لبعض الصلحاء ما المعنى في شعث المحرم‏؟‏ قال‏:‏ ليشهد الله تعالى منك الإعراض عن العناية بنفسك فيعلم صدقك في بذلها لطاعته‏.‏

قوله تعالى‏{‏وليوفوا نذورهم‏{‏ أمروا بوفاء النذر مطلقا إلا ما كان معصية؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا وفاء لنذر في معصية الله‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه‏)‏ ‏{‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏{‏ الطواف المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج‏.‏ قال الطبري‏:‏ لا خلاف بين المتأولين في ذلك‏.‏ للحج ثلاثة أطواف‏:‏ طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع‏.‏ قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ طواف القدوم سنة، وهو ساقط عن المراهق وعن المكي وعن كل من يحرم بالحج من مكة‏.‏ قال‏:‏ والطواف الواجب الذي لا يسقط بوجه من الوجوه، وهو طواف الإفاضة الذي يكون بعد عرفة؛ قال الله تعالى‏{‏ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق‏{‏‏.‏ قال‏:‏ فهذا هو الطواف المفترض في كتاب الله عز وجل، وهو الذي يحل به الحاج من إحرامه كله‏.‏ قال الحافظ أبو عمر‏:‏ ما ذكره إسماعيل في طواف الإفاضة هو قول مالك عند أهل المدينة، وهي رواية ابن وهب وابن نافع وأشهب عنه‏.‏ وهو قول جمهور أهل العلم من فقهاء أهل الحجاز والعراق‏.‏ وقد روى ابن القاسم وابن عبدالحكم عن مالك أن طواف القدوم واجب‏.‏ وقال ابن القاسم في غير موضع من المدونة ورواه أيضا عن مالك‏:‏ الطواف الواجب طواف القادم مكة‏.‏ وقال‏:‏ من نسي الطواف في حين دخوله مكة أو نسي شوطا منه، أو نسي السعي أو شوطا منه حتى رجع إلى بلده ثم ذكره، فإن لم يكن أصاب النساء رجع إلى مكة حتى يطوف بالبيت ويركع ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يهدي‏.‏ وإن أصاب النساء رجع فطاف وسعى، ثم اعتمر وأهدى‏.‏ وهذا كقوله فيمن نسي طواف الإفاضة سواء‏.‏ فعلى هذه الرواية الطوافان جميعا واجبان، والسعي أيضا‏.‏ وأما طواف الصدر وهو المسمى بطواف الوداع فروى ابن القاسم وغيره عن مالك فيمن طاف طواف الإفاضة على غير وضوء‏:‏ أنه يرجع من بلده فيفيض يكون تطوع بعد ذلك‏.‏ وهذا مما أجمع عليه مالك وأصحابه، وأنه يجزيه تطوعه عن الواجب المفترض عليه من طوافه‏.‏ وكذلك أجمعوا أن من فعل في حجه شيئا تطوع به من عمل الحج، وذلك الشيء واجب في الحج قد جاز وقته، فإن تطوعه ذلك يصير للواجب لا للتطوع؛ بخلاف الصلاة‏.‏ فإذا كان التطوع ينوب عن الفرض في الحج كان الطواف لدخول مكة أحرى أن ينوب عن طواف الإفاضة، إلا ما كان من الطواف بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر أو بعده للوداع‏.‏ ورواية ابن عبدالحكم عن مالك بخلاف ذلك؛ لأن فيها أن طواف الدخول مع السعي ينوب عن طواف الإفاضة لمن رجع إلى بلده مع الهدي، كما ينوب طواف الإفاضة مع السعي لمن لم يطف ولم يسع حين دخوله مكة مع الهدي أيضا عن طواف القدوم‏.‏ ومن قال هذا قال‏:‏ إنما قيل لطواف الدخول واجب ولطواف الإفاضة واجب لأن بعضهما ينوب عن بعض، ولأنه قد روي عن مالك أنه يرجع من نسي أحدهما من بلده على ما ذكرنا، ولأن الله عز وجل لم يفترض على الحاج إلا طوافا واحدا بقوله‏{‏وأذن في الناس بالحج‏{‏، وقال في سياق الآية‏{‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏{‏ والواو عندهم في هذه الآية وغيرها لا توجب رتبة إلا بتوقيف‏.‏ وأسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال‏:‏ سألت زهيرا عن قوله تعالى‏{‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏{‏ فقال‏:‏ هو طواف الوداع‏.‏ وهذا يدل على أنه واجب، وهو أحد قولي الشافعي؛ لأنه عليه السلام رخص للحائض أن تنفر دون أن تطوفه، ولا يرخص إلا في الواجب‏.‏

اختلف المتأولون في وجه صفة البيت بالعتيق؛ فقال مجاهد والحسن‏:‏ العتيق القديم‏.‏ يقال‏:‏ سيف عتيق، وقد عتق أي قدم؛ وهذا قول يعضده النظر‏.‏ وفي الصحيح ‏(‏أنه أول مسجد وضع في الأرض‏)‏‏.‏ وقيل عتيقا لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار بالهوان إلى انقضاء الزمان؛ قال معناه ابن الزبير مجاهد‏.‏ وفي الترمذي عن عبدالله بن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار‏)‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا‏.‏ فإن ذكر ذاكر الحجاج بن يوسف ونصبه المنجنيق على الكعبة حتى كسرها قيل له‏:‏ إنما أعتقها عن كفار الجبابرة؛ لأنهم إذا أتوا بأنفسهم متمردين ولحرمة البيت غير معتقدين، وقصدوا الكعبة بالسوء فعصمت منهم ولم تنلها أيديهم، كان ذلك دلالة على أن الله عز وجل صرفهم عنها قسرا‏.‏ فأما المسلمون الذين اعتقدوا حرمتها فإنهم إن كفوا عنها لم يكن في ذلك من الدلالة على منزلتها عند الله مثل ما يكون منها في كف الأعداء؛ فقصر الله تعالى هذه الطائفة عن الكف بالنهي والوعيد، ولم يتجاوزه إلى الصرف بالإلجاء والاضطرار، وجعل الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمر‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ سمي عتيقا لأنه لم يملك موضعه قط‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ سمي عتيقا لأن الله عز وجل يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ سمي عتيقا لأنه أعتق من غرق الطوفان؛ قال ابن جبير‏.‏ وقيل‏:‏ العتيق الكريم‏.‏ والعتق الكرم‏.‏ قال طرفة يصف أذن الفرس‏:‏

مؤللتان تعرف العتق فيهما كسامعتي مذعورة وسط ربرب

وعتق الرقيق‏:‏ الخروج من ذل الرق إلى كرم الحرية‏.‏ ويحتمل أن يكون العتيق صفة مدح تقتضي جودة الشيء؛ كما قال عمر‏:‏ حملت على فرس عتيق؛ الحديث‏.‏ والقول الأول أصح للنظر والحديث الصحيح‏.‏ قال مجاهد‏:‏ خلق الله البيت قبل الأرض بألفي عام، وسمي عتيقا لهذا؛ والله أعلم‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 30 ‏:‏ 31 ‏)‏

‏{‏ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور، حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك‏{‏ يحتمل أن يكون في موضع رفع بتقدير‏:‏ فرضكم ذلك، أو الواجب ذلك‏.‏ ويحتمل أن يكون في موضع نصب بتقدير‏:‏ امتثلوا ذلك؛ ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير‏:‏

هذا وليس كمن يعيا بخطته وسط الندي إذا ما قائل نطقا

والحرمات المقصودة هنا هي أفعال الحج المشار إليها في قوله‏{‏ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم‏{‏ ويدخل في ذلك تعظيم المواضع؛ قاله ابن زيد وغيره‏.‏ ويجمع ذلك أن تقول‏:‏ الحرمات امتثال الأمر من فرائضه وسننه‏.‏ وقوله‏{‏فهو خير له عند ربه‏{‏ أي التعظيم خير له عند ربه من التهاون بشيء منها‏.‏ وقيل‏:‏ ذلك التعظيم خير من خيراته ينتفع به، وليست للتفضيل وإنما هي عدة بخير‏.‏ ‏{‏وأحلت لكم الأنعام‏{‏ أن تأكلوها؛ وهي الإبل والبقر والغنم‏.‏ ‏{‏إلا ما يتلى عليكم‏{‏ أي في الكتاب من المحرمات؛ وهي الميتة والموقوذة وأخواتها‏.‏ ولهذا اتصال بأمر الحج؛ فإن في الحج الذبح، فبين ما يحل ذبحه وأكل لحمه‏.‏ وقيل‏{‏إلا ما يتلى عليكم‏{‏ غير محلي الصيد وأنتم حرم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان‏{‏ الرجس‏:‏ الشيء القذر‏.‏ الوثن‏:‏ التمثال من خشب أو حديد أو ذهب أو فضة ونحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها‏.‏ والنصارى تنصب الصليب وتعبده وتعظمه فهو كالتمثال أيضا‏.‏ وقال عدي بن حاتم‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال‏:‏ ‏(‏ألق هذا الوثن عنك‏)‏ أي الصليب؛ وأصله من وثن الشيء أي أقام في مقامه‏.‏ وسمي الصنم وثنا لأنه ينصب ويركز في مكان فلا يبرح عنه‏.‏ يريد اجتنبوا عبادة الأوثان، روي عن ابن عباس وابن جريج‏.‏ وسماها رجسا لأنها سبب الرجز وهو العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ وصفها بالرجس، والرجس النجس فهي نجسة حكما‏.‏ وليست النجاسة وصفا ذاتيا للأعيان وإنما هي وصف شرعي من أحكام الإيمان، فلا تزال إلا بالإيمان كما لا تجوز الطهارة إلا بالماء‏.‏ ‏{‏من‏{‏ في قوله‏{‏من الأوثان‏{‏ قيل‏:‏ إنها لبيان الجنس، فيقع نهيه عن رجس الأوثان فقط، ويبقى سائر الأرجاس نهيها في غير هذا الموضع‏.‏ ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية؛ فكأنه نهاهم عن الرجس عاما ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم؛ إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس‏.‏ ومن قال إن ‏{‏من‏{‏ للتبعيض، قلب معنى الآية وأفسده‏.‏ ‏{‏واجتنبوا قول الزور‏{‏ والزور‏:‏ الباطل والكذب‏.‏ وسمي زورا لأنه أميل عن الحق؛ ومنه ‏{‏تزاور عن كهفهم‏{‏، ‏[‏الكهف‏:‏ 17‏]‏، ومدينة زوراء؛ أي مائلة‏.‏ وكل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وزور‏.‏ وفي الخبر أنه عليه السلام قام خطيبا فقال‏:‏ ‏(‏عدلت شهادة الزور الشرك بالله‏)‏ قالها مرتين أو ثلاثا‏.‏ يعني أنها قد جمعت مع عبادة الوثن في النهي عنها‏.‏

هذه الآية تضمنت الوعيد على الشهادة بالزور، وينبغي للحاكم إذا عثر على الشاهد بالزور أن يعزره وينادي عليه ليعرف لئلا يغتر بشهادته أحد‏.‏ ويختلف الحكم في شهادته إذا تاب؛ فإن كان من أهل العدالة المشهور بها المبرز فيها لم تقبل؛ لأنه لا سبيل إلى علم حاله في التوبة؛ إذ لا يستطيع أن يفعل من القربات أكثر مما هو عليه‏.‏ وإن كان دون ذلك فشمر في العبادة وزادت حاله في التقى قبل شهادته‏.‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن من أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور وقول الزور‏)‏‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت‏.‏

قوله تعالى‏{‏حنفاء لله‏{‏ معناه مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق‏.‏ ولفظة ‏{‏حنفاء‏{‏ من الأضداد تقع على الاستقامة وتقع على الميل‏.‏ و‏{‏حنفاء‏{‏ نصب على الحال‏.‏ وقيل‏{‏حنفاء‏{‏ حجاجا؛ وهذا تخصيص لا حجة معه‏.‏ ‏{‏ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء‏{‏ أي هو يوم القيامة بمنزلة من لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عن نفسه ضرا ولا عذابا؛ فهو بمنزلة من خر من السماء، فهو لا يقدر أن يدفع عن نفسه‏.‏ ومعنى ‏{‏فتخطفه الطير‏{‏ أي تقطعه بمخالبها‏.‏ وقيل‏:‏ هذا عند خروج روحه وصعود الملائكة بها إلى سماء الدنيا، فلا يفتح لها فيرمى بها إلى الأرض؛ كما في حديث البراء، وقد ذكرناه في التذكرة‏.‏ والسحيق‏:‏ البعيد؛ ومنه قوله تعالى‏{‏فسحقا لأصحاب السعير‏}‏الملك‏:‏ 11‏]‏، وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏فسحقا فسحقا‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 32 ‏:‏ 33 ‏)‏

‏{‏ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك‏{‏ فيه ثلاثة أوجه‏.‏ قيل‏:‏ يكون في موضع رفع بالابتداء، أي ذلك أمر الله‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر ابتداء محذوف‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع نصب، أي اتبعوا ذلك‏.‏ ‏{‏ومن يعظم شعائر الله‏{‏ الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم؛ ومنه شعار القوم في الحرب؛ أي علامتهم التي يتعارفون بها‏.‏ ومنه إشعار البدنة وهو الطعن في جانبها الأيمن حتى يسيل الدم فيكون علامة، فهي تسمى شعيرة بمعنى المشعورة‏.‏ فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك‏.‏ وقال قوم‏:‏ المراد هنا تسمين البدن والاهتمام بأمرها والمغالاة بها؛ قال ابن عباس ومجاهد وجماعة‏.‏ وفيه إشارة لطيفة، وذلك أن أصل شراء البدن ربما يحمل على فعل ما لا بد منه، فلا يدل على الإخلاص، فإذا عظمها مع حصول الإجزاء بما دونه فلا يظهر له عمل إلا تعظيم الشرع، وهو من تقوى القلوب‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإنها من تقوى القلوب‏{‏ الضمير في ‏{‏إنها‏{‏ عائد على الفعلة التي يتضمنها الكلام، ولو قال فإنه لجاز‏.‏ وقيل إنها راجعة إلى الشعائر؛ أي فإن تعظيم الشعائر، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه، فرجعت الكناية إلى الشعائر‏.‏ ‏{‏فإنها من تقوى القلوب‏{‏ قرئ ‏{‏القلوب‏{‏ بالرفع على أنها فاعلة بالمصدر الذي هو ‏{‏تقوى‏{‏ وأضاف التقوى إلى القلوب لأن حقيقة التقوى في القلب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في صحيح الحديث‏:‏ ‏(‏التقوى هاهنا‏)‏ وأشار إلى صدره‏.‏

قوله تعالى‏{‏لكم فيها منافع‏{‏ يعني البدن من الركوب والدر والنسل والصوف وغير ذلك، إذا لم يبعثها ربها هديا، فإذا بعثها فهو الأصل المسمى؛ قال ابن عباس‏.‏ فإذا صارت بدنا هديا فالمنافع فيها أيضا ركوبها عند الحاجة، وشرب لبنها بعد ري فصيلها‏.‏ وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏رأى رجلا يسوق بدنة فقال‏:‏ ‏(‏اركبها‏)‏ فقال‏:‏ إنها بدنة‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏اركبها‏)‏ قال‏:‏ إنها بدنة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏اركبها ويلك‏)‏ في الثانية أو الثالثة‏)‏‏.‏ وروي عن جابر بن عبدالله وسئل عن ركوب الهدي فقال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا‏)‏‏.‏ والأجل المسمى على هذا القول نحرها؛ قاله عطاء بن أبي رباح‏.‏

ذهب بعض العلماء إلى وجوب ركوب البدنة لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏اركبها‏)‏‏.‏ وممن أخذ بظاهره أحمد واسحاق وأهل الظاهر‏.‏ وروى ابن نافع عن مالك‏:‏ لا بأس بركوب البدنة ركوبا غير فادح‏.‏ والمشهور أنه لا يركبها إلا إن اضطر إليها لحديث جابر فإنه مقيد والمقيد يقضي على المطلق‏.‏ وبنحو ذلك قال الشافعي وأبو حنيفة‏.‏ ثم إذا ركبها عنده الحاجة نزل؛ قال إسماعيل القاضي‏.‏ وهو الذي يدل عليه مذهب مالك، وهو خلاف ما ذكره ابن القاسم أنه لا يلزمه النزول، وحجته إباحة النبي صلى الله عليه وسلم له الركوب فجاز له استصحابه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا‏)‏ يدل على صحة ما قاله الإمام الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما؛ وما حكاه إسماعيل عن مذهب مالك‏.‏ وقد جاء صريحا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة وقد جهد، فقال‏:‏ ‏(‏اركبها‏)‏‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ إن نقصها الركوب المباح فعليه قيمة ذلك ويتصدق به‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم محلها إلى البيت العتيق‏{‏ يريد أنها تنتهي إلى البيت، وهو الطواف‏.‏ فقول‏{‏محلها‏{‏ مأخوذ من إحلال المحرم‏.‏ والمعنى أن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي ينتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق‏.‏ فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه؛ قاله مالك في الموطأ‏.‏ وقال عطاء‏:‏ ينتهي إلى مكة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إلى الحرم‏.‏ وهذا بناء على أن الشعائر هي البدن، ولا وجه لتخصيص الشعائر مع عمومها وإلغاء خصوصية ذكر البيت‏.‏ والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 34 ‏)‏

‏{‏ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولكل أمة جعلنا منسكا‏{‏ لما ذكر تعالى الذبائح بين أنه لم يخل منها أمة، والأمة القوم المجتمعون على مذهب واحد؛ أي ولكل جماعة مؤمنة جعلنا منسكا‏.‏ والمنسك الذبح وإراقة الدم؛ قاله مجاهد‏.‏ يقال‏:‏ نسك إذا ذبح ينسك نسكا‏.‏ والذبيحة نسيكة، وجمعها نسك؛ ومنه قوله تعالى‏{‏أو صدقة أو نسك‏}‏البقرة‏:‏ 196‏]‏‏.‏ والنسك أيضا الطاعة‏.‏ وقال الأزهري في قوله تعالى‏{‏ولكل أمة جعلنا منسكا‏{‏‏:‏ إنه يدل على موضع النحر في هذا الموضع، أراد مكان نسك‏.‏ ويقال‏:‏ منسك ومنسك، لغتان، وقرئ بهما‏.‏ قرأ الكوفيون إلا عاصما بكسر السين، الباقون بفتحها‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير أو شر‏.‏ وقيل مناسك الحج لترداد الناس إليها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي‏.‏ وقال ابن عرفة في قوله ‏{‏ولكل أمة جعلنا منسكا‏{‏‏:‏ أي مذهبا من طاعة الله تعالى؛ يقال‏:‏ نسك نسك قومه إذا سلك مذهبهم‏.‏ وقيل‏:‏ منسكا عيدا؛ قاله الفراء‏.‏ وقيل حجا؛ قاله قتادة‏.‏ والقول الأول أظهر؛ لقوله تعالى‏{‏ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏{‏ ي على ذبح ما رزقهم‏.‏ فأمر تعالى عند الذبح بذكره وأن يكون الذبح له؛ لأنه رازق ذلك‏.‏ ثم رجع اللفظ من الخبر عن الأمم إلى إخبار الحاضرين بما معناه‏:‏ فالإله واحد لجميعكم، فكذلك الأمر في الذبيحة إنما ينبغي أن تخلص له‏.‏

قوله تعالى‏{‏فله أسلموا‏{‏ معناه لحقه ولوجهه وإنعامه آمنوا وأسلموا‏.‏ ويحتمل أن يريد الاستسلام؛ أي له أطيعوا وانقادوا‏.‏ ‏{‏وبشر المخبتين‏{‏ المخبت‏:‏ المتواضع الخاشع من المؤمنين‏.‏ والخبت ما انخفض من الأرض؛ أي بشرهم بالثواب الجزيل‏.‏ قال عمرو بن أوس‏:‏ المخبتون الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا‏.‏ وقال مجاهد فيما روى عنه سفيان عن ابن أبي نجيح‏:‏ المخبتون المطمئنون بأمر الله عز وجل‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 35 ‏)‏

‏{‏الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وجلت قلوبهم‏{‏ أي خافت وحذرت مخالفته‏.‏ فوصفهم بالخوف والوجل عند ذكره، وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه، ووصفهم بالصبر وإقامة الصلاة وإدامتها‏.‏ وروي أن هذه الآية قوله‏{‏وبشر المخبتين‏{‏ نزلت في أبي بكر وعمر وعلي رضوان الله عليهم‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏الصلاة‏{‏ بالخفض على الإضافة، وقرأ أبو عمرو ‏{‏الصلاة‏{‏ بالنصب على توهم النون، وأن حذفها للتخفيف لطول الاسم‏.‏ وأنشد سيبويه‏:‏

الحافظو عورة العشيرة‏.‏‏.‏‏.‏

هذه الآية نظير قوله تعالى‏{‏إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون‏}‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏، وقوله تعالى‏{‏الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله‏}‏الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.‏ هذه حالة العارفين بالله، الخائفين من سطوته وعقوبته؛ لا كما يفعله جهال العوام والمبتدعة الطغام من الزعيق والزئير، ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير، فيقال لمن تعاطى ذلك وزعم أن ذلك وجد وخشوع‏:‏ إنك لم تبلغ أن تساوي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حال أصحابه في المعرفة بالله تعالى والخوف منه والتعظيم لجلاله؛ ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله والبكاء خوفا من الله‏.‏ وكذلك وصف الله تعالى أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه، ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم؛ قال الله تعالى‏{‏وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏المائدة‏:‏ 83‏]‏‏.‏ فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم؛ فمن كان مستنا فليستن، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من أخسهم حالا؛ والجنون فنون‏.‏ روى الصحيح عن أنس بن مالك أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة، فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال‏:‏ ‏(‏سلوني لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا‏)‏ فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين ‏[‏يدي‏]‏ أمر قد حضر‏.‏ قال أنس‏:‏ فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فإذا كل إنسان لاف رأسه في ثوبه يبكي‏.‏ وذكر الحديث‏.‏ وقد مضى القول في هذه المسألة بأشبع من هذا في سورة ‏{‏الأنفال‏{‏ والحمد لله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 36 ‏)‏

‏{‏والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏والبُدْن‏{‏ وقرأ ابن أبي إسحاق ‏{‏والبُدُن‏{‏ لغتان، واحدتها بَدَنَة‏.‏ كما يقال‏:‏ ثمرة وثُمُر وثُمْر، وخشبة وخشُب وخشْب‏.‏ وفي التنزيل ‏{‏وكان له ثمر‏{‏ وقرئ ‏{‏ثمر‏{‏ لغتان‏.‏ وسميت بدنة لأنها تبدن، والبدانة السمن‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا الاسم خاص بالإبل‏.‏ وقيل‏:‏ البدن جمع ‏{‏بدن‏{‏ بفتح الباء والدال‏.‏ ويقال‏:‏ بدن الرجل ‏(‏بضم الدال‏)‏ إذا سمن‏.‏ وبدن ‏(‏بتشديدها‏)‏ إذا كبر وأسن‏.‏ وفي الحديث ‏(‏إني قد بدنت‏)‏ أي كبرت وأسننت‏.‏ وروي ‏(‏بدنت‏)‏ وليس له معنى؛ لأنه خلاف صفته صلى الله عليه وسلم، ومعناه كثرة اللحم‏.‏ يقال‏:‏ بدن الرجل يبدُن بدنا وبدانة فهو بادن؛ أي ضخم‏.‏

اختلف العلماء في البدن هل تطلق على غير الإبل من البقر أم لا؛ فقال ابن مسعود وعطاء والشافعي‏:‏ لا‏.‏ وقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ نعم‏.‏ وفائدة الخلاف فيمن نذر بدنة فلم يجد البدنة أو لم يقدر عليها وقدر على البقرة؛ فهل تجزيه أم لا؛ فعلى مذهب الشافعي وعطاء لا تجزيه‏.‏ وعلى مذهب مالك تجزيه‏.‏ والصحيح ما ذهب إليه الشافعي وعطاء؛ لقوله عليه السلام في الحديث الصحيح في يوم الجمعة‏:‏ ‏(‏من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة‏)‏ الحديث‏.‏ فتفريقه عليه السلام بين البقرة والبدنة يدل على أن البقرة لا يقال عليها بدنة؛ والله أعلم‏.‏ وأيضا قوله تعالى‏{‏فإذا وجبت جنوبها‏{‏ يدل على ذلك؛ فإن الوصف خاص بالإبل‏.‏ والبقر يضجع ويذبح كالغنم؛ على ما يأتي‏.‏ ودليلنا أن البدنة مأخوذة من البدانة وهو الضخامة، والضخامة توجد فيهما جميعا‏.‏ وأيضا فإن البقرة في التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم بمنزلة الإبل؛ حتى تجوز البقرة في الضحايا على سبعة كالإبل‏.‏ وهذا حجة لأبي حنيفة حيث وافقه الشافعي على ذلك، وليس ذلك في مذهبنا‏.‏ وحكى ابن شجرة أنه يقال في الغنم بدنة، وهو قول شاذ‏.‏ والبدن هي الإبل التي تهدى إلى الكعبة‏.‏ والهدي عام في الإبل والبقر والغنم‏.‏

قوله تعالى‏{‏من شعائر الله‏{‏ نص في أنها بعض الشعائر‏.‏ وقوله‏{‏لكم فيها خير‏{‏ يريد به المنافع التي تقدم ذكرها‏.‏ والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة‏.‏ ‏{‏فاذكروا اسم الله عليها صواف‏{‏ أي انحروها على اسم الله‏.‏ و‏{‏صواف‏{‏ أي قد صفت قوائمها‏.‏ والإبل تنحر قياما معقولة‏.‏ وأصل هذا الوصف في الخيل؛ يقال‏:‏ صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاثة قوائم وثنى سنبك الرابعة؛ والسنبك طرف الحافر‏.‏ والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فيقوم على ثلاث قوائم‏.‏ وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري ‏{‏صوافي‏{‏ أي خوالص لله عز وجل لا يشركون به في التسمية على نحرها أحدا‏.‏ وعن الحسن أيضا ‏{‏صواف‏{‏ بكسر الفاء وتنوينها مخففة، وهي بمعنى التي قبلها، لكن حذفت الياء تخفيفا على غير قياس و‏{‏صواف‏{‏ قراءة الجمهور بفتح الفاء وشدها؛ من صف يصف‏.‏ وواحد صواف صافة، وواحد صوافي صافية‏.‏ وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو جعفر محمد بن علي ‏{‏صوافن‏{‏ بالنون جمع صافنة‏.‏ ولا يكون واحدها صافنا؛ لأن فاعلا لا يجمع على فواعل إلا في حروف مختصة لا يقاس عليها؛ وهي فارس وفوارس، وهالك وهوالك، وخالف وخوالف‏.‏ والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب‏.‏ ومنه قوله تعالى‏{‏الصافنات الجياد‏}‏ص‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وقال عمرو بن كلثوم‏:‏

تركنا الخيل عاكفة عليه مقلدة أعنتها صفونا

ويروي‏:‏

تظل جياده نوحا عليه مقلدة أعنتها صفونا

وقال آخر‏:‏

ألف الصفون فما يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كسيرا

وقال أبو عمرو الجرمي‏:‏ الصافن عرق في مقدم الرجل، فإذا ضرب على الفرس رفع رجله‏.‏ وقال الأعشى‏:‏

وكل كميت كجذع السحو ق يرنو القناء إذا ما صفن

قال ابن وهب‏:‏ أخبرني ابن أبي ذئب أنه سأل ابن شهاب عن الصواف فقال‏:‏ تقيدها ثم تصفها‏.‏ وقال لي مالك بن أنس مثله‏.‏ وكافة العلماء على استحباب ذلك؛ إلا أبا حنيفة والثوري فإنهما أجازا أن تنحر باركة وقياما‏.‏ وشذ عطاء فخالف واستحب نحرها باركة‏.‏ والصحيح ما عليه الجمهور؛ لقوله تعالى‏{‏فإذا وجبت جنوبها‏{‏ معناه سقطت بعد نحرها؛ ومنه وجبت الشمس‏.‏ وفي صحيح مسلم عن زياد بن جبير أن ابن عمر أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة فقال‏:‏ ابعثها قائمة مقيدة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروى أبو داود عن أبي الزبير عن جابر، وأخبرني عبدالرحمن بن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها‏.‏

قال مالك‏:‏ فإن ضعف إنسان أو تخوف أن تنفلت بدنته فلا أرى بأسا أن ينحرها معقولة‏.‏ والاختيار أن تنحر الإبل قائمة غير معقولة؛ إلا أن يتعذر ذلك فتعقل ولا تعرقب إلا أن يخاف أن يضعف عنها ولا يقوى عليها‏.‏ ونحرها باركة أفضل من أن تعرقب‏.‏ وكان ابن عمر يأخذ الحربة بيده في عنفوان أيده فينحرها في صدرها ويخرجها على سنامها، فلما أسن كان ينحرها باركة لضعفه، ويمسك معه الحربة رجل آخر، وآخر بخطامها‏.‏ وتضجع البقر والغنم‏.‏

ولا يجوز النحر قبل الفجر من يوم النحر بإجماع‏.‏ وكذلك الأضحية لا تجوز قبل الفجر‏.‏ فإذا طلع الفجر حل النحر بمنى، وليس عليهم انتظار نحر إمامهم؛ بخلاف الأضحية في سائر البلاد‏.‏ والمنحر منى لكل حاج، ومكة لكل معتمر‏.‏ ولو نحر الحاج بمكة والمعتمر بمنى لم يحرج واحد منهما، إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإذا وجبت جنوبها‏{‏ يقال‏:‏ وجبت الشمس إذا سقطت، ووجب الحائط إذا سقط‏.‏ قال قيس بن الخطيم‏:‏

أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم عن السلم حتى كان أول واجب

وقال أوس بن حجر‏:‏

ألم تكسف الشمس والبدر وال واكب للجبل الواجب

فقوله تعالى‏{‏فإذا وجبت جنوبها‏{‏ يريد إذا سقطت على جنوبها ميتة‏.‏ كنى عن الموت بالسقوط على الجنب كما كنى عن النحر والذبح بقوله تعالى‏{‏فاذكروا اسم الله عليها‏{‏ والكنايات في أكثر المواضع أبلغ من التصريح‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فتركته جزر السباع ينشنه ما بين قلة رأسه والمعصم

وقال عنترة‏:‏

وضربت قرني كبشها فتجدلا

أي سقط مقتولا إلى الجدالة، وهي الأرض؛ ومثله كثير‏.‏ والوجوب للجنب بعد النحر علامة نزف الدم وخروج الروح منها، وهو وقت الأكل، أي وقت قرب الأكل؛ لأنها إنما تبتدأ بالسلخ وقطع شيء من الذبيحة ثم يطبخ‏.‏ ولا تسلخ حتى تبرد لأن ذلك من باب التعذيب؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه‏:‏ لا تعجلوا الأنفس أن تزهق‏.‏

قوله تعالى‏{‏فكلوا منها‏{‏ أمر معناه الندب‏.‏ وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هدية وفيه أجر وامتثال؛ إذا كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم كما تقدم‏.‏ وقال أبو العباس بن شريح‏:‏ الأكل والإطعام مستحبان، وله الاقتصار على أيهما شاء‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ الأكل مستحب والإطعام واجب، فإن أطعم جميعها أجزاه وإن أكل جميعها لم يجزه، وهذا فيما كان تطوعا؛ فأما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا حسبما تقدم بيانه‏.‏ ‏{‏وأطعموا القانع والمعتر‏{‏ قال مجاهد وإبراهيم والطبري‏:‏ قوله ‏{‏وأطعموا‏{‏ أمر إباحة‏.‏ و‏{‏القانع‏{‏ السائل‏.‏ يقال‏:‏ قنع الرجل يقنع قنوعا إذا سأل، بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل، يقنع قناعة فهو قنع، إذا تعفف واستغنى ببلغته ولم يسأل؛ مثل حمد يحمد، قناعة وقنعا وقنعانا؛ قاله الخليل‏.‏ ومن الأول قول الشماخ‏:‏

لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع

وقال ابن السكيت‏:‏ من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة‏.‏ وروي عن أبى رجاء أنه قرأ ‏{‏وأطعموا القنع‏{‏ ومعنى هذا مخالف للأول‏.‏ يقال‏:‏ قنع الرجل فهو قنع إذا رضي‏.‏ وأما المعتر فهو الذي يطيف بك يطلب ما عندك، سائلا كان أو ساكنا‏.‏ وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن بن أبي الحسن‏:‏ المعتر المعترض من غير سؤال‏.‏ قال زهير‏:‏

على مكثريهم رزق من يعتريهم وعند المقلين السماحة والبذل

وقال مالك‏:‏ أحسن ما سمعت أن القانع الفقير، والعتر الزائر‏.‏ وروي عن الحسن أنه قرأ ‏{‏والمعتري‏{‏ ومعناه كمعنى المعتر‏.‏ يقال‏:‏ اعتره واعتراه وعره وعراه إذا تعرض لما عنده أو طلبه؛ ذكره النحاس‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 37 ‏)‏

‏{‏لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏لن ينال الله لحومها‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بدماء البدن، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك‏)‏ فنزلت الآية‏.‏ والنيل لا يتعلق بالبارئ تعالى، ولكنه عبر عنه تعبيرا مجازيا عن القبول، المعنى‏:‏ لن يصل إليه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لن يصعد إليه‏.‏ ابن عيسى‏:‏ لن يقبل لحومها ولا دماءها، ولكن يصل إليه التقوى منكم؛ أي ما أريد به وجهه، فذلك الذي يقبله ويرفع إليه ويسمعه ويثيب عليه؛ ومنه الحديث ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏‏.‏ والقراءة ‏{‏لن ينال الله‏{‏ و‏{‏يناله‏{‏ بالياء فيهما‏.‏ وعن يعقوب بالتاء فيهما، نظرا إلى اللحوم‏.‏

قوله تعالى‏{‏كذلك سخرها لكم‏{‏ من سبحانه علينا بتذليلها وتمكيننا من تصريفها وهي أعظم منا أبدانا وأقوى منا أعضاء، ذلك ليعلم العبد أن الأمور ليست على ما تظهر إلى العبد من التدبير، وإنما هي بحسب ما يريدها العزيز القدير، فيغلب الصغير الكبير ليعلم الخلق أن الغالب هو الله الواحد القهار فوق عباده‏.‏ ‏{‏لتكبروا الله على ما هداكم‏{‏ ذكر سبحانه ذكر اسمه عليها من الآية قبلها فقال عز من قائل‏{‏فاذكروا اسم الله عليها‏{‏، وذكر هنا التكبير‏.‏ وكان ابن عمر رضي الله عنهما يجمع بينهما إذا نحر هديه فيقول‏:‏ باسم الله والله أكبر؛ وهذا من فقهه رضي الله عنه‏.‏ وفي الصحيح عن أنس قال‏:‏ ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين‏.‏ قال‏:‏ ورأيته يذبحها بيده، ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما، وسمى وكبر‏.‏

وقد اختلف العلماء في هذا؛ فقال أبو ثور‏:‏ التسمية متعينة كالتكبير في الصلاة؛ وكافة العلماء على استحباب ذلك‏.‏ فلو قال ذكرا أخر فيه اسم من أسماء الله تعالى وأراد به التسمية جاز‏.‏ وكذلك لو قال‏:‏ الله أكبر فقط، أولا إله إلا الله؛ قال ابن حبيب‏.‏ فلو لم يرد التسمية لم يجز عن التسمية ولا تؤكل؛ قال الشافعي ومحمد بن الحسن‏.‏ وكره كافة العلماء من أصحابنا وغيرهم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند التسمية في الذبح أو ذكره، وقالوا‏:‏ لا يذكر هنا إلا الله وحده‏.‏ وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكره، وقالوا‏:‏ لا يذكر هنا إلا الله وحده‏.‏ وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح‏.‏

ذهب الجمهور إلى أن قول المضحي‏:‏ اللهم تقبل مني؛ جائز‏.‏ وكره ذلك أبو حنيفة؛ والحجة عليه ما رواه الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، وفيه‏:‏ ثم قال ‏(‏باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد‏)‏ ثم ضحى به‏.‏ واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية ‏{‏ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏}‏البقرة‏:‏ 127‏]‏‏.‏ وكره مالك قولهم‏:‏ اللهم منك وإليك، وقال‏:‏ هذه بدعة‏.‏ وأجاز ذلك ابن حبيب من أصحابنا والحسن، والحجة لهما ما رواه أبو داود عن جابر بن عبدالله قال‏:‏ ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين موجوءين أملحين، فلما وجههما قال‏:‏ ‏(‏إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا - وقرأ إلى قوله‏:‏ وأنا أول المسلمين - اللهم منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر‏)‏ ثم ذبح‏.‏ فلعل مالكا لم يبلغه هذا الخبر، أو لم يصح عنده، أو رأى العمل يخالفه‏.‏ وعلى هذا يدل قوله‏:‏ إنه بدعة‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وبشر المحسنين‏{‏ روي أنها نزلت في الخلفاء الأربعة؛ حسبما تقدم في الآية التي قبلها‏.‏ فأما ظاهر اللفظ فيقتضي العموم في كل محسن‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 38 ‏)‏

‏{‏إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور‏}‏

روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة؛ أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال؛ فنزلت هذه الآية إلى قوله‏{‏كفور‏{‏‏.‏ فوعد فيها سبحانه بالمدافعة ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر‏.‏ وقد مضى في ‏{‏الأنفال‏{‏ التشديد في الغدر؛ وأنه ‏(‏ينصب للغادر لواء عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى يدفع عن المؤمنين بأن يديم توفيقهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، فلا تقدر الكفار على إمالتهم عن دينهم؛ وإن جرى إكراه فيعصمهم حتى لا يرتدوا بقلوبهم‏.‏ وقيل‏:‏ يدفع عن المؤمنين بإعلائهم بالحجة‏.‏ ثم قتل كافر مؤمنا نادر، وإن فيدفع الله عن ذلك المؤمن بأن قبضه إلى رحمته‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏يدافع‏{‏ ‏{‏ولولا دفاع‏{‏‏.‏ وقرأ أبو عمرو وابن كثير ‏{‏يدفع‏{‏ ‏{‏ولولا دفع‏{‏‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي ‏{‏يدافع‏{‏ ‏{‏ولولا دفع الله‏{‏‏.‏ ويدافع بمعنى يدفع؛ مثل عاقبت اللص، وعافاه الله؛ والمصدر دفعا‏.‏ وحكى الزهراوي أن ‏{‏دفاعا‏{‏ مصدر دفع؛ كحسب حسابا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

‏{‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير‏}‏

قوله تعالى‏{‏أذن للذين يقاتلون‏{‏ قيل‏:‏ هذا بيان قوله ‏{‏إن الله يدافع عن الذين آمنوا‏{‏ أي يدفع عنهم غوائل الكفار بأن يبيح لهم القتال وينصرهم؛ وفيه إضمار، أي أذن للذين يصلحون للقتال في القتال؛ فحذف لدلالة الكلام على المحذوف‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ استأذن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة؛ فأنزل الله ‏{‏إن الله لا يحب كل خوان كفور‏{‏ فلما هاجر نزلت ‏{‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا‏{‏‏.‏ وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك صفح‏.‏ وهي أول آية نزلت في القتال‏.‏ قال ابن عباس وابن جبير‏:‏ نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة‏.‏ وروى النسائي والترمذي عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر‏:‏ أخرجوا نبيهم ليهلكن؛ فأنزل الله تعالى‏{‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير‏{‏ فقال أبو بكر‏:‏ لقد علمت أنه سيكون قتال‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏ وقد روى غير واحد عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير مرسلا، ليس فيه‏:‏ عن ابن عباس‏.‏

في هذه الآية دليل على أن الإباحة من الشرع، خلافا للمعتزلة؛ لأن قوله‏{‏أذن‏{‏ معناه أبيح؛ وهو لفظ موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في ‏{‏البقرة‏{‏ وغير موضع‏.‏ وقرئ ‏{‏أذن‏{‏ بفتح الهمزة؛ أي أذن الله‏.‏ ‏{‏يقاتلون‏{‏ بكسر التاء أي يقاتلون عدوهم‏.‏ وقرئ ‏{‏يقاتلون‏{‏ بفتح التاء؛ أي يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون‏.‏ ولهذا قال‏{‏بأنهم ظلموا‏{‏ أي أخرجوا من ديارهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 40 ‏)‏

‏{‏الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين أخرجوا من ديارهم‏{‏ هذا أحد ما ظلموا به؛ وإنما أخرجوا لقولهم‏:‏ ربنا الله وحده‏.‏ فقوله‏{‏إلا أن يقولوا ربنا الله‏{‏ استثناء منقطع؛ أي لكن لقولهم ربنا الله؛ قال سيبويه‏.‏ وقال الفراء يجوز أن تكون في موضع خفض، يقدرها مردودة على الباء؛ وهو قول أبي إسحاق الزجاج، والمعنى عنده‏:‏ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا بأن يقولوا ربنا الله؛ أي أخرجوا بتوحيدهم، أخرجهم أهل الأوثان‏.‏ و‏{‏الذين أخرجوا‏{‏ في موضع خفض بدلا من قوله‏{‏للذين يقاتلون‏{‏‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ قال علماؤنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحل له الدماء؛ إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل مدة عشرة أعوام؛ لإقامة حجة الله تعالى عليهم، ووفاء بوعده الذي امتن به بفضله في قوله‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏}‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏ فاستمر الناس في الطغيان وما استدلوا بواضح البرهان، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم عن بلادهم؛ فمنهم من فر إلى أرض الحبشة، ومنهم من خرج إلى المدينة، ومنهم من صبر على الأذى‏.‏ فلما عتت قريش على الله تعالى وردوا أمره وكذبوا نبيه عليه السلام، وعذبوا من آمن به ووحده وعبده، وصدق نبيه عليه السلام واعتصم بدينه، أذن الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم، وأنزل ‏{‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا - إلى قوله - الأمور‏{‏‏.‏

في هذه الآية دليل على أن نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه؛ لأن الله تعالى نسب الإخراج إلى الكفار، لأن الكلام في معنى تقدير الذنب وإلزامه‏.‏ وهذه الآية مثل قوله تعالى‏{‏إذ أخرجه الذين كفروا‏}‏التوبة‏:‏ 40‏]‏ والكلام فيهما واحد؛ وقد تقدم في ‏{‏التوبة‏{‏ والحمد لله‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض‏{‏ أي لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بينته أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة‏.‏ فالجهاد أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات؛ فكأنه قال‏:‏ أذن في القتال، فليقاتل المؤمنون‏.‏ ثم قوي هذا الأمر في القتال بقوله‏{‏ولولا دفع الله الناس‏{‏ الآية؛ أي لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة‏.‏ فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه؛ إذ لولا القتال لما بقي الدين الذي يذب عنه‏.‏ وأيضا هذه المواضع التي اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا المعنى؛ أي لولا هذا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد عليه السلام المساجد‏.‏ ‏{‏لهدمت‏{‏ من هدمت البناء أي نقضته فانهدم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ولولا دفع الله بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الكفار عن التابعين فمن بعدهم‏.‏ وهذا وإن كان فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق؛ كما تقدم‏.‏ وقال مجاهد لولا دفع الله ظلم قوم بشهادة العدول‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة‏.‏ وقال أبو الدرداء‏:‏ لولا أن الله عز وجل يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد، وبمن يغزو عمن لا يغزو، لأتاهم العذاب‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ ولولا دفع الله العذاب بدعاء الفضلاء والأخيار إلى غير ذلك من التفصيل المفسر لمعنى الآية؛ وذلك أن الآية ولا بد تقتضي مدفوعا من الناس ومدفوعا عنه، فتأمله‏.‏

قال ابن خويز منداد‏:‏ تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم، ولا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن، ولا يزيدون في البنيان لا سعة ولا ارتفاعا، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يصلوا فيها، ومتى أحدثوا زيادة وجب نقضها‏.‏ وينقض ما وجد في بلاد الحرب من البيع والكنائس‏.‏ وإنما لم ينقض ما في بلاد الإسلام لأهل الذمة؛ لأنها جرت مجرى بيوتهم وأموالهم التي عاهدوا عليها في الصيانة‏.‏ ولا يجوز أن يمكنوا من الزيادة لأن في ذلك إظهار أسباب الكفر‏.‏ وجائز أن ينقض المسجد ليعاد بنيانه؛ وقد فعل ذلك عثمان رضي الله عنه بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قرئ ‏{‏لهدمت‏{‏ بتخفيف الدال وتشديدها‏.‏

قوله تعالى‏{‏صوامع وبيع‏{‏ جمع صومعة، وزنها فوعلة، وهي بناء مرتفع حديد الأعلى؛ يقال‏:‏ صمع الثريدة أي رفع رأسها وحدده‏.‏ ورجل أصمع القلب أي حاد الفطنة‏.‏ والأصمع من الرجال الحديد القول‏.‏ وقيل‏:‏ هو الصغير الأذن من الناس وغيرهم‏.‏ وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين - قال قتادة - ثم استعمل في مئذنة المسلمين‏.‏ والبيع‏.‏ جمع بيعة، وهي كنيسة النصارى‏.‏ وقال الطبري‏:‏ قيل هي كنائس اليهود؛ ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك‏.‏

قوله تعالى‏{‏وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا‏{‏ قال الزجاج والحسن‏:‏ هي كنائس اليهود؛ وهي بالعبرانية صلوتا‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الصلوات بيوت تبنى للنصارى في البراري يصلون فيها في أسفارهم، تسمى صلوتا فعربت فقيل صلوات‏.‏ وفي ‏{‏صلوات‏{‏ تسع قراءات ذكرها ابن عطية‏:‏ صلوات، صلوات، صلوات، صلولي على وزن فعولي، صلوب بالباء بواحدة جمع صليب، صلوث بالثاء المثلثة على وزن فعول، صلوات بضم الصاد واللام وألف بعد الواو، صلوثا بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد الثاء المثلثة، (1)‏‏.‏ وذكر النحاس‏:‏ وروي عن عاصم الجحدري أنه قرأ ‏{‏وصلوب‏{‏‏.‏ وروي عن الضحاك ‏{‏وصلوث‏{‏ بالثاء معجمة بثلاث؛ ولا أدري أفتح الصاد أم ضمها‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا تجيء هنا عشر قراءات‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏الصلوات الكنائس‏)‏‏.‏ أبو العالية‏:‏ الصلوات مساجد الصابئين‏.‏ ابن زيد‏:‏ هي صلوات المسلمين تنقطع إذا دخل عليهم العدو وتهدم المساجد؛ فعلى هذا استعير الهدم للصلوات من حيث تعطل، أو أراد موضع صلوات فحذف المضاف‏.‏ وعلى قول ابن عباس والزجاج وغيرهم يكون الهدم حقيقة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هدم الصلوات تركها، قطرب‏:‏ هي الصوامع الصغار ولم يسمع لها واحد‏.‏ وذهب خصيف إلى أن القصد بهذه الأسماء تقسيم متعبدات الأمم‏.‏ فالصوامع للرهبان، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والأظهر أنها قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات‏.‏ وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها، إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في لغة العرب‏.‏ ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر‏.‏ ولم يذكر في هذه الآية المجوس ولا أهل الإشراك؛ لأن هؤلاء ليس لهم ما يجب حمايته، ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع‏.‏ وقال النحاس‏{‏يذكر فيها اسم الله‏{‏ الذي يجب في كلام العرب على حقيقة النظر أن يكون ‏{‏يذكر فيها اسم الله‏{‏ عائدا على المساجد لا على غيرها؛ لأن الضمير يليها‏.‏ ويجوز أن يعود على ‏{‏صوامع‏{‏ وما بعدها؛ ويكون المعنى وقت شرائعهم وإقامتهم الحق‏.‏ فإن قيل‏:‏ لم قدمت مساجد أهل الذمة ومصلياتهم على مساجد المسلمين‏؟‏ قيل‏:‏ لأنها أقدم بناء‏.‏ وقيل لقربها من الهدم وقرب المساجد من الذكر؛ كما أخر السابق في قوله‏{‏فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات‏}‏فاطر‏:‏ 32‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولينصرن الله من ينصره‏{‏ أي من ينصر دينه ونبيه‏.‏ ‏{‏إن الله لقوي‏{‏ أي قادر‏.‏ قال الخطابي‏:‏ القوي يكون بمعنى القادر، ومن قوي على شيء فقد قدر عليه‏.‏ ‏{‏عزيز‏{‏ أي جليل شريف؛ قال الزجاج‏.‏ وقيل الممتنع الذي لا يرام؛ وقد بيناهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 41 ‏)‏

‏{‏الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور‏}‏

قال الزجاج‏{‏الذين‏{‏ في موضع نصب ردا على ‏{‏من‏{‏، يعني في قوله‏{‏ولينصرن الله من ينصره‏{‏‏.‏ وقال غيره‏{‏الذين‏{‏ في موضع خفض ردا على قوله‏{‏أذن للذين يقاتلون‏{‏ ويكون ‏{‏الذين إن مكناهم في الأرض‏{‏ أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في الأرض غيرهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏المراد المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان‏)‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ هم أهل الصلوات الخمس‏.‏ وقال الحسن وأبو العالية‏:‏ هم هذه الأمة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة‏.‏ وقال ابن أبي نجيح‏:‏ يعني الولاة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هو شرط شرطه الله عز وجل على من أتاه الملك؛ وهذا حسن‏.‏ قال سهل بن عبدالله‏:‏ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه‏.‏ وليس على الناس أن يأمروا السلطان؛ لأن ذلك لازم له واجب عليه، ولا يأمروا العلماء فإن الحجة قد وجبت عليهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 42 ‏:‏ 44 ‏)‏

‏{‏وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود، وقوم إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير‏}‏

هذا تسليه للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية؛ أي كان قبلك أنبياء كذبوا فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين، فاقتد بهم واصبر‏.‏ ‏{‏وكذب موسى‏{‏ أي كذبه فرعون وقومه‏.‏ فأما بنو إسرائيل فما كذبوه، فلهذا لم يعطفه على ما قبله فيكون وقوم موسى‏.‏ ‏{‏فأمليت للكافرين‏{‏ أي أخرت عنهم العقوبة‏.‏ ‏{‏ثم أخذتهم‏{‏ فعاقبتهم‏.‏ ‏{‏فكيف كان نكير‏{‏ استفهام بمعنى التغيير؛ أي فانظر كيف كان تغييري ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك، فكذلك أفعل بالمكذبين من قريش‏.‏ قال الجوهري‏:‏ النكير والإنكار تغيير المنكر، والمنكر واحد المناكير‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 45 ‏)‏

‏{‏فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏فكأين من قرية أهلكناها‏{‏ أي أهلكنا أهلها‏.‏ وقد مضى في ‏{‏آل عمران‏{‏ الكلام في كأين‏.‏ ‏{‏وهي ظالمة‏{‏ أي بالكفر‏.‏ ‏{‏فهي خاوية على عروشها‏{‏ تقدم في الكهف‏.‏ ‏{‏وبئر معطلة وقصر مشيد‏{‏ قال الزجاج‏{‏وبئر معطلة‏{‏ معطوف على ‏{‏من قرية‏{‏ أي ومن أهل قرية ومن أهل بئر‏.‏ والفراء يذهب إلى أن ‏{‏وبئر‏{‏ معطوف على ‏{‏عروشها‏{‏‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ سألت نافع بن أبي نعيم أيهمز البئر والذئب‏؟‏ فقال‏:‏ إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما‏.‏ وأكثر الرواة عن نافع بهمزهما؛ إلا ورشا فإن روايته عنه بغير همز فيهما، والأصل الهمز‏.‏ ومعنى ‏{‏معطلة‏{‏ متروكة؛ قاله الضحاك‏.‏ وقيل‏:‏ خالية من أهلها لهلاكهم‏.‏ وقيل‏:‏ غائرة الماء‏.‏ وقيل‏:‏ معطلة من دلائها وأرشيتها؛ والمعنى متقارب‏.‏ ‏{‏وقصر مشيد‏{‏ قال قتادة والضحاك ومقاتل‏:‏ رفيع طويل‏.‏ قال عدي بن زيد‏:‏

شاده مرمرا وجلله كلـ ـسا فللطير في ذراه وكور

أي رفعه‏.‏ وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد‏:‏ مجصص؛ من الشيد وهو الجص‏.‏ قال الراجز‏:‏

لا تحسبني وإن كنت امرأ غمرا كحية الماء بين الطين والشيد

وقال امرؤ القيس‏:‏

ولا أطما إلا مشيدا بجندل

وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏‏{‏مشيد‏{‏ أي حصين‏)‏؛ وقال الكلبي‏.‏ وهو مفعل بمعنى مفعول كمبيع بمعنى مبيوع‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ والمشيد المعمول بالشيد‏.‏ والشيد ‏(‏بالكسر‏)‏‏:‏ كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط، وبالفتح المصدر‏.‏ تقول‏:‏ شاده يشيده شيدا جصصه‏.‏ والمشيد ‏(‏بالتشديد‏)‏ المطول‏.‏ وقال الكسائي‏{‏المشيد‏{‏ للواحد، من قوله تعالى‏{‏وقصر مشيد‏{‏ والمشيد للجمع، من قوله تعالى‏{‏في بروج مشيدة‏{‏‏.‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏‏.‏ وفي الكلام مضمر محذوف تقديره‏:‏ وقصر مشيد مثلها معطل‏.‏ ويقال‏:‏ إن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئا سقط فيه إلا أخرجته‏.‏ وأصحاب القصور ملوك الحضر، وأصحاب الآبار ملوك البوادي؛ أي فأهلكنا هؤلاء وهؤلاء‏.‏ وذكر الضحاك وغيره فيما ذكر الثعلبي وأبو بكر محمد بن الحسن المقرئ وغيرهما أن البئر الرس، وكانت بعدن باليمن بحضرموت، في بلد يقال له حضور، نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ونجوا من العذاب ومعهم صالح، فمات صالح فسمي المكان حضرموت؛ لأن صالحا لما حضره مات فبنوا حضور وقعدوا على هذه البئر، وأمروا عليهم رجلا يقال له العلس بن جلاس بن سويد؛ فيما ذكر الغزنوي‏.‏ الثعلبي‏:‏ جلهس بن جلاس‏.‏ وكان حسن السيرة فيهم عاملا عليهم، وجعلوا وزيره سنحاريب بن سوادة، فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك؛ لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها، ورجال كثيرون موكلون بها، وأبازن ‏(‏بالنون‏)‏ من رخام وهي شبه الحياض كثيرة تملأ للناس، وأخر للدواب، وأخر للبقر، وأخر للغنم‏.‏ والقوام يسقون عليها بالليل والنهار يتداولون، ولم يكن لهم ماء غيرها‏.‏ وطال عمر الملك الذي أمروه، فلما جاءه الموت طلي بدهن لتبقى صورته لا تتغير، وكذلك كانوا يفعلون إذا مات منهم الميت وكان ممن يكرم عليهم‏.‏ فلما مات شق ذلك عليهم ورأوا أن أمرهم قد فسد، وضجوا جميعا بالبكاء، واغتنمها الشيطان منهم فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة، فكلمهم وقال‏:‏ إني لم أمت ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم؛ ففرحوا أشد الفرح وأمر خاصته أن يضربوا له حجابا بينه وبينهم ويكلمهم من ورائه لئلا يعرف الموت في صورته‏.‏ فنصبوا صنما من وراء الحجاب لا يأكل ولا يشرب‏.‏ وأخبرهم أنه لا يموت أبدا وأنه إلههم؛ فذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه، فصدق كثير منهم وارتاب بعضهم، وكان المؤمن المكذب منهم أقل من المصدق له، وكلما تكلم ناصح لهم زجر وقهر‏.‏ فأصفقوا على عبادته، فبعث الله إليهم نبيا كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة، كان اسمه حنظلة بن صفوان، فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له، وأن الشيطان قد أضلهم، وأن الله لا يتمثل بالخلق، وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكا لله، ووعظهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته؛ فآذوه وعادوه وهو يتعهدهم بالموعظة ولا يغبهم بالنصيحة، حتى قتلوه في السوق وطرحوه في بئر؛ فعند ذلك أصابتهم النقمة، فباتوا شباعا رواء من الماء وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها وتعطل رشاؤها، فصاحوا بأجمعهم وضج النساء والولدان، وضجت البهائم عطشا؛ حتى عمهم الموت وشملهم الهلاك، وخلفتهم في أرضهم السباع، وفي منازلهم الثعالب والضباع، وتبدلت جناتهم وأموالهم بالسدر وشوك العضاه والقتاد، فلا يسمع فيها إلا عزيف الجن وزئير الأسد، نعوذ بالله من سطواته؛ ومن الإصرار على ما يوجب نقماته‏.‏

قال السهيلي‏.‏ وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عامر بن إرم، لم يبن في الأرض مثله - فيما ذكروا وزعموا - وحاله أيضا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنيس، وإقفاره بعد العمران، وإن أحدا لا يستطيع أن يدنو منه على أميال؛ لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل كالسلك فبادروا وما عدوا؛ فذكرهم الله تعالى في هذه الآية موعظة وعبرة وتذكرة، وذكرا وتحذيرا من مغبة المعصية وسوء عاقبة المخالفة؛ نعوذ بالله من ذلك ونستجير به من سوء المآل‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذي أهلكهم بختنصر على ما تقدم في سورة ‏{‏الأنبياء‏{‏ في قوله‏{‏وكم قصمنا من قرية‏}‏الأنبياء‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 46 ‏)‏

‏{‏أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‏}‏

قوله تعالى‏{‏أفلم يسيروا في الأرض‏{‏ يعني كفار مكة فيشاهدوا هذه القرى فيتعظوا، ويحذروا عقاب الله أن ينزل بهم كما نزل بمن قبلهم‏.‏ ‏{‏فتكون لهم قلوب يعقلون بها‏{‏ أضاف العقل إلى القلب لأنه محله كما أن السمع محله الأذن‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن العقل محله الدماغ؛ وروي عن أبي حنيفة؛ وما أراها عنه صحيحة‏.‏ ‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار‏{‏ قال الفراء‏:‏ الهاء عماد، ويجوز أن يقال فإنه، وهي قراءة عبدالله بن مسعود، والمعنى واحد، التذكير على الخبر، والتأنيث على الأبصار أو القصة؛ أي فإن الأبصار لا تعمى، أو فإن القصة‏.‏ ‏{‏لا تعمى الأبصار‏{‏ أي أبصار العيون ثابتة لهم‏.‏ ‏{‏ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‏{‏ أي عن درك الحق والاعتبار‏.‏ وقال قتادة‏:‏ البصر الناظر جعل بلغة ومنفعة، والبصر النافع في القلب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لكل عين أربع أعين؛ يعني لكل إنسان أربع أعين‏:‏ عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته؛ فإن عميت عينا رأسه وأبصرت‏.‏ عينا قلبه فلم يضره عماه شيئا، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئا‏.‏ وقال قتادة وابن جبير‏:‏ نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم الأعمى‏.‏ قال ابن عباس ومقاتل‏:‏ ‏(‏لما نزل ‏{‏ومن كان في هذه أعمى‏}‏الإسراء‏:‏ 72‏]‏ قال ابن أم مكتوم‏:‏ يا رسول الله، فأنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى‏؟‏ فنزلت ‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‏{‏‏.‏ أي من كان في هذه أعمى بقلبه عن الإسلام فهو في الآخرة في النار‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 47 ‏)‏

‏{‏ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويستعجلونك بالعذاب‏{‏ نزلت في النضر بن الحارث، وهو قوله‏{‏فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين‏}‏الأعراف‏:‏ 70‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في أبي جهل بن هشام، وهو قوله‏{‏اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك‏}‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏‏.‏ ‏{‏ولن يخلف الله وعده‏{‏ أي في إنزال العذاب‏.‏ قال الزجاج‏:‏ استعجلوا العذاب فأعملهم الله أنه لا يفوته شيء؛ وقد نزل بهم في الدنيا يوم بدر‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون‏{‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ ‏(‏يعني من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض‏)‏‏.‏ عكرمة‏:‏ يعني من أيام الآخرة؛ أعلمهم الله إذ استعجلوه بالعذاب في أيام قصيرة أنه يأتيهم به في أيام طويلة‏.‏ قال الفراء‏:‏ هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة؛ أي يوم من أيام عذابهم في الآخرة ألف سنة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وإن يوما في الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا فيها خوف وشدة؛ وكذلك يوم النعيم قياسا‏.‏ وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ‏{‏مما يعدون‏{‏ بالياء المثناة تحت، واختاره أبو عبيد لقوله‏{‏ويستعجلونك‏{‏‏.‏ والباقون بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم‏.‏



">الآية رقم ‏(‏ 48 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 48 ‏)‏

‏{‏وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة‏{‏ أي أمهلتها مع عتوها‏.‏ ‏{‏ثم أخذتها‏{‏ أي بالعذاب‏.‏ ‏{‏وإلي المصير‏{‏‏.‏



">الآية رقم ‏(‏ 49 ‏:‏ 51 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 49 ‏:‏ 51 ‏)‏

‏{‏قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم، والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل يا أيها الناس‏{‏ يعني أهل مكة‏.‏ ‏{‏إنما أنا لكم نذير‏{‏ أي منذر مخوف‏.‏ وقد تقدم في البقرة الإنذار في أولها‏.‏ ‏{‏مبين‏{‏ أي أبين لكم ما تحتاجون إليه من أمر دينكم‏.‏ ‏{‏فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم‏{‏ يعني الجنة‏.‏ ‏{‏والذين سعوا في آياتنا‏{‏ أي في إبطال آياتنا‏.‏ ‏{‏معاجزين‏{‏ أي مغالبين مشاقين؛ قال ابن عباس‏.‏ ‏(‏الفراء‏:‏ معاندين‏)‏‏.‏ وقال عبدالله ابن الزبير‏:‏ مثبطين عن الإسلام‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ معاندين مسابقين‏.‏ الزجاج‏:‏ أي ظانين أنهم يعجزوننا لأنهم ظنوا أن لا بعث، وظنوا أن الله لا يقدر عليهم؛ وقاله قتادة‏.‏ وكذلك معنى قراءة ابن كثير وأبي عمرو ‏{‏معجزين‏{‏ بلا ألف مشددا‏.‏ ويجوز أن يكون معناه أنهم يعجزون المؤمنين في الإيمان بالنبي عليه السلام وبالآيات؛ قاله السدي‏.‏ وقيل‏:‏ أي ينسبون من اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العجز؛ كقولهم‏:‏ جهلته وفسقته‏.‏



">الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏

‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏تمنى‏{‏ أي قرأ وتلا‏.‏ و‏{‏ألقى الشيطان في أمته‏{‏ أي قراءته وتلاوته‏.‏ وقد تقدم في البقرة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وجاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث‏{‏ ذكره مسلمة بن القاسم بن عبدالله، ورواه سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس‏.‏ قال مسلمة‏:‏ فوجدنا المحدثين معتصمين بالنبوة - على قراءة ابن عباس - لأنهم تكلموا بأمور عالية من أنباء الغيب خطرات، ونطقوا بالحكمة الباطنة فأصابوا فيما تكلموا وعصموا فيما نطقوا؛ كعمر بن الخطاب في قصة سارية، وما تكلم به من البراهين العالية‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكر هذا الخبر أبو بكر الأنباري قي كتاب الرد له، وقد حدثني أبي رحمه الله حدثنا علي بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث‏{‏ قال أبو بكر‏:‏ فهذا حديث لا يؤخذ به على أن ذلك قرآن‏.‏ والمحدث هو الذي يوحي إليه في نومه؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي‏.‏

قال العلماء‏:‏ إن هذه الآية مشكلة من جهتين‏:‏ إحداهما‏:‏ أن قوما يرون أن الأنبياء صلوات الله عليهم فيهم مرسلون وفيهم غير مرسلين‏.‏ وغيرهم يذهب إلى أنه لا يجوز أن يقال نبي حتى يكون مرسلا‏.‏ والدليل على صحة هذا قوله تعالى‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي‏{‏ فأوجب للنبي صلى الله عليه وسلم الرسالة‏.‏ وأن معنى ‏{‏نبي‏{‏ أنبأ عن الله عز وجل، ومعنى أنبأ عن الله عز وجل الإرسال بعينه‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل عليه السلام إليه عيانا، والنبي الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما؛ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وهذا هو الصحيح، أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا‏.‏ وكذا ذكر القاضي عياض في كتاب الشفا قال‏:‏ والصحيح والذي عليه الجم الغفير أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا؛ واحتج بحديث أبي ذر، وأن الرسل من الأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر، أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

والجهة الأخرى التي فيها الإشكال وهي الأحاديث المروية في نزول هذه الآية، وليس منها شيء يصح‏.‏ وكان مما تموه به الكفار على عوامهم قولهم‏:‏ حق الأنبياء ألا يعجزوا عن شيء، فلم لا يأتينا محمد بالعذاب وقد بالغنا في عداوته‏؟‏ وكانوا يقولون أيضا‏:‏ ينبغي ألا يجري عليهم سهو وغلط؛ فبين الرب سبحانه أنهم بشر، والآتي بالعذاب هو الله تعالى على ما يريد، ويجوز على البشر السهو والنسيان والغلط إلى أن يحكم الله آياته وينسخ حيل الشيطان‏.‏ روى الليث عن يونس عن الزهري عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏والنجم إذا هوى‏}‏النجم‏:‏ 1‏]‏ فلما بلغ ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى‏.‏ ومناة الثالثة الأخرى‏}‏النجم‏:‏ 19 - 20‏]‏ سها فقال‏:‏ ‏(‏إن شفاعتهم ترتجى‏)‏ فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا؛ فقال‏:‏ ‏(‏إن ذلك من الشيطان‏)‏ فأنزل الله تعالى‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي‏{‏ الآية‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا حديث منقطع وفيه هذا الأمر العظيم‏.‏ وكذا حديث قتادة وزاد فيه ‏(‏وإنهن لهن الغرانيق العلا‏)‏‏.‏ وأقطع من هذا ما ذكره الواقدي عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبدالله قال‏:‏ سجد المشركون كلهم إلا الوليد بن المغيرة فإنه أخذ ترابا من الأرض فرفعه إلى جبهته وسجد عليه، وكان شيخا كبيرا‏.‏ ويقال إنه أبو أحيحة سعيد بن العاص، حتى نزل جبريل عليه السلام فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال‏:‏ ‏(‏ما جئتك به‏)‏‏!‏ وأنزل الله ‏{‏لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا‏}‏الإسراء‏:‏ 74‏]‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا حديث منكر منقطع ولا سيما من حديث الواقدي‏.‏ وفي البخاري أن الذي أخذ قبضة من تراب ورفعها إلى جبهته هو أمية بن خلف‏.‏ وسيأتي تمام كلام النحاس على الحديث - إن شاء الله - أخر الباب‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا الحديث الذي فيه هي الغرانيق العلا وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يدخله البخاري ولا مسلم، ولا ذكره في علمي مصنف مشهور؛ بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن الشيطان ألقى، ولا يعينون هذا السبب ولا غيره‏.‏ ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة؛ بها وقعت الفتنة‏.‏ ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء، فالذي في التفاسير وهو مشهور القول أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بتلك الألفاظ على لسانه‏.‏ وحدثني أبي رضي الله عنه أنه لقي بالشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال‏:‏ هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ، وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي صلى الله عليه وسلم‏{‏أفرأيتم اللات والعزى‏.‏ ومناة الثالثة الأخرى‏}‏النجم‏:‏ 19 - 20‏]‏ وقرب صوته من صوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس الأمر على المشركين، وقالوا‏:‏ محمد قرأها‏.‏ وقد روي نحو هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي‏.‏ وقيل‏:‏ الذي ألقى شيطان الإنس؛ كقوله عز وجل‏{‏والغوا فيه‏}‏فصلت‏:‏ 26‏]‏‏.‏ قتادة‏:‏ هو ما تلاه ناعسا‏.‏

وقال القاضي عياض في كتاب الشفا بعد أن ذكر الدليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا وغلطا‏:‏ اعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين‏:‏ أحدهما‏:‏ في توهين أصله، والثاني على تسليمه‏.‏ أما المأخذ الأول فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند سليم متصل ثقة؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم‏.‏ قال أبو بكر البزار‏:‏ وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره؛ إلا ما رواه شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ‏(‏فيما أحسب، الشك في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر القصة‏.‏ ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير‏.‏ وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس؛ فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه الذي ذكرناه، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه‏.‏ وأما حديث الكلبي فما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه؛ كما أشار إليه البزار رحمه الله‏.‏ والذي منه في الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ‏{‏والنجم‏{‏ بمكة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس؛ هذا توهينه من طريق النقل‏.‏

وأما المأخذ الثاني فهو مبني على تسليم الحديث لو صح‏.‏ وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال فقد أجاب أئمة المسلمين عنه بأجوبة؛ منها الغث والسمين‏.‏ والذي يظهر ويترجح في تأويله على تسليمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا، ويفصل الآي تفصيلا في قراءته؛ كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكنات ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكيا نغمة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأشاعوها‏.‏ ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الأوثان وعيبها ما عرف منه؛ فيكون ما روي من حزن النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة وسبب هذه الفتنة، وقد قال الله تعالى‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي‏{‏ الآية‏.‏

قلت‏:‏ وهذا التأويل، أحسن ما قيل في هذا‏.‏ وقد قال سليمان بن حرب‏:‏ إن ‏{‏في‏{‏ بمعنى عنده؛ أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ كقوله عز وجل‏{‏ولبثت فينا‏}‏الشعراء‏:‏ 18‏]‏ أي عندنا‏.‏ وهذا هو معنى ما حكاه ابن عطية عن أبيه عن علماء الشرق، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي، وقال قبله‏:‏ إن هذه الآية نص في غرضنا، دليل على صحة مذهبنا، أصل في براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما ينسب إليه أنه قاله؛ وذلك أن الله تعالى قال‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته‏{‏ أي في تلاوته‏.‏ فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله وسيرته في أنبيائه إذا قالوا عن الله تعالى قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه كما يفعل سائر المعاصي‏.‏ تقول‏:‏ ألقيت في دار كذا وألقيت في الكيس كذا؛ فهذا نص في الشيطان أنه زاد في الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به‏.‏ ثم ذكر معنى كلام عياض إلى أن قال‏:‏ وما هدي لهذا إلا الطبري لجلالة قدره وصفاء فكره وسعة باعه في العلم، وشدة ساعده في النظر؛ وكأنه أشار إلى هذا الغرض، وصوب على هذا المرمى، وقرطس بعدما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلها باطل لا أصل لها، ولو شاء ربك لما رواها أحد ولا سطرها، ولكنه فعال لما يريد‏.‏

وأما غيره من التأويلات فما حكاه قوم أن الشيطان أكرهه حتى قال كذا فهو محال؛ إذ ليس للشيطان قدرة على سلب الإنسان الاختيار، قال الله تعالى مخبرا عنه‏{‏وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي‏}‏إبراهيم‏:‏ 22‏]‏؛ ولو كان للشيطان هذه القدرة لما بقي لأحد من بني آدم قوة في طاعة، ومن توهم أن للشيطان هذه القوة فهو قول الثنوية والمجوس في أن الخير من الله والشر من الشيطان‏.‏ ومن قال جرى ذلك على لسانه سهوا قال‏:‏ لا يبعد أنه كان سمع الكلمتين من المشركين وكانتا على حفظه فجرى عند قراءة السورة ما كان في حفظه سهوا؛ وعلى هذا يجوز السهو عليهم ولا يقرون عليه، وأنزل الله عز وجل هذه الآية تمهيدا لعذره وتسليه له؛ لئلا يقال‏:‏ إنه رجع عن بعض قراءته، وبين أن مثل هذا جرى على الأنبياء سهوا، والسهو إنما ينتفي عن الله تعالى، وقد قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏إن شيطانا يقال له الأبيض كان قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل عليه السلام وألقى في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ تلك الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن لترتجى‏)‏‏.‏ وهذا التأويل وإن كان أشبه مما قبله فالتأويل الأول عليه المعول، فلا يعدل عنه إلى غيره لاختيار العلماء المحققين إياه، وضعف الحديث مغن عن كل تأويل، والحمد لله‏.‏ ومما يدل على ضعفه أيضا وتوهينه من الكتاب قوله تعالى‏{‏وإن كادوا ليفتنونك‏}‏الإسراء‏:‏ 73‏]‏ الآيتين؛ فإنهما تردان الخبر الذي رووه؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكان يركن إليهم‏.‏ فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفتري وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا فكيف كثيرا، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ افتريت على الله وقلت ما لم يقل‏.‏ وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح؛ فكيف ولا صحة له‏.‏ وهذا مثل قوله تعالى‏{‏ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء‏}‏النساء‏:‏ 113‏]‏‏.‏ قال القشيري‏:‏ ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعده بالإيمان به إن فعل ذلك، فما فعل‏!‏ ولا كان ليفعل‏!‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ما قارب الرسول ولا ركن‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أي كادوا، ودخلت إن واللام للتأكيد‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن معنى ‏{‏تمنى‏{‏ حدث، لا ‏{‏تلا‏{‏‏.‏ روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل‏:‏ ‏(‏‏{‏إلا إذا تمنى‏{‏ قال‏:‏ إلا إذا حدث ‏{‏ألقى الشيطان في أمنيته‏{‏‏)‏ قال‏:‏ في حديثه ‏{‏فينسخ الله ما يلقي الشيطان‏{‏ قال‏:‏ فيبطل الله ما يلقي الشيطان‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجله‏.‏ وقد قال أحمد بن محمد بن حنبل بمصر صحيفة في التفسير، رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا‏.‏ والمعنى عليه‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيطة فيقول‏:‏ لو سألت الله عز وجل أن يغنمك ليتسع المسلمون؛ ويعلم الله عز وجل أن الصلاح في غير ذلك؛ فيبطل ما يلقي الشيطان كما قال ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏ وحكى الكسائي والفراء جميعا ‏{‏تمنى‏{‏ إذا حدث نفسه؛ وهذا هو المعروف في اللغة‏.‏ وحكيا أيضا ‏{‏تمنى‏{‏ إذا تلا‏.‏ وروي عن ابن عباس أيضا وقاله مجاهد والضحاك وغيرهما‏.‏ وقال أبو الحسن بن مهدي‏:‏ ليس هذا التمني من القرآن والوحي في شيء، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صفرت يداه من المال، ورأى ما بأصحابه من سوء الحال، تمنى الدنيا بقلبه ووسوسة الشيطان‏.‏ وذكر المهدوي عن ابن عباس أن المعنى‏:‏ ‏(‏إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه‏)‏؛ وهو اختيار الطبري‏.‏

قلت‏:‏ قوله تعالى‏{‏ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة‏{‏ الآية، يرد حديث النفس، وقد قال ابن عطية‏:‏ لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة؛ فالله أعلم‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولو صح الحديث واتصل إسناده لكان المعنى فيه صحيحا، ويكون معنى سها أسقط، ويكون تقديره‏:‏ أفرأيتم اللات والعزى؛ وتم الكلام، ثم أسقط ‏(‏والغرانيق العلا‏)‏ يعني الملائكة ‏(‏فإن شفاعتهم‏)‏ يعود الضمير على الملائكة‏.‏ وأما من روى‏:‏ فإنهن الغرانيق العلا، ففي روايته أجوبة؛ منها أن يكون القول محذوفا كما تستعمل العرب في أشياء كثيرة، ويجوز أن يكون بغير حذف، ويكون توبيخا؛ لأن قبله ‏{‏أفرأيتم‏{‏ ويكون هذا احتجاجا عليهم؛ فإن كان في الصلاة فقد كان الكلام مباحا في الصلاة‏.‏ وقد روى في هذه القصة أنه كان مما يقرأ‏:‏ أفرأيتم اللات والعزى‏.‏ ومناة الثالثة الأخرى‏.‏ والغرانقة العلا‏.‏ وأن شفاعتهن لترتجى‏.‏ روى معناه عن مجاهد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أراد بالغرانيق العلا الملائكة؛ وبهذا فسر الكلبي الغرانقة أنها الملائكة‏.‏ وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون ‏[‏أن‏]‏ الأوثان والملائكة بنات الله، كما حكى الله تعالى عنهم، ورد عليهم في هذه السورة بقوله ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى‏{‏ فأنكر الله كل هذا من قولهم‏.‏ ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح؛ فلما تأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم ولبس عليهم الشيطان بذلك، نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للتلبيس، كما نسخ كثير من القرآن؛ ورفعت تلاوته‏.‏ قال القشيري‏:‏ وهذا غير سديد؛ لقوله‏{‏فينسخ الله ما يلقي الشيطان‏{‏ أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة‏.‏ ‏{‏والله عليم حكيم‏{‏ ‏{‏عليم‏{‏ بما أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏حكيم‏{‏ في خلقه‏.‏



">الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏

‏{‏ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد‏}‏

قوله تعالى‏{‏ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة‏{‏ أي ضلالة‏.‏ ‏{‏للذين في قلوبهم مرض‏{‏ أي شرك ونفاق‏.‏ ‏{‏والقاسية قلوبهم‏{‏ فلا تلين لأمر الله تعالى‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ وفي الآية دليل على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والنسيان والغلط بوسواس الشيطان أو عند شغل القلب حتى يغلط، ثم ينبه ويرجع إلى الصحيح؛ وهو معنى قوله‏{‏فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته‏{‏‏.‏ ولكن إنما يكون الغلط على حسب ما يغلط أحدنا، فأما ما يضاف إليه من قولهم‏:‏ تلك الغرانيق العلا، فكذب على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه تعظيم الأصنام، ولا يجوز ذلك على الأنبياء، كما لا يجوز أن يقرأ بعض القرآن ثم ينشد شعرا ويقول‏:‏ غلطت وظننته قرآنا‏.‏ ‏{‏وإن الظالمين لفي شقاق بعيد‏{‏ أي الكافرين لفي خلاف وعصيان ومشاقة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد تقدم في ‏{‏البقرة‏{‏ والحمد لله وحده‏.‏



">الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏

‏{‏وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وليعلم الذين أوتوا العلم‏{‏ أي من المؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ أهل الكتاب‏.‏ ‏{‏أنه‏{‏ أي أن الذي أحكم من آيات القرآن هو ‏{‏الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم‏{‏ أي تخشع وتسكن‏.‏ وقيل‏:‏ تخلص‏.‏ ‏{‏وإن الله لهادي الذين آمنوا‏{‏ قرأ أبو حيوة ‏{‏وإن الله لهاد الذين آمنوا‏{‏ بالتنوين‏.‏ ‏{‏إلى صراط مستقيم‏{‏ أي يثبتهم على الهداية‏.‏



">الآية رقم ‏(‏ 55 ‏)‏">

الآية رقم ‏(‏ 55 ‏)‏

‏{‏ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا يزال الذين كفروا في مرية منه‏{‏ يعني في شك من القرآن؛ قال ابن جريج‏.‏ وغيره‏:‏ من الدين؛ وهو الصراط المستقيم‏.‏ وقيل‏:‏ مما ألقى الشيطان على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ويقولون‏:‏ ما باله ذكر الأصنام بخير ثم ارتد عنها‏.‏ وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي ‏{‏في مرية‏{‏ بضم الميم‏.‏ والكسر أعرف؛ ذكره النحاس‏.‏ ‏{‏حتى تأتيهم الساعة‏{‏ أي القيامة‏.‏ ‏{‏بغتة‏{‏ أي فجأة‏.‏ ‏{‏أو يأتيهم عذاب يوم عقيم‏{‏ قال الضحاك‏:‏ عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة‏.‏ النحاس‏:‏ سمي يوم القيامة عقيما لأنه ليس يعقب بعده يوما مثله؛ وهو معنى قول الضحاك‏.‏ والعقيم في اللغة عبارة عمن لا يكون له ولد؛ ولما كان الولد يكون بين الأبوين وكانت الأيام تتوالى قبل وبعد، جعل الاتباع فيها بالبعدية كهيئة الولادة، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقيم‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة‏:‏ المراد عذاب يوم بدر، ومعنى عقيم لا مثل له في عظمه؛ لأن الملائكة قاتلت فيه‏.‏ ابن جريج‏:‏ لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل، بل قتلوا قبل المساء فصار يوما لا ليلة له‏.‏ وكذلك يكون معنى قول الضحاك أنه يوم القيامة؛ لأنه لا ليلة له‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه لم يكن فيه رأفة ولا رحمة، وكان عقيما من كل خير؛ ومنه قوله تعالى‏{‏إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم‏}‏الذاريات‏:‏ 41‏]‏ أي التي لا خير فيها ولا تأتي بمطر ولا رحمة‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 56 ‏:‏ 57 ‏)‏

‏{‏الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين‏}‏

قوله تعالى‏{‏الملك يومئذ لله يحكم بينهم‏{‏ يعني يوم القيامة هو لله وحده لا منازع له فيه ولا مدافع‏.‏ والملك هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور‏.‏ ثم بين حكمه فقال‏{‏فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم‏.‏ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين‏{‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد يحتمل أن تكون الإشارة بـ ‏{‏يومئذ‏{‏ ليوم بدر، وقد حكم فيه بإهلاك الكافر وسعادة المؤمن؛ وقد قال عليه السلام لعمر‏:‏ ‏(‏وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 58 ‏:‏ 59 ‏)‏

‏{‏والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين، ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم‏}‏

أفرد ذكر المهاجرين الذين ماتوا وقتلوا تفضيلا لهم وتشريفا على سائر الموتى‏.‏

وسبب نزول هذه الآية أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس‏:‏ من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه؛ فنزلت هذه الآية مسوية بينهم، وأن الله يرزق جميعهم رزقا حسنا‏.‏ وظاهر الشريعة يدل على أن المقتول أفضل‏.‏ وقد قال بعض أهل العلم‏:‏ إن المقتول في سبيل الله والميت في سبيل الله شهيد؛ ولكن للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هما سواء، واحتج بالآية، وبقوله تعالى‏{‏ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله‏}‏النساء‏:‏ 100‏]‏، وبحديث أم حرام؛ فإنها صرعت عن دابتها فماتت ولم تقتل فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنت من الأولين‏)‏، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبدالله بن عتيك‏:‏ ‏(‏من خرج من بيته مهاجرا في سبيل الله فخر عن دابته فمات أو لدغته حية فمات أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله ومن مات قعصا فقد استوجب المآب‏)‏‏.‏ وذكر ابن المبارك عن فضالة بن عبيد في حديث ذكر فيه رجلين أحدهما أصيب في غزاة بمنجنيق فمات والآخر مات هناك؛ فجلس فضالة عند الميت فقيل له‏:‏ تركت الشهيد ولم تجلس عنده‏؟‏ فقال‏:‏ ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت؛ ثم تلا قوله تعالى‏{‏والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا‏{‏ الآية كلها‏.‏ وقال سليمان بن عامر‏:‏ كان فضالة برودس أميرا على الأرباع فخرج بجنازتي رجلين أحدهما قتيل والآخر متوفي؛ فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته؛ فقال‏:‏ أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل‏!‏ فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، اقرؤوا قوله تعالى‏{‏والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا‏{‏‏.‏ كذا ذكره الثعلبي في تفسيره، وهو معنى ما ذكره ابن المبارك‏.‏ واحتج من قال‏:‏ إن للمقتول زيادة فضل بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل‏:‏ أي الجهاد أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏من أهريق دمه وعقر جواده‏)‏‏.‏ وإذا كان من أهريق دمه وعقر جواده أفضل الشهداء علم أنه من لم يكن بتلك الصفة مفضول‏.‏ قرأ ابن عامر وأهل الشام ‏{‏قتلوا‏{‏ بالتشديد على التكثير‏.‏ الباقون بالتخفيف‏.‏ ‏{‏ليدخلنهم مدخلا يرضونه‏{‏ أي الجنان‏.‏ قراءة أهل المدينة ‏{‏مدخلا‏{‏ بفتح الميم؛ أي دخولا‏.‏ وضمها الباقون، وقد مضى في الإسراء‏.‏ ‏{‏وإن الله لعليم حليم‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ عليم بنياتهم، حليم عن عقابهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 60 ‏)‏

‏{‏ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك ومن عاقب‏{‏ ‏{‏ذلك‏{‏ في موضع رفع؛ أي ذلك الأمر الذي قصصنا عليك‏.‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في قوم من مشركي مكة لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا‏:‏ إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم؛ فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام؛ فأبى المشركون إلا القتال، فحملوا عليهم فثبت المسلمون ونصرهم الله على المشركين؛ وحصل في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام شيء؛ فنزلت هذه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في قوم من المشركين، مثلوا بقوم من المسلمين قتلوهم يوم أحد فعاقبهم رسول الله بمثله‏.‏ فمعنى ‏{‏من عاقب بمثل ما عوقب به‏{‏ أي من جازى الظالم بمثل ما ظلمه؛ فسمى جزاء العقوبة عقوبة لاستواء الفعلين في الصورة؛ فهو مثل ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها‏}‏الشورى‏:‏ 40‏]‏‏.‏ ومثل ‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏}‏البقرة‏:‏ 194‏]‏‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏{‏ثم بغي عليه‏{‏ أي بالكلام والإزعاج من وطنه؛ وذلك أن المشركين كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به وأخرجوه وأخرجوهم من مكة، وظاهروا على إخراجهم‏.‏ ‏{‏لينصرنه الله‏{‏ أي لينصرن الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فإن الكفار بغوا عليهم‏.‏ ‏{‏إن الله لعفو غفور‏{‏ أي عفا عن المؤمنين ذنوبهم وقتالهم في الشهر الحرام وستر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 61 ‏)‏

‏{‏ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك بأن الله يولج الليل في النهار‏{‏ أي ذلك الذي قصصت عليك من نصر المظلوم هو بأني أنا الذي أولج الليل في النهار فلا يقدر أحد على ما أقدر عليه؛ أي من قدر على هذا قدر على أن ينصر عبده‏.‏ وقد مضى في ‏{‏آل عمران‏{‏ معنى يولج الليل في النهار‏.‏ ‏{‏وأن الله سميع بصير‏{‏ يسمع الأقوال ويبصر الأفعال، فلا يعزب عنه مثقال ذرة ولا دبيب نملة إلا يعلمها ويسمعها ويبصرها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 62 ‏)‏

‏{‏ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك بأن الله هو الحق‏{‏ أي ذو الحق؛ فدينه الحق وعبادته حق‏.‏ والمؤمنون يستحقون منه النصر بحكم وعده الحق ‏{‏وأن ما يدعون من دونه هو الباطل‏{‏ أي الأصنام التي لا استحقاق لها في العبادات‏.‏ وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر ‏{‏وأن ما تدعون‏{‏ بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم‏.‏ الباقون بالياء على الخبر هنا وفي لقمان، واختاره أبو عبيد‏.‏ ‏{‏وأن الله هو العلي‏{‏ أي العالي على كل شيء بقدرته، والعالي عن الأشباه والأنداد، المقدس عما يقول الظالمون من الصفات التي لا تليق بجلاله‏.‏ ‏{‏الكبير‏{‏ أي الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن‏.‏ وقيل‏:‏ الكبير ذو الكبرياء‏.‏ والكبرياء عبارة عن كمال الذات؛ أي له الوجود المطلق أبدا وأزلا، فهو الأول القديم، والآخر الباقي بعد فناء خلقه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 63 ‏)‏

‏{‏ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة‏{‏ دليل على كمال قدرته؛ أي من قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت؛ كما قال الله عز وجل‏{‏فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت‏}‏فصلت‏:‏ 39‏]‏‏.‏ ومثله كثير‏.‏ ‏{‏فتصبح‏{‏ ليس بجواب فيكون منصوبا، وإنما هو خبر عند الخليل وسيبويه‏.‏ قال الخليل‏:‏ المعنى انتبه‏!‏ أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا؛ كما قال‏:‏

ألم تسأل الربع القواء فينطق وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق

معناه قد سألته فنطق‏.‏ وقيل استفهام تحقيق؛ أي قد رأيت، فتأمل كيف تصبح‏!‏ أو عطف لأن المعنى ألم تر أن الله ينزل‏.‏ وقال الفراء‏{‏ألم تر‏{‏ خبر؛ كما تقول في الكلام‏:‏ اعلم أن الله عز وجل ينزل من السماء ماء‏.‏ ‏{‏فتصبح الأرض مخضرة‏{‏ أي ذات خضرة؛ كما تقول‏:‏ مقلة ومسبعة؛ أي ذات بقل وسباع‏.‏ وهو عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وروي عن عكرمة أنه قال‏:‏ هذا لا يكون إلا بمكة وتهامة‏.‏ ومعنى هذا‏:‏ أنه أخذ قوله ‏{‏فتصبح‏{‏ مقصودا به صباح ليلة المطر وذهب إلى أن ذلك الاخضرار يتأخر في سائر البلاد، وقد شاهدت هذا ‏[‏في‏]‏ السوس الأقصى نزل المطر ليلا بعد قحط أصبحت تلك الأرض الرملة التي نسفتها الرياح قد أخضرت بنبات ضعيف رقيق‏.‏ ‏{‏إن الله لطيف خبير‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏‏{‏خبير‏{‏ بما ينطوي عليه العبد من القنوط عند تأخير المطر‏.‏ ‏{‏لطيف‏{‏ بأرزاق عباده‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ لطيف باستخراج النبات من الأرض، خبير بحاجتهم وفاقتهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 64 ‏)‏

‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد‏}‏

قوله تعالى‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض‏{‏ خلقا وملكا؛ وكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه‏.‏ ‏{‏وإن الله لهو الغني الحميد‏{‏ فلا يحتاج إلى شيء، وهو المحمود في كل حال‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 65 ‏)‏

‏{‏ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض‏{‏ ذكر نعمة أخرى، فأخبر أنه سخر لعباده ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار‏.‏ ‏{‏والفلك‏{‏ أي وسخر لكم الفلك في حال جريها‏.‏ وقرأ أبو عبدالرحمن الأعرج ‏{‏والفلك‏{‏ رفعا على الابتداء وما بعده خبره‏.‏ الباقون بالنصب نسقا على قوله ‏{‏ما في الأرض‏{‏‏.‏ ‏{‏ويمسك السماء أن تقع على الأرض‏{‏ أي كراهية أن تقع‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ لئلا تقع‏.‏ وإمساكه لها خلق السكون فيها حالا بعد حال‏.‏ ‏{‏إلا بإذنه‏{‏ أي إلا بإذن الله لها بالوقوع، فتقع بإذنه، أي بإرادته وبحيلته‏.‏ ‏{‏إن الله بالناس لرؤوف رحيم‏{‏ أي في هذه الأشياء التي سخرها لهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 66 ‏)‏

‏{‏وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور‏}‏

قوله تعالى‏{‏وهو الذي أحياكم‏{‏ أي بعد أن كنتم نطفا‏.‏ ‏{‏ثم يميتكم‏{‏ عند انقضاء آجالكم‏.‏ ‏{‏ثم يحييكم‏{‏ أي للحساب والثواب والعقاب‏.‏ ‏{‏إن الإنسان لكفور‏{‏ أي لجحود لما ظهر من الآيات الدالة على قدرته ووحدانيته‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد الأسود بن عبد الأسد وأبا جهل بن هشام والعاص بن هشام وجماعة من المشركين‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قال ذلك لأن الغالب على الإنسان كفر النعم؛ كما قال تعالى‏{‏وقليل من عبادي الشكور‏}‏سبأ‏:‏ 13‏]‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 67 ‏)‏

‏{‏لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏لكل أمة جعلنا منسكا‏{‏ أي شرعا‏.‏ ‏{‏هم ناسكوه‏{‏ أي عاملون به‏.‏ ‏{‏فلا ينازعنك في الأمر‏{‏ أي لا ينازعنك أحد منهم فيما يشرع لأمتك؛ فقد كانت الشرائع في كل عصر‏.‏ وروت فرقة أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار في أم الذبائح، وقولهم للمؤمنين‏:‏ تأكلون ما ذبحتم ولا تأكلون ما ذبح الله من الميتة، فكان ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم بسكاكينكم؛ فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة‏.‏ وقد مضى هذا في ‏{‏الأنعام‏{‏ والحمد لله‏.‏ وقد تقدم في هذه السورة ما للعلماء في قوله تعالى ‏{‏منسكا‏}‏الحج‏:‏ 34‏]‏‏.‏ وقوله‏{‏هم ناسكوه‏{‏ يعطي أن المنسك المصدر، ولو كان الموضع لقال هم ناسكون فيه‏.‏ وقال الزجاج‏{‏فلا ينازعنك في الأمر‏{‏ أي فلا يجادلنك؛ ودل على هذا ‏{‏وإن جادلوك‏{‏‏.‏ ويقال‏:‏ قد نازعوه فكيف قال فلا ينازعنك؛ فالجواب أن المعنى فلا تنازعهم أنت‏.‏ نزلت الآية قبل الأمر بالقتال؛ تقول‏:‏ لا يضاربنك فلان فلا تضاربه أنت؛ فيجري هذا في باب المفاعلة‏.‏ ولا يقال‏:‏ لا يضربنك زيد وأنت تريد لا تضرب زيدا‏.‏ وقرأ أبو مجلز ‏{‏فلا ينزعنك في الأمر‏{‏ أي لا يستخلفنك ولا يغلبنك عن دينك‏.‏ وقراءة الجماعة من المنازعة‏.‏ ولفظ النهي في القراءتين للكفار، والمراد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وادع إلى ربك‏{‏ أي إلى توحيده ودينه والإيمان به‏.‏ ‏{‏إنك لعلى هدى‏{‏ أي دين‏.‏ ‏{‏مستقيم‏{‏ أي قويم لا اعوجاج فيه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 68 ‏:‏ 69 ‏)‏

‏{‏وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون، الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن جادلوك‏{‏ أي خاصموك يا محمد؛ يريد مشركي مكة‏.‏ ‏{‏فقل الله أعلم بما تعملون‏{‏ يريد من تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم؛ عن ابن عباس‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏(‏هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وهو في السماء السابعة لما رأى من آيات ربه الكبرى؛ فأوحى الله إليه‏)‏ ‏{‏وإن جادلوك‏{‏ بالباطل فدافعهم بقولك ‏{‏الله أعلم بما تعملون‏{‏ من الكفر والتكذيب؛ فأمره الله تعالى بالإعراض عن مماراتهم صيانة له عن الاشتغال بتعنتهم؛ ولا جواب لصاحب العناد‏.‏ ‏{‏الله يحكم بينكم يوم القيامة‏{‏ يريد بين النبي صلى الله عليه وسلم وقومه‏.‏ ‏{‏فيما كنتم فيه تختلفون‏{‏ يريد في خلافكم آياتي، فتعرفون حينئذ الحق من الباطل‏.‏

مسألة‏:‏

في هذه الآية أدب حسن علمه الله عباده في الرد على من جادل تعنتا ومراء ألا يجاب ولا يناظر ويدفع بهذا القول الذي علمه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذه الآية منسوخة بالسيف؛ يعني السكوت عن مخالفه والاكتفاء بقوله‏{‏الله يحكم بينكم‏{‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 70 ‏)‏

‏{‏ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض‏{‏ أي وإذ قد علمت يا محمد هذا وأيقنت فاعلم أنه يعلم أيضا ما أنتم مختلفون فيه فهو يحكم بينكم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه استفهام تقرير للغير‏.‏ ‏{‏إن ذلك في كتاب‏{‏ أي ما يجري في العالم فهو مكتوب عند الله في أم الكتاب‏.‏ ‏{‏إن ذلك على الله يسير‏{‏ أي إن الفصل بين المختلفين على يسير‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى إن كتاب القلم الذي أمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة على الله يسير‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 71 ‏)‏

‏{‏ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويعبدون‏{‏ يريد كفار قريش‏.‏ ‏{‏من دون الله ما لم ينزل به سلطانا‏{‏ أي حجة وبرهانا‏.‏ وقد تقدم في ‏(‏آل عمران‏)‏‏.‏ ‏{‏وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير‏{‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 72 ‏)‏

‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات‏{‏ يعني القرآن‏.‏ ‏{‏تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر‏{‏ أي الغضب والعبوس‏.‏ ‏{‏يكادون يسطون‏{‏ أي يبطشون‏.‏ والسطوة شدة البطش؛ يقال‏:‏ سطا به يسطو إذا بطش به؛ كان ذلك بضرب أو بشتم، وسطا عليه‏.‏ ‏{‏بالذين يتلون عليهم آياتنا‏{‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏يسطون يبسطون إليهم أيديهم‏)‏‏.‏ محمد بن كعب‏:‏ أي يقعون بهم‏.‏ الضحاك‏:‏ أي يأخذونهم أخذا باليد، والمعنى واحد‏.‏ وأصل السطو القهر‏.‏ والله ذو سطوات؛ أي أخذات شديدة‏.‏ ‏{‏قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار‏{‏ أي أكره من هذا القرآن الذي تسمعون هو النار‏.‏ فكأنهم قالوا‏:‏ ما الذي هو شر؛ فقيل هو النار‏.‏ وقيل‏:‏ أي هل أنبكم بشر مما يلحق تالي القرآن منكم هو النار؛ فيكون هذا وعيدا لهم على سطواتهم بالذين يتلون القرآن‏.‏ ويجوز في ‏{‏النار‏{‏ الرفع والنصب والخفض؛ فالرفع على هو النار، أو هي النار‏.‏ والنصب بمعنى أعني، أو على إضمار فعل مثل الثاني، أو يكون محمولا على المعنى؛ أي أعرفكم من ذلكم النار‏.‏ والخفض على البدل‏.‏ ‏{‏وعدها الله الذين كفروا‏{‏ في القيامة‏.‏ ‏{‏وبئس المصير‏{‏ أي الموضع الذي يصيرون إليه وهو النار‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 73 ‏)‏

‏{‏يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له‏{‏ هذا متصل بقوله‏{‏ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا‏{‏‏.‏ وإنما قال ‏{‏ضرب مثل‏{‏ لأن حجج الله تعالى عليهم بضرب الأمثال أقرب إلى أفهامهم‏.‏ فإن قيل‏:‏ فأين المثل المضروب؛ ففيه وجهان‏:‏ الأول‏:‏ قال الأخفش‏:‏ ليس ثم مثل، وإنما المعنى ضربوا لي مثلا فاستمعوا قولهم؛ يعني أن الكفار جعلوا لله مثلا بعبادتهم غيره؛ فكأنه قال جعلوا لي شبيها في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه‏.‏ الثاني‏:‏ قول القتبي‏:‏ وأن المعنى يا أيها الناس، مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابا وإن سلبها الذباب شيئا لم تستطع أن تستنقذه منه‏.‏ وقال النحاس‏:‏ المعنى ضرب الله عز وجل ما يعبد من دونه مثلا، قال‏:‏ وهذا من أحسن ما قيل فيه؛ أي بين الله لكم شبها ولمعبودكم‏.‏ ‏{‏إن الذين تدعون من دون الله‏{‏ قراءة العامة ‏{‏تدعون‏{‏ بالتاء‏.‏ وقرأ السلمي وأبو العالية ويعقوب ‏{‏يدعون‏{‏ بالياء على الخبر‏.‏ والمراد الأوثان الذين عبدوهم من دون الله، وكانت حول الكعبة، وهي ثلاثمائة وستون صنما‏.‏ وقيل‏:‏ السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله عز وجل‏.‏ وقيل‏:‏ الشياطين الذين حملوهم على معصية الله تعالى؛ والأول أصوب‏.‏ ‏{‏لن يخلقوا ذبابا‏{‏ الذباب اسم واحد للذكر والأنثى، والجمع القليل أذبة والكثير ذبان؛ على مثل غراب وأغربة وغربان؛ وسمي به لكثرة حركته‏.‏ الجوهري‏:‏ والذباب معروف الواحدة ذبابة، ولا تقل ذبانة‏.‏ والمذبة ما يذب به الذباب‏.‏ وذباب أسنان الإبل حدها‏.‏ وذباب السيف طرفه الذي يضرب به‏.‏ وذباب العين إنسانها‏.‏ والذبابة البقية من الدين‏.‏ وذبب النهار إذا لم يبق منه إلا بقية‏.‏ والتذبذب التحرك‏.‏ والذبذبة نوس الشيء المعلق في الهواء‏.‏ والذبذب الذكر لتردده‏.‏ وفي الحديث ‏(‏من وقي شر ذبذبه‏)‏‏.‏ وهذا مما لم يذكره - أعني - قوله‏:‏ وفي الحديث‏.‏ ‏{‏وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه‏{‏ الاستنقاذ والإنقاذ التخليص‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فتجف فيأتي فيختلسه‏)‏‏.‏ وقال السدي‏:‏ كانوا يجعلون للأصنام طعاما فيقع عليه الذباب فيأكله‏.‏ ‏{‏ضعف الطالب والمطلوب‏{‏ قيل‏:‏ الطالب الآلهة والمطلوب الذباب‏.‏ وقيل بالعكس‏.‏ وقيل‏:‏ الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم؛ فالطالب يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه، والصنم المطلوب إليه‏.‏ وقد قيل‏{‏وإن يسلبهم الذباب شيئا‏{‏ راجع إلى ألمه في قرص أبدانهم حتى يسلبهم الصبر لها والوقار معها‏.‏ وخص الذباب لأربعة أمور تخصه‏:‏ لمهانته وضعفه ولاستقذاره وكثرته؛ فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوه من دون الله عز وجل على خلق مثله ودفع أذيته فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين وأربابا مطاعين‏.‏ وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 74 ‏)‏

‏{‏ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز‏}‏

قوله تعالى‏{‏ما قدروا الله حق قدره‏{‏ أي ما عظموه حق عظمته؛ حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له‏.‏ وقد مضى في ‏{‏الأنعام‏{‏‏.‏ ‏{‏إن الله لقوي عزيز‏{‏ تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 75 ‏:‏ 76 ‏)‏

‏{‏الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور‏}‏

قوله تعالى‏{‏الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس‏{‏ ختم السورة بأن الله اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم لتبليغ الرسالة؛ أي ليس بعثه محمدا أمرا بدعيا‏.‏ وقيل‏:‏ إن الوليد بن المغيرة قال‏:‏ أو أنزل عليه الذكر من بيننا؛ فنزلت الآية‏.‏ وأخبر أن الاختيار إليه سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏إن الله سميع‏{‏ لأقوال عباده ‏{‏بصير‏{‏ بمن يختاره من خلقه لرسالته‏.‏ ‏{‏يعلم ما بين أيديهم‏{‏ يريد ما قدموا‏.‏ ‏{‏وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور‏{‏ يريد ما خلفوا؛ مثل قوله في يس‏{‏إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا‏}‏يس‏:‏ 12‏]‏ يريد ما بين أيديهم ‏{‏وآثارهم‏{‏ يريد ما خلفوا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 77 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا‏{‏ تقدم في أول السورة أنها فضلت بسجدتين؛ وهذه السجدة الثانية لم يرها مالك وأبو حنيفة من العزائم؛ لأنه قرن الركوع بالسجود، وأن المراد بها الصلاة المفروضة؛ وخص الركوع والسجود تشريفا للصلاة‏.‏ وقد مضى القول في الركوع والسجود مبينا في ‏{‏البقرة‏{‏ والحمد لله وحده‏.‏ ‏{‏واعبدوا ربكم‏{‏ أي امتثلوا أمره‏.‏ ‏{‏وافعلوا الخير‏{‏ ندب فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 78 ‏)‏

‏{‏وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏وجاهدوا في الله حق جهاده‏{‏ قيل‏:‏ عنى به جهاد الكفار‏.‏ وقيل‏:‏ هو إشارة إلى امتثال جميع ما أمر الله به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه؛ أي جاهدوا أنفسكم في طاعة الله وردوها عن الهوى، وجاهدوا الشيطان في رد وسوسته، والظلمة في رد ظلمهم، والكافرين في رد كفرهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقال مقاتل وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى‏{‏فاتقوا الله ما استطعتم‏}‏التغابن‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وكذا قال هبة الله‏:‏ إن قول ‏{‏حق جهاده‏{‏ وقوله في الآية الأخرى‏.‏ ‏{‏حق تقاته‏}‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ منسوخ بالتخفيف إلى الاستطاعة في هذه الأوامر‏.‏ ولا حاجة إلى تقدير النسخ؛ فإن هذا هو المراد من أول الحكم؛ لأن ‏{‏حق جهاده‏{‏ ما ارتفع عنه الحرج‏.‏ وقد روى سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خير دينكم أيسره‏)‏‏.‏ وقال أبو جعفر النحاس‏.‏ وهذا مما لا يجوز أن يقع فيه نسخ؛ لأنه واجب على الإنسان، كما روى حيوة بن شريح يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل‏)‏‏.‏ وكما روى أبو غالب عن أبي أمامة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي الجهاد أفضل‏؟‏ عند الجمرة الأولى فلم يجبه، ثم سأله عند الجمرة الثانية فلم يجبه، ثم سأله عند جمرة العقبة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أين السائل‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ أنا ذا؛ فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏كلمة عدل عند سلطان جائر‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏هو اجتباكم‏{‏ أي اختاركم للذب عن دينه والتزام أمره؛ وهذا تأكيد للأمر بالمجاهدة؛ أي وجب عليكم أن تجاهدوا لأن الله اختاركم له‏.‏

قوله تعالى‏{‏من حرج‏{‏ أي من ضيق‏.‏ وقد تقدم في ‏{‏الأنعام‏{‏‏.‏ وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام؛ وهي مما خص الله بها هذه الأمة‏.‏ روى معمر عن قتادة قال‏:‏ أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي‏:‏ كان يقال للنبي اذهب فلا حرج عليك، وقيل لهذه الأمة‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏{‏‏.‏ والنبي شهيد على أمته، وقيل لهذه الأمة‏{‏لتكونوا شهداء على الناس‏{‏‏.‏ ويقال للنبي‏:‏ سل تعطه، وقيل لهذه الأمة‏{‏ادعوني أستجب لكم‏{‏‏.‏

واختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله تعالى؛ فقال عكرمة‏:‏ هو ما أحل من النساء مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت يمينك‏.‏ وقيل‏:‏ المراد قصر الصلاة، والإفطار للمسافر، وصلاة الإيماء لمن لا يقدر على غيره، وحط الجهاد عن الأعمى والأعرج والمريض والعديم الذي لا يجد ما ينفق في غزوه، والغريم ومن له والدان، وحط الإصر الذي كان على بني إسرائيل‏.‏ وقد مضى تفصيل أكثر هذه الأشياء‏.‏ وروي عن ابن عباس والحسن البصري ‏(‏أن هذا في تقديم الأهلة وتأخيرها في الفطر والأضحى والصوم؛ فإذا أخطأت الجماعة هلال ذي الحجة فوقفوا قبل يوم عرفة بيوم أو وقفوا يوم النحر أجزأهم‏)‏، على خلاف فيه بيناه في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه‏.‏ وما ذكرناه هو الصحيح في الباب‏.‏ وكذلك الفطر والأضحى؛ لما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون‏)‏‏.‏ خرجه أبو داود والدارقطني، ولفظه ما ذكرناه‏.‏ والمعنى‏:‏ باجتهادكم من غير حرج يلحقكم‏.‏ وقد روى الأئمة أنه عليه السلام سئل يوم النحر عن أشياء، فما يسأل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم الأمور بعضها قبل بعض وأشباهها إلا قال فيها‏:‏ ‏(‏افعل ولا حرج‏)‏‏.‏

قال العلماء‏:‏ رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، وأما السلابة والسراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين، وليس في الشرع أعظم حرجا من إلزام ثبوت رجل لاثنين في سبيل الله تعالى؛ ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج‏.‏

قوله تعالى‏{‏ملة أبيكم‏{‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى اتبعوا ملة أبيكم‏.‏ الفراء‏:‏ انتصب على تقدير حذف الكاف؛ كأنه قال كملة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وافعلوا الخير فعل أبيكم، فأقام الفعل مقام الملة‏.‏ وإبراهيم هو أبو العرب قاطبة‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب لجميع المسلمين، وإن لم يكن الكل من ولده؛ لأن حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد‏.‏ ‏{‏هو سماكم المسلمين من قبل‏{‏ قال ابن زيد والحسن‏{‏هو‏{‏ راجع إلى إبراهيم؛ والمعنى‏:‏ هو سماكم المسلمين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وفي هذا‏{‏ أي وفي حكمه أن من اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم فهو مسلم‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ وهو معنى قوله‏{‏ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك‏}‏البقرة‏:‏ 128‏]‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا القول مخالف لقول عظماء الأمة‏.‏ روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏سماكم الله عز وجل المسلمين من قبل، أي في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن‏)‏؛ قال مجاهد وغيره‏.‏ ‏{‏ليكون الرسول شهيدا عليكم‏{‏ أي بتبليغه إياكم‏.‏ ‏{‏وتكونوا شهداء على الناس‏{‏ أن رسلهم قد بلغتهم؛ كما تقدم في ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ ‏{‏فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير‏{‏ تقدم مستوفى والحمد لله‏.‏
 
سورة المؤمنون

الآية رقم ‏(‏ 1 ‏:‏11 ‏)‏

‏{‏ قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون، أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ‏}‏

قوله ‏{‏قد أفلح المؤمنون ‏}‏ ‏"‏روى البيهقي من حديث أنس‏"‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لما خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون‏)‏‏.‏ و‏"‏روى النسائي عن عبدالله بن السائب‏"‏ قال‏:‏ حضرت رسول الله صلى يوم الفتح فصلى في قبل الكعبة، فخلع نعليه فوضعهما عن يسره فافتتح سورة المؤمنين، فلما جاء ذكر موسى أو عيسى عليهما السلام أخذته سعلة فركع‏.‏ خرجه مسلم بمعناه‏.‏ وفي الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدوي النحل؛ وأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسري عنه فاستقبل القبل فرفع يديه وقال‏:‏ ‏(‏اللهم زدنا ولا تنقصنا وارضنا وأرض عنا - ثم قال - أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة - ثم قرأ - قد أفلح المؤمنون‏)‏ حتى ختم عشر آيات؛ صححه ابن العربي‏.‏ وقال النحاس‏:‏ معنى - من أقامهن - من أقام عليهن ولم يخالف ما فيهن؛ كما تقول‏:‏ فلان يقوم بعمله‏.‏ ثم نزل بعد هذه الآيات فرض الوضوء والحج فدخل معهن‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف‏}‏قد أفلح المؤمنون‏}‏ بضم الألف على الفعل المجهول؛ أي أبقوا في الثواب والخير‏.‏ وقد مضى في أول - البقرة - من الفلاح لغة ومعنى، والحمد لله وحده‏.‏

قوله ‏{‏خاشعون ‏}‏روى المعتمر عن خالد عن محمد بن سيرين قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء في الصلاة؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية‏{‏الذين هم في صلاتهم خاشعون ‏}‏‏.‏ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر حيث يسجد‏.‏ وفي رواية هشيم‏:‏ كان المسلمون يلتفتون في الصلاة وينظرون حتى أنزل الله ‏{‏قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون‏}‏؛ فأقبلوا على صلاتهم وجعلوا ينظرون أمامهم‏.‏ وقد تقدم ما للعلماء في حكم المصلي إلى حيث ينظر في- البقرة - عند قول ‏}‏فول وجهك شطر المسجد الحرام ‏}‏ ‏.‏ وتقدم أيضا معنى الخشوع لغة ومعنى في البقرة أيضا عند قوله تعالى ‏}‏وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ‏}‏ ‏.‏ والخشوع محله القلب؛ فإذا خشع خشعت الجوارح كلها لخشوعه؛ إذ هو ملكها، حسبما بيناه أول البقرة‏.‏ وكان الرجل من العلماء إذا أقام الصلاة وقام إليها يهاب الرحمن أن يمد بصره إلى شيء وأن يحدث نفسه بشيء من الدنيا‏.‏ وقال عطاء‏:‏ هو ألا يعبث بشيء من جسده في الصلاة‏.‏ وأبصر صلى الله عليه وسلم صلى رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال‏:‏ ‏(‏لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه‏)‏‏.‏ وقال أبو ذر قال النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏(‏إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يحركن الحصى ‏)‏‏.‏ ‏"‏رواه الترمذي‏"‏‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

ألا الصلاة الخير والفضل أجمع لأن بها الآراب لله تخضع

وأول فرض من شريعة ديننا وآخر ما يبقى إذا الدين يرفع

فمن قام للتكبير لاقته رحمة وكان كعبد باب مولاه يقرع

وصار لرب العرش حين صلاته نجيا فيا طوباه لو كان يخشع

و‏"‏روى أبو عمر أن الجوني قال‏:‏ قيل لعائشة ما كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالت‏:‏ أتقرؤون سورة المؤمنين‏؟‏ قيل نعم‏.‏ قالت‏:‏ اقرؤوا؛ فقرئ عليها‏}‏قد أفلح المؤمنون - حتى بلغ - يحافظون ‏}‏‏.‏ و‏"‏روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما‏"‏ قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلحظ في صلاته يمينا وشمالا، ولا يلوي عنقه خلف ظهره‏.‏ وقال كعب بن مالك في حديثه الطويل‏:‏ ثم أصلي قريبا منه - يعني من النبي صلى الله عليه وسلم - وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث؛ ولم يأمره بإعادة‏.‏

اختلف الناس في الخشوع، هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين‏.‏ والصحيح الأول، ومحله القلب، وهو أول علم يرفع من الناس؛ قاله عبادة بن الصامت، رواه الترمذي من حديث جبير بن نفير عن أبي الدرداء، وقال‏:‏ هذا حديث حسن غريب‏.‏ وقد خرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك الأشجعي من طريق صحيحة‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ ومعاوية بن صالح ثقة عند أهل الحديث، ولا نعلم أحدا تكلم فيه غير يحيى بن سعيد القطان‏.‏

قلت‏:‏ معاوية بن صالح أبو عمرو ويقال أبو عمر الحضرمي الحمصي قاضي الأندلس، سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال‏:‏ صالح الحديث، كتب حديثه ولا يحتج به‏.‏ واختلف فيه قول يحيى بن معين، ووثقه عبدالرحمن بن مهدي أحمد بن حنبل وأبو زرعة الرازي، واحتج به مسلم في صحيحه‏.‏ وتقدم في - البقرة - معنى اللغو والزكاة فلا معنى للإعادة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إن اللغو هنا الشرك‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إنه المعاصي كلها‏.‏ فهذا قول جامع يدخل فيه قول من قال‏:‏ هو الشرك؛ وقول من قال هو الغناء؛ كما ‏"‏روى مالك بن أنس‏"‏ عن محمد بن المنكدر، على ما يأتي في- لقمان - بيانه‏.‏ ومعنى-فاعلون - أي مؤدون؛ وهي فصيحة، وقد جاءت في كلام العرب‏.‏ قال أمية ابن أبي الصلت‏:‏

المطعمون الطعام في السنة الأز مة والفاعلون للزكوات

قوله ‏{‏والذين هم لفروجهم حافظون‏}‏قال ابن العربي من غريب القرآن أن هذه الآيات العشر عامة في الرجال والنساء، كسائر ألفاظ القرآن التي هي محتملة لهم فإنها عامة فيهم، إلا قول ‏{‏ والذين هم لفروجهم حافظون ‏}‏فإنما خاطب بها الرجال خاصة دون الزوجات،‏}‏إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم‏}‏وإنما عرف حفظ المرأة فرجها من أدلة أخرى كآيات الإحصان عموما وخصوصا وغير ذلك من الأدلة‏.‏

قلت‏:‏ وعلى هذا التأويل في الآية فلا يحل لامرأة أن يطأها من تملكه إجماعا من العلماء؛ لأنها غير داخلة في الآية، ولكنها لو أعتقته بعد ملكها له جاز له أن يتزوجها كما يجوز لغيره عند الجمهور‏.‏ وروي عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة والشعبي والنخعي أنها لو أعتقته حين ملكته كانا على نكاحهما‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ولا يقل هذا أحد من فقهاء الأمصار؛ لأن تملكها عندهم يبطل النكاح بينهما، وليس ذلك بطلاق وإنا هو فسخ للنكاح؛ وأنها لو أعتقته بعد ملكها له لم يراجعها إلا بنكاح جديد ولو كانت في عدة منه‏.‏

قال محمد بن الحكم‏:‏ سمعت حرملة بن عبدالعزيز قال‏:‏ سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة، فتلا هذه الآية ‏{‏ والذين هم لفروجهم حافظون‏}‏ - إلى قوله - ‏{‏ العادون‏}‏‏.‏ وهذا لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة؛ وفيه يقول الشاعر‏:‏

إذا حللت بواد لا أنيس به فاجلد عميرة لا داء ولا حرج

ويسميه أهل العراق الاستمناء، وهو استفعال من المني‏.‏ وأحمد بن حنبل على ورعه يجوزه، ويحتج بأنه إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة؛ أصله القصد والحجامة‏.‏ وعامة العلماء على تحريمه‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ إنه كالفاعل بنفسه، وهي معصية أحدثها الشيطان وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة، ويا ليتها لم تقل؛ ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها‏.‏ فإن قيل‏:‏ إنها خير من نكاح الأمة؛ قلنا‏:‏ نكاح الأمة ولو كانت كافرة على مذهب بعض العلماء خير من هذا، وإن كان قد قال به قائل أيضا، ولكن الاستمناء ضعيف في الدليل أو بالرجل الدنيء فكيف بالرجل الكبير‏.‏

قوله ‏{‏إلا على أزواجهم‏}‏ قال الفراء‏:‏ أي من أزواجهم اللاتي أحل الله لهم لا يجاوزون‏.‏ ‏{‏أو ما ملكت أيمانهم‏}‏ في موضع خفض معطوفة على ‏{‏أزواجهم‏}‏ و ‏{‏ ما‏}‏ مصدرية‏.‏ وهذا يقتضي تحريم الزنى وما قلناه من الاستنماء ونكاح المتعة؛ لأن المتمتع بها لا تجري مجرى الزوجات، لا ترث ولا تورث، ولا يلحق به ولدها، ولا يخرج من نكاحها بطلاق يستأنف لها، وإنما يخرج بانقضاء المدة التي عقدت عليها وصارت كالمستأجرة‏.‏ ابن العربي‏:‏ إن قلنا إن نكاح المتعة جائز فهي زوجة إلى أجل ينطلق عليها اسم الزوجية‏.‏ وإن قلنا بالحق الذي أجمعت عليه الأمة من تحريم نكاح المتعة لما كانت زوجة فلم تدخل في الآية‏.‏

قلت‏:‏ وفائدة هذا الخلاف هل يجب الحد ولا يلحق الولد كالزنى الصريح أو يدفع الحد للشبهة ويلحق الولد، قولان لأصحابنا‏.‏ وقد كان للمتعة في التحليل والتحريم أحوال؛ فمن ذلك أنها كانت مباحة ثم حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن خيبر، ثم حللها في غزاة الفتح؛ ثم حرمها بعد؛ قاله ابن خويز منداد من أصحابنا وغيره، وإليه أشار ابن العربي‏.‏ وقد مضى في -النساء- القول فيها مستوفى‏.‏

قوله ‏{‏فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون‏}‏ فسمى من نكح ما لا يحل عاديا وأوجب عليه الحد لعدوانه، واللائط عاد قرآنا ولغة، بدليل قوله تعالى ‏{‏ بل أنتم قوم عادون ‏}‏ وكما تقدم في -الأعراف-؛ فوجب أن يقام الحد عليهم، وهذا ظاهر لا غبار عليه‏.‏

قلت‏:‏ فيه نظر، ما لم يكن جاهلا أو متأولا، وإن كان الإجماع منعقدا على أن قوله ‏{‏والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين‏}‏ خص به الرجال دون النساء؛ فقد ‏"‏روى معمر عن قتادة قال‏:‏ تسررت امرأة غلامها؛ فذكر ذلك لعمر فسألها‏:‏ ما حملك على ذلك‏؟‏ قالت‏:‏ كنت أراه يحل لي ملك يميني كما يحل للرجل المرأة بملك اليمين؛ فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ تأولت كتاب الله عز وجل على غير تأويله، لا رجم عليها‏.‏ فقال عمر‏:‏ لا جرم‏!‏ والله لا أحلك لحر بعده أبدا‏.‏ عاقبها ط لك ودرأ الحد عنها، وأم العبد ألا يقربها‏.‏ وعن أبي بكر بن عبدالله أنه سمع أباه يقول‏:‏ أنا حضرت عمر ابن عبدالعزيز جاءته امرأة بغلام لها وضيء فقالت‏:‏ إني استسررته فمنعني بنو عمي عن ذلك، وإنما أنا بمنزلة الرجل تكون له الوليدة فيطؤها؛ فإنه عني بني عمي؛ فقال عمر‏:‏ أتزوجت قبله‏؟‏ قالت نعم؛ قال‏:‏ أما والله لولا منزلتك من الجهالة لرجمتك بالحجارة؛ ولكن اذهبوا به فبيعوه إلى من يخرج به إلى غير بلدها‏.‏ و‏{‏وراء‏}‏ بممنى سوى، وهو مفعول بـ ‏{‏ابتغى‏}‏ أي من طلب سوى الأزواج والولائد المملوكة له‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أي فمن ابتغى ما بعد ذلك؛ فمفعول الابتغاء محذوف، و‏{‏وراء‏}‏ ظرف‏.‏ و‏{‏ذلك‏}‏ يشار به إلى كل مذكور مؤنثا كان أو مذكرا‏.‏ ‏{‏فأولئك هم العادون‏}‏ أي المجاوزون الحد؛ من عدا أي جاوز الحد وجازه‏.‏

قرأ الجمهور ‏{‏لأماناتهم‏}‏ بالجمع‏.‏ وابن كثير بالإفراد‏.‏ والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا فعلا‏.‏ وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك؛ وغاية ذلك حفظه والقيام به‏.‏ والأمانة أعم من العهد، وكل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد‏.‏

قرأ الجمهور ‏{‏صلواتهم‏}‏ وحمزة والكسائي ‏{‏صلاتهم‏}‏ بالإفراد؛ وهذا الإفراد اسم جنس فهو في معنى الجميع‏.‏ والمحافظة على الصلاة إقامتها والمبادرة إليها أوائل أوقاتها، وإتمام ركوعها وسجودها‏.‏ وقد تقدم في -البقرة- مستوفى‏.‏ ثمقال ‏{‏أولئك هم الوارثون‏}‏ أي من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهم الوارثون؛ أي يرثون منازل أهل النار من الجنة‏.‏ وفي الخبر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏إن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة ومسكنا في النار فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم ويرثون منازل الكفار ويجعل الكفار في منازلهم في النار‏)‏‏.‏ ‏"‏خرجه ابن ماجة بمعناه‏"‏‏.‏ عن أبي هريرة أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله ‏{‏أولئك هم الوارثون‏}‏‏)‏‏.‏ إسناده صحيح‏.‏ ويحتمل أن يسمى الحصول على الجنة وراثة من حيث حصولها دون غيرهم، فهو اسم مستعار على الوجهين‏.‏ والفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها‏.‏ خرجه الترمذي من حديث الربيع بن النضر أم حارثة، وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ ‏"‏وفي حديث مسلم‏"‏ ‏(‏فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة‏)‏‏.‏ قال أبو حاتم محمد بن حبان‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏فإنه أوسط الجنة‏)‏ يريد أن الفردوس في وسط الجنان في العرض وهو أعلى الجنة، يريد في الارتفاع‏.‏ وهذا كله يصحح قول أبي هريرة‏:‏ إن الفردوس جبل الجنة التي تتفجر منه أنهار الجنة‏.‏ واللفظة فيما قال مجاهد‏:‏ رومية عربت‏.‏ وقيل‏:‏ هي فارسية عربت‏.‏ وقيل‏:‏ حبشية؛ وإن ثبت ذلك فهو وفاق بين اللغات‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هو عربي وهو الكرم؛ والعرب تقول للكروم فراديس‏.‏ ‏{‏هم فيها خالدون‏}‏ فأنث على معنى الجنة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 12 ‏:‏ 14 ‏)‏

‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ‏}‏

قوله ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان‏}‏ الإنسان هنا آدم عليه الصلاة والسلام؛ قاله قتادة وغيره، لأنه استل من الطين‏.‏ ويجيء الضمير في قوله ‏{‏ثم جعلناه‏}‏ عائدا على ابن آدم، وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر؛ فإن المعنى لا يصلح إلا له‏.‏ نظير ذلك ‏{‏حتى توارت بالحجاب ‏}‏ ‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالسلالة ابن آدم؛ قاله ابن عباس وغيره‏.‏ والسلالة على هذا صفوة الماء، يعني المني‏.‏ والسلالة فعالة من السل وهو استخراج الشيء من الشيء؛ يقال‏:‏ سللت الشعر من العجين، والسيف من الغمد فانسل؛ ومنه قوله‏:‏

فسلي ثيابي من ثيابك تنسل

فالنطفة سلالة، والولد سليل وسلالة؛ عنى به الماء يسل من الظهر سلا‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فجاءت به عضب الأديم غضنفرا سلالة فرج كان غير حصين

وقال آخر‏:‏

وما هند إلا مهرة عربية سليلة أفراس تجللها بغل

وقوله ‏{‏من طين‏}‏ أي أن الأصل آدم وهو من طين‏.‏ قلت‏:‏ أي من طين خالص؛ فأما ولده فهو من طين ومني، حسبما بيناه في أول سورة الأنعام‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ السلالة الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك؛ فالذي يخرج هو السلالة‏.‏ ‏{‏نطفة‏}‏ قد مضى القول فيه‏.‏ ‏{‏ثم أنشأناه خلقا آخر‏}‏ اختلف الناس في الخلق الآخر؛ فقال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد‏:‏ هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جمادا‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ خروج إلى الدنيا‏.‏ وقال قتادة عن فرقة‏:‏ نبات شعره‏.‏ الضحاك‏:‏ خروج الأسنان ونبات الشعر‏.‏ مجاهد‏:‏ كمال شبابه؛ وروي عن ابن عمر‏:‏ والصحيح أنه عام في هذا وفي غيره من النطق والإدراك وحسن المحاولة وتحصيل المعقولات إلى أن يموت‏.‏

قوله ‏{‏فتبارك الله أحسن الخالقين‏}‏ يروى أن عمر بن الخطاب لما سمع صدر الآية إلى قوله ‏{‏خلقا آخر‏}‏ قال فتبارك الله أحسن الخالقين؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هكذا أنزلت‏)‏‏.‏‏"‏ وفي مسند الطيالسي‏"‏‏:‏ ونزلت ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏}‏ الآية؛ فلما نزلت قلت أنا‏:‏ تبارك الله أحسن الخالقين؛ فنزلت ‏{‏تبارك الله أحسن الخالقين‏}‏‏.‏ ويروى أن قائل ذلك معاذ ابن جبل‏.‏ وروي أن قائل ذلك عبدالله بن أبي سرح، وبهذا السبب ارتد وقال‏:‏ أتي بمثل ما يأتي محمد؛ وفيه نزل ‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ‏}‏ على ما تقدم بيانه في -الأنعام-‏.‏ وقوله ‏{‏فتبارك‏}‏ تفاعل من البركة‏.‏ ‏{‏أحسن الخالقين‏}‏ أتقن الصانعين‏.‏ يقال لمن صنع شيئا خلقه؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

ولأنت تقري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري

وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس وإنما يضاف الخلق إلى الله تعالى‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ إنما قال ‏{‏أحسن الخالقين‏}‏ لأنه تعالى قد أذن لعيسى عليه السلام أن يخلق؛ واضطرب بعضهم في ذلك‏.‏ ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع؛ وإنما هي منفية بمعنى الاختراع وإيجاد من العدم‏.‏

مسألة‏:‏

من هذه الآية قال ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا‏:‏ الله أعلم؛ فقال عمر‏:‏ ما تقول يا ابن عباس‏؟‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق السموات سبعا والأرضين سبعا، وخلق ابن آدم من سبع وجعل رزقه في سبع، فأراها في ليلة سبع وعشرين‏.‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ أعجزكم أن تأتوا بمثل ما أتى هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه‏.‏ وهذا الحديث بطول في مسند ابن أبي شيبة‏.‏ فأراد ابن عباس -خلق ابن آدم من سبع- بهذه الآية، وبقوله -وجعل رزقه في سبع- قوله ‏}‏فأنبتنا فيها حبا‏.‏ وعنبا وقضبا‏.‏ وزيتونا ونخلا‏.‏ وحدائق غلبا‏.‏ وفاكهة وأبا‏}‏ ‏:‏ 31 الآية‏.‏ السبع منها لابن آدم، والأب للأنعام‏.‏ والقضب يأكله ابن آدم ويسمن منه النساء؛ هذا قول‏.‏ وقيل‏:‏ القضب البقول لأنها تقضب؛ فهي رزق ابن آدم‏.‏ وقيل‏:‏ القضب والأب للأنعام، والست الباقية لابن آدم، والسابعة هي للأنعام؛ إذ هي من أعظم رزق ابن آدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 15 ‏:‏ 16 ‏)‏

‏{‏ ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ‏}‏

قوله ‏{‏أي بعد الخلق والحياة‏.‏ والنحاس‏:‏ ويقال في هذا المعنى لمائتون‏.‏ ‏}‏ثم أخبر بالبعث بعد الموت فقال ‏{‏ثم إنكم يوم القيامة تبعثون‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 17 ‏)‏

‏{‏ ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين ‏}‏

قوله ‏{‏ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أي سبع سموات‏.‏ وحكى عنه أنه يقال‏:‏ طارقت الشيء، أي جعل بعضه فوق بعض؛ فقيل للسموات طرائق لأن بعضها فوق بعض‏.‏ والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة‏.‏ وقيل‏:‏ لأنها طرائق الملائكة‏.‏ ‏{‏وما كنا عن الخلق غافلين‏}‏ قال بعض العلماء‏:‏ عن خلق السماء‏.‏ وقال أكثر المفسرين‏:‏ أي عن الخلق كلهم من أن تسقط عليهم فتهلكهم‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون المعنن ‏{‏وما كنا عن الخلق غافلين‏}‏ أي في القيام بمصالحه وحفظه؛ وهو معنى الحي القيوم؛ على ما تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 18 ‏)‏

‏{‏وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون ‏}‏

الأولى‏:‏ هذه الآية من نعم الله تعالى على خلقه ومما آمتن به عليهم؛ ومن أعظم المنن الماء الذي هو حياة الأبدان ونماء الحيوان‏.‏ والماء المنزل من السماء على قسمين‏:‏ هذا الذي ذكر الله سبحانه وتعالى وأخبر بأنه استودعه فالأرض، وجعله فيها مختزنا لسقي الناس يجدونه عند الحاجة إليه؛ وهو ماء الأنهار والعيون وما يستخرج من الآبار‏.‏ وروي عن ابن عباس وغيره أنه إنما أراد الأنهار الأربعة‏:‏ سيحان وجيحان ونيل مصر والفرات‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء‏.‏ وهذا ليس على إطلاقه، وإلا فالأجاج ثابت في الأرض، فيمكن أن يقيد قوله بالماء العذب، ولا محالة أن الله تعالى قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء ماء‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن قوله ‏{‏وأنزلنا من السماء ماء‏}‏ إشارة إلى الماء العذب، وأن أصله من البحر، رفعه الله تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء، حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد؛ ثم أنزله إلى الأرض لنتفع به، ولو كان الأمر إلى ماء البحر لما انتفع به من ملوحته‏.‏

قوله ‏{‏بقدر‏}‏ أي على مقدار مصلح، لأنه لو كثر أهلك؛ ومنه قوله ‏{‏وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ‏}‏ ‏.‏ ‏{‏وإنا على ذهاب به لقادرون‏}‏ يعني الماء المختزن‏.‏ وهذا تهديد ووعيد؛ أي في قدرتنا إذهابه وتغويره، ويهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم؛ وهذا كقوله ‏{‏قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا‏}‏ أي غائرا ‏{‏فمن يأتيكم بماء معين ‏}‏ ‏.‏

ذكر النحاس‏:‏ قرئ على أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس عن جامع بن سوادة فال‏:‏ حدثنا سعيد بن سابق قال حدثنا مسلمة بن علي عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أنزل الله عز وجل من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة في أسفل درجة من درجاتها على جناح جبريل عليه السلام فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم وذلك قوله جل ثناؤه ‏}‏وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض‏}‏ فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله عز وجل جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم وجميع الأنهار الخمسة فيرفع ذلك إلى السماء فذلك قوله ‏{‏وإنا على ذهاب به لقادرون‏}‏ فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا‏)‏‏.‏

كل ما نزل من السماء مختزنا كان أو غير مختزن فهو طاهر مطهر يغتسل به ويتوضأ منه؛ على ما يأتي في -الفرقان- بيانه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 19 ‏)‏

‏{‏فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون ‏}‏

قوله ‏{‏فأنشأنا‏}‏ أي جعلنا ذلك سبب النبات، وأوجدناه به وخلقناه‏.‏ وذكر تعالى النخيل والأعناب لأنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما؛ قاله الطبري‏.‏ ولأنها أيضا أشرف الثمار، فذكرها تشريفا لها وتنبيها عليها‏.‏ ‏{‏لكم فيها‏}‏ أي في الجنات‏.‏ ‏{‏فواكه‏}‏ من غير الرطب والعنب‏.‏ ويحتمل أن يعود على النخيل والأعناب خاصة إذ فيها مراتب وأنواع؛ والأول أعم لسائر الثمرات‏.‏

من حلف ألا يأكل فاكهة؛ في الرواية عندنا يحنث بالباقلاء الخضراء وما أشبهها‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يحنث بأكل القثاء والخيار والجزر، لأنها من القبول لا من الفاكهة‏.‏ وكذلك الجوز واللوز والفستق؛ لأن هذه الأشياء لا تعد من الفاكهة وإن أكل تفاحا أو خوخا أو مشمشا أو تينا أو إجاصا يحنث‏.‏ وكذلك البطيخ؛ لأن هذه الأشياء كلها تؤكل على جهة التفكه قبل الطعام وبعده؛ فكانت فاكهة‏.‏ وكذلك يابس هذه الأشياء إلا البطيخ اليابس لأن ذلك لا يؤكل إلا في بعض البلدان‏.‏ ولا يحنث بأكل البطيخ الهندي لأنه لا يعد من الفواكه‏.‏ وإن أكل عنبا أو رمانا أو رطبا لا يحنث‏.‏ وخالفه صاحباه فقالا يحنث؛ لأن هذه الأشياء من أعز الفواكه، وتؤكل على وجه التنعم‏.‏ والإفراد لها بالذكر في كتاب الله عز جل لكمال معانيها؛ كتخصيص جبريل وميكائيل من الملائكة‏.‏ واحتج أبو حنيفة بأن قال‏:‏ عطف هذه الأشياء على الفاكهة مرة فقال ‏{‏فيهما فاكهة ونخل ورمان ‏}‏ ومرة عطف الفاكهة على هذه الأشياء فقال ‏{‏وفاكهة وأبا‏}‏ والمعطوف غير المعطوف عليه، ولا يليق بالحكمة ذكر الشيء الواحد بلفظين مختلفين في موضع المنة‏.‏ والعنب والرمان يكتفى بهما في بعض البلدان فلا يكون فاكهة؛ ولأن ما كان فاكهة لا فرق بين رطبه ويابسه، ويابس هذه الأشياء لا يعد فاكهة فكذلك رطبها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 20 ‏)‏

‏{‏ وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ‏}‏

قوله ‏{‏وشجرة‏}‏ شجرة عطف على جنات‏.‏ وأجاز الفراء الرفع لأنه لم يظهر الفعل، بمعنى وثم شجرة؛ ويريد بها شجرة الزيتون‏.‏ وأفردها بالذكر لعظيم منافعها في أرض الشام والحجاز وغيرهما من البلاد، وقلة تعاهدها بالسقي والحفر وغير ذلك من المراعاة في سائر الأشجار‏.‏ ‏{‏تخرج‏}‏ في موضع الصفة‏.‏ ‏{‏من طور سيناء‏}‏ أي أنبتها الله في الأصل من هذا الجبل الذي بارك الله فيه‏.‏ وطور سيناء من أرض الشام وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام؛ قال ابن عباس وغيره، وقد تقدم في البقرة والأعراف‏.‏ والطور الجبل في كلام العرب‏.‏ وقيل‏:‏ هو مما عرب من كلام العجم‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هو جبل بيت المقدس ممدود من مصر إلى أيلة‏.‏ واختلف في سيناء؛ فقال قتادة‏:‏ معناه الحسن؛ ويلزم على هذا التأويل أن ينون الطور على النعت‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ معناه مبارك‏.‏ وقال معمر عن فرقة‏:‏ معناه شجر؛ ويلزمهم أن ينونوا الطور‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ هو اسم الجبل؛ كما تقول جبل أحد‏.‏ وعن مجاهد أيضا‏:‏ سيناء حجر بعينه أضيف الجبل إليه لوجوده عنده‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كل جبل يحمل الثمار فهو سيناء؛ أي حسن‏.‏ وقرأ الكوفيون بفتح السين على وزن فعلاء؛ وفعلاء في كلام العرب كثير؛ يمنع من الصرف في المعرفة والنكرة؛ لأن في آخرها ألف التأنيث، وألف التأنيث ملازمة لما هي فيه، وليس في الكلام فعلاء، ولكن من قرأ سيناء بكسر السين جعل فعلالا؛ فالهمزة فيه كهمزة حرباء، ولم يصرف في هذه الآية لأنه جعل اسم بقعة 0 وزعم الأخفش أنه اسم أعجمي‏.‏

قوله ‏{‏تنبت بالدهن‏}‏ قرأ الجمهور ‏{‏تنبت‏}‏ بفتح التاء وضم الباء، والتقدير‏:‏ تنبت ومعها الدهن؛ كما تقول‏:‏ خرج زيد بسلاحه‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بقسم التاء وكسر الباء‏.‏ واختلف في التقدير على هذه القراءة؛ فقال أبو علي الفارسي‏:‏ التقدير تنبت جناها ومعه الدهن؛ فالمفعول محذوف‏.‏ وقيل‏:‏ الباء زائدة؛ مثل ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏}‏ وهذا مذهب أبي عبيدة‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

وقال آخر‏:‏

هن الحرائر لا ربات أخمرة سود المحاجر لا يقرأن بالسور

ونحو هذا قال أبو علي أيضا؛ وقد تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ نبت وأنبت بمعنى؛ فيكون المعنى كما مضى في قراءة الجمهور، وهو مذهب الفراء وأبي إسحاق، ومنه قول زهير‏:‏

حتى إذا أنبت البقل

والأصمعي ينكر أنبت، ويتهم قصيدة زهير التي فيها‏:‏

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا بها حتى إذا أنبت البقل

أي نبت‏.‏ وقرأ الزهري والحسن والأعرج ‏{‏تنبت بالدهن‏}‏ برفع التاء ونصب الباء‏.‏ قال ابن جني والزجاج‏:‏ هي باء الحال؛ أي تنبت ومعها دهنها‏.‏ وفي قراءة ابن مسعود ‏{‏تخرج بالدهن‏}‏ وهي باء الحال‏.‏ ابن درستويه‏:‏ الدهن الماء اللين؛ تنبت من الإنبات‏.‏ وقرأ زر بن حيش ‏{‏تنبت ‏}‏ - بضم التاء وكسر الباء - ‏{‏الدهن‏}‏ بحذف الباء ونصبه‏.‏ وقرأ سليمان بن عبدالملك والأشهب ‏{‏بالدهان‏}‏‏.‏ والمراد من الآية تعديه نعمة الزيت على الإنسان، وهي من أركان النعم التي لا غنى بالصحة عنها‏.‏ ويدخل في معنى الزيتون شجر الزيت كله على اختلافه بحسب الأقطار‏.‏

قوله ‏{‏وصبغ للآكلين‏}‏ قراءة الجمهور‏.‏ وقرأت فرقة ‏{‏وأصباغ‏}‏ بالجمع‏.‏ وقرأ عامر بن عبد قيس ‏{‏ومتاعا‏}‏؛ ويراد به الزيت الذي يصطبغ به الأكل؛ يقال‏:‏ صبغ وصباغ؛ مثل دبغ ودباغ، ولبس ولباس‏.‏ وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ؛ حكاه الهروي وغيره‏.‏ وأصل الصبغ ما يلون به الثوب، وشبه الإدام به لأن الخبز يلون بالصبغ إذا غمس فيه‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ الأدم الزيتون، والدهن الزيت‏.‏ وقد جعل الله تعالى في هذه الشجرة أدما ودهنا؛ فالصبغ على هذا الزيتون‏.‏

لا خلاف أن كل ما يصطبغ فيه من المائعات كالزيت والسمن والعسل والرب والخل وغير ذلك من الأمراق أنه إدام‏.‏ وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخل فقال‏:‏ ‏(‏نعم الإدام الخل‏)‏ رواه تسعة من الصحابة، سبعة رجال وامرأتان‏.‏ وممن ‏"‏رواه في الصحيح جابر وعائشة وخارجة وعمر وابنه عبيدالله وابن عباس وأبو هريرة وسمرة بن جندب وأنس وأم هانئ‏"‏‏.‏

واختلف فيما كان جامدا كاللحم والتمر والزيتون وغير ذلك من الجوامد؛ فالجمهور أن ذلك كله إدام؛ فمن حلف ألا يأكل إداما فأكل لححا أو جبنا حنث‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يحنث؛ وخالفه صاحباه‏.‏ وقد روي عن أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة‏.‏ والبقل ليس بإدام في قولهم جميعا‏.‏ وعن الشافعي في التمر وجهان؛ والمشهور أنه ليس بإدام لقوله في التنبيه‏.‏ وقيل يحنث؛ والصحيح أن هذا كله إدام‏.‏ وقد ‏"‏روى أبو داود عن يوسف بن عبدالله بن سلام‏"‏ قال‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كسرة من خبز شعير فوضع عليها تمرة فقال‏:‏ ‏(‏هذا إدام هذه‏)‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم‏)‏‏.‏ ذكره أبو عمر‏.‏‏"‏ وترجم البخاري ‏(‏باب الإدام‏)‏ وساق حديث عائشة‏"‏؛ ولأن الإدام مأخوذ من المؤادمة وهي الموافقة، وهذه الأشياء توافق الخبز فكان إداما‏.‏ وفي الحديث عنه عليه السلام‏:‏ ‏(‏ائتدموا ولو بالماء‏)‏‏.‏ ولأبي حنيفة أن حقيقة الإدام الموافقة في الاجتماع على وجه لا يقبل الفصل؛ كالخل والزيت ونحوهما، وأما اللحم والبيض وغيرهما لا يوافق الخبز بل يجاوزه كالبطيخ والتمر والعنب‏.‏ والحاصل‏:‏ أن كل ما يحتاج في الأكل إلى موافقة الخبز كان إداما، وكل ما لا يحتاج ويؤكل على حدة لا يكون إداما، والله أعلم‏.‏

‏"‏روى الترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏"‏ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة‏)‏‏.‏ هذا حديث لا يعرف إلا من حديث عبدالرزاق، وكان يضطرب فيه، فربما يذكر فيه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما رواه على الشك فقال‏:‏ أحسبه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما قال‏:‏ عن زيد بن أسلم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ خص الطور بالزيتون لأن أول الزيتون نبت منها‏.‏ وقيل‏:‏ إن الزيتون أول شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان‏.‏ والله أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 21 ‏:‏ 27 ‏)‏

‏{‏وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون، وعليها وعلى الفلك تحملون، ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون، فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين، قال رب انصرني بما كذبون، فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ‏}‏

قوله ‏{‏وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون، وعليها وعلى الفلك تحملون ‏}‏- تقدم القول فيهما في النحل‏.‏‏{‏ وعليها ‏}‏أي وعلى الأنعام في البر‏.‏ ‏{‏وعلى الفلك‏}‏ في البحر‏.‏ ‏{‏تحملون‏}‏ وإنما يحمل في البر على البر فيجوز أن ترجع الكناية إلى بعض الأنعام‏.‏ وروي أن رجلا ركب بقرة في الزمان الأول فأنطقها الله تعالى معه فقالت‏:‏ إنا لم نخلق لهذا‏!‏ وإنما خلقت للحرث‏.‏ ‏{‏ما لكم من إله غيره‏}‏ قرئ بالخفض ردا على اللفظ، وبالرفع ردا على المعنى‏.‏ وقد مضى في - الأعراف - ‏.‏

قوله ‏{‏ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم‏}‏ أي يسودكم ويشرف عليكم بأن يكون متبوعا ونحن له تبع‏.‏ ‏{‏ولو شاء الله لأنزل ملائكة‏}‏ أي لو شاء الله ألا يعبد شيء سواه لجعل رسول ملكا‏.‏ ‏{‏ما سمعنا بهذا‏}‏ أي بمثل دعوته‏.‏ وقيل‏:‏ ما سمعنا بمثله بشرا؛ أي برسالة ربه‏.‏ ‏{‏في آبائنا الأولين‏}‏ أي في الأمم الماضية؛ قال ابن عباس‏.‏ والباء في ‏{‏بهذا‏}‏ زائدة؛ أي ما سمعنا هذا كائنا في أبائنا الأولين، ثم عطف بعضهم على بعض فقالوا‏}‏إن هو- يعنون نوحا ‏{‏إلا رجل به جنة‏}‏ أي جنون لا يدري ما يقول‏.‏ ‏{‏فتربصوا به حتى حين‏}‏ أي انتظروا موته‏.‏ وقيل‏:‏ حتى يستبين جنونه‏.‏ وقال الفراء‏:‏ ليس يراد بالحين ها هنا وقت بعينه، إنما هو كقول‏:‏ دعه إلى يوم ما‏.‏ فقال حين تمادوا على كفرهم ‏{‏رب انصرني بما كذبون‏}‏ أي انتقم ممن لم يطعن ولم يسمع رسالتي‏.‏ ‏{‏فأوحينا إليه‏}‏ أي أرسلنا إليه رسلا من السماء ‏{‏أن اصنع الفلك‏}‏ على ما تقدم بيانه‏.‏

قوله ‏{‏فاسلك فيها‏}‏ أي أدخل فيها واجعل فيها؛ يقال‏:‏ سلكته في كذا وأسلكته فيه في كذا وأسلكته فيه إذا أدخلته‏.‏ قال عبد مناف بن ربع الهذلي‏:‏

حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا

‏{‏من كلٍّ زوجين اثنين‏}‏ قرأ حفص ‏{‏من كل‏}‏ بالتنوين، الباقون بالإضافة؛ وقد ذكر‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لم يحتمل نوج في السفينة إلا ما يلد ويبيض، فأما البق والذباب والدود فلم يحمل شيئا منها، وإنما خرج من الطين‏.‏ وقد مضى القول في السفينة والكلام فيها مستوفى، والحمد لله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 28 ‏)‏

‏{‏فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين ‏}‏

قوله ‏{‏فإذا استويت‏}‏ أي علوت‏.‏ ‏{‏أنت ومن معك على الفلك‏}‏ راكبين‏.‏ ‏{‏ فقل الحمد لله ‏}‏ أي احمدوا الله على تخليصه إياكم‏.‏ ‏{‏الذي نجانا من القوم الظالمين‏}‏ومن الغرق‏.‏ والحمد لله‏:‏ كلمة كل شاكر لله‏.‏ وقد مضى في الفاتحة بيانه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 29 ‏)‏

‏{‏ وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين ‏}‏

قوله ‏{‏وقل رب أنزلني منزلا مباركا‏}‏قراءة العامة ‏{‏منزلا‏}‏بضم الميم وفتح الزاي، على المصدر الذي هو الإنزال؛ أي انزلني إنزالا مباركا‏.‏ وقرأ زر بن حبيش وأبو بكر عن عاصم والمفضل ‏{‏ منزلا‏}‏بفتح الميم وكسر الزاي على الموضع؛ أي أنزلني موضعا مباركا‏.‏ الجوهري‏:‏ المنزل بفتح الميم والزاي النزول وهو الحلول؛ تقول‏:‏ نزلت نزولا ومنزلا‏.‏ وقال‏:‏

أأن ذكرتك الدار منزلها جمل بكيت فدم العين منحدر سجل

نصب ‏{‏المنزل‏}‏لأنه مصدر‏.‏ وأنزل غيره واستنزله بمعنى‏.‏ ونزله تنزيلا؛ والتنزيل أيضا الترتيب‏.‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ هذا حين خرج من السفينة؛ مثل قوله ‏{‏اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك‏}‏ .‏ وقيل‏:‏ حين دخلها؛ فعلى هذا يكون قول ‏{‏مباركا‏}‏يعني بالسلامة والنجاة‏.‏

قلت‏:‏ وبالجملة فالآية تعليم من الله عز وجل لعباده إذا ركبوا وإذا نزلوا أن يقولوا هذا؛ بل وإذا دخلوا بيوتهم وسلموا قالوا‏.‏ وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان إذا دخل المسجد قال‏:‏ اللهم أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 30 ‏)‏

‏{‏إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين ‏}‏

قوله ‏{‏إن في ذلك‏}‏أي في أمر نوج والسفينة وإهلاك الكافرين‏.‏ ‏{‏ لآيات‏}‏أي دلالات على كمال قدرة الله تعالى، وأنه ينصر أنبياءه ويهلك أعداءهم‏.‏ ‏{‏وإن كنا لمبتلين‏}‏أي ما كنا إلا مبتلين الأمم قبلكم؛ أي مختبرين لهم بإرسال الرسل إليهم ليظهر المطيع والعاصي فيتبين للملائكة حالهم؛ لا أن يستجد الرب علما‏.‏ وقيل‏:‏ أي نعاملهم معاملة المختبرين‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في - البقرة - وغيرها‏.‏ وقيل ‏{‏إن كنا‏}‏أي وقد كنا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 31 ‏:‏ 32 ‏)‏

‏{‏ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين، فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ‏}‏

قوله ‏{‏ثم أنشأنا من بعدهم‏}‏أي من بعد هلاك قوم نوح‏.‏ ‏{‏ قرنا آخرين‏}‏قيل‏:‏ هم قوم عاد‏.‏ ‏{‏فأرسلنا فيهم رسولا‏}‏يعني هودا؛ لأنه ما كانت أمة أنشأت في إثر قوم نوح إلا عاد‏.‏ وقيل‏:‏ هم قوم ثمود ‏{‏فأرسلنا فيهم رسولا‏}‏يعني صالحا‏.‏ قالوا‏:‏ والدليل عليه قوله تعالى آخر الآية ‏{‏ فأخذتهم الصيحة‏}‏1؛ نظيرها ‏{‏وأخذ الذين ظلموا الصيحة‏}‏ ‏.‏

قلت‏:‏ وممن أخذ بالصيحة أيضا أصحاب مدين قوم شعيب، فلا يبعد أن يكونوا هم، والله أعلم‏.‏ ‏{‏منهم‏}‏أي من عشيرتهم، يعرفون مولده ومنشأه ليكون سكونهم إلى قول أكثر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 33 ‏:‏ 35 ‏)‏

‏{‏وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون، ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون، أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ‏}‏

قوله ‏{‏وقال الملأ من قومه‏}‏أي الأشراف والقادة والرؤساء‏.‏ ‏{‏الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة‏}‏يريد بالبعث والحساب‏.‏ ‏{‏وأترفناهم في الحياة الدنيا‏}‏أي وسعنا عليهم نعم الدنيا حتى بطروا وصاروا يؤتون بالترفة، وهي مثل التحفة‏.‏ ‏{‏ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون‏}‏فلا فضل له عليكم لأنه محتاج إلى الطعام والشراب كأنتم‏.‏ وزعم الفراء أن معنى ‏{‏ويشرب مما تشربون‏}‏على حذف من، أي مما تشربون منه؛ وهذا لا يجوز عند البصريين ولا يحتاج إلى حذف البتة؛ لأن ‏{‏ما‏}‏إذا كان مصدرا لم يحتج إلى عائد، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت المفعول ولم يحتج إلى إضمار من‏.‏ ‏{‏ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون‏}‏يريد لمغبونون بترككم آلهتكم واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم‏.‏ ‏{‏أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون‏}‏أي مبعوثون من قبوركم‏.‏ و‏{‏أن‏}‏الأولى في موضع نصب بوقوع ‏{‏يعدكم‏}‏عليها، والثانية بدل منها؛ هذا مذهب سيبويه‏.‏ والمعنى‏:‏ أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم‏.‏ قال الفراء‏:‏ وفي قراءة عبدالله ‏{‏أيعدكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ‏}‏؛ وهو كقولك‏:‏ أظن إن خرجت أنك نادم‏.‏ وذهب الفراء والجرمي وأبو العباس المبرد إلى أن الثانية مكررة للتوكيد، لما طال الكلام كان تكريرها حسنا‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ المعنى أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما يحدث إخراجكم؛ فـ ‏{‏أن‏}‏الثانية في موضع رفع بفعل مضمر؛ كما تقول‏:‏ اليوم القتال، فالمعنى اليوم يحدث القتال‏.‏ وقال أبو إسحاق‏:‏ ويجوز ‏{‏أيعدكم إنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما إنكم مخرجون‏}‏؛ لأن معنى ‏{‏أيعدكم‏}‏أيقول إنكم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 36 ‏)‏

‏{‏ هيهات هيهات لما توعدون ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ هي كلمة للبعد؛ كأنهم قالوا بعيد ما توعدون؛ أي أن هذا لا يكون ما يذكر من البعث‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ هي بمنزلة الفعل؛ أي بعد ما توعدون‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ وفي ‏{‏هيهات‏}‏عشر لغات‏:‏ هيهات لك بفتح التاء وهي قراءة الجماعة‏.‏ وهيهات لك بخفض التاء؛ ويروى عن أبي جعفر بن القعقاع‏.‏ وهيهات لك بالخفض والتنوين يروى عن عيسى ابن عمر‏.‏ وهيهات لك برفع التاء؛ الثعلبي‏:‏ وبها قرأ نصر بن عاصم وأبو العالية‏.‏ وهيهات لك بالرفع والتنوين وبها قرأ أبو حيوة الشامي؛ ذكره الثعلبي أيضا‏.‏ وهيهاتا لك بالنصب والتنوين قال الأحوص‏:‏

تذكرت أياما مضين من الصبا وهيهات هيهاتا إليك رجوعها

واللغة السابعة‏:‏ أيهات أيهات؛ وأنشد الفراء‏:‏

فأيهات أيهات العقيق ومن به وأيهات خل بالعقيق نواصله

قال المهدوي‏:‏ وقرأ عيسى الهمداني ‏{‏هيهات هيهات‏}‏بإسكان‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ومن العرب من يقول ‏{‏أيهان‏}‏بالنون، ومنهم من يقول ‏{‏أيها‏}‏بلا نون‏.‏ وأنشد الفراء‏:‏

ومن دوني الأعيان والقنع كله وكتمان أيها ما أشت وأبعدا

فهذه عشر لغات‏.‏ فمن قال ‏{‏هيهات‏}‏بفتح التاء جعله مثل أين وكيف‏.‏ وقيل‏:‏ لأنهما أداتان مركبتان مثل خمسة عشر وبعلبك ورام هرمز، وتقف على الثاني بالهاء؛ كما تقول‏:‏ خمس عشرة وسبع عشرة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ نصبها كنصب ثمت وربت، ويجوز أن يكون الفتح إتباعا للألف والفتحة التي قبلها‏.‏ ومن كسره جعله مثل أمس وهؤلاء‏.‏ قال‏:‏

وهيهات هيهات إليك رجوعها

قال الكسائي‏:‏ ومن كسر التاء وقف عليها بالهاء؛ فيقول هيهاه‏.‏ ومن نصبها وقف بالتاء وإن شاء بالهاء‏.‏ ومن ضمها فعلى مثل منذ وقط وحيث‏.‏ ومن قرأ ‏{‏هيهات‏}‏بالتنوين فهو جمع ذهب به إلى التنكير؛ كأنه قال بعدا بعدا‏.‏ وقيل‏:‏ خفض ونون تشبيها بالأصوات بقولهم‏:‏ غاق وطاق‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ يجوز في ‏{‏هيهات‏}‏أن تكون جماعة فتكون التاء التي فيها تاء الجميع التي للتأنيث‏.‏ ومن قرأ ‏{‏هيهات‏}‏جاز أن يكون أخلصها اسما معربا فيه معنى البعد، ولم يجعله اسما للفعل فيبنيه‏.‏ وقيل‏:‏ شبه التاء بتاء الجمع، كقوله ‏{‏فإذا أفضتم من عرفات‏}‏‏.‏ قال الفراء‏:‏ وكأني أستحب الوقف على التاء؛ لأن من العرب من يخفض التاء على كل حال؛ فكأنها مثل عرفات وملكوت وما أشبه ذلك‏.‏ وكان مجاهد وعيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء والكسائي وابن كثير يقفون عليها هيهاه‏}‏بالهاء‏.‏ وقد روي عن أبي عمرو أيضا أنه كان يقف على ‏{‏هيهات‏}‏بالتاء، وعليه بقية القراء لأنها حرف‏.‏ قال ابن الأنباري‏.‏ من جعلهما حرفا واحدا لا يفرد أحدهما من الآخر، وقف على الثاني بالهاء ولم يقف على الأول؛ فيقول‏:‏ هيهات هيهاه، كما يقول خمس عشرة، على ما تقدم‏.‏ ومن نوى إفراد أحدهما من الآخر وقف فيهما جميعا بالهاء والتاء؛ لأن أصل الهاء تاء‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 37 ‏)‏

‏{‏ إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ‏}‏

قوله ‏{‏إن هي إلا حياتنا الدنيا‏}‏‏{‏هي‏}‏كناية عن الدنيا؛ أي ما الحياة إلا ما نحن فيه لا الحياة الآخرة التي تعدنا بعد البعث‏.‏ ‏{‏نموت ونحيا‏}‏يقال‏:‏ كيف قالوا نموت ونحيا وهم لا يقرون بالبعث‏؟‏ ففي هذا أجوبة؛ منها أن يكون المعنى‏:‏ نكون مواتا، أي نطفا ثم نحيا في الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ فيه تقديم وتأخير؛ أي إن هي إلا حياتنا الدنيا نحيا فيها ونموت؛ كماقال ‏{‏واسجدي واركعي‏}‏ .‏ وقيل ‏{‏نموت‏}‏يعني الأباء، ‏{‏ونحيا‏}‏يعني الأولاد‏.‏ ‏{‏وما نحن بمبعوثين‏}‏بعد الموت‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 38 ‏:‏ 41 ‏)‏

‏{‏ إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين، قال رب انصرني بما كذبون، قال عما قليل ليصبحن نادمين، فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين ‏}‏

قوله ‏{‏إن هو إلا رجل‏}‏يعنون الرسول‏.‏ ‏{‏افترى‏}‏أي اختلق‏.‏ ‏{‏على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين، قال رب انصرني بما كذبون‏}‏تقدم‏.‏ ‏{‏قال عما قليل‏}‏أي عن قليل،و ‏{‏ما‏}‏زائدة مؤكدة‏.‏ ‏{‏ليصبحن نادمين‏}‏على كفرهم، واللام لام القسم؛ أي والله ليصبحن‏.‏ ‏{‏فأخذتهم الصيحة‏}‏في التفاسير‏:‏ صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله تعالى بها فماتوا عن آخرهم‏.‏ ‏{‏فجعلناهم غثاء‏}‏أي هلكى هامدين كغثاء السيل، وهو ما يحمله من بالي الشجر من الحشيش والقصب مما يبس وتفتت‏.‏ ‏{‏فبعدا للقوم الظالمين‏}‏أي هلاكا لهم‏.‏ وقيل بعدا لهم من رحمة الله؛ وهو منصوب على المصدر‏.‏ ومثله سقيا له ورعيا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 42 ‏:‏ 44 ‏)‏

‏{‏ ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين، ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون، ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ‏}‏

قوله ‏{‏ثم أنشأنا من بعدهم‏}‏أي من بعد هلاك هؤلاء‏.‏ ‏{‏قرونا‏}‏أي أمما‏.‏ ‏{‏آخرين‏}‏قال ابن عباس‏:‏ يريد بني إسرائيل؛ وفي الكلام حذف‏:‏ فكذبوا أنبياءهم فأهلكناهم‏.‏ ‏{‏ما تسبق من أمة أجلها‏}‏‏{‏من‏}‏صلة؛ أي ما تسبق أمة الوقت المؤقت لها ولا تتأخره؛ مثل قوله ‏{‏فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏ ‏.‏ ومعنى ‏{‏تترى‏}‏تتواتر، ويتبع بعضهم بعضا ترغيبا وترهيبا‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ وأترت كتبي عليه أتبعت بعضها بعضا؛ إلا أن بين كل كل واحد وبين الآخر مهلة‏.‏ وقال غيره‏:‏ المواترة التتابع بغير مهلة‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏تترى‏}‏بالتنوين على أنه مصدر أدخل فيه التنوين على فتح الراء؛ كقولك‏:‏ حمدا وشكرا؛ فال فالوقف على هذا على الألف المعوضة من التنوين‏.‏ ويجوز أن يكون ملحقا بجعفر، فيكون مثل أرطى وعلقى؛ كما قال‏:‏

يستن في علقى وفي مكور

فإذا وقف على هذا الوجه جازت الإمالة، على أن ينوي الوقف على الألف الملحقة‏.‏ وقرأ ورش بين اللفظتين؛ مثل سكرى وغضبى، وهو اسم جمع؛ مثل شتى وأسرى‏.‏ وأصله وترى من المواترة والتواتر، فقلبت الواو تاء؛ مثل التقوى والتكلان وتجاه ونحوها‏.‏ وقيل‏:‏ هو الوتر وهو الفرد؛ فالمعنى أرسلناهم فردا فردا‏.‏ النحاس‏:‏ وعلى هذا يجوز ‏{‏تترا‏}‏بكسر التاء الأولى، وموضعها نصب على المصدر؛ لأن معنى ‏{‏ثم أرسلنا‏}‏واترنا‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع الحال أي متواترين‏.‏ ‏{‏فأتبعنا بعضهم بعضا‏}‏أي بالهلاك‏.‏ ‏{‏وجعلناهم أحاديث‏}‏جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به؛ كأعاجيب جمع أعجوبة، وهي ما يتعجب منه‏.‏ قال الأخفش‏:‏ إنما يقال هذا في الشر ‏{‏جعلناهم أحاديث‏}‏ولا يقال في الخير؛ كما يقال‏:‏ صار فلان حديثا أي عبرة ومثلا؛ كما قال في آية أخرى ‏}‏فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق‏}‏ ‏.‏

قلت‏:‏ وقد يقال فلان حديث حسن، إذا كان مقيدا بذكر ذلك؛ ومنه قول ابن دريد‏:‏

وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى

الآية رقم ‏(‏ 45 ‏:‏ 48 ‏)‏

‏{‏ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين، فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون، فكذبوهما فكانوا من المهلكين ‏}‏

قوله ‏{‏ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين‏}‏تقدم‏.‏ ومعنى ‏{‏عالين‏}‏متكبرين قاهرين لغيرهم بالظلم؛ كما قال ‏{‏إن فرعون علا في الأرض‏}‏ ‏{‏فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا‏}‏الآية‏.‏ تقدم أيضا‏.‏ ومعنى ‏{‏من المهلكين‏}‏أي بالغرق في البحر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 49 ‏)‏

‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون‏}‏

قوله ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب‏}‏يعني التوراة؛ وخص موسى بالذكر لأن التوراة أنزلت عليه في الطور، وهارون خليفة في قومه‏.‏ ولو قال ‏{‏ولقد آتيناهما‏}‏جاز؛ كماقال ‏{‏ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 50 ‏)‏

‏{‏ وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ‏}‏

قوله ‏{‏وجعلنا ابن مريم وأمه آية‏}‏تقدم في ‏{‏الأنبياء‏}‏القول فيه‏.‏ ‏{‏وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين‏}‏الربوة المكان المرتفع من الأرض؛ وقد تقدم في - البقرة- والمراد بها ههنا في قول أبي هريرة فلسطين‏.‏ وعنه أيضا الرملة؛ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن عباس وابن المسيب وابن سلام‏:‏ دمشق‏.‏ وقال كعب وقتادة‏:‏ بيت المقدس‏.‏ قال كعب‏:‏ وهي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا‏.‏ قال‏:‏

فكنت هميدا تحت رمس بربوة تعاورني ريح جنوب وشمال

وقال ابن زيد‏:‏ مصر‏.‏ و روى سالم الأفطس عن سعيد بن جبير ‏{‏وآويناهما إلى ربوة‏}‏قال‏:‏ النشز من الأرض‏.‏ ‏{‏ذات قرار‏}‏أي مستوية يستقر عليها‏.‏ وقيل‏:‏ ذات ثمار، ولأجل الثمار يستقر فيها الساكنون‏.‏ ‏{‏ومعين‏}‏ماء جار ظاهر للعيون‏.‏ يقال‏:‏ معين ومعن؛ كما يقال‏:‏ رغيف ورغف؛ قاله علي بن سليمان‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو الماء الجاري في العيون؛ فالميم على هذا زائدة كزيادتها في مبيع، وكذلك الميم زائدة في قول من قال إنه الماء الذي يرى بالعين‏.‏ وقيل‏:‏ إنه فعيل بمعنى مفعول‏.‏ قال علي بن سليمان‏:‏ يقال من الماء إذا جرى فهو معين ومعيون‏.‏ ابن الأعرابي‏:‏ معن الماء يمعن معونا إذا جرى وسهل، وأمعن أيضا وأمعنته، ومياه معنان‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 51 ‏)‏

‏{‏يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم‏}‏

‏"‏روى الصحيح عن أبي هريرة‏"‏ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال ‏{‏يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم‏}‏وقال تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم‏}‏ - ثم ذكر - الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك‏)‏‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ والخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أقامه مقام الرسل؛ كماقال ‏{‏الذين قال لهم الناس‏}‏ يعني نعيم بن مسعود‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هذه مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ودل الجمع على أن الرسل كلهم كذا أمروا؛ أي كلوا من الحلال‏.‏ وقال الطبري‏:‏ الخطاب لعيسى عليه السلام؛ روي أنه كان يأكل من غزل أمه‏.‏ والمشهور عنه أنه كان يأكل من بقل البرية‏.‏ ووجه خطابه لعيسى ما ذكرناه من تقديره لمحمد صلى الله عليه وسلم تشريفا له‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذه المقالة خوطب بها كل نبي؛ لأن هذه طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها‏.‏ فيكون المعنى‏:‏ وقلنا يا أيها الرسل كلوا من الطيبات؛ كما تقول لتاجر‏:‏ يا تجار ينبغي أن تجتنبوا الربا؛ فأنت تخاطبه بالمعنى‏.‏ وقد اقترن بذلك أن هذه المقالة تصلح لجميع صنفه، فلم يخاطبوا قط مجتمعين صلوات الله عليهم أجمعين، وإنما خوطب كل واحد في عصره‏.‏ قال الفراء‏:‏ هو كما تقول للرجل الواحد‏:‏ كفوا عنا أذاكم‏.‏

سوى الله تعالى بين النبيين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال وتجنب الحرام، ثم شمل الكل في الوعيد الذي تضمنه قوله ‏{‏إني بما تعملون عليم‏}‏صلى الله على رسله وأنبيائه‏.‏ وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس بأنفسهم‏.‏ وقد مضى القول في الطيبات والرزق في غير موضع، والحمد لله‏.‏ وفي قوله عليه السلام ‏(‏يمد يديه‏)‏ دليل على مشروعية مد اليدين عند الدعاء إلى السماء؛ وقد مشى الخلاف في هذا والكلام فيه والحمد لله‏.‏ وقوله عليه السلام ‏(‏فأنى يستجاب لذلك‏)‏ على جهة الاستبعاد؛ أي أنه ليس أهلا لإجابة دعائه لكن يجوز أن يستجيب الله له تفضلا ولطفا وكرما‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 52 - 54 ‏)‏

‏{‏وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون، فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون، فذرهم في غمرتهم حتى حين‏}‏

قوله ‏{‏وإن هذه أمتكم أمة واحدة‏}‏المعنى‏:‏ هذا الذي تقدم ذكره هو دينكم وملتكم فالتزموه‏.‏ والأمة هنا الدين؛ وقد تقدم محامله؛ ومنه قوله ‏{‏إنا وجدنا آباءنا على أمة‏}‏ أي على دين‏.‏ وقال النابغة‏:‏

حلفت فلم أترك لنفسك ريبه وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع

قرئ ‏{‏وإن هذه‏}‏بكسر ‏{‏إن‏}‏على القطع، وبفتحها وتشديد النون‏.‏ قال الخليل‏:‏ هي في موضع نصب لما زال الخافض؛ أي أنا عالم بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به‏.‏ وقال الفراء‏}‏أن‏}‏متعلقة بفعل مضمر تقديره‏:‏ واعلموا أن هذه أمتكم‏.‏ وهي عند سيبويه متعلقة بقوله ‏{‏فاتقون‏}‏؛ والتقدير فاتقون لأن أمتكم واحدة‏.‏ وهذا كقوله ‏}‏وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحد‏}‏ ؛ أي لأن المساجد لله فلا تدعوا معه غيره‏.‏ وكقوله ‏}‏لإيلاف قريش‏}‏ ؛ أي فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش‏.‏

وهذه الآية تقوي أن قوله ‏}‏يا أيها الرسل‏}‏إنما هو مخاطبة لجميعهم، وأنه بتقدير حضورهم‏.‏ وإذا قدرت ‏}‏يا أيها الرسل‏}‏مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فلق اتصال هذه الآية واتصال قوله ‏}‏فتقطعوا‏}‏‏.‏ أما أن قوله ‏{‏وأنا ربكم فاتقوني‏}‏وإن كان قيل للأنبياء فأممهم داخلون فيه بالمعنى؛ فيحسن بعد ذلك اتصال‏.‏ ‏{‏فتقطعوا‏}‏أي افترقوا، يعني الأمم، أي جعلوا دينهم أديانا بعد ما أمروا بالاجتماع‏.‏ ثم ذكر تعالى أن كلا منهم معجب برأيه وضلالته وهذا غاية الضلال‏.‏

هذه الآية تنظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة‏)‏ الحديث‏.‏ ‏"‏خرجه أبو داود، ورواه الترمذي‏"‏ وزاد‏:‏ قالوا ومن هي يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما أنا عليه وأصحابي‏)‏ خرجه من حديث عبدالله بن عمرو‏.‏ وهذا يبين أن الافتراق المحذر منه في الآية والحديث إنما هو في أصول الدين وقواعده، لأنه قد أطلق عليها مللا، وأخبر أن التمسك بشيء من تلك الملل موجب لدخول النار‏.‏ ومثل هذا لا يقال في الفروع، فإنه لا يوجب تعديد الملل ولا عذاب النار؛ قال الله ‏{‏لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا‏}‏.‏

قوله ‏{‏زبرا‏}‏يعني كتبا وضعوها وضلالات ألفوها؛ قاله ابن زيد‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم فرقوا الكتب فاتبعت فرقة الصحف وفرقة التوراة وفرقة الزبور وفرقة الإنجيل، ثم حرف الكل وبدل؛ قاله قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ أخذ كل فريق منهم كتابا آمن به وكفر بما سواه‏.‏ و‏{‏زبرا‏}‏بضم الباء قراءة نافع، جمع زبور‏.‏ والأعمش وأبو عمرو بخلاف عنه ‏{‏زبرا‏}‏بفتح الباء، أي قطعا كقطع الحديد؛ كقوله ‏{‏آتوني زبر الحديد‏}‏ ‏.‏ ‏{‏كل حزب‏}‏أي فريق وملة‏.‏ ‏{‏بما لديهم‏}‏أي عندهم من الدين‏.‏ ‏{‏فرحون‏}‏أي معجبون به‏.‏ وهذه الآية مثال لقريش خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم في شأنهم متصلا بقوله ‏{‏فذرهم في غمرتهم‏}‏أي فذر هؤلاء الذين هم بمنزلة من تقدم، ولا يضيق صدرك بتأخير العذاب عنهم؛ فلكل شيء وقت‏.‏ والغمرة في اللغة ما يغمرك ويعلوك؛ وأصله الستر؛ ومنه الغمر الحقد لأنه يغطي القلب‏.‏ والغمر الماء الكثير لأنه يغطي الأرض‏.‏ وغمر الرداء الذي يشمل الناس بالعطاء؛ قال‏:‏

غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المال

المراد هنا الحيرة الغفلة والضلالة‏.‏ ودخل فلان في غمار الناس، أي في زحمتهم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى حين‏}‏قال مجاهد‏:‏ حتى الموت، فهو تهديد لا توقيت؛ كما يقال‏:‏ سيأتي لك يوم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 55 ‏:‏ 56 ‏)‏

‏{‏أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين، نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ‏}‏

قوله ‏{‏أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين‏}‏‏{‏ما‏}‏بمعنى الذي؛ أي أيحسبون يا محمد أن الذي نعطيهم في الدنيا من المال والأولاد هو ثواب لهم، إنما هو استدراج وإملاء، ليس إسراعا في الخيرات‏.‏ وفي خبر ‏{‏أن‏}‏ثلاثة أقوال، منها أنه محذوف‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى نسارع لهم به في الخيرات، وحذفت به‏.‏ وقال هشام الضرير قولا دقيقا،قال ‏{‏أنما‏}‏هي الخيرات؛ فصار المعنى‏:‏ نسارع لهم فيه، ثم أظهر فقال ‏{‏في الخيرات‏}‏، ولا حذف فيه على هذا التقدير‏.‏ ومذهب الكسائي أن ‏{‏أنما‏}‏حرف واحد فلا يحتاج إلى تقدير حذف، ويجوز الوقف على قول ‏{‏وبنين‏}‏‏.‏ ومن قال ‏{‏أنما‏}‏حرفان فلا بد من ضمير يرجع من الخبر إلى اسم ‏{‏أن‏}‏ولم يتم الوقف على ‏{‏وبنين‏}‏‏.‏ وقال السختياني‏:‏ لا يحسن الوقف على ‏{‏وبنين‏}‏؛ لأن ‏{‏يحسبون‏}‏يحتاج إلى مفعولين، فتمام المفعولين ‏{‏في الخيرات‏}‏قال ابن الأنباري‏:‏ وهذا خطأ؛ لأن ‏{‏أن‏}‏كافية من اسم أن وخبرها ولا يجوز أن يؤتى بعد ‏{‏أن‏}‏بمفعول ثان‏.‏ وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي وعبدالرحمن بن أبي بكرة ‏{‏يسارع‏}‏بالياء، على أن يكون فاعله إمدادنا‏.‏ وهذا يجوز أن يكون على غير حذف؛ أي يسارع لهم الإمداد‏.‏ ويجوز أن يكون فيه حذف، ويكون المعنى يسارع الله لهم‏.‏ وقرئ ‏{‏يسارع لهم في الخيرات‏}‏وفيه ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها على حذف به‏.‏ ويجوز أن يكون يسارع الأمداد‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏لهم‏}‏اسم ما لم يسم فاعله؛ ذكره النحاس‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وقرأ الحر النحوي ‏{‏نسرع لهم في الخيرات‏}‏وهو معنى قراءة الجماعة‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ والصواب قراءة العامة؛ لقوله ‏{‏نمدهم‏}‏‏.‏ ‏{‏بل لا يشعرون‏}‏أن ذلك فتنة لهم واستدراج‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 57 ‏:‏ 60 ‏)‏

‏{‏ إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون، والذين هم بآيات ربهم يؤمنون، والذين هم بربهم لا يشركون، والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ‏}‏

قوله ‏{‏لما فرغ من ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك بذكر المؤمنين المسارعين في الخيرات ووعدهم، وذكر ذلك بأبلغ صفاتهم‏.‏ و‏{‏مشفقون‏}‏خائفون وجلون مما خوفهم الله تعالى‏.‏ ‏{‏والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة‏}‏قال الحسن‏:‏ يؤتون الإخلاص ويخافون ألا يقبل منهم‏.‏ و‏"‏روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها‏"‏ زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ‏{‏والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة‏}‏قالت عائشة‏:‏ أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات‏)‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لقد أدركنا أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها‏.‏ وقرأت عائشة رضي الله عنها وابن عباس والنخعي ‏{‏والذين يأتون ما أتوا‏}‏مقصورا من الإتيان‏.‏ قال الفراء‏:‏ ولو صحت هذه القراءة عن عائشة لم تخالف قراءة الجماعة؛ لأن الهمز من العرب من يلزم فيه الألف في كل الحالات إذا كتب؛ فيكتب سئل الرجل بألف بعد السين، ويستهزئون بألف بين الزاي والواو، وشيء وشيء بألف بعد الياء، فغير مستنكر في مذهب هؤلاء أن يكتب ‏{‏يؤتون‏}‏بألف بعد الياء، فيحتمل هذا اللفظ بالبناء على هذا الخط قراءتين ‏{‏يؤتون ما آتوا‏}‏و‏{‏يأتون ما أتوا‏}‏‏.‏ وينفرد ما عليه الجماعة باحتمال تأويلين‏:‏ أحدهما‏:‏ الذين يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقة وقلوبهم خائفة‏.‏ والآخر‏:‏ والذين يؤتون الملائكة الذين يكتبون الأعمال على العباد ما آتوا وقلوبهم وجلة؛ فحذف مفعول في هذا الباب لوضوح معناه؛ كما حذف في قوله عز وجل ‏{‏فيه يغاث الناس وفيه يعصرون‏}‏ والمعنى يعصرون السمسم والعنب؛ فاختزل المفعول لوضوح تأويله‏.‏ ويكون الأصل في الحرف على هجائه الوجود في الإمام ‏{‏يأتون‏}‏بألف مبدلة من الهمزة فكتبت الألف واوا لتآخي حروف المد واللين في الخفاء؛ حكاه ابن الأنباري‏.‏ قال النحاس‏:‏ المعروف من قراءة ابن عباس ‏{‏والذين يأتون ما أتوا‏}‏وهي القراءة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عائشة رضي الله عنها، ومعناها يعملون ما عملوا؛ ما روي في الحديث‏.‏ والوجل نحو الإشفاق والخوف؛ فالتقي والتائب خوفه أمر العاقبة وما يطلع عليه بعد الموت‏.‏ وفي قوله ‏{‏أنهم إلى ربهم راجعون‏}‏تنبيه على الخاتمة‏.‏‏"‏ وفي صحيح البخاري ‏"‏‏(‏وإنما الأعمال بالخواتيم‏)‏‏.‏ وأما المخلط فينبغي له أن يكون تحت خوف من أن ينفذ عليه الوعيد بتخليطه‏.‏ وقال أصحاب الخواطر‏:‏ وجل العارف من طاعته أكثر وجلا من وجله من مخالفته؛ لأن المخالفة تمحوها التوبة، والطاعة تطلب بتصحيح الفرض‏.‏ ‏{‏أنهم‏}‏أي لأنهم، أو من أجل أنهم إلى ربهم راجعون‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 61 ‏)‏

‏{‏أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ‏}‏

قوله ‏{‏أولئك يسارعون في الخيرات‏}‏أي في الطاعات، كي ينالوا بذلك أعلى الدرجات والغرفات‏.‏ وقرئ ‏{‏يسرعون في الخيرات‏}‏ أي يكونوا سراعا إليها‏.‏ ويسارعون على معنى يسابقون من سابقهم إليها؛ فالمفعول محذوف‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يسارعون أبلغ من يسرعون‏.‏ ‏{‏وهم لها سابقون‏}‏أحسن ما قيل فيه‏:‏ أنهم يسبقون إلى أوقاتها‏.‏ ودل بهذا أن الصلاة في أول الوقت أفضل؛ كما تقدم في - البقرة -وكل من تقدم في شيء فهو سابق إليه، وكل من تأخر عنه فقد سبقه وفاته؛ فاللام في ‏{‏لها‏}‏على هذا القول بمعنى إلى؛ كما قال ‏{‏بأن ربك أوحى لها‏}‏ أي أوحى إليها‏.‏ وأنشد سيبويه‏:‏

تجانف عن جو اليمامة ناقتي وما قصدت من أهلها لسوائكا

وعن ابن عباس في معنى ‏{‏وهم لها سابقون‏}‏سبقت لهم من الله السعادة؛ فلذلك سارعوا في الخيرات‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وهم من أجل الخيرات سابقون‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 62 ‏)‏

‏{‏ ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون ‏}‏

قوله ‏{‏ولا نكلف نفسا إلا وسعها‏}‏قد مضى في - البقرة-‏.‏ ‏{‏ولدينا كتاب ينطق بالحق‏}‏أظهر ما قيل فيه‏:‏ إنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة؛ وأضافه إلى نفسه لأن الملائكة كتبت فيه أعمال العباد بأمره، فهو ينطق بالحق‏.‏ وفي هذا تهديد وتأييس من الحيف والظلم‏.‏ ولفظ النطق يجوز في الكتاب؛ والمراد أن النبيين تنطق بما فيه‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقيل‏:‏ عنى اللوح المحفوظ، وقد أثبت فيه كل شيء، فهم لا يجاوزون ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ الإشارة بقوله ‏{‏ولدينا كتاب‏}‏القرآن، فالله أعلم، وكل محتمل والأول أظهر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 63 ‏:‏ 65 ‏)‏

‏{‏بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون، لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون ‏}‏

قوله ‏{‏بل قلوبهم في غمرة من هذا‏}‏قال مجاهد‏:‏ أي في غطاء وغفلة وعماية عن القرآن‏.‏ ويقال‏:‏ غمره الماء إذا غطاه‏.‏ ونهر غمر يغطي من دخله‏.‏ ورجل غمر يغمره آراء الناس‏.‏ وقيل ‏{‏غمرة‏}‏لأنها تغطي الوجه‏.‏ ومنه دخل في غمار الناس وخمارهم، أي فيما يغطيه من الجمع‏.‏ وقيل ‏{‏بل قلوبهم في غمرة‏}‏أي في حيرة وعمى؛ أي مما وصف من أعمال البر في الآيات المتقدمة؛ قال قتادة‏.‏ أو من الكتاب الذي ينطق بالحق‏.‏ ‏{‏ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون‏}‏قال قتادة ومجاهد‏:‏ أي لهم خطايا لا بد أن يعملوها من دون الحق‏.‏ وقال الحسن وابن زيد‏:‏ المعنى ولهم أعمال رديئة لم يعملوها من دون ما هم عليه، لا بد أن يعملوها دون أعمال المؤمنين، فيدخلون بها النار، لما سبق لهم من الشقوة‏.‏ ويحتمل ثالثا‏:‏ أنه ظلم الخلق مع الكفر بالخالق؛ ذكره الماوردي‏.‏ والمعنى متقارب‏.‏ ‏{‏حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب‏}‏يعني بالسيف يوم بدر؛ قال ابن عباس‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني بالجوع حين قال النبي صلى الله عليه وسلم صلى‏:‏ ‏(‏اللهم أشدد وطأتك على مضر الله اجعلها عليهم سنين كسني يوسف‏)‏‏.‏ فابتلاهم الله بالقحط والجوع حتى أكلوا العظام والميتة والكلاب والجيف، وهلك الأموال والأولاد‏.‏ ‏{‏إذا هم يجأرون‏}‏أي يضجون ويستغيثون‏.‏ وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرع كما يفعل الثور‏.‏ وقال الأعشى يصف بقرة‏:‏

فطافت ثلاثا بين يوم وليلة وكان النكير أن تضيف وتجأرا

قال الجوهري‏:‏ الجؤار مثل الخوار؛ يقال‏:‏ جأر الثور يجأر أي صاح‏.‏ وقرأ بعضهم ‏{‏عجلا جسدا له جؤار‏}‏حكاه الأخفش‏.‏ وجأر الرجل إلى الله عز وجل تضرع بالدعاء‏.‏ قتادة‏:‏ يصرخون بالتوبة فلا تقبل منهم‏.‏ قال‏:‏

يراوج من صلوات المليك فطورا سجودا وطورا جؤارا

وقال ابن جريج‏}‏حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب‏}‏هم الذين قتلوا ببدر ‏{‏إذا هم يجأرون‏}‏هم الذين بمكة؛ فجمع بين القولين المتقدمين، وهو حسن‏.‏ ‏{‏لا تجأروا اليوم‏}‏أي من عذابنا‏.‏ ‏{‏لا تنصرون‏}‏لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لا تنصرون بقبول التوبة‏.‏ وقيل‏:‏ معنى هذا النهي الإخبار؛ أي إنكم إن تضرعتم لم ينفعكم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 66 - 67 ‏)‏

‏{‏قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون، مستكبرين به سامرا تهجرون‏}‏

قوله ‏{‏قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون‏}‏الآيات يريد بها القرآن‏.‏ ‏{‏تتلى عليكم‏}‏أي تقرأ‏.‏ قال الضحاك‏:‏ قبل أن تعذبوا بالقتل و‏{‏تنكصون‏}‏ترجعون وراءكم‏.‏ مجاهد‏:‏ تستأخرون؛ وأصله أن ترجع القهقرى‏.‏ قال الشاعر‏:‏

زعموا بأنهم على سبل النجا ة وإنما نكص على الأعقاب

وهو هنا استعارة للإعراض عن الحق‏.‏ قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه ‏{‏على أدباركم‏}‏بدل ‏{‏على أعقابكم‏}‏، ‏{‏تنكصون‏}‏بضم الكاف‏.‏ و‏{‏مستكبرين به‏}‏حال، والضمير في ‏{‏به‏}‏قال الجمهور‏:‏ هو عائد على الحرم أو المسجد أو البلد الذي هو مكة، وإن لم يتقدم له ذكر لشهرته في الأمر؛ أي يقولون نحن أهل الحرم فلا نخاف‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنهم يعتقدون في نفوسهم أن لهم بالمسجد والحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل؛ فيستكبرون لذلك، وليس الاستكبار من الحق‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الضمير عائد عل القرآن من حيث ذكرت الآيات؛ والمعنى‏:‏ يحدث لكم سماع آياتي كبرا وطغيانا فلا تؤمنوا به‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول جيد‏.‏ النحاس‏:‏ والقول الأول أولى، والمعنى‏:‏ أنهم يفتخرون بالحرم ويقولون نحن أهل حرم الله تعالى‏.‏

قوله ‏{‏سامرا تهجرون‏}‏‏{‏سامرا‏}‏نصب على الحال، ومعناه سمارا، وهو الجماعة يتحدثون بالليل، مأخوذ من السمر وهو ظل القمر؛ ومنه سمرة اللون‏.‏ وكانوا يتحدثون حول الكعبة في سمر القمر؛ فسمي التحدث به‏.‏ قال الثوري‏:‏ يقال لظل القمر السمر؛ ومنه السمرة في اللون، ويقال له‏:‏ الفخت؛ ومنه قيل فاختة‏.‏ وقرأ أبو رجاء ‏{‏سمارا‏}‏وهو جمع سامر؛ كما قال‏:‏ ألست ترى السمار والناس أحوالي وفي حديث قيلة‏:‏ إذا جاء زوجها من السامر؛ يعني من القوم الذين يسمرون بالليل؛ فهو اسم مفرد بمعنى الجمع، كالحاضر وهم القوم النازلون على الماء، والباقر جمع البقر، والجامل جمع الإبل، ذكورتها وإناثها؛ ومنه قوله ‏{‏ثم نخرجكم طفلا‏}‏ أي أطفالا‏.‏ يقال‏:‏ قوم سمر وسمر وسامر، ومعناه سهر الليل؛ مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الأشجار من ضوء القمر‏.‏ قال الجوهري‏:‏ السامر أيضا السمار، وهم القوم الذين يسمرون؛ كما يقال للحاج حجاج، وقول الشاعر‏:‏

وسامر طال فيه اللهو والسمر

كأنه سمى المكان الذي يجتمع فيه للسمر بذلك‏.‏ وقيل‏:‏ وحد سامرا وهو بمعنى السمار؛ لأنه وضع موضع الوقت، كقول الشاعر‏:‏

من دونهم إن جئتهم سمرا عزف القيان ومجلس غمر

فقال‏:‏ سمرا لأن معناه‏:‏ إن جئتهم ليلا وجدتهم وهم يسمرون‏.‏ وابنا سمير‏:‏ الليل والنهار؛ لأنه يسمر فيهما، يقال‏:‏ لا أفعله ما سمر ابنا سمير أبدا‏.‏ ويقال‏:‏ السمير الدهر، وابناه الليل والنهار‏.‏ ولا أفعله السمر والقمر؛ أي ما دام الناس يسمرون في ليلة قمراء‏.‏ ولا أفعله سمير الليالي‏.‏ قال الشنفرى‏:‏

هنالك لا أرجو حياة تسرني سمير الليالي مبسلا بالجرائر

والسمار بالفتح اللبن الرقيق‏.‏ وكانت العرب تجلس للسمر تتحدث، وهذا أوجب معرفتها بالنجوم؛ لأنها تجلس في الصحراء فترى الطوالع من الغوارب‏.‏ وكانت قريش تسمر حول الكعبة مجالس في أباطيلها وكفرها، فعابهم الله بذلك‏.‏ و‏{‏تهجرون‏}‏قرئ بضم التاء وكسر الجيم من أهجر، إذا نطق بالفحش‏.‏ وبنصب التاء وضم الجيم من هجر المريض إذا هدى‏.‏ ومعناه‏:‏ يتكلمون بهوس وسيء من القول في النبي صلى الله عليه وسلم وفي القرآن؛ عن ابن عباس وغيره‏.‏

روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية ‏{‏مستكبرين به سامرا تهجرون‏}‏؛ يعني أن الله تعالى ذم أقواما يسمرون في غير طاعة الله تعالى، إما في هذيان وإما في إذاية‏.‏ وكان الأعمش يقول‏:‏ إذا رأيت الشيخ ولم يكتب الحديث فاصفعه فإنه من شيوخ القمر؛ يعني يجتمعون في ليالي القمر فيتحدثون بأيام الخلفاء والأمراء ولا يحسن أحدهم أن يتوضأ للصلاة‏.‏

‏"‏روى مسلم عن أبي برزة‏"‏ قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء إلى ثلث الليل ويكره النوم قبلها والحديث بعدها‏.‏ قال العلماء‏:‏ أما الكراهية للنوم قبلها فلئلا يعرضها للفوات عن كل وقتها أو أفضل وقتها؛ ولهذا قال عمر‏:‏ فمن نام فلا نامت عينه؛ ثلاثا‏.‏ وممن كره النوم قبلها عمر وابنه عبدالله وابن عباس وغيرهم، وهو مذهب مالك‏.‏ ورخص فيه بعضهم، منه علي وأبو موسى وغيرهم؛ وهو مذهب الكوفيين‏.‏ وشرط بعضهم أن يجعل معه من يوقظه للصلاة‏.‏ وروي عن ابن عمر مثله، وإليه ذهب الطحاوي‏.‏ وأما كراهية الحديث بعدها فلأن الصلاة قد كفرت خطاياه فينام على سلامة، وقد ختم الكتاب صحيفته بالعبادة؛ فإن هو سمر وتحدث فيملؤها بالهوس ويجعل خاتمتها اللغو والباطل، وليس هذا من فعل المؤمنين‏.‏ وأيضا فإن السمر في الحديث مظنة غلبة النوم آخر الليل فينام عن قيام آخر الليل، وربما ينام عن صلاة الصبح‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنما يكره السمر بعدها لما روى جابر بن عبدالله قال قال رسول الله‏:‏ ‏(‏إياكم والسمر بعد هدأة الرجل فإن أحدكم لا يدري ما يبث الله تعالى من خلقه أغلقوا الأبواب وأوكوا السقاء وخمروا الإناء وأطفؤوا المصابيح‏)‏‏.‏ وروي عن عمر أنه كان يضرب الناس على الحديث بعد العشاء، ويقول‏:‏ أسمرا أول الليل ونوما آخره‏!‏ أريحوا كتابكم‏.‏ حتى أنه روي عن ابن عمر أنه قال‏:‏ من قرض بيت شعر بعد العشاء لم تقبل له صلاة حتى يصبح‏.‏ وأسنده شداد بن أوس إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الحكمة في كراهية الحديث بعدها إنما هو لما أن الله تعالى جعل الليل سكنا، أي يسكن فيه، فإذا تحدث الإنسان فيه فقد جعله في النهار الذي هو متصرف المعاش؛ فكأنه قصد إلى مخالفة حكمة الله تعالى التي أجرى عليها وجوده فقال ‏{‏وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا‏}‏ ‏.‏

هذه الكراهة إنما تختص بما لا يكون من قبيل القرب والأذكار وتعليم العلم، ومسامرة الأهل بالعلم وبتعليم المصالح وما شابه ذلك؛ فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف ما يدل على جواز ذلك، بل على ندبيته‏.‏ وقد قال ‏"‏البخاري‏"‏‏:‏ ‏(‏باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء‏)‏ وذكر أن قرة بن خالد قال‏:‏ انتظرنا الحسن وراث علينا حتى جاء قريبا من وقت قيامه، فجاء فقال‏:‏ دعانا جيراننا هؤلاء‏.‏ ثم قال أنس‏:‏ انتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى كان شطر الليل فجاء فصلى ثم خطبنا فقال‏:‏ ‏(‏إن الناس قد صلوا وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة‏)‏‏.‏ قال الحسن‏:‏ فإن القوم لا يزالون في خير ما انتظروا الخير‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏باب السمر مع الضيف والأهل‏)‏ وذكر حديث أبي بكر بن عبدالرحمن أن أصحاب الصفة كانوا فقراء‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏ ‏"‏أخرجه مسلم أيضا‏"‏‏.‏ وقد جاء في حراسة الثغور وحفظ العساكر بالليل من الثواب الجزيل والأجر العظيم ما هو مشهور في الأخبار‏.‏ وقد مضى من ذلك جملة في آخر - آل عمران -والحمد لله وحده‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 68 ‏)‏

‏{‏ أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ‏}‏

قوله ‏{‏أفلم يدبروا القول‏}‏يعني القرآن؛ وهو كقوله ‏{‏أفلا يتدبرون القرآن‏}‏ .‏ وسمى القرآن قولا لأنهم خوطبوا به‏.‏ ‏{‏أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين‏}‏فأنكره وأعرضوا عنه‏.‏ وقيل ‏{‏أم‏}‏بمعنى بل؛ أي بل جاءهم ما لا عهد لآبائهم به، فلذلك أنكروه وتركوا التدبر له‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ وقيل المعنى أم جاءهم أمان من العذاب، وهو شيء لم يأت آباءهم الأولين فتركوا الأعز‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 69 ‏)‏

‏{‏ أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ‏}‏

هذا تستعمله العرب على معنى التوقيف والتقبيح، فيقولون‏:‏ الخير أحب إليك أم الشر؛ أي قد أخبرت الشر فتجنبه، وقد عرفوا رسولهم وأنه من أهل الصدق والأمانة؛ ففي اتباعه النجاة والخير لولا العنت‏.‏ قال سفيان‏:‏ بلى‏!‏ قد عرفوه ولكنهم حسدوه‏!‏

الآية رقم ‏(‏ 70 ‏)‏

‏{‏أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ‏}‏

قوله ‏{‏أم يقولون به جنة‏}‏أي أم يحتجون في ترك الإيمان به بأنه مجنون، فليس هو هكذا لزوال أمارات الجنون عنه‏.‏ ‏{‏بل جاءهم بالحق‏}‏يعني القرآن والتوحيد الحق والدين الحق‏.‏ ‏{‏وأكثرهم‏}‏أي كلهم ‏{‏للحق كارهون‏}‏حسدا وبغيا وتقليدا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 71 ‏)‏

‏{‏ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ‏}‏

قوله ‏{‏ولو اتبع الحق‏}‏‏{‏الحق‏}‏هنا هو الله سبحانه وتعالى؛ قال الأكثرون، منهم مجاهد وابن جريج وأبو صالح وغيرهم‏.‏ وتقديره في العربية‏:‏ ولو اتبع صاحب الحق؛ قاله النحاس‏.‏ وقد قيل‏:‏ هو مجاز، أي لو وافق الحق أهواءهم؛ فجعل موافقته اتباعا مجازا؛ أي لو كانوا يكفرون بالرسل ويعصون الله عز وجل ثم لا يعاقبون ولا يجازون على ذلك إما عجزا وإما جهلا لفسدت السموات والأرض‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ولو كان الحق ما يقولون من اتخاذ آلهة مع الله تعالى لتنافت الآلهة، وأراد بعضهم ما لا يريده بعض، فاضطرب التدبير وفسدت السموات والأرض، وإذا فسدتا فسد من فيهما‏.‏ وقيل ‏{‏لو اتبع الحق أهواءهم‏}‏أي بما يهواه الناس ويشتهونه لبطل نظام العالم؛ لأن شهوات الناس تختلف وتتضاد، وسبيل الحق أن يكون متبوعا، وسبيل الناس الانقياد للحق‏.‏ وقيل ‏{‏الحق‏}‏القرآن؛ أي لو نزل القرآن بما يحبون لفسدت السموات والأرض‏.‏ ‏{‏ومن فيهن‏}‏إشارة إلى من يعقل من ملائكة السموات وإنس الأرض وجنها؛ الماوردي‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يعني وما بينهما من خلق؛ وهي قراءة ابن مسعود ‏{‏لفسدت السموات والأرض وما بينهما‏}‏فيكون على تأويل الكلبي وقراءة ابن مسعود محمولا على فساد من يعقل وما لا يعقل من حيوان وجماد‏.‏ وظاهر التنزيل في قراءة الجمهور يكون محمولا على فساد ما يعقل من الحيوان؛ لأن ما لا يعقل تابع لما يعقل في الصلاح والفساد، فعلى هذا ما يكون من الفساد يعود على من في السموات من الملائكة بأن جعلت أربابا وهي مربوبة، وعبدت وهي مستعبدة‏.‏ وفساد الإنس يكون على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ باتباع الهوى، وذلك مهلك‏.‏ الثاني‏:‏ بعبادة غير الله، وذلك كفر‏.‏ وأما فساد ما عدا ذلك فيكون على وجه التبع؛ لأنهم مدبرون بذوي العقول فعاد فساد المدبرين عليهم‏.‏

قوله ‏{‏بل أتيناهم بذكرهم‏}‏أي بما فيه شرفهم وعزهم؛ قاله السدي وسفيان‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أي بما لهم فيه ذكر ثوابهم وعقابهم‏.‏ ابن عباس‏:‏ أي ببيان الحق وذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين‏.‏ ‏{‏فهم عن ذكرهم معرضون‏}‏

الآية رقم ‏(‏ 72 ‏)‏

‏{‏ أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين ‏}‏

قوله ‏{‏أم تسألهم خرجا‏}‏أي أجرا على ما جئتهم به؛ قال الحسن وغيره‏.‏ ‏{‏فخراج ربك خير‏}‏وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب ‏{‏خراجا‏}‏بألف‏.‏ الباقون بغير ألف‏.‏ وكلهم قد قرؤوا ‏{‏فخراج‏}‏بالألف إلا ابن عامر وأبا حيوة فإنهما قرأ بغير الألف‏.‏ والمعنى‏:‏ أم تسألهم رزقا فرزق ربك خير‏.‏ ‏{‏وهو خير الرازقين‏}‏أي ليس يقدر أحد أن يرزق مثل رزقه، ولا ينعم مثل إنعامه‏.‏ وقيل‏:‏ أي ما يؤتيك الله من الأجر على طاعتك له والدعاء إليه خير من عرض الدنيا، وقد عرضوا عليك أموالهم حتى تكون كأعين رجل من قريش فلم تجبهم إلى ذلك؛ قال معناه الحسن‏.‏ والخرج والخراج واحد، إلا أن اختلاف الكلام أحسن؛ قال الأخفش‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ الخرج الجعل، والخراج العطاء‏.‏ المبرد‏:‏ الخرج المصدر، والخراج الاسم‏.‏ وقال النضر بن شميل‏:‏ سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال‏:‏ الخراج ما لزمك، والخرج ما تبرعت به‏.‏ وعنه أن الخرج من الرقاب، والخراج من الأرض‏.‏ ذكر الأول الثعلبي والثاني الماوردي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 73 ‏:‏ 74 ‏)‏

‏{‏وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم، وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ‏}‏

قوله ‏{‏وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم‏}‏أي إلى دين قويم‏.‏ والصراط في اللغة الطريق؛ فسمي الدين طريقا لأنه يؤدي إلى الجنة فهو طريق إليها‏.‏ ‏{‏وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏أي بالبعث‏.‏ ‏{‏عن الصراط لناكبون‏}‏قيل‏:‏ هو مثل الأول‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم عن طريق الجنة لناكبون حتى يصيروا إلى النار‏.‏ نكب عن الطريق ينكب نكوبا إذا عدل عنه ومال إلى غيره؛ ومنه نكبت الريح إذا لم تستقم على مجرى‏.‏ وشر الريح النكباء‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 75 ‏)‏

‏{‏ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ‏}‏

قوله ‏{‏ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر‏}‏أي لو رددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم ‏{‏للجوا في طغيانهم‏}‏قال السدي‏:‏ في معصيتهم‏.‏ ‏{‏يعمهون‏}‏قال الأعمش‏:‏ يترددون‏.‏ قال ابن جريج‏}‏ولو رحمناهم‏}‏يعني في الدنيا ‏{‏وكشفنا ما بهم من ضر‏}‏أي من قحط وجوع ‏{‏للجوا‏}‏أي لتمادوا ‏{‏في طغيانهم‏}‏وضلالتهم وتجاوزهم الحد ‏{‏يعمون‏}‏يتذبذبون ويخبطون‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 76 ‏)‏

‏{‏ ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون‏}‏

قوله ‏{‏ولقد أخذناهم بالعذاب‏}‏قال الضحاك‏:‏ بالجوع‏.‏ وقيل‏:‏ بالأمراض والحاجة والجوع‏.‏ وقيل‏:‏ بالقتل والجوع‏.‏ ‏{‏فما استكانوا لربهم‏}‏أي ما خضعوا‏.‏ ‏{‏وما يتضرعون‏}‏أي ما يخشعون لله عز وجل في الشدائد تصيبهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في قصة ثمامة بن أثال لما أسرته السرية وأسلم وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيله، حال بين مكة وبين الميرة وقال‏:‏ والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخذ الله قريشا بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز؛ قيل وما العلهز‏؟‏ قل‏:‏ كانوا يأخذون الصوف والوبر فيبلونه بالدم ثم يشوونه ويأكلونه‏.‏ فقال له أبو سفيان‏:‏ أنشدك الله والرحم‏!‏ أليس تزعم أن الله بعثك رحمة للعالمين‏؟‏ قال ‏(‏بلى‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فوالله ما أراك إلا قتلت الآباء بالسيف، وقتلت الأبناء بالجوع؛ فنزل قوله ‏{‏ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 77 ‏)‏

‏{‏حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون ‏}‏

قوله ‏{‏حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد‏}‏قال عكرمة‏:‏ هو باب من أبواب جهنم، عليه من الخزنة أربعمائة ألف، سود وجوههم، كالحة أنيابهم، وقد قلعت الرحمة من قلوبهم؛ إذا بلغوه فتحه الله عز وجل عليهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو قتلهم بالسيف يوم بدر‏.‏ مجاهد‏:‏ هو القحط الذي أصابهم حتى أكلوا العلهز من الجوع؛ على ما تقدم‏.‏ وقيل فتح مكة‏.‏ ‏{‏إذا هم فيه مبلسون‏}‏أي يائسون متحيرون لا يدرون ما يصنعون، كالآيس من الفرج ومن كل خير‏.‏ وقد تقدم في - الأنعام-‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 78 ‏)‏

‏{‏وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ‏}‏

قوله ‏{‏وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة‏}‏عرفهم كثرة نعمه وكمال قدرته‏.‏ ‏{‏قليلا ما تشكرون‏}‏أي ما تشكرون إلا شكرا قليلا‏.‏ وقيل‏:‏ أي لا تشكرون البتة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 79 ‏)‏

‏{‏ وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ‏}‏

قوله ‏{‏وهو الذي ذرأكم في الأرض‏}‏أي أنشأكم وبثكم وخلقكم‏.‏ ‏{‏وإليه تحشرون‏}‏أي تجمعون للجزاء‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 80 ‏:‏ 89 ‏)‏

‏{‏وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون، بل قالوا مثل ما قال الأولون، قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون، لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين، قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون، قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، سيقولون لله قل أفلا تتقون، قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل فأنى تسحرون ‏}‏

قوله ‏{‏وهو الذي يحي ويميت وله اختلاف الليل والنهار‏}‏أي جعلهما مختلفين؛ كقولك‏:‏ لك الأجر والصلة؛ أي إنك تؤجر وتوصل؛ قاله الفراء‏.‏ وقيل‏:‏ اختلافهما نقصان أحدهما وزيادة الآخر‏.‏ وقيل‏:‏ اختلافهما في النور والظلمة‏.‏ وقيل‏:‏ تكررهما يوما بعد ليلة وليلة بعد يوم‏.‏ ويحتمل خامسا‏:‏ اختلاف ما مضى فيهما من سعادة وشقاء وضلال وهدى‏.‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏كنه قدرته وربوبيته ووحدانيته، وأنه لا يجوز أن يكون له شريك من خلقه، وأنه قادر على البعث‏.‏ ثم عيرهم بقولهم وأخبر عنهم أنهم ‏{‏قالوا مثل ما قال الأولون‏}‏هذا لا يكون ولا يتصور‏.‏ ‏{‏لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل‏}‏أي من قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم، فلم نر له حقيقة‏.‏ ‏{‏إن هذا‏}‏أي ما هذا ‏{‏إلا أساطير الأولين‏}‏أي أباطيلهم وترهاتهم؛ وقد تقدم هذا كله‏.‏ قال الله ‏{‏قل‏}‏يا محمد جوابا لهم عما قالوه ‏{‏لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون‏}‏يخبر بربوبيته ووحدانيته وملكه الذي لا يزول، وقدرته التي لا تحول؛ فـ ‏{‏سيقولون لله‏}‏ولا بد لهم من ذلك‏.‏ ‏{‏قل أفلا تتذكرون‏}‏أي أفلا تتعظون وتعلمون أن من قدر على خلق ذلك ابتداء فهو على إحياء الموتى بعد موتهم قادر‏.‏

قوله يريد أفلا تخافون حيث تجعلون لي ما تكرهون؛ زعمتم أن الملائكة بناتي، وكرهتم لأنفسكم البنات‏.‏ ‏{‏قل من بيده ملكوت كل شيء‏}‏بريد السموات وما فوقها وما بينهن، والأرضين وما تحتهن وما بينهن، وما لا يعلمه أحد إلا هو‏.‏ وقال مجاهد‏}‏ملكوت كل شيء‏}‏خزائن كل شيء‏.‏ الضحاك‏:‏ ملك كل شيء‏.‏ والملكوت من صفات المبالغة كالجبروت والرهبوت؛ وقد مضى في - الأنعام -‏.‏ ‏{‏وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون‏}‏أي يمنع ولا يمنع منه‏.‏ وقيل ‏{‏يجير‏}‏يؤمن من شاء‏.‏ ‏{‏ولا يجار عليه‏}‏أي لا يؤمن من أخافه‏.‏ ثم قيل‏:‏ هذا في الدنيا؛ أي من أراد الله إهلاكه وخوفه لم يمنعه منه مانع، ومن أراد نصره وأمنه لم يدفعه من نصره وأمنه دافع‏.‏ وقيل‏:‏ هذا في الآخرة، أي لا يمنعه من مستحق الثواب مانع ولا يدفعه عن مستوجبه العذاب دافع‏.‏ ‏{‏فأنى تسحرون‏}‏أي فكيف تخدعون وتصرفون عن طاعته وتوحيده‏.‏ أو كيف يخيل إليكم أن تشركوا به ما لا يضر ولا ينفع‏!‏ والسحر هو التخييل‏.‏ وكل هذا احتجاج على العرب المقرين بالصانع وقرأ أبو عمرو ‏{‏سيقولون لله‏}‏في الموضعين الأخيرين؛ وهي قراءة أهل العراق‏.‏ الباقون ‏{‏لله‏}‏، ولا خلاف في الأول أنه ‏{‏لله‏}‏؛ لأنه جواب لـ ‏{‏قل لمن الأرض ومن فيها‏}‏فلما تقدمت اللام في ‏{‏لمن‏}‏رجعت في الجواب‏.‏ ولا خلاف أنه مكتوب في جميع المصاحف بغير ألف‏.‏ وأما من قرأ ‏{‏سيقولون الله‏}‏فن السؤال بغير لام فجاء الجواب على لفظه، وجاء في الأول ‏{‏لله‏}‏لما كان السؤال باللام‏.‏ وأما من قرأ ‏{‏لله‏}‏باللام في الأخيرين وليس في السؤال لام فن معنى ‏{‏من رب السموات السبع ورب العرش العظيم‏}‏‏:‏ قل لمن السموات السبع ورب العرش العظيم‏.‏ فكان الجواب ‏{‏لله‏}‏؛ حين قدرت اللام في السؤال‏.‏ وعلة الثالثة كعلة الثانية‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

إذا قيل من رب المزالف والقرى ورب الجياد الجرد قلت لخالد

أي لمن المزالف‏.‏ ودلت هذه الآيات على جواز جدال الكفار وإقامة الحجة عليهم‏.‏ وقد تقدم في - البقرة -‏.‏ ونبهت على أن من ابتدأ بالخلق والاختراع والإيجاد والإبداع هو المستحق للألوهية والعبادة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 90 ‏:‏ 92 ‏)‏

‏{‏ بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون، ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون، عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون ‏

قوله ‏{‏بل أتيناهم بالحق‏}‏أي بالقول الصدق، لا ما تقوله الكفار من إثبات الشريك ونفي البعث‏.‏ ‏{‏وإنهم لكاذبون‏}‏أن الملائكة بنات الله‏.‏ فقال الله ‏{‏ما اتخذ الله من ولد‏}‏‏{‏من‏}‏صلة‏.‏ ‏{‏وما كان معه من إله‏}‏‏{‏من‏}‏زائدة؛ والتقدير‏:‏ ما اتخذ الله ولدا كما زعمتم، ولا كان معه إله فيما خلق‏.‏ وفي الكلام حذف؛ والمعنى‏:‏ لو كانت معه آلهة لانفرد كل إله بخلقه‏.‏ ‏{‏ولعلا بعضهم على بعض‏}‏أي ولغالب وطلب القوي الضعيف كالعادة بين الملوك، وكان الضعيف المغلوب لا يستحق الإلهية‏.‏ وهذا الذي يدل على نفي الشريك يدل على نفي الولد أيضا؛ لأن الولد ينازع الأب في الملك منازعة الشريك‏.‏ ‏{‏سبحان الله عما يصفون‏}‏تنزيها له عن الولد والشريك‏.‏ ‏{‏عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون‏}‏تنزيه وتقديس‏.‏ وقرأ نافا وأبو بكر وحمزة والكسائي ‏{‏عالم‏}‏بالرفع على الاستئناف؛ أي هو عالم الغيب‏.‏ الباقون بالجر على الصفة لله‏.‏ و روى رويس عن يعقوب ‏{‏عالم‏}‏إذا وصل خفضا‏.‏ و‏{‏عالم‏}‏إذا ابتدأ رفعا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 93 ‏:‏ 94 ‏)‏

‏{‏ قل رب إما تريني ما يوعدون، رب فلا تجعلني في القوم الظالمين ‏}‏

علمه ما يدعو به؛ أي قل رب، أي يا رب إن أريتني ما يوعدون من العذاب‏.‏ ‏{‏فلا تجعلني في القوم الظالمين‏}‏أي في نزول العذاب بهم، بل أخرجني منهم‏.‏ وقيل‏:‏ النداء معترض؛ و‏{‏ما‏}‏في ‏{‏إما‏}‏زائدة‏.‏ وقيل‏:‏ إن أصل إما إن ما؛ فـ ‏{‏إن‏}‏شرط و‏{‏ما‏}‏شرط، فجمع بين الشرطين توكيدا، والجواب ‏{‏فلا تجعلني في القوم الظالمين‏}‏؛ أي إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني منهم‏.‏ وكان عليه السلام يعلم أن الله تعالى لا يجعله في القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب، ومع هذا أمره الرب بهذا الدعاء والسؤال ليعظم أجره وليكون في كل الأوقات ذاكرا لربه تعالى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 95 ‏)‏

‏{‏ وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون ‏}‏

نبه على أن خلاف المعلوم مقدور، وقد أراه الله تعالى ذلك فيهم بالجوع والسيف، ونجاه الله ومن آمن به من ذلك‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 96 ‏)‏

‏{‏ ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون ‏}‏

قوله ‏{‏ادفع بالتي هي أحسن السيئة‏}‏أمر بالصفح ومكارم الأخلاق؛ فما كان منها لهذه الأمة فيما بينهم فهو محكم باق في الأمة أبدا‏.‏ وما كان فيها من موادعة الكفار وترك التعرض لهم والصفح عن أمورهم فمنسوخ بالقتال‏.‏ ‏{‏نحن أعلم بما يصفون‏}‏أي من الشرك والتكذيب‏.‏ وهذا يقتضي أنها آية موادعة، والله تعالى أعلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 97 ‏:‏ 98 ‏)‏

‏{‏وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون ‏}‏

قوله ‏{‏من همزات الشياطين‏}‏‏{‏الهمزات‏}‏هي جمع همزة‏.‏ والهمز في اللغة النخس والدفع؛ يقال‏:‏ همزة ولمزه ونخسه دفعه‏.‏ قال الليث‏:‏ الهمز كلام من وراء القفا، واللمز مواجهة‏.‏ والشيطان يوسوس فيهمس في وسواسه في صدر ابن آدم؛ وهو قوله ‏{‏أعوذ بك من همزات الشياطين‏}‏أي نزغات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى‏.‏ وفي الحديث‏:‏ كان يتعوذ من همز الشيطان ولمزه وهمسه‏.‏ قال أبو الهيثم‏:‏ إذا أسر الكلام وأخفاه فذلك الهمس من الكلام‏.‏ وسمي الأسد هوسا؛ لأنه يمشي بخفه لا يسمع صوت وطئه‏.‏ وقد تقدم في - طه -

أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتعوذ من الشيطان في همزاته، وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه، كأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكفار فتقع المحادة فلذلك اتصلت بهذه الآية‏.‏ فالنزغات وسورات الغضب الواردة من الشيطان هي المتعوذ منها في الآية؛ وقد تقدم في آخر - الأعراف - بيانه مستوفى، وفي أول الكتاب أيضا‏.‏ وروي عن علي بن حرب بن محمد الطائي حدثنا سفيان عن أيوب عن محمد بن حبان أن خالدا كان يؤرق من الليل؛ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يتعوذ بكلمات الله التامة من غضب الله وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون‏.‏ وفي كتاب أبي داود قال عمر‏:‏ وهمزه الموتة؛ قال ابن ماجة‏:‏ الموتة يعني الجنون‏.‏ والتعوذ أيضا من الجنون وكيد‏.‏ وفي قراءة أبي ‏{‏رب عائذا بك من همزات الشياطين، وعائذا بك أن يحضرون‏}‏؛ أي يكونوا معي في أموري، فإنهم إذ ا حضروا الإنسان كانوا معدين للهمز، وإذا لم يكن حضور فلا همز‏.‏ وفي صحيح مسلم عن جابر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 99 ‏:‏ 100 ‏)‏

‏{‏حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون، لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ‏}‏

قوله ‏{‏حتى إذا جاء أحدهم الموت‏}‏عاد الكلام إلى ذكر المشركين؛ أي قالوا ‏{‏أئذا متنا - إلى قوله - إن هذا إلا أساطير الأولين‏}‏‏.‏ ثم احتج عليهم وذكرهم قدرته على كل شيء، ثم قال هم مصرون على ذلك حتى إذا جاء أحدهم الموت تيقن ضلالته وعاين الملائكة التي تقبض روحه؛ كما قال ‏{‏ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة‏}‏ ‏.‏ ‏{‏قال رب ارجعون‏}‏تمنى الرجعة كي يعمل صالحا فيما ترك‏.‏ وقد يكون القول في النفس؛ قال الله عز وجل ‏{‏ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول‏}‏ .‏ فأما قوله ‏{‏ارجعون‏}‏وهو مخاطب ربه عز وجل ولم يقل ‏{‏ارجعني‏}‏جاء على تعظيم الذكر للمخاطب‏.‏ وقيل‏:‏ استغاثوا بالله عز وجل أولا، فقال قائلهم‏:‏ ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة فقال‏:‏ ارجعون إلى الدنيا؛ قال ابن جريج‏.‏ وقيل‏:‏ إن معنى ‏{‏ارجعون‏}‏على جهة التكرير؛ أي أرجعني أرجعني أرجعني وهكذا‏.‏ قال المزني في قوله تعالى ‏{‏ألقيا في جهنم‏}‏ قال‏:‏ معناه ألق ألق‏.‏ قال الضحاك‏:‏ المراد به أهل الشرك‏.‏

قلت‏:‏ ليس سؤال الرجعة مختصا بالكافر فقد يسألها المؤمن كما في آخر سورة المنافقين على ما يأتي‏.‏ ودلت الآية على أن أحدا لا يموت حتى يعرف اضطرارا أهو من أولياء الله أم من أعداء الله، ولولا ذلك لما سأل الرجعة، فيعلموا ذلك قبل نزول الموت وذواقه‏.‏

قوله ‏{‏لعلي أعمل صالحا‏}‏قال ابن عباس‏:‏ يريد أشهد أن لا إله إلا الله‏.‏ ‏{‏فيما تركت‏}‏أي فيما ضيعت وتركت العمل به من الطاعات‏.‏ وقيل ‏{‏فيما تركت‏}‏من المال فأتصدق‏.‏ و‏{‏لعل‏}‏تتضمن ترددا؛ وهذا الذي يسأل الرجعة قد استيقن العذاب، وهو يوطن نفسه على العمل الصالح قطعا من غير تردد‏.‏ فالتردد يرجع إما إلى رده إلى الدنيا، وإما إلى التوفيق؛ أي أعمل صالحا إن وفقتني؛ إذ ليس على قطع من وجود القدرة والتوفيق لو رد إلى الدنيا‏.‏ ‏{‏كلا‏}‏هذه كلمة رد؛ أي ليس الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا، بل هو كلام يطيح في أدراج الريح‏.‏ وقيل‏:‏ لو أجيب إلى ما يطلب لما وفى بما يقول؛ كماقال ‏{‏ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه‏}‏ ‏.‏ وقيل ‏{‏كلا إنها كلمة هو قائلها‏}‏ترجع إلى الله تعالى؛ أي لا خلف في خبره، وقد أخبر أنه لن يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، وأخبر بأن هذا الكافر لا يؤمن‏.‏ وقيل ‏{‏إنها كلمة هو قائلها‏}‏عند الموت، ولكن لا تنفع‏.‏ ‏{‏ومن ورائهم برزخ‏}‏أي ومن أمامهم وبين أيديهم‏.‏ وقيل‏:‏ من خلفهم‏.‏ ‏{‏برزخ‏}‏أي حاجز بين الموت والبعث؛ قال الضحاك ومجاهد وابن زيد‏.‏ وعن مجاهد أيض أن البرز هو الحاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا‏.‏ وعن الضحاك‏:‏ هو ما بين الدنيا والآخرة‏.‏ ابن عباس‏.‏ حجاب‏.‏ السدي‏:‏ أجل‏.‏ قتادة‏:‏ بقية الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ الإمهال إلى يوم القيامة؛ حكاه ابن عيسى‏.‏ الكلبي‏:‏ هو الأجل ما بين النفختين، وبينهما أربعون سنة‏.‏ وهذه الأقوال متقاربة‏.‏ وكل حاجز بين شيئين فهو برزخ‏.‏ قال الجوهري‏:‏ البرزخ الحاجز بين الشيئين‏.‏ والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث؛ فمن مات فقد دخل في البرز‏.‏ وقال رجل بحضرة الشعبي‏:‏ رحم الله فلانا فقد صار من أهل الآخرة‏!‏ فقال‏:‏ لم يصر من أهل الآخرة، ولكنه صار من أهل البرزخ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة‏.‏ وأضيف ‏{‏يوم‏}‏إلى ‏{‏يبعثون‏}‏لأنه ظرف زمان، والمراد بالإضافة المصدر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 101 ‏)‏

‏{‏ فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ‏}‏

قوله ‏{‏فإذا نفخ في الصور‏}‏المراد بهذا النفخ النفخة الثانية‏.‏ ‏{‏فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون‏}‏قال ابن عباس‏:‏ لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما يفتخرون بها في الدنيا، ولا يتساءلون فيها كما يتساءلون في الدنيا؛ من أي قبيلة أنت ولا من أي نسب، ولا يتعارفون لهول ما أذهلهم‏.‏ وعن ابن عباس أن ذلك في النفخة الأولى حين يصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏.‏ وسأل رجل ابن عباس عن هذه الآية وقول ‏{‏فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏}‏ فقال‏:‏ لا يتساءلون في النفخة الأولى؛ لأنه لا يبقى على الأرض حي، فلا أنساب ولا تساؤل‏.‏ أما قوله ‏{‏فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ‏}‏فإنهم إذا دخلوا الجنة تساءلوا‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ إنما عنى في هذه الآية النفخة الثانية‏.‏ وقال أبو عمر زادان‏:‏ دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخير واليمنة قد سبقوني إليه، فناديت بأعلى صوت،‏:‏ يا عبدالله بن مسعود‏!‏ من أجل أني رجل أعجمي أدنيت هؤلاء وأقصيتني‏!‏ فقال‏:‏ ادنه؛ فدنوت، حتى ما كان بيني وبينه جليس فسمعته يقول‏:‏ يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد‏:‏ هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه؛ فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على أبيها أو على زوجها أو على أخيها أو على ابنها؛ ثم قرأ ابن مسعود‏}‏فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون‏}‏فيقول الرب سبحانه وتعالى ‏(‏آت هؤلاء حقوقهم‏)‏ فيقول‏:‏ يا رب قد فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم؛ فيقول الرب للملائكة‏:‏ ‏(‏خذوا من حسناته فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته‏)‏ فإن كان وليا لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل فيضاعفها الله تعالى حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ ابن مسعود ‏{‏إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما‏}‏ ‏.‏ وإن كان شقيا قالت الملائكة‏:‏ رب‏!‏ فنيت حسناته وبقي طالبون؛ فيقول الله تعالى‏:‏ ‏(‏خذوا من أعمالهم فأضيفوها إلى سيئاته وصكوا له صكا إلى جهنم ‏)‏

الآية رقم ‏(‏ 102 ‏:‏ 105 ‏)‏

‏{‏ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ‏}‏

تقدم الكلام فيهما‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 104 - 105 ‏)‏

‏{‏تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون، ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون‏}‏

قوله ‏{‏تلفح وجوههم النار‏}‏ويقال ‏{‏تنفح‏}‏بمعناه؛ ومنه ‏{‏ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك‏}‏ ‏.‏ إلا أن ‏{‏تلفح‏}‏أبلغ بأسا؛ يقال‏:‏ لفحته النار والسموم بحرها أحرقته‏.‏ ولفحته بالسيف لفحة إذا ضربته به ‏[‏ضربة‏]‏ خفيفة‏.‏ ‏{‏وهم فيها كالحون‏}‏قال ابن عباس‏:‏ عابسون‏.‏ وقال هل اللغة‏:‏ الكلوح تكشر في عبوس‏.‏ والكالح‏:‏ الذي قد تشمرت شفتاه وبدت أسنانه‏.‏ قال الأعمش‏:‏

وله المقدم لا مثل له ساعة الشدق عن الناب كلح

وقد كلح الرجل كلوحا وكلاحا‏.‏ وما أقبح كلحته؛ يراد به الفم وما حواليه‏.‏ ودهر كالح أي شديد‏.‏ وعن ابن عباس أيضا ‏{‏وهم فيها كالحون‏}‏يريد كالذي كلح وتقلصت شفتاه وسال صديده‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار، وقد بدت أسنانه وقلصت شفتاه‏.‏ وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏وهم فيها كالحون - قال - تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبل وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته‏)‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح غريب‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 106 ‏:‏ 108 ‏)‏

‏{‏قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون، قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون ‏}‏

قوله ‏{‏قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا‏}‏قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم ‏{‏شقوتنا‏}‏وقرأ الكوفيون إلا عاصما ‏{‏شقاوتنا‏}‏‏.‏ وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن‏.‏ ويقال‏:‏ شقاء وشقا؛ بالمد والقصر‏.‏ وأحسن ما قيل في معناه‏:‏ غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا؛ فسمى اللذات والأهواء شقوة، لأنهما يؤديان إليها، كما قال الله عز وجل ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا‏}‏ ؛ لأن ذلك يؤديهم إلى النار‏.‏ وقيل‏:‏ ما سبق في علمك وكتب علينا في أم الكتاب من الشقاوة‏.‏ وقيل‏:‏ حسن الظن بالنفس وسوء الظن بالخلق‏.‏ ‏{‏وكنا قوما ضالين‏}‏أي كنا في فعلنا ضالين عن الهدى‏.‏ وليس هذا اعتذار منهم إنما هو إقرار، ويدل على ذلك قولهم ‏{‏ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون‏}‏طلبوا الرجعة إلى الدنيا كما طلبوها عند الموت‏.‏ ‏{‏فإن عدنا‏}‏إلى الكفر ‏{‏فإنا ظالمون‏}‏لأنفسنا بالعود إليه فيجابون بعد ألف سنة‏}‏اخسؤوا فيها ولا تكلمون‏}‏أي ابعدوا في جهنم؛ كما يقال للكلب‏:‏ اخسأ؛ أي أبعد‏.‏ خسأت الكلب خسئا طردته‏.‏ وخسأ الكلب بنفسه خسوءا، يتعدى ولا يتعدى‏.‏ وانخسأ الكلب أيضا‏.‏ وذكر ابن المبارك قال‏:‏ حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة يذكره عن أبي أيوب عن عبدالله بن عمرو بن العاصي قال‏:‏ إن أهل جهنم يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما، ثم يرد عليهم‏:‏ إنكم ماكثون‏.‏ قال‏:‏ هانت والله دعوتهم على مالك ورب مالك‏.‏ قال‏:‏ ثم يدعون ربهم فيقولون ‏{‏ ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين‏.‏ ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون‏}‏‏.‏ قال‏:‏ فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين‏.‏ قال‏:‏ ثم يرد عليهم اخسؤوا فيها‏.‏ قال‏:‏ فوالله ما انبس القوم بعدها بكلمة، وما هو إلا الزفير والشهيق من نار جهنم فشبه أصواتهم بصوت الحمير، أولها زفير وآخرها شهيق‏.‏ خرجه الترمذي مرفوعا بمعناه من حيث أبي الدرداء‏.‏ وقال قتادة‏:‏ صوت الكفار في النار كصوت الحمار، أوله زفير وآخره شهيق‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يصير لهم نباح كنباح الكلاب‏.‏ وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ بلغني أو ذكر لي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة‏.‏‏.‏‏.‏ الخبر بطوله، ذكره ابن المبارك، وقد ذكرناه بكمال في التذكرة، وفي آخره‏:‏ ثم مكث عنهم ما شاء الله، ثم ناداهم ‏{‏ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون‏}‏قال‏:‏ فلما سمعوا صوته قالوا الآن يرحمنا ربنا فقالوا عند ذلك ‏{‏ربنا غلبت علينا شقوتنا‏}‏أي الكتاب الذي كتب علينا ‏{‏وكنا قوما ضالين‏.‏ ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون‏}‏فقال عند ذلك ‏{‏اخسؤوا فيها ولا تكلمون‏}‏فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء، وأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجوه بعض، وأطبقت عليهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 109 ‏:‏ 111 ‏)‏

‏{‏إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون، إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون

قوله ‏{‏إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا‏}‏الآية‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هم بلال وخباب وصهيب، وفلان وفلان من ضعفاء المسلمين؛ كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم‏.‏ ‏{‏فاتخذتموهم سخريا‏}‏بالضم قراءة نافع وحمزة والكسائي ها هنا وفي - ص -وكسر الباقون‏.‏ قال النحاس‏:‏ وفرق أبو عمرو بينهما، فجعل المكسورة من جهة التهزؤ، والمضمومة من جهة السخرة، ولا يعرف هذا التفريق الخليل ولا سيبويه ولا الكسائي ولا الفراء‏.‏ قال الكسائي‏:‏ هما لغتان بمعنى واحد؛ كما يقال‏:‏ عصي وعصي، ولجي ولجي‏.‏ وحكى الثعلبي عن الكسائي والفراء الفرق الذي ذكره أبو عمرو، وأن الكسر بمعنى الاستهزاء والسخرية بالقول، والضم بمعنى التسخير والاستبعاد بالفعل‏.‏ وقال المبرد‏:‏ إنما يؤخذ التفريق بين المعاني عن العرب، وأما التأويل فلا يكون‏.‏ والكسر في سخري في المعنيين جميعا؛ لأن الضمة تستثقل في مثل هذا‏.‏ ‏{‏حتى أنسوكم ذكري‏}‏أي اشتغلتم بالاستهزاء بهم عن ذكرى‏.‏ ‏{‏وكنتم منهم تضحكون‏}‏استهزاء بهم، وأضاف الإساء إلى المؤمنين لأنهم كانوا سببا لاشتغالهم عن ذكره؛ وتعدي شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم‏.‏ ‏{‏إني جزيتهم اليوم بما صبروا‏}‏على أذاكم، وصبروا على طاعتي‏.‏ ‏{‏أنهم هم الفائزون‏}‏قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على ابتداء المدح من الله تعالى لهم وفتح الباقون؛ أي لأنهم هم الفائزون‏.‏ ويجوز نصبه بوقوع الجزاء عليه، تقديره‏:‏ إني جزيتهم اليوم الفوز بالجنة‏.‏ قلت‏:‏ وينظر إلى معنى هذا قوله تعالى في آخر المطففين ‏}‏فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏}‏ إلى آخر السورة، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى‏.‏ ويستفاد من هذا‏:‏ التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين والاحتقار لهم، والإزراء عليهم والاشتغال بهم فيما لا يغني، وأن ذلك مبعد من الله عز وجل‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 112 ‏:‏ 114 ‏)‏

‏{‏قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون ‏}‏

قوله ‏{‏قال كم لبثتم في الأرض‏}‏قيل‏:‏ يعني في القبور‏.‏ وقيل‏:‏ هو سؤال لهم عن مدة حياتهم في الدنيا‏.‏ وهذا السؤال للمشركين في عرصات القيامة أو في النار‏.‏ ‏{‏عدد سنين‏}‏بفتح النون على أنه جمع مسلم، ومن العرب من يخفضها وينونها‏.‏ ‏{‏قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم‏}‏أنساهم شدة العذاب مدة مكثهم في القبور‏.‏ وقيل‏:‏ لأن العذاب رفع عنهم بين النفختين فنسوا ما كانوا فيه من العذاب في قبورهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أنساهم ما كانوا فيه من العذاب من النفخة الأولى إلى الثانية؛ وذلك أنه ليس من أحد قتله نبي أو قتل نبيا أو مات بحضرة نبي إلا عذب من ساعة يموت إلى النفخة الأولى، ثم يمسك عنه العذاب فيكون كالماء حتى ينفخ الثانية‏.‏ وقيل‏:‏ استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي القبور ورأوه يسيرا بالنسبة إلى ما هم بصدده‏.‏ ‏{‏فاسأل العادين‏}‏أي سل الحساب الذين يعرفون ذلك فإنا قد نسيناه، أو فاسأل الملائكة الذين كانوا معنا في الدنيا؛ الأول قول قتادة، والثاني قول مجاهد، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ‏{‏قل كم لبثتم في الأرض‏}‏على الأمر‏.‏ ويحتمل ثلاثة معان‏:‏ أحدها‏:‏ قولوا كم لبثتم؛ فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد والمراد الجماعة؛ إذ كان المعنى مفهوما‏.‏ الثاني‏:‏ أن يكون أمرا للملك ليسألهم يوم البعث عن قدر مكثهم في الدنيا‏.‏ أو أراد قل أيها الكافر كم لبثتم، وهو الثالث‏.‏ الباقون ‏{‏قال كم‏}‏على الخبر؛ أي قال الله تعالى لهم، أو قالت الملائكة لهم كم لبثتم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي أيضا ‏{‏قل إن لبثتم إلا قليلا‏}‏الباقون ‏{‏قال‏}‏على الخبر، على ما ذكر من التأويل الأول؛ أي ما لبثتم في الأرض إلا قليلا؛ وذلك أن مكثهم في القبور وإن طال كان متناهيا‏.‏ وقيل‏:‏ هو قليل بالنسبة إلى مكثهم في النار؛ لأنه لا نهاية له‏.‏ ‏{‏لو أنكم كنتم تعلمون‏}‏ذلك‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 115 ‏)‏

‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ‏}‏

قوله ‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا‏}‏أي مهملين كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب عليها؛ مثل قوله ‏{‏أيحسب الإنسان أن يترك سدى‏}‏ يريد كالبهائم مهملا لغير فائدة‏.‏ قال الترمذي الحكيم أبو عبدالله محمد بن علي‏:‏ إن الله تعالى خلق الخلق عبيدا ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة ويعاقبهم على تركها، فإن عبدوه فهم اليوم له عبيد أحرار كرام من رق الدنيا، ملوك في دار الإسلام؛ وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أباق سقاط لئام، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النيران‏.‏ و‏{‏عبثا‏}‏نصب على الحال عند سيبويه وقطرب‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ هو نصب على المصدر أو لأنه مفعول له‏.‏ ‏{‏وأنكم إلينا لا ترجعون‏}‏فتجازون بأعمالكم‏.‏ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏ترجعون‏}‏بفتح التاء وكسر الجيم من الرجوع‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 116 ‏)‏

‏{‏فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ‏}‏

قوله ‏{‏فتعالى الله الملك الحق‏}‏أي تنزه وتقدس الله الملك الحق عن الأولاد والشركاء والأنداد، وعن أن يخلق شيئا عبثا أو سفها؛ لأنه الحكيم‏.‏ ‏{‏لا إله إلا هو رب العرش الكريم‏}‏ليس في القرآن غيرها‏.‏ وقرأ ابن محيصن وروي عن ابن كثير ‏{‏الكريم‏}‏بالرفع نعتا لله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 117 ‏:‏ 118 ‏)‏

‏{‏ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون، وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ‏}‏

قوله ‏{‏ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به‏}‏أي لا حجة له عليه ‏{‏فإنما حسابه عند ربه‏}‏أي هو يعاقبه ويحاسبه‏.‏ ‏{‏إنه‏}‏الهاء ضمير الأمر والشأن‏.‏ ‏{‏إنه لا يفلح الكافرون‏}‏وقرأ الحسن وقتادة ‏{‏لا يفلح‏}‏- بالفتح - من كذب وجحد ما جئت به وكفر نعمتي‏.‏ ثم أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالاستغفار لتقتدي به الأمة‏.‏ وقيل‏:‏ أمره بالاستغفار لأمته‏.‏ وأسند الثعلبي من حديث ابن لهيعة عن عبدالله بن هبيرة عن حنش بن عبدالله الصنعاني عن عبدالله بن مسعود أنه مر بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه ‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا‏}‏حتى ختم السورة فبرأ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ماذا قرأت في أذنه‏)‏‏؟‏ فأخبره، فقال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال ‏)‏
 
سورة النور

الآية رقم ‏(‏ 1 ‏)‏

‏{‏سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون ‏}‏

مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر‏.‏ وكتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة‏:‏ ‏(‏علموا نساءكم سورة النور‏)‏‏.‏ وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏(‏لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن سورة النور والغزل‏)‏‏.‏ ‏{‏وفرضناها‏}‏قرئ بتخفيف الراء؛ أي فرضنا عليكم وعلى من بعدكم ما فيها من الأحكام‏.‏ وبالتشديد‏:‏ أي أنزلنا فيها فرائض مختلفة‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏}‏وفرضناها‏}‏بالتشديد أي قطعناها في الإنزال نجما نجما‏.‏ والفرض القطع، ومنه فرضة القوس‏.‏ وفرائض الميراث وفرض النفقة‏.‏ وعنه أيضا ‏{‏فرضناها‏}‏فصلناها وبيناها‏.‏ وقيل‏:‏ هو على التكثير؛ لكثرة ما فيها من الفرائض‏.‏ والسورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة؛ ولذلك سميت السورة من القرآن سورة‏.‏ قال زهير‏:‏

ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب

وقد مضى في مقدمة الكتاب القول فيها‏.‏ وقرئ ‏{‏سورة‏}‏بالرفع على أنها مبتدأ وخبرها ‏{‏أنزلناها‏}‏؛ قاله أبو عبيدة والأخفش‏.‏ وقال الزجاج والفراء والمبرد‏}‏سورة‏}‏بالرفع لأنها خبر الابتداء؛ لأنها نكرة ولا يبتدأ بالنكرة في كل موضع، أي هذه سورة‏.‏ ويحتمل أن يكون قوله ‏{‏سورة‏}‏ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة فحسن الابتداء لذلك، ويكون الخبر في قوله ‏{‏الزانية والزاني‏}‏‏.‏ وقرئ ‏{‏سورةً‏}‏بالنصب، على تقدير أنزلنا سورة أنزلناها‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا

أو تكون منصوبة بإضمار فعل أي اتل سورة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هي حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 2 ‏)‏

‏{‏الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ‏}‏

قوله ‏{‏الزانية والزاني‏}‏كان الزنى في اللغة معروفا قبل الشرع، مثل اسم السرقة والقتل‏.‏ وهو اسم لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح بمطاوعتها‏.‏ وإن شئت قلت‏:‏ هو إدخال فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا؛ فإذا كان ذلك وجب الحد‏.‏ وقد مضى الكلام في حد الزنى وحقيقته وما للعلماء في ذلك‏.‏ وهذه الآية ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة -النساء-باتفاق‏.‏

قوله ‏{‏مائة جلدة‏}‏هذا حد الزاني الحر البالغ البكر، وكذلك الزانية البالغة البكر الحرة‏.‏ وثبت بالسنة تغريب عام؛ على الخلاف في ذلك‏.‏ وأما المملوكات فالواجب خمسون جلدة؛ لقوله ‏{‏فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب‏}‏

وهذا في الأمة، ثم العبد في معناها‏.‏ وأما المحصن من الأحرار فعليه الرجم دون الجلد‏.‏ ومن العلماء من يقول‏:‏ يجلد مائة ثم يرجم‏.‏ وقد مضى هذا كله ممهدا في -النساء-فأغنى عن إعادته، والحمد لله‏.‏

قرأ الجمهور ‏{‏الزانية والزاني‏}‏بالرفع‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر الثقفي ‏{‏الزانية‏}‏بالنصب، وهو أوجه عند سيبويه؛ لأنه عنده كقولك‏:‏ زيدا اضرب‏.‏ ووجه الرفع عنده‏:‏ خبر ابتداء، وتقديره‏:‏ فيما يتلى عليكم ‏[‏حكم‏]‏ الزانية والزاني‏.‏ وأجمع الناس على الرفع وإن كان القياس عند سيبويه النصب‏.‏ وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه، والخبر في قوله ‏{‏فاجلدوا‏}‏لأن المعنى‏:‏ الزانية والزاني مجلودان بحكم الله وهو قول جيد وهو قول أكثر النحاة‏.‏ وإن شئت قدرت الخبر‏:‏ ينبغي أن يجلدا‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏{‏والزان‏}‏بغير ياء‏.‏

ذكر الله سبحانه وتعالى الذكر والأنثى، والزاني كان يكفي منهما؛ فقيل‏:‏ ذكرهما للتأكيد كما قال ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏}‏ ‏.‏ ويحتمل أن يكون ذكرهما هنا لئلا يظن ظان أن الرجل لما كان هو الواطئ والمرأة محل ليست بواطئة فلا يجب عليها حد فذكرها رفعا لهذا الإشكال الذي أوقع جماعة من العلماء منهم الشافعي‏.‏ فقالوا‏:‏ لا كفارة على المرأة في الوطء في رمضان؛ لأنه قال جامعت أهلي في نهار رمضان؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏كفر‏)‏‏.‏ فأمره بالكفارة، والمرأة ليس بمجامعة ولا واطئة‏.‏

قدمت ‏{‏الزانية‏}‏في الآية من حيث كان في ذلك الزمان زنى النساء فاش وكان لإماء العرب وبغايا الوقت رايات، وكن مجاهرات بذلك‏.‏ وقيل‏:‏ لأن الزنى في النساء أعر وهو لأجل الحبل أضر‏.‏ وقيل‏:‏ لأن الشهوة في المرأة أكثر وعليها أغلب فصدرها تغليظا لتردع شهوتها وإن كان قد ركب فيها حياء لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله‏.‏ وأيضا فإن العار بالنساء ألحق إذ موضوعهن الحجب والصيانة فقدم ذكرهن تغليظا واهتماما‏.‏

الألف واللام في قول ‏{‏الزانية والزاني‏}‏للجنس، وذلك يعطي أنها عامة في جميع الزناة‏.‏ ومن قال بالجلد مع الرجم قال‏:‏ السنة جاءت بزيادة حكم فيقام مع الجلد‏.‏ وهو قول إسحاق بن راهويه والحسن بن أبي الحسن، وفعله علي بن أبي طالب رضي الله عنه بشراحة وقد مضى في -النساء -بيانه‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ هي خاصة في البكرين، واستدلوا على أنها غير عامة بخروج العبيد والإماء منها‏.‏

نص الله سبحانه وتعالى على ما يجب على الزانيين إذا شُهد بذلك عليهما على ما يأتي وأجمع العلماء على القول به‏.‏ واختلفوا فيما يجب على الرجل يوجد مع المرأة في ثوب واحد فقال إسحاق بن راهويه‏:‏ يضرب كل واحد منهما مائة جلدة‏.‏ وروي ذلك عن عمر وعلى وليس يثبت ذلك عنهما‏.‏ وقال عطاء وسفيان الثوري‏:‏ يؤدبان‏.‏ وبه قال مالك وأحمد على قدر مذاهبهم في الأدب‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ والأكثر ممن رأيناه يرى على من وجد على هذه الحال الأدب‏.‏ وقد مضى في -هود-اختيار ما في هذه المسألة، والحمد لله وحده‏.‏

قوله ‏{‏فاجلدوا‏}‏دخلت الفاء لأنه موضع أمر والأمر مضارع للشرط‏.‏ وقال المبرد‏:‏ فيه معنى الجزاء، أي إن زنى زان فافعلوا به كذا، ولهذا دخلت الفاء؛ وهكذا ‏{‏السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏}‏ ‏.‏

لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر الإمام ومن ناب منابه‏.‏ وزاد مالك والشافعي‏:‏ السادة في العبيد‏.‏ قال الشافعي‏:‏ في كل جلد وقطع‏.‏ وقال مالك‏:‏ في الجلد دون القطع‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب للمسلمين لأن إقامة مراسم الدين واجبة على المسلمين، ثم الإمام ينوب عنهم إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود‏.‏

أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط يجب‏.‏ والسوط الذي يجب أن يجلد به يكون سوطا بين سوطين‏.‏ لا شديدا ولا لينا‏.‏ و‏"‏روى مالك عن زيد بن أسلم‏"‏ أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط، فأتي بسوط مكسور، فقال‏:‏ ‏(‏فوق هذا‏)‏ فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال‏:‏ ‏(‏دون هذا‏)‏ فأتي بسوط قد ركب به ولان‏.‏ فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ هكذا روى الحديث مرسلا جميع رواة الموطأ ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ بوجه من الوجوه، وقد روى معمر عن يحيى بن أبي كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء‏.‏ وقد تقدم في -المائدة-ضرب عمر قدامة في الخمر بسوط تام‏.‏ يريد وسطا‏.‏

اختلف العلماء في تجريد المجلود في الزنى؛ فقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما‏:‏ يجرد، ويترك على المرأة ما يسترها دون ما يقيها الضرب‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ الإمام مخير إن شاء جرد وإن شاء ترك‏.‏ وقال الشعبي والنخعي‏:‏ لا يجرد ولكن يترك عليه قميص‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ لا يحل في الأمة تجريد ولا مد وبه فال الثوري‏.‏

اختلف العلماء في كيفية ضرب الرجال والنساء؛ فقال مالك‏:‏ الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء لا يقام واحد منهما؛ ولا يجزى عنده إلا في الظهر‏.‏ وأصحاب الرأي والشافعي يرون أن يجلد الرجل وهو واقف، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏ وقال الليث وأبو حنيفة والشافعي‏:‏ الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجردا قائما غير ممدود إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه‏.‏ وحكاه المهدوي في التحصيل عن مالك‏.‏ وينزع عنه الحشو والفرو‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إن كان مده صلاحا مد‏.‏

واختلفوا في المواضع التي تضرب من الإنسان في الحدود؛ فقال مالك‏:‏ الحدود كلها لا تضرب إلا في الظهر، وكذلك التعزير‏.‏ وقال الشافعي وأصحابه‏:‏ يتقى الوجه والفرج وتضرب سائر الأعضاء؛ وروي عن علي‏.‏ وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمة جلدها في الزنى‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل‏.‏ واختلفوا في ضرب الرأس فقال الجمهور‏:‏ يتقى الرأس‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ يضرب الرأس‏.‏ وروي عن عمر وابنه فقالا‏:‏ يضرب الرأس‏.‏ وضرب عمر رضي الله عنه صبيا في رأسه وكان تعزيرا لا حدا‏.‏ ومن حجة مالك ما أدرك عليه الناس، وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏البينة وإلا حد في ظهرك‏)‏ وسيأتي‏.‏

الضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلما لا يجرح ولا يبضع، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه‏.‏ وبه قال الجمهور، وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما‏.‏ وأتي عمر رضي الله عنه برجل في حد فأتي بسوط بين سوطين وقال للضارب‏:‏ اضرب ولا يرى إبطك وأعط كل عضو حقه‏.‏ وأتي رضي الله عنه بشارب فقال‏:‏ لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة فبعثه إلى مطيع بن الأسود العدوي فقال‏:‏ إذا أصبحت الغد فاضربه الحد فجاء عمر رضي الله عنه وهو يضربه ضربا شديدا فقال‏:‏ قتلت الرجل كم ضربته‏؟‏ فقال ستين؛ فقال‏:‏ أقص عنه بعشرين‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ‏(‏أقص عنه بعشرين‏)‏ يقول‏:‏ اجعل شدة هذا الضرب الذي ضربته قصاصا بالعشرين التي بقيت ولا تضربه العشرين‏.‏ وفي هذا الحديث من الفقه أن ضرب الشارب ضرب خفيف‏.‏

وقد اختلف العلماء في أشد الحدود ضربا فقال مالك وأصحابه والليث بن سعد‏:‏ الضرب في الحدود كلها سواء ضرب غير مبرح؛ ضرب بين ضربين‏.‏ هو قول الشافعي رضي الله عنه‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ التعزير أشد الضرب؛ وضرب الزنى أشد من الضرب في الخمر، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف‏.‏ وقال الثوري‏:‏ ضرب الزنى أشد من ضرب القذف، وضرب القذف أشد من ضرب الخمر‏.‏ احتج مالك بورود التوقيف عل عدد الجلدات، ولم يرد في شيء منها تخفيف ولا تثقيل عمن يجب التسليم له‏.‏ احتج أبو حنيفة بفعل عمر، فإنه ضرب في التعزير ضربا أشد منه في الزنى‏.‏ احتج الثوري بأن الزنى لما كان أكثر عددا في الجلدات استحال أن يكون القذف أبلغ في النكاية‏.‏ وكذلك الخمر؛ لأنه لم يثبت الحد إلا بالاجتهاد، وسبيل مسائل الاجتهاد لا يقوي قوة مسائل التوقيف‏.‏

الحد الذي أوجب الله في الزنى والخمر والقذف وغير ذلك ينبغي أن يقام بين أيدي الحكام، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم يختارهم الإمام لذلك‏.‏ وكذلك كانت الصحابة تفعل كلما وقع لهم شيء من ذلك، رضي الله عنهم‏.‏ وسبب ذلك أنه قيام بقاعدة شرعية وقربة تعبدية، تجب المحافظة على فعلها وقدرها ومحلها وحالها، بحيث لا يتعدى شيء من شروطها ولا أحكامها، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة، فيجب مراعاته بكل ما أمكن‏.‏ ‏"‏روى الصحيح عن حضين بن المنذر أبي ساسان‏"‏ قال‏:‏ شهدت عثمان بن عفان وأتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال‏:‏ أزيدكم‏؟‏ فشهد عليه رجلان، أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ؛ فقال عثمان‏:‏ إنه لم يتقيأ حتى شربها؛ فقال‏:‏ يا علي قم فاجلده، فقال علي‏:‏ قم يا حسن فاجلده‏.‏ فقال الحسن‏:‏ ول حارها من تولى قارها - فكأنه وجد عليه - فقال‏:‏ يا عبدالله بن جعفر، قم فاجلده، فجلده وعلي يعد‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وقد تقدم في المائدة‏.‏ فانظر قول عثمان للإمام علي‏:‏ قم فاجلده‏.‏

نص الله تعالى على عدد الجلد في الزنى والقذف، وثبت التوقيف في الخمر على ثمانين من فعل عمر في جميع الصحابة - على ما تقدم في المائدة - فلا يجوز أن يتعدى الحد في ذلك كله‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا ما لم يتابع الناس في الشر ولا احلولت لهم المعاصي، حتى يتخذوها ضراوة ويعطفون عليها بالهوادة فلا يتناهوا عن منكر فعلوه؛ فحينئذ تتعين الشدة ويزاد الحد لأجل زيادة الذنب‏.‏ وقد أتي عمر بسكران في رمضان فضربه مائة؛ ثمانين حد الخمر وعشرين لهتك حرمة الشهر‏.‏ فهكذا يجب أن تركب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك الحرمات‏.‏ وقد لعب رجل بصبي فضربه الوالي ثلاثمائة سوط فلم يغير ذلك مالك حين بلغه، فكيف لو رأى زماننا هذا بهتك الحرمات والاستهتار بالمعاصي، والتظاهر بالمناكر وبيع الحدود واستيفاء العبيد لها في منصب القضاة، لمات كمدا ولم يجالس أحدا؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

قلت‏:‏ ولهذا المعنى - والله أعلم - زيد في حد الخمر حتى انتهى إلى ثمانين‏.‏ و‏"‏روى الدارقطني‏"‏ حدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري قال أخبرني عبدالرحمن بن أزهر قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وهو يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتي بسكران، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن عنده فضربوه بما في أيديهم‏.‏ وقال‏:‏ وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه التراب‏.‏ قال‏:‏ ثم أتي أبو بكر رضي الله عنه بسكران، قال‏:‏ فتوخى الذي كان من ضربهم يومئذ؛ فضرب أربعين‏.‏ قال الزهري‏:‏ ثم أخبرني حميد بن عبدالرحمن عن ابن وبرة الكلبي قال‏:‏ أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر، قال فأتيته ومعه عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير وهم معه متكئون في المسجد فقلت‏:‏ إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول‏:‏ إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه؛ فقال عمر‏:‏ هم هؤلاء عندك فسلهم‏.‏ فقال علي‏:‏ نراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون؛ قال فقال عمر‏:‏ أبلغ صاحبك ما قال‏.‏ قال‏:‏ فجلد خالد ثمانين وعمر ثمانين‏.‏ قال‏:‏ وكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الذلة ضربه أربعين، قال‏:‏ وجلد عثمان أيضا ثمانين وأربعين‏.‏ ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو تأخر الهلال لزدتكم‏)‏ كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا‏.‏ في رواية ‏(‏لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم‏)‏‏.‏ و روى حامد بن يحيى عن سقيان عن مسعر عن عطاء بن أبي مروان أن عليا ضرب النجاشي في الخمر مائة جلدة؛ ذكره أبو عمرو ولم يذكر سببا‏.‏

قوله ‏{‏ولا تأخذكم بهما رأفة‏}‏أي لا تمتنعوا عن إقامة الحدود شفقة على المحدود، ولا تخففوا الضرب من غير إيجاع، وهذا قول جماعة أهل التفسير‏.‏ وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير‏}‏لا تأخذكم بهما رأفة‏}‏قالوا في الضرب والجلد‏.‏ وقال أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة؛ ثم قرأ هذه الآية‏.‏ والرأفة أرق الرحمة‏.‏ وقرئ ‏{‏رأفة‏}‏بفتح الألف على وزن فعلة‏.‏ وقرئ ‏{‏رأفة‏}‏على وزن فعالة؛ ثلاث لغات، هي كلها مصادر، أشهرها الأولى؛ من رؤوف إذا رق ورحم‏.‏ ويقال‏:‏ رأفة ورآفة؛ مثل كأبة وكآبة‏.‏ وقد رأفت به ورؤفت به‏.‏ والرؤوف من صفات الله تعالى‏:‏ العطوف الرحيم‏.‏ ‏{‏في دين الله‏}‏أي في حكم الله؛ كما قال ‏{‏ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك‏}‏ أي في حكمه‏.‏ وقيل ‏{‏في دين الله‏}‏أي في طاعة الله وشرعه فيما أمركم به من إقامة الحدود‏.‏ ‏{‏إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر‏}‏قررهم على معنى التثبيت والحض بقوله ‏{‏إن كنتم تؤمنون بالله‏}‏‏.‏ وهذا كما تقول لرجل تحضه‏:‏ إن كنت رجلا فافعل كذا، أي هذه أفعال الرجال‏.‏

قوله ‏{‏وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين‏}‏قيل‏:‏ لا يشهد التعذيب إلا من لا يستحق التأديب‏.‏ قال مجاهد‏:‏ رجل فما فوقه إلى ألف‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ لا بد من حضور أربعة قياسا على الشهادة على الزنى، وأن هذا باب منه؛ وهو قول مالك والليث والشافعي‏.‏ وقال عكرمة وعطاء‏:‏ لا بد من اثنين؛ وهذا مشهور قول مالك، فرآها موضع شهادة‏.‏ وقال الزهري‏:‏ ثلاثة، لأنه أقل الجمع‏.‏ الحسن‏:‏ واحد فصاعدا، وعنه عشرة‏.‏ الربيع‏:‏ ما زاد على الثلاثة‏.‏ وحجة مجاهد قوله ‏{‏فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة‏}‏ ، وقوله ‏{‏وإن طائفتان‏}‏، ونزلت في تقاتل رجلين؛ فكذلك قوله ‏{‏وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين‏}‏‏.‏ والواحد يسمى طائفة إلى الألف؛ وقاله ابن عباس وإبراهيم‏.‏ وأمر أبو برزة الأسلمي بجارية له قد زنت وولدت فألقى عليها ثوبا، وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضربة غير مبرح ولا خفيف لكن مؤلم، ودعا جماعة ثم تلا ‏{‏وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين‏}‏‏.‏

اختلف في المراد بحضور الجماعة‏.‏ هل المقصود بها الإغلاط على الزناة والتوبيخ بحضرة الناس، وأن ذلك يدع المحدود، ومن شهده وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله، ويشيع حديثه فيعتبر به من بعده، أو الدعاء لهما بالتوبة والرحمة؛ قولان للعلماء‏.‏

روي عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يا معاشر الناس اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال ثلاثا في الدنيا وثلاثا في الآخرة فأما اللواتي الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر وأما اللواتي في الآخرة فيوجب السخط وسوء الحساب والخلود في النار‏)‏‏.‏ وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن أعمال أمتي تعرض علي كل جمعة مرتين فاشتد غضب الله على الزناة‏)‏‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله على أمتي فغفر لكل مؤمن لا يشرك بالله شيئا إلا خمسة ساحرا أو كاهنا أو عاقا لوالديه أو مدمن خمر أو مصرا على الزنى‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 3 ‏)‏

‏{‏ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ‏}‏

اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أوجه من التأويل‏:‏ الأول‏:‏ أن يكون مقصد الآية تشنيع الزنى وتبشيع أمره، وأنه محرم على المؤمنين‏.‏ واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ‏.‏ ويريد بقوله ‏{‏لا ينكح‏}‏أي لا يطأ؛ فيكون النكاح بمعنى الجماع‏.‏ وردد القصة مبالغة وأخذا كلا الطرفين، ثم زاد تقسيم المشركة والمشرك من حيث الشرك أعم في المعاصي من الزنى؛ فالمعنى‏:‏ الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانية من المسلمين، أو من هي أحسن منها من المشركات‏.‏ وقد روي عن ابن عباس وأصحابه أن النكاح في هذه الآية الوطء‏.‏ وأنكر ذلك الزجاج وقال‏:‏ لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج‏.‏ وليس كما قال؛ وفي القرآن ‏{‏حتى تنكح زوجا غيره‏}‏ وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمعنى الوطء، وقد تقدم في -البقرة-‏.‏ وذكر الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل عن سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة، ولكن غير مخلص ولا مكمل‏.‏ وحكاه الخطابي عن ابن عباس، وأن معناه الوطء أي لا يكون زنى إلا بزانية، ويفيد أنه زنى في الجهتين؛ فهذا قول‏.‏

الثاني‏:‏ ما رواه أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقته، قال‏:‏ فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله؛ أنكح عناق‏؟‏ قال‏:‏ فسكت عني؛ فنزلت ‏{‏والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك‏}‏؛ فدعاني فقرأها علي وقال‏:‏ ‏(‏لا تنكحها‏)‏‏.‏‏"‏ لفظ أبي داود‏"‏، وحديث الترمذي أكمل‏.‏ قال الخطابي‏:‏ هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة، فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ‏.‏

الثالث‏:‏ أنها مخصوصة في رجل من المسلمين أيضا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها أم مهزول وكانت من بغايا الزانيات، وشرطت أن تنفق عليه؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ قاله عمرو بن العاصي ومجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ أنها نزلت في أهل الصفة وكانوا قوما من المهاجرين، ولم يكن لهم في المدينة مساكن ولا عشائر فنزلوا صفة المسجد وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور، مخاصيب بالكسوة والطعام؛ فهم أهل الصفة أن يتزوجوهن فيأووا إلى مساكنهن ويأكلوا من طعامهن وكسوتهن؛ فنزلت هذه الآية صيانة لهم عن ذلك؛ قال ابن أبي صالح‏.‏

الخامس‏:‏ ذكره الزجاج وغيره عن الحسن، وذلك أنه قال‏:‏ المراد الزاني المحدو والزانية المحدودة، قال‏:‏ وهذا حكم من الله فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة‏.‏ وقال إبراهيم النخعي نحوه‏.‏ وفي مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله‏)‏‏.‏ و روى أن محدودا تزوج غير محدودة ففرق علي رضي الله عنه بينهما‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا معنى لا يصح نظرا كما لم يثبت نقلا، وهل يصح أن يوقف نكاح من حد من الرجال على نكاح من حد من النساء فبأي أثر يكون ذلك، وعلى أي أصل يقاس من الشريعة‏.‏

قلت‏:‏ وحكى هذا القول الكيا عن بعض أصحاب الشافعي المتأخرين، وأن الزاني إذا تزوج غير زانية فرق بينهما لظاهر الآية‏.‏ قال الكيا‏:‏ وإن هو عمل بالظاهر فيلزمه عليه أن يجوز للزاني التزوج بالمشركة، ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك؛ وهذا في غاية البعد، وهو خروج عن الإسلام بالكلية، وربما قال هؤلاء‏:‏ إن الآية منسوخة في المشرك خاص دون الزانية‏.‏

السادس‏:‏ أنها منسوخة؛ ‏"‏روى مالك عن يحيى بن سعيد‏"‏ عن سعيد بن المسيبقال ‏{‏الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك‏}‏قال‏:‏ نسخت هذه الآية التي بعدها ‏{‏وأنكحوا الأيامى منكم‏}‏ ؛ وقاله ابن عمرو، قال‏:‏ دخلت الزانية في أيامى المسلمين‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ وهذا القول عليه أكثر العلماء‏.‏ وأهل الفتيا يقولون‏:‏ إن من زنى بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها‏.‏ وهو قول ابن عمر وسالم وجابر بن زيد وعطاء وطاوس ومالك بن أنس وهو قول أبي حنيفة وأصحابه‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ القول فيها كما قال سعيد بن المسيب، إن شاء الله هي منسوخة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذكر الإشراك في هذه الآية يضعف هذه المناحي‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والذي عندي أن النكاح لا يخلو أن يراد به الوطء كما قال ابن عباس أو العقد؛ فإن أريد به الوطء فإن معناه‏:‏ لا يكون زنى إلا بزانية، وذلك عبارة عن أن الوطأين من الرجل والمرأة زنى من الجهتين؛ ويكون تقدير الآية‏:‏ وطء الزانية لا يقع إلا من زان أو مشرك؛ وهذا يؤثر عن ابن عباس، وهو معنى صحيح‏.‏ فإن قيل‏:‏ فإذا زنى بالغ بصبية، أو عاقل بمجنونة، أو مستيقظ بنائمة فإن ذلك من جهة الرجل زنى؛ فهذا زان نكح غير زانية، فيخرج المراد عن بابه الذي تقدم‏.‏ قلنا‏:‏ هو زنى من كل جهة، إلا أن أحدهما سقط فيه الحد والآخر ثبت فيه‏.‏ وإن أريد به العقد كان معناه‏:‏ أن متزوج الزانية التي قد زنت ودخل بها ولم يستبرئها يكون بمنزلة الزاني، إلا أنه لا حد عليه لاختلاف العلماء في ذلك‏.‏ وأما إذا عقد عليها ولم يدخل بها حتى يستبرئها فذلك جائز إجماعا‏.‏ وقيل‏:‏ ليس المراد في الآية أن الزاني لا ينكح قط إلا زانية إذ قد يتصور أن يتزوج غير زانية، ولكن المعنى أن من تزوج بزانية فهو زان، فكأنه قال‏:‏ لا ينكح الزانية إلا زان فقلب الكلام، وذلك أنه لا ينكح الزانية إلا وهو راض بزناها، وإنما يرضى بذلك إذا كان هو أيضا يزني‏.‏

في هذه الآية دليل على أن التزوج بالزانية صحيح‏.‏ وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته؛ وهذا على أن الآية منسوخة‏.‏ وقيل إنها محكمة‏.‏ وسيأتي‏.‏

روي أن رجلا زنى بامرأة في زمن أبي بكر رضي الله عنه فجلدهما مائة جلدة، ثم زوج أحدهما من الآخر مكانه، ونفاهما سنة‏.‏ وروي مثل ذلك عن عمر وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أوله سفاح وآخره نكاح‏.‏ ومثل ذلك مثل رجل سرق من حائط ثمرة ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمرة فما سرق حرام وما اشترى حلال‏.‏ وبهذا أخذ الشافعي وأبو حنيفة، ورأوا أن الماء لا حرمة له‏.‏ وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال‏:‏ إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبدا‏.‏ وبهذا أخذ مالك رضي الله عنه؛ فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد لأن النكاح له حرمة ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح؛ فيختلط الحرام بالحلال ويمتزج ماء المهانة بماء العزة‏.‏

قال ابن خويز منداد‏:‏ من كان معروفا بالزنى أو بغيره من الفسوق معلنا به فتزوج إلى أهل بيت ستر وغرهم من نفسه فلهم الخيار في البقاء معه أو فراقه؛ وذلك كعيب من العيوب واحتج بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله‏)‏‏.‏ قال ابن خويز منداد‏.‏ وإنما ذكر المجلود لاشتهاره بالفسق، وهو الذي يجب أن يفرق بينه وبين غيره؛ فأما من لم يشتهر بالفسق فلا‏.‏

قال قوم من المتقدمين‏:‏ الآية محكمة غير منسوخة، وعند هؤلاء‏:‏ من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها‏.‏ وقال قوم من هؤلاء‏:‏ لا ينفسخ النكاح بذلك، ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت، ولو أمسكها أثم، ولا يجوز التزوج بالزانية ولا من الزاني، بل لو ظهرت التوبة فحينئذ يجوز النكاح‏.‏

قوله ‏{‏وحرم ذلك على المؤمنين‏}‏أي نكاح أولئك البغايا؛ فيزعم بعض أهل التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرمه الله تعالى على أمة محمد عليه السلام، ومن أشهرهن عناق‏.‏

حرم الله تعالى الزنى في كتابه؛ فحيثما زنى الرجل فعليه الحد‏.‏ وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور‏.‏ وقال أصحاب الرأي في الرجل المسلم إذا كان في دار الحرت بأمان وزنى هنالك ثم خرج لم يحد‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ دار الحرب ودار الإسلام سواء، ومن زنى فعليه الحد على ظاهر قوله ‏{‏الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة‏}‏ ‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 4 ‏:‏ 5 ‏)‏

‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ‏}‏

هذه الآية نزلت في القاذفين‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها‏.‏ وقيل‏:‏ بل نزلت بسبب القذفة عاما لا في تلك النازلة‏.‏ وقال ابن المنذر‏:‏ لم نجد في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرا يدل على تصريح القذف، وظاهر كتاب الله تعالى مستغنى به دالا على القذف الذي يوجب الحد، وأهل العلم على ذلك مجمعون‏.‏

قوله ‏{‏والذين يرمون‏}‏يريد يسبون، واستعير له اسم الرمي لأنه إذاية بالقول كما قال النابغة‏:‏

وجرح اللسان كجرح اليد

وقال آخر‏:‏

رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني

ويسمى قذفا ومنه الحديث‏:‏ إن ابن أمية قذف امرأته بشريك بن السحماء؛ أي رماها‏.‏

ذكر الله تعالى في الآية النساء من حيث هن أهم، ورميهن بالفاحشة أشنع وأنكى للنفوس‏.‏ وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى، وإجماع الأمة على ذلك‏.‏ وهذا نحو نصه على تحريم لحم الخنزير ودخل شحمه وغضاريفه، ونحو ذلك بالمعنى والإجماع‏.‏ وحكى الزهراوي أن المعنى‏:‏ والأنفس المحصنات؛ فهي بلفظها تعم الرجال والنساء، ويدل على ذلك قوله ‏{‏والمحصنات من النساء‏}‏ ‏.‏ وقال قوم‏:‏ أراد بالمحصنات الفروج كما قال ‏{‏والتي أحصنت فرجها‏}‏ فيدخل فيه فروج الرجال والنساء‏.‏ وقيل‏:‏ إنما ذكر المرأة الأجنبية إذا قذفت ليعطف علها قذف الرجل زوجته؛ والله أعلم‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏المحصنات‏}‏بفتح الصاد، وكسرها يحيى بن وثاب‏.‏ والمحصنات العفائف في هذا الموضع‏.‏ وقد مضى في - النساء -ذكر الإحصان ومراتبه‏.‏ والحمد لله‏.‏

للقذف شروط عند العلماء تسعة‏:‏ شرطان في القاذف، وهما العقل والبلوغ؛ لأنهما أصلا التكليف، إذ التكليف ساقط دونهما‏.‏ وشرطان في الشيء المقذوف به وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد، وهو الزنى واللواط أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي‏.‏ وخمسة من المقذوف وهي العقل و البلوغ و الإسلام و الحرية و العفة عن الفاحشة التي رمي بها كان عفيفا من غيرها أم لا‏.‏ وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطناهما في القاذف وإن لم يكونا من معاني الإحصان لأجل أن الحد إنما وضع للزجر عن الإذابة بالمضرة الداخلة على المقذوف، ولا مضرة على من عدم العقل والبلوغ؛ إذ لا يوصف اللواط فيهما ولا منهما بأنه زنى‏.‏

اتفق العلماء على أنه إذا صرح بالزنى كان قذفا ورميا موجبا للحد فإن عرض ولم يصرح فقال مالك‏:‏ هو قذف‏.‏ وقال الشافعي وأبو حنيفة‏:‏ لا يكون قذفا حتى يقول أردت به القذف‏.‏ والدليل لما قال مالك هو أن موضوع الحد في القذف إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف، فإذا حصلت المعرة بالتعرض وجب أن يكون قذفا كالتصريح والمعول على الفهم وقد قال تعالى مخبرا عن شعيب ‏}‏إنك لأنت الحليم الرشيد‏}‏ أي السفيه الضال فعرضوا له بالسب بكلام ظاهر المدح في أحد التأويلات، حسبما تقدم في -هود-‏.‏ وقال تعالى في أبي جهل ‏}‏ذق إنك أنت العزيز الكريم‏}‏ ‏.‏ وقال حكاية عن مريم‏}‏يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا‏}‏ ؛ فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء، أي الزنى، وعرضوا لمريم بذلك؛ ولذلك قال ‏{‏وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما‏}‏ ، وكفرهم معروف، والبهتان العظيم هو التعريض لها؛ أي ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا، أي أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد‏.‏ وقال ‏{‏قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين‏}‏ ؛ فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى، وأن الله تعالى ورسوله على الهدى ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه‏.‏ وقد حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة لما قال‏:‏

دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون‏.‏ ولما سمع قول النجاشي‏:‏

قبيلته لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل

قال‏:‏ ليت الخطاب كذلك؛ وإنما أراد الشاعر ضعف القبيلة؛ ومثله كثير‏.‏

الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم‏.‏ وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى‏:‏ عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم‏.‏ وفيه قول ثالث‏:‏ وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد الحد‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وجل العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول، ولم أدرك أحدا ولا لقيته يخالف في ذلك‏.‏ وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة؛ لا أعلم في ذلك خلافا‏.‏

والجمهور من العلماء على أن العبد إذا قذف حرا يجلد أربعين؛ لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنى‏.‏ وروي عن ابن مسعود وعمر بن عبدالعزيز وقبيصة بن ذؤيب يجلد ثمانين‏.‏ وجلد أبو بكر بن محمد عبداً قذف حرا ثمانين؛ وبه قال الأوزاعي‏.‏ احتج الجمهور بقول الله ‏{‏فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب‏}‏ ‏.‏ وقال الآخرون‏:‏ فهمنا هناك أن حد الزنى لله تعالى، وأنه ربما كان أخف فيمن قلّت نعم الله عليه، وأفحش فيمن عظمت نعم الله عليه‏.‏ وأما حد القذف فحق للآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف والجناية لا تختلف بالرق والحرية‏.‏ وربما قالوا‏:‏ لو كان يختلف لذكر كما ذكر من الزنى‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ والذي عليه علماء الأمصار القول الأول، وبه أقول‏.‏

وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما ولقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من قذف مملوكه بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال‏)‏ ‏"‏خرجه البخاري ومسلم‏"‏‏.‏ وفي بعض طرقه‏:‏ ‏(‏من قذف عبده بزنى ثم لم يثبت أقيم عليه يوم القيامة الحد ثمانون‏)‏ ‏"‏ذكره الدارقطن‏"‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى؛ ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة، واقتص من كل واحد لصاحبه إلا أن يعفو المظلوم عن الظالم‏.‏ وإنما لم يتكافؤوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين من مكافأتهم لهم، فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة، وتبطل فائدة التسخير؛ حكمة من الحكيم العليم، لا إله إلا هو‏.‏

قال مالك والشافعي‏:‏ من قذف من يحسبه عبدا فإذا هو حر فعليه الحد؛ وقاله الحسن البصري واختاره ابن المنذر‏.‏ قال مالك‏:‏ ومن قذف أم الولد حد و روى عن ابن عمر وهو قياس قول الشافعي‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ لا حد عليه‏.‏

واختلف العلماء فيمن قال لرجل‏:‏ يا من وطئ بين الفخذين؛ فقال ابن القاسم‏:‏ عليه الحد لأنه تعريض‏.‏ وقال أشهب‏:‏ لا حد فيه لأنه نسبة إلى فعل لا يعد زنى إجماعا‏.‏

الحادية عشرة‏:‏ إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور‏:‏ ليس بقذف؛ لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها، ويعزر‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والمسألة محتملة مشكلة، لكن مالك طلب حماية عرض المقذوف، وغيره راعى حماية ظهر القاذف وحماية عرض المقذوف أولى؛ لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وقال أحمد في الجارية بنت تسع‏:‏ يجلد قاذفها، وكذلك الصبي إذا بلغ عشرا ضرب قاذفه‏.‏ قال إسحاق‏:‏ إذا قذف غلاما يطأ مثله فعليه الحد، والجارية إذا جاوزت تسعا مثل ذلك‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ لا يحد من قذف من لم يبلغ؛ لأن ذلك كذب، ويعزر على الأذى‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ في حديث علي رضي الله عنه أن امرأة جاءته فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها فقال‏:‏ إن كنت صادق رجمناه وإن كنت كاذبة جلدناك‏.‏ فقالت‏:‏ ردوني إلى أهلي غيرى نغرة‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ في هذا الحديث من الفقه أن على الرجل إذا واقع جارية امرأته الحد‏.‏

وفيه أيضا إذا قذفه بذلك قاذف كان على قاذفه الحد؛ ألا تسمع قوله‏:‏ وإن كنت كاذبة جلدناك‏.‏ ووجه هذا كله إذا لم يكن الفاعل جاهلا بما يأتي وبما يقول، فإن كان جاهلا وادعى شبهة درئ عنه الحد في ذلك كله‏.‏

وفيه أيضا أن رجلا لو قذف رجلا بحضرة حاكم وليس المقذوف بحاضر أنه لا شيء على القاذف حتى يجيء فيطلب حده؛ لأنه لا يدري لعله يصدقه؛ ألا ترى أن عليا عليه السلام لم يعرض لها‏.‏

وفيه أن الحاكم إذا قذف عنده رجل ثم جاء المقذوف فطلب حقه أخذه الحاكم بالحد بسماعه ألا تراه يقول‏:‏ وإن كنت كاذبة جلدناك وهذا لأنه من حقوق الناس‏.‏

قلت‏:‏ اختلف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين؛ وسيأتي‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ قال الأصمعي سألني شعبة عن قول‏:‏ غيرى نغرة؛ فقلت له‏:‏ هو مأخوذ من نغر القدر، وهو غليانها وفورها يقال منه‏:‏ نغرت تنغر، ونغرت تنغر إذا غلت‏.‏ فمعناه أنها أرادت أن جوفها يغلي من الغيظ والغيرة لما لم تجد عنده ما تريد‏.‏ قال‏:‏ ويقال منه رأيت فلانا يتنغر على فلان أي يغلي جوفه عليه غيظا‏.‏

من قذف زوجة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حد حدين؛ قاله مسروق‏.‏ قاله ابن العربي‏:‏ والصحيح أنه حد واحد؛ لعموم قوله ‏{‏والذين يرمون المحصنات‏}‏الآية، ولا يقتضي شرفهن زيادة في حد من قذفهن؛ لأن شرف المنزلة لا يؤثر في الحدود، ولا نقصها يؤثر في الحد بتنقيص والله أعلم‏.‏ وسيأتي الكلام فيمن قذف عائشة رضي الله عنها، هل يقتل أم لا‏.‏

قوله ‏{‏ثم لم يأتوا بأربعة شهداء‏}‏الذي يفتقر إلى أربعة شهداء دون سائر الحقوق هو الزنى؛ رحمة بعباده وسترا لهم‏.‏ وقد تقدم في سورة - النساء -

من شرط أداء الشهود الشهادة عند مالك رحمه الله أن يكون ذلك في مجلس واحد فإن افترقت لم تكن شهادة‏.‏ وقال عبدالملك‏:‏ تقبل شهادتهم مجتمعين ومفترقين‏.‏ فرأى مالك أن اجتماعهم تعبد؛ وبه قال ابن الحسن‏.‏ ورأى عبدالملك أن المقصود أداء الشهادة واجتماعها وقد حصل؛ وهو قول عثمان البتي وأبي ثور واختاره ابن المنذر لقوله ‏{‏ثم لم يأتوا بأربعة شهداء‏}‏وقوله ‏{‏فإذ لم يأتوا بالشهداء‏}‏ ولم يذكر مفترقين ولا مجتمعين‏.‏

فإن تمت الشهادة إلا أنهم لم يعدلوا؛ فكان الحسن البصري والشعبي يريان أن لا حد على الشهود ولا على المشهود؛ وبه قال أحمد والنعمان ومحمد بن الحسن‏.‏ وقال مالك‏:‏ إذا شهد عليه أربعة بالزنى فإن كان أحدهم مسقوطا عليه أو عبدا يجلدون جميعا‏.‏ وقال سفيان الثوري وأحمد وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنى‏:‏ يضربون‏.‏

فإن رجع أحد الشهود وقد رجم المشهود عليه في الزنى؛ فقالت طائفة‏:‏ يغرم ربع الدية ولا شيء على الآخرين‏.‏ وكذلك قال قتادة وحماد وعكرمة وأبو هاشم ومالك وأحمد وأصحاب الرأي‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إن قال عمدت ليقتل؛ فالأولياء بالخيار إن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا عفوا وأخذوا ربع الدية، وعليه الحد‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ يقتل، وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية‏.‏ وقال ابن سيرين‏:‏ إذا قال أخطأت وأردت غيره فعليه الدية كاملة، وإن قال تعمدت قتل وبه قال ابن شبرمة‏.‏

واختلف العلماء في حد القذف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين أو فيه شائبة منهما؛ الأول - قول أبي حنيفة‏.‏ والثاني‏:‏ قول مالك والشافعي‏.‏ والثالث‏:‏ قاله بعض المتأخرين‏.‏ وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا له تعالى وبلغ الإمام أقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى، ويتشطر فيه الحد بالرق كالزنى‏.‏ وإن كان حقا للآدمي فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط بعفوه، ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف‏.‏

قوله تعالى ‏{‏بأربعة شهداء‏}‏قراءة الجمهور على إضافة الأربعة إلى الشهداء‏.‏ وقرأ عبدالله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ‏{‏بأربعة‏}‏التنوين ‏{‏شهداء‏}‏‏.‏ وفيه أربعة أوجه‏:‏ يكون في موضع جر على النعت لأربعة، أو بدلا‏.‏ ويجوز أن يكون حالا من نكرة أو تمييزا؛ وفي الحال والتمييز نظر؛ إذ الحال من نكرة، والتمييز مجموع‏.‏ وسيبويه يرى أنه تنوين العدد، وترك إضافته إنما يجوز في الشعر‏.‏ وقد حسن أبو الفتح عثمان بن جني هذه القراءة وحبب على قراءة الجمهور‏.‏ قال النحاس‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏شهداء‏}‏في موضع نصب بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء‏.‏

حكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة يرون ذلك كالمرود في المكحلة على ما تقدم في - النساء - في نص الحديث‏.‏ وأن تكون في موطن واحد؛ على قول مالك‏.‏ وإن اضطرب واحد منهم جلد الثلاثة؛ كما فعل عمر في أمر المغيرة بن شعبة؛ وذلك أنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع؛ وقال الزهراوي‏:‏ عبدالله بن الحارث، وزياد أخوهما لأم وهو مستلحق معاوية، وشبل بن معبد البجلي، فلما جاؤوا لأداء الشهادة وتوقف زياد ولم يؤدها، جلد عمر الثلاثة المذكورين‏.‏

قوله ‏{‏فاجلدوهم‏}‏الجلد الضرب‏.‏ والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود؛ ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف أو غيره‏.‏ ومنه قول قيس بن الخطيم‏:‏

أجالدهم يوم الحديقة حاسرا كأن يدي بالسيف محراق لاعب

‏{‏ثمانين‏}‏نصب على المصدر‏.‏ ‏{‏جلدة‏}‏تمييز‏.‏ ‏{‏ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا‏}‏هذا يقتضي مدة أعمارهم، ثم حكم عليهم بأنهم فاسقون؛ أي خارجون عن طاعة الله عز وجل‏.‏

قوله ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏في موضع نصب على الاستثناء‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل‏.‏ المعنى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا وأصلحوا من بعد القذف ‏{‏فإن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏ فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف‏:‏ جلده، ورد شهادته أبدا، وفسقه‏.‏ فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع؛ إلا ما روي الشعبي على ما يأتي‏.‏ وعامل في فسقه بإجماع‏.‏ واختلف الناس في عمله في رد الشهادة؛ فقال شريح القاضي وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسفيان الثوري وأبو حنيفة‏:‏ لا يعمل الاستثناء في رد شهادته، وإنما يزول فسقه عند الله تعالى‏.‏ وأما شهادة القاذف فلا تقبل البتة ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ الاستثناء عامل في رد الشهادة، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته؛ وإنما كان ردها لعلة الفسق فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقا قبل الحد وبعده، وهو قول عامة الفقهاء‏.‏ ثم اختلفوا في صورة توبته؛ فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشعبي وغيره، أن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه‏.‏ وهكذا فعل عمر؛ فإنه قال للذين شهدوا على المغيرة‏:‏ من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته؛ فأكذب الشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة أنفسهما وتابا، وأبى أبو بكرة أن يفعل فكان لا يقبل شهادته‏.‏ وحكى هذا القول النحاس عن أهل المدينة‏.‏ وقالت فرقة - منها مالك رحمه الله تعالى وغيره - ‏:‏ توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب وحسبه الندم على قذفه والاستغفار منه وترك العود إلى مثله؛ وهو قول ابن جرير‏.‏ ويروى عن الشعبي أنه قال‏:‏ الاستثناء من الأحكام الثلاثة، إذا تاب وظهرت توبته لم يحد وقبلت شهادته وزال عنه التفسيق؛ لأنه قد صار ممن يرضى من الشهداء؛ وقد قال الله عز وجل ‏{‏وإني لغفار لمن تاب‏}‏ الآية‏.‏

اختلف علماؤنا رحمهم الله تعالى متى تسقط شهادة القاذف؛ فقال ابن الماجشون‏:‏ بنفس قذفه‏.‏ وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون‏:‏ لا تسقط حتى يجلد، فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم ترد شهادته‏.‏ وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي‏:‏ شهادته في مدة الأجل موقوفة؛ ورجح القول بأن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف، وإلا فأي رجوع لعدل إن قذف وحد وبقي على عدالته‏.‏

واختلفوا أيضا على القول بجواز شهادته بعد التوبة في أي شيء تجوز؛ فقال مالك رحمه الله تعالى‏:‏ تجوز في كل شيء مطلقا؛ وكذلك كل من حد في شيء من الأشياء؛ رواه نافع وابن عبدالحكم عن مالك، وهو قول ابن كنانة‏.‏ وذكر الوقار عن مالك أنه لا تقبل شهادته فيما حد فيه خاصة، وتقبل فيما سوى ذلك؛ وهو قول مطرف وابن الماجشون‏.‏ و روى العتبي عن أصبغ وسحنون مثله‏.‏ قال سحنون‏:‏ من حد في شيء من الأشياء فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه‏.‏ وقال مطرف وابن الماجشون‏:‏ من حد في قذف أو زنى فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى، ولا في قذف ولا لعان وإن كان عدلا؛ وروياه عن مالك‏.‏ واتفقوا على ولد الزنى أن شهادته لا تجوز في الزنى‏.‏

الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة عاد إلى جميعها عند مالك والشافعي وأصحابهما‏.‏ وعند أبي حنيفة وجل أصحابه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور وهو الفسق؛ ولهذا لا تقبل شهادته، فإن الاستثناء راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة‏.‏

وسبب الخلاف في هذا الأصل سببان‏:‏ أحدهما‏:‏ هل هذه الجمل في حكم الجملة الواحدة للعطف الذي فيها، أو لكل جملة حكم نفسها في الاستقلال وحرف العطف محسن لا مشرك، وهو الصحيح في عطف الجمل؛ لجواز عطف الجمل المختلفة بعضها على بعض، على ما يعرف من النحو‏.‏

السبب الثاني‏:‏ يشبه الاستثناء بالشرط في عوده إلى الجمل المتقدمة، فإنه يعود إلى جميعها عند الفقهاء، أو لا يشبه به، لأنه من باب القياس في اللغة وهو فاسد على ما يعرف في أصول الفقه‏.‏ والأصل أن كل ذلك محتمل ولا ترجيح، فتعين ما قال القاضي من الوقف‏.‏ ويتأيد الإشكال بأنه قد جاء في كتاب الله عز وجل كلا الأمرين؛ فإن آية المحاربة فيها عود الضمير إلى الجميع باتفاق، وآية قتل المؤمن خطأ فيها رد الاستثناء إلى الأخيرة باتفاق، وآية القذف محتملة للوجهين، فتعين الوقف من غير مين‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وهذا نظر كلي أصولي‏.‏ ويترجح قول مالك والشافعي رحمهما الله من جهة نظر الفقه الجزئي بأن يقال‏:‏ الاستثناء راجع إلى الفسق والنهي عن قبول الشهادة جميعا إلا أن يفرق بين ذلك بخبر يجب التسليم له‏.‏ وأجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الكفر، فيجب أن يكون ما دون ذلك أولى؛ والله أعلم‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة؛ قال‏:‏ وليس من نسب إلى الزنى بأعظم جرما من مرتكب الزنى، ثم الزاني إذا تاب قبلت شهادته؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى؛ مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن؛ منها قوله ‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله‏}‏ إلى قوله ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ ‏.‏ ولا شك أن هذا الاستثناء إلى الجميع؛ وقال الزجاج‏:‏ وليس القاذف بأشد جرما من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته‏.‏ قال‏:‏ وقوله ‏{‏أبدا‏}‏أي ما دام قاذفا؛ كما يقال‏:‏ لا تقبل شهادة الكافر أبدا؛ فإن معناه ما دام كافرا‏.‏ وقال الشعبي للمخالف في هذه المسألة‏:‏ يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته‏!‏ ثم إن كان الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة عند أقوام من الأصوليين فقوله ‏{‏وأولئك هم الفاسقون‏}‏تعليل لا جملة مستقلة بنفسها؛ أي لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم، فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم‏.‏ ثم توبة القاذف إكذابه نفسه، كما قال عمر لقذفة المغيرة بحضرة الصحابة من غير نكير، مع إشاعة القضية وشهرتها من البصرة إلى الحجاز وغير ذلك من الأقطار‏.‏ ولو كان تأويل الآية ما تأوله الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة، ولقالوا لعمر‏:‏ لا يجوز قبول توبة القاذف أبدا، ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب؛ فسقط قولهم، والله المستعان‏.‏

قال القشيري‏:‏ ولا خلاف أنه إذا لم يجلد القاذف بأن مات المقذوف قبل أن يطالب القاذف بالحد، أو لم يرفع إلى السلطان، أو عفا المقذوف، فالشهادة مقبولة؛ لأن عند الخصم في المسألة النهي عن قبول الشهادة معطوف على الجلد؛ قال الله ‏{‏فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا‏}‏‏.‏ وعند هذا قال الشافعي‏:‏ هو قبل أن يحد شر منه حين حد؛ لأن الحدود كفارات فكيف ترد شهادته في أحسن حاليه دون أخسهما‏.‏

قلت‏:‏ هكذا قال ولا خلاف‏.‏ وقد تقدم عن ابن الماجشون أنه بنفس القذف ترد شهادته‏.‏ وهو قول الليث والأوزاعي والشافعي‏:‏ ترد شهادته وإن لم يحد؛ لأنه بالقذف يفسق، لأنه من الكبائر فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنى أو بقيام البينة عليه‏.‏

قوله ‏{‏وأصلحوا‏}‏يريد إظهار التوبة‏.‏ وقيل‏:‏ وأصلحوا العمل‏.‏ ‏{‏فإن الله غفور رحيم‏}‏حيث تابوا وقبل توبتهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 6 ‏:‏ 10 ‏)‏

‏{‏والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ‏}‏

قوله ‏{‏ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم‏}‏‏{‏أنفسهم‏}‏بالرفع على البدل‏.‏ ويجوز النصب على الاستثناء، وعلى خبر ‏{‏يكن‏}‏‏.‏ ‏{‏فشهادة أحدهم أربع شهادات‏}‏بالرفع قراءة الكوفيين على الابتداء والخبر؛ أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حد القذف أربع شهادات‏.‏ وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو ‏{‏أربع‏}‏بالنصب؛ لأن معنى ‏{‏فشهادة‏}‏أن يشهد؛ والتقدير‏:‏ فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات، أو فالأمر أن يشهد أحدهم أربع شهادات؛ ولا خلاف في الثاني أنه منصوب بالشهادة‏.‏ ‏{‏والخامسة‏}‏رفع بالابتداء‏.‏ والخبر ‏{‏أن‏}‏وصلتها؛ ومعنى المخففة كمعنى المثقلة لأن معناها أنه‏.‏ وقرأ أبو عبدالرحمن وطلحة وعاصم في رواية حفص ‏{‏والخامسة‏}‏بالنصب، بمعنى وتشهد الشهادة الخامسة‏.‏ الباقون بالرفع على الابتداء، والخبر في ‏{‏أن لعنة الله عليه‏}‏؛ أي والشهادة الخامسة قول لعنة الله عليه‏.‏

في سبب نزولها، وهو ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏البينة أو حد في ظهرك‏)‏ قال‏:‏ يا رسول الله، إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏البينة وإلا حد في ظهرك‏)‏ فقال هلال‏:‏ والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد؛ فنزلت ‏{‏والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم‏}‏فقرأ حتى بلغ ‏{‏من الصادقين الحديث بكماله‏.‏ وقيل‏:‏ لما نزلت الآية المتقدمة في الذين يرمون المحصنات وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد بن معاذ‏:‏ يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة والله لأضربنه بالسيف غير مصفح عنه‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني‏)‏‏.‏ وفي ألفاظ سعد روايات مختلفة، هذا نحو معناها‏.‏ ثم جاء من بعد ذلك هلال بن أمية الواقفي فرمى زوجته بشريك بن سحماء البلوي على ما ذكرنا، وعزم النبي صلى الله عليه وسلم على ضربه حد القذف؛ فنزلت هذه الآية عند ذلك، فجمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وتلاعنا، فتلكأت المرأة عند الخامسة لما وعظت وقيل إنها موجبة؛ ثم قالت‏:‏ لا أفضح قومي سائر اليوم؛ فالتعنت وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وولدت غلاما كأنه جمل أورق - على النعت المكروه - ثم كان الغلام بعد ذلك أميرا بمصر، وهو لا يعرف لنفسه أبا‏.‏ وجاء أيضا عويمر العجلاني فرمى امرأته ولاعن‏.‏ والمشهور أن نازلة هلال كانت قبل، وأنها سبب الآية‏.‏ وقيل‏:‏ نازلة عويمر بن أشقر كانت قبل؛ وهو حديث صحيح مشهور خرجه الأئمة قال أبو عبدالله بن أبي صفرة‏:‏ الصحيح أن القاذف لزوجه عويمر، وهلال بن أمية خطأ‏.‏ قال الطبري يستنكر قوله في الحديث هلال بن أمية‏:‏ وإنما القاذف عويمر بن زيد بن الجد بن العجلاني، شهد أحدا مع النبي صلى الله عليه وسلم، رماها بشريك بن السحماء، والسحماء أمه؛ قيل لها ذلك لسوادها، وهو ابن عبدة بن الجد بن العجلاني؛ كذلك كان يقول أهل الأخبار‏.‏ وقيل‏:‏ قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الناس في الخطبة يوم الجمعة ‏{‏والذين يرمون المحصنات‏}‏فقال عاصم بن عدي الأنصاري‏:‏ جعلني الله فداك لو أن رجلا منا وجد على بطن امرأته رجلا؛ فتكلم فأخبر بما جرى جلد ثمانين، وسماه المسلمون فاسقا فلا تقبل شهادته؛ فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء، وإلى أن يلتمس أربعة شهود فقد فرغ الرجل من حاجته فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏كذلك أنزلت يا عاصم بن عدي‏)‏‏.‏ فخرج عاصم سامعا مطيعا؛ فاستقبله هلال بن أمية يسترجع؛ فقال‏:‏ ما وراءك‏؟‏ فقال‏:‏ شر وجدت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة يزني بها؛ وخولة هذه بنت عاصم بن عدي، كذا في هذا الطريق أن الذي وجد مع امرأته شريكا هو هلال بن أمية، والصحيح خلافه حسبما تقدم بيانه‏.‏ قال الكلبي‏:‏ والأظهر أن الذي وجد مع امرأته شريكا عويمر العجلاني؛ لكثرة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته‏.‏ واتفقوا على أن هذا الزاني هو شريك بن عبدة وأمه السحماء، وكان عويمر وخولة بنت قيس وشريك بني عم عاصم، وكانت هذه القصة في شعبان سنة تسع من الهجرة، منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة؛ قال الطبري‏.‏ و‏"‏روى الدارقطني عن عبدالله بن جعفر‏"‏ قال‏:‏ حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته، مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وأنكر حملها الذي في بطنها وقال هو لابن السحماء؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هات امرأتك فقد نزل القرآن فيكما‏)‏؛ فلاعن بينهما بعد العصر عند المنبر على خمل‏.‏ في طريقه الواقدي عن الضحاك بن عثمان عن عمران بن أبي أنس قال‏:‏ سمعت عبدالله بن جعفر يقول‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ فذكره‏.‏

قوله ‏{‏والذين يرمون أزواجهم‏}‏عام في كل رمي، سواء قال‏:‏ زنيت أو يا زانية أو رأيتها تزني، أو هذا الولد ليس مني؛ فإن الآية مشتملة عليه‏.‏ ويجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء؛ وهذا قول جمهور العلماء وعامة الفقهاء وجماعة أهل الحديث‏.‏ وقد روي عن مالك مثل ذلك‏.‏ وكان مالك يقول‏:‏ لا يلاعن إلا أن يقول‏:‏ رأيتك تزني؛ أو ينفي حملا أو ولدا منها‏.‏ وقول أبي الزناد ويحيى بن سعيد والبتي مثل قول مالك‏:‏ إن الملاعنة لا تجب بالقذف وإنما تجب بالرؤية أو نفي الحمل مع دعوى الاستبراء؛ هذا هو المشهور عند مالك، وقاله ابن القاسم‏.‏ والصحيح‏.‏ الأول لعموم قوله ‏{‏والذين يرمون أزواجهم‏}‏‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وظاهر القرآن يكفي لإيجاب اللعان بمجرد القذف من غير رؤية؛ فلتعولوا عليه، لا سيما وفي الحديث الصحيح‏:‏ أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فاذهب فأت بها‏)‏ ولم يكلفه ذكر الرؤية‏.‏ وأجمعوا أن الأعمى يلاعن إذا قذف امرأته‏.‏ ولو كانت الرؤية من شرط اللعان ما لاعن الأعمى؛ قاله ابن عمر رضي الله عنهم‏.‏ وقد ذكر ابن القصار عن مالك أن لعان الأعمى لا يصح إلا أن يقول‏:‏ لمست فرجه في فرجها‏.‏ والحجة لمالك ومن اتبعه ما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا، فرأى بعينه وسمع بأذنه فلم يهجه حتى أصبح، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلا، فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه؛ فنزلت ‏{‏والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم‏}‏الآية؛ وذكر الحديث‏.‏ وهو نص على أن الملاعنة التي قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانت في الرؤية، فلا يجب أن يتعدى ذلك‏.‏ ومن قذف امرأته ولم يذكر رؤية حد؛ لعموم قوله ‏{‏والذين يرون المحصنات‏}‏‏.‏

إذا نفى الحمل فإنه يلتعن؛ لأنه أقوى من الرؤية ولا بد من ذكر عدم الوطء والاستبراء بعده‏.‏ واختلف علماؤنا في الاستبراء؛ فقال المغيرة ومالك أحد قوليهما‏:‏ يجزى في ذلك حيضة‏.‏ وقال مالك أيضا‏:‏ لا ينفيه إلا بثلاث حيض‏.‏ والصحيح الأول؛ لأن براءة الرحم من الشغل يقع بها كما في استبراء الأمة، وإنما راعينا الثلاث حيض في العدد لحكم آخر يأتي بيانه في الطلاق إن شاء الله تعالى‏.‏ وحكى اللخمي عن مالك أنه قال مرة‏:‏ لا يُنفى الولد بالاستبراء؛ لأن الحيض يأتي على الحمل‏.‏ وبه قال أشهب في كتاب ابن المواز، وقاله المغيرة‏.‏ وقال‏:‏ لا ينفى الولد إلا بخمس سنين لأنه أكثر مدة الحمل على ما تقدم‏.‏

اللعان عندنا يكون في كل زوجين حرين كانا أو عبدين، مؤمنين أو كافرين، فاسقين أو عدلين‏.‏ وبه قال الشافعي‏.‏ ولا لعان بين الرجل وأمته، ولا بينه وبين أم ولده‏.‏ وقيل‏:‏ لا ينتفي ولد الأمة عنه إلا بيمين واحدة؛ بخلاف اللعان‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه إذا نفى ولد أم الولد لاعن‏.‏ والأول تحصيل مذهب مالك وهو الصواب‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين؛ وذلك لأن اللعان عنده شهادة، وعندنا وعند الشافعي يمين، فكل من صحت يمينه صح قذفه ولعانه‏.‏ واتفقوا على أنه لا بد أن يكونا مكلفين‏.‏ وفي قوله ‏{‏وجد مع امرأته رجلا‏}‏‏.‏ دليل على أن الملاعنة تجب على كل زوجين؛ لأنه لم يخص رجلا من رجل ولا امرأه من امرأة، ونزلت آية اللعان على هذا الجواب فقال ‏{‏والذين يرمون أزواجهم‏}‏ولم يخص زوجا من زوج‏.‏ وإلى هذا ذهب مالك وأهل المدينة؛ وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور‏.‏ وأيضا فإن اللعان يوجب فسخ النكاح فأشبه الطلاق؛ فكل من يجوز طلاقه يجوز لعانه‏.‏ واللعان أيمان لا شهادات؛ قال الله تعالى وهو أصدق القائلين ‏}‏لشهادتنا أحق من شهادتهما‏}‏ أي أيماننا‏.‏ وقال ‏{‏إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله ‏}‏ .‏ ثم قال ‏{‏ اتخذوا أيمانهم جنة‏}‏ ‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لولا الأيمان لكان لي ولها شأن‏)‏‏.‏ وأما ما احتج به الثوري وأبو حنيفة فهي حجج لا تقوم على ساق؛ منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أربعة ليس بينهم لعان ليس بين الحر والأمة لعان وليس بين الحرة والعبد لعان وليس بين المسلم واليهودية لعان وليس بين المسلم والنصرانية لعان‏)‏‏.‏ أخرجه الدارقطني من طرق ضعفها كلها‏.‏ وروي عن الأوزاعي وابن جريج وهما إمامان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قوله، ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ واحتجوا من جهة النظر أن الأزواج لما استثنوا من جملة الشهداء بقول‏}‏ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم‏}‏وجب ألا يلاعن إلا من تجوز شهادته‏.‏ وأيضا فلو كانت يمينا ما رددت، والحكمة في ترديدها قيامها في الأعداد مقام الشهود في الزنى‏.‏ قلنا‏:‏ هذا يبطل بيمين القسامة فإنها تكرر وليست بشهادة إجماعا؛ والحكمة في تكرارها التغليظ في الفروج والدماء‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والفيصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب، وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره هذا بعيد في الأصل معدوم في النظر‏.‏

واختلف العلماء في ملاعنة الأخرس؛ فقال مالك والشافعي‏:‏ يلاعن؛ لأنه ممن يصح طلاقه وظهاره وإيلاؤه، إذا فهم ذلك عنه‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يلاعن؛ لأنه ليس من أهل الشهادة، ولأنه قد ينطق بلسانه فينكر اللعان، فلا يمكننا إقامة الحد عليه‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في سورة ‏[‏مريم‏]‏ والدليل عليه، والحمد لله‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ رأى أبو حنيفة عموم الآية فقال‏:‏ إن الرجل إذا قذف زوجته بالزنى قبل أن يتزوجها فإنه يلاعن؛ ونسي أن ذلك قد تضمنه قوله ‏{‏والذين يرمون المحصنات‏}‏وهذا رماها محصنة غير زوجة؛ وإنما يكون اللعان في قذف يلحق فيه النسب، وهذا قذف لا يلحق فيه نسب فلا يوجب لعانا، كما لو قذف أجنبية‏.‏

إذا قذفها بعد الطلاق نظرت؛ فإن كان هنالك نسب يريد أن ينفيه أو حمل يتبرأ منه لاعن وإلا لم يلاعن‏.‏ وقال عثمان البتي‏:‏ لا يلاعن بحال لأنها ليست بزوجة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يلاعن في الوجهين؛ لأنها ليست بزوج‏.‏ وهذا ينتقض عليه بالقذف قبل الزوجية كما ذكرناه آنفا، بل هذا أولى؛ لأن النكاح قد تقدم وهو يري الانتفاء من النسب وتبرئته من ولد يلحق به فلا بد من اللعان‏.‏ وإذا لم يكن هنالك حمل يرجى ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة فلم يحكم به وكان قذفا مطلقا داخلا تحت عموم قوله ‏{‏والذين يرمون المحصنات‏}‏الآية، فوجب عليه الحد وبطل ما قال البتي لظهور فساده‏.‏

لا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في مسألة واحدة، وهي أن يكون الرجل غائبا فتأتي امرأته بولد في مغيبه وهو لا يعلم فيطلقها فتنقضي عدتها، ثم يقدم فينفيه فله أن يلاعنها ها هنا بعد العدة‏.‏ وكذلك لو قدم بعد وفاتها ونفي الولد لاعن لنفسه وهي ميتة بعد مدة من العدة، ويرثها لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما‏.‏

إذا انتفى من الحمل ووقع ذلك بشرطه لاعن قبل الوضع؛ وبه قال الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يلاعن إلا بعد أن تضع، لأنه يحتمل أن يكون ريحا أو داء من الأدواء‏.‏ ودليلنا النص الصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن قبل الوضع، وقال‏:‏ ‏(‏إن جاءت به كذا فهو لأبيه وإن جاءت به كذا فهو لفلان‏)‏ فجاءت به على النعت المكروه‏.‏

إذا قذف بالوطء في الدبر ‏[‏لزوجه‏]‏ لاعن‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يلاعن؛ وبناه على أصله في أن اللواط لا يوجب الحد‏.‏ وهذا فاسد؛ لأن الرمي به فيه معرة وقد دخل تحت عموم قوله ‏{‏والذين يرمون أزواجهم‏}‏وقد تقدم في الأعراف والمؤمنون أنه يجب به الحد‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ من غريب أمر هذا الرجل أنه قال إذا قذف زوجته وأمها بالزنى‏:‏ إنه إن حد للأم سقط حد البنت، وإن لاعن للبنت لم يسقط حد الأم؛ وهذا لا وجه له، وما رأيت لهم فيه شيئا يحكى، وهذا باطل جدا؛ فإنه خص عموم الآية في البنت وهي زوجة بحد الأم من غير أثر ولا أصل قاسه عليه‏.‏

إذا قذف زوجته ثم زنت قبل التعانه فلا حد ولا لعان‏.‏ وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأكثر أهل العلم‏.‏ وقال الثوري والمزني‏:‏ لا يسقط الحد عن القاذف، وزنى المقذوف بعد أن قذف لا يقدح في حصانته المتقدمة ولا يرفعها؛ لأن الاعتبار الحصانة والعفة في حال القذف لا بعده‏.‏ كما لو قذف مسلما فارتد المقذوف بعد القذف وقبل أن يحد القاذف لم يسقط الحد عنه‏.‏ وأيضا فإن الحدود كلها معتبرة بوقت الوجوب لا وقت الإقامة‏.‏ ودليلنا هو أنه قد ظهر قبل استيفاء اللعان والحد معنى لو كان موجودا في الابتداء منع صحة اللعان ووجوب الحد فكذلك إذا طرأ في الثاني؛ كما إذا شهد شاهدان ظاهرهما العدالة فلم يحكم الحاكم بشهادتهما حتى ظهر فسقهما بأن زنيا أو شربا خمرا فلم يجز للحاكم أن يحكم بشهادتهما تلك‏.‏ وأيضا فإن الحكم بالعفة والإحصان يؤخذ من طريق الظاهر لا من حيت القطع واليقين، وقد قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏ظهر المؤمن حمى‏)‏؛ فلا يحد القاذف إلا بدليل قاطع، وبالله التوفيق‏.‏

من قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا؛ هو لدفع الحد، وهي لدرء العذاب‏.‏ فإن كانت صغيرة لا تحمل لاعن هو لدفع الحد ولم تلاعن هي لأنها لو أقرت لم يلزمها شيء‏.‏ وقال ابن الماجشون‏:‏ لا حد على قاذف من لم تبلغ‏.‏ قال اللخمي‏:‏ فعلى هذا لا لعان على زوج الصغيرة التي لا تحمل‏.‏

إذا شهد أربعة على امرأة بالزنى أحدهم زوجها فإن الزوج يلاعن وتحد الشهود الثلاثة؛ وهو أحد قولي الشافعي‏.‏ والقول الثاني أنهم لا يحدون‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا شهد الزوج والثلاثة ابتداء قبلت شهادتهم وحدت المرأة‏.‏ ودليلنا قوله ‏{‏والذين يرمون المحصنات‏}‏الآية‏.‏ فأخبر أن من قذف محصنا ولم يأت بأربعة شهداء حد؛ فظاهره يقتضي أن يأتي بأربعة شهداء سوى الرامي، والزوج رام لزوجته فخرج عن أن يكون أحد الشهود، والله أعلم‏.‏

إذا ظهر بامرأته حمل فترك أن ينفيه لم يكن له نفيه بعد سكوته‏.‏ وقال شريح ومجاهد‏:‏ له أن ينفيه أبدا‏.‏ وهذا خطأ؛ لأن سكوته بعد العلم به رضى به؛ كما لو أقر به ثم ينفيه فإنه لا يقبل منه، والله أعلم‏.‏

فإن أخر ذلك إلى أن وضعت وقال‏:‏ رجوت أن يكون ريحا يفش أو تسقطه فأستريح من القذف؛ فهل لنفيه بعد وضعه مدة ما فإذا تجاوزها لم يكن له ذلك؛ فقد اختلف في ذلك، فنحن نقول‏:‏ إذا لم يكن له عذر في سكوته حتى مضت ثلاثة أيام فهو راض به ليس له نفيه؛ وبهذا قال الشافعي‏.‏ وقال أيضا‏:‏ متى أمكنه نفيه على ما جرت به العادة تمكنه من الحاكم فلم يفعل لم يكن له نفيه من بعد ذلك‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا أعتبر مدة‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ يعتبر فيه أربعون يوما، مدة النفاس‏.‏ قال ابن القصار‏:‏ والدليل لقولنا هو أن نفي ولده محرم عليه، واستلحاق ولد ليس منه محرم عليه، فلا بد أن يوسع عليه لكي ينظر فيه ويفكر، هل يجوز له نفيه أو لا‏.‏ وإنما جعلنا الحد ثلاثة لأنه أول حد الكثرة وآخر حد القلة، وقد جعلت ثلاثة أيام يختبر بها حال المصراة؛ فكذلك ينبغي أن يكون هنا‏.‏ وأما أبو يوسف ومحمد فليس اعتبارهم بأولى من اعتبار مدة الولادة والرضاع؛ إذ لا شاهد لهم في الشريعة، وقد ذكرنا نحن شاهدا في الشريعة من مدة المصراة‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ إذا قالت امرأة لزوجها أو لأجنبي يا زانيه - بالهاء - وكذلك الأجنبي لأجنبي، فلست أعرف فيه نصا لأصحابنا، ولكنه عندي يكون قذفا وعلى قائله الحد، وقد زاد حرفا، وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن‏.‏ وقال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ لا يكون قذفا‏.‏ واتفقوا أنه إذا قال لامرأته يا زان أنه قذف‏.‏ والدليل على أنه يكون في الرجل قذفا هو أن الخطاب إذا فهم منه معناه ثبت حكمه، سواء كان بلفظ أعجمي أو عربي‏.‏ ألا ترى أنه إذا قال للمرأة زنيت بفتح التاء كان قذفا؛ لأن معناه يفهم منه، ولأبي حنيفة وأبي يوسف أنه لما جاز أن يخاطب المؤنث بخطاب المذكر لقوله ‏{‏وقال نسوة‏}‏صلح أن يكون قول يا زان للمؤنث قذفا‏.‏ ولما لم يجز أن يؤنث فعل المذكر إذا تقدم عليه لم يكن لخطابه بالمؤنث حكم، والله أعلم‏.‏

يلاعن في النكاح الفاسد زوجته لأنها صارت فراشا ويلحق النسب فيه فجرى اللعان عليه‏.‏

اختلفوا في الزوج إذا أبى من الالتعان؛ فقال أبو حنيفة‏:‏ لا حد عليه؛ لأن الله تعالى جعل على الأجنبي الحد وعلى الزوج اللعان، فلما لم ينتقل اللعان إلى الأجنبي لم ينتقل الحد إلى الزوج، ويسجن أبدا حتى يلاعن لأن الحدود لا تؤخر قياسا‏.‏ وقال مالك والشافعي وجمهور الفقهاء‏:‏ إن لم يلتعن الزوج حد؛ لأن اللعان له براءة كالشهود للأجنبي، فإن لم يأت الأجنبي بأربعة شهداء حد، فكذلك الزوج إن لم يلتعن‏.‏ وفي حديث العجلاني ما يدل على هذا؛ لقوله‏:‏ إن سكت سكت على غيظ وإن قتلتُ قُتلت وإن نطقتُ جُلدت‏.‏

واختلفوا أيضا هل للزوج أن يلاعن مع شهوده؛ فقال مالك والشافعي‏:‏ يلاعن كان له شهود أو لم يكن؛ لأن الشهود ليس لهم عمل في غير درء الحد، وأما رفع الفراش ونفي الولد فلا بد فيه من اللعان‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ إنما جعل اللعان للزوج إذا لم يكن له شهود غير نفسه؛ لقوله ‏{‏ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم‏}‏‏.‏

البداءة في اللعان بما بدأ الله به، وهو الزوج؛ وفائدته درء الحد عنه ونفي النسب منه؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏البينة وإلا حد في ظهرك‏)‏‏.‏ ولو بدئ بالمرأة قبله لم يجز لأنه عكس ما رتبه الله تعالى‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يجزى‏.‏ وهذا باطل؛ لأنه خلاف القرآن، وليس له أصل يرده إليه ولا معنى يقوى به، بل المعنى لنا؛ لأن المرأة إذا بدأت باللعان فتنفي ما لم يثبت وهذا لا وجه له‏.‏

وكيفية اللعان أن يقول الحاكم للملاعن‏:‏ قل أشهد بالله لرأيتها تزني ورأيت فرج الزاني في فرجها كالمرود في المكحلة وما وطئتها بعد رؤيتي‏.‏ وإن شئت فلت‏:‏ لقد زنت وما وطئتها بعد زناها‏.‏ يردد ما شاء من هذين اللفظين أربع مرات، فإن نكل عن هذه الأيمان أو عن شيء منها حد‏.‏ وإذا نفى حملا قال‏:‏ أشهد بالله لقد استبرأتها وما وطئتها بعد، وما هذا الحمل مني، ويشير إليه؛ فيحلف بذلك أربع مرات ويقول في كل يمين منها‏:‏ وإني لمن الصادقين في قولي هذا عليها‏.‏ ثم يقول في الخامسة‏:‏ علي لعنة الله إن كنت من الكاذبين، وإن شاء قال‏:‏ إن كنت كاذبا فيما ذكرت عنها‏.‏ فإذا قال ذلك سقط عنه الحد وانتفى عنه الولد‏.‏ فإذا فرغ الرجل من التعانه قامت المرأة بعده فحلفت بالله أربعة أيمان، تقول فيها‏:‏ أشهد بالله إنه لكاذب أو إنه لمن الكاذبين فيما ادعاه علي وذكر عني‏.‏ وإن كانت حاملا قالت‏:‏ وإن حملي هذا منه‏.‏ ثم تقول في الخامسة‏:‏ وعلي غضب الله إن كان صادقا، أو إن كان من الصادقين في قول ذلك‏.‏ ومن أوجب اللعان بالقذف يقول في كل شهادة من الأربع‏:‏ أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به فلانة من الزنى‏.‏ ويقول في الخامسة‏:‏ علي لعنة الله إن كنت كاذبا فيما رميت به من الزنى‏.‏ وتقول هي‏:‏ أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنى‏.‏ وتقول في الخامسة‏:‏ علي غضب الله إن كان صادقا فيما رماني به من الزنى‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يقول الملاعن أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجي فلانة بنت فلان، ويشير إليها إن كانت حاضرة، يقول ذلك أربع مرات، ثم يوعظه الإمام ويذكره الله تعالى ويقول‏:‏ إني أخاف إن لم تكن صدقت أن تبوء بلعنة الله؛ فإن رآه يريد أن يمضي على ذلك أمر من يضع يده على فيه، ويقول‏:‏ إن قولك وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين موجبا؛ فإن أبى تركه يقول ذلك‏:‏ لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة من الزنى‏.‏ احتج بما رواه أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا حيث أمر المتلاعنين أن يضع يده على فيه عند الخامسة يقول‏:‏ إنها موجبة‏.‏

اختلف العلماء في حكم من قذف امرأته برجل سماه، هل يحد أم لا؛ فقال مالك‏:‏ عليه اللعان لزوجته، وحد للمرمي‏.‏ وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه قاذف لمن لم يكن له ضرورة إلى قذفه‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا حد عليه؛ لأن الله عز وجل لم يجعل على من رمى زوجته بالزنى إلا حدا واحدا بقول ‏{‏والذين يرمون أزواجهم‏}‏، ولم يفرق بين من ذكر رجلا بعينه وبين من لم يذكر؛ وقد رمى العجلاني زوجته بشريك وكذلك هلال بن أمية؛ فلم يحد واحد منهما‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وظاهر القرآن لنا؛ لأن الله تعالى وضع الحد في قذف الأجنبي والزوجة مطلقين، ثم خص حد الزوجة بالخلاص باللعان وبقي الأجنبي على مطلق الآية‏.‏ وإنما لم يحد العجلاني لشريك ولا هلال لأنه لم يطلبه؛ وحد القذف لا يقيمه الإمام إلا بعد المطالبة إجماعا منا ومنه‏.‏

إذا فرغ المتلاعنان من تلاعنهما جميعا تفرقا وخرج كل واحد منهما على باب من المسجد الجامع غير الباب الذي يخرج منه صاحبه، ولو خرجا من باب واحد لم يضر ذلك لعانهما‏.‏ ولا خلاف في أنه لا يكن اللعان إلا في مسجد جامع تجمع فيه الجمعة بحضرة السلطان أو من يقوم مقامه من الحكام‏.‏ وقد استحب جماعة من أهل العلم أن يكون اللعان في الجامع بعد العصر‏.‏ وتلتعن النصرانية من زوجها المسلم في الموضع الذي تعظمه من كنيستها مثل ما تلتعن به المسلمة‏.‏

قال مالك أصحابه‏:‏ وبتمام اللعان تقع الفرقة بين المتلاعنين، فلا يجتمعان أبدا ولا يتوارثان، ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل زوج ولا بعده؛ وهو قول الليث بن سعد وزفر بن الهذيل والأوزاعي‏.‏ وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن‏:‏ لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما؛ وهو قول الثوري؛ لقول ابن عمر‏:‏ فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين؛ فأضاف الفرقة إليه، ولقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا سبيل لك عليها‏)‏‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد زال فراش امرأته، التعنت أو لم تلتعن‏.‏ قال‏:‏ وأما التعان المرأة فإنما هو لدرء الحد عنها لا غير؛ وليس لالتعانها في زوال الفراش معنى‏.‏ ولما كان لعان الزوج ينفي الولد ويسقط الحد رفع الفراش‏.‏ وكان عثمان البتي لا يرى التلاعن ينقص شيئا من عصمة الزوجين حتى يطلق‏.‏ وهذا قول لم يتقدمه إليه أحد من الصحابة؛ على أن البتي قد استحب للملاعن أن يطلق بعد اللعان، ولم يستحسنه قبل ذلك؛ فدل على أن اللعان عنده قد أحدث حكما‏.‏ وبقول عثمان قال جابر بن زيد فيما ذكره الطبري، وحكاه اللخمي عن محمد بن أبي صفرة‏.‏ ومشهور المذهب أن نفس تمام اللعان بينهما فرقة‏.‏ واحتج أهل هذه المقالة بأنه ليس في كتاب الله تعالى إذا لاعن أو لاعنت يجب وقوع الفرقة، وبقول عويمر‏:‏ كذبت عليها إن أمسكتها؛ فطلقها ثلاثا، قال‏:‏ ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه ولم يقل له لم قلت هذا، وأنت لا تحتاج إليه؛ لأن باللعان قد طلقت‏.‏ والحجة لمالك في المشهور ومن وافقه قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا سبيل لك عليها‏)‏‏.‏ وهذا إعلام منه أن تمام اللعان رفع سبيله عنها وليس تفريقه بينهما باستئناف حكم وإنما كان تنفيذا لما أوجب الله تعالى بينهما من المباعدة، وهو معنى اللعان في اللغة‏.‏

ذهب الجمهور من العلماء أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدا، فإن أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، ولم ترجع إليه أبدا‏.‏ وعلى هذا السنة التي لا شك فيها ولا اختلاف‏.‏ وذكر ابن المنذر عن عطاء أن الملاعن إذا أكذب نفسه بعد اللعان لم يحد، وقال‏:‏ قد تفرقا بلعنة من الله‏.‏ وقال أبو حنيفة ومحمد‏:‏ إذا أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، وكان خاطبا من الخطاب إن شاء؛ وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وسعيد بن جبير وعبدالعزيز بن أبي سلمة، وقالوا‏:‏ يعود النكاح حلالا كما لحق به الولد؛ لأنه لا فرق بين شيء من ذلك‏.‏ وحجة الجماعة قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا سبيل لك عليها‏)‏؛ ولم يقل إلا أن تكذب نفسك‏.‏ و‏"‏روى ابن إسحاق وجماعة عن الزهري‏"‏ قال‏:‏ فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما فلا يجتمعان أبدا‏.‏ ورواه الدارقطني، ورواه مرفوعا من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان أبدا‏)‏‏.‏ وروي عن علي وعبدالله قالا‏:‏ مضت السنة ألا يجتمع المتلاعنان‏.‏ عن علي‏:‏ أبدا‏.‏

اللعان يفتقر إلى أربعة أشياء‏:‏

عدد الألفاظ‏:‏ وهو أربع شهادات على ما تقدم‏.‏

والمكان‏:‏ وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان، إن كان بمكة فعند الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه، إن كانا يهوديين فالكنيسة، وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه‏.‏

والوقت‏:‏ وذلك بعد صلاة العصر‏.‏

وجمع الناس‏:‏ وذلك أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا؛ فاللفظ وجمع الناس مشروطان، والزمان والمكان مستحبان‏.‏

من قال‏:‏ إن الفراق لا يقع إلا بتمام التعانهما، فعليه لو مات أحدهما قبل تمامه ورثه الآخر‏.‏ ومن قال‏:‏ لا يقع إلا بتفريق الإمام فمات أحدهما قبل ذلك وتمام اللعان ورثه الآخر‏.‏ وعلى قول الشافعي‏:‏ إن مات أحدهما قبل أن تلتعن المرأة لم يتوارثا‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ تفريق اللعان عندنا ليس بفسخ؛ وهو مذهب المدونة‏:‏ فإن اللعان حكم تفريق الطلاق، ويعطى لغير المدخول بها نصف الصداق‏.‏ وفي مختصر ابن الجلاب‏:‏ لا شيء لها؛ وهذا على أن تفريق اللعان فسخ‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 11 ‏:‏ 22 ‏)‏

‏{‏ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم، لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين، لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون، ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم، إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم، ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين، ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم، إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون، ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم، يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم، ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ‏}‏

قوله ‏{‏إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم‏}‏‏{‏عصبة‏}‏خبر ‏{‏إن‏}‏‏.‏ ويجوز نصبها على الحال، ويكون الخبر ‏{‏لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم‏}‏‏.‏ وسبب نزولها ما رواه الأئمة من حديث الإفك الطويل في قصة عائشة رضوان الله عليها، وهو خبر صحيح مشهور، أغنى اشتهاره عن ذكره، وسيأتي مختصرا‏.‏ وأخرجه البخاري تعليقا، وحديثه أتم‏.‏ قال‏:‏ وقال أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأخرجه أيضا عن محمد بن كثير عن أخيه سليمان من حديث مسروق عن أم رومان أم عائشة أنها قالت‏:‏ لما رميت عائشة خرت مغشيا عليها‏.‏ وعن موسى بن إسماعيل من حديث أبي وائل قال‏:‏ حدثني مسروق بن الأجدع قال حدثتني أم رومان وهي أم عائشة قالت‏:‏ بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار فقالت‏:‏ فعل الله بفلان وفعل بفلان فقالت أم رومان‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قالت ابني فيمن حدّث الحديث قالت‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قالت كذا وكذا‏.‏ قالت عائشة‏:‏ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالت نعم‏.‏ قالت‏:‏ وأبو بكر‏؟‏ قالت نعم فخرت مغشيا عليها فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض فطرحت عليها ثيابها فغطيتها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ما شأن هذه‏؟‏‏)‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، أخذتها الحمى بنافض‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فلعل في حديث تُحُدث به‏)‏ قالت نعم‏.‏ فقعدت عائشة فقالت‏:‏ والله، لئن حلفت لا تصدقوني ولئن قلت لا تعذروني مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه والله المستعان على ما تصفون‏.‏ قالت‏:‏ وانصرف ولم يقل شيئا فأنزل الله عذرها‏.‏ قالت‏:‏ بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك‏.‏ قال أبو عبدالله الحميدي‏:‏ كان بعض من لقينا من الحفاظ البغداديين يقول الإرسال في هذا الحديث أبين واستدل على ذلك بأن أم رومان توفيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسروق لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف‏.‏ وللبخاري من حديث عبيدالله بن عبدالله بن أبي مليكة أن عائشة كانت تقرأ ‏{‏إذ تلقونه بألسنتكم‏}‏وتقول‏:‏ الولق الكذب‏.‏ قال ابن أبي مليكة‏:‏ وكانت أعلم بذلك من غيرها لأنه نزل فيها‏.‏ قال البخاري‏:‏ وقال معمر بن راشد عن الزهري‏:‏ كان حديث الإفك في غزوة المريسيع‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وذلك سنة ست‏.‏ وقال موسى بن عقبة‏:‏ سنة أربع‏.‏ وأخرج البخاري من حديث معمر عن الزهري قال‏:‏ قال لي الوليد بن عبدالملك‏:‏ أبلغك أن عليا كان فيمن قذف‏؟‏ قال‏:‏ قلت لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبدالرحمن وأبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن عائشة قالت لهما‏:‏ كان عليٌّ مُسَلًّما في شأنها‏.‏ وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه المخرج على الصحيح من وجه آخر من حديث معمر عن الزهري، وفيه‏:‏ قال كنت عند الوليد بن عبدالملك فقال‏:‏ الذي تولى كبره منهم علي بن أبي طالب‏؟‏ فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة وعلقمة وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة كلهم يقول سمعت عائشة تقول‏:‏ والذي تولى كبره عبدالله بن أبي‏.‏ وأخرج البخاري أيضا من حديث الزهري عن عروة عن عائشة‏:‏ والذي تولى كبره منهم عبدالله بن أبي‏.‏

قوله ‏{‏بالإفك‏}‏الإفك الكذب‏.‏ والعصبة ثلاثة رجال؛ قال ابن عباس‏.‏ وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة‏.‏ ابن عيينة‏:‏ أربعون رجلا‏.‏ مجاهد‏:‏ من عشرة إلى خمسة عشر‏.‏ وأصلها في اللغة وكلام العرب الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض‏.‏ والخير حقيقته ما زاد نفعه على ضره‏.‏ والشر ما زاد ضره على نفعه‏.‏ وإن خيرا لا شر فيه هو الجنة‏.‏ وشرا لا خير فيه هو جهنم‏.‏ فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير؛ لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى‏.‏ فنبه الله تعالى عائشة وأهلها وصفوان، إذ الخطاب لهم في قوله ‏{‏لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم‏}‏؛ لرجحان النفع والخير على جانب الشر‏.‏

لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة معه في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع، وقفل ودنا من المدينة آذن ليلة بالرحيل قامت حين آذنوا بالرحيل فمشت حتى جاوزت الجيش، فلما فرغت من شأنها أقبلت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه، فوجدته وانصرفت فلما لم تجد أحدا، وكانت شابة قليلة اللحم، فرفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه؛ فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن تفتقد فيرجع إليها، فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون؛ وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة‏.‏ وقيل‏:‏ إنها استيقظت لاسترجاعه، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة، وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة؛ فوقع أهل الإفك في مقالتهم، وكان الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه ويشعله عبدالله بن أبي بن سلول المنافق، وهو الذي رأى صفوان آخذا بزمام ناقة عائشة فقال‏:‏ والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال‏:‏ امرأة نبيكم باتت مع رجل‏.‏ وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش‏.‏ هذا اختصار الحديث، وهو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم، وهو في مسلم أكمل‏.‏ ولما بلغ صفوان قول حسان في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال‏:‏

تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت ليس بشاعر

فأخذ جماعة حسان ولببوه وجاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم جرح حسان واستوهبه إياه‏.‏ وهذا يدل على أن حسان ممن تولى الكبر؛ على ما يأتي والله أعلم‏.‏ وكان صفوان هذا صاحبَ ساقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته، وكان من خيار الصحابة‏.‏ وقيل‏:‏ كان حصورا لا يأتي النساء؛ ذكره ابن إسحاق من طريق عائشة‏.‏ وقيل‏:‏ كان له ابنان؛ يدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في ابنيه‏:‏ ‏(‏لهما أشبه به من الغراب بالغراب‏)‏‏.‏ وقوله في الحديث‏:‏ والله ما كشف كنف أنثى قط؛ يريد بزنى‏.‏ وقتل شهيدا رضي الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر، وقيل‏:‏ ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية‏.‏

قوله ‏{‏لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم‏}‏يعني ممن تكلم بالإفك‏.‏ ولم يسم من أهل الإفك إلا حسان ومسطح وحمنة وعبدالله؛ وجهل الغير؛ قال عروة بن الزبير، وقد سأله عن ذلك عبدالملك بن مروان، وقال‏:‏ إلا أنهم كانوا عصبة؛ كما قال الله تعالى‏.‏ وفي مصحف حفصة ‏{‏عصبة أربعة‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏والذي تولى كبره منهم‏}‏وقرأ حميد الأعرج ويعقوب ‏{‏كُبره‏}‏بضم الكاف‏.‏ قال الفراء‏:‏ وهو وجه جيد؛ لأن العرب تقول‏:‏ فلان تولى عظم كذا وكذا؛ أي أكبره‏.‏ روي عن عائشة أنه حسان، وأنها قالت حين عمي‏:‏ لعل العذاب العظيم الذي أوعده الله به ذهاب بصره؛ رواه عنها مسروق‏.‏ وروي عنها أنه عبدالله بن أبي؛ وهو الصحيح، وقال ابن عباس‏.‏ وحكى أبو عمر بن عبدالبر أن عائشة برأت حسان من الفرية، وقالت‏:‏ إنه لم يقل شيئا‏.‏ وقد أنكر حسان أن يكون قال شيئا من ذلك في قوله‏:‏

حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

حليلة خير الناس دينا ومنصبا نبي الهدى والمكرمات الفواضل

عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدها غير زائل

مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل شين وباطل

فإن كان ما بلغت أني قلته فلا رفعت سوطي إلي أناملي

فكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل

له رتب عال على الناس فضلها تقاصر عنها سورة المتطاول

وقد روي أنه لما أنشدها‏:‏ حصان رزان؛ قالت له‏:‏ لست كذلك؛ تريد أنك وقعت في الغوافل‏.‏ وهذا تعارض، ويمكن الجمع بأن يقال‏:‏ إن حسانا لم يقل ذلك نصا وتصريحا، ويكون عرض بذلك وأومأ إليه فنسب ذلك إليه؛ والله أعلم‏.‏

وقد اختلف الناس فيه هل خاض في الإفك أم لا، وهل جلد الحد أم لا؛ فالله أعلم أي ذلك كان ف‏"‏روى محمد بن إسحاق وغيره‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة‏:‏ مسطحا وحسان وحمنة، وذكره الترمذي وذكر القشيري عن ابن عباس قال‏:‏ جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي ثمانين جلدة، وله في الآخرة عذاب النار‏.‏ قال القشيري‏:‏ والذي ثبت في الأخبار أنه ضرب ابن أبي وضرب حسان وحمنة، وأما مسطح فلم يثبت عنه قذف صريح، ولكنه كان يسمع ويشيع من غير تصريح‏.‏ قال الماوردي وغيره‏:‏ اختلفوا هل حد النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الإفك؛ على قولين‏:‏ أحدهما أنه لم يحد أحدا من أصحاب الإفك لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة، ولم يتعبده الله أن يقيمها بإخباره عنها؛ كما لم يتعبده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا فاسد مخالف لنص القرآن؛ فإن الله عز وجل يقول‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء‏}‏أي على صدق قولهم‏{‏فاجلدوهم ثمانين جلدة‏}‏‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم حد أهل الإفك عبدالله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش؛ وفي ذلك قال شاعر من المسلمين‏:‏

لقد ذاق حسان الذي كان أهله وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح

وابن سلول ذاق في الحد خزية كما خاض في إفك من القول يفصح

تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا

وآذوا رسول الله فيها فجلدوا مخازي تبقى عمموها وفضحوا

فصب عليهم محصدات كأنها شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح

قلت‏:‏ المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حد حسان ومسطح وحمنة، ولم يسمع بحد لعبدالله بن أبي‏.‏ ‏"‏روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها‏"‏ قالت‏:‏ لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك، وتلا القرآن؛ فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم، وسماهم‏:‏ حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش‏.‏ وفي كتاب الطحاوي ‏{‏ثمانين ثمانين‏}‏‏.‏ قال علماؤنا‏.‏ وإنما لم يحد عبدالله بن أبي لأن الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما؛ فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها وبكذب كل من رماها؛ فقد حصلت فائدة الحد، إذ مقصوده إظهار كذب القاذف وبراءة المقذوف؛ كما قال الله ‏{‏فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون‏}‏‏.‏ وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحدود ‏(‏إنها كفارة لمن أقيمت عليه‏)‏؛ كما في حديث عبادة بن الصامت‏.‏ ويحتمل أن يقال‏:‏ إنما ترك حد ابن أبي استئلافا لقومه واحتراما لابنه، وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه؛ كما في صحيح مسلم‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله ‏{‏لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا‏}‏هذا عتاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في ظنهم حين قال أصحاب الإفك ما قالوا‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه؛ قال المهدوي‏.‏ و‏{‏لولا‏}‏بمعنى هلا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم؛ فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان أبعد‏.‏ وروي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته؛ وذلك أنه دخل عليها فقالت له‏:‏ يا أبا أيوب أسمعت ما قيل فقال نعم وذلك الكذب أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك قالت‏:‏ لا والله قال‏:‏ فعائشة والله أفضل منك؛ قالت أم أيوب نعم‏.‏ فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم‏.‏

قوله ‏{‏بأنفسهم‏}‏قال النحاس‏:‏ معنى ‏{‏بأنفسهم‏}‏بإخوانهم‏.‏ فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه وتواعد من ترك ذلك ومن نقله‏.‏

قلت‏:‏ ولأجل هذا قال العلماء‏:‏ إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان؛ ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن، ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا‏.‏

قوله ‏{‏لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء‏}‏هذا توبيخ لأهل الإفك‏.‏ و‏{‏لولا‏}‏بمعنى هلا؛ أي هلا جاؤوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء‏.‏ وهذا رد على الحكم الأول وإحالة على الآية السابقة في آية القذف‏.‏ ‏{‏فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون‏}‏أي هم في حكم الله كاذبون‏.‏ وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه، ولكنه في حكم الشرع وظاهر الأمر كاذب لا في علم الله تعالى؛ وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه، فإنما يبني على ذلك حكم الآخرة‏.‏

قلت‏:‏ ومما يقوي هذا المعنى ويعضده ما خرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ أيها الناس إن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه؛ وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة‏.‏ وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر، وأن السرائر إلى الله عز وجل‏.‏

قوله ‏{‏فضل‏}‏رفع بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف لا تظهره العرب‏.‏ وحذف جواب ‏{‏لولا‏}‏لأنه قد ذكر مثله بعد؛ قال الله عز وجل ‏{‏ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم‏}‏أي بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة‏.‏ وهذا عتاب من الله تعالى بليغ، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا والإفاضة‏:‏ الأخذ في الحديث؛ وهو الذي وقع عليه العتاب؛ يقال‏:‏ أفاض القوم في الحديث أي أخذوا فيه‏.‏

قوله ‏{‏إذ تلقَّونه بألسنتكم‏}‏قراءة محمد بن السميقع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف؛ من الإلقاء، وهذه قراءة بينة‏.‏ وقرأ أبي وابن مسعود ‏{‏إذ تتلقونه‏}‏من التلقي، بتاءين‏.‏ وقرأ جمهور السبعة بحرف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام؛ وهذا أيضا من التلقي‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الذال في التاء‏.‏ وقرأ ابن كثير بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء؛ وهذه قراءة قلقة؛ لأنها تقتضي اجتماع ساكنين، وليست كالإدغام في قراءة من قرأ ‏{‏فلا تناجوا‏.‏ ولا تنابزوا‏}‏لأن دونه الألف الساكنة، وكونها حرف لين حسنت هنالك ما لا تحسن مع سكون الذال‏.‏ وقرأ ابن يعمر وعائشة رضي الله عنهما - وهم أعلم الناس بهذا الأمر - ‏{‏إذ تلقَّونه‏}‏بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف؛ ومعنى هذه القراءة من قول العرب‏:‏ ولق الرجل يلق ولقا إذا كذب واستمر عليه؛ فجاؤوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه؛ فحذف حرف الجر فاتصل الضمير‏.‏ وقال الخليل وأبو عمرو‏:‏ أصل الولق الإسراع؛ يقال‏:‏ جاءت الإبل تلق؛ أي تسرع‏.‏ قال‏:‏

لما رأوا جيشا عليهم قد طرق جاؤوا بأسراب من الشأم ولق

إن الحصين زلق وزملق جاءت به عنس من الشأم تلق

يقال‏:‏ رجل زلق وزملق؛ مثال هُدَبِد، وزمالق وزملق ‏(‏بتشديد الميم‏)‏ وهو الذي ينزل قبل أن يجامع؛ قال الراجز‏:‏

إن الحصين زلق وزملق

والولق أيضا أخف الطعن‏.‏ وقد ولقه يلقه ولقا‏.‏ يقال‏:‏ ولقه بالسيف ولقات، أي ضربات؛ فهو مشترك‏.‏

قوله ‏{‏وتقولون بأفواهكم ما‏}‏مبالغة وإلزام وتأكيد‏.‏ والضمير في ‏{‏تحسبونه‏}‏عائد على الحديث والخوض فيه والإذاعة له‏.‏ و‏{‏هينا‏}‏أي شيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم‏.‏ ‏{‏وهو عند الله‏}‏في الوزر ‏{‏عظيم‏}‏‏.‏ وهذا مثل قوله عليه السلام في حديث القبرين‏:‏ ‏(‏إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير‏)‏ أي بالنسبة إليكم‏.‏

قوله ‏{‏ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين، ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم‏}‏عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه الصلاة والسلام‏.‏ وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان؛ وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه‏.‏ وهذا المعنى قد جاء في صحيح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة‏.‏ و‏{‏أن‏}‏مفعول من أجله، بتقدير‏:‏ كراهية أن ونحوه‏.‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏توقيف وتوكيد؛ كما تقول‏:‏ ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلا‏.‏

قوله ‏{‏يعظكم الله أن تعودوا لمثله‏}‏يعني في عائشة؛ لأن مثله لا يكون إلا نظير القول المقول عنه بعينه، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما في ذلك من إذاية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه وأهله؛ وذلك كفر من فاعله‏.‏

قال هشام بن عمار سمعت مالكا يقول‏:‏ من سب أبا بكر وعمر أدب، ومن سب عائشة قتل لأن الله تعالى يقول‏{‏يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين‏}‏فمن سب عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ قال أصحاب الشافعي من سب عائشة رضي الله عنها أدب كما في سائر المؤمنين، وليس قوله ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏في عائشة لأن ذلك كفر، وإنما هو كما قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه‏)‏‏.‏ ولو كان سلب الإيمان في سب من سب عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله‏:‏ ‏(‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏)‏ حقيقة‏.‏ قلنا‏:‏ ليس كما زعمتم؛ فإن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله تعالى فكل من سبها بما برأها الله منه مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر؛ فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر‏.‏ ولو أن رجلا سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب‏.‏

قوله ‏{‏إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة‏}‏أي تفشو؛ يقال‏:‏ شاع الشيء شيوعا وشيعا وشيعانا وشيوعه؛ أي ظهر وتفرق‏.‏ ‏{‏في الذين آمنوا‏}‏أي في المحصنين والمحصنات‏.‏ والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان رضي الله عنهما‏.‏ والفاحشة‏:‏ الفعل القبيح المفرط القبح‏.‏ وقيل‏:‏ الفاحشة في هذه الآية القول السيء‏.‏ ‏{‏لهم عذاب أليم في الدنيا‏}‏أي الحد‏.‏ وفي الآخرة عذاب النار؛ أي للمنافقين، فهو مخصوص‏.‏ وقد بينا أن الحد للمؤمنين كفارة‏.‏ وقال الطبري‏:‏ معناه إن مات مصرا غير تائب‏.‏

قوله ‏{‏والله يعلم‏}‏أي يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه ويعلم كل شيء‏.‏ ‏{‏وأنتم لا تعلمون‏}‏روي من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أيما رجل شد عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع عنها‏.‏ وأيما رجل قال بشفاعته دون حد من حدود الله أن يقام فقد عاند الله حقا وأقدم على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة‏.‏ وأيما رجل أشاع عل رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله تعالى أن يرميه بها في النار - ثم تلا مصداقه من كتاب الله ‏{‏إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا‏}‏الآية‏.‏

قوله ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏يعني مسالكه ومذاهبه؛ المعنى‏:‏ لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليها الشيطان‏.‏ وواحد الخطوات خطوة هو ما بين القدمين‏.‏ والخطوة بالفتح المصدر؛ يقال‏:‏ خطوت خطوة، وجمعها خطوات‏.‏ وتخطى إلينا فلان؛ ومنه الحديث أنه رأى رجلا يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏خطوات‏}‏بضم الطاء‏.‏ وسكنها عاصم والأعمش‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ما زكى‏}‏بتخفيف الكاف؛ أي ما اهتدى ولا أسلم ولا عرف رشدا‏.‏ وقيل ‏{‏ما زكى‏}‏أي ما صلح؛ يقال‏:‏ زكا يزكو زكاء؛ أي صلح‏.‏ وشددها الحسن وأبو حيوة؛ أي أن تزكيته لكم وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم‏.‏ وقال الكسائي‏}‏يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏معترض، وقوله ‏{‏ما زكى منكم من أحد أبدا‏}‏جواب لقوله أولا وثانيا ‏{‏ولولا فضل الله عليكم‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة‏}‏الآية‏.‏ المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة‏.‏ وذلك أنه كان ابن بنت خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين‏.‏ وهو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف‏.‏ وقيل‏:‏ اسمه عوف، ومسطح لقب‏.‏ وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لمسكنته وقرابته؛ فلما وقع أمر الإفك وقال فيه مسطح ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا، فجاء مسطح فاعتذر وقال‏:‏ إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول‏.‏ فقال له أبو بكر‏:‏ لقد ضحكت وشاركت فيما قيل؛ ومر على يمينه، فنزلت الآية‏.‏ وقال الضحاك وابن عباس‏:‏ إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا‏:‏ والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة؛ فنزلت الآية في جميعهم‏.‏ والأول أصح؛ غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع في هذه صفته غابر الدهر‏.‏ روي في الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل‏}‏إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم‏}‏العشر آيات، قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره‏:‏ والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة؛ فأنزل الله ‏{‏ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة‏}‏إلى قوله ‏{‏ألا تحبون أن يغفر الله لكم‏}‏‏.‏ قال عبدالله بن المبارك‏:‏ هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى؛ فقال أبو بكر‏:‏ والله إني لأحب أن يغفر الله لي؛ فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال‏:‏ لا أنزعها منه أبدا‏.‏

في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال؛ لأن الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان؛ وكذلك سائر الكبائر؛ ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال الله ‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏ ‏.‏

من حلف على شيء لا يفعله فرأى فعله أولى منه أتاه وكفر عن يمينه، أو كفر عن يمينه وأتاه؛ كما تقدم في ‏.‏المائدة ‏.‏ ورأى الفقهاء أن من حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوبا وأبّد ذلك أنها جُرحة في شهادته؛ ذكره الباجي في المنتقى‏.‏

قوله ‏{‏ولا يأتل أولوا الفضل‏}‏‏{‏ولا يأتل‏}‏معناه يحلف؛ وزنها يفتعل، من الألية وهي اليمين؛ ومنه قوله ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم‏}‏وقد تقدم في -البقرة -‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ معناه يقصر؛ من قولك‏:‏ ألوت في كذا إذا قصرت فيه؛ ومنه قوله ‏{‏لا يألونكم خبالا‏}‏ ‏.‏

قوله ‏{‏ألا تحبون أن يغفر الله لكم‏}‏تمثيل وحجة أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم؛ وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من لا يرحم لا يرحم‏)‏‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ‏.‏ وقيل‏.‏ أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله ‏{‏وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا‏}‏ ‏.‏ وقد قال تعالى في آية أخرى ‏}‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير‏}‏؛ فشرح الفضل الكبير في هذه الآية، وبشر به المؤمنين في تلك‏.‏ ومن آيات الرجاء قوله ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم‏}‏ وقوله ‏{‏الله لطيف بعباده‏}‏‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أرجى آية في كتاب الله عز وجل ‏{‏ولسوف يعطيك ربك فترضى‏}‏؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار‏.‏

قوله ‏{‏أن تؤتوا‏}‏أي ألا يؤتوا، فحذف ‏{‏لا‏}‏؛ كقول القائل‏:‏

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ذكره الزجاج‏.‏ وعلى قول أبي عبيدة لا حاجة إلى إضمار ‏{‏لا‏}‏‏.‏ ‏{‏وليعفو‏}‏من عفا الربع أي درس فهو محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 23 ‏)‏

‏{‏ إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ‏}‏

قوله ‏{‏المحصنات‏}‏تقدم في - النساء -‏.‏ وأجمع العلماء على أن حكم المحصنين في القذف كحكم المحصنات قياسا واستدلالا، وقد بيناه أول السورة والحمد لله‏.‏ واختلف فيمن المراد بهذه الآية؛ فقال سعيد بن جبير‏:‏ هي في رماة عائشة رضوان الله عليها خاصة‏.‏ وقال قوم‏:‏ هي في عائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاله ابن عباس والضحاك وغيرهما‏.‏ ولا تنفع التوبة‏.‏ ومن قذف غيرهن من المحصنات فقد جعل الله له توبة؛ لأنهقال ‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء - إلى قوله - إلا الذين تابوا‏}‏فجعل الله لهؤلاء توبة، ولم يجعل لأولئك توبة؛ قاله الضحاك‏.‏ وقيل هذا الوعيد لمن أصر على القذف ولم يتب‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في عائشة، إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة‏.‏ وقيل‏:‏ إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى؛ ويكون التقدير‏:‏ إن الذين يرمون الأنفس المحصنات؛ فدخل في هذا المذكر والمؤنث؛ واختاره النحاس‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في مشركي مكة؛ لأنهم يقولون للمرأة إذا هاجرت إنما خرجت لتفجر‏.‏

قوله ‏{‏لعنوا في الدنيا والآخرة‏}‏قال العلماء‏:‏ إن كان المراد بهذه الآية المؤمنين من القذفة فالمراد باللعنة الإبعاد وضرب الحد واستيحاش المؤمنين منهم وهجرهم لهم، وزوالهم عن رتبه العدالة والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين‏.‏ وعلى قول من قال‏:‏ هي خاصة لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبدالله بن أبيّ وأشباهه‏.‏ وعلى قول من قال‏:‏ نزلت في مشركي مكة فلا كلام، فإنهم مبعدون، ولهم في الآخرة عذاب عظيم؛ ومن أسلم فالإسلام يجب ما قبله‏.‏ وقال أبو جعفر النحاس‏:‏ من أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى؛ ويكون التقدير‏:‏ إن الذين يرمون الأنفس المحصنات، فدخل في هذا المذكر والمؤنث، وكذا في الذين يرمون؛ إلا أنه غلب المذكر على المؤنث‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 24 ‏)‏

‏{‏ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ‏}‏

قراءة العامة بالتاء، واختاره أبو حاتم‏.‏ وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف ‏{‏يشهد‏}‏بالياء، واختاره أبو عبيد؛ لأن الجار والمجرور قد حال بين الاسم والفعل، والمعنى‏:‏ يوم تشهد ألسنة بعضهم على بعض بما كانوا يعملون من القذف والبهتان‏.‏ وقيل‏:‏ تشهد عليهم ألسنتهم ذلك اليوم بما تكلموا به‏.‏ ‏{‏وأيديهم وأرجلهم‏}‏أي وتتكلم الجوارح بما عملوا في الدنيا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 25 ‏)‏

‏{‏يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ‏}‏

قوله ‏{‏يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق‏}‏أي حسابهم وجزاؤهم‏.‏ وقرأ مجاهد ‏{‏يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق‏}‏برفع ‏{‏الحق‏}‏على أنه نعت لله عز وجل‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع؛ ليكون نعتا لله عز وجل، وتكون موافقة لقراءة أبيّ، وذلك أن جرير بن حازم قال‏:‏ رأيت في مصحف أبيّ ‏{‏يوفيهم الله الحق دينهم‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا الكلام من أبي عبيد غير مرضي؛ لأنه احتج بما هو مخالف للسواد الأعظم‏.‏ ولا حجة أيضا فيه لأنه لو صح هذا أنه في مصحف أبيّ كذا جاز أن تكون القراءة‏:‏ يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم، يكون ‏{‏دينهم‏}‏بدلا من الحق‏.‏ وعلى قراءة ‏{‏دينهم الحق‏}‏يكون ‏{‏الحق‏}‏نعتا لدينهم، والمعنى حسن؛ لأن الله عز وجل ذكر المسيئين وأعلم أنه يجازيهم بالحق؛ كما قال عز وجل ‏{‏وهل نجازي إلا الكفور‏}‏ ؛ لأن مجازاة الله عز وجل للكافر والمسيء بالحق والعدل، ومجازاته للمحسن بالإحسان والفضل‏.‏ ‏{‏ويعلمون أن الله هو الحق المبين‏}‏اسمان من أسمائه سبحانه‏.‏ وقد ذكرناهما في غير موضع، وخاصة في الكتاب الأسنى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 26 ‏)‏

‏{‏الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ‏}‏

قال ابن زيد‏:‏ المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون للخبيثات، وكذا الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات‏.‏ وقال مجاهد وابن جبير وعطاء وأكثر المفسرين‏:‏ المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول‏.‏ قال النحاس في كتاب معاني القرآن‏:‏ وهذا أحسن ما قيل في هذه الآية‏.‏ ودل على صحة هذا القول ‏{‏أولئك مبرؤون مما يقولون‏}‏أي عائشة وصفوان مما يقول الخبيثون والخبيثات‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذه الآية مبنية على قوله ‏{‏الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة‏}‏ الآية؛ فالخبيثات الزواني، والطيبات العفائف، وكذا الطيبون والطيبات‏.‏ واختار هذا القول النحاس أيضا، وهو معنى قول ابن زيد‏.‏ ‏{‏أولئك مبرؤون مما يقولون‏}‏يعني به الجنس‏.‏ وقيل‏:‏ عائشة وصفوان فجمع كماقال ‏{‏فإن كان له إخوة‏}‏ والمراد أخوان؛ قاله الفراء‏.‏ و‏{‏مبرؤون‏}‏يعني منزهين مما رموا به‏.‏ قال بعض أهل التحقيق‏:‏ إن يوسف عليه السلام لما رمي بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها الله تعالى بالقرآن؛ فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برأها الله بكلامه من القذف والبهتان‏.‏ وروي عن علي بن زيد بن جدعان عن جدته عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏(‏لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة‏:‏ لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري، ولقد توفي صلى الله عليه وسلم وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفت الملائكة بيتي، وإن كان الوحي لينزل عليه وهو في أهله فينصرفون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه فما يبينني عن جسده، وإني لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيبة وعند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما؛ تعني قوله ‏{‏لهم مغفرة ورزق كريم‏}‏وهو الجنة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 27 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون ‏}‏

لما خصص الله سبحانه ابن آدم الذي كرمه وفضله بالمنازل وسترهم فيها عن الأبصار، وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على ما فيها من خارج أو يلجوها من غير إذن أربابها، أدبهم بما يرجع إلى الستر عليهم لئلا يطلع أحد منهم على عورة‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حل لهم أن يفقؤوا عينه‏)‏‏.‏ وقد اختلف في تأويله فقال بعض العلماء‏:‏ ليس هذا على ظاهره، فإن فقأ فعليه الضمان، والخبر منسوخ، وكان قبل نزول قوله ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا‏}‏ ويحتمل أن يكون خرج على وجه الوعيد لا على وجه الحتم، والخبر إذا كان مخالفا لكتاب الله تعالى لا يجوز العمل به‏.‏ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام في الظاهر وهو يريد شيئا آخر؛ كما جاء في الخبر أن عباس بن مرداس لما مدحه قال لبلال‏:‏ ‏(‏قم فاقطع لسانه‏)‏ وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئا، ولم يرد به القطع في الحقيقة‏.‏ وكذلك هذا يحتمل أن يكون ذكر فقء العين والمراد أن يعمل به عمل حتى لا ينظر بعد ذلك في بيت غيره‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لا ضمان عليه ولا قصاص؛ وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لحديث أنس على ما يأتي‏.‏

سبب نزول هذه الآية ما رواه الطبري وغيره عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت‏:‏ يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل عليّ وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع ‏؟‏ فنزلت الآية‏.‏ فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ يا رسول الله، أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن؛ فأنزل الله ‏{‏ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة‏}‏ ‏.‏

مد الله سبحانه وتعالى التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك إلى غاية هي الاستئناس، وهو الاستئذان‏.‏ قال ابن وهب قال مالك‏:‏ الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان؛ وكذا في قراءة أبيّ وابن عباس وسعيد بن جبير ‏{‏حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن معنى ‏{‏تستأنسوا‏}‏تستعلموا؛ أي تستعلموا من في البيت‏.‏ قال مجاهد‏:‏ بالتنحنح أو بأي وجه أمكن، ويتأنى قدر ما يعلم أنه قد شعر به، ويدخل إثر ذلك‏.‏ وقال معناه الطبري؛ ومنه قوله ‏{‏فإن آنستم منهم رشدا‏}‏ أي علمتم‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

آنست نبأة وأفزعها القناص عصرا وقد دنا الإمساء

قلت‏:‏ وفي سنن ابن ماجه‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبدالرحيم بن سليمان عن واصل بن السائب عن أبي سورة عن أبي أيوب الأنصاري قال قلنا‏:‏ يا رسول الله، هذا السلام، فما الاستئذان‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح ويؤذن أهل البيت‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا نص في أن الاستئناس غير الاستئذان؛ كما قال مجاهد ومن وافقه‏.‏

وروي عن ابن عباس وبعض الناس يقول عن سعيد بن جبير ‏{‏حتى تستأنسوا‏}‏خطأ أو وهم من الكاتب، إنما هو ‏{‏حتى تستأذنوا‏}‏‏.‏ وهذا غير صحيح عن ابن عباس وغيره؛ فإن مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها ‏{‏حتى تستأنسوا‏}‏، وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان، فهي التي لا يجوز خلافها‏.‏ وإطلاق الخطأ والوهم على الكاتب في لفظ أجمع الصحابة عليه قول لا يصح عن ابن عباس؛ وقد قال عز وجل ‏{‏لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد‏}‏ ، وقال ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏.‏ وقد روي عن ابن عباس أن في الكلام تقديما وتأخيرا؛ والمعنى‏:‏ حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا حكاه أبو حاتم‏.‏ قال ابن عطية‏.‏ ومما ينفي هذا القول عن ابن عباس وغيره أن ‏{‏تستأنسوا‏}‏متمكنة في المعنى، بينة الوجه في كلام العرب‏.‏ وقد قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أستأنس يا رسول الله؛ وعمر واقف على باب الغرفة، الحديث المشهور‏.‏ وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى الله عليه وسلم، فكيف يخطّئ ابن عباس أصحاب الرسول في مثل هذا‏.‏

قلت‏:‏ قد ذكرنا من حديث أبي أيوب أن الاستئناس إنما يكون قبل السلام، وتكون الآية على بابها لا تقديم فيها ولا تأخير، وأنه إذا دخل سلم‏.‏ والله أعلم‏.‏

السنة في الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها‏.‏ قال ابن وهب قال مالك‏:‏ الاستئذان ثلاث، لا أحب أن يزيد أحد عليها، إلا من علم أنه لم يسمع، فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع‏.‏ وصورة الاستئذان أن يقول الرجل‏:‏ السلام عليكم أأدخل؛ فإن أذن له دخل، وإن أمر بالرجوع انصرف، وإن سكت عنه استأذن ثلاثا؛ ثم ينصرف من بعد الثلاث‏.‏ وإنما قلنا‏:‏ إن السنة الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها لحديث أبي موسى الأشعري، الذي استعمله مع عمر بن الخطاب وشهد به لأبي موسى أبو سعيد الخدري، ثم أبيّ بن كعب‏.‏ وهو حديث مشهور أخرجه الصحيح، وهو نص صريح؛ فإن فيه‏:‏ فقال - يعني عمر - ما منعك أن تأتينا‏؟‏ فقلت‏:‏ أتيت فسلمت على بابك ثلاث مرات فلم ترد علي فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع‏)‏‏.‏ وأما ما ذكرناه من صورة الاستئذان فما رواه أبو داود عن ربعي قال‏:‏ حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال‏:‏ ألج‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه‏:‏ ‏(‏أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان - فقال له - قل السلام عليكم أأدخل‏)‏ فسمعه الرجل فقال‏:‏ السلام عليكم أأدخل‏؟‏ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل‏.‏ وذكره الطبري وقال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة‏:‏ ‏(‏قولي لهذا يقول السلام عليكم أدخل‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وروي أن ابن عمر آذته الرمضاء يوما فأتى فسطاطا لامرأة من قريش فقال‏:‏ السلام عليكم أأدخل‏؟‏ فقالت المرأة‏:‏ ادخل بسلام؛ فأعاد فأعادت، فقال لها‏:‏ قولي أدخل‏.‏ فقالت ذلك فدخل؛ فتوقف لما قالت‏:‏ بسلام؛ لاحتمال اللفظ أن تريد بسلامك لا بشخصك‏.‏

قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ إنما خص الاستئذان بثلاث لأن الغالب من الكلام إذا كرر ثلاثا سمع وفهم؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى يفهم عنه، وإذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثا‏.‏ وإذا كان الغالب هذا؛ فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث ظهر أن رب المنزل لا يريد الإذن، أو لعله يمنعه من الجواب عنه عذر لا يمكنه قطعه؛ فينبغي للمستأذن أن ينصرف؛ لأن الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل، وربما يضره الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشغولا به؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب حين استأذن عليه فخرج مستعجلا فقال‏:‏ ‏(‏لعلنا أعجلناك‏.‏‏.‏‏.‏ ‏)‏ الحديث‏.‏ و روى عقيل عن ابن شهاب قال‏:‏ أما سنة التسليمات الثلاث فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سعد بن عبادة فقال‏:‏ ‏(‏السلام عليكم‏)‏ فلم يردوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏السلام عليكم‏)‏ فلم يردوا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما فقد سعد تسليمه عرف أنه قد انصرف؛ فخرج سعد في أثره حتى أدركه، فقال‏:‏ وعليك السلام يا رسول الله، إنما أردنا أن نستكثر من تسليمك، وقد والله سمعنا؛ فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سعد حتى دخل بيته‏.‏ قال ابن شهاب‏:‏ فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك؛ رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال‏:‏ سمعت يحيى بن أبي كثير يقول حدثني محمد بن عبدالرحمن بن أسعد بن زرارة عن قيس بن سعد قال‏:‏ زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال‏:‏ ‏(‏السلام عليكم ورحمة الله‏)‏ قال فرد سعد ردا خفيا، قال قيس‏:‏ فقلت ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ ذره يكثر علينا من السلام‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، أخرجه أبو داود وليس فيه قال ابن شهاب فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك‏.‏ قال أبو داود‏:‏ ورواه عمر بن عبدالواحد وابن سماعة عن الأوزاعي مرسلا لم يذكرا قيس بن سعد‏.‏

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الاستئذان ترك العمل به الناس‏.‏ قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ وذلك لاتخاذ الناس الأبواب وقرعها؛ والله أعلم‏.‏ ‏"‏روى أبو داود عن عبدالله بن بسر‏"‏ قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول‏:‏ ‏(‏السلام عليكم السلام عليكم‏)‏ وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور‏.‏

فإن كان الباب مردودا فله أن يقف حيث شاء منه ويستأذن، وإن شاء دق الباب؛ لما رواه أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حائط بالمدينة على قُف البئر فمد رجليه في البئر فدق الباب أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إيذن له وبشره بالجنة‏)‏‏.‏ هكذا رواه عبدالرحمن بن أبي الزناد وتابعه صالح بن كيسان ويونس بن يزيد؛ فرووه جميعا عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن عبدالرحمن بن نافع عن أبي موسى‏.‏ وخالفهم محمد بن عمرو الليثي فرواه عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن نافع بن عبد الحارث عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك؛ وإسناده الأول أصح، والله اعلم‏.‏

وصفة الدق أن يكون خفيفا بحيث يسمع، ولا يعنف في ذلك؛ فقد ‏"‏روى أنس بن مالك رضي الله عنه‏"‏ قال‏:‏ كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم تقرع بالأظافير؛ ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في جامعه‏.‏

‏"‏روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما‏"‏ قال‏:‏ استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏من هذا‏)‏‏؟‏ فقلت أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا أنا‏)‏‏!‏ كأنه كره ذلك‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأن قوله أنا لا يحصل بها تعريف، وإنما الحكم في ذلك أن يذكر اسمه كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو موسى؛ لأن في ذكر الاسم إسقاط كلفة السؤال والجواب‏.‏ ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له فقال‏:‏ السلام عليك يا رسول الله، السلام عليكم أيدخل عمر‏؟‏ وفي صحيح مسلم أن أبا موسى جاء إلى عمر بن الخطاب فقال‏:‏ السلام عليكم، هذا أبو موسى، السلام عليكم، هذا الأشعري‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

ذكر الخطيب في جامعه عن علي بن عاصم الواسطي قال‏:‏ قدمت البصرة فأتيت منزل شعبة فدققت عليه الباب فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ قلت أنا؛ فقال‏:‏ يا هذا ما لي صديق يقال له أنا ثم خرج إليّ فقال‏:‏ حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لي فطرقت عليه الباب فقال‏:‏ ‏(‏من هذا‏)‏‏؟‏ فقلت أنا؛ فقال‏:‏ ‏(‏أنا أنا‏)‏ كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره قولي هذا، أو قوله هذا‏.‏ وذكر عن عمر بن شبة حدثنا محمد بن سلام عن أبيه قال‏:‏ دققت على عمرو بن عبيد الباب فقال لي‏:‏ من هذا‏؟‏ فقلت أنا؛ فقال‏:‏ لا يعلم الغيب إلا الله‏.‏ قال الخطيب‏:‏ سمعت علي بن المحسن القاضي يحكي عن بعض الشيوخ أنه كان إذا دق بابه فقال من ذا‏؟‏ فقال الذي على الباب أنا، يقول الشيخ‏:‏ أنا هم دق‏.‏

ثم لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة؛ كما رواه أبو بكر الخطيب مسندا عن أبي عبدالملك مولى أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب قال‏:‏ أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة فجاء معي، فلما قام بالباب قال‏:‏ أندر‏؟‏ قالت أندرون‏.‏ وترجم عليه باب الاستئذان بالفارسية‏.‏ وذكر عن أحمد بن صالح قال‏:‏ كان الدراوردي من أهل أصبهان نزل المدينة، فكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل‏:‏ أندرون، فلقبه أهل المدينة الدراوردي‏.‏

‏"‏روى أبو داود عن كلدة بن حنبل‏"‏ أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن وجداية وضغابيس والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فدخلت ولم أسلم فقال‏:‏ ‏(‏ارجع فقل السلام عليكم‏)‏ وذلك بعدما أسلم صفوان بن أمية‏.‏ وروى أبو الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له‏)‏‏.‏ وذكر ابن جريج أخبرني عطاء قال‏:‏ سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ إذا قال الرجل أدخل‏؟‏ ولم يسلم فقل لا حتى تأتي بالمفتاح؛ فقلت السلام عليكم‏؟‏ قال نعم‏.‏ وروي أن حذيفة جاءه رجل فنظر إلى ما في البيت فقال‏:‏ السلام عليكم أأدخل‏؟‏ فقال حذيفة‏:‏ أما بعينك فقد دخلت وأما باستك فلم تدخل‏.‏

ومما يدخل في هذا الباب ما رواه أبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏رسول الرجل إلى الرجل إذنه‏)‏؛ أي إذا أرسل إليه فقد أذن له في الدخول، يبينه قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن‏)‏‏.‏ أخرجه أبو داود أيضا عن أبي هريرة‏.‏

فإن وقعت العين على العين فالسلام قد تعين، ولا تعد رؤيته إذنا لك في دخولك عليه، فإذا قضيت حق السلام لأنك الوارد عليه تقول‏:‏ أدخل‏؟‏ فإن أذن لك وإلا رجعت‏.‏

هذه الأحكام كلها إنما هي في بيت ليس لك، فأما بيتك الذي تسكنه فإن كان فيه أهلك فلا إذن عليها، إلا أنك تسلم إذا دخلت‏.‏ قال قتادة‏:‏ إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق من سلمت عليهم‏.‏ فإن كان فيه معك أمك أو أختك فقالوا‏:‏ تنحنح واضرب برجلك حتى ينتبها لدخولك؛ لأن الأهل لا حشمة بينك وبينها‏.‏ وأما الأم والأخت فقد يكونا على حالة لا تحب أن تراهما فيها‏.‏ قال ابن القاسم قال مالك‏:‏ ويستأذن الرجل على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليهما‏.‏ وقد روى عطاء بن يسار أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أستأذن على أمي‏؟‏ قال ‏(‏نعم‏)‏ قال‏:‏ إني أخدمها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏استأذن عليها‏)‏ فعاوده ثلاثا؛ قال ‏(‏أتحب أن تراها عريانة‏)‏‏؟‏ قال لا؛ قال‏:‏ ‏(‏فاستأذن عليها‏)‏ ذكره الطبري‏.‏

فإن دخل بيت نفسه وليس فيه أحد؛ فقال علماؤنا‏:‏ يقول السلام علينا من ربنا التحيات الطيبات المباركات، لله السلام‏.‏ رواه ابن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسنده ضعيف‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ فإنه يؤمر بذلك‏.‏ قال‏:‏ وذكر لنا أن الملائكة ترد عليهم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والصحيح ترك السلام والاستئذان، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ قول قتادة حسن‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 28 ‏)‏

‏{‏ فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ‏}‏

قوله ‏{‏فإن لم تجدوا فيها أحدا‏}‏الضمير في ‏{‏تجدوا فيها‏}‏للبيوت التي هي بيوت الغير‏.‏ وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال‏:‏ معنى قوله ‏{‏فان لم تجدوا فيها أحدا‏}‏أي لم يكن لكم فيها متاع‏.‏ وضعف الطبري هذا التأويل، وكذلك هو في غاية الضعف؛ وكأن مجاهدا رأى أن البيوت غير المسكونة إنما تدخل دون إذن إذا كان للداخل فيها متاع‏.‏ ورأى لفظة ‏{‏المتاع‏}‏متاع البيت، الذي هو البسط والثياب؛ وهذا كله ضعيف‏.‏ والصحيح أن هذه الآية مرتبطة بما قبلها والأحاديث؛ التقدير‏:‏ يا أيها الذين أمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا، فإن أذن لكم فادخلوا وإلا فارجعوا؛ كما فعل عليه السلام مع سعد، وأبو موسى مع عمر رضي الله عنهما‏.‏ فإن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم فلا تدخلوها حتى تجدوا إذنا‏.‏ وأسند الطبري عن قتادة قال‏:‏ قال رجل من المهاجرين‏:‏ لقد طلبت عمري هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع فارجع وأنا مغتبط؛ لقوله ‏{‏هو أزكى لكم‏}‏‏.‏

سواء كان الباب مغلقا أو مفتوحا؛ لأن الشرع قد أغلقه بالتحريم للدخول حتى يفتحه الإذن من ربه، بل يجب عليه أن يأتي الباب ويحاول الإذن على صفة لا يطلع منه على البيت لا في إقباله ولا في انقلابه‏.‏ فقد روى علماؤنا عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ ‏(‏من ملأ عينيه من قاعة بيت فقد فسق‏)‏ ‏"‏وروي في الصحيح عن سهل بن سعد‏"‏ أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى يرجل به رأسه؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الله الإذن من أجل البصر‏)‏‏.‏ وروي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح‏)‏‏.‏

إذا ثبت أن الإذن شرط في دخول المنزل فإنه يجوز من الصغير والكبير‏.‏ وقد كان أنس بن مالك دون البلوغ يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضي الله عنهم‏.‏ وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله ‏{‏والله بما تعملون عليم‏}‏توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غفلة للمعاصي والنظر إلى ما لا يحل ولا يجوز، ولغيرهم ممن يقع في محظور‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 29 ‏)‏

‏{‏ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ‏}‏

روي أن بعض الناس لما نزلت آية الاستئذان تعمق في الأمر، فكان لا يأتي موضعا خربا ولا مسكونا إلا سلم واستأذن؛ فنزلت هذه الآية، أباح الله تعالى فيها رفع الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد لأن العلة في الاستئذان إنما هي لأجل خوف الكشفة على الحرمات فإذا زالت العلة زال الحكم‏.‏

اختلف العلماء في المراد بهذه البيوت؛ فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد‏:‏ هي الفنادق التي في طرق السابلة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل، وفيها متاع لهم؛ أي استمتاع بمنفعتها‏.‏ وعن محمد بن الحنفية أيضا أن المراد بها دور مكة ويبينه قول مالك‏.‏ وهذا على القول بأنها غير متملكة، وأن الناس شركاء فيها وأن مكة أخذت عنوة‏.‏ وقال ابن زيد والشعبي‏:‏ هي حوانيت القيساريات‏.‏ قال الشعبي‏:‏ لأنهم جاؤوا بيوعهم فجعلوها فيها، وقالوا للناس هلم‏.‏ وقال عطاء‏:‏ المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول والغائط؛ ففي هذا أيضا متاع‏.‏ وقال جابر بن زيد‏:‏ ليس يعني بالمتاع الجهاز، ولكن ما سواه من الحاجة؛ أما منزل ينزله قوم من ليل أو نهار، أو خربة يدخلها لقضاء حاجة، أو دار ينظر إليها فهذا متاع وكل منافع الدنيا متاع‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ وهذا شرح حسن من قول إمام من أئمة المسلمين، وهو موافق للغة‏.‏ والمتاع في كلام العرب‏:‏ المنفعة؛ ومنه أمتع الله بك‏.‏ ومنه ‏{‏فمتعوهن‏}‏ ‏.‏ قلت‏:‏ واختاره أيضا القاضي أبو بكر بن العربي وقال‏:‏ أما من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبق المفصل وجاء بالفيصل، وبين أن الداخل فيها إنما هو لما له من الانتفاع فالطالب يدخل في الخانكات وهي المدارس لطلب العلم، والساكن يدخل الخانات وهي الفناتق، أي الفنادق، والزبون يدخل الدكان للابتياع، والحاقن يدخل الخلاء للحاجة؛ وكل يؤتي على وجهه من بابه‏.‏ وأما قول ابن زيد والشعبي فقول وذلك أن بيوت القيساريات محظورة بأموال الناس، غير مباحة لكل من أراد دخولها بإجماع، ولا يدخلها إلا من أذن له ربها، بل أربابها موكلون بدفع الناس‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 30 ‏)‏

‏{‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ‏}‏

قوله ‏{‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم‏}‏وصل تعالى بذكر الستر ما يتعلق به من أمر النظر؛ يقال‏:‏ غض بصره يغضه غضا؛ قال الشاعر‏:‏

فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا

وقال عنترة‏.‏

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها

ولم يذكر الله تعالى ما يغض البصر عنه ويحفظ الفرج، غير أن ذلك معلوم بالعادة، وأن المراد منه المحرم دون المحلل‏.‏ وفي البخاري‏:‏ وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن‏؟‏ قال‏:‏ اصرف بصرك؛ يقول الله ‏{‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم‏}‏وقال قتادة‏:‏ عما لا يحل لهم؛ ‏{‏وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن‏}‏ خائنة الأعين من النظر إلى ما نهي عنه‏.‏

قوله ‏{‏من أبصارهم‏}‏‏{‏من‏}‏زائدة؛ كقوله ‏{‏فما منكم من أحد عنه حاجزين‏}‏ ‏.‏ وقيل ‏{‏من‏}‏للتبعيض؛ لأن من النظر ما يباح‏.‏ وقيل‏:‏ الغض النقصان؛ يقال‏:‏ غض فلان من فلان أي وضع منه؛ فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو موضوع منه ومنقوص‏.‏ ‏{‏فمن‏}‏صلة للغض، وليست للتبعيض ولا للزيادة‏.‏

البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته‏.‏ ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إياكم والجلوس على الطرقات‏)‏ فقالوا‏:‏ يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه‏)‏ قالوا‏:‏ وما حق الطريق يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏)‏‏.‏ رواه أبو سعيد الخدري، خرجه البخاري ومسلم‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم لعلي‏:‏ ‏(‏لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية‏)‏‏.‏ و روى الأوزاعي قال‏:‏ حدثني هارون بن رئاب أن غزوان وأبا موسى الأشعري كانا في بعض مغازيهم، فكشفت جارية فنظر إليها غزوان، فرفع يده فلطم عينه حتى نفرت، فقال‏:‏ إنك للحاظة إلى ما يضرك ولا ينفعك؛ فلقي أبا موسى فسأله فقال‏:‏ ظلمت عينك، فاستغفر الله وتب، فإن لها أول نظرة وعليها ما كان بعد ذلك‏.‏ قال الأوزاعي‏:‏ وكان غزوان ملك نفسه فلم يضحك حتى مات رضي الله عنه‏.‏ وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبدالله قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة؛ فأمرني أن أصرف بصري‏.‏ وهذا يقوي قول من يقول‏:‏ إن ‏{‏من‏}‏للتبعيض؛ لأن النظرة الأولى لا تملك فلا تدخل تحت خطاب تكليف، إذ وقوعها لا يتأتى أن يكون مقصودا، فلا تكون مكتسبة فلا يكون مكلفا بها؛ فوجب التبعيض لذلك، ولم يقل ذلك في الفرج؛ لأنها تملك‏.‏ ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته؛ وزمانه خير من زماننا هذا وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرمة نظر شهوة يرددها‏.‏

قوله ‏{‏ويحفظوا فروجهم‏}‏أي يستروها عن أن يراها من لا يحل‏.‏ وقيل ‏{‏ويحفظوا فروجهم‏}‏أي عن الزنى؛ وعلى هذا القول لوقال ‏{‏من فروجهم‏}‏لجاز‏.‏ والصحيح أن الجميع مراد واللفظ عام‏.‏ و روى بهز بن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه عن جده قال‏:‏ قلت يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ الرجل يكون مع الرجل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إن استطعت ألا يراها فافعل‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ فالرجل يكون خاليا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏الله أحق أن يستحيا منه من الناس‏)‏‏.‏ وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالها معه فقالت‏:‏ ما رأيت ذلك منه، ولا رأى ذلك مني‏.‏

بهذه الآية حرم العلماء نصا دخول الحمام بغير مئزر‏.‏ وقد روي عن ابن عمر أنه قال‏:‏ أطيب ما أنفق الرجل درهم يعطيه للحمام في خلوة‏.‏ وصح عن ابن عباس أنه دخل الحمام وهو محرم بالجحفة‏.‏ فدخوله جائز للرجال بالمآزر، وكذلك النساء للضرورة كغسلهن من الحيض أو النفاس أو مرض يلحقهن؛ والأولى بهن والأفضل لهن غسلهن إن أمكن ذلك في بيوتهن، فقد روى أحمد بن منيع حدثنا الحسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان عن سهل بن معاذ عن أبيه عن أم الدرداء أنه سمعها تقول‏:‏ لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرجت من الحمام فقال‏:‏ ‏(‏من أين يا أم الدرداء‏)‏‏؟‏ فقالت من الحمام؛ فقال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها إلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن عز وجل‏)‏‏.‏ ‏"‏وخرج أبو بكر البزار‏"‏ عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏احذروا بيتا يقال له الحمام‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، ينقي الوسخ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فاستتروا‏)‏‏.‏ قال أبو محمد عبدالحق‏:‏ هذا أصح إسناد حديث في هذا الباب؛ على أن الناس يرسلونه عن طاوس، وأما ما خرجه أبو داود في هذا من الحظر والإباحة فلا يصح منه شيء لضعف الأسانيد، وكذلك ما ‏"‏خرجه الترمذي‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ أما دخول الحمام في هذه الأزمان فحرام على أهل الفضل والدين؛ لغلبة الجهل على الناس واستسهالهم إذا توسطوا الحمام رمي مآزرهم، حتى يرى الرجل البهي ذو الشيبة قائما منتصبا وسط الحمام وخارجه باديا عن عورته ضاما بين فخذيه ولا أحد يغير عليه‏.‏ هذا أمر بين الرجال فكيف من النساء لا سيما بالديار المصرية إذ حماماتهم خالية عن المظاهر التي هي من أعين الناس سواتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

قال العلماء‏:‏ فإن استتر فليدخل بعشرة شروط

الأول‏:‏ ألا يدخل إلا بنية التداوي أو بنية التطهير عن الرحضاء‏.‏

الثاني‏:‏ أن يعتمد أوقات الخلوة أو قلة الناس‏.‏

الثالث‏:‏ أن يستر عورته بإزار صفيق‏.‏

الرابع‏:‏ أن يكون نظره إلى الأرض أو يستقبل الحائط لئلا يقع بصره على محظور‏.‏

الخامس‏:‏ أن يغير ما يرى من منكر برفق، يقول‏:‏ استتر سترك الله

السادس‏:‏ إن دلكه أحد لا يمكنه من عورته، من سرته إلى ركبته إلا امرأته أو جاريته‏.‏ وقد اختلف في الفخذين هل هما عورة أم لا‏.‏

السابع‏:‏ أن يدخله بأجرة معلومة بشرط أو بعادة الناس‏.‏

الثامن‏:‏ أن يصب الماء على قدر الحاجة‏.‏

التاسع‏:‏ إن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع قوم يحفظون أديانهم على كرائه‏.‏

العاشر‏:‏ أن يتذكر به جهنم‏.‏ فإن لم يمكنه ذلك كله فليستتر وليجتهد في غض البصر‏.‏ ذكر الترمذي أبو عبدالله في نوادر الأصول من حديث طاوس عن عبدالله بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اتقوا بيتا يقال له الحمام‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ يا رسول الله، إنه يذهب به الوسخ ويذكّر النار فقال‏:‏ ‏(‏إن كنتم لا بد فاعلين فادخلوه مستترين‏)‏‏.‏ وخرج من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نعم البيت يدخله الرجل المسلم بيت الحمام - وذلك لأنه إذا دخله سأل الله الجنة واستعاذ به من النار - وبئس البيت يدخله الرجل بيت العروس‏)‏‏.‏ وذلك لأنه يرغبه في الدنيا وينسيه الآخرة‏.‏ قال أبو عبدالله‏:‏ فهذا لأهل الغفلة، صير الله هذه الدنيا بما فيها سببا للذكر لأهل الغفلة ليذكروا بها آخرتهم؛ فأما أهل اليقين فقد صارت الآخرة نصب أعينهم فلا بيت حمام يزعجه ولا بيت عروس يستفزه، لقد دقت الدنيا بما فيها من الصنفين والضربين في جنب الآخرة، حتى إن جميع نعيم الدنيا في أعينهم كنثارة الطعام من مائدة عظيمة، وجميع شدائد الدنيا في أعينهم كتفلة عوقب بها مجرم أو مسيء قد كان استوجب القتل أو الصلب من جميع عقوبات أهل الدنيا‏.‏

قوله ‏{‏ذلك أزكى لهم‏}‏أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر في الدين وأبعد من دنس الأنام‏.‏ ‏{‏إن الله خبير‏}‏أي عالم‏.‏ ‏{‏بما يصنعون‏}‏تهديد ووعيد‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 31 ‏)‏

‏{‏وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ‏}‏

قوله ‏{‏وقل للمؤمنات‏}‏خص الله سبحانه وتعالى الإناث هنا بالخطاب على طريق التأكيد؛ فإن قوله ‏{‏قل للمؤمنين‏}‏يكفي؛ لأنه قول عام يتناول الذكر والأنثى من المؤمنين، حسب كل خطاب عام في القرآن‏.‏ وظهر التضعيف في ‏{‏يغضضن‏}‏ولم يظهر في ‏{‏يغضوا‏}‏لأن لام الفعل من الثاني ساكنة ومن الأول متحركة، وهما في موضع جزم جوابا‏.‏ وبدأ بالغض قبل الفرج لأن البصر رائد للقلب؛ كما أن الحُمى رائد الموت‏.‏ وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال‏:‏

ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف

وفي الخبر ‏(‏النظر سهم من سهام إبليس مسموم فمن غض بصره أورثه الله الحلاوة في قلبه‏)‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها فزينها لمن ينظر؛ فإذا أدبرت جلس على عجزها فزينها لمن ينظر‏.‏ وعن خالد بن أبي عمران قال‏:‏ لا تتبعن النظرة النظرة فربما نظر العبد نظرة نغل منها قلبه كما ينغل الأديم فلا ينتفع به‏.‏ فأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار عما لا يحل؛ فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة ولا المرأة إلى الرجل؛ فإن علاقتها به كعلاقته بها؛ وقصدها منه كقصده منها‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وقال الزهري في النظر إلى التي لم تحض من النساء‏:‏ لا يصلح النظر إلى شيء منهن ممن يشتهى النظر إليهن وإن كانت صغيرة‏.‏ وكره عطاء النظر إلى الجواري اللاتي يبعن بمكة إلا أن يريد أن يشتري‏.‏ وفي الصحيحين عنه عليه السلام أنه صرف وجه الفضل عن الخثعمية حين سألته، وطفق الفضل ينظر إليها‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏الغيرة من الإيمان والمذاء من النفاق‏)‏‏.‏ والمذاء هو أن يجمع الرجل بين النساء والرجال ثم يخليهم يماذي بعضهم بعضا؛ مأخوذ من المذي‏.‏ وقيل‏:‏ هو إرسال الرجال إلى النساء؛ من قولهم‏:‏ مذيت الفرس إذا أرسلتها ترعى‏.‏ وكل ذكر يمذي، وكل أنثى تقذي؛ فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تبدي زينتها إلا لمن تحل له؛ أو لمن هي محرمة عليه على التأبيد؛ فهو آمن أن يتحرك طبعه إليها لوقوع اليأس له منها‏.‏

‏"‏روى الترمذي عن نبهان مولى أم سلمة‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ولميمونة وقد دخل عليها ابن أم مكتوم‏:‏ ‏(‏احتجبا‏)‏ فقالتا‏:‏ إنه أعمى، قال‏:‏ ‏(‏أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه‏)‏‏.‏ فإن قيل‏:‏ هذا الحديث لا يصح عند أهل النقل لأن راويه عن أم سلمة نبهان مولاها وهو ممن لا يحتج بحديثه‏.‏ وعلى تقدير صحته فإن ذلك منه عليه السلام تغليظ على أزواجه لحرمتهن كما غلظ عليهن أمر الحجاب؛ كما أشار إليه أبو داود وغيره من الأئمة‏.‏ ويبقى معنى الحديث الصحيح الثابت وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم شريك؛ ثم قال‏:‏ ‏(‏تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ولا يراك‏)‏‏.‏ قلنا‏:‏ قد استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن المرأة يجوز لها أن تطلع من الرجل على ما لا يجوز للرجل أن يطلع من المرأة كالرأس ومعلق القرط؛ وأما العورة فلا‏.‏ فعلى هذا يكون مخصصا لعموم قوله ‏{‏وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن‏}‏، وتكون ‏{‏من‏}‏للتبعيض كما هي في الآية قبلها‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وإنما أمرها بالانتقال من بيت أم شريك إلى ببت ابن أم مكتوم لأن ذلك أولى بها من بقائها في بيت أمر شريك؛ إذ كانت أم شريك مؤثرة بكثرة الداخل إليها، فيكثر الرائي لها، وفي بيت ابن أم مكتوم لا يراها أحد؛ فكان إمساك بصرها عنه أقرب من ذلك وأولى، فرخص لها في ذلك، والله أعلم‏.‏

أمر الله سبحانه وتعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين، إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية حذارا من الافتتان، ثم استثنى، ما يظهر من الزينة؛ واختلف الناس في قدر ذلك؛ فقال ابن مسعود‏:‏ ظاهر الزينة هو الثياب‏.‏ وزاد ابن جبير الوجه‏.‏ وقال سعيد بن جبير أيضا وعطاء والأوزاعي‏:‏ الوجه والكفان والثياب‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة‏:‏ ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ؛ ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس‏.‏ وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آخر عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى ها هنا‏)‏ وقبض على نصف الذراع‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك‏.‏ فـ ‏{‏ما ظهر‏}‏على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه‏.‏

قلت‏:‏ هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما‏.‏ يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها‏:‏ ‏(‏يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا‏)‏ وأشار إلى وجهه وكفيه‏.‏ فهذا أقوى من جانب الاحتياط؛ ولمراعاة فساد الناس فلا تبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها، والله الموفق لا رب سواه‏.‏ وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا‏:‏ إن المرأة إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك؛ وإن كانت عجوزا أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها‏.‏

الزينة على قسمين‏:‏ خلقية ومكتسبة؛ فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة ومعنى الحيوانية؛ لما فيه من المنافع وطرق العلوم‏.‏ وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها؛ كالثياب والحلي والكحل والخضاب؛ ومنه قوله ‏{‏خذوا زينتكم‏}‏ ‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

يأخذن زينتهن أحسن ما ترى وإذا عطلن فهن خير عواطل

من الزينة ظاهر وباطن؛ فما ظهر فمباح أبدا لكل الناس من المحارم والأجانب؛ وقد ذكرنا ما للعلماء فيه‏.‏ وأما ما بطن فلا يحل إبداؤه إلا لمن سماهم الله تعالى في هذه الآية، أو حل محلهم‏.‏ واختلف في السوار؛ فقالت عائشة‏:‏ هي من الزينة الظاهرة لأنها في اليدين‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هي من الزينة الباطنة، لأنها خارج عن الكفين وإنما تكون في الذراع‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وأما الخضاب فهو من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين‏.‏

قوله ‏{‏وليضربن بخمرهن على جيوبهن‏}‏قرأ الجمهور بسكون اللام التي هي للأمر‏.‏ وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس بكسرها على الأصل؛ لأن الأصل في لام الأمر الكسر، وحذفت الكسرة لثقلها، وإنما تسكينها لتسكين عضد وفخذ‏.‏ و‏{‏يضربن‏}‏في موضع جزم بالأمر، إلا أنه بني على حالة واحدة إتباعا للماضي عند سيبويه‏.‏ وسبب هذه الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة وهي المقانع سدلنها من وراء الظهر‏.‏ قال النقاش‏:‏ كما يصنع النبط؛ فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك؛ فأمر الله تعالى بليّ الخمار على الجيوب، وهيئة ذلك أن تضرب المرأة بخمارها على جيبها لتستر صدرها‏.‏ ‏"‏روى البخاري عن عائشة‏"‏ أنها قالت‏:‏ رحم الله نساء المهاجرات الأول؛ لما نزل‏}‏وليضربن بخمرهن على جيوبهن‏}‏شققن أزرهن فاختمرن بها‏.‏ ودخلت على عائشة حفصة بنت أخيها عبدالرحمن رضي الله عنهم وقد اختمرت بشيء يشف عن عنقها وما هنالك؛ فشقته عليها وقالت‏:‏ إنما يضرب بالكثيف الذي يستر‏.‏

الخمر‏:‏ جمع الخمار، وهو ما تغطي به رأسها؛ ومنه اختمرت المرأة وتخمرت، وهي حسنة الخِمرة‏.‏ والجيوب‏:‏ جمع الجيب، وهو موضع القطع من الدرع والقميص؛ وهو من الجوب وهو القطع‏.‏ ومشهور القراءة ضم الجيم من ‏{‏جيوبهن‏}‏‏.‏ وقرأ بعض الكوفيين بكسرها بسبب الياء؛ كقراءتهم ذلك في‏:‏ بيوت وشيوخ‏.‏ والنحويون القدماء لا يجيزون هذه القراءة ويقولون‏:‏ بيت وبيوت كفلس وفلوس‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز على أن تبدل من الضمة كسرة؛ فأما ما روي عن حمزة من الجمع بين الضم والكسر فمحال، لا يقدر أحد أن ينطق به إلا على الإيماء إلى ما لا يجوز‏.‏ وقال مقاتل‏}‏على جيوبهن‏}‏أي على صدورهن؛ يعني على مواضع جيوبهن‏.‏

في هذه الآية دليل على أن الجيب إنما يكون في الثوب موضع الصدر‏.‏ وكذلك كانت الجيوب في ثياب السلف رضوان الله عليهم؛ على ما يصنعه النساء عندنا بالأندلس وأهل الديار المصرية من الرجال والصبيان وغيرهم‏.‏ وقد ترجم البخاري رحمة الله تعالى عليه ‏(‏باب جيب القميص من عند الصدر وغيره‏)‏ وساق حديث أبي هريرة قال‏:‏ ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثُديّهما وتراقيهما‏.‏‏.‏‏.‏ ‏)‏ الحديث، وقد تقدم بكماله، وفيه‏:‏ قال أبو هريرة‏:‏ فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعيه هكذا في جيبه؛ فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع‏.‏ فهذا يبين لك أن جيبه عليه السلام كان في صدره؛ لأنه لو كان في منكبه لم تكن يداه مضطرة إلى ثدييه وتراقيه‏.‏ وهذا استدلال حسن‏.‏

قوله ‏{‏لبعولتهن‏}‏والبعل هو الزوج والسيد في كلام العرب؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في جبريل‏:‏ ‏(‏إذا ولدت الأمة بعلها‏)‏ يعني سيدها؛ إشارة إلى كثرة السراري بكثرة الفتوحات، فيأتي الأولاد من الإماء فتعتق كل أم بولدها وكأنه سيدها الذي من عليها بالعتق إذ كان العتق حاصلا لها من سببه؛ قاله ابن العربي‏.‏

قلت‏:‏ ومنه قوله عليه السلام في مارية‏:‏ ‏(‏أعتقها ولدها‏)‏ فنسب العتق إليه‏.‏ وهذا من أحسن تأويلات هذا الحديث‏.‏ والله أعلم‏.‏

مسألة‏:‏

فالزوج والسيد يرى الزينة من المرأة وأكثر من الزينة إذ كل محل من بدنها حلال له لذة ونظرا‏.‏ ولهذا المعنى بدأ بالبعولة؛ لأن اطلاعهم يقع على أعظم من هذا، قال الله ‏{‏والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين‏}‏ ‏.‏

اختلف الناس في جواز نظر الرجل إلى فرج المرأة؛ على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ يجوز؛ لأنه إذا جاز له التلذذ به فالنظر أولى‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجوز؛ لقول عائشة رضي الله عنها في ذكر حالها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما رأيت ذلك منه ولا رأى ذلك مني‏)‏ والأول أصح، وهذا محمول على الأدب؛ قال ابن العربي‏.‏ وقد قال أصبغ من علمائنا‏:‏ يجوز له أن يلحسه بلسانه‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ أما الزوج والسيد فيجوز له أن ينظر إلى سائر الجسد وظاهر الفرج دون باطنه‏.‏ وكذلك المرأة يجوز أن تنظر إلى عورة زوجها، والأمة إلى عورة سيدها‏.‏

قلت‏:‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏النظر إلى الفرج يورث الطمس‏)‏ أي العمى، أي في الناظر‏.‏ وقيل‏:‏ إن الولد بينهما يولد أعمى‏.‏ والله أعلم‏.‏

لما ذكر الله تعالى الأزواج وبدأ بهم ثنى بذوي المحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة، ولكن تختلف مراتبهم بحسب ما في نفوس البشر‏.‏ فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوجها‏.‏ وتختلف مراتب ما يبدى لهم؛ فيبدى للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد الزوج‏.‏ وقد ذكر القاضي إسماعيل عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إن رؤيتهما لهن تحل‏.‏ قال إسماعيل‏:‏ أحسب أن الحسن والحسين ذهبا في ذلك إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية التي في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قوله ‏{‏لا جناح عليهن في آبائهن‏}‏ ‏.‏ وقال في سورة النور‏}‏ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن‏}‏الآية‏.‏ فذهب ابن عباس إلى هذه الآية، وذهب الحسن والحسين إلى الآية أخرى‏.‏

قوله ‏{‏أو أبناء بعولتهن‏}‏يريد ذكور أولاد الأزواج، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن سفلوا، من ذكران كانوا أو إناث؛ كبني البنين وبني البنات‏.‏ وكذلك آباء البعولة والأجداد وإن علوا من جهة الذكران لآباء الآباء وآباء الأمهات، وكذلك أبناؤهن وإن سفلوا‏.‏ وكذلك أبناء البنات وإن سفلن؛ فيستوي فيه أولاد البنين وأولاد البنات‏.‏ وكذلك أخواتهن، وهم من ولد الآباء والأمهات أو أحد الصنفين‏.‏ وكذلك بنو الأخوة وبنو الأخوات وإن سفلوا من ذكران كانوا أو إناث كبني بني الأخوات وبني بنات الأخوات‏.‏ وهذا كله في معنى ما حرم من المناكح فإن ذلك على المعاني في الولادات وهؤلاء محارم، وقد تقدم في - النساء -‏.‏ والجمهور على أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر لهما إلى ما يجوز لهم‏.‏ وليس في الآية ذكر الرضاع، وهو كالنسب على ما تقدم‏.‏ وعند الشعبي وعكرمة ليس العم والخال من المحارم‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ لم يذكرهما في الآية لأنهما تبعان لأبنائهما‏.‏

قوله ‏{‏أو نسائهن‏}‏يعني المسلمات، ويدخل في هذا الإماء المؤمنات، ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم؛ فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئا من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها؛ فذلك قوله ‏{‏أو ما ملكت أيمانهن‏}‏‏.‏ وكان ابن جريج وعبادة بن نسي وهشام القارئ يكرهون أن تقبل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها؛ ويتأولون ‏{‏أو نسائهن‏}‏‏.‏ وقال عبادة بن نسي‏:‏ وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح‏:‏ أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين؛ فامنع من ذلك، وحل دونه؛ فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة‏.‏ قال‏:‏ فعند ذلك قام أبو عبيدة وابتهل وقال‏:‏ أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها فسود الله وجهها يوم تبيض الوجوه‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية؛ لئلا تصفها لزوجها‏.‏ وفي هذه المسألة خلاف للفقهاء‏.‏ فإن كانت الكافرة أمة لمسلمة جاز أن تنظر إلى سيدتها؛ وأما غيرها فلا، لانقطاع الولاية بين أهل الإسلام وأهل الكفر، ولما ذكرناه‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله ‏{‏أو ما ملكت أيمانهن‏}‏ظاهر الآية يشمل العبيد والإماء المسلمات والكتابيات‏.‏ وهو قول جماعة من أهل العلم، وهو الظاهر من مذهب عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته‏.‏ وقال أشهب‏:‏ سئل مالك أتلقي المرأة خمارها بين يدي الخصي‏؟‏ فقال نعم، إذا كان مملوكا لها أو لغيرها؛ وأما الحر فلا‏.‏ وإن كان فحلا كبيرا وَغْداً تملكه، لا هيئة له ولا منظر فلينظر إلى شعرها‏.‏ قال أشهب قال مالك‏:‏ ليس بواسع أن تدخل جارية الولد أو الزوجة على الرجل المرحاض؛ قال الله ‏{‏أو ما ملكت أيمانكم‏}‏‏.‏ وقال أشهب عن مالك‏:‏ ينظر الغلام الوغد إلى شعر سيدته، ولا أحبه لغلام الزوج‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ لا تغرنكم هذه الآية ‏{‏أو ما ملكت أيمانهن‏}‏إنما عني بها الإماء ولم يعن بها العبيد‏.‏ وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته‏.‏ وهو قول مجاهد وعطاء‏.‏ و‏"‏روى أبو داود عن أنس‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، قال‏:‏ وعلى فاطمة ثوب إذا غطت به رأسها لم يبلغ إلى رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ إلى رأسها؛ فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى من ذلك قال‏:‏ ‏(‏إنه لا بأس عليك إنما هو أبوك وغلامك‏)‏‏.‏

قوله ‏{‏أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال‏}‏أي غير أولي الحاجة والإربة الحاجة، يقال‏:‏ أربت كذا آرب أربا‏.‏ والإرب والإربة والمأربة والأرب‏:‏ الحاجة؛ والجمع مأرب؛ أي حوائج‏.‏ ومنه قوله ‏{‏ولي فيها مآرب أخرى ‏}‏ وقد تقدم وقال طرفة‏:‏

إذا المرء قال الجهل والحوب والخنا تقدم يوما ثم ضاعت مآربه

واختلف الناس في معنى قوله ‏{‏أو التابعين غير أولي الإربة‏}‏فقيل‏:‏ هو الأحمق الذي لا حاجة به إلى النساء‏.‏ وقيل الأبله‏.‏ وقيل‏:‏ الرجل يتبع القوم فيأكل معهم ويرتفق بهم؛ وهو ضعيف لا يكترث للنساء ولا يشتهيهن‏.‏ وقيل العنين‏.‏ وقيل الخصي‏.‏ وقيل المخنث‏.‏ وقيل الشيخ الكبير، والصبي الذي لم يدرك‏.‏ وهذا الاختلاف كله متقارب المعنى، ويجتمع فيمن لا فهم له ولا همة ينتبه بها إلى أمر النساء‏.‏ وبهذه الصفة كان هيت المخنث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع منه ما سمع من وصف محاسن المرأة‏:‏ بادية ابنة غيلان، أمر بالاحتجاب منه‏.‏ أخرج حديثه مسلم وأبو داود ومالك في الموطأ وغيرهم عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ذكر عبدالملك بن حبيب عن حبيب كاتب مالك قال قلت لمالك‏:‏ إن سفيان زاد في حديث ابنة غيلان‏:‏ ‏)‏أن مخنثا يقال له هيت‏)‏ وليس في كتابك هيت‏؟‏ فقال مالك‏:‏ صدق، هو كذلك وغربه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحمى وهو موضع من ذي الحليفة ذات الشمال من مسجدها‏.‏ قال حبيب وقلت لمالك‏:‏ وقال سفيان في الحديث‏:‏ إذا قعدت تبنت، وإذا تكلمت تغنت‏.‏ قال مالك‏:‏ صدق، هو كذلك‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ما ذكره حبيب كاتب مالك عن سفيان أنه قال في الحديث يعني حديث هشام بن عروة ‏)‏أن مخنثا يدعى هيتا‏)‏ فغير معروف عند أحد من رواته عن هشام، لا ابن عيينة ولا غيره، ولم يقل في نسق الحديث ‏)‏إن مخنثا يدعى هيتا‏)‏ وإنما ذكره عن ابن جريج بعد تمام الحديث، وكذلك قوله عن سفيان أنه يقول في الحديث‏:‏ إذا قعدت تبنت وإذا تكلمت تغنت، هذا ما لم يقله سفيان ولا غيره في حديث هشام بن عروة، وهذا اللفظ لا يوجد إلا من رواية الواقدي، والعجب أنه يحكيه عن سفيان ويحكي عن مالك أنه كذلك، فصارت رواية عن مالك، ولم يروه عن مالك غير حبيب ولا ذكره عن سفيان غيره أيضا، والله أعلم‏.‏ وحبيب كاتب مالك متروك الحديث ضعيف عند جميعهم، لا يكتب حديثه ولا يلتفت إلى ما يجيء به‏.‏ ذكر الواقدي والكلبي أن هيتا المخنث قال لعبدالله بن أمية المخزومي وهو أخو أم سلمة لأبيها وأمه عاتكة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له وهو في بيت أخته أم سلمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع‏:‏ إن فتح الله عليكم الطائف فعليك ببادية بنت غيلان بن سلمة الثقفي، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، مع ثغر كالأقحوان، إن جلست تبنت وإن تكلمت تغنت، بين رجليها كالإناء المكفوء، وهي كما قال قيس بن الخطيم‏:‏

تغترق الطرف وهي لاهية كأنما شف وجهها نزف

بين شكول النساء خلقتها قصد فلا جبلة ولا قضف

تنام عن كبر شأنها فإذا قامت رويدا تكاد تنقصف

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏)‏لقد غلغلت النظر إليها يا عدو الله‏)‏‏.‏ ثم أجلاه عن المدينة إلى الحمى‏.‏ قال‏:‏ فلما افتتحت الطائف تزوجها عبدالرحمن بن عوف فولدت له منه بريهة؛ في قول الكلبي‏.‏ ولم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ولي أبو بكر كلم فيه فأبى أن يرده، فلما ولي عمر كلم فيه فأبى، ثم كلم فيه عثمان بعد‏.‏ وقيل‏:‏ إنه قد كبر وضعف واحتاج، فأذن له أن يدخل كل جمعة فيسأل ويرجع إلى مكانه‏.‏ قال‏:‏ وكان هيت مولى لعبدالله بن أبي أمية المخزومي، وكان له طُوَيس أيضا، فمن ثم قبل الخنث‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ يقال بادية بالياء وبادنة بالنون، والصواب فيه عندهم بالياء، وهو قول أكثرهم، وكذلك ذكره الزبيري بالياء‏.‏

وصف التابعين بـ ‏{‏غير‏}‏لأن التابعين غير مقصودين بأعيانهم، فصار اللفظ كالنكرة‏.‏ و‏{‏غير‏}‏لا يتمحض نكرة فجاز أن يجري وصفا على المعرفة‏.‏ وإن شئت قلت هو بدل‏.‏ والقول فيها كالقول في ‏{‏غير المغضوب عليهم‏}‏ ‏.‏ وقرأ عاصم وابن عامر ‏{‏غير‏}‏بالنصب فيكون استثناء؛ أي يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم‏.‏ ويجوز أن يكون حالا؛ أي والذين يتبعونهن عاجزين عنهن؛ قاله أبو حاتم‏.‏ وذو الحال ما في ‏{‏التابعين‏}‏من الذكر‏.‏

قوله ‏{‏أو الطفل‏}‏اسم جنس بمعنى الجمع، والدليل على ذلك نعته ‏{‏بالذين‏}‏‏.‏ وفي مصحف حفصة ‏{‏أو الأطفال‏}‏على الجمع‏.‏ ويقال‏:‏ طفل ما لم يراهق الحلم‏.‏ و‏{‏يظهروا‏}‏معناه يطلعوا بالوطء؛ أي لم يكشفوا عن عوراتهن للجماع لصغرهن‏.‏ وقيل‏:‏ لم يبلغوا أن يطيقوا النساء؛ يقال‏:‏ ظهرت على كذا أي علمته، وظهرت على كذا أي قهرته‏.‏ والجمهور على سكون الواو من ‏{‏عورات‏}‏لاستثقال الحركة على الواو‏.‏ وروي عن ابن عباس فتح الواو؛ مثل جفنة وجفنات‏.‏ وحكى الفراء أنها لغة قيس ‏{‏عورات‏}‏بفتح الواو‏.‏ النحاس‏:‏ وهذا هو القياس؛ لأنه ليس بنعت، كما تقول‏:‏ جفنة وجفنات؛ إلا أن التسكين أجود في ‏{‏عورات‏}‏وأشباهه، لأن الواو إذا تحركت وتحرك ما قبلها قلبت ألفا؛ فلو قيل هذا لذهب المعنى‏.‏

اختلف العلماء في وجوب ستر ما سوى الوجه والكفين منه على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ لا يلزم؛ لأنه لا تكليف عليه، وهو الصحيح‏.‏ والآخر يلزمه؛ لأنه قد يشتهي وقد تشتهي أيضا هي فإن راهق فحكمه حكم البالغ وجوب الستر‏.‏ ومثله الشيخ الذي سقطت شهوته اختلف فيه أيضا على قولين كما في الصبي، والصحيح بقاء الحرمة؛ قاله ابن العربي‏.‏

أجمع المسلمون على أن السوأتين عورة من الرجل والمرأة، وأن المرأة كلها عورة، إلا وجهها ويديها فإنهم اختلفوا فيهما‏.‏ وقال أكثر العلماء في الرجل‏:‏ من سرته إلى ركبته عورة؛ لا يجوز أن ترى‏.‏ وقد مضى في -الأعراف -القول في هذا مستوفى‏.‏

قال أصحاب الرأي‏:‏ عورة المرأة مع عبدها من السرة إلى الركبة‏.‏ ابن العربي‏:‏ وكأنهم ظنوها رجلا أو ظنوه امرأة، والله تعالى قد حرم المرأة على الإطلاق لنظر أو لذة، ثم استثنى اللذة للأزواج وملك اليمين، ثم استثنى الزينة لاثني عشر شخصا العبد منهم، فما لنا ولذلك هذا نظر فاسد واجتهاد عن السداد متباعد‏.‏ وقد تأول بعض الناس قوله ‏{‏أو ما ملكت أيمانهن‏}‏على الإماء دون العبيد؛ منهم سعيد بن المسيب، فكيف يحملون على العبيد ثم يلحقون بالنساء هذا بعيد جدا وقد قيل‏:‏ إن التقدير أو ما ملكت أيمانهن من غير أولي الإربة أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال؛ حكاه المهدوي‏.‏

قوله ‏{‏ولا يضربن بأرجلهن‏}‏أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت لتسمع صوت خلخالها؛ فإسماع صوت الزينة كإبداء الزينة وأشد، والغرض التستر‏.‏ أسند الطبري عن المعتمر عن أبيه أنه قال‏:‏ زعم حضرمي أن امرأة اتخذت برتين من فضة واتخذت جزعا فجعلت في ساقها فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت؛ فنزلت هذه الآية‏.‏ وسماع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها؛ قاله الزجاج‏.‏

من فعل ذلك منهن فرحا بحليهن فهو مكروه‏.‏ ومن فعل ذلك منهن تبرجا وتعرضا للرجال فهو حرام مذموم‏.‏ وكذلك من ضرب بنعله من الرجال، إن فعل ذلك تعجبا حرم فإن العجب كبيرة‏.‏ وإن فعل ذلك تبرجا لم يجز‏.‏

قال مكي رحمه الله تعالى‏:‏ ليس في كتاب الله تعالى آية أكثر ضمائر من هذه جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع‏.‏

قوله ‏{‏وتوبوا‏}‏أمر‏.‏ ولا خلاف بين الأمة في وجوب التوبة، وأنها فرض متعين وقد مضى الكلام فيها في ‏{‏النساء‏}‏وغيرها فلا معنى لإعادة ذلك‏.‏ والمعنى‏:‏ وتوبوا إلى الله فإنكم لا تخلون من سهو وتقصير في أداء حقوق الله تعالى، فلا تتركوا التوبة في كل حال‏.‏

قرأ الجمهور ‏{‏أيه‏}‏بفتح الهاء‏.‏ وقرأ ابن عامر بضمها؛ ووجهه أن تجعل الهاء من نفس الكلمة، فيكون إعراب المنادى فيها‏.‏ وضعف أبو علي ذلك جدا وقال‏:‏ آخر الاسم هو الياء الثانية من أي، فالمضموم ينبغي أن يكون آخر الاسم، ولو جاز ضم الهاء ها هنا لاقترانها بالكلمة لجاز ضم الميم في ‏{‏اللهم‏}‏لاقترانها بالكلمة في كلام طويل‏.‏ والصحيح أنه إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة فليس إلا اعتقاد الصحة في اللغة، فإن القرآن هو الحجة‏.‏ وأنشد الفراء‏:‏

يا أيه القلب اللجوج النفس أفق عن البيض الحسان اللعس

اللعس‏:‏ لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا، وذلك يستملح؛ يقال‏:‏ شفة لعساء، وفتية ونسوة لعس‏.‏ وبعضهم يقف ‏{‏أيه‏}‏‏.‏ وبعضهم يقف ‏{‏أيها‏}‏بالألف؛ لأن علة حذفها في الوصل إنما هي سكونها وسكون اللام، فإذا كان الوقف ذهبت العلة فرجعت الألف كما ترجع الياء إذا وقفت على ‏{‏محلي‏}‏من قوله ‏{‏غير محلي الصيد‏}‏ ‏.‏ وهذا الاختلاف الذي ذكرناه كذلك هو في ‏{‏يا أيه الساحر‏}‏‏.‏ ‏{‏يا أيه الثقلان‏}‏‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 32 ‏)‏

‏{‏وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم ‏}‏

هذه المخاطبة تدخل في باب الستر والصلاح؛ أي زوجوا من لا زوج له منكم فإنه طريق التعفف؛ والخطاب للأولياء‏.‏ وقيل للأزواج‏.‏ والصحيح الأول؛ إذ لو أراد الأزواج لقال ‏{‏وأنكحوا‏}‏بغير همز، وكانت الألف للوصل‏.‏ وفي هذا دليل على أن المرأة ليس لها أن تنكح نفسها بغير ولي؛ وهو قول أكثر العلماء‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا زوجت الثيب أو البكر نفسها بغير ولي كفء لها جاز‏.‏ وقد مضى هذا في - البقرة -مستوفى‏.‏

اختلف العلماء في هذا الأمر على ثلاثة أقوال؛ فقال علماؤنا‏:‏ يختلف الحكم في ذلك باختلاف حال المؤمن من خوف العنت، ومن عدم صبره، ومن قوته على الصبر وزوال خشية العنت عنه‏.‏ وإذا خاف الهلاك في الدين أو الدنيا أو فيهما فالنكاح حتم‏.‏ وإن لم يخش شيئا وكانت الحال مطلقة فقال الشافعي‏:‏ النكاح مباح‏.‏ وقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ هو مستحب‏.‏ تعلق الشافعي بأنه قضاء لذة فكان مباحا كالأكل والشرب‏.‏

وتعلق علماؤنا بالحديث الصحيح‏:‏ ‏)‏من رغب عن سنتي فليس مني‏)‏‏.‏

قوله ‏{‏الأيامى منكم‏}‏أي الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء؛ واحدهم أيم‏.‏ قال أبو عمرو‏:‏ أيامى مقلوب أيايم‏.‏ واتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل هي المرأة التي لا زوج لها، بكرا كانت أو ثيبا؛ حكى ذلك أبو عمرو والكسائي وغيرهما‏.‏ تقول العرب‏:‏ تأيمت المرأة إذا أقامت لا تتزوج‏.‏ وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏)‏أنا وامرأة سفعاء الخدين تأيمت على ولدها الصغار حتى يبلغوا أو يغنيهم الله من فضله كهاتين في الجنة‏)‏‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت أفتى منكم أتأيم

ويقال‏:‏ أيم بين الأيمة‏.‏ وقد آمت هي، وإمت أنا‏.‏ قال الشاعر‏:‏

لقد إمت حتى لامني كل صاحب رجاء بسلمي أن تئيم كما إمت

قال أبو عبيد‏:‏ يقال رجل أيم وامرأة أيم؛ وأكثر ما يكون ذلك في النساء، وهو كالمستعار في الرجال‏.‏ وقال أمية بن أبي الصلت‏:‏

لله در بني علي أيم منهم وناكح

وقال قوم‏:‏ هذه الآية ناسخة لحكم قوله ‏{‏والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين‏}‏ ‏.‏ وقد بيناه في أول السورة والحمد لله‏.‏

المقصود من قوله ‏{‏وأنكحوا الأيامى منكم‏}‏الحرائر والأحرار؛ ثم بين حكم المماليك فقال ‏{‏والصالحين من عبادكم وإمائكم‏}‏‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏والصالحين من عبيدكم‏}‏، وعبيد اسم للجمع‏.‏ قال الفراء‏:‏ ويجوز ‏{‏وإماءكم‏}‏بالنصب، يرده على ‏{‏الصالحين‏}‏يعني الذكور والإناث؛ والصلاح الإيمان‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ينبغي أن تكون الرغبة في تزويج الإماء والعبيد إذا كانوا صالحين فيجوز تزويجهم، ولكن لا ترغيب فيه ولا استحباب؛ كما قال ‏{‏فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا‏}‏ ‏.‏ ثم قد تجوز الكتابة وإن لم يعلم أن في العبد خيرا، ولكن الخطاب ورد في الترغيب واستحباب، وإنما يستحب كتابة من فيه خير‏.‏

أكثر العلماء على أن للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح؛ وهو قول مالك وأبي حنيفة وغيرهما‏.‏ قال مالك‏:‏ ولا يجوز ذلك إذا كان ضررا‏.‏ وروي نحوه عن الشافعي، ثم قال‏:‏ ليس للسيد أن يكره العبد على النكاح‏.‏ وقال النخعي‏:‏ كانوا يكرهون المماليك على النكاح ويغلقون عليهم الأبواب‏.‏ تمسك أصحاب الشافعي فقالوا‏:‏ العبد مكلف فلا يجبر على النكاح؛ لأن التكليف يدل على أن العبد كامل من جهة الآدمية، وإنما تتعلق به المملوكية فيما كان حظا للسيد من ملك الرقبة والمنفعة، بخلاف الأمة فإنه له حق المملوكية في بضعها ليستوفيه؛ فأما بضع العبد فلا حق له فيه، ولأجل ذلك لا تباح السيدة لعبدها‏.‏ هذه عمدة أهل خراسان والعراق، وعمدتهم أيضا الطلاق، فإنه يملكه العبد بتملك عقده‏.‏ ولعلمائنا النكتة العظمى في أن مالكية العبد استغرقتها مالكية السيد؛ ولذلك لا يتزوج إلا بإذنه بإجماع‏.‏ والنكاح وبابه إنما هو من المصالح، ومصلحة العبد موكولة إلى السيد، هو يراها ويقيمها للعبد‏.‏

قوله ‏{‏إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله‏}‏رجع الكلام إلى الأحرار؛ أي لا تمتنعوا عن التزويج بسبب فقر الرجل والمرأة؛ ‏{‏إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله‏}‏‏.‏ وهذا وعد بالغنى للمتزوجين طلب رضا الله واعتصاما من معاصيه‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ التمسوا الغنى في النكاح؛ وتلا هذه الآية‏.‏ وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ عجبي ممن لا يطلب الغني في النكاح، وقد قال الله ‏{‏إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله‏}‏‏.‏ وروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا‏.‏ ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏)‏ثلاثة كلهم حق على الله عونه المجاهد في سبيل الله والناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء‏)‏‏.‏ أخرجه ابن ماجه في سننه‏.‏ فإن قيل‏:‏ فقد نجد الناكح لا يستغني؛ قلنا‏:‏ لا يلزم أن يكون هذا على الدوام، بل لو كان في لحظة واحدة لصدق الوعد‏.‏ وقد قيل‏:‏ يغنيه؛ أي يغني النفس‏.‏ ‏"‏وفي الصحيح‏"‏ ‏(‏ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس‏)‏‏.‏ وقد قيل‏:‏ ليس وعد لا يقع فيه خلف، بل المعنى أن المال غاد ورائح، فارجوا الغنى‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى يغنهم الله من فضله إن شاء؛ كقوله ‏{‏فيكشف ما تدعون إليه إن شاء‏}‏ ، وقال ‏{‏يبسط الرزق لمن يشاء‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله بالحلال ليتعففوا عن الزنى‏.‏

هذه الآية دليل على تزويج الفقير، ولا يقول كيف أتزوج وليس لي مال؛ فإن رزقه على الله‏.‏ وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي أتته تهب له نفسها لمن ليس له إلا إزار واحد، وليس لها بعد ذلك فسخ النكاح بالإعسار لأنها دخلت عليه؛ وإنما يكون ذلك إذا دخلت على اليسار فخرج معسرا، أو طرأ الإعسار بعد ذلك لأن الجوع لا صبر عليه؛ قال علماؤنا‏.‏ وقال النقاش‏:‏ هذه الآية حجة على من قال‏:‏ إن القاضي يفرق بين الزوجين إذا كان الزوج فقيرا لا يقدر على النفقة؛ لأن الله تعالىقال ‏{‏يغنهم الله‏}‏ولم يقل يفرق‏.‏ وهذا انتزاع ضعيف، وليس هذه الآية حكما فيمن عجز عن النفقة، وإنما هي وعد بالإغناء لمن تزوج فقيرا‏.‏ فأما من تزوج موسرا وأعسر بالنفقة فإنه يفرق بينهما؛ قال الله ‏{‏وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته‏}‏ ‏.‏ ونفحات الله تعالى مأمولة في كل حال موعود بها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 33 ‏:‏ 34 ‏)‏

‏{‏وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم، ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين ‏}‏

قوله ‏{‏وليستعفف الذين‏}‏الخطاب لمن يملك أمر نفسه، لا لمن زمامه بيد غيره فإنه يقوده إلى ما يراه؛ كالمحجور - قولا واحدا - والأمة والعبد؛ على أحد قولي العلماء‏.‏

و‏{‏استعفف‏}‏وزنه استفعل؛ ومعناه طلب أن يكون عفيفا؛ فأمر الله تعالى بهذه الآية كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعفف‏.‏ ثم لما كان أغلب الموانع على النكاح عدم المال وعد بالإغناء من فضله؛ فيرزقه ما يتزوج به، أو يجد امرأة ترضى باليسير من الصداق، أو تزول عنه شهوة النساء‏.‏ و‏"‏روى النسائي عن أبي هريرة‏"‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ثلاثة كلهم حق على الله عز وجل عونهم المجاهد في سبيل الله والناكح الذي يريد العفاف والمكاتب الذي يريد الأداء‏)‏‏.‏

قوله ‏{‏لا يجدون نكاحا‏}‏أي طول نكاح؛ فحذف المضاف‏.‏ وقيل‏:‏ النكاح ها هنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة؛ كاللحاف اسم لما يلتحف به‏.‏ واللباس اسم لما يلبس فعلى هذا لا حذف في الآية، قاله جماعة من المفسرين؛ وحملهم على هذا قوله ‏{‏حتى يغنيهم الله من فضله‏}‏فظنوا أن المأمور بالاستعفاف إنما هو من عدم المال الذي يتزوج به‏.‏ وفي هذا القول تخصيص المأمورين بالاستعفاف؛ وذلك ضعيف، بل الأمر بالاستعفاف متوجه لكل من تعذر عليه النكاح بأي وجه تعذر، كما قدمناه، والله تعالى أعلم‏.‏

من تاقت نفسه إلى النكاح فإن وجد الطول فالمستحب له أن يتزوج، وإن لم يجد الطول فعليه بالاستعفاف ما أمكن ولو بالصوم فإن الصوم له وجاء؛ كما جاء في الخبر الصحيح‏.‏ ومن لم تتق نفسه إلى النكاح فالأولى له التخلي لعبادة الله تعالى‏.‏ وفي الخبر ‏(‏خيركم الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد‏)‏‏.‏ وقد تقدم جواز نكاح الإماء عند عدم الطول للحرة في - النساء - والحمد لله‏.‏ ولما لم يجعل الله له من العفة والنكاح درجة دل على أن ما عداهما محرم ولا يدخل فيه ملك اليمين لأنه بنص آخر مباح وهو قوله ‏{‏أو ما ملكت أيمانهم‏}‏فجاءت فيه زيادة ويبقى على التحريم الاستمناء ردا على أحمد‏.‏ وكذلك يخرج عنه نكاح المتعة بنسخه وقد تقدم هذا في - المؤمنون - ‏.‏

قوله ‏{‏والذين يبتغون الكتاب‏}‏‏{‏الذين‏}‏في موضع رفع‏.‏ وعند الخليل وسيبويه في موضع نصب على إضمار فعل؛ لأن بعده أمرا‏.‏ ولما جرى ذكر العبيد والإماء فيما سبق وصل به أن العبد إن طلب الكتاب فالمستحب كتابته؛ فربما يقصد بالكتابة أن يستقل ويكتسب ويتزوج إذا أراد، فيكون أعف له‏.‏ قيل‏:‏ نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له صبح - وقيل صبيح - طلب من مولاه أن يكاتبه فأبى؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا فأداها، وقتل بحنين في الحرب؛ ذكره القشيري وحكاه النقاش‏.‏ وقال مكي‏:‏ هو صبيح القبطي غلام حاطب بن أبي بلتعة‏.‏ وعلى الجملة فإن الله تعالى أمر المؤمنين كافة أن يكاتب منهم كل من له مملوك وطلب المملوك الكتابة وعلم سيده منه خيرا‏.‏

الكتاب والمكاتبة سواء؛ مفاعلة مما لا تكون إلا بين اثنين، لأنها معاقدة بين السيد وعبده؛ يقال‏:‏ كاتب يكاتب كتابا ومكاتبة، كما يقال‏:‏ قاتل قتالا ومقاتلة‏.‏ فالكتاب في الآية مصدر كالقتال والجلاد والدفاع‏.‏ وقيل‏:‏ الكتاب ها هنا هو الكتاب المعروف الذي يكتب فيه الشيء وذلك أنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى أنفسهم بذلك كتابا‏.‏ فالمعنى يطلبون العتق الذي يكتب به الكتاب فيدفع إليهم‏.‏

معنى المكاتبة في الشرع‏:‏ هو أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجما عليه؛ فإذا أداه فهو حر‏.‏ ولها حالتان‏:‏ الأولى‏:‏ أن يطلبها العبد ويجيبه السيد؛ فهذا مطلق الآية وظاهرها‏.‏ الثانية‏:‏ أن يطلبها العبد ويأباها السيد؛ وفيها قولان‏:‏ الأول‏:‏ لعكرمة وعطاء ومسروق وعمرو بن دينار والضحاك بن مزاحم وجماعة أهل الظاهر أن ذلك واجب على السيد‏.‏ وقال علماء الأمصار‏:‏ لا يجب ذلك‏.‏ وتعلق من أوجبها بمطلق الأمر، وأفعل بمطلقه على الوجوب حتى يأتي الدليل بغيره‏.‏ وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس، واختاره الطبري‏.‏ واحتج داود أيضا بأن سيرين أبا محمد بن سيرين سأل أنس بن مالك الكتابة وهو مولاه فأبى أنس؛ فرفع عمر عليه الدرة، وتلا ‏{‏ فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا‏}‏، فكاتبه أنس‏.‏ قال داود‏:‏ وما كان عمر ليرفع الدرة على أنس فيما له مباح ألا يفعله‏.‏ وتمسك الجمهور بأن الإجماع منعقد على أنه لو سأله أن يبيعه من غيره لم يلزمه ذلك، ولم يجبر عليه وإن ضوعف له في الثمن‏.‏ وكذلك لو قال له أعتقني أو دبرني أو زوجني لم يلزمه ذلك بإجماع، فكذلك الكتابة؛ لأنها معاوضة فلا تصح إلا عن تراض‏.‏ وقولهم‏:‏ مطلق الأمر يقتضي الوجوب صحيح، لكن إذا عري عن قرينة تقتضي صرفه عن الوجوب، وتعليقه هنا بشرط علم الخير فيه؛ فعلق الوجوب على أمر باطن وهو علم السيد بالخيرية‏.‏ وإذا قال العبد‏:‏ كاتبني؛ وقال السيد‏:‏ لم أعلم فيك خيرا؛ وهو أمر باطن، فيرجع فيه إليه ويعول عليه‏.‏ وهذا قوي في بابه‏.‏

واختلف العلماء في قوله ‏{‏خيرا‏}‏فقال ابن عباس وعطاء‏:‏ المال‏.‏ مجاهد‏:‏ المال والأداء‏.‏ والحسن والنخعي‏:‏ الدين والأمانة‏.‏ وقال مالك‏:‏ سمعت بعض أهل العلم يقولون هو القوة على الاكتساب والأداء‏.‏ وعن الليث نحوه، وهو قول الشافعي‏.‏ وقال عبيدة السلماني‏:‏ إقامة الصلاة والخير‏.‏ قال الطحاوي‏:‏ وقول من قال إنه المال لا يصح عندنا لأن العبد مال لمولاه، فكيف يكون له مال‏.‏ والمعنى عندنا‏:‏ إن علمتم فيهم الدين والصدق، وعلمتم أنهم يعاملونكم على أنهم متعبدون بالوفاء لكم بما عليهم من الكتابة والصدق في المعاملة فكاتبوهم‏.‏ وقال أبو عمر‏:‏ من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال إن علمتم فيهم مالا، وإنما يقال‏:‏ علمت فيه الخير والصلاح والأمانة؛ ولا يقال‏:‏ علمت فيه المال، وإنما يقال علمت عنده المال‏.‏

قلت‏:‏ وحديث بريرة يرد قول من قال‏:‏ إن الخير المال؛ على ما يأتي‏.‏

اختلف العلماء في كتابة من لا حرفة له؛ فكان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة، ويقول‏:‏ أتأمرني أن آكل أوساخ الناس؛ ونحوه عن سلمان الفارسي‏.‏ و روى حكيم بن حزام فقال‏:‏ كتب عمر بن الخطاب إلى عمير بن سعد‏:‏ أما بعد فإنه مَن قِبَلك من المسلمين أن يكاتبوا أرقاءهم على مسألة الناس‏.‏ وكرهه الأوزاعي وأحمد وإسحاق‏.‏ ورخص في ذلك مالك وأبو حنيفة والشافعي‏.‏ وروي عن علي رضي الله عنه أن ابن التياح مؤذنه قال له‏:‏ أكاتب وليس لي مال‏؟‏ قال نعم؛ ثم حض الناس على الصدقة عليّ؛ فأعطوني ما فضل عن مكاتبتي، فأتيت عليا فقال‏:‏ اجعلها في الرقاب‏.‏ وقد روي عن مالك كراهة ذلك، وأن الأمة التي لا حرفة لها يكره مكاتبتها لما يؤدي إليه من فسادها‏.‏ والحجة في السنة لا فيما خالفها‏.‏ روى الأئمة عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ دخلت علي بريرة فقالت‏:‏ إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين كل سنة أوقية، فأعينيني‏.‏‏.‏ ‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ فهذا دليل على أن للسيد أن يكاتب عبده وهو لا شيء معه؛ ألا ترى أن بريرة جاءت عائشة تخبرها بأنها كاتبت أهلها وسألتها أن تعينها، وذلك كان في أول كتابتها قبل أن تؤدي منها شيئا؛ كذلك ذكره ابن شهاب عن عروة أن عائشة أخبرته أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا؛ ‏"‏أخرجه البخاري وأبو داود‏"‏‏.‏ وفي هذا دليل على جواز كتابة الأمة، وهي غير ذات صنعة ولا حرفة ولا مال، ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل لها كسب أو عمل واصب أو مال، ولو كان هذا واجبا لسأل عنه ليقع حكمه عليه؛ لأنه بعث مبينا معلما صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي هذا الحديث ما يدل على أن من تأول في قوله ‏{‏إن علمتم فيهم خيرا‏}‏أن المال الخير، ليس بالتأويل الجيد، وأن الخير المذكور هو القوة على الاكتساب مع الأمانة‏.‏ والله أعلم‏.‏

الكتابة تكون بقليل المال وكثيره، وتكون على أنجم؛ لحديث بريرة‏.‏ وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء والحمد لله‏.‏ فلو كاتبه على ألف درهم ولم يذكر أجلا نجمت عليه بقدر سعايته وإن كره السيد‏.‏ قال الشافعي‏:‏ لا بد فيها من أجل؛ وأقلها ثلاثة أنجم‏.‏ واختلفوا إذا وقعت على نجم واحد فأكثر أهل العلم يجيزونها على نجم واحد‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا تجوز على نجم واحد، ولا تجوز حالة البتة، وإنما ذلك عتق على صفة؛ كأنه قال‏:‏ إذا أديت كذا وكذا فأنت حر وليست كتابة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏

اختلف العلماء والسلف في الكتابة إذا كانت حالة على قولين، واختلف قول علمائنا كاختلافهم‏.‏ والصحيح في النظر أن الكتابة مؤجلة؛ كما ورد بها الأثر في حديث بريرة حين كاتبت أهلها على تسع أواق في كل عام أوقية، وكما فعلت الصحابة؛ ولذلك سميت كتابة لأنها تكتب ويشهد عليها، فقد استوسق الاسم والأثر، وعضده المعنى؛ فإن المال إن جعله حالا وكان عند العبد شيء فهو مال مقاطعة وعقد مقاطعة لا عقد كتابة‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ إذا كاتبه على مال معجل كان عتقا على مال، ولم تكن كتابة‏.‏ وأجاز غيره من أصحابنا الكتابة الحالة وسماها قطاعة، وهو القياس؛ لأن الأجل فيها إنما هو فسحة للعبد في التكسب‏.‏ ألا ترى أنه لو جاء بالمنجم عليه قبل محله لوجب على السيد أن يأخذه ويتعجل للمكاتب عتقه‏.‏ وتجوز الكتابة الحالة؛ قاله الكوفيون‏.‏

قلت‏:‏ لم يرد عن مالك نص في الكتابة الحالة؛ والأصحاب يقولون‏:‏ إنها جائزة، ويسمونها قطاعة‏.‏ وأما قول الشافعي إنها لا تجوز على أقل من ثلاثة أنجم فليس بصحيح؛ لأنه لو كان صحيحا لجاز لغيره أن يقول‏:‏ لا يجوز على أقل من خمسة نجوم؛ لأنها أقل النجوم التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بريرة، وعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم وقضى فيها، فكان بصواب الحجة أولى‏.‏ ‏"‏روى البخاري عن عائشة‏"‏ أن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها وعليها خمسة أواق نجمت عليها في خمس سنين‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ كذا قال الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة‏:‏ وعليها خمسة أواق نجمت عليها في خمس سنين‏.‏ وقال أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ جاءت بريرة فقالت‏:‏ إني كاتبت أهلي على تسع أواق‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وظاهر الروايتين تعارض، غير أن حديث هشام أولى لاتصاله وانقطاع حديث يونس؛ لقول البخاري‏:‏ وقال الليث حدثني يونس؛ ولأن هشاما أثبت في حديث أبيه وجده من غيره، والله أعلم‏.‏

المكاتب عبد ما بقي عليه من مال الكتابة شيء؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم‏)‏‏.‏ ‏"‏أخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب‏"‏ عن أبيه عن جده‏.‏ وروي عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد‏)‏‏.‏ وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود والطبري‏.‏ وروي ذلك عن ابن عمر من وجوه، وعن زيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة، لم يختلف عنهم في ذلك رضي الله عنهم‏.‏ وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وبه قال ابن المسيب والقاسم وسالم وعطاء‏.‏ قال مالك‏:‏ وكل من أدركنا ببلدنا يقول ذلك‏.‏ وفيها قول آخر روي عن علي أنه إذا أدى الشطر فهو غريم؛ وبه قال النخعي‏.‏ وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه، والإسناد عنه بأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، خير من الإسناد عنه بأن المكاتب إذا أدى الشطر فلا رق عليه؛ فال أبو عمر‏.‏ وعن علي أيضا يعتق منه بقدر ما أدى‏.‏ وعنه أيضا أن العتاقة تجري فيه بأول نجم يؤديه‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ إذا أدى ثلث الكتابة فهو عتيق غريم؛ وهذا قول شريح‏.‏ وعن ابن مسعود‏:‏ لو كانت الكتابة مائتي دينار وقيمة العبد مائة دينار فأدى العبد المائة التي هي قيمته عتق؛ وهو قول النخعي أيضا‏.‏ وقول سابع‏:‏ إذا أدى الثلاثة الأرباع وبقي الربع فهو غريم ولا يعود عبدا قاله عطاء بن أبي رباح، رواه ابن جريج عنه‏.‏ وحكي عن بعض السلف أنه بنفس عقد الكتابة حر، وهو غريم بالكتابة ولا يرجع إلى الرق أبدا‏.‏ وهذا القول يرده حديث بريرة لصحته عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفيه دليل واضح على أن المكاتب عبد، ولولا ذلك ما بيعت بريرة، ولو كان فيها شيء من العتق ما أجاز بيع ذلك؛ إذ من سنته المجمع عليها ألا يباع الحر‏.‏ وكذلك كتابة سلمان وجويرية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم لجميعهم بالرق حتى أدوا الكتابة‏.‏ وهي حجة للجمهور في أن المكاتب عبد ما بقي عليه شيء‏.‏ وقد ناظر علي بن أبي طالب زيد بن ثابت في المكاتب؛ فقال لعلي‏:‏ أكنت راجمه لو زنى، أو مجيزا شهادته لو شهد‏؟‏ فقال علي لا‏.‏ فقال زيد‏:‏ هو عبد ما بقي عليه شيء‏.‏ وقد ‏"‏روى النسائي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم‏"‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسم أنه قال‏:‏ ‏(‏المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى ويقام عليه الحد بقدر ما أدى ويرث بقدر ما عتق منه‏)‏‏.‏ وإسناده صحيح‏.‏ وهو حجة لما روي عن علي، ويعتضد بما‏"‏ رواه أبو داود عن نبهان مكاتب أم سلمة‏"‏ قال سمعت أم سلمة تقول‏:‏ قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه‏)‏‏.‏ وأخرجه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ إلا أنه يحتمل أن يكون خطابا مع زوجاته، أخذا بالاحتياط والورع في حقهن؛ كما قال لسودة‏:‏ ‏(‏احتجبي منه‏)‏ مع أنه قد حكم بأخوتها له، وبقوله لعائشة وحفصة‏:‏ ‏(‏أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه‏)‏ يعني ابن أم مكتوم، مع أنه قال لفاطمة بنت قيس‏:‏ ‏(‏اعتدي عند ابن أم مكتوم‏)‏ وقد تقدم هذا المعنى‏.‏

أجمع العلماء على أن المكاتب إذا حل عليه نجم من نجومه أو نجمان أو نجومه كلها فوقف السيد عن مطالبته وتركه بحال أن الكتابة لا تنفسخ ما داما على ذلك ثابتين‏.‏

قال مالك‏:‏ ليس للعبد أن يعجز نفسه إذا كان له مال ظاهر، وإن لم يظهر له مال فذلك إليه‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ لا يمكن من تعجيز نفسه إذا كان قويا على الأداء‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ له أن يعجز نفسه، علم له مال أو قوة على الكتابة أو لم يعلم؛ فإذا قال‏:‏ قد عجزت وأبطلت الكتابة فذلك إليه‏.‏ وقال مالك‏:‏ إذا عجز المكاتب فكل ما قبضه منه سيده قبل العجز حل له، كان من كسبه أو من صدقة عليه‏.‏ وأما ما أعين به على فكاك رقبته فلم يف ذلك بكتابته كان لكل من أعانه الرجوع بما أعطى أو تحلل منه المكاتب‏.‏ ولو أعانوه صدقة لا على فكاك رقبته فذلك إن عجز حل لسيده ولو تم به فكاكه وبقيت منه فضلة‏.‏ فإن كان بمعنى الفكاك ردها إليهم بالحصص أو يحللونه منها‏.‏ هذا كله مذهب مالك فيما ذكر ابن القاسم‏.‏ وقال أكثر أهل العلم‏:‏ إن ما قبضه السيد منه من كتابته، وما فضل بيده بعد عجزه من صدقة أو غيرها فهو لسيده، يطيب له أخذ ذلك كله‏.‏ هذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما وأحمد بن حنبل، ورواية عن شريح‏.‏ وقال الثوري‏:‏ يجعل السيد ما أعطاه في الرقاب؛ وهو قول مسروق والنخعي، ورواية عن شريح‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ ما قبض منه السيد فهو له، وما فضل بيده بعد العجز فهو له دون سيده؛ وهذا قول بعض من ذهب إلى أن العبد يملك‏.‏ وقال إسحاق‏:‏ ما أعطي بحال الكتابة رد على أربابه‏.‏

حديث بريرة على اختلاف طرقه وألفاظه يتضمن أن بريرة وقع فيها بيع بعد كتابة تقدمت‏.‏ واختلف الناس في بيع المكاتب بسبب ذلك‏.‏ وقد ترجم البخاري ‏(‏باب بيع المكاتب إذا رضي‏)‏‏.‏ وإلى جواز بيعه للعتق إذا رضي المكاتب بالبيع ولو لم يكن عاجزا، ذهب ابن المنذر والداودي، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبدالبر، وبه قال ابن شهاب وأبو الزناد وربيعة غير أنهم قالوا‏:‏ لأن رضاه بالبيع عجز منه‏.‏ وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما‏:‏ لا يجوز بيع المكاتب ما دام مكاتبا حتى يعجز، ولا يجوز بيع كتابته بحال؛ وهو قول الشافعي بمصر، وكان بالعراق يقول‏:‏ بيعه جائز وأما بيع كتابته فغير جائزة‏.‏ وأجاز مالك بيع الكتابة؛ فإن أداها عتق وإلا كان رقيقا لمشتري الكتابة‏.‏ ومنع من ذلك أبو حنيفة؛ لأنه بيع غرر‏.‏ واختلف قول الشافعي في ذلك بالمنع والإجازة‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ يجوز بيع المكاتب على أن يمضي في كتابته؛ فإن أدى عتق وكان ولاؤه للذي ابتاعه، ولو عجز فهو عبد له‏.‏ وبه قال النخعي وعطاء والليث وأحمد وأبو ثور‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ لا يباع المكاتب إلا للعتق، ويكره أن يباع قبل عجزه؛ وهو قول أحمد وإسحاق‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ في حديث بريرة إجازة بيع المكاتب إذا رضي بالبيع ولم يكن عاجزا عن أداء نجم قد حل عليه؛ بخلاف قول من زعم أن بيع المكاتب غير جائز إلا بالعجز؛ لأن بريرة لم تذكر أنها عجزت عن أداء نجم، ولا أخبرت بأن النجم قد حل عليها، ولا قال لها النبي صلى الله عليه وسلم أعاجزة أنت أم هل حل عليك نجم‏.‏ ولو لم يجز بيع المكاتب والمكاتبة إلا بالعجز عن أداء ما قد حل لكان النبي صلى الله عليه وسلم قد سألها أعاجزة هي أم لا، وما كان ليأذن في شرائها إلا بعد علمه صلى الله عليه وسلم أنها عاجزة ولو عن أداء نجم واحد قد حل عليها‏.‏ وفي حديث الزهري أنها لم تكن قضت من كتابتها شيئا‏.‏ ولا أعلم في هذا الباب حجة أصح من حديث بريرة هذا، ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء يعارضه، ولا في شيء من الأخبار دليل على عجزها‏.‏ استدل من منع من بيع المكاتب بأمور‏:‏ منها أن قالوا إن الكتابة المذكورة لم تكن انعقدت، وأن قولها كاتبت أهلي معناه أنها راودتهم عليها، وقدروا مبلغها وأجلها ولم يعقدوها‏.‏ وظاهر الأحاديث خلاف هذا إذا تؤمل مساقها‏.‏ وقيل‏:‏ إن بريرة عجزت عن الأداء فاتفقت هي وأهلها على فسخ الكتابة، وحينئذ صح البيع؛ إلا أن هذا إنما يتمشى على قول من يقول‏:‏ إن تعجيز المكاتب غير مفتقر إلى حكم حاكم إذا اتفق العبد والسيد عليه؛ لأن الحق لا يعدوهما، وهو المذهب المعروف‏.‏ وقال سحنون‏:‏ لا بد من السلطان؛ وهذا إنما خاف أن يتواطأ على ترك حق الله تعالى‏.‏ ويدل على صحة أنها عجزت ما روي أن بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا؛ فقالت لها عائشة‏:‏ ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك فعلت‏.‏ فظاهر هذا أن جميع كتابتها أو بعضها استحق عليها؛ لأنه لا يقضى من الحقوق إلا ما وجبت المطالبة به، والله أعلم‏.‏ هذه التأويلات أشبه ما لهم وفيها من الدخل ما بيناه‏.‏ وقال ابن المنذر‏:‏ ولا أعلم حجة لمن قال ليس له بيع المكاتب إلا أن يقول لعل بريرة عجزت‏.‏ قال الشافعي‏:‏ وأظهر معانيه أن لمالك المكاتب بيعه‏.‏

المكاتب إذا أدى كتابته عتق ولا يحتاج إلى ابتداء عتق من السيد‏.‏ كذلك ولده الذين ولدوا في كتابته من أمته، يعتقون بعتقه ويرقون برقه؛ لأن ولد الإنسان من أمته بمثابته اعتبارا بالحر وكذلك ولد المكاتبة، فإن كان لهما ولد قبل الكتابة لم يدخل في الكتابة إلا بشرط‏.‏

قوله ‏{‏وآتوهم من مال الله الذي آتاكم‏}‏هذا أمر للسادة بإعانتهم في مال الكتابة إما بأن يعطوهم شيئا مما في أيديهم - أعني أيدي السادة - أو يحطوا عنهم شيئا من مال الكتابة‏.‏ قال مالك‏:‏ يوضع عن المكاتب من آخر كتابته‏.‏ وقد وضع ابن عمر خمسة آلاف من خمسة وثلاثين ألفا‏.‏ واستحسن علي رضي الله عنه أن يكون ذلك ربع الكتابة‏.‏ قال الزهراوي‏:‏ روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ واستحسن ابن مسعود والحسن بن أبي الحسن ثلثها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ عشرها‏.‏ ابن جبير‏:‏ يسقط عنه شيئا، ولم يحده؛ وهو قول الشافعي، واستحسنه الثوري‏.‏ قال الشافعي‏:‏ والشيء أقل شيء يقع عليه اسم شيء، ويجبر عليه السيد ويحكم به الحاكم على الورثة إن مات السيد‏.‏ ورأى مالك رحمه الله تعالى هذا الأمر على الندب، ولم ير لقدر الوضعية حدا‏.‏ احتج الشافعي بمطلق الأمر في قوله ‏{‏وآتوهم‏}‏، ورأى أن عطف الواجب على الندب معلوم في القرآن ولسان العرب كما قال ‏{‏إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى‏}‏ وما كان مثله‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وذكره قبله إسماعيل بن إسحاق القاضي، جعل الشافعي الإيتاء واجبا، والكتابة غير واجبة؛ فجعل الأصل غير واجب والفرع واجبا، وهذا لا نظير له، فصارت دعوى محضة‏.‏ فإن قيل‏:‏ يكون ذلك كالنكاح لا يجب فإذا انعقد وجبت أحكامه، منها المتعة‏.‏ قلنا‏:‏ عندنا لا تجب المتعة فلا معنى لأصحاب الشافعي‏.‏ وقد كاتب عثمان بن عفان عبده وحلف ألا يحطه‏.‏‏.‏‏.‏، في حديث طويل‏.‏

قلت‏:‏ وقد قال الحسن والنخعي وبريدة إنما الخطاب بقوله ‏{‏وآتوهم‏}‏للناس أجمعين في أن يتصدقوا على المكاتبين، وأن يعينوهم في فكاك رقابهم‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ إنما الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم؛ وهو الذي تضمنه قوله تعالى ‏{‏وفي الرقاب‏}‏‏.‏ وعلى هذين القولين فليس لسيد المكاتب أن يضع شيئا عن مكاتبه‏.‏ ودليل هذا أنه لو أراد حط شيء من نجوم الكتابة لقال وضعوا عنهم كذا‏.‏

إذا قلنا‏:‏ إن المراد بالخطاب السادة فرأى عمر بن الخطاب أن يكون ذلك من أول نجومه، مبادرة إلى الخير خوفا ألا يدرك آخرها‏.‏ ورأى مالك رحمه الله تعالى وغيره أن يكون الوضع من آخر نجم‏.‏ وعلة ذلك أنه إذا وضع من أول نجم ربما عجز العبد فرجع هو وماله إلى السيد، فعادت إليه وضيعته وهي شبه الصدقة‏.‏ وهذا قول عبدالله بن عمر وعلي‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يترك له من كل نجم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والأقوى عندي أن يكون في آخرها؛ لأن الإسقاط أبدا إنما يكون في أخريات الديون‏.‏

المكاتب إذا بيع للعتق رضا منه بعد الكتابة وقبض بائعه ثمنه لم يجب عليه أن يعطيه من ثمنه شيئا، سواء باعه لعتق أو لغير عتق، وليس ذلك كالسيد يؤدي إليه مكاتب كتابته فيؤتيه منها أو يضع عنه من آخرها نجما أو ما شاء؛ على ما أمر الله به في كتابه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر موالي بريرة بإعطائها مما قبضوا شيئا، وإن كانوا قد باعوها للعتق‏.‏

اختلفوا في صفة عقد الكتابة؛ فقال ابن خويز منداد‏:‏ صفتها أن يقول السيد لعبده كاتبتك على كذا وكذا من المال، في كذا وكذا نجما، إذا أديته فأنت حر‏.‏ أو يقول له أد إلي ألفا في عشرة أنجم وأنت حر‏.‏ فيقول العبد قد قبلت ونحو ذلك من الألفاظ؛ فمتى أداها عتق‏.‏ وكذلك لو قال العبد كاتبني، فقال السيد قد فعلت، أو قد كاتبتك‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا لا يلزم لأن لفظ القرآن لا يقتضيه والحال يشهد له؛ فإن ذكره فحسن، وإن تركه فهو معلوم لا يحتاج إليه‏.‏ ومسائل هذا الباب وفروعه كثيرة، وقد ذكرنا من أصوله جملة، فيها لمن اقتصر عليها كفاية، والله الموفق للهداية‏.‏

في ميراث المكاتب؛ واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال

‏[‏فمذهب مالك‏]‏ أن المكاتب إذا هلك وترك مالا أكثر مما بقي عليه من كتابته وله ولد ولدوا في كتابته أو كاتب عليهم، ورثوا ما بقي من المال بعد قضاء كتابته؛ لأن حكمهم كحكمه، وعليهم السعي فيما بقي من كتابته لو لم يخلف مالا، ولا يعتقون إلا بعتقه، ولو أدى عنهم ما رجع بذلك عليهم؛ لأنهم يعتقون عليه؛ فهم أولى بميراثه لأنهم مساوون له في جميع حاله‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه يؤدى عنه من مال جميع كتابته، وجعل كأنه قد مات حرا، ويرثه جميع ولده وسواء في ذلك من كان حرا قبل موته من ولده ومن كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته لأنهم قد استووا في الحرية كلهم حين تأدت عنهم كتابتهم‏.‏ روي هذا القول عن علي وابن مسعود ومن التابعين عن عطاء والحسن وطاوس وإبراهيم، وبه قال فقهاء الكوفة سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حي، وإليه ذهب إسحاق‏.‏

والقول الثالث‏:‏ أن المكاتب إذا مات قبل أن يؤدي جميع كتابته فقد مات عبدا، وكل ما يخلفه من المال فهو لسيده، ولا يرثه أحد من أولاده، لا الأحرار ولا الذين معه في كتابته؛ لأنه لما مات قبل أن يؤدي جميع كتابته فقد مات عبدا وماله لسيده، فلا يصح عتقه بعد موته؛ لأنه محال أن يعتق عبد بعد موته، وعلى ولده الذين كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته أن يسعوا في باقي الكتابة، ويسقط عنهم منها قدر حصته، فإن أدوا عتقوا لأنهم كانوا فيها تبعا لأبيهم، وإن لم يؤدوا ذلك رقوا‏.‏ هذا قول الشافعي، وبه قال أحمد بن حنبل، وهو قول عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وعمر بن عبدالعزيز والزهري وقتادة‏.‏

قوله ‏{‏ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا‏}‏روي عن جابر بن عبدالله وابن عباس رضي الله عنهم أن هذه الآية نزلت في عبدالله بن أبيّ، وكانت له جاريتان إحداهما تسمى معاذة والأخرى مسيكة، وكان يكرههما على الزنى ويضربهما عليه ابتغاء الأجر وكسب الولد فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية فيه وفيمن فعل فعله من المنافقين‏.‏ ومعاذة هذه أم خولة التي جادلت النبي صلى الله عليه وسلم في زوجها‏.‏ وفي صحيح مسلم عن جابر أن جارية لعبدالله بن أبيّ يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة فكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل ‏{‏ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء - إلى قوله - غفور رحيم‏}‏‏.‏ ‏{‏إن أردن تحصنا‏}‏راجع إلى الفتيات، وذلك أن الفتاة إذا أرادت التحصن فحينئذ يمكن ويتصور أن يكون السيد مكرها، ويمكن أن ينهى عن الإكراه‏.‏ وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصن فلا يتصور أن يقال للسيد لا تكرهها؛ لأن الإكراه لا يتصور فيها وهي مريدة للزني‏.‏ فهذا أمر في سادة وفتيات حالهم هذه‏.‏ وإلى هذا المعنى أشار ابن العربي فقال‏:‏ إنما ذكر الله تعالى إرادة التحصن من المرأة لأن ذلك هو الذي يصور الإكراه؛ فأما إذا كانت هي راغبة في الزنى لم يتصور إكراه، فحصلوه‏.‏ وذهب هذا النظر عن كثير من المفسرين؛ فقال بعضهم قوله ‏{‏إن أردن تحصنا‏}‏راجع إلى الأيامى، قال الزجاج والحسين بن الفضل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير؛ أي وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم إن أردن تحصنا‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هذا الشرط في قوله ‏{‏إن أردن‏}‏ملغى، ونحو ذلك مما يضعف والله الموفق‏.‏

قوله ‏{‏لتبتغوا عرض الحياة الدنيا‏}‏أي الشيء الذي تكسبه الأمة بفرجها والولد يسترق فيباع‏.‏ وقيل‏:‏ كان الزاني يفتدي ولده من المزني بها بمائة من الإبل يدفعها إلى سيدها‏.‏ ‏{‏ومن يكرههن‏}‏أي يقهرهن‏.‏ ‏{‏فإن الله من بعد إكراههن غفور‏}‏لهن ‏{‏رحيم‏}‏بهن‏.‏ وقرأ ابن مسعود وجابر بن عبدالله وابن جبير ‏{‏لهن غفور‏}‏بزيادة لهن‏.‏ وقد مضى الكلام في الإكراه في - النحل-والحمد لله‏.‏ ثم عدد تعالى على المؤمنين نعمه فيما أنزل إليهم من الآيات المنيرات وفيها ضرب لهم من أمثال الماضين من الأمم ليقع التحفظ مما وقع أولئك فيه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 35 ‏)‏

‏{‏الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ‏}‏

النور في كلام العرب‏:‏ الأضواء المدركة بالبصر‏.‏ واستعمل مجازا فيما صح من المعاني ولاح فيقال منه‏:‏ كلام له نور‏.‏ ومنه‏:‏ الكتاب المنير، ومنه قول الشاعر‏:‏

نسب كأن عليه من شمس الضحا نورا ومن فلق الصباح عمودا

والناس يقولون‏:‏ فلان نور البلد، وشمس العصر وقمره‏.‏ وقال‏:‏

فإنك شمس والملوك كواكب

وقال آخر‏:‏

هلا خصصت من البلاد بمقصد قمر القبائل خالد بن يزيد

وقال آخر‏:‏

إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها نورها وجمالها

فيجوز أن يقال‏:‏ لله تعالى نور من جهة المدح لأنه أوجد الأشياء ونور جميع الأشياء منه ابتداؤها وعنه صدورها وهو سبحانه ليس من الأضواء المدركة جل وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا‏.‏ وقد قال هشام الجوالقي وطائفة من المجسمة‏:‏ هو نور لا كالأنوار، وجسم لا كالأجسام‏.‏ وهذا كله محال على الله تعالى عقلا ونقلا على ما يعرف في موضعه من علم الكلام‏.‏ ثم إن قولهم متناقض؛ فإن قولهم جسم أو نور حكم عليه بحقيقة ذلك، وقولهم لا كالأنوار ولا كالأجسام نفي لما أثبتوه من الجسمية والنور؛ وذلك متناقض، وتحقيقه في علم الكلام‏.‏ والذي أوقعهم في ذلك ظواهر اتبعوها منها هذه الآية، وقول عليه السلام إذا قام من الليل يتهجد ‏(‏اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض‏)‏‏.‏ وقال عليه السلام وقد سئل‏:‏ هل رأيت ربك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏رأيت نورا‏)‏‏.‏ إلى غير ذلك من الأحاديث‏.‏

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فقيل‏:‏ المعنى أي به وبقدرته أنارت أضواؤها، واستقامت أمورها، وقامت مصنوعاتها‏.‏ فالكلام على التقريب للذهن؛ كما يقال‏:‏ الملك نور أهل البلد؛ أي به قوام أمرها وصلاح جملتها؛ لجريان أموره على سنن السداد‏.‏ فهو في الملك مجاز، وهو في صفة الله حقيقة محضة، إذ هو الذي أبدع الموجودات وخلق العقل نورا هاديا؛ لأن ظهور الموجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور المبصرات، تبارك وتعالى لا رب غيره‏.‏ قال معناه مجاهد والزهري وغيرهما‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ أي منور السموات والأرض‏.‏ وكذا قال الضحاك والقرظي‏.‏ كما يقولون‏:‏ فلان غياثنا؛ أي مغيثنا‏.‏ وفلان زادي؛ أي مزودي‏.‏ قال جرير‏:‏

وأنت لنا نور وغيث وعصمة ونبت لمن يرجو نداك وريق

أي ذو ورق‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ مدبر الأمور في السموات والأرض‏.‏ أبيّ بن كعب والحسن وأبو العالية‏:‏ مزين السموات بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين‏.‏ وقال ابن عباس وأنس‏:‏ المعنى الله هادي أهل السموات والأرض‏.‏ والأول أعم للمعاني وأصح مع التأويل‏.‏

قوله ‏{‏مثل نوره‏}‏أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن؛ والدلائل تسمى نورا‏.‏ وقد سمى الله تعالى كتابه نورا فقال ‏{‏وأنزلنا إليكم نورا مبينا‏}‏ وسمى نبيه نورا فقال ‏{‏قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين‏}‏ ‏.‏ وهذا لأن الكتاب يهدي ويبين، وكذلك الرسول‏.‏ ووجه الإضافة إلى الله تعالى أنه مثبت الدلالة ومبينها وواضعها‏.‏ وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل به، بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة، وذلك أن يريد مثل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة، كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة، التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس؛ فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر‏.‏ والمشكاة‏:‏ الكوة في الحائط غير النافذة؛ قال ابن جبير وجمهور المفسرين، وهي أجمع للضوء، والمصباح فيها أكثر إنارة منه في غيرها، وأصلها الوعاء يجعل فيه الشيء‏.‏ والمشكاة وعاء من أدم كالدلو يبرد فيها الماء؛ وهو على وزن مفعلة كالمقراة والمصفاة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

كأن عينيه مشكاتان في حجر قيضا اقتياضا بأطراف المناقير

وقيل‏:‏ المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هي القنديل‏.‏ وقال ‏{‏في زجاجة‏}‏لأنه جسم شفاف، والمصباح فيه أنور منه في غير الزجاج‏.‏ والمصباح‏:‏ الفتيل بناره ‏{‏كأنها كوكب دري‏}‏أي في الإنارة والضوء‏.‏ وذلك يحتمل معنيين‏:‏ إما أن يريد أنها بالمصباح كذلك، وإما أن يريد أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك‏.‏ وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور‏.‏ قال الضحاك‏:‏ الكوكب الدري هو الزهرة‏.‏

قوله ‏{‏يوقد من شجرة مباركة‏}‏أي من زيت شجرة، فحذف المضاف‏.‏ والمبارة المنماة؛ والزيتون من أعظم الثمار نماء، والرمان كذلك‏.‏ والمعنى يقتضي ذلك‏.‏ وقول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبدشمس‏:‏

ليت شعري مسافر بن أبي عمـ رو وليت يقولها المحزون

بورك الميت الغريب كما بو رك نبع الرمان والزيتون

وقيل‏:‏ من بركتهما أن أغصانهما تورق من أسفلها إلى أعلاها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ في الزيتونة منافع، يسرج بالزيت، وهو إدام ودهان ودباغ، ووقود يوقد بحطبه وتفله، وليس فيه شيء إلا وفيه منفعة، حتى الرماد يغسل به الإبريسم‏.‏ وهي أول شجرة نبتت في الدنيا، وأول شجرة نبتت بعد الطوفان، وتنبت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة، ودعا لها سبعون نبيا بالبركة؛ منهم إبراهيم، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنه قال‏:‏ ‏(‏اللهم بارك في الزيت والزيتون‏)‏‏.‏ قاله مرتين‏.‏

قوله ‏{‏لا شرقية ولا غربية‏}‏اختلف العلماء في قوله ‏{‏لا شرقية ولا غربية‏}‏فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم‏:‏ الشرقية التي تصيبها الشمس إذا شرقت ولا تصيبها إذا غربت لأن لها سترا‏.‏ والغربية عكسها؛ أي أنها شجرة في صحراء ومنكشف من الأرض لا يواريها عن الشمس شيء وهو أجود لزيتها، فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية، بل هي شرقية غربية‏.‏ وقال الطبري عن ابن عباس‏:‏ إنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها؛ فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول لا يصح عن ابن عباس لأن الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها وذلك مشاهد في الوجود‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا، وإنما هو مثل ضربه الله تعالى لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية‏.‏ الثعلبي‏:‏ وقد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا؛ لأنها بدل من الشجرة، فقال ‏{‏زيتونة‏}‏‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ إنها من شجر الشأم؛ فإن شجر الشأم لا شرقي ولا غربي، وشجر الشأم هو أفضل الشجر، وهي الأرض المباركة، و‏{‏شرقية‏}‏نعت ‏{‏لزيتونة‏}‏و‏{‏لا‏}‏ليست تحول بين النعت والمنعوت، ‏{‏ولا غربية‏}‏عطف عليه‏.‏

قوله ‏{‏يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار‏}‏مبالغة في حسنه وصفائه وجودته‏.‏ ‏{‏نور على نور‏}‏أي اجتمع في المشكاة ضوء المصباح إلى ضوء الزجاجة وإلى ضوء الزيت فصار لذلك نور على نور‏.‏ واعتقلت هذه الأنوار في المشكاة فصارت كأنور ما يكون فكذلك براهين الله تعالى واضحة وهي برهان بعد برهان، وتنبيه بعد تنبيه؛ كإرساله الرسل وإنزاله الكتب، ومواعظ تتكرر فيها لمن له عقل معتبر‏.‏ ثم ذكر تعالى هداه لنوره من شاء وأسعد من عباده، وذكر تفضله لعباد في ضرب الأمثال لتقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الإيمان‏.‏ وقرأ عبدالله بن عياش بن أبي ربيعة وأبو عبدالرحمن السلمي ‏{‏الله نور‏}‏بفتح النون والواو المشددة‏.‏ واختلف المتأولون في عود الضمير في ‏{‏نوره‏}‏على من يعود؛ فقال كعب الأحبار وابن جبير‏:‏ هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال ابن الأنباري‏}‏الله نور السموات والأرض‏}‏وقف حسن، ثم تبتدئ ‏{‏مثل نوره كمشكاة فيها مصباح‏}‏على معنى نور محمد صلى‏.‏ وقال أبي بن كعب وابن جبير أيضا والضحاك‏:‏ هو عائد على المؤمنين‏.‏ وفي قراءة أبيّ ‏{‏مثل نور المؤمنين‏}‏‏.‏ وروي أن في قراءته ‏{‏مثل نور المؤمن‏}‏‏.‏ وروي أن فيها ‏{‏مثل نور من آمن به‏}‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو عائد على القرآن والإيمان‏.‏ قال مكي‏:‏ وعلى هذه الأقوال يوقف على قوله ‏{‏والأرض‏}‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذه الأقوال فيها عود الضمير على من لم يجر له ذكر، وفيها مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل فعلى من قال‏:‏ الممثل به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول كعب الحبر؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو المشكاة أو صدره والمصباح هو النبوة وما يتصل بها من عمله وهداه، والزجاجة قلبه، والشجرة المباركة هي الوحي، والملائكة رسل الله إليه وسببه المتصل به، والزيت هو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحي‏.‏ ومن قال‏:‏ الممثل به المؤمن، وهو قول أبيّ؛ فالمشكاة صدره، والمصباح الإيمان والعلم، والزجاجة قلبه، وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها‏.‏ قال أبيّ‏:‏ فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات‏.‏ ومن قال‏:‏ إن الممثل به هو القرآن والإيمان؛ فتقدير الكلام‏:‏ مثل نوره الذي هو الإيمان في صدر المؤمن في قلبه كمشكاة؛ أي كهذه الجملة‏.‏ وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين؛ لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ الضمير في ‏{‏نوره‏}‏عائد على الله تعالى‏.‏ وهذا قول ابن عباس فيما ذكر الثعلبي والماوردي والمهدوي، وقد تقدم معناه‏.‏ ولا يوقف على هذا القول على ‏{‏الأرض‏}‏‏.‏ قال المهدوي‏:‏ الهاء لله عز وجل؛ والتقدير‏:‏ الله هادي أهل السموات والأرض، مثل هداه في قلوب المؤمنين كمشكاة؛ وروي ذلك عن ابن عباس‏.‏ وكذلك قال زيد بن أسلم، والحسن‏:‏ إن الهاء لله عز وجل‏.‏ وكان أبيّ وابن مسعود يقرآنها ‏{‏مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة‏}‏‏.‏ قال محمد بن علي الترمذي‏:‏ فأما غيرهما فلم يقرأها في التنزيل هكذا، وقد وافقهما في التأويل أن ذلك نوره قلب المؤمن، وتصديقه في آية أخرى يقول‏{‏أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه‏}‏ ‏.‏

واعتل الأولون بأن قالوا‏:‏ لا يجوز أن يكون الهاء لله عز وجل؛ لأن الله عز وجل لا حدّ لنوره‏.‏ وأمال الكسائي فيما روى عنه أبو عمر الدوري الألف من ‏{‏مشكاة‏}‏وكسر الكاف التي قبلها‏.‏ وقرأ نصر بن عاصم ‏{‏زجاجة‏}‏بفتح الزاي و‏{‏الزجاجة‏}‏كذلك، وهي لغة‏.‏ وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم ‏{‏دري‏}‏بضم الدال وشد الياء، ولهذه القراءة وجهان‏:‏ إما أن ينسب الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه، وإما أن يكون أصله دريء مهموز، فعيل من الدرء وهو الدفع، وخففت الهمزة‏.‏ ويقال للنجوم العظام التي لا تعرف أسماؤها‏:‏ الدراري، بغير همز فلعلهم خففوا الهمزة، والأصل من الدرء الذي هو الدفع‏.‏ وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم ‏{‏دريء‏}‏بالهمز والمد، وهو فعيل من الدرء؛ بمعنى أنها يدفع بعضها بعضا‏.‏ وقرأ الكسائي وأبو عمرو ‏{‏دريء‏}‏بكسر الدال والهمز من الدرء والدفع؛ مثل السكير والفسيق‏.‏ قال سيبويه‏:‏ أي يدفع بعض ضوئه بعضا من لمعانه‏.‏ قال النحاس‏:‏ وضعف أبو عبيد قراءة أبي عمرو والكسائي تضعيفا شديدا، لأنه تأولها من درأت أي دفعت؛ أي كوكب يجري من الأفق إلى الأفق‏.‏ وإذا كان التأويل على ما تأوله لم يكن في الكلام فائدة، ولا كان لهذا الكوكب مزية على أكثر الكواكب؛ ألا ترى أنه لا يقال جاءني إنسان من بني آدم‏.‏ ولا ينبغي أن يتأول لمثل أبي عمرو والكسائي مع علمهما وجلالتهما هذا التأويل البعيد، ولكن التأويل لهما على ما روي عن محمد بن يزيد أن معناهما في ذلك‏:‏ كوكب مندفع بالنور؛ كما يقال‏:‏ اندرأ الحريق أن اندفع‏.‏ وهذا تأويل صحيح لهذه القراءة‏.‏ وحكى سعيد بن مسعدة أنه يقال‏:‏ درأ الكوكب بضوئه إذا امتد ضوءه وعلا‏.‏ وقال الجوهري في الصحاح‏:‏ ودرأ علينا فلان يدرأ دروءا أي طلع مفاجأة‏.‏ ومنه كوكب دريء، على فعيل؛ مثل سكير وخمير؛ لشدة توقده وتلألئه‏.‏ وقد درأ الكوكب دروءا‏.‏ قال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ سألت رجلا من سعد بن بكر من أهل ذات عرق فقلت‏:‏ هذا الكوكب الضخم ما تسمونه‏؟‏ قال‏:‏ الدريء، وكان من أفصح الناس‏.‏ قال النحاس‏:‏ فأما قراءة حمزة فأهل اللغة جميعا قالوا‏:‏ هي لحن لا تجوز، لأنه ليس في كلام العرب اسم على فعيل‏.‏ وقد اعترض أبو عبيد في هذا فاحتج لحمزة فقال‏:‏ ليس هو فعيل وإنما هو فعول، مثل سبوح، أبدل من الواو ياء؛ كما قالوا‏:‏ عتي‏.‏

قال أبو جعفر النحاس‏:‏ وهذا الاعتراض والاحتجاج من أعظم الغلط وأشده؛ لأن هذا لا يجوز البتة، ولو جاز ما قال لقيل في سبوح سبيح، وهذا لا يقوله أحد، وليس عتي من هذا، والفرق بينهما واضح بين؛ لأنه ليس يخلو عتي من إحدى جهتين‏:‏ إما أن يكون جمع عات فيكون البدل فيه لازما، لأن الجمع باب تغيير، والواو لا تكون طرفا في الأسماء وقبلها ضمة، فلما كان قبل هذه ساكن وقبل الساكن ضمة والساكن ليس بحاجز حصين أبدل من الضمة كسرة فقلبت الواو ياء‏.‏ وإن كان عتي واحدا كان بالواو أولى، وجاز قلبها لأنها طرف، والواو في فعول ليست طرفا فلا يجوز قلبها‏.‏ قال الجوهري‏:‏ قال أبو عبيد إن ضممت الدال قلت دري، يكون منسوبا إلى الدر، على فعلي ولم تهمزه لأنه ليس في كلام العرب فعيل‏.‏ ومن همزه من القراء فإنما أراد فعولا مثل سبوح فاستثقل فرد بعضه إلى الكسر‏.‏ وحكى الأخفش عن بعضهم ‏{‏دريء‏}‏من درأته، وهمزها وجعلها على فعيل مفتوحة الأول‏.‏ قال‏:‏ وذلك من تلألئه‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ وقرأ سعيد بن المسيب وأبو رجاء ‏{‏دريء‏}‏بفتح الدال مهموزا‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ هذا خطأ لأنه ليس في الكلام فعيل؛ فإن صح عنهما فهما حجة‏.‏ ‏{‏يوقد‏}‏قرأ شيبة ونافع وأيوب وسلام وابن عامر وأهل الشام وحفص ‏{‏يوقد‏}‏بياء مضمومة وتخفيف القاف وضم الدال‏.‏ وقرأ الحسن والسلمي وأبو جعفر وأبو عمرو بن العلاء البصري ‏{‏توقد‏}‏مفتوحة الحروف كلها مشددة القاف، واختارها أبو حاتم وأبو عبيد‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهاتان القراءتان متقاربتان؛ لأنهما جميعا للمصباح، وهو أشبه بهذا الوصف؛ لأنه الذي ينير ويضيء، وإنما الزجاجة وعاء له‏.‏ و‏{‏توقد‏}‏فعل ماض من توقد يتوقد، ويوقد فعل مستقبل من أوقد يوقد‏.‏ وقرأ نصر بن عاصم ‏{‏توقد‏}‏والأصل على قراءته تتوقد حذف إحدى التاءين لأن الأخرى تدل عليها‏.‏ وقرأ الكوفيون ‏{‏توقد‏}‏بالتاء يعنون الزجاجة‏.‏ فهاتان القراءتان على تأنيث الزجاجة‏.‏

قوله ‏{‏من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية‏}‏تقدم القول فيه‏.‏ ‏{‏يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور‏}‏على تأنيث النار‏.‏ وزعم أبو عبيد أنه لا يعرف إلا هذه القراءة‏.‏ وحكى أبو حاتم أن السدي روى عن أبي مالك عن ابن عباس أنه قرأ ‏{‏ولو لم يمسسه نار‏}‏بالياء‏.‏ قال محمد بن يزيد‏:‏ التذكير على أنه تأنيث غير حقيقي، وكذا سبيل المؤنث عنده‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ المشكاة جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعله الله تعالى في قلبه يوقد شجرة مباركة؛ أي أن أصله من إبراهيم وهو شجرته؛ فأوقد الله تعالى في قلب محمد صلى الله عليه وسلم النور كما جعله في قلب إبراهيم عليه السلام‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ المشكاة إبراهيم، والزجاجة إسماعيل، والمصباح محمد صلوات الله عليهم أجمعين؛ سماه الله تعالى مصباحا كما سماه سراجا فقال ‏{‏وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا‏}‏ يوقد من شجرة مباركة وهي آدم عليه السلام، بورك في نسله وكثر منه الأنبياء والأولياء‏.‏ وقيل‏:‏ هي إبراهيم عليه السلام، سماه الله تعالى مباركا لأن أكثر الأنبياء كانوا من صلبه‏.‏ ‏{‏لا شرقية ولا غربية‏}‏أي لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وإنما كان حنيفا مسلما‏.‏ وإنما قال ذلك لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى تصلي فبل المشرق‏.‏ ‏{‏يكاد زيتها يضيء‏}‏أي يكاد محاسن محمد صلى الله عليه وسلم تظهر للناس قبل أن أوحى الله تعالى إليه‏.‏ ‏{‏نور على نور‏}‏نبي من نسل نبي‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ شبه عبدالمطلب بالمشكاة وعبدالله بالزجاجة والنبي صلى الله عليه وسلم بالمصباح كان في قلبهما، فورث النبوة من إبراهيم‏.‏ ‏{‏من شجرة‏}‏أي شجرة التقى والرضوان وعشيرة الهدى والإيمان، شجرة أصلها نبوة، وفرعها مروءة، وأغصانها تنزيل، وورقها تأويل، وخدمها جبريل وميكائيل‏.‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ ومن غريب الأمر أن بعض الفقهاء قال إن هذا مثل ضربه الله تعالى لإبراهيم ومحمد ولعبدالمطلب وابنه عبدالله؛ فالمشكاة هي الكوة بلغة الحبشة، فشبه عبدالمطلب بالمشكاة فيها القنديل وهو الزجاجة، وشبه عبدالله بالقنديل وهو الزجاجة؛ ومحمد كالمصباح يعني من أصلابهما، وكأنه كوكب دري وهو المشتري ‏{‏يوقد من شجرة مباركة‏}‏يعني إرث النبوة من إبراهيم عليه السلام هو الشجرة المباركة، يعني حنيفية لا شرقية ولا غربية، لا يهودية ولا نصرانية‏.‏ ‏{‏يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار‏}‏يقول‏:‏ يكاد إبراهيم يتكلم بالوحي من قبل أن يوحي إليه‏.‏ ‏{‏نور على نور‏}‏إبراهيم ثم محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال القاضي‏:‏ وهذا كله عدول عن الظاهر، وليس يمتنع في التمثيل أن يتوسع المرء فيه‏.‏

قلت‏:‏ وكذلك في جميع الأقوال لعدم ارتباطه بالآية ما عدا القول الأول، وأن هذا مثل ضربه الله تعالى لنوره، ولا يمكن أن يضرب لنوره المعظم مثلا تنبيها لخلقه إلا ببعض خلقه لأن الخلق لقصورهم لا يفهمون إلا بأنفسهم ومن أنفسهم، ولولا ذلك ما عرف الله إلا الله وحده، قاله ابن العربي‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإن مسته النار زاد ضوءه، كذلك قلب المؤمن يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم زاده هدى على هدى ونورا على نور؛ كقول إبراهيم من قبل أن تجيئه المعرفة‏{‏هذا ربي‏}‏، من قبل أن يخبره أحد أن له ربا؛ فلما أخبره الله أنه ربه زاد هدى، فقال له ربه‏}‏أسلم قال أسلمت لرب العالمين‏}‏ ‏.‏ ومن قال إن هذا مثل للقرآن في قلب المؤمن قال‏:‏ كما أن هذا المصباح يستضاء به ولا ينقص فكذلك القرآن يهتدى به ولا ينقص فالمصباح القرآن والزجاجة قلب المؤمن والمشكاة لسانه وفهمه والشجرة المباركة شجرة الوحي‏.‏ ‏{‏يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار‏}‏تكاد حجج القرآن تتضح ولو لم يقرأ‏.‏ ‏{‏نور على نور‏}‏يعني أن القرآن نور من الله تعالى لخلقه، مع ما أقام لهم من الدلائل والإعلام قبل نزول القرآن، فازدادوا بذلك نورا على نور‏.‏ ثم أخبر أن هذا النور المذكور عزيز وأنه لا يناله إلا من أراد الله هداه فقال ‏{‏يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس‏}‏أي يبين الأشباه تقريبا إلى الأفهام‏.‏ ‏{‏والله بكل شيء عليم‏}‏أي بالمهدي والضال‏.‏ وروي عن ابن عباس أن اليهود قالوا‏:‏ يا محمد، كيف يخلص نور الله تعالى من دون السماء فضرب الله تعالى ذلك مثلا لنوره‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 36 ‏:‏ 38 ‏)‏

‏{‏ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار، ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب ‏}‏

قوله ‏{‏في بيوت أذن الله أن ترفع‏}‏الباء في ‏{‏بيوت‏}‏تضم وتكسر؛ وقد تقدم‏.‏ واختلف في الفاء من قول ‏{‏في‏}‏فقيل‏:‏ هي متعلقة ‏{‏بمصباح‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ بـ‏{‏يسبح له‏}‏؛ فعلى هذا التأويل يوقف على ‏{‏عليم‏}‏‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ سمعت أبا العباس يقول هو حال للمصباح والزجاجة والكوكب؛ كأنه قال وهي في بيوت‏.‏ وقال الترمذي الحكيم محمد بن علي‏}‏في بيوت‏}‏منفصل، كأنه يقول‏:‏ الله في بيوت أذن الله أن ترفع؛ وبذلك جاءت الأخبار أنه ‏(‏من جلس في المسجد فإنه يجالس ربه‏)‏‏.‏ وكذا ما جاء في الخبر فيما يحكى عن التوراة ‏(‏أن المؤمن إذا مشى إلى المسجد قال الله تبارك اسمه عبدي زارني وعلي قراه ولن أرضى له قرى دون الجنة‏)‏‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ إن جعلت ‏{‏في‏}‏متعلقة بـ‏{‏يسبح‏}‏أو رافعة للرجال حسن الوقف على قوله ‏{‏والله بكل شيء عليم‏}‏ ‏.‏ وقال الرماني‏:‏ هي متعلقة بـ‏{‏يوقد‏}‏وعليه فلا يوقف على ‏{‏عليم‏}‏‏.‏ فإن قيل‏:‏ فما الوجه إذا كان البيوت متعلقة بـ‏{‏يوقد‏}‏في توحيد المصباح والمشكاة وجمع البيوت، ولا يكون مشكاة واحدة إلا في بيت واحد‏.‏ قيل‏:‏ هذا من الخطاب المتلون الذي يفتح‏:‏ التوحيد ويختم بالجمع؛ كقوله ‏{‏يا أيها النبي إذا طلقتم النساء‏}‏ ونحوه‏.‏ وقيل‏:‏ رجع إلى كل واحد من البيوت‏.‏ وقيل‏:‏ هو كقوله ‏{‏وجعل القمر فيهن نورا‏}‏ وإنما هو في واحدة منها‏.‏ واختلف الناس في البيوت هنا على خمسة أقوال‏:‏ الأول - أنها المساجد المخصوصة لله تعالى بالعبادة، وأنها تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض؛ قاله ابن عباس ومجاهد والحسن‏.‏ الثاني‏:‏ هي بيوت بيت المقدس؛ عن الحسن أيضا‏.‏ الثالث‏:‏ بيوت النبي صلى الله عليه وسلم؛ عن مجاهد أيضا‏.‏ الرابع‏:‏ هي البيوت كلها؛ قاله عكرمة‏.‏ وقوله ‏{‏يسبح له فيها بالغدو والآصال‏}‏يقوي أنها المساجد‏.‏ وقول خامس‏:‏ أنها المساجد الأربعة التي لم يبنها إلا نبي‏:‏ الكعبة وبيت أريحا ومسجد المدينة ومسجد قباء؛ قال ابن بريدة‏.‏ وقد تقدم ذلك في التوبة ‏.‏

قلت‏:‏ الأظهر القول الأول؛ لما رواه أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من أحب الله عز وجل فليحبني ومن أحبني فليحب أصحابي ومن أحب أصحابي فليحب القرآن ومن أحب القرآن فليحب المساجد فإنها أفنية الله أبنيته أذن الله في رفعها وبارك فيها ميمونة ميمون أهلها محفوظة محفوظ أهلها هم في صلاتهم والله عز وجل في حوائجهم هم في مساجدهم والله من ورائهم‏)‏‏.‏

قوله ‏{‏أذن الله أن ترفع‏}‏‏{‏أذن‏}‏معناه أمر وقضي‏.‏ وحقيقة الإذن العلم والتمكين دون حظر؛ فإن اقترن بذلك أمر وإنقاذ كان أقوى‏.‏ و‏{‏ترفع‏}‏قيل‏:‏ معناه تبنى وتعلى؛ قال مجاهد وعكرمة‏.‏ ومنه قوله ‏{‏وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت‏}‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من بنى مسجدا من ماله بنى الله له بيتا في الجنة‏)‏‏.‏ وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة تحض على بنيان المساجد‏.‏ وقال الحسن البصري وغيره‏:‏ معنى ‏{‏ترفع‏}‏تعظم، ويرفع شأنها، وتطهر من الأنجاس والأقذار؛ ففي الحديث ‏(‏إن المسجد لينزوي من النجاسة كما ينزوي الجلد من النار ‏)‏‏.‏ و‏"‏روى ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري‏"‏ قال قال رسول الله‏:‏ ‏(‏من أخرج أذى من المسجد بنى الله له بيتا في الجنة‏)‏‏.‏ وروي عن عائشة قالت‏:‏ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتخذ المساجد في الدور وأن تطهر وتطيب‏.‏

إذا قلنا‏:‏ إن المراد بنيانها فهل تزين وتنقش‏؟‏ اختلف في ذلك؛ فكرهه قوم وأباحه آخرون‏.‏ فروى حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس وقتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتى تتباهى الناس في المساجد‏)‏‏.‏ ‏"‏أخرجه أبو داود‏"‏‏.‏ ‏"‏وفي البخاري‏"‏ - وقال أنس‏:‏ ‏(‏يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا‏)‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى‏.‏ و‏"‏روى الترمذي الحكيم أبو عبدالله في نوادر الأصول من حديث أبي الدرداء‏"‏ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدبار عليكم‏)‏‏.‏ احتج من أباح ذلك بأن فيه تعظيم المساجد والله تعالى أمر بتعظيمها في قوله ‏{‏في بيوت أذن الله أن ترفع‏}‏يعني تعظم‏.‏ وروي عن عثمان أنه بنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالساج وحسنه‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ لا بأس بنقش المساجد بماء الذهب‏.‏ وروي عن عمر بن عبدالعزيز أنه نقش مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبالغ في عمارته وتزيينه، وذلك في زمن ولايته قبل خلافته، ولم ينكر عليه أحد ذلك‏.‏ وذكر أن الوليد بن عبدالملك أنفق في عمارة مسجد دمشق وفي تزيينه مثل خراج الشام ثلاث مرات‏.‏ وروي أن سليمان بن داود عليهما السلام بنى مسجد بيت المقدس وبالغ في تزيينه‏.‏

ومما تصان عنه المساجد وتنزه عنه الروائح الكريهة والأقوال السيئة وغير ذلك على ما نبينه؛ وذلك من تعظيمها‏.‏ وقد صح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غزوة تبوك‏:‏ ‏(‏من أكل من هذه الشجرة - يعني الثوم - فلا يأتين المساجد‏)‏‏.‏ وفي حديث جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه سلم قال‏:‏ ‏(‏من أكل من هذه البقلة الثوم‏)‏ وقال مرة‏:‏ ‏(‏من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم‏)‏‏.‏ وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته‏:‏ ‏(‏ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين ولا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من رجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخا‏)‏‏.‏ خرجه مسلم في صحيحه‏.‏ قال العلماء‏:‏ وإذا كانت العلة في إخراجه من المسجد أنه يتأذى به ففي القياس أن كل من تأذى به جيرانه في المسجد بأن يكون ذرب اللسان سفيها عليهم، أو كان ذا رائحة قبيحة لا تريمه لسوء صناعته، أو عاهة مؤذية كالجذام وشبهه‏.‏ وكل ما يتأذى به الناس كان لهم إخراجه ما كانت العلة موجودة حتى تزول‏.‏ وكذلك يجتنب مجتمع الناس حيث كان لصلاة أو غيرها كمجالس العلم والولائم وما أشبهها، من أكل الثوم وما في معناه، مما له رائحة كريهة تؤذي الناس‏.‏ ولذلك جمع بين البصل والثوم والكراث، وأخبر أن ذلك مما يتأذى به‏.‏ قال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ وقد شاهدت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبدالملك بن هشام رحمه الله أفتى في رجل شكاه جيرانه واتفقوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده فشوور فيه؛ فأفتى بإخراجه من المسجد وإبعاده عنه، وألا يشاهد معهم الصلاة إذ لا سبيل مع جنونه واستطالته إلى السلامة منه، فذاكرته يوما أمره وطالبته بالدليل فيما أفتى به من ذلك وراجعته فيه القول؛ فاستدل بحديث الثوم، وقال‏:‏ هو عندي أكثر أذى من أكل الثوم، وصاحبه يمنع من شهود الجماعة في المسجد‏.‏

قلت‏:‏ وفي الآثار المرسلة ‏{‏إن الرجل ليكذب الكذبة فيتباعد عنه الملك من نتن ريحه‏}‏‏.‏ فعلى هذا يخرج من عرف منه الكذب والتقول بالباطل فإن ذلك يؤذي‏.‏

أكثر العلماء على أن المساجد كلها سواء؛ لحديث ابن عمر‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إنما خرج النهي على مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل جبريل عليه السلام ونزوله فيه؛ ولقوله في حديث جابر‏:‏ ‏(‏فلا يقربن مسجدنا‏)‏‏.‏ والأول أصح، لأنه ذكر الصفة في الحكم وهي المسجدية، وذكر الصفة في الحكم تعليل‏.‏ وقد روى الثعلبي بإسناده عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يأتي الله يوم القيامة بمساجد الدنيا كأنها نجائب بيض قوائمها من العنبر وأعناقها من الزعفران ورؤوسها من المسك وأزمتها من الزبرجد الأخضر وقوامها والمؤذنون فيها يقودونها وأئمتها يسوقونها وعمارها متعلقون بها فتجوز عرصات القيامة كالبرق الخاطف فيقول أهل الموقف هؤلاء ملائكة مقربون وأنبياء مرسلون فينادي ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء ولكنهم أهل المساجد والمحافظون على الصلوات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏)‏ وفي التنزيل ‏}‏إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله ‏}‏‏.‏ وهذا عام في كل مسجد‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان‏)‏ إن الله تعالى يقول‏{‏إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر‏}‏‏.‏ وقد تقدم‏.‏

وتصان المساجد أيضا عن البيع والشراء وجميع الاشتغال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي دعا إلى الجمل الأحمر‏:‏‏(‏لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له‏)‏‏.‏ ‏"‏أخرجه مسلم من حديث سليمان بن بريدة‏"‏ عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى قام رجل فقال‏:‏ من دعا إلى الجمل الأحمر‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له‏)‏‏.‏ وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلوات والأذكار وقراءة القرآن‏.‏ وكذا جاء مفسرا من حديث أنس قال‏:‏ بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ مه مه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تزرموه دعوه‏)‏‏.‏ فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له‏:‏ ‏(‏إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن‏)‏‏.‏ أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏:‏ فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه‏.‏ خرجه مسلم‏.‏ ومما يدل على هذا من الكتاب قول الحق ‏{‏ويذكر فيها اسمه‏}‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن الحكم السلمي‏:‏ ‏(‏إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن‏)‏‏.‏ أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏"‏الحديث بطوله خرجه مسلم في صحيحه‏"‏، وحسبك وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صوت رجل في المسجد فقال‏:‏ ما هذا الصوت‏؟‏ أتدري أين أنت‏!‏ وكان خلف بن أيوب جالسا في مسجده فأتاه غلامه يسأله عن شيء فقام وخرج من المسجد وأجابه؛ فقيل له في ذلك فقال‏:‏ ما تكلمت في المسجد بكلام الدنيا منذ كذا وكذا، فكرهت أن أتكلم اليوم‏.‏

‏"‏روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب‏"‏ عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة‏.‏ قال‏:‏ وفي الباب عن بريدة وجابر وأنس حديث عبدالله بن عمر وحديث حسن‏.‏ قال محمد بن إسماعيل‏:‏ رأيت محمدا وإسحاق وذكر غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب‏.‏ وقد كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد؛ وبه يقول أحمد وإسحاق‏.‏ وروي أن عيسى ابن مريم عليهما السلام أتى على قوم يتبايعون في المسجد فجعل رداءه مخراقا، ثم جعل يسعى عليهم ضربا ويقول‏:‏ يا أبناء الأفاعي، اتخذتم مساجد الله أسواقا هذا سوق الآخرة‏.‏

قلت‏:‏ وقد كره بعض أصحابنا تعليم الصبيان في المساجد، ورأى أنه من باب البيع‏.‏ وهذا إذا كان بأجرة، فلو كان بغير أجرة لمنع أيضا من وجه آخر، وهو أن الصبيان لا يتحرزون عن الأقذار والوسخ؛ فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بتنظيفها وتطييبها فقال‏:‏ ‏(‏جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وسل سيوفكم وإقامة حدودكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وأجمروها في الجمع واجعلوا على أبوابها المطاهر‏)‏‏.‏ في إسناده العلاء بن كثير الدمشقي مولى بني أمية، وهو ضعيف عندهم؛ ذكره أبو أحمد بن عدي الجرجاني الحافظ‏.‏ وذكر أبو أحمد أيضا من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ صليت العصر مع عثمان أمير المؤمنين فرأى خياطا في ناحية المسجد فأمر بإخراجه؛ فقيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين، إنه يكنس المسجد ويغلق الأبواب ويرش أحيانا‏.‏ فقال عثمان‏:‏ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏جنبوا صناعكم من مساجدكم‏)‏‏.‏ هذا حديث غير محفوظ، في إسناده محمد بن مجيب الثقفي، وهو ذاهب الحديث‏.‏

قلت‏:‏ ما ورد في هذا المعنى وإن كان طريقه لينا فهو صحيح معنى؛ يدل على صحته ما ذكرناه قبل‏.‏ قال الترمذي‏:‏ وقد روي عن بعض أهل العالم من التابعين رخصة في البيع والشراء في المسجد‏.‏ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديث رخصة في إنشاد الشعر في المسجد‏.‏

قلت‏:‏ أما تناشد الأشعار فاختلف في ذلك، فمن مانع مطلقا، ومن مجيز مطلقا‏.‏ والأولى التفصيل، وهو أن ينظر إلى الشعر فإن كان مما يقتضي الثناء على الله عز وجل أو على رسوله صلى الله عليه وسلم أو الذب عنهما كما كان شعر حسان، أو يتضمن الحض على الخير والوعظ والزهد في الدنيا والتقلل منها، فهو حسن في المساجد وغيرها؛ كقول القائل‏:‏

طوفي يا نفس كي أقصد فردا صمدا وذريني لست أبغي غير ربي أحدا

فهو أنسي وجليسي ودعي الناس فما إن تجدي من دونه ملتحدا

وما لم يكن كذلك لم يجز؛ لأن الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب والتزين بالباطل، ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللغو والهذر، والمساجد منزهة عن ذلك؛ لقوله ‏{‏قي بيوت أذن الله أن ترفع‏}‏‏.‏ وقد يجوز إنشاده في المسجد؛ كقول القائل‏:‏

كفحل العداب القرد يضربه الندى تعلى الندى في متنه وتحدرا

وقول الآخر‏:‏

إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا

فهذا النوع وإن لم يكن فيه حمد ولا ثناء يجوز؛ لأنه خال عن الفواحش والكذب‏.‏ وسيأتي ذكر الأشعار الجائزة وغيرها بما فيه كفاية في -الشعراء-إن شاء الله تعالى‏.‏ وقد روي الدارقطني من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ذكر الشعراء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏هو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح‏)‏‏.‏ وفي الباب عن عبدالله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏"‏ذكره في السنن‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وأصحاب الشافعي يأثرون هذا الكلام عن الشافعي وأنه لم يتكلم به غيره؛ وكأنهم لم يقفوا على الأحاديث في ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأما رفع الصوت فإن كان مما يقتضي مصلحة للرافع صوته دعي عليه بنقيض قصده؛ لحديث بريرة المتقدم، وحديث أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا‏)‏‏.‏ وإلى هذا ذهب مالك وجماعة، حتى كرهوا رفع الصوت في المسجد في العلم وغيره‏.‏ وأجاز أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن مسلمة من أصحابنا رفع الصوت في الخصومة والعلم؛ قالوا‏:‏ لأنهم لا بد لهم من ذلك‏.‏ وهذا مخالف لظاهر الحديث، وقولهم‏:‏ لا بد لهم من ذلك، ممنوع، بل لهم بد من ذلك لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ بملازمة الوقار والحرمة، وبإحضار ذلك بالبال والتحرز من نقيضه‏.‏ والثاني‏:‏ أنه إذا لم يتمكن من ذلك فليتخذ لذلك موضعا يخصه، كما فعل عمر حيث بنى رحبة تسمي البطيحاء، وقال‏:‏ من أراد أن يلغط أو ينشد شعرا - يعني في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فليخرج إلى هذه الرحبة‏.‏ وهذا يدل على أن عمر كان يكره إنشاد الشعر في المسجد، ولذلك بنى البطيحاء خارجه‏.‏

وأما النوم في المسجد لمن احتاج إلى ذلك من رجل أو امرأة من الغرباء ومن لا بيت له فجائز؛ لأن في البخاري - وقال أبو قلابة عن أنس‏:‏ قدم رهط من عكل على النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا في الصفة، وقال عبدالرحمن بن أبي بكر‏:‏ كان أصحاب الصفة فقراء‏.‏ وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ لفظ البخاري‏:‏ وترجم ‏[‏باب نوم المرأة في المسجد‏]‏ وأدخل حديث عائشة في قصة السوداء التي اتهمها أهلها بالوشاح، قالت عائشة‏:‏ وكان لها خباء في المسجد أو حفش‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ ويقال‏:‏ كان مبيت عطاء بن أبي رباح في المسجد أربعين سنة‏.‏

‏"‏روى مسلم عن أحمد أو عن أبي أسيد‏"‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللهم إني أسألك من فضلك‏)‏‏.‏ ‏"‏خرجه أبو داود‏"‏ كذلك؛ إلا أنه زاد بعد قوله‏:‏ ‏(‏إذا دخل أحدكم المسجد‏:‏ فليسلم وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليقل اللهم افتح لي‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ و‏"‏روى ابن ماجه عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال‏:‏ ‏(‏باسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال باسم الله والصلاة على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وفضلك ‏.‏ و‏"‏روى عن أبي هريرة‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم‏)‏‏.‏ ‏"‏وخرج أبو داود عن حيوة بن شريح‏"‏ قال‏:‏ لقيت عقبة بن مسلم فقلت له بلغني أنك حدثت عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال‏:‏ ‏(‏أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم‏)‏ قال نعم‏.‏ قال‏:‏ فإذا قال ذلك قال الشيطان حفظ مني سائر اليوم‏.‏

‏"‏روى مسلم عن أبي قتادة‏"‏ أن رسول الله صلى عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس‏)‏ وعنه قال‏:‏ دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهراني الناس، قال فجلست فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس‏)‏‏؟‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، رأيتك جالسا والناس جلوس‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين‏)‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ فجعل صلى الله عليه وسلم للمسجد مزية يتميز بها عن سائر البيوت، وهو ألا يجلس حتى يركع‏.‏ وعامة العلماء على أن الأمر بالركوع على الندب والترغيب‏.‏ وقد ذهب داود وأصحابه إلى أن ذلك على الوجوب؛ وهذا باطل، ولو كان الأمر على ما قالوه لحرم دخول المسجد على المحدث الحدث الأصغر حتى يتوضأ، ولا قائل به فيما أعلم، والله أعلم‏.‏ فإن قيل‏:‏ فقد ‏"‏روى إبراهيم بن يزيد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين وإذا دخل أحدكم بيته فلا يجلس حتى يركع ركعتين فإن الله جاعل من ركعتيه في بيته خيرا‏)‏، وهذا يقتضي التسوية بين المسجد والبيت‏.‏ قيل‏:‏ هذه الزيادة في الركوع عند دخول البيت لا أصل لها؛ قال ذلك البخاري‏.‏ وإنما يصح في هذا حديث أبي قتادة الذي تقدم لمسلم، وإبراهيم هذا لا أعلم ‏"‏روى عنه إلا سعد بن عبدالحميد، ولا أعلم له إلا هذا الحديث الواحد؛ قاله أبو محمد عبدالحق‏.‏

روى سعيد بن زبان حدثني أبي عن أبيه عن جده عن أبي هند رضي الله عنه قال‏:‏ حمل تميم - يعني الداري - من الشام إلى المدينة قناديل وزيتا ومقطا، فلما انتهى إلى المدينة وافق ذلك ليلة الجمعة فأمر غلاما يقال له أبو البزاد فقام فنشط المقط وعلق القناديل وصب فيها الماء والزيت وجحل فيها الفتيل؛ فلما غربت الشمس أمر أبا البزاد فأسرجها، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا هو بها تزهر؛ فقال‏:‏ ‏(‏من فعل هذا‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ تميم الداري يا رسول الله؛ فقال‏:‏ ‏(‏نورت الإسلام نور الله عليك في الدنيا والآخرة أما إنه لو كانت لي ابنة لزوجتكها‏)‏‏.‏ قال نوفل بن الحارث‏:‏ لي ابنة يا رسول الله تسمى المغيرة بنت نوفل فافعل بها ما أردت؛ فأنكحه إياها‏.‏ زبان ‏(‏بفتح الزاي والباء وتشديدا بنقطة واحدة من تحتها‏)‏ ينفرد بالتسمي به سعيد وحده، فهو أبو عثمان سعيد بن زبان بن قائد بن زبان بن أبي هند، وأبو هند هذا مولى ابن بياضة حجام النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمقط‏:‏ جمع المقاط، وهو الحبل، فكأنه مقلوب القماط‏.‏ والله أعلم‏.‏ و‏"‏روى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري‏"‏ قال‏:‏ أول من أسرج في المساجد تميم الداري‏.‏ وروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يصلون عليه ويستغفرون له ما دام ذلك الضوء فيه وإن كنس غبار المسجد نقد الحور العين‏)‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ ويستحب أن ينور البيت الذي يقرأ فيه القرآن بتعليق القناديل ونصب الشموع فيه، ويزاد في شهر رمضان في أنوار المساجد‏.‏

قوله ‏{‏يسبح له فيها بالغدو والآصال، رجال‏}‏اختلف العلماء في وصف الله تعالى المسبحين؛ فقيل‏:‏ هم المراقبون أمر الله، الطالبون رضاءه، الذين لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا‏.‏ وقال كثير من الصحابة‏:‏ نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا‏.‏ ورأى سالم بن عبدالله أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة فقال‏:‏ هؤلاء الذين أراد الله بقول‏{‏لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله‏}‏‏.‏ وروي ذلك عن ابن مسعود‏.‏ وقرأ عبدالله بن عامر وعاصم في رواية أبي بكر عنه والحسن ‏{‏يسبح له فيها‏}‏بفتح الباء على ما لم يسم فاعله‏.‏ وكان نافع وابن عمر وأبو عمرو وحمزة يقرؤون ‏{‏يسبح‏}‏بكسر الباء؛ وكذلك روى أبو عمرو عن عاصم‏.‏ فمن قرأ ‏{‏يسبح‏}‏بفتح الباء كان على معنيين‏:‏ أحدهما أن يرتفع ‏{‏رجال‏}‏بفعل مضمر دل عليه الظاهر؛ بمعنى يسبحه رجال؛ فيوقف على هذا على ‏{‏الآصال‏}‏‏.‏ وقد ذكر سيبويه مثل هذا‏.‏ وأنشد‏:‏

ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح

المعنى‏:‏ يبكيه ضارع‏.‏ وعلى هذا تقول‏:‏ ضرب زيد عمرو؛ على معنى ضربه عمرو‏.‏ والوجه الآخر‏:‏ أن يرتفع ‏{‏رجال‏}‏بالابتداء، والخبر ‏{‏في بيوت‏}‏؛ أي في بيوت أذن الله أن ترفع رجال‏.‏ و‏{‏يسبح له فيها‏}‏حال من الضمير في ‏{‏ترفع‏}‏؛ كأنه قال‏:‏ أن ترفع؛ مسبحا له فيها، ولا يوقف على ‏{‏الآصال‏}‏على هذا التقدير‏.‏ ومن قرأ ‏{‏يسبح‏}‏بكسر الباء لم يقف على ‏{‏الآصال‏}‏؛ لأن ‏{‏يسبح‏}‏فعل للرجال، والفعل مضطر إلى فاعله ولا إضمار فيه‏.‏ وقد تقدم القول في ‏{‏الغدو والآصال‏}‏في آخر - الأعراف - والحمد لله وحده‏.‏

قوله ‏{‏يسبح له فيها‏}‏قيل‏:‏ معناه يصلي‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كل تسبيح في القرآن صلاة؛ ويدل عليه قوله ‏{‏بالغدو والآصال‏}‏، أي بالغداة والعشي‏.‏ وقال أكثر المفسرين‏:‏ أراد الصلاة المفروضة؛ فالغدو صلاة الصبح، والآصال صلاة الظهر والعصر والعشائين؛ لأن اسم الآصال يجمعها‏.‏

‏"‏روى أبو داود عن أبي أمامة‏"‏ أن رسول الله صلى عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره المعتمر وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين‏)‏‏.‏ وخرج عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح‏)‏‏.‏ في غير الصحيح من الزيادة ‏(‏كما أن أحدكم لو زار من يحب زيارته لاجتهد في كرامته‏)‏؛ ذكره الثعلبي‏.‏‏"‏ وخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه‏"‏ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة‏)‏‏.‏ وعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون اللهم ارحمه اللهم اغفر له اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه‏)‏‏.‏ في رواية‏:‏ ما يحدث‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يفسو أو يضرط‏)‏‏.‏ وقال حكيم بن زريق‏:‏ قيل لسعيد بن المسيب أحضور الجنازة أحب إليك أم الجلوس في المسجد‏؟‏ فقال‏:‏ من صلى على جنازة فله قيراط، ومن شهد دفنها فله قيراطان؛ والجلوس في المسجد أحب إلي لأن الملائكة تقول‏:‏ اللهم اغفر له اللهم أرحمه اللهم تب عليه‏.‏ وروي عن الحكم بن عمير صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كونوا في الدنيا أضيافا واتخذوا المساجد بيوتا وعودوا قلوبكم الرقة وأكثروا التفكر والبكاء ولا تختلف بكم الأهواء‏.‏ تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون‏)‏‏.‏ وقال أبو الدرداء لابنه‏:‏ ليكن المسجد بيتك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن المساجد بيوت المتقين ومن كانت المساجد بيته ضمن الله تعالى له الروح والراحة والجواز على الصراط ‏(‏

وكتب أبو صادق الأزدي إلى شعيب بن الحبحاب‏:‏ أن عليك بالمساجد فالزمها؛ فإنه بلغني أنها كانت مجالس الأنبياء‏.‏ وقال أبو إدريس الخولاني‏:‏ المساجد مجالس الكرام من الناس‏.‏ وقال مالك بن دينار‏:‏ بلغني أن الله تبارك وتعالى يقول‏:‏ ‏(‏إني أهم بعذاب عبادي فأنظر إلى عمار المساجد وجلساء القرآن وولدان الإسلام فيسكن غضبي‏)‏‏.‏ وروي عنه عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏سيكون في آخر الزمان رجال يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا حلقا ذكرهم الدنيا وحبها فلا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة‏)‏‏.‏ وقال ابن المسيب‏:‏ من جلس في مسجد فإنما يجالس ربه، فما حقه أن يقول إلا خيرا‏.‏ وقد مضى من تعظيم المساجد وحرمتها ما فيه كفاية‏.‏ وقد جمع بعض العلماء في ذلك خمس عشرة خصلة، فقال‏:‏ من حرمة المسجد أن يسلم وقت الدخول إن كان القوم جلوسا، وإن لم يكن في المسجد أحد قال‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأن يركع ركعتين قبل أن يجلس، وألا يشتري فيه ولا يبيع، ولا يسل فيه سهما ولا سيفا، ولا يطلب فيه ضالة، ولا يرفع فيه صوتا بغير ذكر الله تعالى، ولا يتكلم فيه بأحاديث الدنيا، ولا يتخطى رقاب الناس، ولا ينازع في المكان، ولا يضيق على أحد في الصف، ولا يمر بين يدي مصل، ولا يبصق، ولا يتنخم، ولا يتمخط فيه، ولا يفرقع أصابعه، ولا يعبث بشيء من جسده، وأن ينزه عن النجاسات والصبيان والمجانين، وإقامة الحدود، وأن يكثر ذكر الله تعالى ولا يغفل عنه‏.‏ فإذا فعل هذه الخصال فقد أدى حق المسجد، وكان المسجد حرزا له وحصنا من الشيطان الرجيم‏.‏ وفي الخبر ‏(‏أن مسجدا ارتفع بأهله إلى السماء يشكوهم إلى الله لما يتحدثون فيه من أحاديث الدنيا‏)‏‏.‏‏"‏ وروي الدارقطني عن عامر الشعبي‏"‏ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قبلا فيقال لليلتين وأن تتخذ المساجد طرقا وأن يظهر موت الفجأة‏)‏‏.‏ هذا يرويه عبدالكبير بن المعافي عن شريك عن العباس بن ذريح عن الشعبي عن أنس‏.‏ وغيره يرويه عن الشعبي مرسلا، والله أعلم‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ عبدالكبير بن معافي ثقة كان يعد من الأبدال‏.‏ ‏"‏وفي البخاري عن أبي موسى‏"‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها لا يعقر بكفه مسلما‏)‏‏.‏ وخرج مسلم عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها‏)‏‏.‏ وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساوي أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن‏)‏‏.‏ ‏"‏وخرج أبو داود عن الفرج بن فضالة‏"‏ عن أبي سعد الحميري قال‏:‏ رأيت واثلة بن الأسقع في مسجد دمشق بصق على الحصير ثم مسحه برجله؛ فقيل له‏:‏ لم فعلت هذا‏؟‏ قال‏:‏ لأني رأيت رسول الله صلى عليه وسلم يفعله‏.‏ فرج بن فضالة ضعيف، وأيضا فلم يكن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حصر‏.‏ والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بصق على الأرض ودلكه بنعله اليسرى، ولعل واثلة إنما أراد هذا فحمل الحصير عليه‏.‏

لما قال ‏{‏رجال‏}‏وخصهم بالذكر دل على أن النساء لا حظ لهن في المساجد؛ إذ لا جمعة عليهن ولا جماعة، وأن صلاتهن في بيوتهن أفضل‏.‏ ‏"‏روى أبو داود عن عبدالله رضي الله عنه‏"‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها ‏)‏

قوله ‏{‏لا تلهيهم‏}‏أي لا تشغلهم‏.‏ ‏{‏تجارة ولا بيع عن ذكر الله‏}‏خص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلاة‏.‏ فإن قيل‏:‏ فلم كرر ذكر البيع والتجارة تشمله‏.‏ قيل له‏:‏ أراد بالتجارة الشراء لقول‏{‏ولا بيع‏}‏‏.‏ نظيره قوله ‏{‏وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها‏}‏ قال الواقدي‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ التجار هم الجلاب المسافرون، والباعة هم المقيمون‏.‏ ‏{‏عن ذكر الله‏}‏اختلف في تأويله؛ فقال عطاء‏:‏ يعني حضور الصلاة؛ وقال ابن عباس، وقال‏:‏ المكتوبة‏.‏ وقيل عن الأذان؛ ذكره يحيى بن سلام‏.‏ وقيل‏:‏ عن ذكره بأسمائه الحسنى؛ أي يوحدونه ويمجدونه‏.‏ والآية نزلت في أهل الأسواق؛ قال ابن عمر‏.‏ قال سالم‏:‏ جاز عبدالله بن عمر بالسوق وقد أغلقوا حوانيتهم وقاموا ليصلوا في جماعة فقال‏:‏ فيهم نزلت‏}‏رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع‏}‏الآية‏.‏ وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله‏.‏ وقيل‏:‏ إن رجلين كانا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أحدهما بياعا فإذا سمع النداء بالصلاة فإن كان الميزان بيده طرحه ولا يضعه وضعا، وإن كان بالأرض لم يرفعه‏.‏ وكان الآخر قينا يعمل السيوف للتجارة، فكان إذا كانت مطرقته على السندان أبقاها موضوعة، وإن كان قد رفعها ألقاها من وراء ظهره إذا سمع الأذان؛ فأنزل الله تعالى هذا ثناء عليهما وعلى كل من اقتدى بهما‏.‏

قوله ‏{‏وإقام الصلاة‏}‏هذا يدل على أن المراد بقوله ‏{‏عن ذكر الله‏}‏غير الصلاة؛ لأنه يكون تكرارا‏.‏ يقال‏:‏ أقام الصلاة إقامة، والأصل إقواما فقلبت حركة الواو على القاف فانقلبت الواو ألفا وبعدها ألف ساكنة فحذفت إحداهما، وأثبتت الهاء لئلا تحذفها فتجحف، فلما أضيفت قام المضاف مقام الهاء فجاز حذفها، وإن لم تضف لم يجز حذفها؛ ألا ترى أنك تقول‏:‏ وعد عدة، ووزن زنة، فلا يجوز حذف الهاء، لأنك قد حذفت واوا؛ لأن الأصل وعد وعدة، ووزن وزنة، فإن أضفت حذفت الهاء، وأنشد الفراء‏:‏

إن الخليط أجدوا البين فانجردوا وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا

يريد عدة، فحذف الهاء لما أضاف‏.‏ وروي من حديث أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يأتي الله يوم القيامة بمساجد الدنيا كأنها نجب بيض قوائمها من العنبر وأعناقها من الزعفران ورؤوسها من المسك وأزمتها من الزبرجد الأخضر وقوامها والمؤذنون فيها يقودونها وأئمتها يسوقونها وعمارها متعلقون بها فتجوز عرصات القيامة كالبرق الخاطف فيقول أهل الموقف هؤلاء ملائكة مقربون أو أنبياء مرسلون فينادى ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء ولكنهم أهل المساجد والمحافظون على الصلوات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏ وعن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، يعمرون مساجدهم وهي من ذكر الله خراب، شر أهل ذلك الزمن علماؤهم، منهم تخرج الفتنة وإليهم تعود‏)‏ يعني أنهم يعلمون ولا يعملون بواجبات ما علموا‏.‏

قوله ‏{‏وإيتاء الزكاة‏}‏قيل‏:‏ الزكاة المفروضة؛ قاله الحسن‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الزكاة هنا طاعة الله تعالى والإخلاص؛ إذ ليس لكل مؤمن مال‏.‏ ‏{‏يخافون يوما‏}‏يعني يوم القيامة‏.‏ ‏{‏تتقلب فيه القلوب والأبصار‏}‏يعني من هوله وحذر الهلاك‏.‏ والتقلب التحول، والمراد قلوب الكفار وأبصارهم‏.‏ فتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر، فلا هي ترجع إلى أماكنها ولا هي تخرج‏.‏ وأما تقلب الأبصار فالزرق بعد الكحل والعمى بعد البصر‏.‏ وقيل‏:‏ تتقلب القلوب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، والأبصار تنظر من أي ناحية يعطون كتبهم، وإلى أي ناحية يؤخذ بهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن قلوب الشاكين تتحول عما كانت عليه من الشك، وكذلك أبصارهم لرؤيتهم اليقين؛ وذلك مثل قوله ‏{‏فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد‏}‏ فما كان يراه في الدنيا غيا يراه رشدا؛ إلا أن ذلك لا ينفعهم في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ تقلب على جمر جهنم كقوله ‏{‏يوم تقلب وجوههم في النار‏}‏ ، ‏{‏ونقلب أفئدتهم وأبصارهم‏}‏ ‏.‏ في قول من جعل المعنى تقلبها على لهب النار‏.‏ وقيل‏:‏ تقلب بأن تلفحها النار مرة وتنضجها مرة‏.‏ وقيل إن تقلب القلوب وجيبها، وتقلب الأبصار النظر بها إلى نواحي الأهوال‏.‏ ‏{‏ليجزيهم الله أحسن ما عملوا‏}‏فذكر الجزاء على الحسنات، ولم يذكر الجزاء على السيئات وإن كان يجازي عليها لأمرين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه ترغيب، فاقتصر على ذكر الرغبة‏.‏ الثاني‏:‏ أنه في صفة قوم لا تكون منهم الكبائر؛ فكانت صغائرهم مغفورة‏.‏ ‏{‏ويزيدهم من فضله‏}‏يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ ما يضاعفه من الحسنة بعشر أمثالها‏.‏ الثاني‏:‏ ما يتفضل به من غير جزاء‏.‏ ‏{‏والله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏أي من غير أن يحاسبه على ما أعطاه؛ إذ لا نهاية لعطائه‏.‏ وروي أنه لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء مسجد قباء، فحضر عبدالله بن رواحة فقال‏:‏ يا رسول الله، قد أفلح من بنى المساجد‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم يا ابن رواحة‏)‏ قال‏:‏ وصلى فيها قائما وقاعدا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم يا ابن رواحة‏)‏ قال‏:‏ ولم يبت لله إلا ساجدا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم يا ابن رواحة كف عن السجع فما أعطي عبد شرا من طلاقة في لسانه‏)‏؛ ذكره الماوردي‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

‏{‏والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ‏}‏

قوله ‏{‏والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة‏}‏لما ضرب مثل المؤمن ضرب مثل الكافر‏.‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في شيبة بن ربيعة بن عبدشمس، كان يترهب متلمسا للدين، فلما خرج صلى الله عليه وسلم كفر‏.‏ أبو سهل‏:‏ في أهل الكتاب‏.‏ الضحاك‏:‏ في أعمال الخير للكافر؛ كصلة الرحم ونفع الجيران‏.‏ والسراب‏:‏ ما يرى نصف النهار في اشتداد الحر، كالماء في المفاوز يلتصق بالأرض‏.‏ والآل الذي يكون ضحا كالماء إلا أنه يرتفع عن الأرض حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء‏.‏ وسمي السراب سرابا لأنه يسرب أي يجري كالماء‏.‏ ويقال‏:‏ سرب الفحل أي مضى وسار في الأرض‏.‏ ويسمي الآل أيضا، ولا يكون إلا في البرية والحر فيغتر به العطشان‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فكنت كمهريق الذي في سقائه لرقراق آل فوق رابية صلد

وقال آخر‏:‏

فلما كففنا الحرب كانت عهودهم لمع سراب بالفلا متألق

وقال امرؤ القيس‏:‏

ألم أنض المطي بكل خرق أمق الطول لماع السراب

والقيعة جمع القاع؛ مثل جيرة وجار؛ قاله الهروي وقال أبو عبيدة‏:‏ قيعة وقاع واحد؛ حكاه النحاس‏.‏ والقاع ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت، وفيه يكون السراب‏.‏ وأصل القاع الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء، وجمعه قيعان‏.‏ قال الجوهري‏:‏ والقاع المستوي من الأرض؛ والجمع أقوع وأقواع وقيعان، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها؛ والقيعة مثل القاع، وهو أيضا من الواو‏.‏ وبعضهم يقول‏:‏ هو جمع‏.‏ ‏{‏يحسبه الظمآن‏}‏أي العطشان‏.‏ ‏{‏ماء‏}‏أي يحسب السراب ماء‏.‏ ‏{‏حتى إذا جاءه لم يجده شيئا‏}‏مما قدره ووجد أرضا لا ماء فيها‏.‏ وهذا مثل ضربه الله تعالى للكفار، يعولون على ثواب أعمالهم فإذا قدموا على الله تعالى وجدوا ثواب أعمالهم محبطة بالكفر؛ أي لم يجدوا شيئا كما لم يجد صاحب السراب إلا أرضا لا ماء فيها؛ فهو يهلك أو بموت‏.‏ ‏{‏ووجد الله عنده‏}‏أي وجد الله بالمرصاد‏.‏ ‏{‏فوفاه حسابه‏}‏أي جزاء عمله‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

فولى مدبرا يهوي حثيثا وأيقن أنه لاقى الحسابا

وقيل‏:‏ وجد وعد الله بالجزاء على عمله‏.‏ وقيل‏:‏ وجد أمر الله عند حشره؛ والمعنى متقارب‏.‏ وقرئ ‏{‏بقيعات‏}‏‏.‏ المهدوي‏:‏ ويجوز أن تكون الألف مشبعة من فتحه العين‏.‏ ويجوز أن تكون مثل رجل عزه وعزهاة، للذي لا يقرب النساء‏.‏ ويجوز أن يكون جمع قيعة، ويكون على هذا بالتاء في الوصل والوقف‏.‏ وروي عن نافع وأبي جعفر وشيبة ‏{‏الظمآن‏}‏بغير همز، والمشهور عنهما الهمز؛ يقال‏:‏ ظمئ يظمأ ظمأ فهو ظمآن، وإن خففت الهمزة قلت الظمان‏.‏ وقوله ‏{‏والذين كفروا‏}‏ابتداء ‏{‏أعمالهم‏}‏ابتداء ثان‏.‏ والكاف من ‏{‏كسراب‏}‏الخبر، والجملة خبر عن ‏{‏الذين‏}‏‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏أعمالهم‏}‏بدلا من ‏{‏الذين كفروا‏}‏؛ أي وأعمال الذين كفروا كسراب، فحذف المضاف‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 40 ‏)‏

‏{‏أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ‏}‏

قوله ‏{‏أو كظلمات في بحر لجي‏}‏ضرب تعالى مثلا آخر للكفار أي أعمالهم كسراب بقيعة أو كظلمات‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إن شئت مثل بالسراب وإن شئت مثل بالظلمات فـ ‏{‏أو‏}‏للإباحة حسبما تقدم من القول في ‏{‏أو كصيب‏} ‏ُ ‏.‏ وقال الجرجاني‏:‏ الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار والثانية في ذكر كفرهم ونسق الكفر على أعمالهم لأن الكفر أيضا من أعمالهم وقد قال ‏{‏يخرجهم من الظلمات إلى النور‏} ‏ أي من الكفر إلى الإيمان وقال أبو علي‏}‏أو كظلمات‏}‏أو كذي ظلمات ودل على هذا المضاف قوله ‏{‏إذا أخرج يده‏}‏فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف‏.‏ قال القشيري‏:‏ فعند الزجاج التمثيل وقع لأعمال الكفار، وعند الجرجاني لكفر الكافر، وعند أبي علي للكافر‏.‏ وقال ابن عباس في رواية‏:‏ هذا مثل قلب الكافر‏.‏ ‏{‏في بحر لجي‏}‏قيل‏:‏ هو منسوب اللجة، وهو الذي لا يدرك قعره‏.‏ واللجة معظم الماء، والجمع لجج‏.‏ والتج البحر إذا تلاطمت أمواجه؛ ومنه ما روي عن النبي أنه قال‏:‏ ‏(‏من ركب البحر إذا التج فقد برئت منه الذمة‏)‏‏.‏ والتج الأمر إذا عظم واختلط‏.‏ وقوله ‏{‏حسبته لجة‏} ‏ُ أي ما له عمق‏.‏ ولججت السفينة أي خاضت اللجة بضم اللام ‏.‏ فأما اللجة بفتح اللام فأصوات الناس يقول‏:‏ سمعت لجة الناس أي أصواتهم وصخبهم‏.‏ قال أبو النجم‏:‏

في لجة أمسك فلانا عن فل

والتجت الأصوات أي اختلطت وعظمت‏.‏ ‏{‏يغشاه موج‏}‏أي يعلو ذلك البحر اللجي موج‏.‏ ‏{‏من فوقه موج‏}‏أي من فوق الموج موج، ومن فوق هذا الموج الثاني سحاب؛ فيجتمع خوف الموج وخوف الريح وخوف السحاب‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى يغشاه موج من بعده موج؛ فيكون المعنى‏:‏ الموج يتبع بعضه بعضا حتى كأن بعضه فوق بعض، وهو أخوف ما يكون إذا توالى موجه وتقارب ومن فوق هذا الموج سحاب‏.‏ وهو أعظم للخوف من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه قد غطى النجوم التي يهتدي بها‏.‏ الثاني‏:‏ الريح التي تنشأ مع السحاب والمطر الذي ينزل منه‏.‏ ‏{‏ظلمات بعضها فوق بعض‏}‏قرأ ابن محيصن والبزي عن ابن كثير ‏{‏سحاب ظلمات‏}‏بالإضافة والخفض‏.‏ قنبل ‏{‏سحاب‏}‏منونا ‏{‏ظلمات‏}‏بالجر والتنوين‏.‏ الباقون بالرفع والتنوين‏.‏ قال المهدوي‏:‏ من قرأ ‏{‏من فوقه سحاب ظلمات‏}‏بالإضافة فلأن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات فأضيف إليها؛ كما يقال‏:‏ سحاب رحمة إذا ارتفع في وقت المطر‏.‏ ومن قرأ ‏{‏سحاب ظلمات‏}‏جر ‏{‏ظلمات‏}‏على التأكيد لـ‏{‏ظلمات‏}‏الأولى أو البدل منها‏.‏ و‏{‏سحاب‏}‏ابتداء و‏{‏من فوقه‏}‏الخبر‏.‏ ومن قرأ ‏{‏سحاب ظلمات‏}‏فظلمات خبر ابتداء محذوف التقدير‏:‏ هي ظلمات أو هذه ظلمات‏.‏ قال ابن الأنباري‏}‏من فوقه موج‏}‏غير تام؛ لأن قول ‏{‏من فوقه سحاب‏}‏صلة للموج، والوقف على قول ‏{‏من فوقه سحاب‏{‏حسن ثم تبتدئ ‏{‏ظلمات بعضها فوق بعض‏}‏على معنى هي ظلمات بعضها فوق بعض‏.‏ وروي عن أهل مكة أنهم قرؤوا ‏{‏ظلمات‏}‏على معنى أو كظلمات ظلمات بعضها فوق بعض فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على السحاب‏.‏ ثم قيل‏:‏ المراد بهذه الظلمات ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة الليل وظلمة البحر؛ فلا يبصر من كان في هذه الظلمات شيئا ولا كوكبا‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالظلمات الشدائد؛ أي شدائد بعضها فوق بعض‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالظلمات أعمال الكافر، وبالبحر اللجي قلبه، وبالموج فوق الموج ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الرين والختم والطبع على قلبه‏.‏ روي معناه عن ابن عباس وغيره؛ أي لا يبصر بقلبه نور الإيمان، كما أن صاحب الظلمات في البحر إذا أخرج يده لم يكد يراها‏.‏ وقال أبيّ ابن كعب‏:‏ الكافر يتقلب في خمس من الظلمات‏:‏ كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات في النار وبئس المصير‏.‏

قوله ‏{‏إذا أخرج يده‏}‏يعني الناظر‏.‏ ‏{‏لم يكد يراها‏}‏أي من شدة الظلمات‏.‏ قال الزجاج وأبو عبيدة‏:‏ المعنى لم يرها ولم يكد؛ وهو معنى قول الحسن‏.‏ ومعنى ‏{‏لم يكد‏}‏لم يطمع أن يراها‏.‏ وقال الفراء‏:‏ كاد صلة، أي لم يرها؛ كما تقول‏:‏ ما كدت أعرفه‏.‏ وقال المبرد‏:‏ يعني لم يرها إلا من بعد الجهد؛ كما تقول‏:‏ ما كدت أراك من الظلمة، وقد رآه بعد يأس وشدة‏.‏ وقيل‏:‏ معناه قرب من الرؤية ولم ير كما يقال‏:‏ كاد العروس يكون أميرا وكاد النعام يطير وكاد المنتعل يكون راكبا‏.‏ النحاس‏:‏ وأصح الأقوال في هذا أن المعنى لم يقارب رؤيتها، فإذا لم يقارب رؤيتها فلم يرها رؤية بعيدة ولا قريبة‏.‏ ‏{‏ومن لم يجعل الله له نورا‏}‏يهتدي به حين أظلمت عليه الأمور‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أي من لم يجعل الله له دينا فما له من دين، ومن لم يجعل الله له نورا يمشي به يوم القيامة لم يهتد إلى الجنة؛ كقوله ‏{‏ويجعل لكم نورا تمشون به‏} ‏ُ ‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ذلك في الدنيا والمعنى‏:‏ من لم يهده الله لم يهتد‏.‏ وقال مقاتل بن سليمان‏:‏ نزلت في عتبة بن ربيعة، كان يلتمس الدين في الجاهلية، ولبس المسوح، ثم كفر في الإسلام‏.‏ الماوردي‏:‏ في شيبة بن ربيعة، وكان يترهب في الجاهلية ويلبس الصوف ويطلب الدين، فكفر في الإسلام

قلت‏:‏ وكلاهما مات كافرا، فلا يبعد أن يكونا هما المراد بالآية وغيرهما‏.‏ وقد قيل‏:‏ نزلت في عبدالله بن جحش، وكان أسلم وهاجر إلى أرض الحبشة ثم تنصر بعد إسلامه‏.‏ وذكر الثعلبي‏:‏ وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى خلقني من نور وخلق أبا بكر من نوري وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر وخلق المؤمنين من أمتي من نور عمر وخلق المؤمنات من أمتي من نور عائشة فمن لم يحبني ويحب أبا بكر وعمر وعائشة فما له من نور‏)‏‏.‏ فنزلت ‏{‏ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 41 ‏:‏ 42 ‏)‏

‏{‏ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون، ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ‏}‏

قوله ‏{‏ألم تر أن الله‏}‏لما ذكر وضوح الآيات زاد في الحجة والبينات، وبين أن مصنوعاته تدل بتغييرها على أن لها صانعا قادرا على الكمال؛ فله بعثة الرسل، وقد بعثهم وأيدهم بالمعجزات، وأخبروا بالجنة والنار‏.‏ والخطاب في ‏{‏ألم تر‏}‏للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه‏:‏ ألم تعلم؛ والمراد الكل‏.‏ ‏{‏أن الله يسبح له من في السماوات‏}‏من الملائكة‏.‏ ‏{‏والأرض‏}‏من الجن والإنس‏.‏ ‏{‏والطير صافات‏}‏قال مجاهد وغيره‏:‏ الصلاة للإنسان والتسبيح لما سواه من الخلق‏.‏ وقال سفيان‏:‏ للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود‏.‏ وقيل‏:‏ إن ضربها بأجنحتها صلاة، وإن أصواتها تسبيح؛ حكاه النقاش‏.‏ وقيل‏:‏ التسبيح ها هنا ما يرى في المخلوق من أثر الصنعة‏.‏ ومعنى ‏{‏صافات‏}‏مصطفات الأجنحة في الهواء‏.‏ وقرأ الجماعة ‏{‏والطير‏}‏بالرفع عطفا على ‏{‏من‏}‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ويجوز ‏{‏والطير‏}‏بمعنى مع الطير‏.‏ قال النحاس‏:‏ وسمعته يخبر - قمتُ وزيدا - بمعنى مع زيد‏.‏ قال‏:‏ وهو أجود من الرفع‏.‏ قال‏:‏ فإن قلت قمت أنا وزيد، كان الأجود الرفع، ويجوز النصب‏.‏ ‏{‏كل قد علم صلاته وتسبيحه‏}‏يجوز أن يكون المعنى‏:‏ كل قد علم الله صلاته وتسبيحه؛ أي علم صلاة المصلي وتسبيح المسبح‏.‏ ولهذاقال ‏{‏والله عليم بما يفعلون‏}‏أي لا يخفي عليه طاعتهم ولا تسبيحهم‏.‏ ومن هذه الجهة يجوز نصب ‏{‏كل‏}‏عند البصريين والكوفيين بإضمار فعل يفسره ما بعده‏.‏ وقد قيل‏:‏ المعنى قد علم كل مصل ومسبح صلاة نفسه وتسبيحه الذي كلفه‏.‏ وقرأ بعض الناس ‏{‏كل قد علم صلاته وتسبيحه‏}‏غير مسمى الفاعل‏.‏ وذكر بعض النحويين أن بعضهم قرأ ‏{‏كل قد عُلم صلاته وتسبيحه‏}‏؛ فيجوز أن يكون تقديره‏:‏ كل قد علمه الله صلاته وتسبيحه‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ كل قد علم غيره صلاته وتسبيحه أي صلاة نفسه؛ فيكون التعليم الذي هو الإفهام والمراد الخصوص؛ لأن من الناس من لم يعلم‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى كل قد استدل منه المستدل، فعبر عن الاستدلال بالتعليم قاله المهدوي‏.‏ والصلاة هنا بمعنى التسبيح، وكرر تأكيدا؛ كقول ‏{‏يعلم السر والنجوى‏}‏‏.‏ والصلاة قد تسمى تسبيحا؛ قاله القشيري‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 43 ‏:‏ 44 ‏)‏

‏{‏ ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ‏}‏

قوله ‏{‏ألم تر أن الله يزجي سحابا‏}‏ذكر من حججه شيئا آخر؛ أي ألم تر بعيني قلبك‏.‏ ‏{‏يزجي سحابا‏}‏أي يسوق إلى حيث يشاء‏.‏ والريح تزجي السحاب، والبقرة تزجي ولدها أي تسوقه‏.‏ ومنه زجا الخراج يزجو زجاء - ممدودا - إذا تيسرت جبايته‏.‏ وقال النابغة‏:‏

إني أتيتك من أهلي ومن وطني أزجي حشاشة نفس ما بها رمق

وقال أيضا‏:‏

أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليه جامد البرد

‏{‏ثم يؤلف بينه‏}‏أي يجمعه عند انتشائه؛ ليقوى ويتصل ويكثف‏.‏ والأصل في التأليف الهمز، تقول‏:‏ تألف‏.‏ وقرئ ‏{‏يؤلف‏}‏بالواو تخفيفا‏.‏ والسحاب واحد في اللفظ، ولكن معناه جمع؛ ولهذاقال ‏{‏وينشئ السحاب‏}‏ ‏.‏ و‏{‏بين‏}‏لا يقع إلا لاثنين فصاعدا، فكيف جاز بينه‏؟‏ فالجواب أن ‏{‏بينه‏}‏هنا لجماعة السحاب؛ كما تقول‏:‏ الشجر قد جلست بينه لأنه جمع، وذكر الكناية على اللفظ؛ قال معناه الفراء‏.‏ وجواب آخر‏:‏ وهو أن يكون السحاب واحدا فجاز أن يقال بينه لأنه مشتمل على قطع كثيرة، كما قال‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏ بين الدخول فحومل

فأوقع ‏{‏بين‏}‏على الدخول، وهو واحد لاشتماله على مواضع‏.‏ وكما تقول‏:‏ ما زلت أدور بين الكوفة لأن الكوفة أماكن كثيرة؛ قال الزجاج وغيره‏.‏ وزعم الأصمعي أن هذا لا يجوز وكان يروى‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏ بين الدخول وحومل

‏{‏ثم يجعله ركاما‏}‏أي مجتمعا، يركب بعضه بعضا؛ كقوله ‏{‏وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم‏} ‏.‏ والركم جمع الشيء؛ يقال منه‏:‏ ركم الشيء يركمه ركما إذا جمعه وألقى بعضه على بعض‏.‏ وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع‏.‏ والركمة الطين المجموع‏.‏ والركام‏:‏ الرمل المتراكم‏.‏ وكذلك السحاب وما أشبهه‏.‏ ومرتكم الطريق - بفتح الكاف - جادته‏.‏ ‏{‏فترى الودق يخرج من خلاله‏}‏في ‏{‏الودق‏}‏قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه البرق؛ قاله أبو الأشهب العقيلي‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

أثرنا عجاجة وخرجن منها خروج الودق من خلل السحاب

الثاني‏:‏ أنه المطر؛ قاله الجمهور‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها

وقال امرؤ القيس‏:‏

فدمعهما ودق وسح وديمة وسكب وتوكاف وتنهملان

يقال‏:‏ ودقت السحابة فهي وادقة‏.‏ وودق المطر يدق ودقا؛ أي قطر‏.‏ وودقت إليه دنوت منه‏.‏ وفي المثل‏:‏ ودق العير إلى الماء؛ أي دنا منه‏.‏ يضرب لمن خضع للشيء لحرصه عليه‏.‏ والموضع مودق‏.‏ وودقت به ودقا استأنست به‏.‏ ويقال لذات الحافر إذا أرادت الفحل‏:‏ ودقت تدق ودقا، وأودقت واستودقت‏.‏ وأتان ودوق وفرس ودوق، ووديق أيضا، وبها وداق‏.‏ والوديقة‏:‏ شدة الحر‏.‏ وخلال جمع خلل؛ مثل الجبل والجبال، وهي فرجه ومخارج القطر منه‏.‏ وقد تقدم في - البقرة-أن كعبا قال‏:‏ إن السحاب غربال المطر؛ لو لا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض‏.‏ وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو العالية ‏{‏من خلله‏}‏على التوحيد‏.‏ وتقول‏:‏ كنت في خلال القوم؛أي وسطهم‏.‏ ‏{‏وينزل من السماء من جبال فيها من برد‏}‏قيل‏:‏ خلق الله في السماء جبالا من برد، فهو ينزل منها بردا؛ وفيه إضمار، أي ينزل من جبال البرد بردا، فالمفعول محذوف‏.‏ ونحو هذا قول الفراء؛ لأن التقدير عنده‏:‏ من جبال برد؛ فالجبال عنده هي البرد‏.‏ و‏{‏برد‏}‏في موضع خفض؛ ويجب أن يكون على قوله المعنى‏:‏ من جبال برد فيها، بتنوين جبال‏.‏ وقيل‏:‏ إن الله تعالى خلق في السماء جبالا فيها برد؛ فيكون التقدير‏:‏ وينزل من السماء من جبال فيها برد‏.‏ و‏{‏من‏}‏صلة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وينزل من السماء قدر جبال، أو مثل جبال من برد إلى الأرض؛ ‏{‏فمن‏}‏الأولى للغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء، والثانية للتبعيض لأن البرد بعض الجبال، والثالثة لتبيين الجنس لأن جنس تلك الجبال من البرد‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ إن ‏{‏من‏}‏في ‏{‏الجبال‏}‏و‏{‏برد‏}‏زائدة في الموضعين، والجبال والبرد في موضع نصب؛ أي ينزل من السماء بردا يكون كالجبال‏.‏ والله أعلم‏.‏ ‏{‏فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء‏}‏فيكون إصابته نقمة وصرفه نعمة‏.‏ وقد مضى في -البقرة- و‏[‏الرعد‏]‏ أن من قال حين يسمع الرعد‏:‏ سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته عوفي مما يكون في ذلك الرعد‏.‏ ‏{‏يكاد سنا برقه‏}‏أي ضوء ذلك البرق الذي في السحاب ‏{‏يذهب بالأبصار‏}‏من شدة بريقه وضوئه‏.‏ قال الشماخ‏:‏

وما كادت إذا رفعت سناها ليبصر ضوءها إلا البصير

وقال امرؤ القيس‏:‏

يضيء سناه أو مصابيح راهب أهان السليط في الذبال المفتل

فالسنا - مقصور - ضوء البرق‏.‏ والسنا أيضا نبت يتداوى به‏.‏ والسناء من الرفعة ممدود‏.‏ وكذلك قرأ طلحة بن مصرف ‏{‏سناء‏}‏بالمد على المبالغة من شدة الضوء والصفاء؛ فأطلق عليه اسم الشرف‏.‏ قال المبرد‏:‏ السنا - مقصور - وهو اللمع؛ فإذا كان من الشرف والحسب فهو ممدود وأصلهما واحد وهو الالتماع‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف ‏{‏سناء برقه‏}‏قال أحمد بن يحيى‏:‏ وهو جمع برقة‏.‏ قال النحاس‏:‏ البرقة المقدار من البرق، والبرقة المرة الواحدة‏.‏ وقرأ الجحدري وابن القعقاع ‏{‏يُذهب بالأبصار‏}‏بضم الياء وكسر الهاء؛ من الإذهاب، وتكون الباء في ‏{‏بالأبصار‏}‏صلة زائدة‏.‏ الباقون ‏{‏يذهب بالأبصار‏}‏بفتح الياء والهاء، والباء للإلصاق‏.‏ والبرق دليل على تكاثف السحاب، وبشير بقوة المطر، ومحذر من نزول الصواعق‏.‏

قوله ‏{‏يقلب الله الليل والنهار‏}‏قيل‏:‏ تقليبهما أن يأتي بأحدهما بعد الآخر‏.‏ وقيل‏:‏ تقليبهما نقصهما وزيادتهما‏.‏ وقيل‏:‏ هو تغيير النهار بظلمة السحاب مرة وبضوء الشمس أخرى؛ وكذا الليل مرة بظلمة السحاب ومرة بضوء القمر؛ قاله النقاش‏.‏ وقيل‏:‏ تقليبهما باختلاف ما تقدر فيهما من خير وشر ونفع وضر‏.‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏أي في الذي ذكرناه من تقلب الليل والنهار، وأحوال المطر والصيف والشتاء ‏{‏لعبرة‏}‏أي اعتبارا ‏{‏لأولي الأبصار‏}‏أي لأهل البصائر من خلقي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 45 ‏:‏ 46 ‏)‏

‏{‏والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير، لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ‏}‏

قوله ‏{‏والله خلق كل دابة من ماء‏}‏قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي ‏{‏والله خالق كل‏}‏بالإضافة‏.‏ الباقون ‏{‏خلق‏}‏على الفعل‏.‏ قيل‏:‏ إن المعنيين في القراءتين صحيحان‏.‏ أخبر الله عز وجل بخبرين، ولا ينبغي أن يقال في هذا‏:‏ إحدى القراءتين أصح من الأخرى‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ‏{‏خلق‏}‏لشيء مخصوص، وإنما يقال خالق على العموم؛ كما قال الله عز وجل ‏{‏الخالق البارئ‏} ‏.‏ وفي الخصوص ‏{‏الحمد لله الذي خلق السموات والأرض‏} وكذا‏}‏هو الذي خلقكم من نفس واحدة‏} ‏ ‏.‏ فكذا يجب أن يكون ‏{‏والله خلق كل دابة من ماء‏}‏‏.‏ والدابة كل ما دب على وجه الأرض من الحيوان؛ يقال‏:‏ دب يدب فهو داب؛ والهاء للمبالغة‏.‏ وقد تقدم في -البقرة- ‏{‏من ماء‏}‏لم يدخل في هذا الجن والملائكة؛ لأنا لم نشاهدهم، ولم يثبت أنهم خلقوا من ماء، بل في الصحيح ‏(‏إن الملائكة خلقوا من نور والجن من نار‏)‏‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وقال المفسرون‏}‏من ماء‏}‏أي من نطفة‏.‏ قال النقاش‏:‏ أراد أمنية الذكور‏.‏ وقال جمهور النظرة‏:‏ أراد أن خلقة كل حيوان فيها ماء كما خلق آدم من الماء والطين؛ وعلى هذا يتخرج قول النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الذي سأله في غزاة بدر‏:‏ ممن أنتما‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نحن من ماء‏)‏‏.‏ الحديث‏.‏ وقال قوم‏:‏ لا يستثني الجن والملائكة، بل كل حيوان خلق من الماء؛ وخلق النار من الماء، وخلق الريح من الماء؛ إذ أول ما خلق الله تعالى من العالم الماء، ثم خلق منه كل شيء‏.‏

قلت‏:‏ ويدل على صحة هذا قوله ‏{‏فمنهم من يمشي على بطنه‏}‏المشي على البطن للحيات والحوت، ونحوه من الدود وغيره‏.‏ وعلى الرجلين للإنسان والطير إذا مشى‏.‏ والأربع لسائر الحيوان‏.‏ وفي مصحف أبي ‏{‏ومنهم من يمشي على أكثر‏{‏؛ فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان كالسرطان والخشاش؛ ولكنه قرآن لم يثبته إجماع؛ لكن قال النقاش‏:‏ إنما اكتفى في القول بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر؛ لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع، وهي قوام مشيه، وكثرة الأرجل في بعضه زيادة في خلقته، لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلا بل هي محتاج إليها في تنقل الحيوان، وهي كلها تتحرك في تصرفه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ليس في الكتاب ما يمنع من المشي على أكثر من أربع؛ إذ لم يقل ليس منها ما يمشي على أكثر من أربع‏.‏ وقيل فيه إضمار‏:‏ ومنهم من يمشي على أكثر من أربع؛ كما وقع في مصحف أبي‏.‏ والله أعلم‏.‏ و‏{‏دابة‏}‏تشمل من يعقل وما لا يعقل؛ فغلب من يعقل لما اجتمع مع من لا يعقل؛ لأنه المخاطب والمتعبد؛ ولذلك قال ‏{‏فمنهم‏}‏‏.‏ وقال ‏{‏من يمشي‏}‏فأشار بالاختلاف إلى ثبوت الصانع؛ أي لو لا أن للجميع صانعا مختارا لما اختلفوا، بل كانوا من جنس واحد؛ وهو كقوله ‏{‏يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات‏} ‏.‏ ‏{‏إن الله على كل شيء‏}‏مما يريد خلقه ‏{‏قدير‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 47 ‏)‏

‏{‏ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ‏}‏

قوله ‏{‏ويقولون آمنا بالله وبالرسول‏}‏يعني المنافقين، يقولون بألسنتهم آمنا بالله وبالرسول من غير يقين ولا إخلاص‏.‏ ‏{‏وأطعنا‏}‏أي ويقولون ‏{‏وأطعنا‏}‏وكذبوا‏.‏ ‏{‏ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 48 ‏:‏ 50 ‏)‏

‏{‏وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين، أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون ‏}‏

قال الطبري وغيره‏:‏ إن رجلا من المنافقين اسمه بشر كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض فدعاه اليهودي إلى التحاكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المنافق مبطلا، فأبى من ذلك وقال‏:‏ إن محمدا يحيف علينا فلنحكم كعب بن الأشرف فنزلت الآية فيه‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في المغيرة بن وائل من بني أمية كان بينه وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه خصومة في ماء وأرض فامتنع المغيرة أن يحاكم عليا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ إنه يبغضني؛ فنزلت الآية، ذكره الماوردي‏.‏ وقال ‏{‏ليحكم‏}‏ولم يقل ليحكما لأن المعني به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما بدأ بذكر الله إعظاما لله واستفتاح كلام‏.‏

قوله ‏{‏وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين‏}‏أي طائعين منقادين؛ لعلمهم أنه عليه السلام يحكم بالحق‏.‏ يقال‏:‏ أذعن فلان لحكم فلان يذعن إذعانا‏.‏ وقال النقاش‏}‏مذعنين‏}‏خاضعين، ومجاهد‏:‏ مسرعين‏.‏ الأخفش وابن الأعرابي‏:‏ مقرين‏.‏ ‏{‏أفي قلوبهم مرض‏}‏شك وريب‏.‏ ‏{‏أم ارتابوا‏}‏أم حدث لهم شك في نبوته وعدله‏.‏ ‏{‏أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله‏}‏أي يجور في الحكم والظلم‏.‏ وأتي بلفظ الاستفهام لأنه أشد في التوبيخ وأبلغ في الذم؛ كقوله جرير في المدح‏:‏

ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح

‏{‏بل أولئك هم الظالمون‏}‏أي المعاندون الكافرون؛ لإعراضهم عن حكم الله تعالى‏.‏

القضاء يكون للمسلمين إذا كان الحكم بين المعاهد والمسلم ولا حق لأهل الذمة فيه‏.‏ وإذا كان بين ذميين فذلك إليهما‏.‏ فإن جاءا قاضي الإسلام فإن شاء حكم وإن شاء أعرض؛ كما تقدم في المائدة

هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم لأن الله سبحانه ذم من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم فقال ‏{‏أفي قلوبهم مرض‏}‏الآية‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق أو عداوة بين المدعي والمدعى عليه‏.‏ وأسند الزهراوي عن الحسن بن أبي الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من دعاه خصمه إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم ولا حق له‏)‏‏.‏ ذكره الماوردي أيضا‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا حديث باطل‏:‏ فأما قوله ‏(‏فهو ظالم‏)‏فكلام صحيح وأما قوله‏:‏ ‏(‏فلا حق له‏)‏ فلا يصح، ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 51 ‏)‏

‏{‏ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ‏}‏

قوله ‏{‏إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله‏}‏أي إلى كتاب الله وحكم ورسوله‏.‏ ‏{‏أن يقولوا سمعنا وأطعنا‏}‏قال ابن عباس‏:‏ أخبر بطاعة المهاجرين والأنصار، وإن كان ذلك فيما يكرهون؛ أي هذا قولهم، وهؤلاء لو كانوا مؤمنين لكانوا يقولون سمعنا وأطعنا‏.‏ فالقول نصب على خبر كان، واسمها في قوله ‏{‏أن يقولوا‏}‏نحو ‏{‏وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا‏} ‏ُ ‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قول المؤمنين، وكان صلة في الكلام؛ كقوله ‏{‏كيف نكلم من كان في المهد صبيا‏}‏ ُ ‏.‏ وقرأ ابن القعقاع ‏{‏ليحكم بينهم‏}‏غير مسمي الفاعل‏.‏ علي بن أبي طالب ‏{‏إنما كان قول‏}‏بالرفع‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏

‏{‏ ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ‏}‏

قوله ‏{‏ومن يطع الله ورسوله‏}‏فيما أمر به حكم‏.‏ ‏{‏ويخش الله ويتقيه‏}‏قرأ حفص ‏{‏ويتقه‏}‏بإسكان القاف على نية الجزم؛ قال الشاعر‏:‏

ومن يتق فإن الله معه ورزق الله مؤتاب وغادي

وكسرها الباقون، لأن جزمه بحذف آخر‏.‏ وأسكن الهاء أبو عمرو وأبو بكر‏.‏ واختلس الكسرة يعقوب وقالون عن نافع والبستي عن أبي عمرو وحفص‏.‏ وأشبع كسرة الهاء الباقون‏.‏ ‏{‏فأولئك هم الفائزون‏}‏ذكر أسلم أن عمر بينما هو قائم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه وهو يقول‏:‏ أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله‏.‏ فقال له عمر‏:‏ ما شأنك‏؟‏ قال‏:‏ أسلمت لله‏.‏ قال‏:‏ هل لهذا سبب ‏؟‏ قال‏:‏ نعم إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل وكثيرا من كتب الأنبياء، فسمعت أسيرا يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند الله فأسلمت‏.‏ قال‏:‏ ما هذه الآية‏؟‏ قال قوله ‏{‏ومن يطع الله‏}‏في الفرائض ‏{‏ورسوله‏}‏في السنن ‏{‏ويخش الله‏}‏فيما مضى من عمره ‏{‏ويتقه‏}‏فيما بقي من عمره‏}‏فأولئك هم الفائزون‏}‏والفائز من نجا من النار وأدخل الجنة‏.‏ فقال عمر‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أوتيت جوامع الكلم ‏)‏

الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏

‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون ‏}‏

قوله ‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم‏}‏عاد إلى ذكر المنافقين، فإنه لما بين كراهتهم لحكم النبي صلى الله عليه وسلم أتوه فقالوا‏:‏ والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا ونسائنا وأموالنا فخرجنا، ولو أمرتنا بالجهاد لجاهدنا؛ فنزلت هذه الآية‏.‏ أي وأقسموا بالله أنهم يخرجون معك في المستأنف ويطيعون‏.‏ ‏{‏جهد أيمانهم‏}‏أي طاقة ما قدروا أن يحلفوا‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ من حلف بالله فقد أجهد في اليمين‏.‏ وقد مضى في - الأنعام- بيان هذا‏.‏ و‏{‏جهد‏}‏منصوب على مذهب المصدر تقديره‏:‏ إقساما بليغا‏.‏ ‏{‏قل لا تقسموا‏}‏وتم الكلام‏.‏ ‏{‏طاعة معروفة‏}‏أولى بكم من أيمانكم؛ أو ليكن منكم طاعة معروفة، وقول معروف بإخلاص القلب، ولا حاجة إلى اليمين‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المعنى قد عرفت طاعتكم وهي الكذب والتكذيب؛ أي المعروف منكم الكذب دون الإخلاص‏.‏ ‏{‏إن الله خبير بما تعملون‏}‏من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏

‏{‏قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين ‏}‏

قوله ‏{‏قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول‏}‏بإخلاص الطاعة وترك النفاق‏.‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏أي فإن تتولوا، فحذف إحدى التاءين‏.‏ ودل على هذا أن بعده ‏{‏وعليكم‏}‏ولم يقل وعليهم‏.‏ ‏{‏فإنما عليه ما حمل‏}‏أي من تبليغ الرسالة‏.‏ ‏{‏وعليكم ما حملتم‏}‏أي من الطاعة له؛ عن ابن عباس وغيره‏.‏ ‏{‏وإن تطيعوه تهتدوا‏}‏جعل الاهتداء مقرونا بطاعته‏.‏ ‏{‏وما على الرسول إلا البلاغ المبين‏}‏أي التبليغ ‏{‏المبين‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 55 ‏)‏

‏{‏ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ‏}‏

نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ قاله مالك‏.‏ وقيل‏:‏ إن سبب هذه الآية أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شكا جهد مكافحة العدو، وما كانوا فيه من الخوف على أنفسهم، وأنهم لا يضعون أسلحتهم؛ فنزلت الآية‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ مكث رسول صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين بعدما أوحي إليه خائفا هو وأصحابه، يدعون إلى الله سرا وجهرا، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة، وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح‏.‏ فقال رجل‏:‏ يا رسول الله، أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح‏؟‏ فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تلبثون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس عليه حديدة‏)‏‏.‏ ونزلت هذه الآية، وأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فوضعوا السلاح وأمنوا‏.‏ قال النحاس‏:‏ فكان في هذه الآية دلالة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل وعز أنجز ذلك الوعد‏.‏ قال الضحاك في كتاب النقاش‏:‏ هذه تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لأنهم أهل الإيمان وعملوا الصالحات‏.‏ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الخلافة بعدي ثلاثون‏)‏‏.‏ وإلى هذا القول ذهب ابن العربي في أحكامه، واختاره وقال‏:‏ قال علماؤنا هذه الآية دليل على خلافة الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وأن الله استخلفهم ورضي أمانتهم، وكانوا على الدين الذي ارتضى لهم، لأنهم لم يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا، فاستقر الأمر لهم، وقاموا بسياسة المسلمين، وذبوا عن حوزة الدين؛ فنفذ الوعد فيهم، وإذا لم يكن هذا الوعد لهم نجز، وفيهم نفذ، وعليهم ورد، ففيمن يكون إذا، وليس بعدهم مثلهم إلى يومنا هذا، ولا يكون فيما بعده‏.‏ رضي الله عنهم‏.‏ وحكى هذا القول القشيري عن ابن عباس‏.‏ واحتجوا بما رواه سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا‏)‏‏.‏ قال سفينة‏:‏ أمسك عليك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشرا، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي ستا‏.‏ وقال قوم‏:‏ هذا وعد لجميع الأمة في ملك الأرض كلها تحت كلمة الإسلام؛ كما قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها‏)‏‏.‏ واختار هذا القول ابن عطية في تفسيره حيث قال‏:‏ والصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور، واستخلافهم هو أن يملكهم البلاد ويجعلهم أهلها؛ كالذي جرى في الشام والعراق وخراسان والمغرب‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ قلنا لهم هذا وعد عام في النبوة والخلافة وإقامة الدعوة وعموم الشريعة، فنفذ الوعد في كل أحد بقدره وعلى حاله؛ حتى في المفتين والقضاة والأئمة، وليس للخلافة محل تنفذ فيه الموعدة الكريمة إلا من تقدم من الخلفاء‏.‏ ثم ذكر اعتراضا وانفصالا معناه‏:‏ فإن قيل هذا الأمر لا يصح إلا في أبي بكر وحده، فأما عمر وعثمان فقتلا غيلة، وعلي قد نوزع في الخلافة‏.‏ قلنا‏:‏ ليس في ضمن الأمن السلامة من الموت بأي وجه كان، وأما علي فلم يكن نزاله في الحرب مذهبا للأمن، وليس من شرط الأمن رفع الحرب إنما شرطه ملك الإنسان لنفسه باختياره، لا كما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة‏.‏ ثم قال في آخر كلامه‏:‏ وحقيقة الحال أنهم كانوا مقهورين فصاروا قاهرين، وكانوا مطلوبين فصاروا طالبين؛ فهذا نهاية الأمن والعز‏.‏

قلت‏:‏ هذه الحال لم تختص بالخلفاء الأربعة رضي الله عنهم حتى يخصوا بها من عموم الآية، بل شاركهم في ذلك جميع المهاجرين بل وغيرهم‏.‏ ألا ترى إلى إغزاء قريش المسلمين في أحد وغيرها وخاصة الخندق، حتى أخبر الله تعالى عن جميعهم فقال ‏{‏إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا‏.‏ هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا‏} ‏.‏ ثم إن الله رد الكافرين لم ينالوا خيرا، وأمن المؤمنين وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وهو المراد بقوله ‏{‏ليستخلفنهم في الأرض‏}‏‏.‏ وقوله ‏{‏كما استخلف الذين من قبلهم‏}‏يعني بني إسرائيل، إذ أهلك الله الجبابرة بمصر، وأورثهم أرضهم وديارهم فقال ‏{‏وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها‏}‏ ُ ‏.‏ وهكذا كان الصحابة مستضعفين خائفين، ثم إن الله تعالى أمنهم ومكنهم وملكهم، فصح أن الآية عامة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم غير مخصوصة؛ إذ التخصيص لا يكون إلا بخبر ممن يجب له التسليم، ومن الأصل المعلوم التمسك بالعموم‏.‏ وجاء في معنى تبديل خوفهم بالأمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال أصحابه‏:‏ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح‏؟‏ فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تلبثون إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس عليه حديدة‏)‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون‏)‏‏.‏ خرجه مسلم في صحيحه؛ فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم‏.‏ فالآية معجزة النبوة؛ لأنها إخبار عما سيكون فكان‏.‏

قوله ‏{‏ليستخلفنهم في الأرض‏}‏فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ يعني أرض مكة؛ لأن المهاجرين سألوا الله تعالى ذلك فوعدوا كما وعدت بنو إسرائيل؛ قال معناه النقاش‏.‏ الثاني‏:‏ بلاد العرب والعجم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهو الصحيح؛ لأن أرض مكة محرمة على المهاجرين، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لكن البائس سعد بن خولة‏)‏‏.‏ يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة‏.‏ وقال في الصحيح أيضا‏:‏ ‏(‏يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا‏)‏‏.‏ واللام في ‏{‏ليستخلفهم‏}‏جواب قسم مضمر؛ لأن الوعد قول، مجازها‏:‏ قال الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات والله ليستخلفنهم في الأرض فيجعلهم ملوكها وسكانها‏.‏ ‏{‏كما استخلف الذين من قبلهم‏}‏يعني بني إسرائيل، أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم‏.‏ وقراءة العامة ‏{‏كما استخلف‏}‏بفتح التاء واللام؛ لقوله ‏{‏وعد‏}‏‏.‏ وقوله ‏{‏ليستخلفنهم‏}‏‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر وأبو بكر والمفضل عن عاصم ‏{‏استخلف‏}‏بضم التاء وكسر اللام على الفعل المجهول‏.‏ ‏{‏وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم‏}‏وهو الإسلام؛ كما قال ‏{‏ورضيت لكم الإسلام دينا‏}‏ وقد تقدم‏.‏ وروي سليم بن عامر عن المقداد بن الأسود قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما على ظهر الأرض بيت حجر ولا مدر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل أما بعزهم فيجعلهم من أهلها وأما بذلهم فيدينون بها‏)‏‏.‏ ذكره الماوردي حجة لمن قال‏:‏ إن المراد بالأرض بلاد العرب والعجم؛ وهو القول الثاني‏:‏ على ما تقدم آنفا‏.‏ ‏{‏وليبدلنهم‏}‏قرأ ابن محيصن وابن كثير ويعقوب وأبو بكر بالتخفيف؛ من أبدل، وهي قراءة الحسن، واختيار أبي حاتم‏.‏ الباقون بالتشديد؛ من بدل، وهي اختيار أبي عبيد؛ لأنها أكثر ما في القرآن، قال الله ‏{‏لا تبديل لكلمات الله ‏}‏ ‏.‏ وقال ‏}‏وإذا بدلنا آية‏}‏ ونحوه، وهما لغتان‏.‏ قال النحاس‏:‏ وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال‏:‏ قرأ عاصم والأعمش ‏{‏وليبدلنهم‏}‏مشددة، وهذا غلط على عاصم؛ وقد ذكر بعده غلطا أشد منه، وهو أنه حكى عن سائر الناس التخفيف‏.‏ قال النحاس‏:‏ وزعم أحمد بن يحيى أن بين التثقيل والتخفيف فرقا، وأنه يقال‏:‏ بدلته أي غيرته، وأبدلته أزلته وجعلت غيره‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا القول صحيح؛ كما تقول‏:‏ أبدل لي هذا الدرهم، أي أزله وأعطني غيره‏.‏ وتقول‏:‏ قد بدلت بعدنا، أي غيرت؛ غير أنه قد يستعمل أحدهما موضع الآخر؛ والذي ذكره أكثر‏.‏ وقد مضى هذا في - النساء -والحمد لله، وذكرنا في سورة - إبراهيم - الدليل من السنة على أن بدل معناه إزالة العين؛ فتأمله هناك‏.‏ وقرئ ‏{‏عسى ربنا أن يبدلنا‏} ‏ُ مخففا ومثقلا‏.‏ ‏{‏يعبدونني‏}‏هو في موضع الحال؛ أي في حال عبادتهم الله بالإخلاص‏.‏ ويجوز أن يكون استئنافا على طريق الثناء عليهم‏.‏ ‏{‏لا يشركون بي شيئا‏}‏فيه أربعة أقوال‏:‏ أحدها، لا يعبدون إلها غيري؛ حكاه النقاش‏.‏ الثاني، لا يراؤون بعبادتي أحدا‏.‏ الثالث، لا يخافون غيري؛ قاله ابن عباس‏.‏ الرابع، لا يحبون غيري؛ قال مجاهد‏.‏ ‏{‏ومن كفر بعد ذلك‏}‏أي بهذه النعم‏.‏ والمراد كفران النعمة؛ لأنه قال ‏{‏فأولئك هم الفاسقون‏}‏والكافر بالله فاسق بعد هذا الإنعام وقبله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 56 ‏)‏

‏{‏ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ‏}‏

تقدم؛ فأعاد الأمر بالعبادة تأكيدا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 57 ‏)‏

‏{‏لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير ‏}‏

قوله ‏{‏لا تحسبن الذين كفروا‏}‏هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعد بالنصرة‏.‏ وقراءة العامة ‏{‏تحسبن‏}‏بالتاء خطابا‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو حيوة ‏{‏يحسبن‏}‏بالياء، بمعنى لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين الله في الأرض، لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين‏.‏ وهذا قول الزجاج‏.‏ وقال الفراء وأبو علي‏:‏ يجوز أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لا يحسبن محمد الذين كفروا معجزين الأرض‏.‏ فـ ‏{‏الذين‏}‏مفعول أول، و‏{‏معجزين‏}‏مفعول ثان‏.‏ وعلى القول الأول ‏{‏الذين كفروا‏}‏فاعل ‏{‏أنفسهم‏}‏مفعول أول، وهو محذوف مراد ‏{‏معجزين‏}‏مفعول ثان‏.‏ قال النحاس‏:‏ وما علمت أحدا من أهل العربية بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطئ قراءة حمزة؛ فمنهم من يقول‏:‏ هي لحن؛ لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن‏.‏ وممن قال هذا أبو حاتم‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو ضعيف؛ وأجازه على ضعفه، على أنه يحذف المفعول الأول، وقد بيناه‏.‏ قال النحاس‏:‏ وسمعت علي بن سليمان يقول في هذه القراءة‏:‏ يكون ‏{‏الذين كفروا‏}‏في موضع نصب‏.‏ قال‏:‏ ويكون المعنى ولا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض‏.‏

قلت‏:‏ وهذا موافق لما قاله الفراء وأبو علي؛ لأن الفاعل هناك النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي هذا القول الكافر‏.‏ و‏{‏معجزين‏}‏معناه فائتين‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏{‏ومأواهم النار ولبئس المصير‏}‏أي المرجع‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 58 ‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ‏}‏

قال العلماء، هذه الآية خاصة والتي قبلها عامة؛ لأنه قال ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها‏} ثم خص هنا فقال ‏{‏ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم‏}‏فخص في هذه الآية بعض المستأذنين، وكذلك أيضا يتأول القول في الأولى في جميع الأوقات عموما‏.‏ وخص في هذه الآية بعض الأوقات، فلا يدخل فيها عبد ولا أمة؛ وغْداً كان أو ذا منظر إلا بعد الاستئذان‏.‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في أسماء بنت مرثد، دخل عليها غلام لها كبير، فاشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنزلت عليه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ سبب نزولها دخول مدلج على عمر؛ وسيأتي‏.‏

اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى ‏{‏ليستأذنكم‏}‏على ستة أقوال

الأول‏:‏ أنها منسوخة، قاله ابن المسيب وابن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ أنها ندب غير واجبة؛ قاله أبو قلابة، قال‏:‏ إنما أمروا بهذا نظرا لهم‏.‏

الثالث‏:‏ عنى بها النساء؛ قاله أبو عبدالرحمن السلمي‏.‏

الرابع‏:‏ وقال ابن عمر‏:‏ هي في الرجال دون النساء‏.‏

الخامس‏:‏ كان ذلك واجبا، إذ كانوا لا غلق لهم ولا أبواب، ولو عاد الحال لعاد الوجوب حكاه المهدوي عن ابن عباس‏.‏

السادس‏:‏ أنها محكمة واجبة ثابتة على الرجال والنساء؛ وهو قول أكثر أهل العلم؛ منهم القاسم وجابر بن زيد والشعبي‏.‏ وأضعفها قول السلمي لأن ‏{‏الذين‏}‏لا يكون للنساء في كلام العرب، إنما يكون للنساء - اللاتي واللواتي - وقول ابن عمر يستحسنه أهل النظر، لأن ‏{‏الذين‏}‏للرجال في كلام العرب، وإن كان يجوز أن يدخل معهم النساء فإنما يقع ذلك بدليل، والكلام على ظاهره، غير أن في إسناده ليث بن أبي سليم‏.‏ وأما قول ابن عباس ‏"‏فروى أبو داود عن عبيدالله بن أبي يزيد‏"‏ سمع ابن عباس يقول‏:‏ آية لم يؤمر بها أكثر الناس آية الاستئذان وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي‏.‏ قال أبو داود‏:‏ وكذلك رواه عطاء عن ابن عباس ‏{‏يأمر به‏}‏‏.‏ و روى عكرمة أن نفرا من أهل العراق قالوا‏:‏ يا ابن عباس، كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا ولا يعمل بها أحد، قول الله عز وجل ‏{‏يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم‏}‏‏.‏ قال أبو داود‏:‏ قرأ القعنبي إلى ‏{‏عليم حكيم‏}‏قال ابن عباس‏:‏ إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل والرجل على أهله، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير، فلم أر أحدا يعمل بذلك بعد‏.‏

قلت‏:‏ هذا متن حسن، وهو يرد قول سعيد وابن جبير؛ فإنه ليس فيه دليل على نسخ الآية، ولكن على أنها كانت على حال ثم زالت، فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان، بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها‏.‏ و روى وكيع عن سفيان عن موسى بن أبي عائشة عن الشعبي ‏{‏يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم‏}‏قال‏:‏ ليست بمنسوخة‏.‏ قلت‏:‏ إن الناس لا يعملون بها؛ قال‏:‏ الله عز وجل المستعان‏.‏

قال بعض أهل العلم‏:‏ إن الاستئذان ثلاثا مأخوذ من قوله ‏{‏يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات‏}‏قال يزيد‏:‏ ثلاث دفعات‏.‏ قال‏:‏ فورد القرآن في المماليك والصبيان، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجميع‏.‏ قال ابن عبدالبر‏:‏ ما قاله من هذا وإن كان له وجه فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها، والذي عليه جمهورهم في قوله ‏{‏ثلاث مرات‏}‏أي في ثلاث أوقات‏.‏ ويدل على صحة هذا القول ذكره فيها ‏{‏من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء‏}‏‏.‏

أدب الله عز وجل عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها، يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة، وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري‏.‏ فما قبل الفجر وقت انتهاء النوم ووقت الخروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار‏.‏ ووقت القائلة وقت التجرد أيضا وهي الظهيرة، لأن النهار يظهر فيها إذا علا شعاعه واشتد حره‏.‏ وبعد صلاة العشاء وقت التعري للنوم؛ فالتكشف غالب في هذه الأوقات‏.‏ يروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاما من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب ظهيرة ليدعوه، فوجده نائما قد أغلق عليه الباب، فدق عليه الغلام الباب فناداه، ودخل، فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء، فقال عمر‏:‏ وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن؛ ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت، فخر ساجدا شكرا لله‏.‏ وهي مكية‏.‏

قوله ‏{‏والذين لم يبلغوا الحلم منكم‏}‏أي الذين لم يحتلموا من أحراركم؛ قال مجاهد‏.‏ وذكر إسماعيل بن إسحاق كان يقول‏:‏ ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم، على التقديم والتأخير، وأن الآية في الإماء‏.‏ وقرأ الجمهور بضم اللام، وسكنها الحسن بن أبي الحسن لثقل الضمة، وكان أبو عمرو يستحسنها‏.‏ و‏{‏ثلاث مرات‏}‏نصب على الظرف؛ لأنهم لم يؤمروا بالاستئذان ثلاثا، إنما أمروا بالاستئذان في ثلاثة مواطن، والظرفية في ‏{‏ثلاث‏}‏بينة‏:‏ من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن صلاة العشاء‏.‏ وقد مضى معناه‏.‏ ولا يجب أن يستأذن ثلاث مرات في كل وقت‏.‏ ‏{‏ثلاث عورات لكم‏}‏قرأ جمهور السبعة ‏{‏ثلاث عورات‏}‏برفع ‏{‏ثلاث‏}‏‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ‏{‏ثلاث‏}‏بالنصب على البدل من الظرف في قوله ‏{‏ثلاث مرات‏}‏‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ النصب ضعيف مردود‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الرفع أحب إلي‏.‏ قال‏:‏ وإنما اخترت الرفع لأن المعنى‏:‏ هذه الخصال ثلاث عورات‏.‏ والرفع عند الكسائي بالابتداء، والخبر عنده ما بعده، ولم يقل بالعائد، وقال نصا بالابتداء‏.‏ قال‏:‏ والعورات الساعات التي تكون فيها العورة؛ إلا أنه قرأ بالنصب، والنصب فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه مردود على قوله ‏{‏ثلاث مرات‏}‏؛ ولهذا استبعده الفراء‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات؛ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه‏.‏ و‏{‏عورات‏}‏جمع عورة، وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات بفتح العين كجفنة وجفنات، ونحو ذلك، وسكنوا العين في المعتل كبيضة وبيضات؛ لأن فتحه داع إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك؛ فأما قول الشاعر‏:‏

أبو بيضات رائح متأوب رفيق بمسح المنكبين سبوح

فشاذ‏.‏

قوله ‏{‏ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن‏}‏أي في الدخول من غير أن يستأذنوا وإن كنتم متبذلين‏.‏ ‏{‏طوافون‏}‏بمعنى هم طوافون‏.‏ قال الفراء‏:‏ كقولك في الكلام إنما هم خدمكم وطوافون عليكم‏.‏ وأجاز الفراء نصب ‏{‏طوافين‏}‏لأنه نكرة، والمضمر في ‏{‏عليكم‏}‏معرفة‏.‏ ولا يجيز البصريون أن يكون حالا من المضمرين اللذين في ‏{‏عليكم‏}‏وفي ‏{‏بعضكم‏}‏لاختلاف العاملين‏.‏ ولا يجوز مررت يزيد ونزلت على عمرو العاقلين، على النعت لهما‏.‏ فمعنى ‏{‏طوافون عليكم‏}‏أي يطوفون عليكم وتطوفون عليهم؛ ومنه الحديث في الهرة ‏(‏إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات‏)‏‏.‏ فمنع في الثلاث العورات من دخولهم علينا؛ لأن حقيقة العورة كل شيء لا مانع دونه، ومنه قوله ‏{‏إن بيوتنا عورة‏} أي سهلة للمدخل، فبين العلة الموجبة للإذن، وهي الخلوة في حال العورة؛ فتعين امتثاله وتعذر نسخه‏.‏ ثم رفع الجناح بقوله ‏{‏ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض‏}‏أي يطوف بعضكم على بعض‏.‏ ‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات‏}‏الكاف في موضع نصب؛ أي يبين الله لكم آياته الدالة على متعبداته بيانا مثل ما يبين لكم هذه الأشياء‏.‏ ‏{‏والله عليم حكيم‏}‏تقدم‏.‏

قوله ‏{‏ومن بعد صلاة العشاء‏}‏يريد العتمة‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل‏)‏‏.‏ وفي رواية ‏(‏فإنها في كتاب الله العشاء وإنها تعتم بحلاب الإبل‏)‏‏.‏ ‏"‏وفي البخاري عن أبي برزة‏"‏‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء‏.‏ وقال أنس‏:‏ أخر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء‏.‏ وهذا يدل على العشاء الأولى‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ فصلاها، يعني العصر بين العشاءين المغرب والعشاء‏.‏‏"‏ وفي الموطأ وغيره‏"‏‏:‏ ‏(‏ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا‏)‏‏.‏ وفي مسلم عن جابر بن سمرة قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات نحوا من صلاتكم، وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئا، وكان يخف الصلاة‏.‏ وقال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ وهذه أخبار متعارضة، لا يعلم منها الأول من الآخر بالتاريخ، ونهيه عليه السلام عن تسمية المغرب عشاء وعن تسمية العشاء عتمة ثابت، فلا مرد له من أقوال الصحابة فضلا عمن عداهم‏.‏ وقد كان ابن عمر يقول‏:‏ من قال صلاة العتمة فقد أثم‏.‏ وقال ابن القاسم قال مالك‏}‏ومن بعد صلاة العشاء‏}‏فالله سماها صلاة العشاء فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن تسمي بما سماها الله تعالى به ويعلمها الإنسان أهله وولده، ولا يقال عتمة إلا عند خطاب من لا يفهم وقد قال حسان‏:‏

وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء

فدع هذا ولكن من لطيف يؤرقني إذا ذهب العشاء

وقد قيل‏:‏ إن هذا النهي عن اتباع الأعراب في تسميتهم العشاء عتمة، إنما كان لئلا يعدل بها عما سماها الله تعالى في كتابه إذقال ‏{‏ومن بعد صلاة العشاء‏}‏؛ فكأنه نهيُ إرشاد إلى ما هو الأولى، وليس على جهة التحريم، ولا على أن تسميتها العتمة لا يجوز‏.‏ ألا ترى أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أطلق عليها ذلك، وقد أباح تسميتها بذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما‏.‏ وقيل‏:‏ إنما نهى عن ذلك تنزيها لهذه العبادة الشريفة الدينية عن أن يطلق عليها ما هو اسم لفعلة دنيوية، وهي الحلبة التي كانوا يحلبونها في ذلك الوقت ويسمونها العتمة؛ ويشهد لهذا قوله‏:‏ ‏(‏فإنها تعتم بحلاب الإبل ‏)‏

‏"‏روى ابن ماجه في سننه‏"‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمارة بن غزية عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول‏:‏ ‏(‏من صلى في جماعة أربعين ليلة لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء كتب الله بها عتقا من النار‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله‏)‏‏.‏ ‏"‏وروى الدارقطني في سننه عن سبيع‏"‏ أو تبيع عن كعب قال‏:‏ من توضأ فأحسن الوضوء وصلى العشاء الآخرة وصلى بعدها أربع ركعات فأتم ركوعهن وسجودهن ويعلم ما يقترئ فيهن كن له بمنزلة ليلة القدر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 59 ‏)‏

‏{‏وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم ‏}‏

قرأ الحسن ‏{‏الحلم‏}‏فحذف الضمة لثقلها‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الأطفال أمروا بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة؛ وأبيح لهم الأمر في غير ذلك كما ذكرنا‏.‏ ثم أمر تعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا الحلم على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت‏.‏ وهذا بيان من الله عز وجل لأحكامه وإيضاح حلاله وحرامه، وقال ‏{‏فليستأذنوا‏}‏ولم يقل فليستأذنوكم‏.‏ وقال في الأولى ‏{‏ليستأذنكم‏}‏لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ قلت لعطاء ‏{‏وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا‏}‏قال‏:‏ واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا، أحرارا كانوا أو عبيدا‏.‏ وقال أبو إسحاق الفزاري‏:‏ قلت للأوزاعي ما حد الطفل الذي يستأذن‏؟‏ قال‏:‏ أربع سنين، قال لا يدخل على امرأة حتى يستأذن‏.‏ وقال الزهري‏:‏ أي يستأذن الرجل على أمه وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 60 ‏)‏

‏{‏ والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم ‏}‏

قوله ‏{‏والقواعد من النساء‏}‏القواعد واحدتها قاعد، بلا هاء؛ ليدل حذفها على أنه قعود الكبر، كما قالوا‏:‏ امرأة حامل؛ ليدل بحذف الهاء أنه حمل حبل‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فلو أن ما في بطنه بين نسوة حبلن وإن كن القواعد عقرا

وقالوا في غير ذلك‏:‏ قاعدة في بيتها، وحاملة على ظهرها، بالهاء‏.‏ والقواعد أيضا‏:‏ إساس البيت واحدة قاعدة، بالهاء‏.‏

القواعد‏:‏ العجز اللواتي قعدن عن التصرف من السن، وقعدن عن الولد والمحيض؛ هذا قول أكثر العلماء‏.‏ قال ربيعة‏:‏ هي التي إذا رأيتها تستقذرها من كبرها‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ اللاتي قعدن عن الولد؛ وليس ذلك بمستقيم، لأن المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع، قاله المهدوي‏.‏

قوله ‏{‏فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن‏}‏إنما خص القواعد بذلك لانصراف الأنفس عنهن؛ إذ لا يذهب للرجال فيهن، فأبيح لهن ما لم يبح لغيرهن، وأزيل عنهم كلفة التحفظ المتعب لهن‏.‏

قرأ ابن مسعود وأبي وابن عباس ‏{‏أن يضعن من ثيابهن‏}‏بزيادة ‏{‏من‏}‏قال ابن عباس‏:‏ وهو الجلباب‏.‏ وروي عن ابن مسعود أيضا ‏{‏من جلابيبهن‏}‏والعرب تقول‏:‏ امرأة واضع، للتي كبرت فوضعت خمارها‏.‏ وقال قوم‏:‏ الكبيرة التي أيست من النكاح، لو بدا شعرها فلا بأس؛ فعلى هذا يجوز لها وضع الخمار‏.‏ والصحيح أنها كالشابة في التستر؛ إلا أن الكبيرة تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع والخمار، قاله ابن مسعود وابن جبير وغيرهما‏.‏

قوله ‏{‏غير متبرجات بزينة‏}‏أي غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة لينظر إليهن؛ فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق‏.‏ والتبرج‏:‏ التكشف والظهور للعيون؛ ومنه‏:‏ بروج مشيدة‏.‏ وبروج السماء والأسوار؛ أي لا حائل دونها يسترها‏.‏ وقيل لعائشة رضي الله عنها‏:‏ يا أم المؤمنين، ما تقولين في الخضاب والصباغ والتمائم والقرطين والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب‏؟‏ فقالت‏:‏ يا معشر النساء، قصتكن قصة امرأة واحدة، أحل الله لكنّ الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكنّ أن يروا منكن محرما‏.‏ وقال عطاء‏:‏ هذا في بيوتهن، فإذا خرجت فلا يحل لها وضع الجلباب‏.‏ وعلى هذا ‏{‏غير متبرجات‏}‏غير خارجات من بيوتهن‏.‏ وعلى هذا يلزم أن يقال‏:‏ إذا كانت في بيتها فلا بدلها من جلبان فوق الدرع، وهذا بعيد، إلا إذا دخل عليها أجنبي‏.‏ ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن، واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلزم الشباب أفضل لهن وخير‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏{‏وأن يتعففن‏}‏بغير سين‏.‏ ثم قيل‏:‏ من التبرج أن تلبس المرأة ثوبين رقيقين يصفانها‏.‏ ‏"‏روى الصحيح عن أبي هريرة‏"‏ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا‏)‏‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وإنما جعلهن كاسيات لأن الثياب عليهن وإنما وصفهن بأنهن عاريات لأن الثواب إذا رق يصفهن، ويبدي محاسنهن؛ وذلك حرام‏.‏

قلت‏:‏ هذا أحد التأويلين للعلماء في هذا المعنى‏.‏ والثاني‏:‏ أنهن كاسيات من الثياب عاريات من لباس التقوى الذي قال الله تعالى فيه‏{‏ولباس التقوى ذلك خير‏}‏‏.‏ وأنشدوا‏:‏

إذا المرء لم يلبس ثياب من التقى تقلب عريانا وإن كان كاسيا

وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره‏)‏ قالوا‏:‏ ماذا أولت ذلك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الدين‏)‏‏.‏ فتأويله صلى الله عليه وسلم القميص بالدين مأخوذ من قوله ‏{‏ولباس التقوى ذلك خير‏}‏‏.‏ والعرب تكني عن الفضل والعفاف بالثياب؛ كما قال شاعرهم‏:‏

ثياب بني عوف طهارى نقية

وقد قال صلى الله عليه وسلم لعثمان‏:‏ ‏(‏إن الله سيلبسك قميصا فإن أرادوك أن تخلعه فلا تخلعه‏)‏‏.‏ فعبر عن الخلافة بالقميص وهي استعارة حسنة معروفة‏.‏

قلت‏:‏ هذا التأويل أصح التأويلين، وهو اللائق بهن في هذه الأزمان، وخاصة الشباب، فإنهن يتزين ويخرجن متبرجات؛ فهن كاسيات بالثياب عاريات من التقوى حقيقة، ظاهرا وباطنا، حيث تبدي زينتها، ولا تبالي بمن ينظر إليها، بل ذلك مقصودهن، وذلك مشاهد في الوجود منهن، فلو كان عندهن شيء من التقوى لما فعلن ذلك، ولم يعلم أحد ما هنالك‏.‏ ومما يقوي هذا التأويل ما ذكر من وصفهن في بقية الحديث في قوله‏:‏ ‏(‏رؤوسهن كأسنمة البخت‏)‏‏.‏ والبخت ضرب من الإبل عظام الأجسام، عظام الأسنمة؛ شبه رؤوسهن بها لما رفعن من ضفائر شعورهن على أوساط رؤوسهن‏.‏ وهذا مشاهد معلوم، والناظر إليهن ملوم‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء‏)‏‏.‏ ‏"‏خرجه البخاري‏"‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 61 ‏)‏

‏{‏ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ‏}‏

قوله ‏{‏ليس على الأعمى حرج‏}‏اختلف العلماء في تأويل هذه الآية على أقوال ثمانية‏.‏ أقربها - هل هي منسوخة أو ناسخة أو محكمة؛ فهذه ثلاثة أقوال‏:‏

الأول‏:‏ أنها منسوخة من قوله ‏{‏ولا على أنفسكم‏}‏إلى آخر الآية؛ قاله عبدالرحمن بن زيد، قال‏:‏ هذا شيء انقطع، كانوا في أول الإسلام ليس على أبوابهم أغلاق، وكانت الستور مرخاة، فربما جاء الرجل فدخل البيت وهو جائع وليس فيه أحد؛ فسوغ الله عز وجل أن يأكل منه، ثم صارت الأغلاق على البيوت فلا يحل لأحد أن يفتحها، فذهب هذا وانقطع‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏‏"‏ خرجه الأئمة‏"‏‏.‏

الثاني‏:‏ أنها ناسخة؛ قاله جماعة‏.‏ ‏"‏روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ لما أنزل الله عز وجل ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏قال المسلمون‏:‏ إن الله عز وجل قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وأن الطعام من أفضل الأموال، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكف الناس عن ذلك؛ فأنزل الله عز وجل ‏{‏ليس على الأعمى حرج - إلى - أو ما ملكتم مفاتحه‏}‏‏.‏ قال‏:‏ هو الرجل يوكل الرجل بضيعته‏.‏

قلت‏:‏ علي بن أبي طلحة هذا هو مولى بني هاشم سكن الشام، يكنى أبا الحسن ويقال أبا محمد، اسم أبيه أبي طلحة سالم، تكلم في تفسيره؛ فقيل‏:‏ إنه لم ير ابن عباس، والله أعلم‏.‏

الثالث‏:‏ أنها محكمة؛ قاله جماعة من أهل العلم ممن يقتدي بقولهم؛ منهم سعيد بن المسيب وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود‏.‏ و‏"‏روى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان المسلمون يوعبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يدفعون مفاتيحهم إلى ضمناهم ويقولون‏:‏ إذا احتجتم فكلوا؛ فكانوا يقولون إنما أحلوه لنا عن غير طيب نفس؛ فأنزل الله عز وجل ‏{‏ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم‏}‏إلى آخر الآية‏.‏ قال النحاس‏:‏ يوعبون أي يخرجون بأجمعهم في المغازي؛ يقال‏:‏ أوعب بنو فلان لبني فلان إذا جاؤوهم بأجمعهم‏.‏ وقال ابن السكيت‏:‏ يقال أوعب بنو فلان جلاء؛ فلم يبق ببلدهم منهم أحد‏.‏ وجاء الفرس بركض وعيب؛ أي بأقصى ما عنده‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏في الأنف إذا استوعب جدعه الدية‏)‏ إذا لم يترك منه شيء‏.‏ واستيعاب الشيء استئصاله‏.‏ ويقال‏:‏ بيت وعيب إذا كان واسعا يستوعب كل ما جعل فيه‏.‏ والضمنى هم الزمنى، واحدهم ضمن زمن‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا القول من أجل ما روي في الآية؛ لما فيه عن الصحابة والتابعين من التوفيق أن الآية نزلت في شيء بعينه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا كلام منتظم لأجل تخلفهم عنهم في الجهاد وبقاء أموالهم بأيديهم، لكن قوله ‏{‏أو ما ملكتم مفاتحه‏}‏قد اقتضاه؛ فكان هذا القول بعيدا جدا‏.‏ لكن المختار أن يقال‏:‏ إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به من المشي؛ وما يتعذر من الأفعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه؛ كالصوم وشروط الصلاة وأركانها، والجهاد ونحو ذلك‏.‏ ثم قال بعد ذلك مبينا‏:‏ وليس عليكم حرج في أن تأكلوا من بيوتكم‏.‏ فهذا معنى صحيح، وتفسير بين مفيد، ويعضده الشرع والعقل، ولا يحتاج في تفسير الآية إلى نقل‏.‏

قلت‏:‏ وإلى هذا أشار ابن عطية فقال‏:‏ فظاهر الآية وأمر الشريعة يدل على أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضي نيتهم فيه الإتيان بالأكمل، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا، فأما ما قال الناس في الحرج‏:‏ قال ابن زيد‏:‏ هو الحرج في الغزو؛ أي لا حرج عليهم في تأخرهم‏.‏ وقوله ‏{‏ولا على أنفسكم‏}‏الآية، معنى مقطوع من الأول‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الآية كلها في معنى المطاعم‏.‏ قالت‏:‏ وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الأعذار؛ فبعضهم كان يفعل ذلك تقذرا لجولان اليد من الأعمى، ولانبساط الجلسة من الأعرج، ولرائحة المريض وعلاته؛ وهي أخلاق جاهلية وكبر، فنزلت الآية مؤذنة‏.‏ وبعضهم كان يفعل ذلك تحرجا من غير أهل الأعذار، إذ هم مقصرون عن درجة الأصحاء في الأكل، لعدم الرؤية في الأعمى، وللعجز عن المزاحمة في الأعرج، ولضعف المريض؛ فنزلت الآية في إباحة الأكل معهم‏.‏ وقال ابن عباس في كتاب الزهراوي‏:‏ إن أهل الأعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم؛ فنزلت الآية مبيحة لهم‏.‏ وقيل‏:‏ كان الرجل إذا ساق أهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئا ذهب به إلى بيوت قرابته؛ فتحرج أهل الأعذار من ذلك؛ فنزلت الآية‏.‏

قوله ‏{‏ولا على أنفسكم‏}‏هذا ابتداء كلام أي ولا عليكم أيها الناس‏.‏ ولكن لما اجتمع المخاطب وغير المخاطب غلب المخاطب لينتظم الكلام‏.‏ وذكر بيوت القربات وسقط منها بيوت الأبناء؛ فقال المسفرون‏:‏ ذلك لأنها داخلة في قوله ‏{‏في بيوتكم‏}‏لأن بيت ابن الرجل بيته وفي الخبر ‏(‏أنت ومالك لأبيك‏)‏‏.‏ لأنه ذكر الأقرباء بعد ولم يذكر الأولاد‏.‏ قال النحاس‏:‏ وعارض بعضهم هذا القول فقال‏:‏ هذا تحكم على كتاب الله تعالى؛ بل الأولى في الظاهر ألا يكون الابن مخالفا لهؤلاء، وليس الاحتجاج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏أنت ومالك لأبيك‏)‏ بقوي لوهي هذا الحديث، وأنه لو صح لم تكن فيه حجة؛ إذ قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم أن مال ذلك المخاطب لأبيه‏.‏ وقد قيل إن المعنى‏:‏ أنت لأبيك، ومالك مبتدأ؛ أي ومالك لك‏.‏ والقاطع لهذا التوارث بين الأب والابن‏.‏ وقال الترمذي الحكيم‏:‏ ووجه قوله ‏{‏ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم‏}‏كأنه يقول مساكنكم التي فيها أهاليكم وأولادكم؛ فيكون للأهل والولد هناك شيء قد أفادهم هذا الرجل الذي له المسكن، فليس عليه حرج أن يأكل معهم من ذلك القوت، أو يكون للزوجة والولد هناك شيء من ملكهم فليس عليه في ذلك حرج‏.‏

قوله ‏{‏أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم‏}‏قال بعض العلماء‏:‏ هذا إذا أذنوا له في ذلك‏.‏ وقال آخرون‏:‏ أذنوا له أو لم يأذنوا فله أن يأكل؛ لأن القرابة التي بينهم هي إذن منهم‏.‏ وذلك لأن في تلك القرابة عطفا تسمح النفوس منهم بذلك العطف أن يأكل هذا من شيئهم ويسروا بذلك إذا علموا‏.‏ ابن العربي‏:‏ أباح لنا الأكل من جهة النسب من غير استئذان إذا كان الطعام مبذولا، فإذا كان محرزا دونهم لم يكن لهم أخذه، ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادخار، ولا إلى ما ليس بمأكول وإن غير محرز عنهم إلا بإذن منهم‏.‏

قوله ‏{‏أو ما ملكتم مفاتحه‏}‏يعني مما اختزنتم وصار في قبضتكم‏.‏ وعظم ذلك ما ملكه الرجل في بيته وتحت غلقه؛ وذلك هو تأويل الضحاك وقتادة ومجاهد‏.‏ وعند جمهور المفسرين يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأجراء‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ عني وكيل الرجل على ضيعته، وخازنه على ماله؛ فيجوز له أن يأكل مما قيم عليه‏.‏ وذكر معمر عن قتادة عن عكرمة قال‏:‏ إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير‏.‏ ابن العربي‏:‏ وللخازن أن يأكل مما يخزن إجماعا؛ وهذا إذا لم تكن له أجرة، فأما إذا كانت له أجرة على الخزن حرم عليه الأكل‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير ‏{‏ملكتم‏}‏بضم الميم وكسر اللام وشدها‏.‏ وقرأ أيضا ‏{‏مفاتيحه‏}‏بياء بين التاء والحاء، جمع مفتاح؛ وقد مضى في - الأنعام -‏.‏ وقرأ قتادة ‏{‏مفتاحه‏}‏على الإفراد‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال‏:‏ تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

قوله ‏{‏أو صديقكم‏}‏الصديق بمعنى الجمع، وكذلك العدو؛ قال الله ‏{‏فإنهم عدو لي‏} .‏ وقال جرير‏:‏

دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا بأسهم أعداء وهن صديق

والصديق من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك‏.‏ ثم قيل‏:‏ إن هذا منسوخ بقوله ‏{‏لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم‏}‏ 33 : 53 ، وقوله ‏{‏فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها‏}‏ الآية، وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ هي محكمة؛ وهو أصح‏.‏ ذكر محمد بن ثور عن معمر قال‏:‏ دخلت بيت قتادة فأبصرت فيه رطبا فجعلت آكله؛ فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقلت‏:‏ أبصرت رطبا في بيتك فأكلت؛ قال‏:‏ أحسنت؛ قال الله ‏{‏أو صديقكم‏}‏‏.‏ وذكر عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله ‏{‏أو صديقكم‏}‏قال‏:‏ إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته لم يكن بذلك بأس‏.‏ وقال معمر قلت لقتادة‏:‏ ألا أشرب من هذا الحب‏؟‏ قال‏:‏ أنت لي صديق‏!‏ فما هذا الاستئذان‏.‏ وكان صلى الله عليه وسلم يدخل حائط أبي طلحة المسمى ببيرحا ويشرب من ماء فيها طيب بغير إذنه، على ما قاله علماؤنا؛ قالوا‏:‏ والماء متملك لأهله‏.‏ وإذا جاز الشرب من ماء الصديق بغير إذنه جاز الأكل من ثماره وطعامه إذا علم أن نفس صاحبه تطيب به لتفاهته ويسير مؤنته، أو لما بينهما من المودة‏.‏ ومن هذا المعنى إطعام أم حرام له صلى الله عليه وسلم إذا نام عندها؛ لأن الأغلب أن ما في البيت من الطعام هو للرجل، وأن يد زوجته في ذلك عارية‏.‏ وهذا كله ما لم يتخذ الأكل خُبنة، ولم يقصد بذلك وقاية ماله، وكان تافها يسيرا‏.‏

قرن الله عز وجل في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة، لأن قرب المودة لصيق‏.‏ قال ابن عباس في كتاب النقاش‏:‏ الصديق أو كد من القرابة؛ ألا ترى استغاثة الجهنميين ‏{‏فما لنا من شافعين‏.‏ ولا صديق حميم‏} ‏.‏

قلت‏:‏ ولهذا لا تجوز عندنا شهادة الصديق لصديقه، كما لا تجوز شهادة القريب لقريبه‏.‏ وقد مضى بيان هذا والعلة فيه في - النساء -‏.‏ وفي المثل - أيهم أحب إليك أخوك أم صديقك - قال‏:‏ أخي إذا صديقي‏.‏

قوله ‏{‏ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا‏}‏قيل‏:‏ إنها نزلت في بني ليث بن بكر، وهم حي من بني كنانة، وكان الرجل منهم لا يأكل وحده ويمكث أياما جائعا حتى يجد من يؤاكله‏.‏ ومنه قول بعض الشعراء‏:‏

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا فإني لست آكله وحدي

قال ابن عطية‏:‏ وكانت هذه السيرة موروثه عندهم عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان لا يأكل وحده‏.‏ وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه؛ فنزلت الآية مبينة سنة الأكل، ومذهبة كل ما خالفها من سيرة العرب، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرما، نحت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه، وإن إحضار الأكيل لحسن، ولكن بألا يحرم الانفراد‏.‏ ‏{‏جميعا‏}‏نصب على الحال‏.‏ و‏{‏أشتاتا‏}‏جمع شت والشت المصدر بمعنى التفرق يقال‏:‏ شت القوم أي تفرقوا‏.‏ وقد ترجم البخاري في صحيحه باب ‏(‏ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج‏)‏ الآية‏.‏ و - النهد والاجتماع - ‏.‏ ومقصوده فيما قاله علماؤنا في هذا الباب‏:‏ إباحة الأكل جميعا وإن اختلفت أحوالهم في الأكل‏.‏ وقد سوغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فصارت تلك سنة في الجماعات التي تدعى إلى الطعام في النهد والولائم وفي الإملاق في السفر‏.‏ وما ملكت مفاتحه بأمانة أو قرابة أو صداقة فلك أن تأكل مع القريب أو الصديق ووحدك‏.‏ والنهد‏:‏ ما يجمعه الرفقاء من مال أو طعام على قدر في النفقة ينفقونه بينهم؛ وقد تناهدوا؛ عن صاحب العين‏.‏ وقال ابن دريد‏:‏ يقال من ذلك‏:‏ تناهد القوم الشيء بينهم‏.‏ الهروي‏:‏ وفي حديث الحسن ‏(‏أخرجوا نهدكم فإنه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم‏)‏‏.‏ النهد‏:‏ ما تخرجه الرفقة عند المناهدة؛ وهو استقسام النفقة بالسوية في السفر وغيره‏.‏ والعرب تقول‏:‏ هات نهدك؛ بكسر النون‏.‏ قال المهلب‏:‏ وطعام النهد لم يوضع للآكلين على أنهم يأكلون بالسواء، وإنما يأكل كل واحد على قدر نهمته، وقد يأكل الرجل أكثر من غيره‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن تركها أشبه بالورع‏.‏ وإن كانت الرفقة تجتمع كل يوم على طعام أحدهم فهو أحسن من النهد لأنهم لا يتناهدون إلا ليصيب كل واحد منهم من ماله، ثم لا يدري لعل أحدهم يقصر عن ماله ويأكل غيره أكثر من ماله وإذا كانوا يوما عند هذا ويوما عند هذا بلا شرط فإنما يكونون أضيافا والضيف يأكل بطيب نفس مما يقدم إليه‏.‏ وقال أيوب السختياني‏:‏ إنما كان النهد أن القوم كانوا يكونون في السفر فيسبق بعضهم إلى المنزل فيذبح ويهيئ الطعام ثم يأتيهم، ثم يسبق أيضا إلى المنزل فيفعل مثل ذلك؛ فقالوا‏:‏ إن هذا الذي تصنع كلنا نحب أن نصنع مثله فتعالوا نجعل بيننا شيئا لا يتفضل بعضنا على بعض، فوضعوا النهد بينهم‏.‏ وكان الصلحاء إذا تناهدوا تحرى أفضلهم أن يزيد على ما يخرجه أصحابه، وإن لم يرضوا بذلك منه إذا علموه فعله سرا دونهم‏.‏

قوله ‏{‏فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون‏}‏اختلف المتأولون في أي البيوت أراد؛ فقال إبراهيم النخعي والحسن‏:‏ أراد المساجد؛ والمعنى‏:‏ سلموا على من فيها من ضيفكم‏.‏ فإن لم يكن في المساجد أحد فالسلام أن يقول المرء‏:‏ السلام على رسول الله‏.‏ وقيل‏:‏ يقول السلام عليكم؛ يريد الملائكة، ثم يقول‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏ وذكر عبدالرزاق أخبرنا معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله ‏{‏فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم‏}‏الآية، قال‏:‏ إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالبيوت البيوت المسكونة؛ أي فسلموا على أنفسكم‏.‏ قال جابر بن عبدالله وابن عباس أيضا وعطاء بن أبي رباح‏.‏ وقالوا‏:‏ يدخل في ذلك البيوت غير المسكونة، ويسلم المرء فيها على نفسه بأن يقول‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ القول بالعموم في البيوت هو الصحيح، ولا دليل على التخصيص؛ وأطلق القول ليدخل تحت هذا العموم كل بيت كان للغير أو لنفسه، فإذا دخل بيتا لغيره أستأذن كما تقدم، فإذا دخل بيتا لنفسه سلم كما ورد في الخبر، يقول‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ قال ابن عمر‏.‏ وهذا إذا كان فارغا، فإن كان فيه أهله وخدمه فليقل‏:‏ السلام عليكم‏.‏ وإن كان مسجدا فليقل‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏ وعليه حمل ابن عمر البيت الفارغ‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والذي أختاره إذا كان البيت فارغا ألا يلزم السلام، فإنه إن كان المقصود الملائكة فالملائكة لا تفارق العبد بحال، أما إنه إذا دخلت بيتك يستحب لك ذكر الله بأن تقول‏:‏ ما شاء الله لا قوة إلا بالله‏.‏ وقد تقدم في سورة ‏[‏الكهف‏]‏‏.‏ وقال القشيري في قوله ‏{‏إذا دخلتم بيوتا‏}‏‏:‏ والأوجه أن يقال إن هذا عام في دخول كل بيت، فإن كان فيه ساكن مسلم يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإن لم يكن فيه ساكن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإن كان في البيت من ليس بمسلم قال السلام على من اتبع الهدى، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏ وذكر ابن خويز منداد قال‏:‏ كتب إلى أبو العباس الأصم قال حدثنا محمد بن عبدالله بن عبدالحكم قال حدثنا ابن وهب قال حدثنا جعفر بن ميسرة عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا دخلتم بيوتا فسلموا على أهلها واذكروا اسم الله فإن أحدكم إذا سلم حين يدخل بيته وذكر اسم الله تعالى على طعامه يقول الشيطان لأصحابه لا مبيت لكم ها هنا ولا عشاء وإذا لم يسلم أحدكم إذا دخل ولم يذكر اسم الله على طعامه قال الشيطان لأصحابه أدركتم المبيت والعشاء ‏(‏

قلت‏:‏ هذا الحديث ثبت معناه مرفوع من حديث جابر، ‏"‏خرجه مسلم‏.‏‏"‏ ‏"‏وفي كتاب أبي داود عن أبي مالك الأشجعي‏"‏ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا ولج الرجل بيته فليقل اللهم إني أسألك خير الولوج وخير الخروج باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا ليسلم على أهله‏(‏

قوله ‏{‏تحية‏}‏مصدر؛ لأن قوله ‏{‏فسلموا‏}‏معناه فحيوا‏.‏ وصفها بالبركة لأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم عليه‏.‏ ووصفها أيضا بالطيب لأن سامعها يستطيبها‏.‏ والكاف من قوله ‏{‏كذلك‏}‏كاف تشبيه‏.‏ و‏{‏ذلك‏}‏إشارة إلى هذه السنن؛ أي كما بين لكم سنة دينكم في هذه الأشياء يبين لكم سائر ما بكم حاجة إليه في دينكم‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 62 ‏)‏

‏{‏ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم ‏}‏

قوله ‏{‏إنما المؤمنون‏}‏‏{‏إنما‏}‏في هذه الآية للحصر؛ المعنى‏:‏ لا يتم ولا يكمل إيمان من آمن بالله ورسول إلا بأن يكون من الرسول سامعا غير معنت في أن يكون الرسول يريد إكمال أمر فيريد هو إفساده بزواله في وقت الجمع، ونحو ذلك‏.‏ وبين تعالى في أول السورة أنه أنزل آيات بينات، وإنما النزول على محمد صلى الله عليه وسلم؛ فختم السورة بتأكيد الأمر في متابعته عليه السلام؛ ليعلم أن أوامره كأوامر القرآن‏.‏

واختلف في الأمر الجامع ما هو؛ فقيل‏:‏ المراد به ما للإمام من حاجة إلى تجمع الناس فيه لإذاعة مصلحة، من إقامة سنة في الدين، أو لترهيب عدو باجتماعهم وللحروب؛ قال الله ‏{‏وشاورهم في الأمر‏} ‏.‏ فإذا كان أمر يشملهم نفعه وضره جمعهم للتشاور في ذلك‏.‏ والإمام الذي يترقب إذنه هو إمام الإمرة، فلا يذهب أحد لعذر إلا بإذنه، فإذا ذهب بإذنه ارتفع عنه الظن السيئ‏.‏ وقال مكحول والزهري‏:‏ الجمعة من الأمر الجامع‏.‏ وإمام الصلاة ينبغي أن يستأذن إذا قدمه إمام الإمرة، إذا كان يرى المستأذن‏.‏ قال ابن سيرين‏:‏ كانوا يستأذنون الإمام على المنبر؛ فلما كثر ذلك قال زياد‏:‏ من جعل يده على فيه فليخرج دون إذن، وقد كان هذا بالمدينة حتى أن سهل بن أبي صالح رعف يوم الجمعة فاستأذن الإمام‏.‏ وظاهر الآية يقتضي أن يستأذن أمير الإمرة الذي هو في مقعد النبوة، فإنه ربما كان له رأي في حبس ذلك الرجل لأمر من أمور الدين‏.‏ فأما إمام الصلاة فقط فليس ذلك إليه؛ لأنه وكيل على جزء من أجزاء الدين للذي هو في مقعد النبوة‏.‏ وروي أن هذه الآية نزلت في حفر الخندق حين جاءت قريش وقائدها أبو سفيان، وغطفان وقائدها عيينة بن حصن؛ فضرب النبي صلى الله عليه وسلم الخندق على المدينة، وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة، فكان المنافقون يتسللون لواذا من العمل ويعتذرون بأعذار كاذبة‏.‏ ونحوه ‏"‏روى أشهب وابن عبدالحكم عن مالك، وكذلك قال محمد بن إسحاق‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت في عمر رضي الله عنه، استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك في الرجعة فأذن له وقال‏:‏ ‏(‏انطلق فو الله ما أنت بمنافق‏)‏ يريد بذلك أن يسمع المنافقين‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إنما استأذن عمر رضي الله عنه في العمرة فقال عليه السلام لما أذن له‏:‏ ‏(‏يا أبا حفص لا تنسنا في صالح دعائك ‏(‏

قلت‏:‏ والصحيح الأول لتناوله جميع الأقوال‏.‏ واختار ابن العربي ما ذكره في نزول الآية عن مالك وابن إسحاق، وأن ذلك مخصوص في الحرب‏.‏ قال‏:‏ والذي يبين ذلك أمران‏:‏ أحدهما‏:‏ قوله في الآية الأخرى ‏}‏قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا‏} ‏ُ ‏.‏ وذلك أن المنافقين كانوا يتلوذون ويخرجون عن الجماعة ويتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله جميعهم بألا يخرج أحد منهم حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وبذلك يتبين إيمانه‏.‏ الثاني‏:‏ قوله ‏{‏لم يذهبوا حتى يستأذنوه‏}‏وأي إذن في الحدث والإمام يخطب، وليس للإمام خيار في منعه ولا إبقائه، وقدقال ‏{‏فأذن لمن شئت منهم‏}‏؛ فبين بذلك أنه مخصوص في الحرب‏.‏

قلت‏:‏ القول بالعموم أولى وأرفع وأحسن وأعلى‏.‏ ‏{‏فأذن لمن شئت منهم‏}‏فكان النبي صلى الله عليه وسلم بالخيار إن شاء أن يأذن وإن شاء منع‏.‏ وقال قتادة‏:‏ قوله ‏{‏فأذن لمن شئت منهم‏}‏منسوخة بقوله ‏{‏عفا الله عنك لم أذنت لهم‏} ‏.‏ ‏{‏واستغفر لهم الله‏}‏أي لخروجهم عن الجماعة إن علمت لهم عذرا‏.‏ ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏



الآية رقم ‏(‏ 63 ‏)‏

‏{‏ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ‏}‏

قوله ‏{‏لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا‏}‏يريد‏:‏ يصيح من بعيد‏:‏ يا أبا القاسم‏!‏ بل عظموه كما قال في الحجرات ‏}‏إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ‏} ‏ الآية‏.‏ وقال سعيد بن جبير ومجاهد‏:‏ المعنى قولوا يا رسول الله، في رفق ولين، ولا تقولوا يا محمد بتجهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أمرهم أن يشرفوه ويفخموه‏.‏ ابن عباس‏:‏ لا تتعرضوا لدعاء الرسول عليكم بإسخاطه فإن دعوته موجبة‏.‏ ‏{‏قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا‏}‏التسلل والانسلال‏:‏ الخروج واللواذ من الملاوذة، وهي أن تستتر بشيء مخافة من يراك؛ فكان المنافقون يتسللون عن صلاة الجمعة‏.‏ ‏{‏لواذا‏}‏مصدر في موضع الحال؛ أي متلاوذين، أي يلوذ بعضهم ببعض، ينضم إليه استتارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة؛ حكاه النقاش، وقد مضى القول فيه‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يتسللون في الجهاد رجوعا عنه يلوذ بعضهم ببعض‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لواذا فرارا من الجهاد؛ ومنه قول حسان‏:‏

وقريش تجول منا لواذا لم تحافظ وخف منها الحلوم

وصحت واوها لتحركها في لاوذ‏.‏ يقال‏:‏ لاوذ يلاوذ ملاوذة ولواذا‏.‏ ولاذ يلوذ لوذا ولياذا؛ انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها اتباعا للاذ في الاعتلال؛ فإذا كان مصدر فاعل لم يعل؛ لأن فاعل لا يجوز أن يعل‏.‏

قوله ‏{‏فليحذر الذين يخالفون عن أمره‏}‏بهذه الآية احتج الفقهاء على أن الأمر على الوجوب‏.‏ ووجهها أن الله تبارك وتعالى قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله ‏{‏أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم‏}‏فتحرم مخالفته، فيجب امتثال أمره‏.‏ والفتنة هنا القتل؛ قاله ابن عباس‏.‏ عطاء‏:‏ الزلازل والأهوال‏.‏ جعفر بن محمد‏:‏ سلطان جائر يسلط عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ الطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول‏.‏ والضمير في ‏{‏أمره‏}‏قيل هو عائد إلى أمر الله تعالى؛ قاله يحيى بن سلام‏.‏ وقيل‏:‏ إلى أمر رسوله عليه السلام؛ قال قتادة‏.‏ ومعنى ‏{‏يخالفون عن أمره‏}‏أي يعرضون عن أمره‏.‏ وقال أبو عبيدة والأخفش‏}‏عن‏}‏في هذا الموضع زائدة‏.‏ وقال الخليل وسيبويه‏:‏ ليست بزائدة؛ والمعنى‏:‏ يخالفون بعد أمره؛ كما قال‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏ لم تنتطق عن تفضل

ومنه قوله ‏{‏ففسق عن أمر ربه‏} ‏ أي بعد أمر ربه‏.‏ و‏{‏أن‏}‏في موضع نصب ‏{‏بيحذر‏}‏‏.‏ ولا يجوز عند أكثر النحويين حذر زيدا، وهو في ‏{‏أن‏}‏جائز؛ لأن حروف الخفض تحذف معها‏.‏



الآية رقم ‏(‏ 64 ‏)‏

‏{‏ ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم ‏}‏

قوله ‏{‏ألا إن لله ما في السماوات والأرض‏}‏خلقا وملكا‏.‏ ‏{‏قد يعلم ما أنتم عليه‏}‏فهو يجازيكم به‏.‏ و‏{‏يعلم‏}‏هنا بمعنى علم‏.‏ ‏{‏ويوم يرجعون إليه‏}‏بعد ما كان في خطاب رجع في خبر وهذا يقال له‏:‏ خطاب التلوين‏.‏ ‏{‏فينبئهم بما عملوا‏}‏أي يخبرهم بأعمالهم ويجازيهم بها‏.‏ ‏{‏والله بكل شيء عليم‏}‏من أعمالهم وأحوالهم
 
سورة الفرقان

مقدمة السورة

مكية كلها في قول الجمهور‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهي ‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر‏}‏ إلى قوله ‏{‏وكان الله غفورا رحيما‏}‏‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هي مدنية، وفيها آيات مكية؛ قوله ‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر‏}‏الآيات‏.‏ ومقصود هذه السورة ذكر موضع عظم القرآن، وذكر مطاعن الكفار في النبوة والرد على مقالاتهم وجهالاتهم؛ فمن جملتها قولهم‏:‏ إن القرآن افتراه محمد، وإنه ليس من عند الله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 1 ‏:‏ 3 ‏)‏

‏{‏ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا، واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ‏‏

قوله ‏{‏تبارك الذي نزل الفرقان‏}‏‏{‏تبارك‏}‏اختلف في معناه؛ فقال الفراء‏:‏ هو في العربية و‏{‏تقدس‏}‏واحد، وهما للعظمة‏.‏ وقال الزجاج‏}‏تبارك‏}‏تفاعل من البركة‏.‏ قال‏:‏ ومعنى البركة الكثرة من كل ذي خير‏.‏ وقيل ‏{‏تبارك‏}‏تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ تعالى عطاؤه، أي زاد وكثر‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى دام وثبت إنعامه‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق؛ من برك الشيء إذا ثبت؛ ومنه برك الجمل والطير على الماء، أي دام وثبت‏.‏ فأما القول الأول فمخلط؛ لأن التقديس إنما هو من الطهارة وليس من ذا في شيء‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ ويقال تبارك الله، ولا يقال متبارك ولا مبارك؛ لأنه ينتهي في أسمائه وصفاته إلى حيث ورد التوقيف‏.‏ وقال الطرماح‏:‏

تباركت لا معط لشيء منعته وليس لما أعطيت يا رب مانع

وقال آخر‏:‏

تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر

قلت‏:‏ قد ذكر بعض العلماء في أسمائه الحسنى المبارك وذكرناه أيضا في كتابنا‏.‏ فإن كان وقع اتفاق على أنه لا يقال فيسلم للإجماع‏.‏ وإن كان وقع فيه اختلاف فكثير من الأسماء اختلف في عده؛ كالدهر وغيره‏.‏ وقد نبهنا على ذلك هنالك، والحمد لله‏.‏

و‏{‏الفرقان‏}‏القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ إنه اسم لكل منزل؛ كماقال ‏{‏ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان‏}‏ ‏.‏ وفي تسميته فرقانا وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر‏.‏ الثاني‏:‏ لأن فيه بيان ما شرع من حلال وحرام؛ حكاه النقاش‏.‏ ‏{‏على عبده‏}‏يريد محمدا صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏ليكون للعالمين نذيرا‏}‏اسم ‏{‏يكون‏}‏فيها مضمر يعود على ‏{‏عبده‏}‏وهو أولى لأنه أقرب إليه‏.‏ ويجوز أن يكون يعود على ‏{‏الفرقان‏}‏‏.‏ وقرأ عبدالله بن الزبير‏{‏على عباده‏}‏‏.‏ ويقال‏:‏ أنذر إذا خوف؛ وقد تقدم في أول -البقرة-‏.‏ والنذير‏:‏ المحذر من الهلاك‏.‏ الجوهري‏:‏ والنذير المنذر، والنذير الإنذار‏.‏ والمراد بـ ‏{‏العالمين‏}‏هنا الإنس والجن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان رسولا إليهما، ونذيرا لهما، وأنه خاتم الأنبياء، ولم يكن غيره عام الرسالة إلا نوح فإنه عم برسالته جميع الإنس بعد الطوفان، لأنه بدأ به الخلق‏.‏

قوله ‏{‏الذي له ملك السماوات والأرض‏}‏عظم تعالى نفسه‏.‏ ‏{‏ولم يتخذ ولدا‏}‏نزه سبحانه وتعالى نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة أولاد الله؛ يعني بنات الله سبحانه وتعالى‏.‏ وعما قالت اليهود‏:‏ عزير ابن الله؛ جل الله تعالى‏.‏ وعما قالت النصارى‏:‏ المسيح ابن الله؛ تعالى الله عن ذلك‏.‏ ‏{‏ولم يكن له شريك في الملك‏}‏كما قال عبدة الأوثان‏.‏ ‏{‏وخلق كل شيء‏}‏لا كما قال المجوس والثنوية‏:‏ إن الشيطان أو الظلمة يخلق بعض الأشياء‏.‏ ولا كما يقول من قال‏:‏ للمخلوق قدرة الإيجاد‏.‏ فالآية رد على هؤلاء‏.‏ ‏{‏فقدره تقديرا‏}‏أي قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد، لا عن سهوة وغفلة، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة، وبعد القيامة، فهو الخالق المقدر؛ فإياه فاعبدوه‏.‏

قوله ‏{‏واتخذوا من دونه آلهة‏}‏ذكر ما صنع المشركون على جهة التعجيب في اتخاذهم الآلهة، مع ما أظهر من الدلالة على وحدانيته وقدرته‏.‏ ‏{‏لا يخلقون شيئا‏}‏يعني الآلهة‏.‏ ‏{‏وهم يخلقون‏}‏لما اعتقد المشركون فيها أنها تضر وتنفع، عبر عنها كما يعبر عما يعقل‏.‏ ‏{‏ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا‏}‏أي لا دفع ضر وجلب نفع، فحذف المضاف‏.‏ وقيل‏:‏ لا يقدرون أن يضروا أنفسهم أو ينفعوها بشيء، ولا لمن يعبدهم، لأنها جمادات‏.‏ ‏{‏ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا‏}‏أي لا يميتون أحدا، ولا يحيونه‏.‏ والنشور‏:‏ الإحياء بعد الموت؛ أنشر الله الموتى فنشروا‏.‏ وقال الأعشى‏:‏

حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر

الآية رقم ‏(‏ 4 ‏:‏ 6 ‏)‏

‏{‏ وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا، وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما ‏}‏

قوله ‏{‏وقال الذين كفروا‏}‏يعني مشركي قريش‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ القائل منهم ذلك النضر بن الحرث؛ وكذا كل ما في القرآن فيه ذكر الأساطير‏.‏ قال محمد بن إسحاق‏:‏ كان مؤذيا للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏إن هذا‏}‏يعني القرآن‏.‏ ‏{‏إلا إفك افتراه‏}‏أي كذب اختلقه‏.‏ ‏{‏وأعانه عليه قوم آخرون‏}‏يعني اليهود؛ قاله مجاهد‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ المراد بقوله ‏{‏قوم آخرون‏}‏أبو فكيهة مولى بني الحضرمي وعداس وجبر، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب‏.‏ وقد مضى في - النحل - ذكرهم‏.‏ ‏{‏فقد جاؤوا ظلما وزورا‏}‏أي بظلم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى فقد أتوا ظلما‏.‏ ‏{‏وقالوا أساطير الأولين‏}‏قال الزجاج‏:‏ واحد الأساطير أسطورة؛ مثل أحدوثة وأحاديث‏.‏ وقال غيره‏:‏ أساطير جمع أسطار؛ مثل أقوال وأقاويل‏.‏ ‏{‏اكتتبها‏}‏يعني محمدا‏.‏ ‏{‏فهي تملى عليه‏}‏أي تلقى عليه وتقرأ ‏{‏بكرة وأصيلا‏}‏حتى تحفظ‏.‏ و‏{‏تملى‏}‏أصله تملل؛ فأبدلت اللام الأخيرة ياء من التضعيف‏:‏ كقولهم‏:‏ تقضى البازي؛ وشبهه‏.‏

قوله ‏{‏قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض‏}‏أي قل يا محمد أنزل هذا القرآن الذي يعلم السر، فهو عالم الغيب، فلا يحتاج إلى معلم‏.‏ وذكر ‏{‏السر‏}‏دون الجهر؛ لأنه من علم السر فهو في الجهر أعلم‏.‏ ولو كان القرآن مأخوذا من أهل الكتاب وغيرهم لما زاد عليها، وقد جاء بفنون تخرج عنها، فليس مأخوذا منها‏.‏ وأيضا ولو كان مأخوذا من هؤلاء لتمكن المشركون منه أيضا كما تمكن محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهلا عارضوه فبطل اعتراضهم من كل وجه‏.‏ ‏{‏إنه كان غفورا رحيما‏}‏يريد غفورا لأوليائه رحيما بهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 7 ‏:‏ 8 ‏)‏

‏{‏ وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ‏}‏

قوله ‏{‏وقالوا‏}‏ذكر شيئا آخر من مطاعنهم‏.‏ والضمير في ‏{‏قالوا‏}‏لقريش؛ وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس مشهور، ذكره ابن إسحاق في السيرة وغيره‏.‏ مضمنه - أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا‏:‏ يا محمد‏!‏ إن كنت تحب الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا؛ فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك رجعوا في باب الاحتجاج معه فقالوا‏:‏ ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام، وتقف بالأسواق‏!‏ فعيروه بأكل الطعام؛ لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكا، وعيروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة والملوك الجبابرة يترفعون عن الأسواق، وكان عليه السلام يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم؛ فقالوا‏:‏ هذا يطلب أن يتملك علينا، فماله يخالف سيرة الملوك؛ فأجابهم الله بقوله، وأنزل على نبيه‏}‏وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق‏}‏ فلا تغتم ولا تحزن، فإنها شكاة ظاهر عنك عارها‏.‏

دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب المعاش‏.‏ وكان عليه السلام يدخلها لحاجته، ولتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته، ويعرض نفسه فيها على القبائل، لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق‏.‏ وفي البخاري في صفته عليه السلام ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق وقد تقدم‏.‏ وذكر السوق مذكور في غير ما حديث، ذكره أهل الصحيح‏.‏ وتجارة الصحابة فيها معروفة، وخاصة المهاجرين؛ كما قال أبو هريرة‏:‏ وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق؛ خرجه البخاري‏.‏ وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في هذه السورة إن شاء الله‏.‏

قوله ‏{‏لولا أنزل إليه ملك‏}‏أي هلا‏.‏ ‏{‏فيكون معه نذيرا‏}‏جواب الاستفهام‏.‏ ‏{‏أو يلقى إليه كنز‏}‏

في موضع رفع؛ والمعنى‏:‏ أو هلا يلقى ‏{‏إليه كنز‏}‏‏{‏أو‏}‏هلا ‏{‏تكون له جنة يأكل منها‏}‏‏{‏يأكل‏}‏بالياء قرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم‏.‏ وقرأ سائر الكوفيين بالنون، والقراءتان حسنتان تؤديان عن معنى، وإن كانت القراءة بالياء أبين؛ لأنه قد تقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحده فأن يعود الضمير عليه أبين؛ ذكره النحاس‏.‏ ‏{‏وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا‏}‏تقدم في ‏{‏سبحان‏}‏والقائل عبدالله بن الزبعرى فيما ذكره الماوردي‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 9 ‏:‏ 10 ‏)‏

‏{‏ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا، تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا ‏}‏

قوله ‏{‏انظر كيف ضربوا لك الأمثال‏}‏أي ضربوا لك هذه الأمثال ليتوصلوا إلى تكذيبك‏.‏ ‏{‏فضلوا‏}‏عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا‏.‏ ‏{‏فلا يستطيعون سبيلا‏}‏إلى تصحيح ما قالوه فيك‏.‏

قوله ‏{‏تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات‏}‏شرط ومجازاة، ولم يدغم ‏{‏جعل لك‏}‏لأن الكلمتين منفصلتان، ويجوز الإدغام لاجتماع المثلين‏.‏ ‏{‏ويجعل لك‏}‏في موضوع جزم عطفا على موضع ‏{‏جعل‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع رفع مقطوعا من الأول‏.‏ وكذلك قرأ أهل الشام‏.‏ وي روى عن عاصم أيضا‏}‏ويجعل لك‏}‏بالرفع؛ أي وسيجعل لك في الآخرة قصورا‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كانت قريش ترى البيت من حجارة قصرا كائنا ما كان‏.‏ والقصر في اللغة الحبس، وسمي القصر قصرا لأن من فيه مقصور عن أن يوصل إليه‏.‏ وقيل‏:‏ العرب تسمى بيوت الطين القصر‏.‏ وما يتخذ من الصوف والشعر البيت‏.‏ حكاه القشيري‏.‏ و‏"‏روى سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة قال‏:‏ قيل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها ولم يعط ذلك من قبلك ولا يعطاه أحد بعدك، وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئا؛ وإن شئت جمعنا لك ذلك في الآخرة؛ فقال‏:‏ ‏(‏يجمع ذلك لي في الآخرة‏)‏ فأنزل الله عز وجل ‏}‏تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا‏}‏‏.‏ ويروى أن هذه الآية أنزلها رضوان خازن الجنان إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وفي الخبر‏:‏ إن رضوان لما نزل سلم على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم قال‏:‏ يا محمد‏!‏ رب العزة يقرئك السلام، وهذا سَفَط - فإذا سفط من نور يتلألأ - يقول لك ربك‏:‏ هذه مفاتيح خزائن الدنيا، مع أنه لا ينقص مالك في الآخرة مثل جناح بعوضة؛ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير له؛ فضرب جبريل بيده الأرض يشير أن تواضع؛ فقال‏:‏ ‏(‏يا رضوان لا حاجة لي فيها الفقر أحب إلي وأن أكون عبدا صابرا شكورا‏)‏‏.‏ فقال رضوان‏:‏ أصبت‏!‏ الله لك‏.‏ وذكر الحديث‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 11 ‏:‏ 14 ‏)‏

‏{‏ بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا، إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا، وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا، لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ‏}‏

قوله ‏{‏بل كذبوا بالساعة‏}‏يريد يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا‏}‏يريد جهنم تتلظى عليهم‏.‏ ‏{‏إذا رأتهم من مكان بعيد‏}‏أي من مسيرة خمسمائة عام‏.‏ ‏{‏سمعوا لها تغيظا وزفيرا‏}‏قيل‏:‏ المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى إذا رأتهم خزانها سمعوا لهم تغيظا وزفيرا حرصا على عذابهم‏.‏ والأول أصح؛ لما روي مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من كذب علي متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا‏)‏ قيل‏:‏ يا رسول الله‏!‏ ولها عينان‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أما سمعتم الله عز وجل يقول‏{‏إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا‏}‏يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول وكلت بكل من جعل مع الله إلها آخر فلهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه‏)‏ في رواية ‏(‏فيخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم‏)‏ ذكره رَزين في كتابه، وصححه ابن العربي في قبسه، وقال‏:‏ أي تفصلهم عن الخلق في المعرفة كما يفصل الطائر حب السمسم من التربة‏.‏ وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏(‏يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق بقول إني وكلت بثلاث بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين‏)‏‏.‏ وفي الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن غريب صحيح‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ سمعوا لها تغيظا كتغيظ بني آدم وصوتا كصوت الحمار‏.‏ وقيل‏:‏ فيه تقديم وتأخير، سمعوا لها زفيرا وعلموا لها تغيظا‏.‏ وقال قطرب‏:‏ التغيظ لا يسمع، ولكن يرى، والمعنى‏:‏ رأوا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا؛ كقول الشاعر‏:‏

ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا

أي وحاملا رمحا‏.‏ وقيل ‏{‏سمعوا لها‏}‏أي فيها؛ أي سمعوا فيها تغيظا وزفيرا للمعذبين‏.‏ كما قال ‏{‏لهم فيها زفير وشهيق‏}‏ و في واللام يتقاربان؛ تقول‏:‏ أفعل هذا في الله ولله‏.‏ ‏{‏وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين‏}‏قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن عبدالله كان يقول‏:‏ إن جهنم لتضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح؛ ذكره ابن المبارك في رقائقه‏.‏ وكذا قال ابن عباس، ذكره الثعلبي والقشيري عنه، وحكاه الماوردي عن عبدالله بن عمرو‏.‏ ومعنى ‏{‏مقرنين‏}‏مكتفين؛ قاله أبو صالح‏.‏ وقيل‏:‏ مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال‏.‏ وقيل‏:‏ قرنوا مع الشياطين؛ أي قرن كل واحد منهم إلى شيطانه؛ قاله يحيى بن سلام‏.‏ وقد مضى هذا في - إبراهيم - وقال عمرو بن كلثوم‏:‏

فأبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مقرنينا

‏{‏دعوا هنالك ثبورا‏}‏أي هلاكا؛ قاله الضحاك‏.‏ ابن عباس‏:‏ ويلا‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أول من يقول إبليس وذلك أنه أول من يكسى حلة من النار فتوضع على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من خلفه وهو يقول واثبوراه‏)‏‏.‏ وانتصب على المصدر، أي ثبرنا ثبورا؛ قاله الزجاج‏.‏ وقال غيره‏:‏ هو مفعول به‏.‏

قوله ‏{‏لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا‏}‏فإن هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة‏.‏ وقال‏:‏ ثبورا لأنه مصدر يقع للقليل والكثير فلذلك لم يجمع؛ وهو كقولك‏:‏ ضربته ضربا كثيرا، وقعد قعودا طويلا‏.‏ ونزلت الآيات في ابن خطل وأصحابه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 15 ‏:‏ 16 ‏)‏

‏{‏ قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا، لهم فيها ما يشاؤون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا ‏}‏

قوله ‏{‏قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون‏}‏إن قيل‏:‏ كيف قال ‏{‏أذلك خير‏}‏ولا خير في النار؛ فالجواب أن سيبويه حكى عن العرب‏:‏ الشقاء أحب إليك أم السعادة، وقد علم أن السعادة أحب إليه‏.‏ وقيل‏:‏ ليس هو من باب أفعل منك، وإنما هو كقولك‏:‏ عنده خير‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا قول حسن؛ كما قال‏:‏

فشركما لخيركما الفداء

قيل‏:‏ إنما قال ذلك لأن الجنة والنار قد دخلتا في باب المنازل؛ فقال ذلك لتفاوت ما بين المنزلتين‏.‏ وقيل‏:‏ هو مردود على قوله ‏{‏تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك‏}‏الآية‏.‏ وقيل‏:‏ هو مردود على قوله ‏{‏أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها‏}‏ ‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قال ذلك على معنى علمكم واعتقادكم أيها الكفار؛ وذلك أنهم لما كانوا يعملون عمل أهل النار صاروا كأنهم يقولون إن في النار خيرا‏.‏

قوله ‏{‏لهم فيها ما يشاؤون‏}‏أي من النعيم‏.‏ ‏{‏خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا‏}‏

قال الكلبي‏:‏ وعد الله المؤمنين الجنة جزاء على أعمالهم، فسألوه ذلك الوعد فقالوا‏}‏ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك‏}‏ ‏.‏ وهو معنى قول ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ إن الملائكة تسأل لهم الجنة؛ دليله قوله ‏{‏ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم‏}‏ الآية‏.‏ وهذا قول محمد بن كعب القرظي‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏وعدا مسؤولا‏}‏أي واجبا وإن لم يكن يسأل كالدين؛ حكي عن العرب‏:‏ لأعطينك ألفا‏.‏ وقيل ‏{‏وعدا مسؤولا‏}‏يعني أنه واجب لك فتسأله‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ سألوا الله الجنة في الدنيا ورغبوا إليه بالدعاء، فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأعطاهم ما طلبوا‏.‏ وهذا يرجع إلى القول الأول‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 17 ‏:‏ 19 ‏)‏

‏{‏ ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل، قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا، فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا ‏}‏

قوله ‏{‏ويوم يحشرهم‏}‏قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في رواية الدوري‏}‏يحشرهم‏}‏بالياء‏.‏ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله في أول الكلام‏}‏كان على ربك‏}‏وفي آخره ‏{‏أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء‏}‏‏.‏ الباقون بالنون على التعظيم‏.‏ ‏{‏وما يعبدون من دون الله‏}‏من الملائكة والإنس والجن والمسيح وعزير؛ قاله مجاهد وابن جريج‏.‏ الضحاك وعكرمة‏:‏ الأصنام‏.‏ ‏{‏فيقول‏}‏قراءة العامة بالياء وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم‏.‏ وقرأ ابن عامر وأبو حيوة بالنون على التعظيم‏.‏ ‏{‏أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل‏}‏وهذا استفهام توبيخ للكفار‏.‏ ‏{‏قالوا سبحانك‏}‏أي قال المعبودون من دون الله سبحانك؛ أي تنزيها لك ‏{‏ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء‏}‏فإن قيل‏:‏ فإن كانت الأصنام التي تعبد تحشر فكيف تنطق وهي جماد‏؟‏ قيل له‏:‏ ينطقها الله تعالى يوم القيامة كما ينطق الأيدي والأرجل‏.‏ وقرأ الحسن وأبو جعفر‏}‏أن نتخذ‏}‏بضم النون وفتح الخاء على الفعل المجهول‏.‏ وقد تكلم في هذه القراءة النحويون؛ فقال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر‏:‏ لا يجوز ‏{‏نتخذ‏}‏‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ لو كانت ‏{‏نتخذ‏}‏لحذفت ‏{‏من‏}‏الثانية فقلت‏:‏ أن نتخذ من دونك أولياء‏.‏ كذلك قال أبو عبيدة، لا يجوز ‏{‏نتخذ‏}‏لأن الله تعالى ذكر ‏{‏من‏}‏مرتين، ولو كان كما قرأ لقال‏:‏ أن نتخذ من دونك أولياء‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏من‏}‏الثانية صلة قال النحاس‏:‏ ومثل أبي عمرو على جلالته ومحله يستحسن ما قال؛ لأنه جاء ببينة‏.‏ وشرج ما قال أنه يقال‏:‏ ما اتخذت رجلا وليا؛ فيجوز أن يقع هذا للواحد بعينه؛ ثم يقال‏:‏ ما اتخذت من رجل وليا فيكون نفيا عاما، وقولك ‏{‏وليا‏}‏تابع لما قبله فلا يجوز أن تدخل فيه ‏{‏من‏}‏لأنه لا فائدة في ذلك‏.‏ ‏{‏ولكن متعتهم وآباءهم‏}‏أي في الدنيا بالصحة والغنى وطول العمر بعد موت الرسل صلوات الله عليهم‏.‏

‏{‏حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا‏}‏أي تركوا ذكرك فأشركوا بك بطرا وجهلا فعبدونا من غير أن أمرناهم بذلك‏.‏ وفي الذكر قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ القرآن المنزل على الرسل؛ تركوا العمل به؛ قاله ابن زيد‏.‏ الثاني‏:‏ الشكر على الإحسان إليهم والإنعام عليهم‏.‏ إنهم ‏{‏كانوا قوما بورا‏}‏أي هلكى؛ قال ابن عباس‏.‏ مأخوذ من البوار وهو الهلاك‏.‏ وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وقد أشرف على أهل حمص‏:‏ يا أهل حمص‏!‏ هلم إلى أخ لكم ناصح، فلما اجتمعوا حوله قال‏:‏ ما لكم لا تستحون‏!‏ تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، إن من كان قبلكم بنوا مشيدا وجمعوا عبيدا، وأملوا بعيدا، فأصبح جمعهم بورا، وآمالهم غرورا، ومساكنهم قبورا‏.‏ فقوله ‏{‏بورا‏}‏أي هلكى‏.‏ وفي خبر آخر‏:‏ فأصبحت منازلهم بورا؛ أي خالية لا شيء فيها‏.‏ وقال الحسن‏}‏بورا‏}‏لا خير فيهم‏.‏ مأخوذ من بوار الأرض، وهو تعطيلها من الزرع فلا يكون فيها خير‏.‏ وقال شهر بن حوشب‏:‏ البوار‏.‏ الفساد والكساد؛ مأخوذ من قولهم‏:‏ بارت السلعة إذا كسدت كساد الفاسد؛ ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏نعوذ بالله من بوار الأم‏)‏‏.‏ وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث‏.‏ قال ابن الزبعرى‏:‏

يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور

إذ أباري الشيطان في سنن الغ ي ومن مال ميله مثبور

وقال بعضهم‏:‏ الواحد بائر والجمع بور‏.‏ كما يقال‏:‏ عائذ وعوذ، وهائد وهود‏.‏ وقيل ‏{‏بورا‏}‏عميا عن الحق‏.‏

قوله ‏{‏فقد كذبوكم بما تقولون‏}‏أي يقول الله تعالى عند تبري المعبودين‏}‏فقد كذبوكم بما تقولون‏}‏أي في قولكم إنهم آلهة‏.‏ ‏{‏فما تستطيعون‏}‏يعني الآلهة صرف العذاب عنكم ولأنصركم‏.‏ وقيل‏:‏ فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون ‏{‏صرفا‏}‏للعذاب ‏{‏ولا نصرا‏}‏من الله‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ المعنى فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد؛ وعلى هذا فمعنى ‏{‏بما تقولون‏}‏بما تقولون من الحق‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ المعنى؛ فما تقولون فيما يستطيعون لكم صرفا عن الحق الذي هداكم الله إليه، ولا نصرا لأنفسهم مما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم‏.‏ وقراءة العامة ‏{‏بما تقولون‏}‏بالتاء على الخطاب‏.‏ وقد بينا معناه‏.‏ وحكى الفراء أنه يقرأ ‏{‏فقد كذبوكم‏}‏مخففا، ‏{‏بما يقولون‏}‏‏.‏ وكذا قرأ مجاهد والبزي بالياء، ويكون معنى ‏}‏يقولون‏}‏بقولهم‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏}‏بما يقولون‏}‏بياء ‏}‏فما تستطيعون‏}‏بتاء على الخطاب لمتخذي الشركاء‏.‏ ومن قرأ بالياء فالمعنى‏:‏ فما يستطيع الشركاء‏.‏ ‏}‏ومن يظلم منكم‏}‏قال ابن عباس‏:‏ من يشرك منكم ثم مات عليه‏.‏ ‏}‏نذقه‏}‏أي في الآخرة‏.‏ ‏}‏عذابا كبيرا‏}‏أي شديدا؛ كقوله ‏}‏ولتعلن علوا كبيرا‏}‏ أي شديدا‏.‏

الآية رقم ‏(‏20 ‏)‏

‏{‏وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا ‏}‏

قوله ‏}‏وما أرسلنا قبلك من المرسلين‏}‏نزلت جوابا للمشركين حيث قالوا ‏}‏مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق‏}‏ ‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة وقالوا‏}‏مال هذا الرسول يأكل الطعام‏}‏الآية حزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فنزلت تعزية له؛ فقال جبريل عليه السلام‏:‏ السلام عليك يا رسول الله‏!‏ الله ربك يقرئك السلام ويقول لك‏}‏وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسوق‏}‏أي يبتغون المعايش في الدنيا‏.‏

قوله ‏}‏إلا إنهم ليأكلون الطعام‏}‏إذا دخلت اللام لم يكن في ‏}‏إن‏}‏إلا الكسر، ولو لم تكن اللام ما جاز أيضا إلا الكسر؛ لأنها مستأنفة‏.‏ هذا قول جميع النحويين‏.‏ قال النحاس‏:‏ إلا أن علي بن سليمان حكى لنا عن محمد بن يزيد قال‏:‏ يجوز في ‏}‏إن‏}‏هذه الفتح وإن كان بعدها اللام؛ وأحسبه وهما منه‏.‏ قال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ وفي الكلام حذف؛ والمعنى وما أرسلنا قبلك رسلا إلا إنهم ليأكلون الطعام، ثم حذف رسلا، لأن في قوله ‏}‏من المرسلين‏}‏ما يدل عليه‏.‏ فالموصوف محذوف عند الزجاج‏.‏ ولا يجوز عنده حذف الموصول وتبقية الصلة كما قال الفراء‏.‏ قال الفراء‏:‏ والمحذوف ‏}‏من‏}‏والمعنى إلا من إنهم ليأكلون الطعام‏.‏ وشبهه بقوله ‏}‏وما منا إلا له مقام معلوم‏}‏ ، وقوله ‏}‏وإن منكم إلا واردها‏}‏ أي ما منكم إلا من هو واردها‏.‏ وهذا قول الكسائي أيضا‏.‏ وتقول العرب‏:‏ ما بعثت إليك من الناس إلا من إنه ليطيعك‏.‏ فقولك‏:‏ إنه ليطيعك صلة من‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هذا خطأ؛ لأن من موصولة فلا يجوز حذفها‏.‏ وقال أهل المعاني‏:‏ المعنى؛ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل إنهم ليأكلون؛ دليله قوله ‏}‏ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك‏}‏ ‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ كسرت ‏}‏إنهم‏}‏بعد ‏}‏إلا‏}‏للاستئناف بإضمار واو‏.‏ أي إلا وإنهم‏.‏ وذهبت فرقة إلى أن قوله ‏}‏ليأكلون الطعام‏}‏كناية عن الحدث‏.‏ قلت‏:‏ وهذا بليغ في معناه، ومثله ‏}‏ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام‏}‏ ‏.‏ ‏}‏ويمشون في الأسواق‏}‏قرأ الجمهور ‏}‏يمشون‏}‏بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين‏.‏ وقرأ علي وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة، بمعنى يدعون إلى المشي ويحملون عليه‏.‏ وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة، وهي بمعنى يمشون؛ قال الشاعر‏:‏

ومشى بأعطان المباءة وابتغى قلائص منها صعبة وركوب

وقال كعب بن زهير‏:‏

منه تظل سباع الجو ضامزة ولا تمشي بواديه الأراجيل

بمعنى تمشي‏.‏

هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في غير موضع، لكنا نذكر هنا من ذلك ما يكفي فنقول‏:‏ قال لي بعض مشايخ هذا الزمان في كلام جرى‏:‏ إن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا ليسنوا الأسباب للضعفاء؛ فقلت مجيبا له‏:‏ هذا قول لا يصدر إلا من الجهال والأغبياء، والرعاع السفهاء، أو من طاعن في الكتاب والسنة العلياء؛ وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن أصفيائه ورسله وأنبيائه بالأسباب والاحتراف فقال وقوله الحق ‏}‏وعلمناه صنعة لبوس لكم‏}‏ ‏.‏ وقال ‏}‏وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق‏}‏قال العلماء‏:‏ أي يتجرون ويحترفون‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏جعل رزقي تحت ظل رمحي‏)‏ وقال ‏}‏فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا‏}‏ وكان الصحابة رضي الله عنهم يتجرون ويحترفون وفي أموالهم يعملون، ومن خالفهم من الكفار يقاتلون؛ أتراهم ضعفاء‏!‏ بل هم كانوا والله الأقوياء، وبهم الخلف الصالح اقتدى، وطريقهم فيه الهدى والاهتداء‏.‏ قال‏:‏ إنما تناولوها لأنهم أئمة الاقتداء، فتناولوها مباشرة في حق الضعفاء، فأما في حق أنفسهم فلا؛ وبيان ذلك أصحاب الصفة‏.‏

قلت‏:‏ لوكان ذلك لوجب عليهم وعلى الرسول معهم البيان؛ كما ثبت في القرآن ‏}‏وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏ وقال ‏}‏إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى‏}‏ الآية‏.‏ وهذا من البيان والهدى‏.‏ وأما أصحاب الصفة فإنهم كانوا ضيف الإسلام عند ضيق الحال، فكان عليه السلام إذا أتته صدقة خصهم بها، وإذا أتته هدية أكلها معهم، وكانوا مع هذا يحتطبون ويسوقون الماء إلى أبيات رسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ كذا وصفهم البخاري وغيره‏.‏ ثم لما افتتح الله عليهم البلاد ومهد لهم المهاد تأمروا‏.‏ وبالأسباب أمروا‏.‏ ثم إن هذا القول يدل على ضعف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنهم أيدوا بالملائكة وثبتوا بهم، فلو كانوا أقوياء ما احتاجوا إلى تأييد الملائكة وتأييدهم إذ ذلك سبب من أسباب النصر؛ نعوذ بالله من قول وإطلاق يؤول إلى هذا، بل القول بالأسباب والوسائط سنة الله وسنة رسوله، وهو الحق المبين، والطريق المستقيم الذي انعقد عليه إجماع المسلمين؛ وإلا كان يكون قوله الحق ‏}‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل‏}‏ - الآية - مقصورا على الضعفاء، وجميع الخطابات كذلك‏.‏ وفي التنزيل حيث خاطب موسى الكليم ‏}‏اضرب بعصاك البحر‏}‏26 وقد كان قادرا على فلق البحر دون ضرب عصا‏.‏ وكذلك مريم عليها السلام ‏}‏وهزي إليك بجذع النخلة‏}‏ وقد كان قادرا على سقوط الرطب دون هز ولا تعب؛ ومع هذا كله فلا ننكر أن يكون رجل يلطف به ويعان، أو تجاب دعوته، أو يكرم بكرامة في خاصة نفسه أو لأجل غيره، ولا تهد لذلك القواعد الكلية والأمور الجميلة‏.‏ هيهات هيهات‏!‏ لا يقال فقد قال الله ‏{‏وفي السماء رزقكم وما توعدون‏}‏ فإنا نقول‏:‏ صدق الله العظيم، وصدق رسوله الكريم، وأن الرزق هنا المطر بإجماع أهل التأويل؛ بدليل؛ قوله ‏{‏وينزل لكم من السماء رزقا‏}‏ وقال ‏{‏ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد‏}‏ ولم يشاهد ينزل من السماء على الخلق أطباق الخبز ولا جفان اللحم، بل الأسباب أصل في وجود ذلك؛ ومعنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏اطلبوا الرزق في خبايا الأرض‏)‏ أي بالحرث والحفر والغرس‏.‏ وقد يسمى الشيء بما يؤول إليه، وسمي المطر رزقا لأنه عنه يكون الرزق، وذلك مشهور في كلام العرب‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدا أعطاه أو منعه‏)‏ وهذا فيما خرج من غير تعب من الحشيش والحطب‏.‏ ولو قدر رجل بالجبال منقطعا عن الناس لما كان له بد من الخروج إلى ما تخرجه الآكام وظهور الأعلام حتى يتناول من ذلك ما يعيش به؛ وهو معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا‏)‏ فغدوها ورواحها سبب؛ فالعجب العجب ممن يدعي التجريد والتوكل على التحقيق، ويقعد على ثنيات الطريق، ويدع الطريق المستقيم، والمنهج الواضح القويم‏.‏ ثبت في البخاري عن ابن عباس قال‏:‏ كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس؛ فأنزل الله تعالى ‏{‏وتزودوا‏}‏ ‏.‏ ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد، وكانوا المتوكلين حقا‏.‏ والتوكل اعتماد القلب على الرب في أن يلم شعثه ويجمع عليه أربه؛ ثم يتناول الأسباب بمجرد الأمر‏.‏ وهذا هو الحق‏.‏ سأل رجل الإمام أحمد بن حنبل فقال‏:‏ إنى أريد الحج على قدم التوكل‏.‏ فقال‏:‏ اخرج وحدك؛ فقال‏:‏ لا، إلا مع الناس‏.‏ فقال له‏:‏ أنت إذن متكل على أجربتهم‏.‏ وقد أتينا على هذا في كتاب قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذل السؤال بالكسب والصناعة ‏.‏

خرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها‏)‏‏.‏ ‏"‏وخرج البزار عن سلمان الفارسي‏"‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته‏)‏‏.‏ أخرجه أبو بكر البرقاني مسندا عن أبى محمد عبدالغني بن سعيد الحافظ - من رواية عاصم - عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ‏)‏‏.‏ ففي هذه الأحاديث ما يدل على كراهة دخول الأسواق، لا سيما في هذه الأزمان التي يخالط فيها الرجال النسوان‏.‏ وهكذا قال علماؤنا لما كثر الباطل في الأسواق وظهرت فيها المناكر‏:‏ كره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدين تنزيها لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها‏.‏ فحق على من ابتلاه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل محل الشيطان ومحل جنوده، وإنه إن أقام هناك هلك، ومن كانت هذه حاله اقتصر منه على قدر ضرورته، وتحرز من سوء عاقبته وبليته‏.‏

تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم السوق بالمعركة تشبيه حسن؛ وذلك أن المعركة موضع القتال، سمي بذلك لتعارك الأبطال فيه، ومصارعة بعضهم بعضا‏.‏ فشبه السوق وفعل الشيطان بها ونيله منهم مما يحملهم من المكر والخديعة، والتساهل في البيوع الفاسدة والكذب والأيمان الكاذبة، واختلاط الأصوات وغير ذلك بمعركة الحرب ومن يصرع فيها‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ أما أكل الطعام فضرورة الخلق لا عار ولا درك فيه، وأما الأسواق فسمعت مشيخة أهل العلم يقولون‏:‏ لا يدخل إلا سوق الكتب والسلاح، وعندي أنه يدخل كل سوق للحاجة إليه ولا يأكل فيها؛ لأن ذلك إسقاط للمروءة وهدم للحشمة؛ ومن الأحاديث الموضوعة ‏(‏الأكل في السوق دناءة

قلت‏:‏ ما ذكرته مشيخة أهل العلم فنعما هو؛ فإن ذلك خال عن النظر إلى النسوان ومخالطتهن؛ إذ ليس بذلك من حاجتهن‏.‏ وأما غيرهما من الأسواق، فمشحونة منهن، وقلة الحياء قد غلبت عليهن، حتى ترى المرأة في القيساريات وغيرهن قاعدة متبرجة بزينتها، وهذا من المنكر الفاشي في زماننا هذا‏.‏ نعوذ بالله من سخطه‏.‏

خرج أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير عن سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ ‏(‏من دخل سوقا من هذه الأسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له قصرا في الجنة‏)‏ ‏"‏خرجه الترمذي‏"‏ أيضا وزاد بعد ‏(‏ومحا عنه ألف ألف سيئة‏)‏‏:‏ ‏(‏ورفع له ألف ألف درجة وبنى له بيتا في الجنة‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ هذا حديث غريب‏.‏ قال‏:‏ ابن العربي‏:‏ وهذا إذا لم يقصد في تلك البقعة سواه ليعمرها بالطاعة إذ عمرت بالمعصية، وليحليها بالذكر إذ عطلت بالغفلة، وليعلم الجهلة ويذكر الناسين‏.‏

قوله ‏{‏وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون‏}‏أي إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الصابر فتنة للغني‏.‏ ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه؛ فالغني ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه‏.‏ والفقير ممتحن بالغني، عليه ألا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق؛ كما قال الضحاك في معنى ‏{‏أتصبرون‏}‏‏:‏ أي على الحق‏.‏ وأصحاب البلايا يقولون‏:‏ لم لم نعاف‏؟‏ والأعمى يقول‏:‏ لم لم أجعل كالبصير‏؟‏ وهكذا صاحب كل آفة‏.‏ والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره‏.‏ وكذلك العلماء وحكام العدل‏.‏ ألا ترى إلى قولهم ‏{‏لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏43 ‏.‏ فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى، ويحقر المعافى المبتلى‏.‏ والصبر‏:‏ أن يحبس كلاهما نفسه، هذا عن البطر، وذاك عن الضجر‏.‏ ‏{‏أتصبرون‏}‏محذوف الجواب، يعني أم لا تصبرون‏.‏ فيقتضي جوابا كما قال المزني، وقد أخرجته الفاقة فرأى خصيا في مراكب ومناكب، فخطر بباله شيء فسمع من يقرأ الآية‏}‏أتصبرون‏}‏فقال‏:‏ بلى ربنا‏!‏ نصبر ونحتسب‏.‏ وقد تلا ابن القاسم صاحب مالك هذه الآية حين رأى أشهب بن عبدالعزيز في مملكته عابرا عليه، ثم أجاب نفسه بقوله‏:‏ سنصبر‏.‏ وعن أبي الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل للمالك من المملوك وويل للمملوك من المالك وويل للشديد من الضعيف وويل للضعيف من الشديد وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وبعضهم لبعض فتنة‏)‏ وهو قوله ‏{‏وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون‏}‏أسنده الثعلبي تغمده الله برحمته‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت في أبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل، وعقبة بن أبي معيط وعتبة بن ربيعة والنضر بن الحرث حين رأوا أبا ذر وعبدالله بن مسعود، وعمارا وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيرة، وسالما مولى أبي حذيفة ومهجعا مولى عمر بن الخطاب وجبرا مولى الحضرمي، وذويهم؛ فقالوا على سبيل الاستهزاء‏:‏ أنسلم فنكون مثل هؤلاء‏؟‏ فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين‏}‏أتصبرون‏}‏على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر؛ فالتوقيف بـ ‏{‏أتصبرون‏}‏خاص للمؤمنين المحقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، أي اختبارا لهم‏.‏ ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم ‏}‏إني جزيتهم اليوم بما صبروا‏}‏23 ‏.‏

قوله ‏{‏وكان ربك بصيرا‏}‏أي بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع، ومن يؤمن ومن لا يؤمن، وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدي‏.‏ وقيل ‏{‏أتصبرون‏}‏أي اصبروا‏.‏ مثل ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏5 أي انتهوا؛ فهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 21 ‏:‏ 22 ‏)‏

‏{‏ وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا، يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا ‏}‏

قوله ‏{‏وقال الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏يريد لا يخافون البعث ولقاء الله، أي لا يؤمنون بذلك‏.‏ قال‏:‏

إذا لسعته النحل لم يرج لسعتها وخالفها في بيت نوب عوامل

وقيل ‏{‏لا يرجون‏}‏لا يبالون‏.‏ قال‏:‏

لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي

ابن شجرة‏:‏ لا يأملون؛ قال‏:‏

أترجو أمة قتلت حسينا شفاعة جده يوم الحساب

‏{‏لولا أنزل‏}‏أي هلا أنزل‏.‏ ‏{‏علينا الملائكة‏}‏فيخبروا أن محمدا صادق‏.‏ ‏{‏أو نرى ربنا‏}‏عيانا فيخبرنا برسالته‏.‏ نظيره قوله ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا‏}‏17 إلى قوله ‏{‏أو تأتي بالله والملائكة قبيلا‏}‏ 17 قال الله ‏{‏لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا‏}‏حيث سألوا الله الشطط؛ لأن الملائكة لا ترى إلا عند الموت أو عند نزول العذاب، والله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، فلا عين تراه‏.‏ وقال مقاتل‏}‏عتوا‏}‏علوا في الأرض‏.‏ والعتو‏:‏ أشد الكفر وأفحش الظلم‏.‏ وإذا لم يكتفوا بالمعجزات وهذا القرآن فكيف يكتفون بالملائكة‏؟‏ وهم لا يميزون بينهم وبين الشياطين، ولا بد لهم من معجزة يقيمها من يدعى أنه ملك، وليس للقوم طلب معجزة بعد أن شاهدوا معجزة، وأن ‏{‏يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين‏}‏يريد أن الملائكة لا يراها أحد إلا عند الموت‏:‏ فتبشر المؤمنين بالجنة، وتضرب المشركين والكفار بمقامع الحديد حتى تخرج أنفسهم‏.‏ ‏{‏ويقولون حجرا محجورا‏}‏يريد تقول الملائكة حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا الله، وأقام شرائعها؛ عن ابن عباس وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ إن ذلك يوم القيامة؛ قال مجاهد وعطية العوفي‏.‏ قال عطية‏:‏ إذا كان يوم القيامة تلقى المؤمن بالبشرى‏:‏ فإذا رأى ذلك الكافر تمناه فلم يره من الملائكة‏.‏ وانتصب ‏{‏يوم يرون‏}‏بتقدير لا بشرى للمجرمين يوم يرون الملائكة‏.‏ ‏{‏يومئذ‏}‏تأكيد لـ ‏{‏يوم يرون‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ لا يجوز أن يكون ‏{‏يوم يرون‏}‏منصوبا بـ ‏{‏بشرى‏}‏لأن ما في حيز النفي لا يعمل فيما قبله، ولكن فيه تقدير أن يكون المعنى يمنعون البشارة يوم يرون الملائكة؛ ودل على هذا الحذف ما بعده، ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ لا بشرى تكون يوم يرون الملائكة، و‏{‏يومئذ‏}‏مؤكد‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ اذكر يوم يرون الملائكة‏:‏ ثم ابتدأ فقال ‏{‏لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا‏}‏أي وتقول الملائكة حراما محرما أن تكون لهم البشرى إلا للمؤمنين‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ألا أصبحت أسماء حجرا محرما وأصبحت من أدنى حموتها حما

أراد ألا أصبحت أسماء حراما محرما‏.‏ وقال آخر‏:‏

حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها حجر حرام ألا تلك الدهاريس

وروي عن الحسن أنهقال ‏{‏ويقولون حجرا‏}‏وقف من قول المجرمين؛ فقال الله‏.‏ عز وجل ‏{‏محجورا‏}‏عليهم أن يعاذوا أو يجاروا؛ فحجر الله ذلك عليهم يوم القيامة‏.‏ والأول قول ابن عباس‏.‏ وبه قال الفراء؛ قاله ابن الأنباري‏.‏ وقرأ الحسن وأبو رجاء‏}‏حجرا‏}‏بضم الحاء والناس على كسرها‏.‏ وقيل‏:‏ إن ذلك من قول الكفار قالوه لأنفسهم؛ قاله قتادة فيما ذكر الماوردي‏.‏ وقيل‏:‏ هو قول الكفار للملائكة‏.‏ وهي كلمة استعاذة وكانت معروفة في الجاهلية؛ فكان إذا لقي الرجل من يخافه قال‏:‏ حجرا محجورا؛ أي حراما عليك التعرض لي‏.‏ وانتصابه على معنى‏:‏ حجرت عليك، أو حجر الله عليك؛ كما تقول‏:‏ سقيا ورعيا‏.‏ أي إن المحرمين إذا رأوا الملائكة يلقونهم في النار قالوا‏:‏ نعوذ بالله منكم؛ ذكره القشيري، وحكى معناه المهدوي عن مجاهد‏.‏ وقيل ‏{‏حجرا‏}‏من قول المجرمين‏.‏ ‏{‏محجورا‏}‏من قول الملائكة؛ أي قالوا للملائكة نعوذ بالله منكم أن تتعرضوا لنا‏.‏ فتقول الملائكة‏}‏محجورا‏}‏أن تعاذوا من شر هذا اليوم؛ قاله الحسن‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 23 ‏:‏ 24 ‏)‏

‏{‏ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا، أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ‏}‏

قوله ‏{‏وقدمنا إلى ما عملوا من عمل‏}‏هذا تنبيه على عظم قدر يوم القيامة؛ أي قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمون من عمل بر عند أنفسهم‏.‏ يقال‏:‏ قدم فلان إلى أمر كذا أي قصده‏.‏ وقال مجاهد‏}‏قدمناه‏}‏أي عمدنا‏.‏ وقال الراجز‏:‏

وقدم الخوارج الضلال إلى عباد ربهم فقالوا

إن دماءكم لنا حلال

وقيل‏:‏ هو قدوم الملائكة، أخبر به نفسه تعالى فاعله‏.‏ ‏{‏فجعلناه هباء منثورا‏}‏أي لا ينتفع به؛ أي أبطلناه بالكفر‏.‏ وليس ‏{‏هباء‏}‏من ذوات الهمز وإنما همزت لالتقاء الساكنين‏.‏ والتصغير هبي في موضع الرفع، ومن النحويين من يقول‏:‏ هبي في موضع الرفع؛ حكاه النحاس‏.‏ وواحده هباة والجمع أهباء‏.‏ قال الحارث بن حلزة يصف ناقة‏:‏

فترى خلفها من الرجع والوقـ ـع منينا كأنه أهباء

و روى الحرث عن علي قال‏:‏ الهباء المنثور شعاع الشمس الذي يدخل من الكوة‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ الهباء ما يخرج من الكوة في ضوء الشمس شبيه بالغبار‏.‏ تأويله‏:‏ إن الله تعالى أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور‏.‏ فأما الهباء المنبث‏.‏ فأما الهباء المنبث فهو ما تثيره الخيل بسنابكها من الغبار‏.‏ والمنبث المتفرق‏.‏ وقال ابن عرفة‏:‏ الهبوة والهباء التراب الدقيق‏.‏ الجوهري‏:‏ ويقال له إذا ارتفع هبوا وأهبيته أنا‏.‏ والهبوة الغبرة‏.‏ قال رؤبة‏.‏

تبدو لنا أعلامه بعد الغرق في قطع الآل وهبوات الدقق

وموضع هابي التراب أي كأن ترابه مثل الهباء في الرقة‏.‏ وقيل‏:‏ إنه ما ذرته الرياح من يابس أوراق الشجر؛ قاله قتادة وابن عباس‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ إنه الماء المهراق‏.‏ وقيل‏:‏ إنه الرماد؛ قاله عبيد بن يعلى‏.‏

قوله ‏{‏أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا‏}‏تقدم القول فيه عند قوله ‏{‏قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون‏}‏25 ‏.‏ قال النحاس‏:‏ والكوفيون يجيزون - العسل أحلى من الخل - وهذا قول مردود؛ لأن معنى فلان خير من فلان أنه أكثر خيرا منه ولا حلاوة في الخل‏.‏ ولا يجوز أن يقال‏:‏ النصراني خير من اليهودي؛ لأنه لا خير فيهما فيكون أحدهما أزيد في الخير‏.‏ لكن يقال‏:‏ اليهودي شر من النصراني؛ فعلى هذا كلام العرب‏.‏ و‏{‏مستقرا‏}‏نصب على الظرف إذا قدر على غير باب - أفعل منك - والمعنى لهم خير في مستقر‏.‏ وإذا كان من باب - أفعل منك - فانتصابه على البيان؛ قال النحاس والمهدوي‏.‏ قال قتادة‏}‏وأحسن مقيلا‏}‏منزلا ومأوى‏.‏ وقيل‏:‏ هو على ما تعرفه العرب من مقيل نصف النهار‏.‏ ومنه الحديث المرفوع ‏(‏إن الله تبارك وتعالى يفرغ من حساب الخلق في مقدار نصف يوم فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار‏)‏ ذكره المهدوي‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ لا ينتصف النهار يوم القيامة من نهار الدنيا حتى يقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، ثم قرأ‏}‏ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم‏}‏كذا هي في قراءة ابن مسعود‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الحساب من ذلك اليوم في أوله، فلا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار‏.‏ ومنه ما روي‏:‏ ‏(‏قيلوا فإن الشياطين لا تقيل‏)‏‏.‏ وذكر قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة‏)‏ فقلت‏:‏ ما أطول هذا اليوم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا ‏)‏

الآية رقم ‏(‏ 25 ‏:‏ 26 ‏)‏

‏{‏ ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا، الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا ‏}‏

قوله ‏{‏ويوم تشقق السماء بالغمام‏}‏أي واذكر يوم تشقق السماء بالغمام‏.‏ وقرأه عاصم والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وأبو عمرو‏}‏تشقق‏}‏بتخفيف الشين وأصله تتشقق بتاءين فحذفوا الأولى تخفيفا، واختاره أبو عبيد‏.‏ الباقون ‏{‏تشقق‏}‏بتشديد الشين على الإدغام، واختاره أبو حاتم‏.‏ وكذلك في - ق- ‏{‏بالغمام‏}‏أي عن الغمام‏.‏ والباء وعن يتعاقبان؛ كما تقول‏:‏ رميت بالقوس وعن القوس‏.‏ روي أن السماء تتشقق عن سحاب أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم فتنشق السماء عنه؛ وهو الذي قال ‏{‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام‏}‏ 2 ‏.‏ ‏{‏ونزل الملائكة‏}‏من السماوات، ويأتي الرب جل وعز في الثمانية الذين يحملون العرش لفصل القضاء، على ما يجوز أن يحمل عليه إتيانه؛ لا على ما تحمل عليه صفات المخلوقين من الحركة والانتقال‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في سماء الدنيا، ثم كذلك حتى تنشق السماء السابعة، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش؛ وهو معنى قوله ‏{‏ونزل الملائكة تنزيلا‏}‏أي من السماء إلى الأرض لحساب الثقلين‏.‏ وقيل‏:‏ إن السماء تنشق بالغمام الذي بينها وبين الناس؛ فبتشقق الغمام تتشقق السماء؛ فإذا انشقت السماء انتقض تركيبها وطويت ونزلت الملائكة إلى مكان سواها‏.‏ وقرأ ابن كثير‏}‏وننزل الملائكة‏}‏بالنصب من الإنزال‏.‏ الباقون‏.‏ ‏{‏ونزل الملائكة‏}‏بالرفع‏.‏ دليله ‏{‏تنزيلا‏}‏ولو كان على الأول لقال إنزالا‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن نزل وأنزل بمعنى؛ فجاء ‏{‏تنزيلا‏}‏على ‏{‏نزل‏}‏وقد قرأ عبدالوهاب عن أبي عمرو ‏{‏ونزل الملائكة تنزيلا‏}‏‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏{‏وأنزل الملائكة‏}‏‏.‏ أبي بن كعب‏{‏ونزلت الملائكة‏}‏‏.‏ وعنه ‏{‏وتنزلت الملائكة‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏الملك يومئذ الحق للرحمن‏}‏‏{‏الملك‏}‏مبتدأ و‏{‏الحق‏}‏صفة له و‏{‏للرحمن‏}‏الخبر؛ لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك؛ فبطلت يومئذ أملاك المالكين وانقطعت دعاويهم، وزال كل ملك وملكه‏.‏ وبقي الملك الحق لله وحده‏.‏ ‏{‏وكان يوما على الكافرين عسيرا‏}‏أي لما ينالهم من الأهوال ويلحقهم من الخزي والهوان، وهو على المؤمنين أخف من صلاة مكتوبة؛ على ما تقدم في الحديث‏.‏ وهذه الآية دال عليه؛ لأنه إذا كان على الكافرين عسيرا فهو على المؤمنين يسير‏.‏ يقال‏:‏ عسِر يعسَر، وعسُر يعسُر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 27 ‏:‏ 28 ‏)‏

‏{‏ ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ‏}‏

قوله ‏{‏ويوم يعض الظالم على يديه‏}‏الماضي عضضت‏.‏ وحكى الكسائي عضضت بفتح الضاد الأولى‏.‏ وجاء التوقيف عن أهل التفسير، منهم ابن عباس وسعيد بن المسيب أن الظالم ههنا يراد به عقبة بن أبي معيط، وأن خليله أمية بن خلف؛ فعقبة قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وذلك أنه كان في الأسارى يوم بدر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله؛ فقال‏:‏ أأقتل دونهم‏؟‏ فقال‏.‏ نعم، بكفرك وعتوك‏.‏ فقال‏:‏ من للصبية‏؟‏ فقال‏:‏ النار‏.‏ فقام علي رضي الله عنه فقتله‏.‏ وأمية قتله النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خبر عنهما بهذا فقتلا على الكفر‏.‏ ولم يسميا في الآية لأنه أبلغ في الفائدة، ليعلم أن هذا سبيل كل ظالم قبل من غيره في معصية الله عز وجل‏:‏ قال ابن عباس وقتادة وغيرهما‏:‏ وكان عقبة قد هم بالإسلام فمنعه منه أبي بن خلف وكانا خدنين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قتلهما جميعا‏:‏ قتل عقبة يوم بدر صبرا، وأبي بن خلف في المبارزة يوم أحد؛ ذكره القشيري والثعلبي، والأول ذكره النحاس‏.‏ وقال السهيلي‏}‏ويوم يعض الظالم على يديه‏}‏هو عقبة بن أبي معيط، وكان صديقا لأمية بن خلف الجمحي ويروى لأبي بن خلف أخ أمية، وكان قد صنع وليمة فدعا إليها قريشا، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأتيه إلا أن يسلم‏.‏ وكره عقبة أن يتأخر عن طعامه من أشراف قريش أحد فأسلم ونطق بالشهادتين، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل من طعامه، فعاتبه خليله أمية بن خلف، أو أبي بن خلف وكان غائبا‏.‏ فقال عقبة‏:‏ رأيت عظيما ألا يحضر طعامي رجل من أشراف قريش‏.‏ فقال له خليله‏:‏ لا أرضى حتى ترجع وتبصق في وجهه وتطأ عنقه وتقول كيت وكيت‏.‏ ففعل عدو الله ما أمره به خليله؛ فأنزل الله عز وجل ‏{‏ويوم يعض الظالم على يديه‏}‏‏.‏ قال الضحاك‏:‏ لما بصق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع بصاقه في وجهه وشوى وجهه وشفتيه، حتى أثر في وجهه وأحرق خديه، فلم يزل أثر ذلك في وجهه حتى قتل‏.‏ وعضه يديه فعل النادم الحزين لأجل طاعته خليله‏.‏ ‏{‏يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا‏}‏في الدنيا، يعني طريقا إلى الجنة‏.‏‏{‏يا ويلتا‏}‏دعاء بالويل والثبور على محالفة الكافر ومتابعته‏.‏ ‏{‏ليتني لم أتخذ فلانا خليلا‏}‏يعني أمية، وكني عنه ولم يصرح باسمه لئلا يكون هذا الوعد مخصوصا به ولا مقصورا، بل يتناول جميع من فعل مثل فعلهما‏.‏ وقال مجاهد وأبو رجاء‏:‏ الظالم عام في كل ظالم، وفلان‏:‏ الشيطان‏.‏ واحتج لصاحب هذا القول بأن بعده ‏{‏وكان الشيطان للإنسان خذولا‏}‏‏.‏ وقرأ الحسن‏{‏يا ويلتي‏}‏‏.‏ والخليل‏:‏ الصاحب والصديق‏.‏‏{‏لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني‏}‏أي يقول هذا النادم‏:‏ لقد أضلني من اتخذته في الدنيا خليلا عن القرآن والإيمان به‏.‏ وقيل ‏{‏عن الذكر‏}‏أي عن الرسول‏.‏ ‏{‏وكان الشيطان للإنسان خذولا‏}‏قيل‏:‏ هذا من قول الله لا من قول الظالم‏.‏ وتمام الكلام على هذا عند قوله ‏{‏بعد إذ جاءني‏}‏‏.‏ والخذل الترك من الإعانة؛ ومنه خذلان إبليس للمشركين لما ظهر لهم في صورة سراقة بن مالك، فلما رأى الملائكة تبرأ منهم‏.‏ وكل من صد عن سبيل الله وأطيع في معصية الله فهو شيطان للإنسان، خذولا عند نزول العذاب والبلاء‏.‏ ولقد أحسن من قال‏:‏

تجنب قرين السوء وأصرم حباله فإن لم تجد عنه محيصا فداره

وأحبب حبيب الصدق وأحذر مراءه تنل منه صفو الود ما لم تماره

وفي الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا إذا اشتعلت نيرانه في عذاره

آخر‏:‏

اصحب خيار الناس حيث لقيتهم خير الصحابة من يكون عفيفا

والناس مثل دراهم ميزتها فوجدت منها فضة وزيوفا

وفي الصحيح من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة ‏(‏?‏"‏ لفظ مسلم‏"‏‏.‏ ‏"‏وأخرجه أبو داود من حديث أنس‏"‏‏.‏ وذكر أبو بكر البزار عن ابن عباس قال‏:‏ قيل يا رسول الله؛ أي جلسائنا خير‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏من ذكركم بالله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله‏)‏‏.‏ وقال مالك بن دينار‏:‏ إنك إن تنقل الأحجار مع الأبرار خير لك من أن تأكل الخبيص مع الفجار‏.‏ وأنشد‏:‏

وصاحب خيار الناس تنج مسلما وصاحب شرار الناس يوما فتندما

الآية رقم ‏(‏ 29 ‏:‏31 ‏)‏

‏{‏لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا، وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا، وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ‏}‏

قوله وقال الرسول يا رب‏}‏يريد محمدا صلى الله عليه وسلم، يشكوهم إلى الله تعالى‏.‏ ‏{‏إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا‏}‏أي قالوا فيه غير الحق من أنه سحر وشعر؛ عن مجاهد والنخعي‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏مهجورا‏}‏أي متروكا؛ فعزاه الله تبارك وتعالى وسلاه بقوله ‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين‏}‏أي كما جعلنا لك يا محمد عدوا من مشركي قومك - وهو أبو جهل في قول ابن عباس - فكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من مشركي قومه، فاصبر، لأمري كما صبروا، فإني هاديك وناصرك على كل من ناوأك‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن قول الرسول ‏{‏يا رب‏}‏إنما يقوله يوم القيامة؛ أي هجروا القرآن وهجروني وكذبوني‏.‏ وقال أنس‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من تعلم القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب العالمين إن عبدك هذا اتخذني مهجورا فاقض بيني وبينه‏)‏‏.‏ ذكره الثعلبي‏.‏ ‏{‏وكفى بربك هاديا ونصيرا‏}‏نصب على الحال أو التمييز، أي يهديك وينصرك فلا تبال بمن عاداك‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ عدو النبي صلى الله عليه وسلم أبو جهل لعنه الله‏.‏



الآية رقم ‏(‏ 32 ‏:‏ 33 ‏)‏

‏{‏ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ‏}‏

قوله ‏{‏وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏اختلف في قائل ذلك على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم كفار قريش؛ قاله ابن عباس‏.‏ والثاني‏:‏ انهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقا قالوا‏:‏ هلا أنزل عليه جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود‏.‏ فقال الله ‏{‏كذلك‏}‏أي فعلنا ‏{‏لنثبت به فؤادك‏}‏نقوي به قلبك فتعيه وتحمله؛ لأن الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون، والقرآن أنزل على نبي أمي؛ ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، ففرقناه ليكون أوعى للنبي صلى الله عليه وسلم، وأيسر على العامل به؛ فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة قلب‏.‏

قلت‏:‏ فإن قيل هلا أنزل القرآن دفعة واحدة وحفظه إذا كان ذلك في قدرته‏؟‏‏.‏ قيل‏:‏ في قدرة الله أن يعلمه الكتاب والقرآن في لحظة واحدة، ولكنه لم يفعل ولا معترض عليه في حكمه، وقد بينا وجه الحكمة في ذلك‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن قوله ‏{‏كذلك‏}‏من كلام المشركين، أي لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك، أي كالتوراة والإنجيل، فيتم الوقف على ‏{‏كذلك‏}‏ثم يبتدئ ‏{‏لنثبت به فؤادك‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون الوقف على قوله ‏{‏جملة واحدة‏}‏ثم يبتدئ ‏{‏كذلك لتثبت به فؤادك‏}‏على معنى أنزلناه عليك كذلك متفرقا لنثبت به فؤادك‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ والوجه الأول أجود وأحسن، والقول الثاني قد جاء به التفسير، حدثنا محمد بن عثمان الشيبي قال حدثنا منجاب قال حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة القدر‏}‏97 قال‏:‏ أنزل القرآن جملة واحدة من عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء، فنجمه السفرة الكرام على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل عليه السلام على محمد عشرين سنة‏.‏ قال‏:‏ فهو قوله ‏{‏فلا أقسم بمواقع النجوم‏}‏56 يعني نجوم القرآن ‏{‏وإنه لقسم لو تعلمون عظيم‏.‏ إنه لقرآن كريم‏}‏ 5 ‏.‏ قال‏:‏ فلما لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة، قال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة؛ فقال الله تبارك و‏}‏كذلك لنثبت به فؤادك‏}‏يا محمد‏.‏ ‏{‏ورتلناه ترتيلا‏}‏يقول‏:‏ ورسلناه ترسيلا؛ يقول‏:‏ شيئا بعد شيء‏.‏

قوله ‏{‏ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا‏}‏يقول‏:‏ لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب به، ولكن نمسك عليك فإذا سألوك أجبت‏.‏ قال النحاس‏:‏ وكان ذلك من علامات النبوة، لأنهم لا يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي، فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم، ويدل على هذا ‏{‏ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا‏}‏ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل عليهم، وعلم الله عز وجل أن الصلاح في إنزاله متفرقا، لأنهم ينبهون به مرة بعد مرة، ولو نزل جملة واحدة لزال معنى التنبيه وفيه ناسخ ومنسوخ، فكانوا يتعبدون بالشيء إلى وقت بعينه قد علم الله عز وجل فيه الصلاح، ثم ينزل النسخ بعد ذلك؛ فمحال أن ينزل جملة واحدة‏:‏ افعلوا كذا ولا تفعلوا‏.‏ قال النحاس‏:‏ والأولى أن يكون التمام ‏{‏جملة واحدة‏}‏لأنه إذا وقف على ‏{‏كذلك‏}‏صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزبور ولم يتقدم لها ذكر‏.‏ قال الضحاك‏}‏وأحسن تفسيرا‏}‏أي تفصيلا‏.‏ والمعنى‏:‏ أحسن من مثلهم تفصيلا؛ فحذف لعلم السامع‏.‏ وقيل‏:‏ كان المشركون يستمدون من أهل الكتاب وكان قد غلب على أهل الكتاب التحريف والتبديل، فكان ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم أحسن تفسيرا مما عندهم؛ لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل، والحق المحض أحسن من حق مختلط بباطل، ولهذا قال ‏{‏ولا تلبسوا الحق بالباطل‏}‏ 2 ‏.‏ وقيل ‏{‏لا يأتونك بمثل‏}‏كقولهم في صفة عيسى إنه خلق من غير أب إلا جئناك بالحق أي بما فيه نقض حجتهم كآدم إذ خلق من غير أب وأم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 34 ‏)‏

‏{‏ الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ‏}‏

قوله ‏{‏الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم‏}‏تقدم في ‏{‏سبحان‏}‏‏.‏ ‏{‏أولئك شر مكانا‏}‏لأنهم في جهنم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ قال الكفار لأصحاب محمد‏.‏ صلى الله عليه وسلم هو شر الخلق‏.‏ ‏{‏وأضل سبيلا‏}‏أي دينا وطريقا‏.‏ ونظم الآية‏:‏ ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق، وأنت منصور عليهم بالحجج الواضحة، وهم محشورون على وجوههم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 35 ‏:‏ 36 ‏)‏

‏{‏ ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا، فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا ‏}‏

قوله ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب‏}‏ يريد التوراة ‏.‏ ‏{‏وجعلنا معه أخاه هارون زيرا‏}‏تقدم في - طه - ‏{‏فقلنا اذهبا‏}‏الخطاب لهما‏.‏ وقيل‏:‏ إنما أمر موسى صلى الله عليه وسلم بالذهاب وحده في المعنى‏.‏ وهذا بمنزلة قوله ‏{‏نسيا حوتهما‏}‏18 ‏.‏ وقوله ‏{‏يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان‏}‏ وإنما يخرج من أحدهما‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا مما لا ينبغي أن يجترأ به على كتاب الله تعالى، وقد قال عز وجل ‏{‏فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى‏.‏ قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى‏.‏ قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى‏.‏ فأتياه فقولا إنا رسولا ربك‏}‏20 ‏.‏ ونظير هذا ومن دونهما جنتان‏}‏ ‏.‏ وقد قال جل ثناؤه ‏}‏ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بإياتنا‏}‏ قال القشيري‏:‏ وقوله في موضع آخر ‏}‏اذهب إلى فرعون إنه طغى‏}‏20 لا ينافي هذا؛ لأنهما إذا كان مأمورين فكل واحد مأمور‏.‏ ويجوز أن يقال‏:‏ أمر موسى أولا، ثم لماقال ‏{‏واجعل لي وزيرا من أهلي‏}‏20 قال ‏{‏اذهبا إلى فرعون‏}‏ 2 ‏.‏ ‏{‏إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا‏}‏يريد فرعون وهامان والقبط‏.‏ ‏{‏فدمرناهم تدميرا‏}‏في الكلام إضمار؛ أي فكذبوهما ‏{‏فدمرناهم تدميرا‏}‏أي أهلكناهم إهلاكا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 37 ‏)‏

‏{‏ وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما ‏}‏

قوله ‏{‏وقوم نوح‏}‏في نصب ‏{‏قوم‏}‏أربعة أقوال‏:‏ العطف على الهاء والميم في ‏{‏دمرناهم‏}‏‏.‏ الثاني‏:‏ بمعنى اذكر‏.‏ الثالث‏:‏ بإضمار فعل يفسره ما بعده؛ والتقدير‏:‏ وأغرقنا قوم نوح أغرقناهم‏.‏ الرابع‏:‏ إنه منصوب بـ ‏{‏أغرقناهم‏}‏قاله الفراء‏.‏ ورده النحاس قال‏:‏ لأن ‏{‏أغرقنا‏}‏ليس مما يتعدى إلى مفعولين فيعمل في المضمر وفي ‏{‏قوم نوح‏}‏‏.‏ ‏{‏لما كذبوا الرسل‏}‏ذكر الجنس والمراد نوح وحده؛ لأنه لم يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلا نوح وحده؛ فنوح إنما بعث بلا إله إلا الله، وبالإيمان بما ينزل الله، فلما كذبوه كان في ذلك تكذيب لكل من بعث بعده بهذه الكلمة‏.‏ وقيل‏:‏ إن من كذب رسولا فقد كذب جميع الرسل؛ لأنهم لا يفرق بينهم في الإيمان، ولأنه ما من نبي إلا يصدق سائر أنبياء الله، فمن كذب منهم نبيا فقد كذب كل من صدقه من النبيين‏.‏ ‏{‏أغرقناهم‏}‏أي بالطوفان‏.‏ ‏{‏وجعلناهم للناس آية‏}‏أي علامة ظاهرة على قدرتنا ‏{‏وأعتدنا للظالمين‏}‏أي للمشركين من قوم نوح ‏{‏عذابا أليما‏}‏أي في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ أي هذه سبيلي في كل ظالم‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 38 ‏)‏

‏{‏ وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا‏}‏

قوله ‏{‏وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا‏}‏كله معطوف على ‏{‏قوم نوح‏}‏إذا كان ‏{‏قوم نوح‏}‏منصوبا على العطف، أو بمعنى اذكر‏.‏ ويجوز أن يكون كله منصوبا على أنه معطوف على المضمر في ‏{‏دمرناهم‏}‏أو على المضمر في ‏{‏جعلناهم‏}‏وهو اختيار النحاس؛ لأنه أقرب إليه‏.‏ ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار فعل؛ أي اذكر عادا الذين كذبوا هودا فأهلكهم الله بالريح العقيم، وثمودا كذبوا صالحا فأهلكوا بالرجفة‏.‏ و‏{‏أصحاب الرس‏}‏والرس في كلام العرب البئر التي تكون غير مطوية، والجمع رساس‏.‏ قال‏:‏

تنابلة يحفرون الرساسا

يعني آبار المعادن‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ سألت كعبا عن أصحاب الرس قال‏:‏ صاحب يس الذيقال ‏{‏يا قوم اتبعوا المرسلين‏}‏ قتله قومه ورسوه في بئر لهم يقال لها الرس طرحوه فيها، وكذا قال مقاتل‏.‏ السدي‏:‏ هم أصحاب قصة يس أهل أنطاكية، والرس بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار مؤمن آل يس فنسبوا إليها‏.‏ وقال علي رضي الله عنه‏:‏ هم قوم كانوا يعبدون شجرة صنوبر فدعا عليهم نبيهم؛ وكان من ولد يهوذا، فيبست الشجرة فقتلوه ورسوه في بئر، فأظلتهم سحابة سوداء فأحرقتهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هم قوم بأذربيجان قتلوا أنبياء فجفت أشجارهم وزروعهم فماتوا جوعا وعطشا‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ كانوا أهل بئر يقعدون عليها وأصحاب مواشي، وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم شعيبا فكذبوه وآذوه، وتمادوا على كفرهم وطغيانهم، فبينما هم حول البئر في منازلهم انهارت بهم وبديارهم؛ فخسف الله بهم فهلكوا جميعا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أصحاب الرس وأصحاب الأيكة أمتان أرسل الله إليهما شعيبا فكذبوه فعذبهما الله بعذابين‏.‏ قال قتادة‏:‏ والرس قرية بفلج اليمامة‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ هم قوم رسوا نبيهم في بئر حيا‏.‏ دليله ما روى محمد ابن كعب القرظي عمن حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة عبد أسود وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى قومه فلم يؤمن به إلا ذلك الأسود فحفر أهل القرية بئرا وألقوا فيها نبيهم حيا وأطبقوا عليه حجرا ضخما وكان العبد الأسود يحتطب على ظهره ويبيعه ويأتيه بطعامه وشرابه فيعينه الله على رفع تلك الصخرة حتى يدليه إليه فبينما هو يحتطب إذ نام فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما ثم هب من نومه فتمطى واتكأ على شقه الآخر فضرب الله على أذنه سبع سنين ثم هب فاحتمل حزمة الحطب فباعها وأتى بطعامه وشرابه إلى البئر فلم يجده وكان قومه قد أراهم الله تعالى آية فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه ومات ذلك النبي‏)‏‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن ذلك العبد الأسود لأول من يدخل الجنة‏)‏ وذكر هذا الخبر المهدوي والثعلبي، واللفظ للثعلبي، وقال‏:‏ هؤلاء آمنوا بنبيهم فلا يجوز أن يكونوا أصحاب الرس؛ لأن الله تعالى أخبر عن أصحاب الرس أنه دمرهم، إلا أن يدمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ أصحاب الرس قوم أرسل الله إليهم نبيا فأكلوه‏.‏ وهم أول من عمل نساؤهم السحق؛ ذكره الماوردي‏.‏ وقيل‏:‏ هم أصحاب الأخدود الذين حفروا الأخاديد وحرقوا فيها المؤمنين، وسيأتي‏.‏ وقيل‏:‏ هم بقايا من قوم ثمود، وأن الرس البئر المذكورة في - الحج - في قوله ‏{‏وبئر معطلة‏}‏ على ما تقدم‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ والرس اسم بئر كانت لبقية من ثمود‏.‏ وقال جعفر بن محمد عن أبيه‏:‏ أصحاب الرس قوم كانوا يستحسنون لنسائهم السحق، وكان نساؤهم كلهم سحاقات‏.‏ وروي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن من أشراط الساعة أن يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء وذلك السحق‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ الرس ماء ونخل لبني أسد‏.‏ وقيل‏:‏ الثلج المتراكم في الجبال؛ ذكره القشيري‏.‏ وما ذكرناه أولا هو المعروف، وهو كل حفر احتفر كالقبر والمعدن والبئر‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الرس كل ركية لم تطو؛ وجمعها رساس‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وهم سائرون إلى أرضهم فيا ليتهم يحفرون الرساسا

والرس اسم واد في قول زهير‏:‏

بكرن بكورا واستحرن بسحرة فهن لوادي الرس كاليد للفم

ورسست رسا‏:‏ حفرت بئرا‏.‏ ورس الميت أي قبر‏.‏ والرس‏:‏ الإصلاح بين الناس، والإفساد أيضا وقد رسست بينهم؛ فهو من الأضداد‏.‏ وقد قيل في أصحاب الرس غير ما ذكرنا، ذكره الثعلبي وغيره‏.‏ ‏{‏وقرونا بين ذلك كثيرا‏}‏أي أمما لا يعلمهم إلا الله بين قوم نوح وعاد‏.‏ وثمود وأصحاب الرس‏.‏ وعن الربيع بن خيثم اشتكى فقيل له‏:‏ ألا تتداوى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر به‏؟‏ قال‏:‏ لقد هممت بذلك ثم فكرت فيما بيني وبين نفسي فإذا عاد وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا كانوا أكثر وأشد حرصا على جمع المال، فكان فيهم أطباء، فلا الناعت منهم بقي ولا المنعوت؛ فأبى أن يتداوى فما مكث إلا خمسة أيام حتى مات، رحمه الله‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

‏{‏ وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا ‏}‏

قوله ‏{‏وكلا ضربنا له الأمثال‏}‏قال الزجاج‏.‏ أي وأنذرنا كلا ضربنا له الأمثال وبينا لهم الحجة، ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء الكفرة‏.‏ وقيل‏:‏ انتصب على تقدير ذكرنا كلا ونحوه؛ لأن ضرب الأمثال تذكير ووعظ؛ ذكره المهدوي‏.‏ والمعنى واحد‏.‏ ‏{‏وكلا تبرنا تتبيرا‏}‏أي أهلكنا بالعذاب‏.‏ وتبرت الشيء كسرته‏.‏ وقال المؤرج والأخفش‏:‏ دمرناهم تدميرا‏.‏ تبدل التاء والباء من الدال والميم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 40 ‏)‏

‏{‏ ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا ‏}‏

قوله ‏{‏ولقد أتوا على القرية‏}‏يعني مشركي مكة‏.‏ والقرية قرية قوم لوط‏.‏ والحجارة التي أمطروا بها‏.‏ ‏{‏مطر السوء‏}‏الحجارة التي أمطروا بها‏.‏ ‏{‏أفلم يكونوا يرونها‏}‏أي في أسفارهم ليعتبروا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانت قريش في تجارتها إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط كما قال الله ‏{‏وإنكم لتمرون عليهم مصبحين‏}‏ وقال ‏{‏وإنهما لبإمام مبين‏}‏‏.‏ ‏{‏بل كانوا لا يرجون نشورا‏}‏أي لا يصدقون بالبعث‏.‏ ويجوز أن يكون معنى ‏{‏يرجون‏}‏يخافون‏.‏ ويجوز أن يكون على بابه ويكون معناه‏:‏ بل كانوا لا يرجون ثواب الآخرة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 41 ‏:‏ 42 ‏)‏

‏{‏ وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا، إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ‏}‏

قوله ‏{‏وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا‏}‏جواب ‏{‏إذا‏}‏‏{‏إن يتخذونك‏}‏لأن معناه يتخذونك‏.‏ وقيل‏:‏ الجواب محذوف وهو قالوا أو يقولون‏}‏أهذا الذي‏}‏وقوله ‏{‏إن يتخذونك إلا هزوا‏}‏كلام معترض‏.‏ ونزلت في أبي جهل كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم مستهزئا‏}‏أهذا الذي بعث الله رسولا‏}‏والعائد محذوف، أي بعثه الله‏.‏ ‏{‏رسولا‏}‏نصب على الحال والتقدير‏:‏ أهذا الذي بعثه الله مرسلا‏.‏ ‏{‏أهذا‏}‏رفع بالابتداء و‏{‏الذي‏}‏خبره‏.‏ ‏{‏رسولا‏}‏نصب على الحال‏.‏ و‏{‏بعث‏}‏في صلة ‏{‏الذي‏}‏واسم الله عز وجل رفع بـ ‏{‏بعث‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون مصدرا؛ لأن معنى ‏{‏بعث‏}‏أرسل ويكون معنى رسولا‏}‏رسالة على هذا‏.‏ والألف للاستفهام على معنى التقرير والاحتقار‏.‏‏{‏إن كاد ليضلنا‏}‏أي قالوا قد كاد أن يصرفنا‏.‏ ‏{‏عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها‏}‏أي حبسنا أنفسنا على عبادتها‏.‏ ‏{‏وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا‏}‏يريد من أضل دينا أهم أم محمد، وقد رأوه في يوم بدر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 43 ‏)‏

‏{‏أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ‏}‏

قوله ‏{‏أرأيت من اتخذ إلهه هواه‏}‏عجب نبيه صلى الله عليه وسلم من إضمارهم على الشرك وإصرارهم عليه مع إقرارهم بأنه خالقهم ورازقهم، ثم يعمد إلى حجر يعبده من غير حجة‏.‏ قال الكلبي وغيره‏:‏ كانت العرب إذا هوي الرجل منهم شيئا عبده من دون الله، فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الأحسن؛ فعلى هذا يعني‏:‏ أرأيت من اتخذ إلهه بهواه؛ فحذف الجار‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الهوى إله يعبد من دون الله، ثم تلا هذه الآية‏.‏ قال الشاعر‏:‏

لعمر أبيها لو تبدت لناسك قد اعتزل الدنيا بإحدى المناسك

لصلى لها قبل الصلاة لربه ولارتد في الدنيا بأعمال فاتك

وقيل ‏{‏اتخذ إلهه هواه‏}‏أي أطاع هواه‏.‏ وعن الحسن لا يهوى شيئا إلا أتبعه، والمعنى واحد‏.‏ ‏{‏أفأنت تكون عليه وكيلا‏}‏أي حفيظا وكفيلا حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من هذا الفساد‏.‏ أي ليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئك، وإنما عليك التبليغ‏.‏ وهذا رد على القدرية‏.‏ ثم قيل‏:‏ إنها منسوخة بآية القتال‏.‏ وقيل‏:‏ لم تنسخ؛ لأن الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 44 ‏)‏

‏{‏ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ‏}‏

قوله ‏{‏أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون‏}‏ولم يقل أنهم لأن منهم من قد علم أنه يؤمن‏.‏ وذمهم جل وعز بهذا‏.‏ ‏{‏أم تحسب أن أكثرهم يسمعون‏}‏سماع قبول أو يفكرون فيما تقول فيعقلونه؛ أي هم بمنزلة من لا يعقل ولا يسمع‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنهم لما لم ينتفعوا بما يسمعون فكأنهم لم يسمعوا؛ والمراد أهل مكة‏.‏ وقيل ‏{‏أم‏}‏بمعنى بل في مثل هذا الموضع‏.‏ ‏{‏إن هم إلا كالأنعام‏}‏أي في الأكل والشرب لا يفكرون في الآخرة‏.‏ ‏{‏بل هم أضل سبيلا‏}‏إذ لا حساب ولا عقاب على الأنعام‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ البهائم تعرف ربها وتهتدي إلى مراعيها وتنقاد لأربابها التي تعقلها، وهؤلاء لا ينقادون ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم‏.‏ وقيل‏:‏ لأن البهائم إن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك أيضا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 45 ‏:‏ 46 ‏)‏

‏{‏ ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا، ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا ‏}‏

قوله ‏{‏ألم تر إلى ربك كيف مد الظل‏}‏يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية العين، ومجوز أن تكون من العلم‏.‏ وقال الحسن وقتادة وغيرهما‏:‏ مد الظل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس‏.‏ وقيل‏:‏ هو من غيوبة الشمس إلى طلوعها‏.‏ والأول أصح؛ والدليل على ذلك أنه ليس من ساعة أطيب من تلك الساعة؛ فإن فيها يجد المريض راحة والمسافر وكل ذي علة‏:‏ وفيها ترد نفوس الأموات والأرواح منهم إلى الأجساد، وتطيب نفوس الأحياء فيها‏.‏ وهذه الصفة مفقودة بعد المغرب‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ نهار الجنة هكذا؛ وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر‏.‏ أبو عبيدة‏:‏ الظل بالغداة والفيء بالعشي؛ لأنه يرجع بعد زوال الشمس؛ سمي فيئا لأنه فاء من المشرق إلى جانب المغرب‏.‏ قال الشاعر، وهو حميد بن ثور يصف سرحة وكني بها عن امرأة‏:‏

فلا الظل من برد الضحا تستطيعه ولا الفيء من برد العشي تذوق

وقال ابن السكيت‏:‏ الظل ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ الشمس‏.‏ وحكى أبو عبيدة عن رؤية قال‏:‏ كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل‏.‏ ‏{‏ولو شاء لجعله ساكنا‏}‏أي دائما مستقرا لا تنسخه الشمس‏.‏ ابن عباس‏:‏ يريد إلى يوم القيامة، وقيل‏:‏ المعنى لو شاء لمنع الشمس الطلوع‏.‏ ‏{‏ثم جعلنا الشمس عليه دليلا‏}‏أي جعلنا الشمس بنسخها الظل عند مجيئها دالة على أن الظل شيء ومعنى؛ لأن الأشياء تعرف بأضدادها ولولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة‏.‏ فالدليل فعيل بمعنى الفاعل‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى المفعول كالقتيل والدهين والخضيب‏.‏ أي دللنا الشمس على الظل حتى ذهبت به؛ أي أتبعناها إياه‏.‏ فالشمس دليل أي حجة وبرهان، وهو الذي يكشف المشكل ويوضحه‏.‏ ولم يؤنث الدليل وهو صفة الشمس لأنه في معنى الاسم؛ كما يقال‏:‏ الشمس برهان والشمس حق‏.‏‏{‏ثم قبضناه‏}‏يريد ذلك الظل الممدود‏.‏ ‏{‏إلينا قبضا يسيرا‏}‏أي يسيرا قبضه علينا‏.‏ وكل أمر ربنا عليه يسير‏.‏ فالظل مكثه في هذا الجو بمقدار طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس صار الظل مقبوضا، وخلفه في هذا الجو شعاع الشمس فأشرق على الأرض وعلى الأشياء إلى وقت غروبها، فإذا غربت فليس هناك ظل، إنما ذلك بقية نور النهار‏.‏ وقال قوم‏:‏ قبضه بغروب الشمس؛ لأنها ما لم تغرب فالظل فيه بقية، وإنما يتم زواله بمجيء الليل ودخول الظلمة عليه‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا القبض وقع بالشمس؛ لأنها إذا طلعت أخذ الظل في الذهاب شيئا فشيئا؛ قاله أبو مالك وإبراهيم التيمي‏.‏ وقيل ‏{‏ثم قبضناه‏}‏أي قبضنا ضياء الشمس بالفيء ‏{‏قبضا يسيرا‏}‏‏.‏ وقيل ‏}‏يسيرا‏}‏أي سريعا، قاله الضحاك‏.‏ قتادة‏:‏ خفيا؛ أي إذا غابت الشمس قبض الظل قبضا خفيا؛ كلما قبض جزء منه جعل مكانه جزء من الظلمة، وليس يزول دفعة واحدة‏.‏ فهذا معنى قول قتادة؛ وهو قول مجاهد‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 47 ‏)‏

‏{‏ وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا ‏}‏

قوله ‏}‏وهو الذي جعل لكم الليل لباسا‏}‏يعني سترا للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن‏.‏ قال الطبري‏:‏ وصف الليل باللباس تشبيها من حيث يستر الأشياء ويغشاها‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ ظن بعض الغفلة أن من صلى عريانا في الظلام أنه يجزئه؛ لأن الليل لباس‏.‏ وهذا يوجب أن يصلي في بيته عريانا إذا أغلق عليه بابه‏.‏ والستر في الصلاة عبادة تختص بها ليست لأجل نظر الناس‏.‏ ولا حاجة إلى الإطناب في هذا‏.‏

قوله ‏}‏والنوم سباتا‏}‏أي راحة لأبدانكم بانقطاعكم عن الأشغال‏.‏ وأصل السبات من التمدد‏.‏ يقال‏:‏ سبتت المرأة شعرها أي نقضته وأرسلته‏.‏ ورجل مسبوت أي ممدود الخلقة‏.‏ وقيل‏:‏ للنوم سبات لأنه بالتمدد يكون، وفي التمدد معنى الراحة‏.‏ وقيل‏:‏ السبت القطع؛ فالنوم انقطاع عن الاشتغال؛ ومنه سبت اليهود لانقطاعهم عن الأعمال فيه‏.‏ وقيل‏:‏ السبت الإقامة في المكان؛ فكأن السبات سكون ما وثبوت عليه؛ فالنوم سبات على معنى أنه سكون عن الاضطراب والحركة‏.‏ وقال الخليل‏:‏ السبات نوم ثقيل؛ أي جعلنا نومكم ثقيلا ليكمل الإجمام والراحة‏.‏

قوله ‏}‏وجعل النهار نشورا‏}‏من الانتشار للمعاش؛ أي النهار سبب الإحياء للانتشار‏.‏ شبه اليقظة فيه بتطابق الإحياء مع الإماتة‏.‏ وكان عليه السلام إذا أصبح قال‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ‏)‏

الآية رقم ‏(‏ 48 ‏)‏

‏{‏ وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا ‏}‏

قوله ‏}‏وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته‏}‏تقدم في الأعراف ‏.‏

قوله ‏{‏ماء طهورا‏}‏يتطهر به؛ كما يقال‏:‏ وضوء للماء الذي يتوضأ به‏.‏ وكل طهور طاهر وليس كل طاهر طهورا‏.‏ فالطهور بفتح الطاء الاسم‏.‏ وكذلك الوضوء والوقود‏.‏ وبالضم المصدر، وهذا هو المعروف في اللغة؛ قاله ابن الأنباري‏.‏ فبين أو الماء المنزل من السماء طاهر في نفسه مطهر لغيره؛ فإن الطهور بناء مبالغة في طاهر وهذه المبالغة اقتضت أن يكون طاهرا مطهرا‏.‏ وإلى هذا مذهب الجمهور‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏طهورا‏}‏بمعنى طاهر؛ وهو قول أبي حنيفة؛ وتعلق بقوله ‏{‏وسقاهم ربهم شرابا طهورا‏}‏ يعني طاهرا‏.‏ ويقول الشاعر‏:‏

خليلي هل في نظرة بعد توبة أداوي بها قلبي علي فجور

إلى رجح الأكفال غيد من الظبا عذاب الثنايا ريقهن طهور

فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر‏.‏ وتقول العرب‏:‏ رجل نؤوم وليس ذلك بمعنى أنه‏.‏ منيم لغيره، وإنما يرجع ذلك إلى فعل نفسه‏.‏ ولقد أجاب علماؤنا عن هذا فقالوا‏:‏ وصف شراب الجنة بأنه طهور يفيد التطهير عن أوضار الذنوب وعن خسائس الصفات كالغل والحسد، فإذا شربوا هذا الشراب يطهرهم الله من رحض الذنوب وأوضار الاعتقادات الذميمة، فجاؤوا الله بقلب سليم، ودخلوا الجنة بصفات التسليم، وقيل لهم حينئذ ‏}‏سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين‏}‏ ‏.‏ ولما كان حكمه في الدنيا بزوال حكم الحدث بجريان الماء على الأعضاء كانت تلك حكمته في الآخرة‏.‏ وأما قول الشاعر‏:‏

ريقهن طهور

فإنه قصد بذلك المبالغة في وصف الريق بالطهورية لعذوبته وتعلقه بالقلوب، وطيبه في النفوس، وسكون غليل المحب برشفه حتى كأنه الماء الطهور، وبالجملة فإن الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازاة الشعرية؛ فإن الشعراء يتجاوزون في الاستغراق حد الصدق إلى الكذب، ويسترسلون في القول حتى يخرجهم ذلك إلى البدعة والمعصية، وربما وقعوا في الكفر من حيث لا يشعرون‏.‏ ألا ترى إلى قول بعضهم‏:‏

ولو لم تلامس صفحة الأرض رجلها لما كنت أدري علة للتيمم

وهذا كفر صراح، نعوذ بالله منه‏.‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ هذا منتهى لباب كلام العلماء، وهو بالغ في فنه؛ إلا أني تأملت من طريق العربية فوجدت فيه مطلعا مشرقا، وهو أن بناء فعول للمبالغة، إلا أن المبالغة قد تكون في الفعل‏.‏ المتعدي كما قال الشاعر‏:‏

ضروب بنصل السيف سوق سمانها

وقد تكون في الفعل القاصر كما قال الشاعر‏:‏

نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل

وإنما تؤخذ طهورية الماء لغيره من الحسن نظافة ومن الشرع طهارة؛ كقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صلاة بغير طهور‏)‏‏.‏ وأجمعت الأمة لغة وشريعة على أن وصف طهور يختص بالماء فلا يتعدى إلى سائر المائعات وهي طاهرة؛ فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدل دليل على أن الطهور هو المطهر، وقد يأتي فعول لوجه آخر ليس من هذا كله وهو العبارة به الآلة للفعل لا عن الفعل كقولنا‏:‏ وقود وسحور بفتح الفاء، فإنها عبارة عن الحطب الطعم المتسحر به؛ فوصف الماء بأنه طهور بفتح الطاء أيضا يكون خبرا عن الآلة التي يتطهر بها‏.‏ فإذا ضمت الفاء في الوقود والسحور والطهور عاد إلى الفعل وكان خبرا عنه‏.‏ فثبت بهذا أن اسم الفعول بفتح الفاء يكون بناء للمبالغة ويكون خبرا عن الآلة، وهو الذي خطر ببال الحنفية، ولكن قصرت أشداقها عن لوكه، وبعد هذا يقف البيان عن المبالغة وعن الآلة على الدليل بقوله ‏{‏وأنزلنا من السماء ماء طهورا‏}‏‏.‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا‏)‏ يحتمل المبالغة ويحتمل العبارة به عن الآلة؛ فلا حجة فيه لعلمائنا، لكن يبقى قول ‏{‏ليطهركم به‏}‏ نص في أن فعله يتعدى إلى غيره‏.‏

المياه المنزلة من السماء المودعة في الأرض طاهرة مطهرة على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها، والمخالط للماء على ثلاثة اضرب‏:‏ ضرب يوافقه في صفتيه جميعا، فإذا خالطه فغيره لم يسلبه وصفا منهما لموافقته لهما وهو التراب‏.‏ والضرب الثاني يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة، فاذا خالطه فغيره سلبه ما خالفه فيه وهو التطهير؛ كماء الورد وسائر الطاهرات‏.‏ والضرب الثالث يخالفه في الصفتين جميعا، فإذا خالطه فغيره سلبه الصفتين جميعا لمخالفته له فيهما وهو النجس‏.‏

ذهب المصريون من أصحاب مالك إلى أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة، وأن الكثير لا يفسده إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه من المحرمات‏.‏ ولم يحدوا بين القليل والكثير حدا يوقف عنده، إلا أن ابن القاسم روى عن مالك في، الجنب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب، ولم يكن غسل ما به من الأذى أنه قد أفسد الماء؛ وهو مذهب ابن القاسم وأشهب وابن عبدالحكم ومن اتبعهم من المصريين‏.‏ إلا ابن وهب فإنه يقول في الماء بقول المدنيين من أصحاب مالك‏.‏ وقولهم ما حكاه أبو مصعب عنهم وعنه‏:‏ أن الماء لا تفسده النجاسة الحالة فيه قليلا كان أو كثيرا إلا أن تظهر فيه النجاسة الحالة فيه وتغير منه طعما أو ريحا أو لونا‏.‏ وذكر أحمد بن المعدل أن هذا قول مالك بن أنس في الماء‏.‏ وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحاق ومحمد بن بكير وأبو الفرج الأبهري وسائر المنتحلين لمذهب مالك، من البغداديين؛ وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح وداود بن علي‏.‏ وهو مذهب أهل البصرة، وهو الصحيح في النظر وجيد الأثر‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا وقعت نجاسة في الماء أفسدته كثيرا كان أو قليلا إذا تحققت عموم النجاسة فيه‏.‏ ووجه تحققها عنده أن تقع مثلا نقطة بول في بركة، فإن كانت البركة يتحرك طرفاها بتحرك أحدهما فالكل نجس، وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرك الآخر لم ينجس‏.‏ وفي المجموعة نحو مذهب أبي حنيفة‏.‏ وقال الشافعي بحديث القلتين، وهو حديث مطعون فيه؛ اختلف في إسناده ومتنه؛ أخرجه أبو داود والترمذي وخاصة الدارقطني، فإنه صدر به كتابه وجمع طرقه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وقد رام الدارقطني على إمامته أن يصحح حديث القلتين فلم يقدر‏.‏ وقال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ وأما ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين فمذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت في الأثر؛ لأنه قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل، ولأن القلتين لا يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع، فلو كان ذلك حدا لازما لوجب على العلماء البحث عنه ليقفوا على حد ما حده النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من أصل دينهم وفرضهم، ولو كان ذلك كذلك ما ضيعوه، فلقد بحثوا عما هو أدون من ذلك وألطف‏.‏

قلت‏:‏ وفيما ذكر ابن المنذر في القلتين من الخلاف يدل على عدم التوقيف فيهما والتحديد‏.‏ وفي سنن الدارقطني عن حماد بن زيد عن عاصم بن المنذر قال‏:‏ القلال الخوابي العظام‏.‏ وعاصم هذا هو أحد رواة حديث القلتين‏.‏ ويظهر من قول الدارقطني أنها مثل قلال هجر؛ لسياقه حديث الإسراء عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة‏)‏‏.‏ وذكر الحديث‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وتعلق علماؤنا بحديث أبي سعيد الخدري في بئر بضاعة، رواه النسائي والترمذي وأبو داود وغيرهم‏.‏ وهو أيضا حديث ضعيف لا قدم له في الصحة فلا تعويل عليه‏.‏ وقد فاوضت الطوسي الأكبر في هذه المسألة فقال‏:‏ إن أخلص المذاهب في هذه المسألة مذهب مالك، فإن الماء طهور ما لم يتغير أحد أوصافه؛ إذ لا حديث في الباب يعول عليه، وإنما المعول على ظاهر القرآن وهو قوله ‏{‏وأنزلنا من السماء ماء طهورا‏}‏وهو ما دام بصفاته، فإذا تغير عن شيء منها خرج عن الاسم لخروجه عن الصفة، ولذلك لما لم يجد البخاري إمام الحديث والفقه في الباب خبرا يعول عليه قال باب إذا تغير وصف الماء‏)‏ وأدخل الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏ما من أحد يكلم في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك‏)‏‏.‏ فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الدم بحاله وعليه رائحة المسك، ولم تخرجه الرائحة عن صفة الدموية‏.‏ ولذلك قال علماؤنا‏:‏ إذا تغير الماء بريح جيفة على طرفه وساحله لم يمنع ذلك الوضوء منه‏.‏ ولو تغير بها وقد وضعت فيه لكان ذلك تنجيسا له للمخالطة والأول مجاورة لا تعويل عليها‏.‏

قلت‏:‏ وقد استدل به أيضا على نقيض ذلك، وهو أن تغير الرائحة يخرجه عن أصله‏.‏ ووجه هذا الاستدلال أن الدم لما استحالت رائحته إلى رائحة المسك خرج عن كونه مستخبثا نجسا، وأنه صار مسكا؛ وإن المسك بعض دم الغزال‏.‏ فكذلك الماء إذا تغيرت رائحته‏.‏ وإلى هذا التأويل ذهب الجمهور في الماء‏.‏ وإلى الأول ذهب عبدالملك‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ جعلوا الحكم للرائحة دون اللون، فكان الحكم لها فاستدلوا عليها في زعمهم بهذا الحديث‏.‏ وهذا لا يفهم منه معنى تسكن إليه النفس، ولا في الدم معنى الماء فيقاس عليه، ولا يشتغل بمثل هذا الفقهاء، وليس من شأن أهل العلم اللغز به وإشكاله؛ وإنما شأنهم إيضاحه وبيانه، ولذلك أخذ الميثاق عليهم ليبيننه‏.‏ للناس ولا يكتمونه، والماء لا يخلو تغيره بنجاسة أو بغير نجاسة، فإن كان بنجاسة وتغير فقد أجمع العلماء على أنه غير طاهر ولا مطهر، وكذلك أجمعوا أنه إذا تغير بغير نجاسة أنه طاهر على أصله‏.‏ وقال الجمهور‏.‏ إنه غير مطهر إلا أن يكون تغيره من تربة ومأة‏.‏ وما أجمعوا عليه فهو الحق الذي لا إشكال فيه، ولا التباس معه‏.‏

الماء المتغير بقراره كزرنيخ أو جير يجري عليه، أو تغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه لا يمكن الاحتراز عنه فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء به، لعدم الاحتراز منه والانفكاك عنه؛ وقد روى ابن وهب عن مالك أن غيره أولى منه‏.‏

قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ ويكره سؤر النصراني وسائر الكفار والمدمن الخمر، وما أكل الجيف؛ كالكلاب وغيرها‏.‏ ومن توضأ بسؤرهم فلا شيء عليه حتى يستيقن النجاسة‏.‏ قال البخاري‏:‏ وتوضأ عمر رضي الله عنه من بيت نصرانية‏.‏ ذكر سفيان بن عيينة قال‏:‏ حدثونا عن زيد بن أسلم عن أبيه قال‏:‏ لما كنا بالشام أتيت عمر بن الخطاب بماء فتوضأ منه فقال‏:‏ من أين جئت بهذا الماء‏؟‏ ما رأيت ماء عذبا ولا ماء سماء أطيب منه‏.‏ قال قلت‏:‏ جئت به من بيت هذه العجوز النصرانية؛ فلما توضأ أتاها فقال‏:‏ ‏(‏أيتها العجوز أسلمي تسلمي، بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق‏.‏ قال‏:‏ فكشفت عن رأسها؛ فإذا مثل الثغامة، فقالت‏:‏ عجوز كبيرة، وإنما أموت الآن‏!‏ فقال عمر رضى الله عنه‏:‏ اللهم اشهد‏)‏‏.‏ خرجه الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا أحمد بن إبراهيم البوشنجي قال حدثنا سفيان‏.‏‏.‏ فذكره‏.‏ ورواه أيضا عن الحسين بن إسماعيل قال حدثنا خلاد بن أسلم حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه توضأ من بيت نصرانية أتاها فقال‏:‏ أيتها العجوز أسلمي‏.‏‏.‏ ؛ وذكر الحديث بمثل ما تقدم‏.‏

فأما الكلب إذا ولغ في الماء فقال مالك‏:‏ يغسل الإناء سبعا ولا يتوضأ منه وهو طاهر‏.‏ وقال الثوري‏:‏ يتوضأ بذلك الماء ويتمم معه‏.‏ وهو قول عبدالملك بن عبدالعزيز ومحمد بن مسلمة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ الكلب نجس ويغسل الإناء منه لأنه نجس‏.‏ وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق‏.‏ وقد كان مالك يفرق بين ما يجوز اتخاذه من الكلاب وبين ما لا يجوز اتخاذه منها في غسل الإناء من ولوغه‏.‏ وتحصيل مذهبه أنه طاهر عنده لا ينجس ولوغه شيئا ولغ فيه طعاما ولا غيره؛ إلا أنه استحب هراقة ما ولغ فيه من الماء ليسارة مؤنته‏.‏ وكلب البادية والحاضرة سواء‏.‏ ويغسل الإناء منه على كل حال سبعا تعبدا‏.‏ هذا ما استقر عليه مذهبه عند المناظرين من أصحابه‏.‏ ذكر ابن وهب وقال‏:‏ حدثنا عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء عن أبي هريرة قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينة، فقيل له‏:‏ إن الكلاب والسباع ترد عليها‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور‏)‏ أخرجه الدارقطني‏.‏ وهذا نص في طهارة الكلاب وطهارة ما تلغ فيه‏.‏ وفي البخاري عن ابن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يرشون شيئا من ذلك‏.‏ وقال عمر بحضرة الصحابة لصاحب الحوض الذي سأله عمرو بن العاص‏:‏ هل ترد حوضك السباع‏.‏ فقال عمر‏:‏ يا صاحب الحوض، لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا‏.‏ أخرجه مالك والدارقطني‏.‏ ولم يفرق بين السباع، والكلب من جملتها، ولا حجة للمخالف في الأمر بإراقة ما ولغ فيه وأن ذلك للنجاسة، وإنما أمر بإراقته لأن النفس تعافه لا لنجاسته؛ لأن التنزه من الأقذار مندوب إليه، أو تغليظا عليهم لأنهم نهوا عن اقتنائها كما قال ابن عمر والحسن؛ فلما لم ينتهوا عن ذلك غلظ عليهم في الماء لقلته عندهم في البادية، حتى يشتد عليهم فيمتنعوا من اقتنائها‏.‏ وأما الأمر بغسل الإناء فعبادة لا لنجاسته كما ذكرناه بدليلين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الغسل قد دخله العدد‏.‏ الثاني‏:‏ أنه جعل للتراب فيه مدخل لقول عليه السلام‏:‏ ‏(‏وعفروه الثامنة بالتراب‏)‏‏.‏ ولو كان للنجاسة لما كان للعدد ولا للتراب في مدخل كالبول‏.‏ وقد جعل صلى الله عليه وسلم الهر وما ولغ فيه طاهرا، والهر سبع لا خلاف في ذلك؛ لأنه يفترس ويأكل الميتة؛ فكذلك الكلب وما كان مثله من السباع؛ لأنه إذا جاء نص ذلك في أحدهما كان نصا في الآخر‏.‏ وهذا من أقوى أنواع القياس‏.‏ هذا لو لم يكن هناك دليل؛ وقد ذكرنا النص على طهارته فسقط قول المخالف‏.‏ والحمد لله‏.‏

ما مات في الماء مما لا دم له فلا يضر الماء إن لم يغير ريحه؛ فإن أنتن لم يتوضأ به‏.‏ وكذلك ما كان ل دم سائل من دواب الماء كالحوت والضفدع لم يفسد ذلك الماء موته فيه؛ إلا أن تتغير رائحته، فإن تغيرت رائحته وأنتن لم يجز التطهر به ولا الوضوء منه، وليس بنجس عند مالك‏.‏ وأما ما له نفس سائلة فمات في الماء ونزح مكانه ولم يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر مطهر سواء كان الماء قليلا أو كثيرا عند المدنيين‏.‏ واستحب بعضهم‏.‏ أن ينزح من ذلك الماء دلاء لتطيب النفس به، ولا يحدون في ذلك حدا لا يتعدى‏.‏ ويكرهون استعمال ذلك الماء قبل نزح الدلاء، فإن استعمله أحد في غسل أو وضوء جاز إذا كانت حاله ما وصفنا‏.‏ وقد كان بعض أصحاب مالك يرى لمن توضأ بهذا الماء وإن لم يتغير أن يتيمم، فيجمع بين الطهارتين احتياطا، فإن لم يفعل وصلى بذلك الماء أجزأه‏.‏ و‏"‏روى الدارقطني عن محمد بن سيرين‏"‏ أن زنجيا وقع في زمزم - يعني فمات - فأمر به ابن عباس رضي الله عنه فأخرج فأمر بها أن تنزح‏.‏ قال‏:‏ فغلبتهم عين جاءتهم من الركن فأمر بها فدسمت بالقباطي والمطارف حتى نزحوها، فلما نزحوها انفجرت عليهم‏.‏ وأخرجه عن أبي الطفيل أن غلاما وقع في بئر زمزم فنزحت‏.‏ وهذا يحتمل أن يكون الماء تغير، والله أعلم‏.‏ و روى‏.‏ شعبة عن مغيرة عن إبراهيم أنه كان يقول‏:‏ كل نفس سائلة لا يتوضأ منها، ولكن رخص في الخنفساء والعقرب والجراد والجدجد إذا وقعن في الركاء فلا بأس به‏.‏ قال شعبة‏:‏ وأظنه قد ذكر الوزغة‏.‏ أخرجه الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن الوليد قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة‏.‏‏.‏‏.‏؛ فذكره‏.‏

ذهب الجمهور من الصحابة وفقهاء الأمصار وسائر التابعين بالحجاز والعراق أن ما ولغ فيه الهر من الماء طاهر، وأنه لا بأس بالوضوء بسؤره؛ لحديث أبي قتادة، أخرجه مالك وغيره‏.‏ وقد روي عن أبي هريرة فيه خلاف‏.‏ وروي عن عطاء بن أبي رباج وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهم أمروا بإراقة ماء ولغ فيه الهر وغسل الإناء منه‏.‏ واختلف في ذلك عن الحسن‏.‏ ويحتمل أن كون الحسن رأى في فمه نجاسة ليصح مخرج الروايتين عنه‏.‏ قال الترمذي لما ذكر حديث مالك‏}‏وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة، هذا حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم؛ مثل الشافعي وأحمد وإسحاق، لم يروا بسؤر الهرة بأسا ‏.‏ وهذا أحسن شيء في الباب، وقد جود مالك هذا الحديث عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، ولم يأت به أحد أتم من مالك‏.‏ قال الحافظ أبو عمر‏:‏ الحجة عند التنازع والاختلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صح من حديث أبي قتادة أنه أصغى لها الإناء حتى شربت‏.‏ الحديث‏.‏ وعليه اعتماد الفقهاء في كل مصر إلا أبا حنيفة ومن قال بقول؛ فإنه كان يكره سؤره‏.‏ وقال‏:‏ إن توضأ به أحد أجزأه، ولا أعلم حجة لمن كره الوضوء بسؤر الهرة أحسن من أنه لم يبلغه حديث أبي قتادة، وبلغه حديث أبي هريرة في الكلب فقاس الهر عليه، وقد فرقت السنة بينهما في باب التعبد في غسل الإناء، ومن حجته السنة خاصمته، وما خالفها مطرح‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏ ومن حجتهم أيضا ما رواه قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين‏)‏ شك قرة‏.‏ وهذا الحديث لم يرفعه إلا قرة بن خالد، وقرة ثقة ثبت‏.‏ قلت‏:‏ هذا الحديث‏"‏ أخرجه الدارقطني‏"‏، ومتنه‏:‏ ‏(‏ طهور الإناء إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات الأولى بالتراب والهر مرة أو مرتين‏)‏‏.‏ قرة شك‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ كذا رواه أبو عاصم مرفوعا، ورواه غيره عن قرة ‏(‏ولوغ الكلب‏)‏ مرفعا و‏(‏ولوغ الهر‏)‏ موقوفا‏.‏ و روى أبو صالح عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يغسل الإناء من الهر كما يغسل من الكلب‏)‏ قال الدارقطني‏:‏ لا يثبت هذا مرفوعا والمحفوظ من قول أبي هريرة واختلف عنه‏.‏ وذكر معمر وابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يجعل الهر مثل الكلب‏.‏ وعن مجاهد أنه قال في الإناء يلغ فيه السنور قال‏:‏ اغسله سبع مرات‏.‏ قال الدارقطني‏.‏

الماء المستعمل طاهر إذا كانت أعضاء المتوضئ به طاهرة؛ إلا أن مالكا وجماعة من الفقهاء الجلة كانوا يكرهون الوضوء به‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا خير فيه، ولا أحب لأحد أن يتوضأ به، فإن فعل وصلى لم أر عليه إعادة الصلاة ويتوضأ لما يستقبل‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما‏:‏ لا يجوز استعماله في رفع الحدث، ومن توضأ به أعاد؛ لأنه ليس بماء مطلق؛ ويتيمم واجده لأنه ليس بواجد ماء‏.‏ وقال بقولهم في ذلك اصبغ بن الفرج، وهو قول الأوزاعي‏.‏ واحتجوا بحديث الصنابحي خرجه مالك وحديث عمرو بن عنبسة أخرجه مسلم، وغير ذلك من الآثار‏.‏ وقالوا‏:‏ الماء إذا توضئ به خرجت الخطايا معه؛ فوجب التنزه عنه لأنه ماء الذنوب‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وهذا عندي لا وجه له؛ لأن الذنوب لا تنجس الماء لأنها لا أشخاص لها ولا أجسام تمازج الماء فتفسده، وإنما معنى قوله خرجت الخطايا مع الماء إعلام منه بأن الوضوء للصلاة عمل يكفر الله به السيئات عن عباده المؤمنين رحمة منه بهم وتفضلا عليهم‏.‏ وقال أبو ثور وداود مثل قول مالك، وأن الوضوء بالماء المستعمل جائز؛ لأنه ماء طاهر لا ينضاف إليه شيء وهو ماء مطلق‏.‏ واحتجوا بإجماع الأمة على طهارته إذا لم يكن في أعضاء المتوضئ نجاسة‏.‏ وإلى هذا ذهب أبو عبدالله المروزي محمد بن نصر‏.‏ وروي عن علي بن أبى طالب وابن عمر وأبي أمامة وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري والنخعي ومكحول والزهري أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد في لحيته بللا‏:‏ إنه يجزئه أن يمسح بذلك البلل رأسه؛ فهؤلاء كلهم أجازوا الوضوء بالماء المستعمل‏.‏ روي عبدالسلام بن صالح حدثنا إسحاق بن سويد عن العلاء بن زياد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرضي ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم ذات يوم وقد اغتسل وقد بقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء، فقلنا‏:‏ يا رسول الله، هذه لمعة لم يصبها الماء؛ فكان له شعر وارد، فقال بشعره هكذا على المكان فبله‏)‏‏.‏ ‏"‏أخرجه الدارقطني‏"‏، وقال‏:‏ عبدالسلام بن صالح هذا بصري وليس بقوي وغيره من الثقات يرويه عن إسحاق عن العلاء مرسلا، وهو الصواب‏.‏

قلت‏:‏ الراوي الثقة عن إسحاق بن سويد العدوي عن العلاء بن زياد العدوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل‏.‏‏.‏‏.‏؛ الحديث فيما ذكره هشيم‏.‏ قال ابن العربي‏}‏مسألة الماء المستعمل إنما تنبني على أصل آخر، وهو أن الآلة إذا أدي بها فرض هل يؤدى بها فرض آخر أم لا؛ فمنع ذلك المخالف قياسا على الرقبة إذا أدى بها فرض عتق لم يصلح أن يتكرر في أداء فرض آخر؛ وهذا باطل من القول، فإن العتق إذا أتى على الرق أتلفه فلا يبقى محل لأداء الفرض بعتق آخر‏.‏ ونظيره من الماء ما تلف على الأعضاء فإنه لا يصح أن يؤدى به فرض آخر لتلف عينه حسا كما تلف الرق في الرقبة بالعتق حكما، وهذا نفيس فتأملوه ‏.‏

لم يفرق مالك وأصحابه بين الماء تقع فيه النجاسة وبين النجاسة يرد عليه الماء، راكدا كان الماء أو غير راكد؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه فغير طعمه أو لونه أو ريحه‏)‏‏.‏ وفرقت الشافعية فقالوا‏:‏ إذا وردت النجاسة‏:‏ على الماء تنجس؛ واختاره ابن العربي‏.‏ وقال‏:‏ من أصول الشريعة في أحكام الماء أن ورود النجاسة على الماء ليس كورود الماء على النجاسة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده‏)‏‏.‏ فمنع من ورود اليد على الماء وأمر بإيراد الماء عليها، وهذا أصل بديع في الباب، ولولا وروده على النجاسة - قليلا كان أو كثيرا - لما طهرت‏.‏ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في بول الأعرابي في المسجد‏:‏ ‏(‏صبوا عليه ذنوبا من ماء‏)‏‏.‏ قال شيخنا أبو العباس‏:‏ واستدلوا أيضا بحديث القلتين، فقالوا‏:‏ إذا كان الماء دون القلتين فحلته نجاسة تنجس وإن لم تغيره، وإن ورد ذلك القدر فأقل على النجاسة فأذهب عينها بقي الماء على طهارته وأزال النجاسة‏.‏ وهذه مناقضة، إذ المخالطة قد حصلت في الصورتين، وتفريقهم بورود الماء على النجاسة وورودها عليه فرق صوري ليس فيه من الفقه شيء، فليس الباب باب التعبدات بل من باب عقلية المعاني، فإنه من باب إزالة النجاسة وأحكامها‏.‏ ثم هذا كله منهم يرده قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه ‏)‏

قلت‏:‏ هذا الحديث ‏"‏أخرجه الدارقطني ‏"‏عن رشدين بن سعد أبي الحجاج عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي أمامة الباهلي وعن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه ذكر اللون‏.‏ وقال‏:‏ لم يرفعه غير رشدين بن سعد عن معاوية بن صالح وليس بالقوي، وأحسن منه في الاستدلال ما رواه أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب عن عبيدالله بن عبدالله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد الخدري قال قيل‏:‏ يا رسول الله، أنتوضأ من بئر بضاعة‏؟‏ وهي بئر تلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الماء طهور لا ينجسه شيء‏)‏‏"‏ أخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني ‏"‏كلهم بهذا الإسناد‏.‏ وقال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن، وقد جود أبو أسامة‏.‏ هذا الحديث ولم يرو أحد حديث أبى سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة‏.‏ فهذا الحديث نصي في ورود النجاسة على الماء، وقد حكم صلى الله عليه وسلم بطهارته وطهوره‏.‏ قال ‏"‏أبو داود‏"‏‏:‏ سمعت قتيبة بن سعيد قال‏:‏ سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها؛ قلت‏:‏ أكثر ما يكون الماء فيها‏؟‏ قال‏:‏ إلى العانة‏.‏ قلت‏:‏ فإذا نقص‏؟‏ قال‏:‏ دون العورة‏.‏ قال أبو داود‏:‏ وقدرت بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه‏:‏ هل غير بناؤها عما كانت عليه‏؟‏ فقال لا‏.‏ ورأيت فيها ماء متغير اللون‏.‏ فكان هذا دليلا لنا على ما ذكرناه، غير أن ابن العربي قال‏:‏ إنها في وسط السبخة، فماؤها متغيرا من قرارها؛ والله أعلم‏.‏

الماء الطاهر المطهر الذي يجوز به الوضوء وغسل النجاسات هو الماء القراح الصافي من ماء السماء والأنهار والبحار والعيون والآبار، وما عرفه الناس ماء مطلقا غير مضاف إلى شيء خالطه كما خلقه الله عز وجل صافيا ولا يضره لون أرضه على ما بيناه‏.‏ وخالف في هذه الجملة‏.‏ أبو حنيفة وعبدالله بن عمرو وعبدالله بن عمر فأما أبو حنيفة فأجاز الوضوء بالنبيذ في السفر، وجوز إزالة النجاسة بكل مائع طاهر‏.‏ فأما بالدهن والمرق فعنه رواية أنه لا يجوز إزالتها به‏.‏ إلا أن أصحابه يقولون‏:‏ إذا زالت النجاسة به جاز‏.‏ وكذلك عنده النار والشمس؛ حتى أن جلد الميتة إذا جف في الشمس طهر من غير دباغ‏.‏ وكذلك النجاسة على الأرض إذا جفت بالشمس فإنه يطهر ذلك الموضع، بحيث تجوز الصلاة عليه، ولكن لا يجوز التيمم بذلك التراب‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ لما وصف الله سبحانه الماء بأنه طهور وامتن بإنزاله من السماء ليطهرنا به دل على اختصاصه بذلك؛ وكذلك قال عليه الصلاة والسلام لأسماء بنت الصديق حين سألته عن دم الحيض يصيب الثوب‏:‏ ‏(‏حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء‏)‏‏.‏ فلذلك لم يلحق غير الماء بالماء لما في ذلك من إبطال الامتنان، وليست النجاسة معنى محسوسا حتى يقال كل ما أزالها فقد قام به الغرض، وإنما النجاسة حكم شرعي عين له صاحب الشرع الماء فلا يلحق به غيره؛ إذ ليس في معناه، ولأنه لو لحق به لأسقطه، والفرع إذا عاد إلحاقه بالأصل في إسقاطه سقط في نفسه‏.‏ وقد كان تاج السنة ذو العز بن المرتضى الدبوسي يسميه فرخ زنى‏.‏

قلت‏:‏ وأما ما استدل به على استعمال النبيذ فأحاديث واهية، ضعاف لا يقوم شيء منها على‏.‏ ساق؛ ذكرها الدارقطني وضعفها ونص عليها‏.‏ وكذلك ضعف ما روي عن ابن عباس موقوفا ‏(‏النبيذ وضوء لمن لم يجد الماء‏)‏‏.‏ في طريقه ابن محرز متروك الحديث‏.‏ وكذلك ما روي عن علي أنه قال‏:‏ لا بأس بالوضوء بالنبيذ‏.‏ الحجاج وأبو ليلى ضعيفان‏.‏ وضعف حديث ابن مسعود وقال‏:‏ تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث‏.‏ وذكر عن علقمة بن قيس قال‏:‏ قلت لعبدالله بن مسعود‏:‏ أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن‏؟‏ فقال لا‏.‏

قلت‏:‏ هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة رواته‏.‏ وأخرج الترمذي حديث ابن مسعود قال‏:‏ سألني النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما في إداوتك‏)‏ فقلت‏:‏ نبيذ‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ثمرة طيبة وماء طهور‏)‏ قال‏:‏ فتوضأ منه‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ وإنما روي هذا الحديث، عن أبي زيد عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث لا نعرف له رواية‏.‏ غير هذا الحديث، وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء بالنبيذ، منهم سفيان وغيره، وقال بعض أهل العلم‏:‏ لا يتوضأ بالنبيذ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وقال إسحاق‏:‏ إن ابتلي رجل بهذا فتوضأ بالنبيذ وتيمم أحب إلي‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ وقول من يقول لا يتوضأ بالنبيذ أقرب إلى الكتاب والسنة وأشبه؛ لأن الله تعالىقال ‏{‏فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا‏}‏ ‏.‏ وهذه المسألة مطولة في كتب الخلاف؛ وعمدتهم التمسك بلفظ الماء حسبما تقدم في المائدة بيانه والله أعلم‏.‏

لما قال الله ‏{‏وأنزلنا من السماء ماء طهورا‏}‏وقال ‏{‏ليطهركم به‏}‏ توقف جماعة في ماء البحر؛ لأنه ليس بمنزل من السماء؛ حتى رووا عن عبدالله بن عمر وابن عمرو معا أنه لا يتوضأ به؛ لأنه نار ولأنه طبق جهنم‏.‏ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بين حكمه حين قال لن سأله‏:‏ ‏(‏هو الطهور ماؤه الجل ميتته‏)‏ ‏"‏أخرجه مالك‏"‏‏.‏ وقال فيه أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم أبو بكر وعمر وابن عباس، لم يروا بأسا بماء البحر، وقد كره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء بماء البحر؛ منهم ابن عمر وعبدالله بن عمرو، وقال عبدالله بن عمرو‏:‏ هو نار‏.‏ قال أبو عمر؛ وقد سئل أبو عيسى الترمذي عن حديث مالك هذا عن صفوان بن سليم فقال‏:‏ هو عندي حديث صحيح‏.‏ قال أبو عيسى فقلت للبخاري‏:‏ هشيم يقول فيه أبي ابن برزة‏.‏ فقال‏:‏ وهم فيه، إنما هو المغيرة بن أبي بردة‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ لا أدري ما هذا من البخاري رحمه الله، ولو كان صحيحا لأخرجه في مصنفه الصحيح عنده، ولم يفعل لأنه لا يعول في الصحيح إلا على الإسناد‏.‏ وهذا الحديث لا يحتج أهل الحديث بمثل إسناده، وهو عندي صحيح لأن العلماء تلقوه بالقبول له والعمل به، ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء، وإنما الخلاف بينهم في بعض معانيه‏.‏ وقد أجمع جمهور من العلماء وجماعة أئمة الفتوى بالأمصار من الفقهاء‏:‏ أن البحر طهور ماؤه، وأن الوضوء به جائز؛ إلا ما روي عن عبدالله بن عمر بن الخطاب وعبدالله بن عمرو بن العاص أنهما كرها الوضوء بماء البحر، ولم يتابعهما أحد من فقهاء الأمصار على ذلك ولا عرج عليه، ولا التفت إليه لحديث هذا الباب‏.‏ وهذا يدلك على اشتهار الحديث عندهم، وعملهم به وقبولهم له، وهو أولى عندهم من الإسناد الظاهر الصحة لمعنى ترده الأصول‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

قال أبو عمر‏:‏ وصفوان بن سليم مولى حميد بن عبدالرحمن بن عوف الزهري، من عباد أهل المدينة وأتقاهم لله، ناسكا، كثير الصدقة بما وجد من قليل وكثير، كثير العمل، خائفا لله، يكنى أبا عبدالله، سكن المدينة لم ينتقل عنها، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين ومائة‏.‏ ذكر عبدالله بن أحمد بن حنبل قال‏:‏ سمعت أبي يسأل عن صفوان بن سليم فقال‏:‏ ثقة من خيار عباد الله وفضلاء المسلمين‏.‏ وأما سعيد بن سلمة‏.‏ فلم يرو عنه فيما علمت إلا صفوان - والله أعلم - ومن كانت هذه حاله فهو مجهول لا تقوم به حجة عند جميعهم‏.‏ وأما المغيرة بن أبي بردة فقيل عنه إنه غير معروف في حملة العلم كسعيد بن سلمة‏.‏ وقيل‏:‏ ليس بمجهول‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ المغيرة بن أبي بردة وجدت ذكره في مغازي موسى بن نصير بالمغرب، وكان موسى يستعمله على الخيل، وفتح الله له في بلاد البربر فتوحات في البر والبحر‏.‏ و‏"‏روى الدارقطني من غير طريق مالك‏"‏ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من لم يطهره ماء البحر فلا طهره الله‏)‏‏.‏ قال إسناده حسن‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ توهم قوم أن الماء إذا فضلت للجنب منه فضله لا يتوضأ به، وهو مذهب باطل، فقد ثبت عن ميمونة أنها قالت‏:‏ أجنبت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلت من جفنة وفضلت فضلة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليغتسل منه فقلت‏:‏ إني قد اغتسلت منه‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن الماء ليس عليه نجاسة - أو - إن الماء لا يجنب‏)‏‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وردت آثار في هذا الباب مرفوعة في النهي عن أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة‏.‏ وزاد بعضهم في بعضها‏:‏ ولكن ليغترفا جميعا‏.‏ فقالت طائفة‏:‏ لا يجوز أن يغترف الرجل مع المرأة في إناء واحد؛ لأن كل واحد منهما متوضئ بفضل صاحبه‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إنما كره من ذلك أن تنفرد المرأة بالإناء ثم يتوضأ الرجل بعدها بفضلها‏.‏ وكل واحد منهم روى بما ذهب إليه أثرا‏.‏ والذي ذهب إليه الجمهور من العلماء وجماعة فقهاء الأمصار أنه لا بأس أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة وتتوضأ المرأة من فضله، انفردت المرأة بالإناء أو لم تنفرد‏.‏ وفي مثل هذا آثار كثيرة صحاح‏.‏ والذي نذهب إليه أن الماء لا ينجسه شيء إلا ما ظهر فيه من النجاسات أو غلب عليه منها؛ فلا وجه للاشتغال بما لا يصح من الآثار والأقوال‏.‏ والله المستعان‏.‏

‏"‏روى الترمذي عن ابن عباس‏"‏ قال‏:‏ حدثتني ميمونة قالت‏:‏ كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة‏.‏ قال هذا حديث حسن صحيح‏.‏ و‏"‏روى البخاري عن عائشة‏"‏ قالت‏:‏ كنت اغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يقال له الفرق‏.‏ وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة‏.‏ و‏"‏روى الترمذي عن ابن عباس‏"‏ قال‏:‏ اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، في جفنة فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ منه فقالت‏:‏ يا رسول الله، إني كنت جنبا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إن الماء لا يجنب‏)‏‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح، وهو قول سفيان الثوري ومالك والشافعي‏.‏ و‏"‏روى الدارقطني عن عمرة‏"‏ عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كنت أتوضأ أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وقد أصابت الهرة منه قبل ذلك‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وروي أيضا عن رجل من بني غفار قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضل طهور المرأة‏)‏‏.‏ وفي الباب عن عبدالله بن سرجس، وكره بعض الفقهاء فضل طهور المرأة، وهو قول أحمد وإسحاق‏.‏

‏"‏روى الدارقطني عن زيد بن أسلم‏"‏ مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب كان يسخن له الماء في قمقمة ويغتسل به‏.‏ قال‏:‏ وهذا إسناد صحيح‏.‏ وروي عن عائشة قالت‏:‏ دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سخنت ماء في الشمس‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص‏)‏‏.‏ رواه خالد بن إسماعيل المخزومي، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وهو متروك‏.‏ ورواه عمرو بن محمد الأعشم عن فليح عن الزهري عن عروة عن عائشة‏.‏ وهو منكر الحديث، ولم يروه غيره عن فليح، ولا يصح عن الزهري؛ ‏"‏قاله الدارقطني‏"‏‏.‏

كل إناء طاهر فجائز الوضوء منه إلا إناء الذهب والفضة؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذهما‏.‏ وذلك - والله أعلم - للتشبه بالأعاجم والجبابرة لا لنجاسة فيهما‏.‏ ومن توضأ فيهما أجزاه وضوءه وكان عاصيا باستعمالهما‏.‏ وقد قيل‏:‏ لا يجزئ الوضوء في أحدهما‏.‏ والأول أكثر؛ قال أبو عمر‏.‏ وكل جلد ذكي فجائز استعماله للوضوء وغير ذلك‏.‏ وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ؛ على اختلاف من قوله‏.‏ وقد تقدم في النحل

الآية رقم ‏(‏ 49 ‏)‏

‏{‏ لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ‏}‏

قوله ‏{‏لنحيي به‏}‏أي بالمطر‏.‏ ‏{‏بلدة ميتا‏}‏بالجدوبة والمحل وعدم النبات‏.‏ قال كعب‏:‏ المطر روح الأرض يحييها الله به‏.‏ وقال ‏{‏ميتا‏}‏ولم يقل ميتة لأن معنى البلدة والبلد واحد؛ قاله الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالبلد المكان‏.‏ ‏{‏ونسقيه‏}‏قراءة العامة بضم النون‏.‏ وقرأ عمر بن الخطاب وعاصم والأعمش فيما روى المفضل عنهما ‏{‏نسقيه‏}‏بفتح النون‏.‏ ‏{‏مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا‏}‏أي بشرا كثيرا وأناسي واحده إنسي نحو جمع القرقور قراقير وقراقر في قول الأخفش والمبرد وأحد قولي الفراء؛ وله قول آخر وهو أن يكون واحده إنسانا ثم تبدل من النون ياء؛ فتقول‏:‏ أناسي، والأصل أناسين، مثل سرحان وسراحين، وبستان وبساتين؛ فجعلوا الياء عوضا من النون، وعلى هذا يجوز سراحي وبساتي، لا فرق بينهما‏.‏ قال الفراء‏:‏ ويجوز ‏{‏أناسي‏}‏بتخفيف الياء التي فيما بين لام الفعل وعينه؛ مثل قراقير وقراقر‏.‏ وقال ‏{‏كثيرا‏}‏ولم يقل كثيرين؛ لأن فعيلا قد يراد به الكثرة؛ نحو ‏{‏وحسن أولئك رفيقا‏}‏ ‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 50 ‏)‏

‏{‏ ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ‏}‏

قوله ‏{‏ولقد صرفناه بينهم‏}‏يعني القرآن، وقد جرى ذكره في أول السورة‏:‏ قوله ‏{‏تبارك الذي نزل الفرقان‏}‏ ‏.‏ وقوله ‏{‏لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني‏}‏ وقوله ‏{‏اتخذوا هذا القرآن مهجورا‏}‏‏.‏ ‏{‏ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا‏}‏أي جحودا له وتكذيبا به‏.‏ وقيل ‏{‏ولقد صرفناه بينهم‏}‏هو المطر‏.‏ روي عن ابن عباس وابن مسعود‏:‏ وأنه ليس عام بأكثر مطرا من عام ولكن الله يصرفه حيث يشاء، فما زيد لبعض نقص من غيرهم‏.‏ فهذا معنى التصريف‏.‏ وقيل ‏{‏صرفناه بينهم‏}‏وابلا وطشا وطلا ورهاما - الجوهري‏:‏ الرهام الأمطار اللينة - ورذاذا‏.‏ وقيل‏:‏ تصريفه تنويع الانتفاع به في الشرب والسقي والزراعات به والطهارات وسقي البساتين والغسل وشبهه‏.‏ ‏{‏ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا‏}‏قال عكرمة‏:‏ هو قولهم في الأنواء‏:‏ مطرنا بنوء كذا‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولا نعلم بين أهل التفسير اختلافا أن الكفر ها هنا قولهم مطرنا بنوء كذا وكذا؛ وأن نظيره فعل النجم كذا، وأن كل من نسب إليه فعلا فهو كافر‏.‏ و روى الربيع بن صبيح قال‏:‏ مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أصبح الناس فيها رجلين شاكر وكافر فأما الشاكر فيحمد الله تعالى على سقياه وغياثه وأما الكافر فيقول مطرنا بنوء كذا وكذا‏)‏‏.‏ وهذا متفق على صحته بمعناه وسيأتي في الواقعة إن شاء الله وروي من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي صرف الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ التصريف راجع إلى الريح، وقد ممضى في البقرة بيانه‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏}‏ليذكروا‏}‏مخففة الذال من الذكر‏.‏ الباقون مثقلا من التذكر‏؟‏ أي ليذكروا نعم الله ويعلموا أن من أنعم بها لا يجوز الإشراك به؛ فالتذكر قريب من الذكر غير أن التذكر يطلق فيما بعد عن القلب فيحتاج إلى تكلف في التذكر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 51 ‏:‏ 52 ‏)‏

‏{‏ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا، فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ‏}‏

قوله ‏{‏ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا‏}‏أي رسولا ينذرهم كما قسمنا‏.‏ المطر ليخف عليك أعباء النبوة، ولكنا لم نفعل بل جعلناك نذيرا للكل لترتفع درجتك فاشكر نعمة الله عليك‏.‏ ‏{‏فلا تطع الكافرين‏}‏أي فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم‏.‏ ‏{‏وجاهدهم به‏}‏قال ابن عباس بالقرآن‏.‏ ابن زيد‏:‏ بالإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ بالسيف؛ وهذا فيه بعد؛ لأن السورة مكية نزلت قبل الأمر بالقتال‏.‏ ‏{‏جهادا كبيرا‏}‏لا يخالطه فتور‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏

‏{‏وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا

قوله ‏{‏وهو الذي مرج البحرين‏}‏عاد الكلام إلى ذكر النعم‏.‏ و‏(‏مرج‏)‏ خلى وخلط وأرسل‏.‏ قال مجاهد‏:‏ أرسلهما وأفاض أحدهما في الآخر‏.‏ قال ابن عرفة‏}‏مرج البحرين‏}‏أي خلطهما فهما يلتقيان؛ يقال‏:‏ مرجته إذا خلطته‏.‏ ومرج الدين والأمر اختلط واضطرب؛ ومنه قوله ‏{‏في أمر مريج‏}‏ق ‏.‏ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لعبدالله بن عمرو بن العاصي‏:‏ ‏(‏إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا وهكذا‏)‏ وشبك بين أصابعه فقلت له‏:‏ كيف أصنع عند ذلك، جعلني الله فداك‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر وعليك بخاصة أمر نفسك ودع عنك أمر العامة‏)‏ ‏"‏خرجه النسائي وأبو داود وغيرهما‏"‏‏.‏ وقال الأزهري‏}‏مرج البحرين‏}‏خلى بينهما؛ يقال مرجت الدابة إذا خليتها ترعى‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ المرج الإجراء؛ فقوله ‏{‏مرج البحرين‏}‏أي أجراهما‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ يقول قوم أمرج البحرين مثل مرج فعل وأفعل‏.‏ ‏{‏هذا عذب فرات‏}‏أي حلو شديد العذوبة‏.‏ ‏{‏وهذا ملح أجاج‏}‏أي فيه ملوحة ومرارة‏.‏ وروي عن طلحة أنه قرئ‏}‏وهذا ملح‏}‏بفتح الميم وكسر اللام‏.‏ ‏{‏وجعل بينهما برزخا‏}‏أي حاجزا من قدرته لا يغلب أحدهما على صاحبه؛ كما قال في سورة الرحمن ‏{‏مرج البحرين يلتقيان‏.‏ بينهما برزخ لا يبغيان‏}‏ ‏:‏ 20 ‏.‏ ‏{‏وحجرا محجورا‏}‏أي سترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر‏.‏ فالبرزخ الحاجز، والحجر المانع‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يعني بحر فارس وبحر الروم‏.‏ وقال ابن عباس وابن جبير‏:‏ يعني بحر السماء وبحر الأرض‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يلتقيان في كل عام وبينهما برزخ قضاء من قضائه‏.‏ ‏{‏وحجرا محجورا‏}‏حراما محرما أن يعذب هذا الملح بالعذب، أو يصلح هذا العذب بالملح‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏

‏{‏ وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ‏}‏

قوله ‏{‏وهو الذي خلق من الماء بشرا‏}‏أي خلق من النطفة إنسانا‏.‏ ‏{‏فجعله‏}‏أي جعل الإنسان ‏{‏نسبا وصهرا‏}‏‏.‏ وقيل ‏{‏من الماء‏}‏إشارة إلى أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء‏.‏ وفي هذه الآية تعديد النعمة على الناس في، إيجادهم بعد العدم، والتنبيه على العبرة في ذلك‏.‏

قوله ‏{‏فجعله نسبا وصهرا‏}‏النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ النسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع؛ فإن كان بمعصية كان خلقا مطلقا ولم يكن نسبا محققا، ولذلك لم يدخل تحت قوله ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم‏}‏ بنته من الزنى؛ لأنها ليست ببنت له في أصح القولين لعلمائنا وأصح القولين في الدين؛ وإذا لم يكن نسب شرعا فلا صهر شرعا فلا يحرم الزنى بنت أم ولا أم بنت، وما يحرم من الحلال لا يحرم من الحرام؛ لأن الله امتن بالنسب والصهر على عباده ورفع قدرهما، وعلق الأحكام في الحل والحرمة عليهما فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما‏.‏

قلت‏:‏ اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنى أو أخته أو بنت ابنه من زنى؛ فحرم ذلك قوم منهم ابن القاسم، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، وأجاز ذلك آخرون منهم عبدالملك بن الماجشون، وهو قول الشافعي، وقد مضى هذا في النساء مجودا‏.‏ قال الفراء‏:‏ النسب الذي لا يحل نكاحه، والصهر الذي يحل نكاحه‏.‏ وقاله الزجاج‏:‏ وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏ واشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته؛ فكل واحد من الصهرين قد خالط صاحبه، فسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها‏.‏ وقيل‏:‏ الصهر قرابة النكاح؛ فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحماء‏.‏ والأصهار يقع عاما لذلك كله؛ قاله الأصمعي‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ الأختان أبو المرأة وأخوهما وعمها - كما قال الأصمعي - والصهر زوج ابنة الرجل وأخوه وأبوه وعمه‏.‏ وقال محمد بن الحسن في رواية أبي سليمان الجوزجاني‏:‏ أختان الرجل أزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته، وكل ذات محرم منه، وأصهاره كل ذي رحم محرم من زوجته‏.‏ قال النحاس‏:‏ الأولى في هذا أن يكون القول في الأصهار ما قال الأصمعي، وأن يكون من قبلهما جميعا‏.‏ يقال‏:‏ صهرت الشيء أي خلطته؛ فكل واحد منهما قد خلط صاحبه‏.‏ والأولى في الأختان ما قال محمد بن الحسن لجهتين‏:‏ إحداهما الحديث المرفوع، ‏"‏روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبدالله بن قسيط‏"‏ عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما أنت يا علي فختني وأبو ولدي وأنت مني وأنا منك‏)‏‏.‏ فهذا على أن زوج البنت ختن‏.‏ والجهة الأخرى أن اشتقاق الختن من ختنه إذا قطعه؛ وكان الزوج قد انقطع عن أهله، وقطع زوجته عن أهلها‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الصهر قرابة الرضاع‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذلك عندي وهم أوجبه أن ابن عباس قال‏:‏ حرم من النسب سبع، ومن الصهر خمس‏.‏ وفي رواية أخرى من الصهر سبع؛ يريد قوله عز وجل ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت‏}‏ فهذا هو النسب‏.‏ ثم يريد بالصهر قوله ‏{‏وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم‏}‏إلى قوله ‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين‏}‏‏.‏ ثم ذكر المحصنات‏.‏ ومحمل هذا أن ابن عباس أراد حرم من الصهر ما ذكر معه، فقد أشار بما ذكر إلى عظمه وهو الصهر، لا أن الرضاع صهر، وإنما الرضاع عديل النسب يحرم منه ما يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه‏.‏ ومن روى وحرم من الصهر خمس أسقط من الآيتين الجمع بين الأختين والمحصنات؛ وهن ذوات الأزواج‏.‏

قلت‏:‏ فابن عطية جعل الرضاع مع ما تقدم نسبا، وهو قول الزجاج‏.‏ قال أبو إسحاق‏:‏ النسب الذي ليس بصهر من قوله جل ثناؤه‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ إلى قوله ‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين‏}‏والصهر من له التزويج‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وحكى الزهراوي قولا أن النسب من جهة البنين والصهر من جهة البنات‏.‏

قلت‏:‏ وذكر هذا القول النحاس، وقال‏:‏ لأن المصاهرة من جهتين تكون‏.‏ وقال ابن سيرين‏:‏ نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه؛ لأنه جمعه معه نسب وصهر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وكان ربك قديرا‏}‏على خلق ما يريده‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 55 ‏)‏

‏{‏ ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا ‏}‏

قوله ‏{‏ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم‏}‏لما عدد النعم وبين كمال قدرته عجب من المشركين في إشراكهم به من لا يقدر على نفع ولا ضر؛ أي إن الله هو الذي خلق ما ذكره، ثم هؤلاء لجهلهم يعبدون من دونه أمواتا جمادات لا تنفع ولا تضر‏.‏ ‏{‏وكان الكافر على ربه ظهيرا‏}‏روي عن ابن عباس ‏{‏الكافر‏}‏هنا أبو جهل لعنه الله؛ وشرحه أنه يستظهر بعبادة الأوثان على أوليائه‏.‏ وقال عكرمة‏}‏الكافر‏}‏إبليس، ظهر على عداوة ربه‏.‏ وقال مطرف‏}‏الكافر‏}‏هنا الشيطان‏.‏ وقال الحسن‏}‏ظهيرا‏}‏أي معينا للشيطان على المعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى؛ وكان الكافر على ربه هينا ذليلا لا قدر له ولا وزن عنده؛ من قول العرب‏:‏ ظهرت به أي جعلته خلف ظهرك ولم تلتفت إليه‏.‏ ومنه قوله ‏{‏واتخذتموه وراءكم ظهريا‏}‏ أي هينا‏.‏ ومنه قول الفرزدق‏:‏

تميم بن قيس لا تكونن حاجتي بظهر فلا يعيا علي جوابها

هذا معنى قول أبي عبيدة‏.‏ وظهير بمعنى مظهور‏.‏ أي كفر الكافرين هين على الله تعالى، والله مستهين به لأن كفره لا يضره‏.‏ وقيل‏:‏ وكان الكافر على ربه الذي يعبده وهو الصنم قويا غالبا يعمل به ما يشاء؛ لأن الجماد لا قدرة له على دفع ضر ونفع‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 56 ‏:‏ 57 ‏)‏

‏{‏وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا، قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ‏}‏

قوله ‏{‏وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا‏}‏يريد بالجنة مبشرا ونذيرا من النار؛ وما أرسلناك وكيلا ولا مسيطرا‏.‏ ‏{‏قل ما أسألكم عليه من أجر‏}‏يريد على ما جئتكم به من القرآن والوحي‏.‏ و‏{‏من‏}‏للتأكيد‏.‏ ‏{‏إلا من شاء‏}‏لكن من شاء؛ فهو استثناء منقطع، والمعنى‏:‏ لكن من شاء ‏{‏أن يتخذ إلى ربه سبيلا‏}‏بإنفاقه من ماله في سبيل الله فلينفق‏.‏ ويجوز أن يكون متصلا ويقدر حذف المضاف؛ التقدير‏:‏ إلا أجر ‏{‏من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا‏}‏باتباع ديني حتى ينال كرامة الدنيا والآخرة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 58 ‏)‏

‏{‏وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا ‏}‏

قوله ‏{‏وتوكل على الحي الذي لا يموت‏}‏تقدم معنى التوكل في آل عمران وهذه السورة وأنه اعتماد القلب على الله تعالى في كل الأمور، وأن الأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها‏.‏ ‏{‏وسبح بحمده‏}‏أي نزه الله تعالى عما يصفه هؤلاء الكفار به من الشركاء‏.‏ والتسبيح التنزيه، وقد تقدم‏.‏ وقيل ‏{‏وسبح‏}‏أي وصل له؛ وتسمى الصلاة تسبيحا‏.‏ ‏{‏وكفى به بذنوب عباده خبيرا‏}‏أي عليما فيجازيهم بها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 59 ‏)‏

‏{‏ الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا ‏}‏

قوله ‏{‏الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن‏}‏تقدم في الأعراف‏.‏ و‏{‏الذي‏}‏في موضع خفض نعتا للحي‏.‏ وقال ‏{‏بينهما‏}‏ولم يقل بينهن؛ لأنه أراد الصنفين والنوعين والشيئين؛ كقول القطامي‏:‏

ألم يحزنك أن حبال قيس وتغلب قد تباينتا انقطاعا

أراد وحبال تغلب فثنى، والحبال جمع؛ لأنه أراد الشيئين والنوعين‏.‏ ‏{‏الرحمن فاسأل به خبيرا‏}‏قال الزجاج‏:‏ المعنى فاسأل عنه‏.‏ وقد حكى هذا جماعة من أهل اللغة أن الباء تكون بمعنى عن؛ كما قال ‏{‏سأل سائل بعذاب واقع‏}‏ وقال الشاعر‏:‏

هلا سألت الخيل يا بنة مالك إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

وقال علقمة بن عبدة‏:‏

فإن تسألوني بالنساء فإنني خبير بأدواء النساء طبيب

أي عن النساء وعما لم تعلمي‏.‏ وأنكره علي بن سليمان وقال‏:‏ أهل النظر ينكرون أن تكون الباء بمعنى عن؛ لأن في هذا إفسادا لمعاني قول العرب‏:‏ لو لقيت فلانا للقيك به الأسد؛ أي للقيك بلقائك إياه الأسد‏.‏ المعنى فاسأل بسؤالك إياه خبيرا‏.‏ وكذلك قال ابن جبير‏:‏ الخبير هو الله تعالى‏.‏ فـ ‏{‏خبيرا‏}‏نصب على المفعول به بالسؤال‏.‏

قلت‏:‏ قول الزجاج يخرج على وجه حسن، وهو أن يكون الخبير غير الله، أي فاسأل عنه خبيرا، أي عالما به، أي بصفاته وأسمائه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى فاسأل له خبيرا، فهو نصب على الحال من الهاء المضمرة‏.‏ قال المهدوي‏:‏ ولا يحسن حالا إذ لا يخلو أن تكون الحال من السائل أو المسؤول، ولا يصح كونها حالا من الفاعل؛ لأن الخبير لا يحتاج أن يسأل غيره‏.‏ ولا يكون من المفعول؛ لأن المسؤول عنه وهو الرحمن خبير أبدا، والحال في أغلب الأمر يتغير وينتقل؛ إلا أن يحمل على أنها حال مؤكدة؛ مثل‏{‏وهو الحق مصدقا‏}‏ فيجوز‏.‏ وأما ‏{‏الرحمن‏}‏ففي رفعه ثلاثة أوجه‏:‏ يكون بدلا من المضمر الذي في ‏{‏استوى‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هو الرحمن‏.‏ ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره ‏{‏فاسأل به خبيرا‏}‏‏.‏ ويجوز الخفض بمعنى وتوكل على الحي الذي لا يموت الرحمن؛ يكون نعتا‏.‏ ويجوز النصب على المدح‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 60 ‏)‏

‏{‏وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا ‏}‏

قوله ‏{‏وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن‏}‏أي لله تعالى‏.‏ ‏{‏قالوا وما الرحمن‏}‏على جهة الإنكار والتعجب، أي ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب‏.‏ وزعم القاضي أبو بكر بن العربي أنهم إنما جهلوا الصفة لا الموصوف، واستدل على ذلك، بقوله ‏{‏وما الرحمن‏}‏ولم يقولوا ومن الرحمن‏.‏ قال ابن الحصار‏:‏ وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الأخرى ‏{‏وهم يكفرون بالرحمن‏}‏ ‏.‏ ‏{‏أنسجد لما تأمرنا‏}‏هذه قراءة المدنيين والبصريين؛ أي لما تأمرنا أنت يا محمد‏.‏ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم‏.‏ وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي‏}‏يأمرنا‏}‏بالياء‏.‏ يعنون الرحمن؛ كذا تأوله أبو عبيد، قال‏:‏ ولو أقروا بأن الرحمن أمرهم ما كانوا كفارا‏.‏ فقال النحاس‏:‏ وليس يجب أن يتأول عن الكوفيين في قراءتهم هذا التأويل البعيد، ولكن الأولى أن يكون التأويل لهم ‏{‏أنسجد لما يأمرنا‏}‏النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتصح القراءة على هذا، وإن كانت الأولى أبين وأقرب تناولا‏.‏ ‏{‏وزادهم نفورا‏}‏أي زادهم قول القائل لهم اسجدوا للرحمن نفورا عن الدين‏.‏ وكان سفيان الثوري يقول في هذه الآية‏:‏ إلهي زادني لك خضوعا ما زاد أعداك نفورا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 61 ‏)‏

‏{‏ تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ‏}‏

قوله ‏{‏تبارك الذي جعل في السماء بروجا‏}‏أي منازل‏.‏ وقد تقدم ذكرها‏.‏ ‏{‏وجعل فيها سراجا‏}‏قال ابن عباس‏:‏ يعني الشمس؛ نظيره؛ ‏{‏وجعل الشمس سراجا‏}‏ ‏.‏ وقراءة العامة‏}‏سراجا‏}‏بالتوحيد‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏}‏سرجا‏}‏يريدون النجوم العظام الوقادة‏.‏ والقراءة الأولى عند أبي عبيد أولى؛ لأنه تأول أن السرج النجوم، وأن البروج النجوم؛ فيجيء المعنى نجوما ونجوما‏.‏ النحاس‏:‏ ولكن التأويل لهم أن أبان بن تغلب قال‏:‏ السرج النجوم الدراري‏.‏ الثعلبي‏:‏ كالزهرة والمشترى وزحل والسماكين ونحوها‏.‏ ‏{‏وقمرا منيرا‏}‏ينير الأرض إذا طلع‏.‏ و روى عصمة عن الأعمش ‏{‏وقمرا‏}‏بضم القاف لع وإسكان الميم‏.‏ وهذه قراءة شاذة، ولو لم يكن فيها إلا أن أحمد بن حنبل وهو إمام المسلمين في وقته قال‏:‏ لا تكتبوا ما يحكيه عصمة الذي يروي القراءات، وقد أولع أبو حاتم السجستاني بذكر ما يرويه عصمة هذا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 62 ‏)‏

‏{‏ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ‏}‏

قوله ‏{‏خلفة‏}‏قال أبو عبيدة‏:‏ الخلفة كل شيء بعد شيء‏.‏ وكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه‏.‏ ومقال للمبطون‏:‏ أصابته خلفة؛ أي قيام وقعود يخلف هذا ذاك‏.‏ ومنه خلفه النبات، وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في الصيف‏.‏ ومن هذا المعنى قول زهير بن أبي سلمى‏:‏

بها العين والآرام يمشين خلفة وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

الرئم ولد الظبي وجمعه آرام؛ يقول‏:‏ إذا ذهب فوج جاء فوج‏.‏ ومنه قول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا‏.‏

ولها بالماطرون إذا أكل النمل الذي جمعا

خلفة حتى إذا ارتبعت سكنت من حلق بيعا

في بيوت وسط دسكرة حولها الزيتون قد ينعا

قال مجاهد‏}‏خلفة‏}‏من الخلاف؛ هذا أبيض وهذا أسود؛ والأول أقوى‏.‏ وقيل‏:‏ يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان‏.‏ وقيل‏:‏ هو من باب حذف المضاف؛ أي جعل الليل والنهار ذوي خلفة، أي اختلاف‏.‏ ‏{‏لمن أراد أن يذكر‏}‏أي يتذكر، فيعلم أن الله لم يجعله كذلك عبثا فيعتبر في مصنوعات الله، ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم‏.‏ وقال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن‏:‏ معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته بالنهار أدركه بالليل‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏ما من امرئ تكون له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم فيصلي ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة‏)‏‏.‏ و‏"‏روى مسلم عن عمر بن الخطاب‏"‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل ‏)‏

قال ابن العربي‏:‏ سمعت ذا الشهيد الأكبر يقول‏:‏ إن الله تعالى خلق العبد حيا عالما، وبذلك كماله، وسلط عليه آفة النوم وضرورة الحدث ونقصان الخلقة؛ إذ الكمال للأول الخالق، فما أمكن الرجل من دفع النوم بقلة الأكل والسهر في طاعة الله فليفعل‏.‏ ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغوا، وينام سدس النهار راحة فيذهب ثلثاه ويبقى له من العمر عشرون سنة، ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في لذة فانية، ولا يتلف عمره بسهر في لذة باقية عند الغني الوفي الذي ليس بعديم ولا ظلوم‏.‏

الأشياء لا تتفاضل بأنفسها؛ فإن الجواهر والأعراض من حيث الوجود متماثلة، وإنما يقع التفاضل بالصفات‏.‏ وقد اختلف أي الوقتين أفضل، الليل أو النهار‏.‏ وفي الصوم غنية في الدلالة، والله أعلم؛ قاله ابن العربي‏.‏

قلت‏:‏ والليل عظيم قدره؛ أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بقيامه فقال ‏{‏ومن الليل فتهجد به نافلة لك‏}‏ ، وقال ‏{‏قم الليل‏}‏ على ما يأتي بيانه‏.‏ ومدح المؤمنين على قيامه فقال ‏{‏تتجافى جنوبهم عن المضاجع‏}‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء وفيه ينزل الرب تبارك وتعالى‏)‏ حسبما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

قرأ حمزة وحده‏}‏يذْكُر‏}‏بسكون الذال وضم الكاف‏.‏ وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والنخعي‏.‏ وفي مصحف أبي ‏{‏يتذكر‏}‏بزيادة تاء‏.‏ وقرأ الباقون‏}‏يذكر‏}‏بتشديد الكاف‏.‏ ويذكر ويذكر بمعنى واحد‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏يذكر‏}‏بالتخفيف أي ما يذكر ما نسيه في أحد الوقتين في الوقت الثاني، أو ليذكر تنزيه الله وتسبيحه فيها‏.‏ ‏{‏أو أراد شكورا‏}‏يقال‏:‏ شكر يشكر شكرا وشكورا، مثل كفر يكفر كفرا وكفورا‏.‏ وهذا الشكور على أنهما جعلهما قواما لمعاشهم‏.‏ وكأنهم لما قالوا‏}‏وما الرحمن‏}‏قالوا‏:‏ هو الذي يقدر على هذه الأشياء‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 63 ‏)‏

‏{‏وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ‏}‏

قوله ‏{‏وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا‏}‏لما ذكر جهالات المشركين وطعنهم في القرآن والنبوة ذكر عباده المؤمنين أيضا وذكر صفاتهم، وأضافهم إلى عبوديته تشريفا لهم، كماقال ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده‏}‏ ‏.‏ فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره ولسانه وقلبه بما أمره فهو الذي يستحق اسم العبودية، ومن كان بعكس هذا شمله قوله ‏{‏أولئك كالأنعام بل هم أضل‏}‏ يعني في عدم الاعتبار؛ كما تقدم في الأعراف ‏.‏ وكأنه قال‏:‏ وعباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض، فحذف هم؛ كقولك‏:‏ زيد الأمير، أي زيد هو الأمير‏.‏ فـ ‏{‏الذين‏}‏خبر مبتدأ محذوف؛ قاله الأخفش‏.‏ وقيل‏:‏ الخبر قوله في آخر السورة ‏{‏أولئك يجزون الغرفة بما صبروا‏}‏ وما بين المبتدأ والخبر أوصاف لهم وما تعلق بها؛ قاله الزجاج‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن يكون الخبر ‏{‏الذين يمشون على الأرض‏}‏‏.‏ و‏{‏يمشون‏}‏عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم، فذكر من ذلك العظم، لا سيما وفي ذلك الانتقال في الأرض؛ وهو معاشرة الناس وخلطتهم‏.‏

قوله ‏{‏هونا‏}‏الهون مصدر الهين وهو من السكينة والوقار‏.‏ وفي التفسير‏:‏ يمشون على الأرض حلماء متواضعين، يمشون في اقتصاد‏.‏ والقصد والتؤدة وحسن السمت من أخلاق النبوة‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس في الإيضاع‏)‏ وروي في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا زال زال تقلعا، ويخطو تكفؤا، ويمشي هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب‏.‏ التقلع، رفع الرجل بقوة والتكفؤ‏:‏ الميل إلى سنن المشي وقصده‏.‏ والهون الرفق والوقار‏.‏ والذريع الواسع الخطا؛ أي أن مشيه كان يرفع فيه رجله بسرعة ويمد خطوه؛ خلاف مشية المختال، ويقصد سمته؛ وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة‏.‏ كما قال‏:‏ كأنما ينحط مكن صبب، قاله القاضي عياض‏.‏ وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسرع جبلة لا تكلفا‏.‏ قال الزهري‏:‏ سرعة المشي تذهب بهاء الوجه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ يريد الإسراع الحثيث لأنه يخل بالوقار؛ والخير في التوسط‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ كنت أسأل عن تفسير قوله ‏{‏الذين يمشون على الأرض هونا‏}‏فما وجدت من ذلك شفاء، فرأيت في المنام من جاءني فقال لى‏:‏ هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض‏.‏ قال القشيري؛ وقيل لا يمشون لإفساد ومعصية، بل في طاعة الله والأمور المباحة من غير هوك‏.‏ وقد قال الله ‏{‏ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور‏}‏ ‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ بالطاعة والمعروف والتواضع‏.‏ الحسن‏:‏ حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا‏.‏ وقيل‏:‏ لا يتكبرون على الناس‏.‏

قلت‏:‏ وهذه كلها معان متقاربة، ويجمعها العلم بالله والخوف منه، والمعرفة بأحكامه والخشية من عذابه وعقابه؛ جعلنا الله منهم بفضله ومنه‏.‏ وذهبت فرقة إلى أن ‏{‏هونا‏}‏مرتبط بقوله ‏{‏يمشون على الأرض‏}‏، أن المشي هو هون‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هونا مناسبة لمشيه، فيرجع القول إلى نحو ما بيناه‏.‏ وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل؛ لأنه رب ماش هونا رويدا وهو ذئب أطلس‏.‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما ينحط في صبب‏.‏ وهو عليه الصلاة والسلام الصدر في هذه الأمة‏.‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من مشى منكم في طمع فليمش رويدا‏)‏ إنما أراد في عقد نفسه، ولم يرد المشي وحده‏.‏ ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط؛ حتى قال فيهم الشاعر ذما لهم‏:‏

كلهم يمشي رويد كلهم يطلب صيد

قلت‏:‏ وفي عكسه أنشد ابن العربي لنفسه‏.‏

تواضعت في العلياء والأصل كابر وحزت قصاب السبق بالهون في الأمر

سكون فلا خبث السريرة أصله وجل سكون الناس من عظم الكبر

قوله ‏{‏وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما‏}‏قال النحاس‏:‏ ليس ‏{‏سلاما‏}‏من التسليم إنما هو من التسلم؛ تقول العرب‏:‏ سلاما، أي تسلما منك، أي براءة منك‏.‏ منصوب على أحد أمرين‏:‏ يجوز أن يكون منصوبا بـ ‏{‏قالوا‏}‏، ويجوز أن يكون مصدرا؛ وهذا قول سيبويه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والذي أقوله‏:‏ إن ‏{‏قالوا‏}‏هو العامل في ‏{‏سلاما‏}‏لأن المعنى قالوا هذا اللفظ‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ معنى ‏{‏سلاما‏}‏سدادا‏.‏ أي يقول للجاهل كلاما يدفعه به برفق ولين‏.‏ فـ ‏{‏قالوا‏}‏على هذا التأويل عامل في قوله ‏{‏سلاما‏}‏على طريقة النحويين؛ وذلك أنه بمعنى قولا‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل سلاما؛ بهذا اللفظ‏.‏ أي سلمنا سلاما أو تسليما، ونحو هذا؛ فيكون العامل فيه فعلا من لفظه على طريقة النحويين‏.‏

مسألة‏:‏

هذه الآية كانت قبل آية السيف، نسخ منها ما يخص الكفرة وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة‏.‏ وذكر سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه، وما تكلم فيه على نسخ سواه؛ رجح به أن المراد السلامة لا التسليم؛ لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة‏.‏ والآية مكية فنسختها آية السيف‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولا نعلم لسيبويه كلاما في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية‏.‏ قال سيبويه‏:‏ لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين لكنه على معنى قوله‏:‏ تسلما منكم، ولا خير ولا شر بيننا وبينكم‏.‏ المبرد‏:‏ كان ينبغي أن يقال‏:‏ لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم ثم أمروا بحربهم‏.‏ محمد بن يزيد‏.‏ أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة‏.‏ ابن العربي‏:‏ لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك، بل أمروا بالصفح والهجر الجميل، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم‏.‏ وقد أتفق الناس على أن السفيه من المؤمنين إذا جفاك يجوز أن تقول له سلام عليك‏.‏

قلت‏:‏ هذا القول أشبه بدلائل السنة‏.‏ وقد بينا في سورة مريم اختلاف العلماء في جواز التسليم على الكفار، فلا حاجة إلى دعوى النسخ؛ والله أعلم‏.‏ وقد ذكر النضر بن شميل قال حدثني الخليل قال‏:‏ أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فلما سلمنا رد علينا السلام وقال لنا‏:‏ استووا‏.‏ وبقينا متحيرين ولم ندر ما قال‏.‏ فقال لنا أعرابي إلى جنبه‏:‏ أمركم أن ترتفعوا‏.‏ قال الخليل‏:‏ هو من قول الله عز وجل ‏{‏ثم استوى إلى السماء وهي دخان‏}‏ فصعدنا إليه فقال‏:‏ هل لكم في خبز فطير، ولبن هجير، وماء نمير‏؟‏ فقلنا‏:‏ الساعة فارقنا‏.‏ فقال‏:‏ سلاما‏.‏ فلم ندر ما قال‏.‏ قال‏.‏ قال‏:‏ الأعرابي‏:‏ إنه سألكم متاركة لا خير فيها ولا شر‏.‏ فقال الخليل‏:‏ هو من قول الله عز وجل ‏{‏وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما‏}‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ورأيت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي - وكان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه - قال يوما بحضرة المأمون وعنده جماعة‏:‏ كنت أرى علي بن أبي طالب في النوم فكنت أقول له من أنت‏؟‏ فكان يقول‏:‏ علي بن أبي طالب‏.‏ فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها‏.‏ فكنت أقول‏:‏ إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك‏.‏ فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه‏.‏ قال المأمون‏:‏ وبماذا جاوبك‏؟‏ قال‏:‏ فكان يقول لي سلاما‏.‏ قال الراوي‏:‏ فكأن إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت‏.‏ فنبه المأمون على الآية من حضره وقال‏:‏ هو والله يا عم علي بن أبي طالب، وقد جاوبك بأبلغ جواب، فخزي إبراهيم واستحيا‏.‏ وكانت رؤيا لا محالة صحيحة‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 64 ‏)‏

‏{‏ والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ‏}‏

قوله ‏{‏والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما‏}‏قال الزجاج‏:‏ بات الرجل يبيت إذا أدركه الليل، نام أو لم ينم‏.‏ قال زهير‏:‏

فبتنا قياما عند رأس جوادنا يزاولنا عن نفسه ونزاوله

وأنشدوا في صفة الأولياء‏:‏

امنع جفونك أن تذوق مناما واذر الدموع على الخدود سجاما

واعلم بأنك ميت ومحاسب يا من على سخط الجليل أقاما

لله قوم أخلصوا في حبه فرضي بهم واختصهم خداما

قوم إذا جن الظلام عليهم باتوا هنالك سجدا وقياما

خمص البطون من التعفف ضمرا لا يعرفون سوى الحلال طعاما

وقال ابن عباس‏:‏ من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدا وقائما‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ من أقام ركعتين بعد المغرب وأربعا بعد العشاء فقد بات ساجدا وقائما‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 65 ‏:‏ 66 ‏)‏

‏{‏والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما، إنها ساءت مستقرا ومقاما ‏}‏

قوله ‏{‏والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم‏}‏أي هم مع طاعتهم مشفقون خائفون وجلون من عذاب الله‏.‏ ابن عباس‏:‏ يقولون ذلك في سجودهم وقيامهم‏.‏ ‏{‏إن عذابها كان غراما‏}‏أي لازما دائما غير مفارق‏.‏ ومنه سمي الغريم لملازمته‏.‏ ويقال‏:‏ فلان مغرم بكذا أي لازم له مولع به‏.‏ وهذا معناه في كلام العرب فيما ذكر ابن الأعرابي وابن عرفة وغيرهما‏.‏ وقال الأعشى‏:‏

إن يعاقب يكن غراما وإن يعـــ ــط جزيلا فإنه لا يبالي

وقال الحسن‏:‏ قد علموا أن كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الغرام أشد العذاب‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الغرام الشر‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الهلاك‏.‏ والمعنى واحد‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ طالبهم الله تعالى بثمن النعيم في الدنيا فلم يأتوا به، فأغرمهم ثمنها بإدخالهم النار‏.‏

قوله ‏{‏أي بئس المستقر وبئس المقام‏.‏ أي إنهم يقولون ذلك عن علم، وإذا قالوه عن علم كانوا أعرف بعظم قدر ما يطلبون، فيكون ذلك أقرب إلى النجح‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 67 ‏)‏

‏{‏ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ‏}‏

قوله ‏{‏والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا‏}‏اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية‏.‏ فقال النحاس‏:‏ ومن أحسن ما قيل في معناه أن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف، ومن أمسك عن طاعة الله عز وجل فهو الإقتار، ومن أنفق، في طاعة الله تعالى فهو القوام‏.‏ وقال ابن عاس‏:‏ من أنفق مائة ألف في حق فليس بسرف، ومن أنفق درهما في غير حقه فهو سرف، ومن منع من حق عليه فقد قتر‏.‏ وقاله مجاهد وابن زيد وغيرهما‏.‏ وقال عون بن عبدالله‏:‏ الإسراف أن تنفق مال غيرك‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ونحوه غير مرتبط بالآية، والوجه أن يقال‏.‏ إن النفقة في معصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب في هذه الآية هو في نفقة الطاعات في المباحات، فأدب الشرع فيها ألا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ونحو هذا، وألا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي العدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله، وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب، أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوساطها؛ ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق أن يتصدق بجميع ماله؛ لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين، ومنع غيره من ذلك‏.‏ ونعم ما قال إبراهيم النخعي‏:‏ هو الذي لا يجيع ولا يعرى ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف‏.‏ وقال يزيد بن أبي حبيب‏:‏ هم الذين لا يلبسون الثياب لجمال، ولا يأكلون طعاما للذة‏.‏ وقال يزيد أيضا في هذه الآية‏:‏ أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعيم واللذة، ولا يلبسون ثيابا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحر والبر‏.‏ وقال عبدالملك بن مروان لعمر بن عبدالعزيز حين زوجه ابنته فاطمة‏:‏ ما نفقتك‏؟‏ فقال له عمر‏:‏ الحسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية‏.‏ وقال عمر بن الخطاب‏:‏ كفى بالمرء سرفا ألا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله‏.‏ وفي سنن ابن ماجة عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت‏)‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ لم يزيدوا على المعروف ولم يبخلوا‏.‏ كقوله ‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط‏}‏ وقال الشاعر‏:‏

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وقال آخر‏:‏

إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ولم ينهها تاقت إلى كل باطل

وساقت إليه الإثم والعار بالذي دعته إليه من حلاوة عاجل

وقال عمر لابنه عاصم‏:‏ يا بني، كل في نصف بطنك؛ ولا تطرح ثوبا حتى تستخلقه، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم‏.‏ ولحاتم طي‏:‏

إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

قوله ‏{‏ولم يقتروا‏}‏قرأ حمزة والكسائي والأعمش وعاصم ويحيى بن وثاب على اختلاف عنهما ‏{‏يقتروا‏}‏بفتح الياء وضم التاء، وهي قراءة حسنة؛ من قتر يقتر‏.‏ وهذا القياس في اللازم، مثل قعد يقعد‏.‏ وقرأ أبو عمرو بن العلاء وابن كثير بفتح الياء وكسر التاء، وهي لغة معروفة حسنة‏.‏ وقرأ أهل المدينة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم الياء وكسر - التاء‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ كلها لغات صحيحة‏.‏ النحاس‏:‏ وتعجب أبو حاتم من قراءة أهل المدينة هذه؛ لأن أهل المدينة عنده لا يقع في قراءتهم الشاذ، وإنما يقال‏:‏ اقتر إذا افتقر، كما قال عز وجل ‏{‏وعلى المقتر قدره‏}‏ وتأول أبو حاتم لهم أن المسرف يفتقر سريعا‏.‏ وهذا تأويل بعيد، ولكن التأويل لهم أن أبا عمر الجرمي حكى عن الأصمعي أنه يقال للإنسان إذا ضيق‏:‏ قتر يقتر ويقتر، وأقتر يقتر‏.‏ فعلى هذا تصح القراءة، وإن كان فتح الياء أصح وأقرب متناولا، وأشهر وأعرف‏.‏ وقرأ أبو عمرو والناس ‏{‏قواما‏}‏بفتح القاف؛ يعني عدلا‏.‏ وقرأ حسان بن عبدالرحمن‏}‏قواما‏}‏بكسر القاف؛ أي مبلغا وسدادا وملاك حال‏.‏ والقوام بكسر القاف، ما يدوم عليه الأمر ويستقر‏.‏ وقيل‏:‏ هما لغتان بمعنى‏.‏ و‏{‏قواما‏}‏خبر كان، واسمها مقدر فيها، أي كان الإنفاق بين الإسراف والقتر قواما؛ قال الفراء‏.‏ وله قول آخر يجعل ‏{‏بين‏}‏اسم كان وينصبها؛ لأن هذه الألفاظ كثير استعمالها فتركت على حالها في موضع الرفع‏.‏ قال النحاس‏:‏ ما أدري ما وجه هذا؛ لأن ‏{‏بينا‏}‏إذا كانت في موضع رفع رفعت؛ كما يقال‏:‏ بين عينيه أحمر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 68 ‏:‏ 69 ‏)‏

‏{‏ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ‏}‏

قوله ‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر‏}‏إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان، وقتلهم النفس بوأد البنات؛ وغير ذلك من الظلم والاغتيال، والغارات، ومن الزنى الذي كان عندهم مباحا‏.‏ وقال من صرف هذه الآية عن ظاهرها من أهل المعاني‏:‏ لا يليق بمن أضافهم الرحمن إليه إضافة الاختصاص، وذكرهم ووصفهم من صفات المعرفة والتشريف وقوع هذه الأمور القبيحة منهم حتى يمدحوا بنفيها عنهم لأنهم أعلى وأشرف، فقال‏:‏ معناها لا يدعون الهوى إلها، ولا يذلون أنفسهم بالمعاصي فيكون قتلا لها‏.‏ ومعنى ‏{‏إلا بالحق‏}‏أي إلا بسكين الصبر وسيف المجاهدة فلا ينظرون إلى نساء ليست لهم بمحرم بشهوة فيكون سفاحا؛ بل بالضرورة فيكون كالنكاح‏.‏ قال شيخنا أبو العباس‏:‏ وهذا كلام رائق غير أنه عند السبر مائق‏.‏ وهي نبعة باطنية ونزعة باطلية وإنما صح تشريف عباد الله باختصاص الإضافة بعد أن تحلوا بتلك الصفات الحميدة وتخلوا عن نقائض ذلك من الأوصاف الذميمة، فبدأ في صدر هذه الآيات بصفات التحلي تشريفا لهم، ثم أعقبها بصفات التخلي تبعيدا لها؛ والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ ومما يدل على بطلان ما ادعاه هذا القائل من أن تلك الأمور ليست على ظاهرها ما ‏"‏روى مسلم من حديث عبدالله بن مسعود‏"‏ قال قلت‏:‏ يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تدعو لله ندا وهو خلقك‏)‏ قال‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم‏)‏ قال‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تزاني حليلة جارك‏)‏ فأنزل الله تعالى تصديقها‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما‏}‏‏.‏ والأثام في كلام العرب العقاب، وبه قرأ ابن زيد وقتادة هذه الآية‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

جزى الله ابن عروة حيث أمسى عقوقا والعقوق له أثام

أي جزاء وعقوبة‏.‏ وقال عبدالله بن عمرو وعكرمة ومجاهد‏:‏ إن ‏{‏أثاما‏}‏واد في جهنم جعله الله عقابا للكفرة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

لقيت المهالك في حربنا وبعد المهالك تلقى أثاما

وقال السدي‏:‏ جبل فيها‏.‏ قال‏:‏

وكان مقامنا ندعو عليهم بأبطح ذي المجاز له أثام

وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس‏:‏ أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا؛ فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، وهو يخبرنا بأن لما عملنا كفارة، فنزلت‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما‏}‏‏.‏ ونزل ‏}‏يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم‏}‏ الآية‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذه الآية، ‏{‏يا عبادي الذين أسرفوا‏}‏نزلت في وحشي قاتل حمزة؛ قاله سعيد بن جبير وابن عباس‏.‏ وسيأتي في الزمر بيانه‏.‏ قوله ‏{‏إلا بالحق‏}‏أي بما يحق أن تقتل به النفوس من كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان؛ على ما تقدم بيانه في الأنعام ‏.‏ ‏{‏ولا يزنون‏}‏فيستحلون الفروج بغير نكاح ولا ملك يمين‏.‏ ودلت هذه الآية على أنه ليس بعد الكفر أعظم من قتل النفس بغير الحق ثم الزنى؛ ولهذا ثبت في حد الزنا القتل لمن كان محصنا أو أقصى الجلد لمن كان غير محصن‏.‏

قوله ‏{‏يضاعف له العذاب‏}‏قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي يضاعف‏.‏ ويخلد جزما‏.‏ وقرأ ابن كثير‏}‏يضعف‏}‏بشد العين وطرح الألف وبالجزم في ‏{‏يضعف‏.‏ ويخلد‏}‏وقرأ طلحة بن سليمان‏}‏نضعف‏}‏بضم النون وكسر العين المشددة‏.‏ ‏{‏العذاب‏}‏نصب ‏{‏ويخلد‏}‏جزم، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة‏.‏ وقرأ عاصم في رواية أبي بكر‏}‏يضاعف‏.‏ ويخلد‏}‏بالرفع فيهما على العطف والاستئناف‏.‏ وقرأ طلحة بن سليمان‏}‏وتخلد‏}‏بالتاء على معنى مخاطبة الكافر‏.‏ وروي عن أبي عمرو ‏{‏ويخلد‏}‏بضم الياء من تحت وفتح اللام‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وهي غلط من جهة الرواية‏.‏ و‏{‏يضاعف‏}‏بالجزم بدل من ‏{‏يلق‏}‏الذي هو جزاء الشرط‏.‏ قال سيبويه‏:‏ مضاعفة العذاب لقي الأثام‏.‏ قال الشاعر‏:‏

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا

وقال آخر‏:‏

إن علي الله أن تبايعا تؤخذ كرها أو تجيء طائعا

وأما الرفع ففيه قولان‏:‏ أحدهما أن تقطعه مما قبله‏.‏ والآخر أن يكون محمولا على المعنى؛ كأن قائلا قال‏:‏ ما لقي الأثام‏؟‏ فقيل له‏:‏ يضاعف له العذاب‏.‏ ‏{‏مهانا‏}‏معناه ذليلا خاسئا مبعدا مطرودا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 70 ‏)‏

‏{‏ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما

قوله ‏{‏إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا‏}‏لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني‏.‏ واختلفوا في القاتل من المسلمين على ما تقدم بيانه في النساء ومضى في المائدة القول في جواز التراخي في الاستثناء في اليمين، وهو مذهب ابن عباس مستدلا بهذه الآية‏.‏

قوله ‏{‏فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات‏}‏قال النحاس‏:‏ من أحسن ما قيل فيه أنه يكتب موضع كافر مؤمن، وموضع عاص مطيع‏.‏ وقال مجاهد والضحاك‏:‏ أن يبدلهم الله من الشرك الإيمان وروي نحوه عن الحسن‏.‏ قال الحسن‏:‏ قوم يقولون التبديل في الآخرة، وليس كذلك، إنما التبديل في الدنيا؛ يبدلهم الله إيمانا من الشرك، وإخلاصا من الشك، وإحصانا من الفجور‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ليس بجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن بجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة‏.‏ و‏"‏روى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن السيئات تبدل بحسنات‏)‏‏.‏ وروي معناه عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وغيرهما‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ ذلك في الآخرة فيمن غلبت حسناته على سيئاته، فيبدل الله السيئات حسنات‏.‏ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات‏)‏ فقيل‏:‏ ومن هم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات‏)‏‏.‏ رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره الثعلبي والقشيري‏.‏ وقيل‏:‏ التبديل عبارة عن الغفران؛ أي يغفر الله لهم تلك السيئات لا أن يبدلها حسنات‏.‏

قلت‏:‏ فلا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ‏:‏ ‏(‏اتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق في كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا‏)‏ فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه‏.‏ وقال أبو طويل‏:‏ يا رسول الله، أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا اقتطعها فهل له من توبة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هل أسلمت‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك عبد الله ورسوله‏.‏ قال ‏(‏نعم‏.‏ تفعل الخيرات وتترك السيئات يجعلهن الله كلهن خيرات‏)‏‏.‏ قال‏:‏ وغدراتي وفجراتي يا نبي الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ قال‏:‏ الله أكبر‏!‏ فما زال يكررها حتى توارى‏.‏ ذكره الثعلبي‏.‏ قال مبشر بن عبيد، وكان عالما بالنحو والعربية‏:‏ الحاجة التي تقطع على الحاج إذا توجهوا‏.‏ والداجة التي تقطع عليهم إذا قفلوا‏.‏ ‏{‏وكان الله غفورا رحيما‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 71 ‏)‏

‏{‏ ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا ‏}‏

قوله ‏{‏ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا‏}‏لا يقال‏:‏ من قام فإنه يقوم؛ فكيف قال من تاب فإنه يتوب‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ المعنى من آمن من أهل مكة وهاجر ولم يكن قتل وزنى بل عمل صالحا وأدى الفرائض فإنه يتوب إلى الله متابا؛ أي فإني قدمتهم وفضلتهم على من قاتل النبي صلى الله عليه وسلم واستحل المحارم‏.‏ وقال القفال‏:‏ يحتمل أن تكون الآية الأولى فيمن تاب من المشركين، ولهذاقال ‏}‏إلا من تاب وآمن‏}‏ ثم عطف عليه من تاب من المسلمين واتبع توبته عملا صالحا فله حكم التائبين أيضا‏.‏ وقيل‏:‏ أي من تاب بلسانه ولم يحقق ذلك بفعله، فليست تلك التوبة نافعة؛ بل من تاب وعمل صالحا فحقق توبته بالأعمال الصالحة فهو الذي تاب إلى الله متابا، أي تاب حق التوبة وهي النصوح ولذا أكد بالمصدر‏.‏ فـ ‏{‏متابا‏}‏مصدر معناه التأكيد، كقوله ‏{‏وكلم الله موسى تكليما‏}‏ أي فإنه يتوب إلى الله حقا فيقبل الله توبته حقا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 72 ‏)‏

‏{‏ والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما ‏}‏

قوله ‏{‏والذين لا يشهدون الزور‏}‏أي لا يحضرون الكذب والباطل ولا يشاهدونه‏.‏ والزور كل باطل زور وزخرف، وأعظمه الشرك وتعظيم الأنداد‏.‏ وبه فسر الضحاك وابن زيد وابن عباس وفي رواية عن ابن عباس أنه أعياد المشركين‏.‏ عكرمة‏:‏ لعب كان في الجاهلية يسمى بالزور‏.‏ مجاهد‏:‏ الغناء؛ وقاله محمد ابن الحنفية أيضا‏.‏ ابن جريج‏:‏ الكذب؛ وروي عن مجاهد‏.‏ وقال علي بن أبي طلحة ومحمد بن علي‏:‏ المعنى لا يشهدون بالزور، من الشهادة لا من المشاهدة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ أما القول بأنه الكذب فصحيح، لأن كل ذلك إلى الكذب يرجع، وأما من قال إنه لعب كان في الجاهلية فإنه يحرم ذلك إذا كان فيه قمار أو جهالة، أو أمر يعود إلى الكفر، وأما القول بأنه الغناء فليس ينتهي إلى هذا الحد‏.‏

قلت‏:‏ من الغناء ما ينتهي سماعه إلى التحريم، وذلك كالأشعار التي توصف فيها الصور المستحسنات والخمر وغير ذلك مما يحرك الطباع ومخرجها عن الاعتدال، أو يثير كامنا من حب اللهو؛ مثل قول بعضهم‏:‏

ذهبي اللون تحسب من وجنتيه النار تقتدح

خوفوني من فضيحته ليته وافي وافتضح

لا سيما إذا اقترن بذلك شبابات وطارات مثل ما يفعل اليوم في هذه الأزمان، على ما بيناه في غير هذا الموضع‏.‏ وأما من قال إنه شهادة الزور، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، ويحلق رأسه، ويطوف به في السوق‏.‏ وقال أكثر أهل العلم‏:‏ ولا تقبل له شهادة أبدا وإن تاب وحسنت حاله فأمره إلى الله‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه إذا كان غير مبرز فحسنت حال قبلت شهادته حسبما تقدم بيانه في سورة الحج فتأمله هناك‏.‏

قوله ‏{‏وإذا مروا باللغو مروا كراما‏}‏اللغو، وهو كل سقط من قول أو فعل؛ فيدخل فيه الغناء واللهو وغير ذلك مما قاربه، وتدخل فيه سفه المشركين وأذاهم المؤمنين وذكر النساء وغير ذلك من المنكر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إذا أوذوا صفحوا‏.‏ وروي عنه‏:‏ إذا ذكر النكاح كنوا عنه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ اللغو المعاصي كلها‏.‏ وهذا جامع‏.‏ و‏{‏كراما‏}‏معناه معرضين منكرين لا يرضونه، ولا يمالئون عليه، ولا يجالسون أهله‏.‏ أي مروا مر الكرام الذين لا يدخلون في الباطل‏.‏ يقال تكرم فلان عما يشينه، أي تنزه وأكرم نفسه عنه‏.‏ وروي أن عبدالله بن مسعود سمع غناء فأسرع وذهب، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏لقد أصبح ابن أم عبد كريما‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ من المرور باللغو كريما أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 73 ‏)‏

‏{‏ والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا ‏}‏

قوله ‏{‏والذين إذا ذكروا بآيات ربهم‏}‏أي إذا قرئ عليهم القرآن ذكروا آخرتهم ومعادهم ولم يتغافلوا حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع‏.‏ ‏{‏لم يخروا عليها صما وعميانا‏}‏وليس ثم خرور؛ كما يقال‏:‏ قعد يبكي لسان وإن كان غير قاعد؛ قاله الطبري واختاره؛ قال ابن عطية‏:‏ وهو أن يخروا صما وعميانا هي صفة الكفار، وهي عبارة عن إعراضهم؛ وقرن ذلك بقولك‏:‏ قعد فلان يشتمني وقام فلان يبكي وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام، وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فكأن المستمع للذكر قائم القناة قويم الأمر، فإذا أعرض وضل كان ذلك خرورا، وهو السقوط على غير نظام وترتيب؛ وإن كان قد شبه به الذي يخر ساجدا لكن أصله على غير ترتيب‏.‏ وقيل‏:‏ أي إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم فخروا سجدا وبكيا، ولم يخروا عليها صما وعميانا‏.‏ وقال الفراء‏:‏ أي لم يقعدوا على حالهم الأول كأن لم يسمعوا‏.‏

قال بعضهم‏:‏ إن من سمع رجلا يقرأ سجدة يسجد معه؛ لأنه قد سمع آيات الله تتلى عليه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا لا يلزم إلا القارئ وحده، وأما غيره فلا يلزمه ذلك إلا في مسألة واحدة؛ وهو أن الرجل إذا تلا القرآن وقرأ السجدة فإن كان الذي جلس معه جلس ليسمعه فليسجد معه، وإن لم يلتزم السماع معه فلا سجود عليه‏.‏ وقد مضى هذا في الأعراف ‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 74 ‏:‏ 77 ‏)‏

‏{‏والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما، أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما، خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما، قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ‏}‏

قوله ‏{‏والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين‏}‏قال الضحاك‏:‏ أي مطيعين لك‏.‏ وفيه جواز الدعاء بالولد‏.‏ والذرية تكون واحدا وجمعا‏.‏ فكونها للواحد قوله ‏{‏رب هب لي من لدنك ذرية طيبة‏}‏‏{‏فهب لي من لدنك وليا‏}‏ وكونها للجمع ‏{‏ذرية ضعافا‏}‏ وقد مضى في البقرة اشتقاقها مستوفى‏.‏ وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والحسن‏}‏وذرياتنا‏}‏وقرأ أبو عمر وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى‏}‏وذريتنا‏}‏بالإفراد‏.‏ ‏{‏قرة أعين‏}‏نصب على المفعول، أي قرة أعين لنا‏.‏ وهذا نحو قوله عليه الصلاة والسلام لأنس‏:‏ ‏(‏اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه‏)‏‏.‏ وذلك أن الإنسان إذا بورك له في مال وولده قرت عينه بأهله وعياله، حتى إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة أو كانت عنده ذرية محافظون على الطاعة، معاونون له على وظائف الدين والدنيا، لم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده، فتسكن عينه عن الملاحظة، ولا تمتد عينه إلى ما ترى؛ فذلك حين قرة العين، وسكون النفس‏.‏ ووحد ‏{‏قرة‏}‏لأنه مصدر؛ تقول‏:‏ قرت عينك قرة‏.‏ وقرة العين يحتمل أن تكون من القرار، ويحتمل أن تكون من القر وهو الأشهر‏.‏ والقر البرد؛ لأن العرب تتأذى بالحر وتستريح إلى البرد‏.‏ وأيضا فإن دمع السرور بارد، ودمع الحزن سخن، فمن هذا يقال‏:‏ أقر الله عينك، وأسخن الله عين العدو‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

فكم سخنت بالأمس عين قريرة وقرت عيون دمعها اليوم ساكب

قوله ‏{‏واجعلنا للمتقين إماما‏}‏أي قدوة يقتدى بنا في الخير، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيا قدوة؛ وهذا هو قصد الداعي‏.‏ وفي الموطأ‏:‏ ‏(‏إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم‏)‏ فكان ابن عمر يقول في دعائه‏:‏ اللهم اجعلنا من أئمة المتقين‏.‏ وقال ‏{‏إماما‏}‏ولم يقل أئمة على الجمع؛ لأن الإمام مصدر‏.‏ يقال‏:‏ أم القوم فلان إماما؛ مثل الصيام والقيام‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أراد أئمة، كما يقول القائل أميرنا هؤلاء، يعني أمراءنا‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي إن العواذل لسن لي بأمير

أي أمراء‏.‏ وكان القشيري أبو القاسم شيخ الصوفية يقول‏:‏ الإمامة بالدعاء لا بالدعوى، يعني بتوفيق الله وتيسيره ومنته لا بما يدعيه كل أحد لنفسه‏.‏ وقال إبراهيم النخعي‏:‏ لم يطلبوا الرياسة بل بأن يكونوا قدوة في الدين‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ اجعلنا أئمة هدى، كما قال ‏{‏وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا‏}‏ وقال مكحول‏:‏ اجعلنا أئمة في التقوى يقتدي بنا المتقون‏.‏ وقيل‏:‏ هذا من المقلوب؛ مجازه‏:‏ واجعل المتقين لنا إماما؛ وقال مجاهد‏.‏ والقول الأول أظهر وإليه يرجع قول ابن عباس ومكحول، ويكون فيه دليل‏.‏ على أن طلب الرياسة في الدين ندب‏.‏ وإمام واحد يدل على جمع؛ لأنه مصدر كالقيام‏.‏ قال الأخفش‏:‏ الإمام جمع آم من أم يؤم جمع على فعال، نحو صاحب وصحاب، وقائم وقيام‏.‏

قوله ‏{‏أولئك يجزون الغرفة بما صبروا‏}‏‏{‏أولئك‏}‏خبر ‏{‏وعباد الرحمن‏}‏في قول الزجاج على ما تقدم، وهو أحسن ما قيل فيه‏.‏ وما تخلل بين المبتدأ وخبره أوصافهم من التحلي والتخلي؛ وهي إحدى عشرة‏:‏ التواضع، والحلم، والتهجد، والخوف، وترك الإسراف والإقتار، والنزاهة عن الشرك، والزنى والقتل، والتوبة وتجنب الكذب، والعفو عن المسيء، وقبول المواعظ، والابتهال إلى الله‏.‏ و‏{‏الغرفة‏}‏الدرجة الرفيعة وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا‏.‏ حكاه ابن شجره‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الغرفة الجنة‏.‏ ‏{‏بما صبروا‏}‏أي بصبرهم على أمر ربهم‏:‏ وطاعة نبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام‏.‏ وقال محمد بن علي بن الحسين‏}‏بما صبروا‏}‏على الفقر والفاقة في الدنيا‏.‏ وقال الضحاك‏}‏بما صبروا‏}‏عن الشهوات‏.‏ ‏{‏ويلقون فيها تحية وسلاما‏}‏قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف‏}‏ويلقون‏}‏مخففة، واختاره الفراء؛ قال لأن العرب تقول‏:‏ فلان يتلقى بالسلام وبالتحية وبالخير بالتاء، وقلما يقولون فلان يلقى السلامة‏.‏ وقرأ الباقون‏}‏ويلقون‏}‏واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله ‏{‏ولقاهم نضرة وسرورا‏}‏ ‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ وما ذهب إليه الفراء واختاره غلط؛ لأنه يزعم أنها لو كانت ‏{‏يلقون‏}‏كانت في العربية بتحية وسلام، وقال كما يقال‏:‏ فلان يتلقى بالسلام وبالخير؛ فمن عجيب ما في هذا الباب أنه قال يتلقى والآية ‏{‏يلقون‏}‏والفرق بينهما بين‏:‏ لأنه يقال فلان يتلقى بالخير ولا يجوز حذف الباء، فكيف يشبه هذا ذاك‏!‏ وأعجب من هذا أن في القرآن ‏{‏ولقاهم نضرة وسرورا‏}‏ولا يجوز أن يقرأ بغيره‏.‏ وهذا يبين أن الأولى على خلاف ما قال‏.‏ والتحية من الله والسلام من الملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ التحية البقاء الدائم والملك العظيم؛ والأظهر أنهما بمعنى واحد، وأنهما من قبل الله تعالى؛ دليله قوله ‏{‏تحيتهم يوم يلقونه سلام‏}‏ وسيأتي‏.‏ ‏{‏خالدين‏}‏نصب على الحال ‏{‏فيها حسنت مستقرا ومقاما‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم‏}‏هذه آية مشكلة تعلقت بها الملحدة‏.‏ يقال‏:‏ ما عبأت بفلان أي ما باليت به؛ أي ما كان له عندي وزن ولا قدر‏.‏ وأصل يعبأ من العبء وهو الثقل‏.‏ وقول الشاعر‏:‏

كأن بصدره وبجانبيه عبيرا بات يعبؤه عروس

أي يجعل بعضه على بعض‏.‏ فالعبء الحمل الثقيل، والجمع أعباء‏.‏ والعبء المصدر‏.‏ وما استفهامية؛ ظهر في أثناء كلام الزجاج، وصرح به الفراء‏.‏ وليس يبعد أن تكون نافية؛ لأنك إذا حكمت بأنها استفهام فهو نفي خرج مخرج الاستفهام؛ كما قال ‏{‏هل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏}‏ قال ابن الشجري‏:‏ وحقيقة القول عندي أن موضع ‏{‏ما‏}‏نصب؛ والتقدير‏:‏ أي عبء يعبأ بكم؛ أي أي مبالاة يبالي ربي بكم لولا دعاؤكم؛ أي لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه، فالمصدر الذي هو الدعاء على هذا القول مضاف إلى مفعوله؛ وهو اختصار الفراء‏.‏ وفاعله محذوف وجوابه لولا محذوف كما حذف في قوله ‏{‏ولو أن قرآنا سيرت به الجبال‏}‏ تقديره‏:‏ لم يعبأ بكم‏.‏ ودليل هذا القول قوله ‏{‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏}‏ فالخطاب لجميع الناس؛ فكأنه قال لقريش منهم‏:‏ أي ما يبال الله بكم لولا عبادتكم إياه أن لو كانت؛ وذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله‏.‏ ويؤيد هذا قراءة ابن الزبير وغيره‏.‏ ‏{‏فقد كذب الكافرون‏}‏ فالخطاب بما يعبأ لجميع الناس، ثم يقول لقريش‏:‏ فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون التكذيب هو سبب العذاب لزاما‏.‏ وقال النقاش وغيره‏:‏ المعنى؛ لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك‏.‏ بيانه ‏{‏فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين‏}‏ ونحو هذا‏.‏ وقيل ‏{‏ما يعبأ بكم‏}‏أي بمغفرة ذنوبكم ولا هو عنده عظيم ‏{‏لولا دعاؤكم‏}‏ معه الآلهة والشركاء‏.‏ بيانه‏}‏ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم‏}‏ ‏.‏ قال الضحاك‏.‏ وقال الوليد بن أبي الوليد‏:‏ بلغني فيها أي ما خلقتكم ولي حاجة إليكم إلا تسألوني فأغفر لكم وأعطيكم‏.‏ و روى وهب بن منبه أنه كان في التوراة‏}‏يا ابن آدم وعزتي ما خلقتك لأربح عليك إنما خلقتك لتربح علي فاتخذني بدلا من كل شيء فأنا خير لك من كل شيء ‏.‏ قال ابن جني‏:‏ قرأ ابن الزبير وابن عباس ‏{‏فقد كذب الكافرون‏}‏ ‏.‏ قال الزهراوي والنحاس‏:‏ وهي قراءة ابن مسعود وهي على التفسير؛ للتاء والميم في ‏{‏كذبتم‏}‏‏.‏ وذهب القتبي والفارسي إلى أن الدعاء مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف‏.‏ الأصل لولا دعاؤكم آلهة من دونه؛ وجواب ‏{‏لولا‏}‏محذوف تقديره في هذا الوجه‏:‏ لم يعذبكم‏.‏ ونظير قوله‏:‏ لولا دعاؤكم آلهة قوله ‏{‏إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم‏}‏ ‏.‏ ‏{‏فقد كذبتم‏}‏أي كذبتم بما دعيتم إليه؛ هذا على القول الأول؛ وكذبتم بتوحيد الله على الثاني‏.‏ ‏{‏فسوف يكون لزاما‏}‏أي يكون تكذيبكم ملازما لكم‏.‏ والمعنى‏:‏ فسوف يكون جزاء التكذيب كماقال ‏{‏ووجدوا ما عملوا حاضرا‏}‏ أي جزاء ما عملوا وقوله ‏{‏فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون‏}‏ أي جزاء ما كنتم تكفرون‏.‏ وحسن إضمار التكذيب لتقدم ذكر فعله؛ لأنك إذا ذكرت الفعل دل بلفظه على مصدره، كماقال ‏{‏ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم‏}‏ أي لكان الإيمان‏.‏ وقوله ‏{‏وإن تشكروا يرضه لكم‏}‏ أي يرضى الشكر‏.‏ ومثله كثير‏.‏ وجمهور المفسرين على أن المراد باللزام هنا ما نزل بهم يوم بدر، وهو قول عبدالله ابن مسعود وأبي بن كعب وأبي مالك ومجاهد ومقاتل وغيرهم‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عبدالله‏:‏ وقد مضت البطشة والدخان واللزام‏.‏ وسيأتي مبينا في سورة الدخان إن شاء الله تعالى‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هو توعد بعذاب الآخرة‏.‏ وعن ابن مسعود أيضا‏:‏ اللزام التكذيب نفسه؛ أي لا يعطون التوبة منه؛ ذكره الزهراوي؛ فدخل في هذا يوم بدر وغيره من العذاب الذي يلزمونه‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ لزاما فيصلا أي فسوف يكون فيصلا بينكم وبين المؤمنين‏.‏ والجمهور من القراء على كسر اللام؛ وأنشد أبو عبيدة لصخر‏:‏

فإما ينجوا من خسف أرض فقد لقيا حتوفهما لزاما

ولزاما وملازمة واحد‏.‏ وقال الطبري‏}‏لزاما‏}‏يعني عذابا دائما لازما، وهلاكا مفنيا يلحق بعضكم ببعض؛ كقول أبي ذؤيب‏:‏

ففاجأه بعادية لزام كما يتفجر الحوض اللقيف

يعني باللزام الذي يتبع بعضه بعضا، وباللقيف المتساقط الحجارة المتهدم‏.‏ النحاس‏:‏ وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال سمعت قعنبا أبا السمال يقرأ‏}‏لزاما‏}‏بفتح اللام‏.‏ قال أبو جعفر‏:‏ يكون مصدر لزم والكسر أولى، يكون مثل قتال ومقاتلة، كما أجمعوا على الكسر في قوله عز وجل ‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى‏}‏ ‏.‏ قال غيره‏:‏ اللزام بالكسر مصدر لازم لزاما مثل خاصم خصاما، واللزام بالفتح مصدر لزم مثل سلم سلاما أي سلامة؛ فاللزام بالفتح اللزوم، واللزام الملازمة، والمصدر في القراءتين وقع موقع اسم الفاعل‏.‏ فاللزام وقع موقع ملازم، واللزام وقع موقع لازم‏.‏ كما قال ‏{‏قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا‏}‏ أي غائرا‏.‏ قال النحاس‏:‏ وللفراء قول في اسم يكون؛ قال‏:‏ يكون مجهولا وهذا غلط؛ لأن المجهول لا يكون خبره إلا جملة، كما قال ‏{‏إنه من يتق ويصبر‏}‏ وكما حكى النحويون كان زيد منطلق يكون في كان مجهول ويكون المبتدأ وخبره خبر المجهول، التقدير‏:‏ كان الحديث؛ فأما أن يقال كان منطلقا، ويكون في كان مجهول فلا يجوز عند أحد علمناه‏.‏ وبالله التوفيق وهو المستعان والحمد لله رب العالمين‏.‏
 
سورة الشعراء

مقدمة السورة

هي مكية في قول الجمهور‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ منها مدني؛ الآية التي يذكر فيها الشعراء، وقوله ‏{‏أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل‏} ‏ ‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ مكية إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة من قوله ‏{‏والشعراء يتبعهم الغاوون‏}‏ إلى آخرها‏.‏ وهي مائتان وسبع وعشرون آية‏.‏ وفي رواية‏:‏ ست وعشرون‏.‏ وعن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعطيت السورة التي تذكر فيها البقرة من الذكر الأول وأعطيت طه وطسم من ألواح موسى وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش وأعطيت المفصل نافلة‏)‏‏.‏ وعن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني المبين مكان الإنجيل وأعطاني الطواسين مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي‏)‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 1 ‏:‏ 9 ‏)‏

‏{‏ طسم، تلك آيات الكتاب المبين، لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين، إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين، وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين، فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون، أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم ‏}‏

قوله ‏{‏طسم‏}‏قرأ الأعمش ويحيى وأبو بكر والمفضل وحمزة والكسائي وخلف‏:‏ بإمالة الطاء مشبعا في هذه السورة وفي أختيها‏.‏ وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة والزهري‏:‏ بين اللفظين؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم‏.‏ وقرأ الباقون بالفتح مشبعا‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ وهي كلها لغات فصيحة‏.‏ وقد مضى في طه قول النحاس في هذا‏.‏ قال النحاس‏:‏ وقرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي‏}‏طسم‏}‏بإدغام النون في الميم، والفراء يقول بإخفاء النون‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ وحمزة‏}‏طسين ميم‏}‏بإظهار النون‏.‏ قال النحاس‏:‏ للنون الساكنة والتنوين أربعة أقسام عند سيبويه‏:‏ يبينان عند حروف الحلق، ويدغمان عند الراء واللام والميم والواو والياء، ويقلبان ميما عند الباء ويكونان من الخياشيم؛ أي لا يبينان؛ فعلى هذه الأربعة الأقسام التي نصها سيبويه لا تجوز هذه القراءة؛ لأنه ليس ها هنا حرف من حروف الحلق فتبين النون عنده، ولكن في ذلك وجيه‏:‏ وهو أن حروف المعجم حكمها أن يوقف عليها، فإذا وقف عليها تبينت النون‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ الإدغام اختيار أبي عبيد وأبي حاتم قياسا على كل القرآن، وإنما أظهرها أولئك للتبيين والتمكين، وأدغمها هؤلاء لمجاورتها حروف الفم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وحكى أبو إسحاق في كتابه ‏{‏فيما يجرى وفيما لا يجرى‏}‏أنه يجوز أن يقال‏}‏طسين ميم‏}‏بفتح النون وضم الميم، كما يقال هذا معدي كرب‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ قرأ خالد ‏{‏طسين ميم‏}‏‏.‏ ابن عباس‏}‏طسم‏}‏قسم وهو اسم من أسماء الله تعالى، والمقسم عليه‏{‏إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية‏}‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ اسم من أسماء القرآن أقسم الله به‏.‏ مجاهد‏:‏ هو اسم السورة؛ ويحسن افتتاح السورة‏.‏ الربيع‏:‏ حساب مدة قوم‏.‏ وقيل‏:‏ قارعة تحل بقوم‏.‏ ‏{‏طسم‏}‏و‏{‏طس‏}‏واحد‏.‏ قال‏:‏

وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمة بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه

وقال القرظي‏:‏ أقسم الله بطول وسنائه وملكه‏.‏ وقال عبدالله بن محمد بن عقيل‏:‏ الطاء طور سيناء والسين إسكندرية والميم مكة‏.‏ وقال جعفر بن محمد بن علي‏:‏ الطاء شجرة طوبى، والسين سدرة المنتهى، والميم محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ الطاء من الطاهر والسين من القدوس - وقيل‏:‏ من السميع وقيل‏:‏ من السلام - والميم من المجيد‏.‏ وقيل‏:‏ من الرحيم‏.‏ وقيل‏:‏ من الملك‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في أول سورة البقرة ‏.‏ والطواسيم والطواسين سور في القرآن جمعت على غير قياس‏.‏ وأنشد أبو عبيدة‏:‏

وبالطواسيم التي قد ثلثت وبالحواميم التي قد سبعت

قال الجوهري‏:‏ والصواب أن تجمع بذوات وتضاف إلى واحد، فيقال‏:‏ ذوات طسم وذوات حم‏.‏

قوله ‏{‏تلك آيات الكتاب المبين‏}‏رفع على إضمار مبتدأ أي هذه ‏{‏تلك آيات الكتاب المبين‏}‏التي كنتم وعدتم بها؛ لأنهم قد وعدوا في التوراة والإنجيل بإنزال القرآن‏.‏ وقيل ‏{‏تلك‏}‏بمعنى هذه‏.‏ ‏{‏لعلك باخع نفسك‏}‏أي قاتل نفسك ومهلكها‏.‏ وقد مضى في الكهف بيانه‏.‏ ‏{‏ألا يكونوا مؤمنين‏}‏أي لتركهم الإيمان‏.‏ قال الفراء‏}‏أن‏}‏في موضع نصب؛ لأنها جزاء‏.‏ قال النحاس‏:‏ وإنما يقال‏:‏ بإن مكسورة لأنها جزاء؛ كذا المتعارف‏.‏ والقول في هذا ما قاله أبو إسحاق في كتابه في القرآن ؛قال ‏{‏أن‏}‏في موضع نصب مفعول من أجله؛ والمعنى لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان‏.‏ ‏{‏إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية‏}‏أي معجزة ظاهرة وقدرة باهرة فتصير معارفهم ضرورية، ولكن سبق القضاء بأن تكون المعارف نظرية‏.‏ وقال أبو حمزة الثمالي في هذه الآية‏:‏ بلغني أن لهذه الآية صوتا يسمع من السماء في النصف من شهر رمضان؛ تخرج به العواتق من البيوت وتضج له الأرض‏.‏ وهذا فيه بعد؛ لأن المراد قريش لا غيرهم‏.‏ ‏{‏فظلت أعناقهم لها خاضعين‏}‏أي فتظل أعناقهم ‏{‏لها خاضعين‏}‏قال مجاهد‏:‏ أعناقهم كبراؤهم؛ وقال النحاس‏:‏ ومعروف في اللغة؛ يقال‏:‏ جاءني عنق من الناس أي رؤساء منهم‏.‏ أبو زيد والأخفش‏}‏أعناقهم‏}‏جماعاتهم؛ يقال‏:‏ جاءني عنق من الناس أي جماعة‏.‏ وقيل‏:‏ إنما أراد أصحاب الأعناق، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه‏.‏ قتادة‏:‏ المعنى لو شاء لأنزل آية يذلون بها فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية‏.‏ ابن عباس‏:‏ نزلت فينا وفي بني أمية ستكون لنا عليهم الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد معاوية؛ ذكره الثعلبي والغزنوي فالله أعلم‏.‏ وخاضعين وخاضعة هنا سواء؛ قاله عيسى بن عمر واختاره المبرد‏.‏ والمعنى‏:‏ إنهم إذا ذلت رقابهم ذلوا؛ فالإخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها‏.‏ ويسوغ في كلام العرب أن تترك الخبر عن الأول وتخبر عن الثاني؛ قال الراجز‏:‏

طول الليالي أسرعت في نقضي طوين طولي وطوين عرضي

فأخبر عن الليالي وترك الطول‏.‏ وقال جرير‏:‏

أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال

وإنما جاز ذلك لأنه لو أسقط مر وطول من الكلام لم يفسد معناه؛ فكذلك رد الفعل إلى، الكناية في قوله ‏{‏فظلت أعناقهم‏}‏لأنه لو أسقط الأعناق لما فسد الكلام، ولأدى ما بقي من الكلام عنه حتى يقول‏:‏ فظلوا لها خاضعين‏.‏ وعلى هذا اعتمد الفراء وأبو عبيدة‏.‏ والكسائي يذهب إلى، أن المعنى خاضعيها هم، وهذا خطأ عند البصريين والفراء‏.‏ ومثل هذا الحذف لا يقع في شيء من الكلام؛ قاله النحاس‏.‏

قوله ‏{‏وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين‏}‏تقدم‏.‏ ‏{‏فقد كذبوا‏}‏أي أعرضوا ومن أعرض عن شيء ولم يقبله فهو تكذيب له‏.‏ ‏{‏فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون‏}‏وعيد لهم؛ أي فسوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا والذي استهزؤوا به‏.‏

قوله ‏{‏أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم‏}‏نبه على عظمته وقدرته وأنهم لو رأوا بقلوبهم ونظروا ببصائرهم لعلموا أنه الذي يستحق أن يعبد؛ إذ هو القادر على كل شيء‏.‏ والزوج هو اللون؛ قال الفراء‏.‏ و‏{‏كريم‏}‏حسن شريف، وأصل الكرم في اللغة الشرف والفضل، فنخلة كريمة أي فاضلة كثيرة الثمر، ورجل كريم شريف، فاضل صفوح‏.‏ ونبتت الأرض وأنبتت بمعنى‏.‏ وقد تقدم في سورة البقرة والله سبحانه هو المخرج والمنبت له‏.‏ وروي عن الشعبي أنه قال‏:‏ الناس من نبات الأرض فمن صار منهم إلى الجنة فهو كريم، ومن صار إلى النار فهو لئيم‏.‏ ‏{‏إن في ذلك لآية‏}‏أي فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدلالته على أن الله قادر، لا يعجزه شيء‏.‏ ‏{‏وما كان أكثرهم مؤمنين‏}‏أي مصدقين لما سبق من علمي فيهم‏.‏ و‏{‏كان‏}‏هنا صلة في قول سيبويه؛ تقديره‏:‏ وما أكثرهم مؤمنين‏.‏ ‏{‏وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏يريد المنيع المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 10 ‏:‏ 15 ‏)‏

‏{‏ وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين، قوم فرعون ألا يتقون، قال رب إني أخاف أن يكذبون، ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون، ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون، قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون ‏}‏

قوله ‏{‏وإذ نادى ربك موسى‏}‏‏{‏إذ‏}‏في موضع نصب؛ المعنى‏:‏ واتل عليهم ‏{‏إذ نادى ربك موسى‏}‏ويدل على هذا أن بعده‏.‏ ‏{‏واتل عليهم نبأ إبراهيم‏} ‏ ذكره النحاس‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى؛ واذكر إذا نادى كما صرح به في قوله ‏{‏واذكر أخا عاد‏} ‏ وقوله ‏{‏واذكر عبادنا إبراهيم‏} ‏ وقوله ‏{‏واذكر في الكتاب مريم‏}‏ ‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى؛ ‏{‏وإذ نادى ربك موسى‏}‏كان كذا وكذا‏.‏ والنداء الدعاء بيا فلان، أي قال ربك يا موسى‏:‏ ‏{‏أن ائت القوم الظالمين‏}‏ثم أخبر من هم فقال، ‏{‏قوم فرعون ألا يتقون‏}‏ ف ‏{‏قوم‏}‏بدل؛ ومعنى ‏{‏ألا يتقون‏}‏ألا يخافون عقاب الله‏؟‏ وقيل‏:‏ هذا من الإيماء إلى الشيء لأنه أمره أن يأتي القوم الظالمين، ودل قوله ‏{‏يتقون‏}‏على أنهم لا يتقون، وعلى أنه أمرهم بالتقوى‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى؛ قل لهم ‏{‏ألا تتقون‏}‏وجاء بالياء لأنهم غيب وقت الخطاب، ولو جاء بالتاء لجاز‏.‏ ومثله ‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون‏} ‏ بالتاء والياء‏.‏ وقد قرأ عبيد بن عمير وأبو حازم ‏{‏ألا تتقون‏}‏بتاءين أي قل لهم ‏{‏ألا تتقون‏}‏‏.‏ ‏{‏قال رب‏}‏أي قال موسى‏}‏إني أخاف أن يكذبون‏}‏أي في الرسالة والنبوة‏.‏ ‏{‏ويضيق صدري‏}‏لتكذيبهم إياي‏.‏ وقراءة العامة ‏{‏ويضيق‏}‏‏{‏ولا ينطلق‏}‏بالرفع على الاستئناف‏.‏ وقرأ يعقوب وعيسى بن عمرو أبو حيوة‏}‏ويضيق - ولا ينطلق‏}‏بالنصب فيهما ردا على قوله ‏{‏أن يكذبون‏}‏قال الكسائي‏:‏ القراءة بالرفع؛ يعني في ‏{‏يضيق صدري ولا ينطلق لسانى‏}‏من وجهين‏:‏ أحدهما الابتداء والآخر بمعنى وإني يضيق صدري ولا ينطلق لساني يعني نسقا على ‏{‏إني أخاف‏}‏قال الفراء‏:‏ ويقرأ بالنصب‏.‏ حكي ذلك عن الأعرج وطلحة وعيسى بن عمر وكلاهما له وجه‏.‏ قال النحاس‏:‏ الوجه لرفع؛ لأن النصب عطف على ‏{‏يكذبون‏}‏وهذا بعيد يدل على ذلك قوله عز وجل ‏{‏واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي‏} ‏ فهذا يدل على أن هذه كذا‏.‏ ‏{‏ولا ينطلق لساني‏}‏في المحاجة على ما أحب؛ وكان في لسانه عقدة على ما تقدم في طه ‏.‏ ‏{‏فأرسل إلى هارون‏}‏أرسل إليه جبريل بالوحي، واجعله رسولا معي ليؤازرني ويظاهرني ويعاونني‏.‏ ولم يذكر هنا ليعينني؛ لأن المعنى كان معلوما، وقد صرح به في سورة طه‏{‏واجعل لي وزيرا‏} ‏ وفي القصص ‏{‏أرسله معي ردءا يصدقني‏}‏ وكأن موسى أذن له في هذا السؤال، ولم يكن ذلك استعفاء من الرسالة بل طلب من يعينه‏.‏ ففي هذا دليل على أن من لا يستقل بأمر، ويخاف من نفسه تقصيرا، أن يأخذ من يستعين به عليه، ولا يلحقه في ذلك لوم‏.‏

قوله ‏{‏ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون‏}‏الذنب هنا قتل القبطي واسمه فاثور على ما يأتي في القصص بيانه، وقد مضى في طه ذكره‏.‏ وخاف موسى أن يقتلوه به، ودل على أن الخوف قد يصحب الأنبياء والفضلاء والأولياء مع معرفتهم بالله وأن لا فاعل إلا هو؛ إذ قد يسلط من شاء على من شاء ‏{‏قال كلا‏}‏أي كلا لن يقتلوك‏.‏ فهو ردع وزجر عن هذا الظن، وأمر بالثقة بالله تعالى؛ أي ثق بالله وانزجر عن خوفك منهم؛ فإنهم لا يقدرون على قتلك، ولا يقوون عليه‏.‏ ‏{‏فاذهبا‏}‏أي أنت وأخوك فقد جعلته رسولا معك‏.‏ ‏{‏بآياتنا‏}‏أي ببراهيننا وبالمعجزات‏.‏ وقيل‏:‏ أي مع آياتنا‏.‏ ‏{‏إنا معكم‏}‏يريد نفسه سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏مستمعون‏}‏أي سامعون ما يقولون وما يجاوبون‏.‏ وإنما أراد بذلك تقوية قلبيهما وأنه يعينهما ويحفظهما‏.‏ والاستماع إنما يكون بالإصغاء، ولا يوصف الباري سبحانه بذلك‏.‏ وقد وصف سبحانه نفسه بأنه السميع البصير‏.‏ وقال في طه‏{‏أسمع وأرى‏}‏ وقال ‏{‏معكم‏}‏فأجراهما مجرى الجمع؛ لأن الاثنين جماعة‏.‏ ويجوز أن يكون لهما ولمن أرسلا إليه‏.‏ ويجوز أن يكون لجميع بني إسرائيل‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 16 ‏:‏22 ‏)‏

‏{‏ فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين، أن أرسل معنا بني إسرائيل، قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين، وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين، قال فعلتها إذا وأنا من الضالين، ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين، وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ‏}‏

قوله ‏{‏فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين‏}‏قال أبو عبيدة‏:‏ رسول بمعنى رسالة والتقدير على هذا؛ إنا ذوو رسالة رب العالمين‏.‏ قال الهذلي‏:‏

ألكني إليها وخير الرسول أعلمهم بنواحي الخبر

ألكني إليها معناه أرسلني‏.‏ وقال آخر‏:‏

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول

آخر‏:‏

ألا أبلغ بني عمرو رسولا بأني عن فتاحتكم غني

وقال العباس بن مرداس‏:‏

ألا من مبلغ عنى خفافا رسولا بيت أهلك منتهاها

يعني رسالة فلذلك أنثها‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ ويجوز أن يكون الرسول في معنى الاثنين والجمع؛ فتقول العرب‏:‏ هذا رسولي ووكيلي، وهذان رسولي ووكيلي، وهؤلاء رسولي ووكيلي‏.‏ ومنه قوله ‏{‏فإنهم عدو لي‏} ‏ ‏.‏ وقيل‏:‏ معناه إن كل واحد منا رسول رب العالمين‏.‏ ‏{‏أن أرسل معنا بني إسرائيل‏}‏أي أطلقهم وخل سبيلهم حتى يسيروا معنا إلى فلسطين ولا تستعبدهم؛ وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفا‏.‏ فانطلقا إلى فرعون فلم يؤذن لهما سنة في الدخول عليه، فدخل البواب على فرعون فقال‏:‏ ها هنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين‏.‏ فقال فرعون‏:‏ ايذن له لعلنا نضحك منه؛ فدخلا عليه وأديا الرسالة‏.‏ و روى وهب وغيره‏:‏ أنهما لما دخلا على فرعون وجداه وقد أخرج سباعا من أسد ونمور وفهود يتفرج عليها، فخاف سواسها أن تبطش بموسى وهارون، فأسرعوا إليها، وأسرعت السباع إلى موسى وهارون، فأقبلت تلحس أقدامهما، وتبصبص إليهما بأذنابها، وتلصق خدودها بفخذيهما، فعجب فرعون من ذلك فقال‏:‏ ما أنتما‏؟‏ قالا‏}‏إن رسول رب العالمين‏}‏فعرف موسى لأنه نشأ في بيته؛ فـ ‏{‏قال ألم نربك فينا وليدا‏}‏على جهة المن عليه والاحتقار‏.‏ أي ربيناك صغيرا ولم نقتلك في جملة من قتلنا ‏{‏ولبثت فينا من عمرك سنين‏}‏فمتى كان هذا الذي تدعيه‏.‏ ثم قرره بقتل القبطي بقوله ‏{‏وفعلت فعلتك التي فعلت‏}‏والفعلة بفتح الفاء المرة من الفعل‏.‏ وقرأ الشعبي‏}‏فعلتك‏}‏بكسر الفاء والفتح أولى؛ لأنها المرة الواحدة، والكسر بمعنى الهيئة والحال، أي فعلتك التي تعرف فكيف تدعي مع علمنا أحوالك بأن الله أرسلك‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحابة لا ريث ولا عجل

ويقال‏:‏ كان ذلك أيام الردة والردة‏.‏ ‏{‏وأنت من الكافرين‏}‏قال الضحاك‏:‏ أي في قتلك القبطي إذ هو نفس لا يحل قتله‏.‏ وقيل‏:‏ أي بنعمتي التي كانت لنا عليك من التربية والإحسان إليك؛ قاله ابن زيد‏.‏ الحسن‏}‏من الكافرين‏}‏في أني إلهك‏.‏ السدي‏}‏من الكافرين‏}‏بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه‏.‏ وكان بين خروج موسى عليه السلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نبيا أحد عشر عاما غير أشهر‏.‏ فـ ‏{‏قال فعلتها إذا‏}‏أي فعلت تلك الفعلة يريد قتل القبطي ‏{‏وأنا‏}‏إذ ذاك ‏{‏من الضالين‏}‏أي من الجاهلين؛ فنفى عن نفسه الكفر، وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل‏.‏ وكذا قال مجاهد؛ ‏{‏من الضالين‏}‏من الجاهلين‏.‏ ابن زيد‏:‏ من الجاهلين بأن الوكزة تبلغ القتل‏.‏ وفي مصحف عبدالله ‏{‏من الجاهلين‏}‏ويقال لمن جهل شيئا ضل عنه‏.‏ وقيل ‏{‏وأنا من الضالين‏}‏من الناسين؛ قاله أبو عبيدة‏.‏ وقيل ‏{‏وأنا من الضالين‏}‏عن النبوة ولم يأتني عن الله فيه شيء، فليس علي فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ‏.‏ وبين بهذا أن التربية فيهم لا تنافي النبوة والحلم على الناس، وأن القتل خطأ أو في وقت لم يكن فيه شرع لا ينافي النبوة‏.‏

قوله ‏{‏ففررت منكم لما خفتكم‏}‏أي خرجت من بينكم إلى مدين كما في سورة القصص‏{‏فخرج منها خائفا يترقب‏} ‏ وذلك حين القتل‏.‏ ‏{‏فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين‏}‏يعني النبوة؛ عن السدي وغيره‏.‏ الزجاج‏:‏ تعليم التوراة التي فيها حكم الله‏.‏ وقيل‏:‏ علما وفهما‏.‏ ‏{‏وجعلني من المرسلين‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل‏}‏اختلف الناس في معنى هذا الكلام؛ فقال السدي والطبري والفراء‏:‏ هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة؛ كأنه يقول‏:‏ نعم‏؟‏ وتربيتك نعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي‏.‏ وقيل‏:‏ هو من موسى عليه السلام على جهة الإنكار؛ أي أتمن علي بأن ربيتني وليدا وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم‏؟‏‏!‏ أي ليست بنعمة‏؟‏ لأن الواجب كان ألا تقتلهم ولا تستعبدهم فإنهم قومي؛ فكيف تذكر إحسانك إلي على الخصوص‏؟‏‏!‏ قال معناه قتادة وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ فيه تقدير استفهام؛ أي أو تلك نعمة‏؟‏ قاله الأخفش والفراء أيضا وأنكره النحاس وغيره‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا لا يجوز لأن ألف الاستفهام تحدث معنى، وحذفها محال إلا أن يكون في الكلام أم؛ كما قال الشاعر‏:‏

تروح من الحي أم تبتكر

ولا أعلم بين النحويين اختلافا في هذا إلا شيئا قاله الفراء‏.‏ قال‏:‏ يجوز ألف الاستفهام في أفعال الشك، وحكي ترى زيدا منطلقا‏؟‏ بمعنى أترى‏.‏ وكان علي بن سليمان يقول في هذا‏:‏ إنما أخذه من ألفاظ العامة‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ قال الفراء ومن قال إنها إنكار قال معناه أو تلك نعمة‏؟‏ على طريق الاستفهام؛ كقوله ‏{‏هذا ربي‏}‏ ‏{‏فهم الخالدون‏}‏ ‏.‏ قال الشاعر‏:‏

رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

وأنشد الغزنوي شاهدا على ترك الألف قولهم‏:‏

لم أنس يوم الرحيل وقفتها وجفنها من دموعها شرق

وقولها والركاب واقفة تركتني هكذا وتنطلق

قلت‏:‏ ففي هذا حذف ألف الاستفهام مع عدم أم خلاف قول النحاس‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إن الكلام خرج مخرج التبكيت والتبكيت يكون، باستفهام وبغير استفهام؛ والمعنى‏:‏ لو‏.‏ لم تقتل بني إسرائيل لرباني أبواي؛ فأي نعمة لك علي‏!‏ فأنت تمن علي بما لا يجب أن تمن به‏.‏ وقيل‏:‏ معناه كيف تمن بالتربية وقد أهنت قومي‏؟‏ ومن أهين قومه ذل‏.‏ و‏{‏أن عبدت‏}‏في موضع رفع على البدل من ‏{‏نعمة‏}‏ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى‏:‏ لأن عبدت بني إسرائيل؛ أي اتخذتهم عبيدا‏.‏ يقال‏:‏ عبدته وأعبدته بمعنى؛ قال الفراء وأنشد‏:‏

علام يُعْبِدُني قومي وقد كثرت فيهم أباعر ما شاؤوا وعِبدان

الآية رقم ‏(‏ 23 ‏:‏ 51 ‏)‏

‏{‏قال فرعون وما رب العالمين، قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين، قال لمن حوله ألا تستمعون، قال ربكم ورب آبائكم الأولين، قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون، قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون، قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين، قال أولو جئتك بشيء مبين، قال فأت به إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين، قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون، قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين، يأتوك بكل سحار عليم، فجمع السحرة لميقات يوم معلوم، وقيل للناس هل أنتم مجتمعون، لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين، فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين، قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين، قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون، فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون، فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، فألقي السحرة ساجدين، قالوا آمنا برب العالمين، رب موسى وهارون، قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين، قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون، إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين ‏}‏

قوله ‏{‏قال فرعون وما رب العالمين‏}‏لما غلب موسى فرعون بالحجة ولم يجد اللعين من تقريره على التربية وغير ذلك حجة رجع إلى معارضة موسى في قوله‏:‏ رسول رب العالمين؛ فاستفهمه استفهاما عن مجهول من الأشياء‏.‏ قال مكي وغيره‏:‏ كما يستفهم عن الأجناس فلذلك استفهم بـ ما ‏.‏ قال مكي‏:‏ وقد ورد له استفهام بـ من في موضع آخر ويشبه أنها مواطن؛ فأتى موسى بالصفات الدالة على الله من مخلوقاته التي لا يشاركه فيها مخلوق، وقد سأل فرعون عن الجنس ولا جنس لله تعالى؛ لأن الأجناس محدثة، فعلم موسى جهله فأضرب عن سؤاله وأعلمه بعظيم قدرة الله التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها‏.‏ فقال فرعون‏}‏ألا تستمعون‏}‏على معنى الإغراء والتعجب من سفه المقالة إذ كانت عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم والفراعنة قبله كذلك‏.‏ فزاد موسى في البيان بقوله ‏{‏ربكم ورب آبائكم الأولين‏}‏فجاء بدليل يفهمونه عنه؛ لأنهم يعلمون أنه قد كان لهم آباء وأنهم قد فنوا وأنه لا بد لهم من مغير، وأنهم قد كانوا بعد أن لم يكونوا، وأنهم لا بد لهم من مكون‏.‏ فقال فرعون حينئذ على جهة الاستخفاف‏}‏قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون‏}‏أي ليس يجيبني عما أسأل؛ فأجابه موسى عليه السلام عن هذا بأنقال ‏{‏رب المشرق والمغرب‏}‏أي ليس ملكه كملكك؛ لأنك إنما تملك بلدا واحدا لا يجوز أمرك في غيره، ويموت من لا تحب أن يموت، والذي أرسلني يملك المشرق والمغرب؛ ‏{‏وما بينهما إن كنتم تعقلون‏}‏وقيل علم موسى عليه السلام أن قصده في السؤال معرفة من سأل عنه، فأجاب بما هو الطريق إلى معرفة الرب اليوم‏.‏ ثم لما انقطع فرعون لعنه الله في باب الحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فتوعد موسى بالسجن، ولم يقل ما دليلك على أن هذا الإله أرسلك؛ لأن فيه الاعتراف بأن ثم إلها غيره‏.‏ وفي توعده بالسجن ضعف‏.‏ وكان فيما يروى أنه يفزع منه فزعا شديدا حتى كان اللعين لا يمسك بوله‏.‏ وروي أن سجنه كان أشد من القتل‏.‏ وكان إذا سجن أحدا لم يخرجه من سجنه حتى يموت، فكان مخوفا‏.‏ ثم لما كان عند موسى عليه السلام من أمر الله تعالى ما لا يرعه توعد فرعون ‏{‏قال‏}‏له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه‏}‏أولو جئتك بشيء مبين‏}‏فيتضح لك به صدقي، فلما سمع فرعون ذلك طمع في أن يجد أثناءه موضع معارضة ‏{‏فقال‏}‏له ‏{‏فأت به إن كنت من الصادقين‏}‏‏.‏ ولم يحتج الشرط إلى جواب عند سيبويه؛ لأن ما تقدم يكفي منه‏.‏ ‏{‏فألقى عصاه‏}‏من يده فكان ما أخبر الله من قصته‏.‏ وقد تقدم بيان ذلك وشرحه في الأعراف إلى آخر القصة‏.‏ وقال السحرة لما توعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل ‏{‏لا ضير‏}‏أي لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عذاب الدنيا؛ أي إنما عذابك ساعة فنصبر لها وقد لقينا الله مؤمنين‏.‏ وهذا يدل على شدة استبصارهم وقوة إيمانهم‏.‏ قال مالك‏:‏ دعا موسى عليه السلام فرعون أربعين سنة إلى الإسلام، وأن السحرة آمنوا به في يوم واحد‏.‏ يقال‏:‏ لا ضير ولا ضَور ولا ضر ولا ضرر ولا ضارورة بمعنى واحد؛ قال الهروي‏.‏ وأنشد أبو عبيده‏:‏

فإنك لا يضورك بعد حول أظبي كان أمك أم حمار

وقال الجوهري‏:‏ ضاره يضوره ويضيره ضيرا وضورا أي ضره‏.‏ قال الكسائي‏:‏ سمعت بعضهم يقول لا ينفعني ذلك ولا يضورني‏.‏ والتضور الصياح والتلوي عند الضرب أو الجوع‏.‏ والضورة بالضم الرجل الحقير الصغير الشأن‏.‏ ‏{‏إنا إلى ربنا منقلبون‏}‏يريد نتقلب إلى رب كريم رحيم ‏{‏إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين‏}‏‏.‏ ‏{‏أن‏}‏في موضع نصب، أي لأن كنا‏.‏ وأجاز الفراء كسرها على أن تكون مجازاة‏.‏ ومعنى ‏{‏أول المؤمنين‏}‏أي عند ظهور الآية ممن كان في جانب فرعون‏.‏ الفراء‏:‏ أول مؤمني زماننا‏.‏ وأنكره الزجاج وقال‏:‏ قد روي أنه آمن معه ستمائة ألف وسبعون ألفا، وهم الشرذمة القليلون الذين قال فيهم فرعون‏}‏إن هؤلاء لشرذمة قليلون‏}‏روي ذلك عن ابن مسعود وغيره‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 52 ‏:‏ 68 ‏)‏

‏{‏وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون، فأرسل فرعون في المدائن حاشرين، إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وإنهم لنا لغائظون، وإنا لجميع حاذرون، فأخرجناهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، كذلك وأورثناها بني إسرائيل، فأتبعوهم مشرقين، فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون، قال كلا إن معي ربي سيهدين، فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وأزلفنا ثم الآخرين، وأنجينا موسى ومن معه أجمعين، ثم أغرقنا الآخرين، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم ‏}‏

قوله ‏{‏وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون‏}‏لما كان من سنته تعالى في عباده إنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه، المعترفين برسالة رسله وأنبيائه، وإهلاك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه، أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلا وسماهم عباده؛ لأنهم آمنوا بموسى‏.‏ ومعنى ‏{‏إنكم متبعون‏}‏أي يتبعكم فرعون وقومه ليردوكم‏.‏ وفي ضمن هذا الكلام تعريفهم أن الله ينجيهم منهم؛ فخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل سحرا، فترك الطريق إلى الشام على يساره وتوجه نحو البحر، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق فيقول‏:‏ هكذا أمرت‏.‏ فلما أصبح فرعون وعلم بسرى موسى ببني إسرائيل، خرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه العساكر، فروي أنه لحقه ومعه مائة ألف أدهم من الخيل سوى سائر الألوان‏.‏ وروي أن بني إسرائيل كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا‏.‏ والله أعلم بصحته‏.‏ وإنما اللازم من الآية الذي يقطع به أن موسى عليه السلام خرج بجمع عظيم من بني إسرائيل وأن فرعون تبعه بأضعاف ذلك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان مع فرعون ألف جبار كلهم عليه تاج وكلهم أمير خيل‏.‏ والشرذمة الجمع القليل المحتقر والجمع الشراذم‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الشرذمة الطائفة من الناس والقطعة من الشيء‏.‏ وثوب شراذم أي قطع‏.‏ وأنشد الثعلبي قول الراجز‏:‏

جاء الشتاء وثيابي أخلاق شراذم يضحك منها النواق

النواق من الرجال الذي يروض الأمور ويصلحها؛ قاله في الصحاح‏.‏ واللام في قوله ‏{‏لشرذمة‏}‏لام توكيد وكثيرا ما تدخل في خبر إن، إلا أن الكوفيين لا يجيزون إن زيدا لسوف يقوم‏.‏ والدليل على أنه جائز قوله ‏{‏فلسوف تعلمون‏}‏وهذه لام التوكيد بعينها وقد دخلت على سوف؛ قاله النحاس‏.‏ ‏{‏وإنهم لنا لغائظون‏}‏أي أعداء لنا لمخالفتهم ديننا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها على ما تقدم‏.‏ وماتت أبكارهم تلك الليلة‏.‏ وقد مضى هذا في الأعراف و طه مستوفى‏.‏ يقال‏:‏ غاظني كذا وأغاظني‏.‏ والغيظ الغضب ومنه التغيظ والاغتياظ‏.‏ أي غاظونا بخروجهم من غير إذن‏.‏ ‏{‏وإنا لجميع حذرون‏}‏أي مجتمع مستعد أخذنا حذرنا وأسلحتنا‏.‏ وقرئ‏}‏حاذرون‏}‏ومعناه معنى ‏{‏حَذِرون‏}‏أي فرقون خائفون‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وقرئ ‏{‏وإنا لجميع حاذرون‏}‏ و‏{‏حذرون‏}‏ و‏{‏حَذُرون‏}‏ بضم الذال حكاه الأخفش؛ ومعنى‏}‏حاذرون‏}‏متأهبون، ومعنى‏}‏حذرون‏}‏خائفون‏.‏ قال النحاس‏}‏حذرون‏}‏قراءة المدنيين وأبي عمرو، وقراءة أهل الكوفة‏}‏حاذرون‏}‏وهي معروفة عن عبدالله بن مسعود وابن عباس؛ و‏{‏حادرون‏}‏بالدال غير المعجمة قراءة أبي عباد وحكاها المهدوي عن ابن أبي عمار، والماوردي والثعلبي عن سميط بن عجلان‏.‏ قال النحاس‏:‏ أبو عبيدة يذهب إلى أن معنى ‏{‏حذرون‏}‏‏{‏وحاذرون‏}‏واحد‏.‏ وهو قول سيبويه وأجاز‏:‏ هو حذر زيدا؛ كما يقال‏:‏ حاذر زيدا، وأنشد‏:‏

حذر أمورا لا تضير وآمن ما ليس منجيه من الأقدار

وزعم أبو عمر الجرمي أنه يجوز هو حذر زيدا على حذف من‏.‏ فأما أكثر النحويين فيفرقون بين حذر وحاذر؛ منهم الكسائي والفراء ومحمد بن يزيد؛ فيذهبون إلى أن معنى حذر في خلقته الحذر، أي متيقظ متنبه، فإذا كان هكذا لم يتعد، ومعنى حاذر مستعد وبهذا جاء التفسير عن المتقدمين‏.‏ قال عبدالله بن مسعود في قول الله عز وجل ‏{‏وإنا لجميع حاذرون‏}‏قال‏:‏ مؤدون في السلاح والكراع مقوون، فهذا ذاك بعينه‏.‏ وقوله‏:‏ مؤدون معهم أداة‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن المعنى‏:‏ معنا سلاح وليس معهم سلاح يحرضهم على القتال؛ فأما ‏{‏حادرون‏}‏بالدال المهملة فمشتق من قولهم عين حدرة أي ممتلئة؛ أي نحن ممتلئون غيظا عليهم؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

وعين لها حدرة بدرة شقت مآقيهما من أخر

وحكى أهل اللغة أنه يقال‏:‏ رجل حادر إذا كان ممتلئ اللحم؛ فيجوز أن يكون المعنى الامتلاء من السلاح‏.‏ المهدوي‏:‏ الحادر القوي الشديد‏.‏

قوله ‏{‏فأخرجناهم من جنات وعيون‏}‏يعني من أرض مصر‏.‏ وعن عبدالله بن عمرو قال‏:‏ كانت الجنات بحافتي النيل في الشقتين جميعا من أسوان إلى رشيد، وبين الجنات زروع‏.‏ والنيل سبعة خلجان‏:‏ خليج الإسكندرية، وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج سردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهى متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، والزروع ما بين الخلجان كلها‏.‏ وكانت أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعا بما دبروا وقدروا من قناطرها وجسورها وخلجانها؛ ولذلك سمي النيل إذا غلق ستة عشر ذراعا نيل السلطان، ويخلع على ابن أبي الرداد؛ وهذه الحال مستمرة إلى الآن‏.‏ وإنما قيل نيل السلطان لأنه حينئذ يجب الخراج على الناس‏.‏ وكانت أرض مصر جميعها تروى من إصبع واحدة من سبعة عشر ذراعا، وكانت إذا غلق النيل سبعة عشر ذراعا ونودي عليه إصبع واحد من ثمانية عشر ذراعا، ازداد في خراجها ألف ألف دينار‏.‏ فإذا خرج‏.‏ عن ذلك ونودي عليه إصبعا واحدا من تسعة عشر ذراعا نقص خراجها ألف ألف دينار‏.‏ وسبب هذا ما كان ينصرف في المصالح والخلجان والجسور والاهتمام بعمارتها‏.‏ فأما الآن فإن أكثرها لا يروى حتى ينادى إصبع من تسعة عشر ذراعا بمقياس مصر‏.‏ وأما أعمال الصعيد الأعلى، فإن بها ما لا يتكامل ريه إلا بعد دخول الماء في الذراع الثاني والعشرين بالصعيد الأعلى‏.‏

قلت‏:‏ أما أرض مصر فلا تروى جميعها الآن إلا من عشرين ذراعا وأصابع؛ لعلو الأرض وعدم الاهتمام بعمارة جسورها، وهو من عجائب الدنيا؛ وذلك أنه يزيد إذا انصبت المياه في جميع الأرض حتى يسيح على جميع أرض مصر، وتبقى البلاد كالأعلام لا يوصل إليها إلا بالمراكب والقياسات‏.‏ وروي عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال‏:‏ نيل مصر سيد الأنهار، سخر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب، وذلل الله له الأنهار؛ فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده، فأمدته الأنهار بمائها، وفجر الله له عيونا، فإذا انتهى إلى ما أراد الله عز وجل، أوحى الله تبارك وتعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره‏.‏ وقال قيس بن الحجاج‏:‏ لما افتتحت مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بؤنة من أشهر القبط فقالوا له‏:‏ أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها، فقال لهم‏:‏ وما ذاك‏؟‏ فقالوا‏:‏ إذا كان لاثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها؛ أرضينا أبويها، وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل؛ فقال لهم عمرو‏:‏ هذا لا يكون في الإسلام؛ وإن الإسلام ليهدم ما قبله‏.‏ فأقاموا أبيب ومسرى لا يجري قليل ولا كثير، وهموا بالجلاء‏.‏ فلما رأى ذلك عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فأعلمه بالقصة، فكتب إليه عمر بن الخطاب‏:‏ إنك قد أصبت بالذي فعلت، وأن الإسلام يهدم ما قبله ولا يكون هذا‏.‏ وبعث إليه ببطاقة في داخل كتابه‏.‏ وكتب إلى عمرو‏:‏ إني قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل إذا أتاك كتابي‏.‏ فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص أخذ البطاقة ففتحها فإذا فيها‏:‏ من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى نيل مصر - أما بعد - فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك‏.‏ قال‏:‏ فألقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنه لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل‏.‏ فلما ألقى البطاقة في النيل، أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله في ليلة واحدة ستة عشر ذراعا، وقطع الله تلك السيرة عن أهل مصر من تلك السنة‏.‏ قال كعب الأحبار‏:‏ أربعة أنهار من الجنة وضعها الله في الدنيا سيحان وجيحان والنيل والفرات، فسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة، والنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة‏.‏ وقال ابن لهيعة‏:‏ الدجلة نهر اللبن في الجنة‏.‏

قلت‏:‏ الذي في الصحيح من هذا حديث أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة‏)‏ ‏"‏لفظ مسلم ‏"‏وفي حديث الإسراء من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رجل من قومه قال‏:‏ ‏(‏وحدث نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت يا جبريل ما هذه الأنهار قال أما النهران الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات‏)‏ ‏"‏لفظ مسلم‏.‏ وقال البخاري من طريق شريك عن أنس ‏"‏‏(‏فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال ما هذان النهران يا جبريل قال هذا النيل والفرات عنصرهما ثم مضى في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من اللؤلؤ والزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال ما هذا يا جبريل فقال هذا هو الكوثر الذي خبأ لك ربك‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ والجمهور على أن المراد بالعيون عيون الماء‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ المراد عيون الذهب‏.‏ وفي الدخان ‏{‏كم تركوا من جنات وعيون‏.‏ وزروع‏}‏ ‏.‏ قيل‏:‏ إنهم كانوا يزرعون ما بين الجبلين من أول مصر إلى آخرها‏.‏ وليس في الدخان ‏{‏وكنوز‏}‏‏.‏ ‏{‏وكنوز‏}‏جمع كنز؛ وقد مضى هذا في سورة براءة والمراد بها ها هنا الخزائن‏.‏ وقيل‏:‏ الدفائن‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الأنهار؛ وفيه نظر؛ لأن العيون تشملها‏.‏ ‏{‏ومقام كريم‏}‏قال ابن عمر ابن عباس ومجاهد‏:‏ المقام الكريم المنابر؛ وكانت ألف منبر لألف جبار يعظمون عليها فرعون وملكه‏.‏ وقيل‏:‏ مجالس الرؤساء والأمراء؛ حكاه ابن عيسى وهو قريب من الأول‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ المساكن الحسان‏.‏ وقال ابن لهيعة‏:‏ سمعت أن المقام الكريم الفيوم‏.‏ وقيل‏:‏ كان يوسف عليه السلام قد كتب على مجلس من مجالسه ‏(‏لا إله إلا الله إبراهيم خليل الله‏)‏ فسماها الله كريمة بهذا‏.‏ وقيل‏:‏ مرابط الخيل لتفرد الزعماء بارتباطها عدة وزينة؛ فصار مقامها أكرم منزل بهذا؛ ذكره الماوردي‏.‏ والأظهر أنها المساكن الحسان كانت تكرم عليهم‏.‏ والمقام في اللغة يكون الموضع ويكون مصدرا‏.‏ قال النحاس‏:‏ المقام في اللغة الموضع؛ من قولك قام يقوم، وكذا المقامات واحدها مقامة؛ كما قال‏:‏

وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول والفعل

والمقام أيضا المصدر من قام يقوم‏.‏ والمقام بالضم الموضع من أقام‏.‏ والمصدر أيضا من أقام يقيم‏.‏

قوله ‏{‏كذلك وأورثناها بني إسرائيل‏}‏يريد أن جميع ما ذكره الله تعالى من الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم أورثه الله بني إسرائيل‏.‏ قال الحسن وغيره‏:‏ رجع بنو إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالوراثة هنا ما استعاروه من حلي آل فرعون بأمر الله تعالى‏.‏

قلت‏:‏ وكلا الأمرين حصل لهم‏.‏ والحمد لله‏.‏

قوله ‏{‏فأتبعوهم مشرقين‏}‏أي فتبع فرعون وقومه بني إسرائيل‏.‏ قال السدي‏:‏ حين أشرقت الشمس بالشعاع‏.‏ وقال قتادة‏:‏ حين أشرقت الأرض بالضياء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت‏.‏ واختلف في تأخر فرعون وقومه عن موسى وبني إسرائيل على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ لاشتغالهم بدفن أبكارهم في تلك الليلة؛ لأن الوباء في تلك الليلة وقع فيهم؛ فقوله ‏{‏مشرقين‏}‏حال لقوم فرعون‏.‏ الثاني‏:‏ إن سحابة أظلتهم وظلمة فقالوا‏:‏ نحن بعد في الليل فما تقشعت عنهم حتى أصبحوا‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ معنى ‏{‏فأتبعوهم مشرقين‏}‏ناحية المشرق‏.‏ وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون‏}‏فاتبعوهم مشرقين‏}‏بالتشديد وألف الوصل؛ أي نحو المشرق؛ مأخوذ من قولهم‏:‏ شرق وغرب إذا سار نحو المشرق والمغرب‏.‏ ومعنى الكلام قدرنا أن يرثها بنو إسرائيل فاتبع قوم فرعون بني إسرائيل مشرقين فهلكوا، وورث بنو إسرائيل بلادهم‏.‏

قوله ‏{‏فلما تراءى الجمعان‏}‏أي تقابلا الجمعان بحيث يرى كل فريق صاحبه؛ وهو تفاعل من الرؤية‏.‏ ‏{‏قال أصحاب موسى إنا لمدركون‏}‏أي قرب منا العدو ولا طاقة لنا به‏.‏ وقراءة الجماعة‏}‏لمدركون‏}‏بالتخفيف من أدرك‏.‏ ومنه ‏}‏حتى إذا أدركه الغرق‏}‏ ‏.‏ وقرأ عبيد بن عمير والأعرج والزهري‏}‏لمدركون‏}‏بتشديد الدال من أدرك‏.‏ قال الفراء‏:‏ حفر واحتقر بمعنى واحد، وكذلك ‏{‏لمدركون‏}‏و‏{‏لمدركون‏}‏بمعنى واحد‏.‏ النحاس‏:‏ وليس كذلك يقول النحويون الحذاق؛ إنما يقولون‏:‏ مدركون ملحقون، ومدركون مجتهد في لحاقهم، كما يقال‏:‏ كسبت بمعنى أصبت وظفرت، واكتسبت بمعنى اجتهدت وطلبت وهذا معنى قول سيبويه‏.‏

قوله ‏{‏قال كلا إن معي ربي سيهدين‏}‏لما لحق فرعون بجمعه جمع موسى وقرب منهم، ورأت بنو إسرائيل العدو القوي والبحر أمامهم ساءت ظنونهم، وقالوا لموسى، على جهة التوبيخ والجفاء‏}‏إنا لمدركون‏}‏فرد عليهم قولهم وزجرهم وذكرهم وعد الله سبحانه له بالهداية والظفر ‏{‏كلا‏}‏أي لم يدركوكم ‏{‏إن معي ربي‏}‏أي بالنصر على العدو‏.‏ ‏{‏سيهدين‏}‏أي سيدلني على طريق النجاة؛ فلما عظم البلاء على بني إسرائيل؛ ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم بها، أمر الله تعالى موسى أن يضرب البحر بعصاه؛ وذلك أنه عز وجل أراد أن تكون الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل يفعله؛ وإلا فضرب العصا ليس بفارق للبحر، ولا معين على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله تعالى واختراعه‏.‏ وقد مضى في البقرة قصة هذا البحر‏.‏ ولما انفلق صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بني إسرائيل، ووقف الماء بينها كالطود العظيم، أي الجبل العظيم‏.‏ والطود الجبل؛ ومنه قول امرئ القيس‏:‏

فبينا المرء في الأحياء طود رماه الناس عن كثب فمالا

وقال الأسود بن يعفر‏:‏

حلوا بأنقرة يسيل عليهم ماء الفرات يجيء من أطواد

جمع طود أي جبل‏.‏ فصار لموسى وأصحابه طريقا في البحر يبسا؛ فلما خرج أصحاب موسى وتكامل آخر أصحاب فرعون على ما تقدم في يونس انصب عليهم وغرق فرعون، فقال بعض أصحاب موسى‏:‏ ما غرق فرعون؛ فنبذ على ساحل البحر حتى نظروا إليه‏.‏ و روى ابن القاسم عن مالك قال‏:‏ خرج مع موسى عليه السلام رجلان من التجار إلى البحر فلما أتوا إليه قالا له بم أمرك الله‏؟‏ قال‏:‏ أمرت أن أضرب البحر بعصاي هذه فينفلق؛ فقالا له افعل ما أمرك الله فلن يخلفك؛ ثم ألقيا أنفسهما في البحر تصديقا له؛ فما زال كذلك البحر حتى دخل فرعون ومن معه، ثم ارتد كما كان‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في سورة البقرة

قوله ‏{‏وأزلفنا ثم الآخرين‏}‏أي قربناهم إلى البحر؛ يعني فرعون وقومه‏.‏ قاله ابن عباس وغيره؛ قال الشاعر‏:‏

وكل يوم مضى أو ليلة سلفت فيها النفوس إلى الآجال تزدلف

أبو عبيدة‏}‏أزلفنا‏}‏جمعنا ومنه قيل لليلة المزدلفة ليلة جمع‏.‏ وقرأ أبو عبدالله بن الحرث وأبي بن كعب وابن عباس‏}‏وأزلقنا‏}‏بالقاف على معنى أهلكناهم؛ من قوله‏:‏ أزلقت الناقة وأزلقت الفرس فهي مزلق إذا أزلقت ولدها‏.‏ ‏{‏وأنجينا موسى ومن معه أجمعين، ثم أغرقنا الآخرين‏}‏يعني فرعون وقومه‏.‏ ‏{‏إن في ذلك لآية‏}‏أي علامة على قدرة الله تعالى ‏{‏وما كان أكثرهم مؤمنين‏}‏لأنه لم يؤمن من قوم فرعون إلا مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل وابنته آسية امرأة فرعون، ومريم بنت ذا موسى العجوز التي دلت على قبر يوسف الصديق عليه السلام‏.‏ وذلك أن موسى عليه السلام لما خرج ببني إسرائيل من مصر أظلم عليهم القمر فقال لقومه‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقال علماؤهم‏:‏ إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا‏.‏ قال موسى‏:‏ فأيكم يدري قبره‏؟‏ قال‏:‏ ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل؛ فأرسل إليها؛ فقال‏:‏ دليني على قبر يوسف، قالت‏:‏ لا والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي، قال‏:‏ وما حكمك‏؟‏ قالت‏:‏ حكمي أن أكون معك في الجنة؛ فثقل عليه، فقيل له‏:‏ أعطها حكمها؛ فدلتهم عليه، فاحتفروه واستخرجوا عظامه، فلما أقلوها، فإذا الطريق مثل ضوء النهار في رواية‏:‏ فأوحى الله إليه أن أعطها ففعل، فأتت بهم إلى بحيرة، فقالت لهم‏:‏ أنضبوا هذا الماء فأنضبوه واستخرجوا عظام يوسف عليه السلام؛ فتبينت لهم الطريق مثل ضوء النهار‏.‏ وقد مضى في يوسف و روى أبو بردة عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بأعرابي فأكرمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حاجتك‏)‏ قال‏:‏ ناقة أرحلها وأعنزا أحلبها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فلم عجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل‏)‏ فقال أصحابه‏:‏ وما عجوز بني إسرائيل‏؟‏ فذكر لهم حال هذه العجوز التي احتكمت على موسى أن تكون معه الجنة‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 69 ‏:‏ 77 ‏)‏

‏{‏ واتل عليهم نبأ إبراهيم، إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون، قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين، قال هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون، قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ‏}‏

قوله ‏{‏واتل عليهم نبأ إبراهيم‏}‏نبه المشركين على فرط جهلهم إذ رغبوا عن اعتقاد إبراهيم ودينه وهو أبوهم‏.‏ والنبأ الخبر؛ أي أقصص عليهم يا محمد خبره وحديثه وعيبه على قومه ما يعبدون‏.‏ وإنما قال ذلك ملزما لهم الحجة‏.‏ والجمهور من القراء على تخفيف الهمزة الثانية وهو أحسن الوجوه؛ لأنهم قد أجمعوا على تخفيف الثانية من كلمة واحدة نحم آدم‏.‏ وإن شئت حققتهما فقلت‏}‏نبأ إبراهيم‏}‏‏.‏ وإن شئت خففتهما فقلت‏}‏نبا ابراهيم‏}‏‏.‏ وإن شئت خففت الأولى‏.‏ وثم وجه خامس إلا أنه بعيد في العربية وهو أن يدغم الهمزة في الهمزة كما يقال رأَّاس للذي يبيع الرؤوس‏.‏ وإنما بعد لأنك تجمع بين همزتين كأنهما في كلمة واحدة، وحسن في فعال لأنه لا يأتي إلا مدغما‏.‏ ‏{‏إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون‏}‏أي أي شيء تعبدون ‏{‏قالوا نعبد أصناما‏}‏وكانت أصنامهم من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب‏.‏ ‏{‏فنظل لها عاكفين‏}‏أي فنقيم على عبادتها‏.‏ وليس المراد وقتا معينا بل هو إخبار عما هم فيه‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل، وكانوا في الليل يعبدون الكواكب‏.‏ فيقال‏:‏ ظل يفعل كذا إذا فعله نهارا وبات يفعل كذا إذا فعله ليلا‏.‏ ‏{‏قال هل يسمعونكم‏}‏قال الأخفش‏:‏ فيه حذف؛ والمعنى‏:‏ هل يسمعون منكم‏؟‏ أو هل يسمعون دعاءكم؛ قال الشاعر‏:‏

القائد الخيل منكوبا دوابرها قد أحكمت حكمات القد والأبقا

قال‏:‏ والأبق الكتان فحذف‏.‏ والمعنى؛ وأحكمت حكمات الأبق‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ والأبق بالتحريك القنب‏.‏ وروي عن قتادة أنه قرأ‏}‏هل يسمعونكم‏}‏بضم الياء؛ أي أهل يسمعونكم أصواتهم‏.‏ ‏{‏إذ تدعون‏.‏ أو ينفعونكم أو يضرون‏}‏أي هل تنفعكم هذه الأصنام وترزقكم، أو تملك لكم خيرا أو ضرا إن عصيتم‏؟‏‏!‏ وهذا استفهام لتقرير الحجة؛ فإذا لم ينفعوكم ولم يضروا فما معنى عبادتكم لها‏.‏ ‏{‏، قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون‏}‏فنزعوا إلى التقليد من غير حجة ولا دليل‏.‏ وقد مضى القول فيه‏.‏ قال إبراهيم ‏{‏أفرأيتم ما كنتم تعبدون‏}‏من هذه الأصنام ‏{‏أنتم وآباؤكم الأقدمون‏}‏الأولون ‏{‏فإنهم عدو لي‏}‏واحد يؤدي عن جماعة، وكذلك يقال للمرأة هي عدو الله وعدوة الله‏؟‏ حكاهما الفراء‏.‏ قال علي بن سليمان‏:‏ من قال عدوة الله وأثبت الهاء قال هي بمعنى معادية، ومن قال عدو للمؤنث والجمع جعله بمعنى النسب‏.‏ ووصف الجماد بالعداوة بمعنى أنهم عدو لي إن عبدتهم يوم القيامة؛ كماقال ‏{‏كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا‏}‏ ‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو من المقلوب؛ مجازه فإنى عدو لهم لأن من عاديته عاداك‏.‏ ‏{‏إلا رب العالمين‏}‏قال الكلبي‏:‏ أي إلا من عبد رب العالمين؛ إلا عابد رب العالمين؛ فحذف المضاف‏.‏ قال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ قال النحويون هو استئناء ليس من الأول؛ وأجاز أبو إسحاق أن يكون من الأول على أنهم كانوا يعبدون الله عز وجل ويعبدون معه الأصنام، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله‏.‏ وتأوله الفراء على الأصنام وحدها والمعنى عنده‏:‏ فإنهم لو عبدتهم عدو لي يوم القيامة؛ على ما ذكرنا‏.‏ وقال الجرجاني‏:‏ تقديره‏:‏ أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين فإنهم عدو لي‏.‏ وإلا بمعنى دون وسوى؛ كقوله ‏{‏لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى‏} ‏ أي دون الموتة الأولى‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 78 ‏:‏ 82 ‏)‏

‏{‏ الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ‏}‏

قوله ‏{‏الذي خلقني فهو يهدين‏}‏أي يرشدني إلى الدين‏.‏ ‏{‏والذي هو يطعمني ويسقين‏}‏ أي يرزقني‏.‏ ودخول ‏{‏هو‏}‏تنبيه على أن غيره لا يطعم ولا يسقي؛ كما تقول‏:‏ زيد هو الذي فعل كذا؛ أي لم يفعله غيره‏.‏ ‏{‏وإذا مرضت فهو يشفين‏}‏قال ‏{‏مرضت‏}‏رعاية للأدب وإلا فالمرض والشفاء من الله عز وجل جميعا‏.‏ ونظيره قول فتى موسى‏}‏وما أنسانيه إلا الشيطان‏}‏ ‏.‏ ‏{‏والذي يميتني ثم يحيين‏}‏يريد البعث وكانوا ينسبون الموت إلى الأسباب؛ فبين أن الله هو الذي يميت ويحيي‏.‏ وكله بغير ياء‏}‏يهدين‏}‏‏{‏يشفين‏}‏لأن الحذف في رؤوس الآي حسن لتتفق كلها‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق على جلالته ومحله من العربية هذه كلها بالياء؛ لأن الياء اسم وإنما دخلت النون لعلة‏.‏ فإن قيل‏:‏ هذه صفة لجميع الخلق فكيف جعلها إبراهيم دليلا على هدايته ولم يهتد بها غيره‏؟‏ قيل‏:‏ إنما ذكرها احتجاجا على وجوب الطاعة؛ لأن من أنعم وجب أن يطاع ولا يعصى ليلتزم غيره من الطاعة ما قد التزمها؛ وهذا إلزام صحيح‏.‏

قلت‏:‏ وتجوز بعض أهل الإشارات في غوامض المعاني فعدل عن ظاهر ما ذكرناه إلى ما تدفعه بدائه العقول من أنه ليس المراد من إبراهيم‏.‏ فقال ‏{‏والذي هو يطعمني ويسقين‏}‏أي يطعمني لذة الإيمان ويسقين حلاوة القبول‏.‏ ولهم في قوله ‏{‏وإذا مرضت فهو يشفين‏}‏وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ إذا مرضت بمخالفته شفاني برحمته‏.‏ الثاني‏:‏ إذا مرضت بمقاساة الخلق، شفاني بمشاهدة الحق‏.‏ وقال جعفر بن محمد الصادق‏:‏ إذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة‏.‏ وتأولوا قوله ‏{‏والذي يميتني ثم يحيين‏}‏على ثلاثة أوجه‏:‏ فالذي يميتني بالمعاصي يحييني بالطاعات‏.‏ الثاني‏:‏ يميتني بالخوف ويحييني بالرجاء‏.‏ الثالث‏:‏ يميتني، بالطمع ويحييني بالقناعة‏.‏ وقول رابع‏:‏ يميتني بالعدل ويحييني بالفضل‏.‏ وقول خامس‏:‏ يميتني بالفراق ويحييني بالتلاق‏.‏ وقول سادس‏:‏ يميتني بالجهل ويحييني بالعقل؛ إلى غير ذلك مما ليس بشيء منه مراد من الآية؛ فإن هذه التأويلات الغامضة، والأمور الباطنة، إنما تكون لمن حذق وعرف الحق، وأما من كان في عمى عن الحق ولا يعرف الحق فكيف ترمز له الأمور الباطنة، وتترك الأمور الظاهرة‏؟‏ هذا محال‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله ‏{‏والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي‏}‏‏{‏أطمع‏}‏أي أرجو‏.‏ وقيل‏:‏ هو بمعنى اليقين في حقه، وبمعنى الرجاء في حق المؤمنين سواه‏.‏ وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق‏}‏خطاياي‏}‏وقال‏:‏ ليست خطيئة واحدة‏.‏ قال النحاس‏:‏ خطيئة بمعنى خطايا معروف في كلام العرب، وقد أجمعوا على التوحيد في قوله عز وجل ‏{‏فاعترفوا بذنبهم‏} ‏ ومعناه بذنوبهم‏.‏ وكذا ‏{‏وأقيموا الصلاة‏} ‏ معناه الصلوات‏.‏ وكذا ‏{‏خطيئتي‏}‏إن كانت خطايا‏.‏ والله أعلم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يعني بخطيئته قوله ‏{‏بل فعله كبيرهم هذا‏}‏ وقوله ‏{‏إني سقيم‏} ‏ وقوله‏:‏ إن سارة أخته‏.‏ زاد الحسن وقوله للكوكب‏}‏هذا ربي‏} ‏ وقد مضى بيان هذا مستوفى‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الأنبياء بشر فيجوز أن تقع منهم الخطية؛ نعم لا تجوز عليهم الكبائر لأنهم معصومون عنها‏.‏ ‏{‏يوم الدين‏}‏يوم الجزاء حيث يجازي العباد بأعمالهم‏.‏ وهذا من إبراهيم إظهار للعبودية وإن كان يعلم أنه مغفور له‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عائشة؛ قلت يا رسول الله‏:‏ ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا ينفعه إنه لم يقل يوما ‏{‏رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين‏}‏ ‏)‏

الآية رقم ‏(‏ 83 ‏:‏ 89 ‏)‏

‏{‏ رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين، واجعل لي لسان صدق في الآخرين، واجعلني من ورثة جنة النعيم، واغفر لأبي إنه كان من الضالين، ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم ‏}‏

قوله ‏{‏رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين‏}‏‏{‏حكما‏}‏معرفة بك وبحدودك وأحكامك؛ قال ابن عباس‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ فهما وعلما؛ وهو راجع إلى الأول‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ نبوة ورسالة إلى الخلق‏.‏ ‏{‏وألحقني بالصالحين‏}‏أي بالنبيين من قبلي في الدرجة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ بأهل الجنة؛ وهو تأكيد قوله ‏{‏هب لي حكما‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏واجعل لي لسان صدق في الآخرين‏}‏قال ابن عباس‏:‏ هو اجتماع الأمم عليه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو الثناء الحسن‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هو الثناء وخلد المكانة بإجماع المفسرين؛ وكذلك أجاب الله دعوته، وكل أمة تتمسك به وتعظمه، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال مكي‏:‏ وقيل معناه سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق؛ فأجيبت الدعوة في محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عطية‏:‏ وهذا معنى حسن إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ‏.‏ وقال القشيري‏:‏ أراد الدعاء الحسن إلى قيام الساعة؛ فإن زيادة الثواب مطلوبة في حق كل أحد‏.‏

قلت‏:‏ وقد فعل الله ذلك إذ ليس أحد يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو يصلي على إبراهيم وخاصة في الصلوات، وعلى المنابر التي هي أفضل الحالات وأفضل الدرجات‏.‏ والصلاة دعاء بالرحمة‏:‏ والمراد باللسان القول، وأصله جارحة الكلام‏.‏ قال القتبي‏:‏ وموضع اللسان موضع القول على الاستعارة، وقد تكني العرب بها عن الكلمة‏.‏ قال الأعشى‏:‏

إني أتتني لسان لا أسر بها من علو لا عجب منها ولا سخر

قال الجوهري‏:‏ يروى من علو بضم الواو وفتحها وكسرها‏.‏ أي أتاني خبر من أعلى، والتأنيث للكلمة‏.‏ وكان قد أتاه خبر مقتل أخيه المنتشر‏.‏ روى أشهب عن مالك قال قال الله عز وجل ‏{‏واجعل لي لسان صدق في الآخرين‏}‏لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحا ويرى في عمل الصالحين، إذا قصد به وجه الله تعالى؛ وقد قال الله ‏{‏وألقيت عليك محبة مني‏} ‏ وقال ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا‏} ‏ أي حبا في قلوب عباده وثناء حسنا، فنبه تعالى بقوله ‏{‏واجعل لى لسان صدق في الآخرين‏}‏على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل‏.‏ الليث بن سليمان‏:‏ إذ هي الحياة الثانية‏.‏ قيل‏:‏

قد مات قوم وهم في الناس أحياء

قال ابن العربي‏:‏ قال المحققون من شيوخ‏.‏ الزهد في هذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذي يكسب الثناء الحسن، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏)‏ الحديث وفي رواية إنه كذلك في الغرس والزرع وكذلك فيمن مات مرابطا يكتب له عمله إلى يوم القيامة‏.‏ وقد بيناه في آخر آل عمران والحمد لله‏.‏

قوله ‏{‏واجعلني من ورثة جنة النعيم‏}‏دعاء بالجنة وبمن يرثها، وهو يرد قول بعضهم‏:‏ لا أسأل جنة ولا نارا‏.‏ ‏{‏واغفر لأبي إنه كان من الضالين‏}‏كان أبوه وعده في الظاهر أن يؤمن به فاستغفر له لهذا، فلما بان أنه لا يفي بما قال تبرأ منه‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى‏.‏ ‏{‏إنه كان من الضالين‏}‏أي المشركين‏.‏ و ‏{‏كان‏}‏زائدة‏.‏

قوله ‏{‏ولا تخزني يوم يبعثون‏}‏أي لا تفضحني على رؤوس الأشهاد، أو لا تعذبني يوم القيامة‏.‏ وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن إبراهيم يرى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة‏)‏ والغبرة هي القترة‏.‏ وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يلقى إبراهيم أباه فيقول يا رب إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين‏)‏ ‏"‏انفرد بهما البخاري رحمه الله‏.‏‏"‏

قوله ‏{‏يوم لا ينفع مال ولا بنون‏}‏‏{‏يوم‏}‏بدل من ‏{‏يوم‏}‏الأول‏.‏ أي يوم لا ينفع مال ولا بنون أحدا‏.‏ والمراد بقوله ‏{‏ولا بنون‏}‏الأعوان؛ لأن الابن إذا لم ينفع فغيره متى ينفع‏؟‏ وقيل‏:‏ ذكر البنين لأنه جرى ذكر والد إبراهيم، أي لم ينفعه إبراهيم‏.‏ ‏{‏إلا من أتى الله بقلب سليم‏}‏هو استثناء من الكافرين؛ أي لا ينفعه ماله ولا بنوه‏.‏ وقيل‏:‏ هو استثناء من غير الجنس، أي لكن ‏{‏من أتى الله بقلب سليم‏}‏ينفعه لسلامة قلبه‏.‏ وخص القلب بالذكر؛ لأنه الذي إذا سلم سلمت الجوارح، وإذا فسد فسدت سائر الجوارح‏.‏ وقد تقدم في أول البقرة واختلف في القلب السليم فقيل‏:‏ من الشك والشرك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد؛ قال قتادة وابن زيد وأكثر المفسرين‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ القلب السليم الصحيح هو قلب المؤمن؛ لأن قلب الكافر والمنافق مريض؛ قال الله ‏{‏في قلوبهم مرض‏}‏ وقال أبو عثمان السياري‏:‏ هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ سليم من آفة المال والبنين‏.‏ وقال الجنيد‏:‏ السليم في اللغة اللديغ؛ فمعناه أنه قلب كاللديغ من خوف الله‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ السليم الخالص‏.‏

قلت‏:‏ وهذا القول يجمع شتات الأقوال بعمومه وهو حسن، أي الخالص من الأوصاف الذميمة، والمتصف بالأوصاف الجميلة؛ والله أعلم‏.‏ وقد روي عن عروة أنه قال‏:‏ يا بني لا تكونوا لعانين فإن إبراهيم لم يلعن شيئا قط، قال الله ‏{‏إذ جاء ربه بقلب سليم‏} ‏ ‏.‏ وقال محمد بن سيرين‏:‏ القلب السليم أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور‏.‏ وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير‏)‏ يريد - والله أعلم - أنها مثلها في أنها خالية من ذنب، سليمة من كل عيب، لا خبرة لهم بأمور الدنيا؛ كما ‏"‏روى أنس بن مالك‏"‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أكثر أهل الجنة البله‏)‏ وهو حديث صحيح‏.‏ أي البله عن معاصي الله‏.‏ قال الأزهري‏:‏ الأبله هنا هو الذي طبع على الخير وهو غافل عن الشر لا يعرفه‏.‏ وقال القتبي‏:‏ البله هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 90 ‏:‏ 104 ‏)‏

‏{‏ وأزلفت الجنة للمتقين، وبرزت الجحيم للغاوين، وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون، من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون، فكبكبوا فيها هم والغاوون، وجنود إبليس أجمعون، قالوا وهم فيها يختصمون، تالله إن كنا لفي ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين، وما أضلنا إلا المجرمون، فما لنا من شافعين، ولا صديق حميم، فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم ‏}‏

قوله ‏{‏وأزلفت الجنة للمتقين‏}‏أي قربت وأدنيت ليدخلوها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ قرب دخولهم إياها‏.‏ ‏{‏وبرزت‏}‏أي أظهرت ‏{‏الجحيم‏}‏يعني جهنم‏.‏ ‏{‏للغاوين‏}‏أي الكافرين الذين ضلوا عن الهدى‏.‏ أي تظهر جهنم لأهلها قبل أن يدخولها حتى يستشعروا الروع والحزن، كما يستشعر أهل الجنة الفرح لعلمهم أنهم يدخلون الجنة‏.‏ ‏{‏وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون، من دون الله‏}‏من الأصنام والأنداد ‏{‏هل ينصرونكم‏}‏من عذاب الله ‏{‏أو ينتصرون‏}‏لأنفسهم‏.‏ وهذا كله توبيخ‏.‏ ‏{‏فكبكبوا فيها‏}‏أي قلبوا على رؤوسهم‏.‏ وقيل‏:‏ دهوروا وألقي بعضهم على بعض‏.‏ وقيل‏:‏ جمعوا‏.‏ مأخوذ من الكبكبة وهي الجماعة؛ قاله الهروي‏.‏ وقال النحاس‏:‏ هو مشتق من كوكب الشيء أي معظمه‏.‏ والجماعة من الخيل كوكب وكبكبة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ جمعوا فطرحوا في النار‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ دهوروا‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ قذفوا‏.‏ والمعنى واحد‏.‏ تقول‏:‏ دهورت الشيء إذا جمعته ثم قذفته في مهواة‏.‏ يقال‏:‏ هو يدهور اللقم إذا كبرها‏.‏ ويقال‏:‏ في الدعاء كب الله عدو المسلمين ولا يقال أكبه‏.‏ وكبكبه، أي كبه وقلبه‏.‏ ومنه قوله ‏{‏فكبكبوا فيها‏}‏والأصل كببوا فأبدل من الباء الوسطى كاف استثقالا لاجتماع الباءات‏.‏ قال السدي‏:‏ الضمير في ‏{‏كبكبوا‏}‏لمشركي العرب ‏{‏هم والغاوون‏}‏الآلهة‏.‏ ‏{‏وجنود إبليس‏}‏من كان من ذريته‏.‏ وقيل‏:‏ كل من دعاه إلى عبادة الأصنام فاتبعه‏.‏ وقال قتادة والكلبي ومقاتل‏}‏الغاوون‏}‏هم الشياطين‏.‏ وقيل‏:‏ إنما تلقي الأصنام في النار وهي حديد ونحاس ليعذب بها غيرهم‏.‏

‏{‏قالوا وهم فيها يختصمون‏}‏يعني الإنس والشياطين والغاوين والمعبودين اختصموا حينئذ‏.‏ ‏{‏تالله‏}‏حلفوا بالله ‏{‏إن كنا لفي ضلال مبين‏}‏أي في خسارة وتبار وحيرة عن الحق بينة إذا اتخذنا مع الله آلهة فعبدناها كما يعبد؛ وهذا معنى قوله ‏{‏إذ نسويكم برب العالمين‏}‏أي في العبادة وأنتم لا تستطيعون الآن نصرنا ولا نصر أنفسكم‏.‏

قوله ‏{‏وما أضلنا إلا المجرمون‏}‏يعني الشياطين الذين زينوا لنا عبادة الأصنام‏.‏ وقيل‏:‏ أسلافنا الذين قلدناهم‏.‏ قال أبو العالية وعكرمة‏}‏المجرمون‏}‏إبليس وابن آدم القاتل هما أول من سن الكفر والقتل وأنواع المعاصي‏.‏ ‏{‏فما لنا من شافعين‏}‏أي شفعاء يشفعون لنا من الملائكة والنبيين والمؤمنين‏.‏ ‏{‏ولا صديق حميم‏}‏أي صديق مشفق؛ وكان علي رضي الله عنه يقول‏:‏ عليكم بالإخوان فإنهم عدة الدنيا وعدة الآخرة؛ ألا تسمع إلى قول أهل النار‏}‏فما لنا من شافعين ولا صديق حميم‏}‏الزمخشري‏:‏ وجمع الشافع لكثرة الشافعين ووحد الصديق لقتله؛ ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم مضت جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته؛ رحمة له وحسبة وإن لمم تسبق له بأكثرهم معرفة؛ وأما الصديق فهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما يهمك فأعز من بيض الأنوق؛ وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال‏:‏ اسم لا معنى له‏.‏ ويجوز أن يريد بالصديق الجمع والحميم القريب والخاص؛ ومنه حامة الرجل أي أقرباؤه‏.‏ وأصل هذا من الحميم وهو الماء الحار؛ ومنه الحمام والحمى؛ فحامة الرجل الذين يحرقهم ما أحرقه؛ يقال‏:‏ وهم حزانته أي يحزنهم ما يحزنه‏.‏ ويقال‏:‏ حم الشيء وأحم إذا قرب، ومنه الحمى؛ لأنها تقرب من الأجل‏.‏ وقال علي بن عيسى‏:‏ إنما سمي القريب حميما؛ لأنه يحمي لغضب صاحبه، فجعله مأخوذا من الحمية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ يذهب الله عز وجل يوم القيامة مودة الصديق ورقة الحميم‏.‏ ويجوز‏}‏ولا صديق حميم‏}‏بالرفع على موضع ‏{‏من شافعين‏}‏؛ لأن ‏{‏من شافعين‏}‏في موضع رفع‏.‏ وجمع صديق أصدقاء وصدقاء وصداق‏.‏ ولا يقال صدق للفرق بين النعت وغيره‏.‏ وحكى الكوفيون‏:‏ أنه يقال في جمعه صدقان‏.‏ النحاس‏:‏ وهذا بعيد؛ لأن هذا جمع ما ليس بنعت نحو رغيف ورغفان‏.‏ وحكموا أيضا صديق وأصادق‏.‏ وأفاعل إنما هو جمع أفعل إذا لم يكن نعتا نحو أشجع وأشاجع‏.‏ ويقال‏:‏ صديق للواحد والجماعة وللمرأة؛ قال الشاعر‏:‏

نصبن الهوى ثم ارتمين قلوبنا بأعين أعداء وهن صديق

ويقال‏:‏ فلان صديقي أي أخص أصدقائي، وإنما يصغر على جهة المدح؛ كقول حباب بن المنذر‏:‏ ‏(‏أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب‏)‏ ذكر الجوهري‏.‏ النحاس‏:‏ وجمع حميم أحماء وأحمة وكرهوا أفعلاء للتضعيف‏.‏ ‏{‏فلو أن لنا كرة‏}‏‏{‏أن‏}‏في موضع رفع، المعنى ولو وقع لنا رجوع إلى الدنيا لآمنا حتى يكون لنا شفعاء‏.‏ تمنوا حين لا ينفعهم التمني‏.‏ وإنما قالوا ذلك حين شفع الملائكة والمؤمنون‏.‏ قال جابر بن عبدالله قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الرجل ليقول في الجنة ما فعل فلان وصديقه في الجحيم فلا يزال يشفع له حتى يشفعه الله فيه فإذا نجا قال المشركون‏:‏ ‏(‏ما لنا من شافعين ولا صديق حميم‏)‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ما اجتمع ملأ على ذكر الله، فيهم عبد من أهل الجنة إلا شفعه الله فيهم، وإن أهل الإيمان ليشفع بعضهم في بعض وهم عند الله شافعون مشفعون‏.‏ وقال كعب‏:‏ إن الرجلين كانا صديقين في الدنيا، فيمر أحدهما بصاحبه وهو يجر إلى النار، فيقول له أخوه‏:‏ والله ما بقي لي إلا حسنة واحدة أنجو بها، خذها أنت يا أخي فتنجو بها مما أرى، وأبقى أنا وإياك من أصحاب الأعراف‏.‏ قال‏:‏ فيأمر الله بهما جميعا فيدخلان الجنة‏.‏ ‏{‏إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 105 ‏:‏ 122 ‏)‏

‏{‏ كذبت قوم نوح المرسلين، إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، فاتقوا الله وأطيعون، قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون، قال وما علمي بما كانوا يعملون، إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون، وما أنا بطارد المؤمنين، إن أنا إلا نذير مبين، قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين، قال رب إن قومي كذبون، فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين، فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون، ثم أغرقنا بعد الباقين، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم ‏}‏

قوله ‏{‏كذبت قوم نوح المرسلين‏}‏قال ‏{‏كذبت‏}‏والقوم مذكر؛ لأن المعنى كذبت جماعة قوم نوح، وقال ‏{‏المرسلين‏}‏لأن من كذب رسولا فقد كذب الرسل؛ لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل‏.‏ وقيل‏:‏ كذبوا نوحا في النبوة وفيما أخبرهم به من مجيء المرسلين بعده‏.‏ وقيل‏:‏ ذكر الجنس والمراد نوح عليه السلام‏.‏ وقد مضى هذا في الفرقان ‏{‏إذ قال لهم أخوهم نوح‏}‏أي ابن أبيهم وهي أخوة نسب لا أخوة دين‏.‏ وقيل‏:‏ هي أخوة المجانسة‏.‏ قال الله ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه‏} ‏ وقد مضى هذا في الأعراف وقيل‏:‏ هو من قول العرب يا أخا بني تميم‏.‏ يريدون يا واحدا منهم‏.‏ الزمخشري‏:‏ ومنه بيت الحماسة‏:‏

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا

‏{‏ألا تتقون‏}‏أي ألا تتقون الله في عبادة الأصنام‏.‏ ‏{‏إني لكم رسول أمين‏}‏أي صادق فيما أبلغكم عن الله تعالى‏.‏ وقيل ‏{‏أمين‏}‏فيما بينكم؛ فإنهم كانوا عرفوا أمانته وصدقه من قبل كمحمد صلى الله عليه وسلم في قريش‏.‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏أي فاستتروا بطاعة الله تعالى من عقابه‏.‏ ‏{‏وأطيعون‏}‏فيما آمركم به من الإيمان‏.‏ ‏{‏وما أسألكم عليه من أجر‏}‏أي لا طمع لي في مالكم‏.‏ ‏{‏إن أجري إلا على رب العالمين‏}‏أي ما جزائي ‏{‏إلا على رب العالمين‏}‏‏.‏ ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون‏}‏كرر تأكيدا‏.‏

قوله ‏{‏قالوا أنومن لك‏}‏أي نصدق قولك‏.‏ ‏{‏واتبعك الأرذلون‏}‏الواو للحال وفيه إضمار قد، أي وقد اتبعك‏.‏ ‏{‏الأرذلون‏}‏جمع الأرذل، المكسر الأراذل والأنثى الرذلي والجمع الرذل‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولا يجوز حذف الألف واللام في شيء من هذا عند أحد من النحويين علمناه‏.‏ وقرأ ابن مسعود والضحاك ويعقوب الحضرمي وغيرهم، ‏{‏وأتباعك الأرذلون‏}‏‏.‏ النحاس‏:‏ وهي قراءة حسنة؛ وهذه الواو أكثرها تتبعها الأسماء والأفعال بقد‏.‏ وأتباع جمع تبع وتبيع يكون للواحد والجمع‏.‏ قال الشاعر‏:‏

له تبع قد يعلم الناس أنه على من يداني صيف وربيع

ارتفاع ‏{‏أتباعك‏}‏يجوز أن يكون بالابتداء و‏{‏الأرذلون‏}‏الخبر؛ التقدير أنؤمن لك وإنما أتباعك الأرذلون‏.‏ ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير في قوله ‏{‏أنؤمن لك‏}‏والتقدير‏:‏ أنؤمن لك نحن وأتباعك الأرذلون فنعد منهم؛ وحسن ذلك الفصل بقوله ‏{‏لك‏}‏وقد مضى القول في الأراذل في سورة هود مستوفى‏.‏ ونزيده هنا بيانا فقيل‏:‏ إن الذين آمنوا به بنوه ونساؤه وكناته وبنو بنيه‏.‏ واختلف هل كان معهم غيرهم أم لا‏.‏ وعلى أن الوجهين كان فالكل صالحون؛ وقد قال نوح‏}‏ونجني ومن معي من المؤمنين‏}‏والذين معه هم الذين أتبعوه، ولا يلحقهم من قول الكفرة شين ولا ذم بل الأرذلون هم المكذبون لهم‏.‏ قال السهيلي‏:‏ وقد أغري كثير من العوام بمقالة رويت في تفسير هذه الآية‏:‏ هم الحاكة والحجامون‏.‏ ولو كانوا حاكة كما زعموا لكان إيمانهم بنبي الله واتباعهم له مشرفا كما تشرف بلال وسلمان بسبقهما للإسلام؛ فهما من وجوه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم، فلا ذرية نوح كانوا حاكة ولا حجامين، ولا قول الكفرة في الحاكة والحجامين إن كانوا آمنوا بهم أرذلون ما يلحق اليوم بحاكتنا ذما ولا نقصا؛ لأن هذه حكاية عن قول الكفرة إلا أن يجعل الكفرة حجة ومقالتهم أصلا؛ وهذا جهل عظيم وقد أعلم الله تعالى أن الصناعات ليست بضائرة في الدين‏.‏

قوله ‏{‏قال وما علمي بما كانوا يعملون‏}‏‏{‏كان‏}‏زائدة؛ والمعنى‏:‏ وما علمي بما يعملون؛ أي لم أكلف العلم بأعمالهم إنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان، والاعتبار بالإيمان لا بالحرف والصنائع؛ وكأنهم قالوا‏:‏ إنما اتبعك هؤلاء الضعفاء طمعا في العزة والمال‏.‏ فقال‏:‏ إني لم أقف على باطن أمرهم وإنما إلي ظاهرهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى إني لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم ويرشدهم ويغويكم ويوفقهم ويخذلكم‏.‏ ‏{‏إن حسابهم‏}‏أي في أعمالهم وإيمانهم ‏{‏إلا على ربي لو تشعرون‏}‏وجواب ‏{‏لو‏}‏محذوف؛ أي لو شعرتم أن حسابهم على ربهم لما عبتموهم بصنائعهم‏.‏ وقراءة العامة‏}‏تشعرون‏}‏بالتاء على المخاطبة للكفار وهو الظاهر وقرأ ابن أبي عبلة ومحمد بن السميقع‏}‏لو يشعرون‏}‏بالياء كأنه خبر عن الكفار وترك الخطاب لهم؛ نحو قوله ‏{‏حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم‏} ‏ ‏.‏ وروي أن رجلا سأل سفيان عن امرأة زنت وقتلت ولدها وهي مسلمة هل يقطع لها بالنار ‏؟‏ فقال ‏{‏إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون‏}‏‏.‏ ‏{‏وما أنا بطارد المؤمنين‏}‏أي لخساسة أحوالهم وأشغالهم‏.‏ وكأنهم طلبوا منه طرد الضعفاء كما طلبته قريش‏.‏ ‏{‏إن أنا إلا نذير مبين‏}‏يعني‏:‏ إن الله ما أرسلني أخص ذوي الغني دون الفقراء، إنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به، فمن أطاعني فذلك السعيد عند الله وإن كان فقيرا‏.‏

قوله ‏{‏قالوا لئن لم تنته يانوح‏}‏أي عن سب آلهتنا وعيب ديننا ‏{‏لتكونن من المرجومين‏}‏ أي بالحجارة؛ قال قتادة‏.‏ وقال ابن عباس ومقاتل‏:‏ من المقتولين‏.‏ قال الثمالي‏:‏ كل مرجومين في القرآن فهو القتل إلا في مريم‏}‏لئن لم تنته لأرجمنك‏}‏ أي لأسبنك‏.‏ وقيل ‏{‏من المرجومين‏}‏من المشتومين؛ قاله السدي‏.‏ ومنه قول أبي دؤاد‏.‏ ‏{‏قال رب إن قومي كذبون، فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين‏}‏قال ذلك لما يئس من إيمانهم‏.‏ والفتح الحكم وقد تقدم‏.‏ ‏{‏فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون‏}‏ يريد السفينة وقد مضى ذكرها‏.‏ والمشحون المملوء، والشحن ملء السفينة بالناس والدواب وغيرهم‏.‏ ولم يؤنث الفلك ها هنا؛ لأن الفلك ها هنا واحد لا جمع ‏{‏ثم أغرقنا بعد الباقين‏}‏أي بعد إنجائنا نوحا ومن آمن‏.‏ ‏{‏إن في ذلك لآية‏.‏ وما كان أكثرهم مؤمنين‏.‏ وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏

الآية رقم ‏(‏ 123 ‏:‏ 140 ‏)‏

‏{‏ كذبت عاد المرسلين، إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون، واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون، أمدكم بأنعام وبنين، وجنات وعيون، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين، إن هذا إلا خلق الأولين، وما نحن بمعذبين، فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم ‏}‏

قوله ‏{‏كذبت عاد المرسلين‏}‏التأنيث بمعنى القبيلة والجماعة‏.‏ وتكذيبهم المرسلين كما تقدم‏.‏ ‏{‏إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين‏}‏تقدم‏.‏

قوله ‏{‏أتبنون بكل ريع آية تعبثون‏}‏الريع ما ارتفع من الأرض في قول ابن عباس وغيره، جمع ريعة‏.‏ وكم ريع أرضك أي كم ارتفاعها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الريع الطريق‏.‏ وهو قول الضحاك والكلبي ومقاتل والسدي‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏.‏ ومنه قول السيب بن علس‏:‏

في الآل يخفضها ويرفعها ريع يلوح كأنه سحل

شبه الطريق بثوب أبيض‏.‏ النحاس‏:‏ ومعروف في اللغة أن يقال لما ارتفع من الأرض ريع وللطريق ريع‏.‏ قال الشاعر‏:‏

طراق الخوافي مشرق فوق ريعة ندى ليله في ريشه يترقرق

وقال عمارة‏:‏ الريع الجبل الواحد ريعة والجمع رياع‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو الفج بين الجبلين‏.‏ وعنه‏:‏ الثنية الصغيرة‏.‏ وعنه‏:‏ المنظرة‏.‏ وقال عكرمة ومقاتل‏:‏ كانوا يهتدون بالنجوم إذا سافروا، فبنوا على الطريق أمثالا طوالا ليهتدوا بها‏:‏ يدل عليه قوله ‏{‏آية‏}‏أي علامة‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ الريع بنيان الحمام دليله ‏{‏تعبثون‏}‏أي تلعبون؛ أي تبنون بكل مكان مرتفع آية‏.‏ علما تلعبون بها على معنى أبنية الحمام وبروجها‏.‏ وقيل‏:‏ تعبثون بمن يمر في الطريق‏.‏ أي تبنون بكل موضع مرتفع لتشرفوا على السابلة فتسخروا منهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ إنه عبث العشارين بأموال من يمر بهم؛ ذكره الماوردي‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ الربع الصومعة، والريع البرج من الحمام يكون في الصحراء‏.‏ والريع التل العالي‏.‏ وفي الريع لغتان‏:‏ كسر الراء وفتحها وجمعها أرياع، ذكره الثعلبي‏.‏

قوله ‏{‏وتتخذون مصانع‏}‏أي منازل؛ قاله الكلبي‏.‏ وقيل‏:‏ حصونا مشيدة؛ قال ابن عباس ومجاهد‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

تركنا ديارهم منهم قفارا وهدمنا المصانع والبروجا

وقيل‏:‏ قصورا مشيدة؛ وقاله مجاهد أيضا‏.‏ وعنه‏:‏ بروج الحمام؛ وقاله السدي‏.‏ قلت‏:‏ وفيه بعد عن مجاهد؛ لأنه تقدم عنه في الريع أنه بنيان الحمام فيكون تكرارا في الكلام‏.‏ وقال قتادة‏:‏ مآجل للماء تحت الأرض‏.‏ وكذا قال الزجاج‏:‏ إنها مصانع الماء، واحدتها مصنعة ومصنع‏.‏ ومنه قول لبيد‏:‏

بلينا وما تبلي النجوم الطوالع وتبقى الجبال بعدنا والمصانع

الجوهري‏:‏ المصنعة كالحوض يجتمع فيها ماء المطر، وكذلك المصنعة بضم النون‏.‏ والمصانع الحصون‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ يقال لكل بناء مصنعة‏.‏ حكاه المهدوي‏.‏ وقال عبدالرزاق‏:‏ المصانع عندنا بلغة اليمن القصور العادية‏.‏ ‏{‏لعلكم تخلدون‏}‏أي كي تخلدوا‏.‏ وقيل‏:‏ لعل استفهام بمعنى التوبيخ أي فهل ‏{‏تخلدون‏}‏كقولك‏:‏ لعلك تشتمني أي هل تشتمني‏.‏ روي معناه عن ابن زيد‏.‏ وقال الفراء‏:‏ كيما تخلدون لا تتفكرون في الموت‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ كأنكم خالدون باقون فيها‏.‏ وفي بعض القراءات ‏{‏كأنكم تخلدون‏}‏ذكره النحاس‏.‏ وحكى قتادة‏:‏ أنها كانت في بعض القراءات ‏{‏كأنكم خالدون‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏وإذا بطشتم بطشتم جبارين‏}‏البطش السطوة والأخذ بالعنف وقد بطش به يبطش ويبطش بطشا‏.‏ وباطشه مباطشة‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد‏:‏ البطش العسف قتلا بالسيف وضربا بالسوط‏.‏ ومعنى ذلك فعلتم ذلك ظلما‏.‏ وقال مجاهد أيضا‏:‏ هو ضرب بالسياط ؛ ورواه مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر فيما ذكر ابن العربي‏.‏ وقيل‏:‏ هو القتل بالسيف في غير حق‏.‏ حكاه يحيى بن سلام‏.‏ وقال الكلبي والحسن‏:‏ هو القتل على الغصب من غير تثبت‏.‏ وكله يرجع إلى قول ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ إنه المؤاخذة على العمد والخطأ من غير عفو ولا إبقاء‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ ويؤيد ما قال مالك قول الله تعالى عن موسى‏}‏فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض‏} ‏ وذلك أن موسى عليه السلام لم يسل عليه سيفا ولا طعنه برمح، وإنما وكزه وكانت منيته في وكزته‏.‏ والبطش يكون باليد وأقله الوكز والدفع، ويليه السوط والعصا، ويليه الحديد، والكل مذموم إلا بحق‏.‏ والآية نزلت خبرا عمن تقدم من الأمم، ووعظا من الله عز وجل لنا في مجانبة ذلك الفعل الذي ذمهم به وأنكره عليهم‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الأوصاف المذمومة قد صارت في كثير من هذه الأمة، لا سيما بالديار المصرية منذ وليتها البحرية؛ فيبطشون بالناس بالسوط والعصا في غير حق‏.‏ وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك يكون‏.‏ كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا‏)‏‏.‏ ‏"‏وخرج أبو دواد من حديث ابن عمر‏"‏ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم‏)‏‏.‏ ‏{‏جبارين‏}‏قتالين‏.‏ والجبار القتال في غير حق‏.‏ وكذلك قوله ‏{‏إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض‏} ‏ قاله الهروي‏.‏ وقيل‏:‏ الجبار المتسلط العاتي؛ ومنه قوله ‏{‏وما أنت عليهم بجبار‏} ‏ أي بمسلط‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

سلبنا من الجبار بالسيف ملكه عشيا وأطراف الرماح شوارع

قوله ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون‏}‏تقدم‏.‏ ‏{‏واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون‏}‏أي من الخيرات؛ ثم فسرها بقوله ‏{‏أمدكم بأنعام وبنين‏.‏ وجنات وعيون‏}‏أي سخر ذلك لكم وتفضل بها عليكم، فهو الذي يجب أن يعبد ويشكر ولا يكفر‏.‏ ‏{‏إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم‏}‏إن كفرتم به وأصررتم على ذلك‏.‏ ‏{‏قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين‏}‏كل ذلك عندنا سواء لا نسمع منك ولا نلوي على ما تقوله‏.‏ و روى العباس عن أبي عمرو وبشر عن الكسائي‏}‏أوعظتَّ‏}‏مدغمة الظاء في التاء وهو بعيد؛ لأن الظاء حرف إطباق إنما يدغم فيما قرب منه جدا وكان مثله ومخرجه‏.‏ ‏{‏إن هذا إلا خلق الأولين‏}‏أي دينهم؛ عن ابن عباس وغيره‏.‏ وقال الفراء‏:‏ عادة الأولين‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي‏}‏خلق الأولين‏}‏‏.‏ الباقون ‏{‏خلق‏}‏‏.‏ قال الهروي‏:‏ وقول عز وجل ‏{‏إن هذا إلا خلق الأولين‏}‏أي اختلافهم وكذبهم، ومن قرأ‏}‏خلق الأولين‏}‏فمعناه عادتهم، والعرب تقول‏:‏ حدثنا فلان بأحاديث الخلق أي بالخرافات والأحاديث المفتعلة‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ الخلق الدين والخلق الطبع والخلق المروءة‏.‏ قال النحاس‏}‏خلق الأولين‏}‏عند الفراء يعني عادة الأولين‏.‏ وحكى لنا محمد بن الوليد عن محمد بن يزيدقال ‏{‏خلق الأولين‏}‏مذهبهم وما جرى عليه أمرهم؛ قال أبو جعفر‏:‏ والقولان متقاربان، ومنه الحديث عن النبي صلى الله عليه ‏(‏أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا‏)‏ أي أحسنهم مذهبا وعادة وما يجري عليه الأمر في طاعة الله عز وجل، ولا يجوز أن يكون من كان حسن الخلق فاجرا فاضلا، ولا أن يكون أكمل إيمانا من السيئ الحلق الذي ليس بفاجر‏.‏ قال أبو جعفر‏:‏ حكي لنا عن محمد بن يزيد أن معنى ‏{‏خلق الأولين‏}‏تكذيبهم وتخرصهم غير أنه كان يميل إلى القراءة الأولى؛ لأن فيها مدح آبائهم، وأكثر ما جاء القرآن في صفتهم مدحهم لآبائهم، وقولهم‏}‏إنا وجدنا آباءنا على أمة‏}‏ ‏.‏ وعن أبي قلابة‏:‏ أنه قرأ‏:‏ خلق‏}‏بضم الخاء وإسكان اللام تخفيف ‏{‏خلق‏}‏‏.‏ ورواها ابن جبير عن أصحاب نافع عن نافع‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن معنى ‏{‏خلق الأولين‏}‏دين الأولين‏.‏ ومنه قوله ‏{‏فليغيرن خلق الله ‏} أي دين الله‏.‏ و‏{‏خلق الأولين‏}‏عادة الأولين‏:‏ حياة ثم موت ولا بعث‏.‏ وقيل‏:‏ ما هذا الذي أنكرت علينا من البنيان والبطش إلا عادة من قبلنا فنحن نقتدي بهم‏.‏ ‏{‏وما نحن بمعذبين‏}‏على ما نفعل‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى خلق أجسام الأولين؛ أي ما خلقنا إلا كخلق الأولين الذين خلقوا قبلنا وماتوا، ولم ينزل بهم شيء مما تحذرنا به من العذاب‏.‏ ‏{‏فكذبوه فأهلكناهم‏}‏أي بريح صرصر عاتية على ما يأتي في الحاقة ‏{‏إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين‏}‏قال بعضهم‏:‏ أسلم معه ثلاثمائة ألف ومئون وهلك باقيهم‏.‏ ‏{‏وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 141 ‏:‏ 159 ‏)‏

‏{‏ كذبت ثمود المرسلين، إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، أتتركون في ما هاهنا آمنين، في جنات وعيون، وزروع ونخل طلعها هضيم، وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين، فاتقوا الله وأطيعون، ولا تطيعوا أمر المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، قالوا إنما أنت من المسحرين، ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين، قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم، فعقروها فأصبحوا نادمين، فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم ‏}‏

قوله ‏{‏كذبت ثمود المرسلين‏}‏ذكر قصة صالح وقومه وهم ثمود؛ وكانوا يسكنون الحجر كما تقدم في الحجر وهي ذوات نخل وزروع ومياه‏.‏ ‏{‏أتتركون في ما ههنا آمنين‏}‏ يعني في الدنيا آمنين من الموت والعذاب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا معمرين لا يبقى البنيان مع أعمارهم‏.‏ ودل على هذا قوله ‏{‏واستعمركم فيها‏}‏ فقرعهم صالح ووبخهم وقال‏:‏ أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت ‏{‏في جنات وعيون، وزروع ونخل طلعها هضيم‏}‏‏.‏ الزمخشري‏:‏ فإن قلت لمقال ‏{‏ونخل‏}‏بعد قوله‏:‏ و‏{‏جنات‏}‏والجنات تتناول النخل أول شيء كما يتناول النعم الإبل كذلك من بين الأزواج حتى إنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخل كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا الإبل قال زهير‏:‏

كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا

يعني النخل؛ والنخلة السحوق البعيدة الطول‏.‏ قلت‏:‏ فيه وجهان؛ أحدهما‏:‏ أن يخص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيها على انفراده عنها بفضله عنها‏.‏ والقاني‏:‏ أن يريد بالجنات غيرها من الشجر؛ لأن اللفظ يصلح لذلك ثم يعطف عليها النخل‏.‏ والطلعة هي التي تطلع من النخلة كنصل السيف؛ في جوفه شماريخ القنو، والقنو اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه وشماريخه‏.‏ و‏{‏هضيم‏}‏قال ابن عباس‏:‏ لطيف ما دام في كفراه‏.‏ والهضيم اللطيف الدقيق؛ ومنه قول امرئ القيس‏:‏

علي هضيم الكشح ريا المخلخل

الجوهري‏:‏ ويقال للطلع هضيم ما لم يخرج من كفراه؛ لدخول بعضه في بعض‏.‏ والهضيم من النساء اللطيفة الكشحين‏.‏ ونحوه حكى الهروي؛ قال‏:‏ هو المنضم في وعائه قبل أن يظهر؛ ومنه رجل هضيم الجنبين أي منضمهما؛ هذا قول أهل اللغة‏.‏ وحكى الماوردي وغيره في ذلك اثني عشر قولا‏:‏ أحدها‏:‏ أنه الرطب اللين؛ قال عكرمة‏.‏ الثاني‏:‏ هو المذنب من الرطب؛ قاله سعيد بن جبير‏.‏ قال النحاس‏:‏ و روى أبو إسحاق عن يزيد - هو ابن أبي زياد كوفي ويزيد بن أبي مريم شامي - ‏{‏ونخل طلعها هضيم‏}‏قال‏:‏ منه ما قد أرطب ومنه مذنب‏.‏ الثالث‏:‏ أنه الذي ليس فيه نوى؛ قاله الحسن‏.‏ الرابع‏:‏ أنه المتهشم المتفتت إذا مس تفتت؛ قال مجاهد‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ يتهشم في الفم‏.‏ الخامس‏:‏ هو الذي قد ضمر بركوب بعضه بعضا؛ قاله الضحاك ومقاتل‏.‏ السادس‏:‏ أنه المتلاصق بعضه ببعض؛ قال أبو صخر‏.‏ السابع‏:‏ أنه الطلع حين يتفرق ويخضر؛ قاله الضحاك أيضا‏.‏ الثامن‏:‏ أنه اليانع النضيج؛ قاله ابن عباس‏.‏

التاسع‏:‏ أنه المكتنز قبل أن ينشق عنه القشر؛ حكاه ابن شجرة؛ قال‏:‏

كأن حمولة تجلى عليه هضيم ما يحس له شقوق

العاشر‏:‏ أنه الرخو؛ قال الحسن‏.‏ الحادي عشر‏:‏ أنه الرخص اللطيف أول ما يخرج وهو الطلع النضيد؛ قاله الهروي‏.‏ الثاني عشر‏:‏ أنه البرني؛ قاله ابن الأعرابي؛ فعيل بمعنى فاعل أي هنيء مريء من انهضام الطعام‏.‏ والطلع اسم مشتق من الطلوع وهو الظهور؛ ومنه طلوع الشمس والقمر والنبات‏.‏

قوله ‏{‏وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين‏}‏النحت النجر والبري؛ نحته ينحته ‏{‏بالكسر‏}‏ نحتا إذا براه والنحاتة البراية‏.‏ والمنحت ما ينحت به‏.‏ وفي ‏{‏والصافات‏}‏قال ‏{‏أتعبدون ما تنحتون‏} ‏ ‏.‏ وكانوا ينحتونها من الجبال لما طالت أعمارهم وتهدم بناؤهم من المدر‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع‏}‏فرهين‏}‏بغير ألف‏.‏ الباقون‏}‏فارهين‏}‏بألف وهما بمعنى واحد في قول أبي عبيدة وغيره؛ مثل ‏{‏عظاما نخرة‏} ‏ و‏{‏ناخرة‏}‏‏.‏ وحكاه قطرب‏.‏ وحكى فره يفره فهو فاره وفره يفره فهو فره وفاره إذا كان نشيطا‏.‏ وهو نصب على الحال‏.‏ وفرق بينهما قوم فقالوا‏}‏فارهين‏}‏حاذقين بنحتها؛ قاله أبو عبيدة ؛ وروي عن ابن عباس وأبي صالح وغيرهما‏.‏ وقال عبدالله بن شداد‏}‏فارهين‏}‏متجبرين‏.‏ وروي عن ابن عباس أيضا أن معنى‏}‏فرهين‏}‏بغير ألف أشرين بطرين؛ وقاله مجاهد‏.‏ و روى عنه شرهين‏.‏ الضحاك‏:‏ كيسين‏.‏ قتادة‏:‏ معجبين؛ قاله الكلبي؛ وعنه‏:‏ ناعمين‏.‏ وعنه أيضا آمنين؛ وهو قول الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ متخيرين؛ قاله الكلبي والسدي‏.‏ ومنه قال الشاعر‏:‏

إلى فره يماجد كل أمر قصدت له لأختبر الطباعا

وقيل‏:‏ متعجبين؛ قال خصيف‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ أقوياء‏.‏ وقيل‏:‏ فرهين فرحين؛ قاله الأخفش‏.‏ والعرب تعاقب بين الهاء والحاء؛ تقول‏:‏ مدهته ومدحته؛ فالفره الأشر الفرح ثم الفرح بمعنى المرح مذموم؛ قال الله ‏{‏ولا تمش في الأرض مرحا‏}‏ وقال ‏{‏إن الله لا يحب الفرحين‏} ‏ ‏.‏ ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون، ولا تطيعوا أمر المسرفين‏}‏ قيل‏:‏ المراد الذين عقروا الناقة‏.‏ وقيل‏:‏ التسعة الرهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون‏.‏ قال السدي وغيره‏:‏ أوحى الله تعالى إلى صالح‏:‏ إن قومك سيعقرون ناقتك؛ فقال لهم ذلك، فقالوا‏:‏ ما كنا لنفعل‏.‏ فقال لهم صالح‏:‏ إنه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها ويكون هلاككم على يديه؛ فقالوا‏:‏ لا يولد في هذا الشهر ذكر إلا قتلناه‏.‏ فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر فذبحوا أبناءهم، ثم ولد للعاشر فأبى أن يذبح ابنه وكان لم يولد له قبل ذلك‏.‏ وكان ابن العاشر أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا؛ وكان إذا مر بالتسعة فرأوه قالوا‏:‏ لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا‏.‏ وغضب التسعة على صالح؛ لأنه كان سبب قتلهم أبناءهم فتعصبوا وتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله‏.‏ قالوا‏:‏ نخرج إلى سفر فترى الناس سفرنا فنكون في غار، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه، ثم قلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون؛ فيصدقوننا ويعلمون أنا قد خرجنا إلى سفر‏.‏ وكان صالح لا ينام معهم في القرية وكان يأوي إلى مسجده، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم، فلما دخلوا الغار أرادوا أن يخرجوا فسقط عليهم الغار فقتلهم، فرأى ذلك ناس ممن كان قد أطلع على ذلك، فصاحوا في القرية‏:‏ يا عباد الله‏!‏ أما رضي صالح أن أمر بقتل أولادهم حتى قتلهم؛ فأجمع أهل القرية على قتل الناقة‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ إنما اجتمع التسعة على سب صالح بعد عقرهم الناقة وإنذارهم بالعذاب على ما يأتي بيانه في سورة النمل إن شاء الله تعالى‏.‏ ‏{‏قالوا إنما أنت من المسحرين‏}‏هو من السحر في قول مجاهد وقتادة على ما قال المهدوي‏.‏ أي أصبت بالسحر فبطل عقلك ؛ لأنك بشر مثلنا فلم تدع الرسالة دوننا‏.‏ وقيل‏:‏ من المعللين بالطعام والشراب؛ قاله ابن عباس والكلبي وقتادة ومجاهد أيضا فيما ذكر الثعلبي‏.‏ وهو على هذا القول من السحر وهو الرئة أي بشر لك سحر أي رئة تأكل وتشرب مثلنا كما قال لبيد‏:‏

فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر

وقال امرؤ القيس‏:‏

ونسحر بالطعام وبالشراب

‏{‏فأت بآية إن كنت من الصادقين‏}‏في قولك‏.‏ ‏{‏قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم‏}‏قال ابن عباس‏:‏ قالوا إن كنت صادقا فادع الله يخرج لنا من هذا الجبل ناقة حمراء عشراء فتضع ونحن ننظر، وترد هذا الماء فتشرب وتغدو علينا بمثله لبنا‏.‏ فدعا الله وفعل الله ذلك فـ ‏{‏قال هذه ناقة لها شرب‏}‏أي حظ من الماء؛ أي لكم شرب يوم ولها شرب يوم؛ فكانت إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله أول النهار وتسقيهم اللبن آخر النهار، وإذا كان يوم شربهم كان لأنفسهم ومواشيهم وأرضهم، ليس لهم في يوم ورودها أن يشربوا من شربها شيئا، ولا لها أن تشرب في يومهم من مائهم شيئا‏.‏ قال الفراء‏:‏ الشرب الحظ من الماء‏.‏ قال النحاس‏:‏ فأما المصدر فيقال فيه شرب شربا وشربا وشربا وأكثرها المضمومة؛ لأن المكسورة والمفتوحة يشتركان مع شيء آخر فيكون الشرب الحظ من الماء، ويكون الشرب جمع شارب كما قال‏:‏

فقلت للشَّرب في دُرْنا وقد ثملوا

إلا أن أبا عمرو بن العلاء والكسائي يختاران الشَّرب بالفتح في الصدر، ويحتجان برواية بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنها أيام أكل وشَرب‏)‏‏.‏ ‏{‏ولا تمسوها بسوء‏}‏لا يجوز إظهار التضعيف ها هنا؛ لأنهما حرفان متحركان من جنس واحد‏.‏ ‏{‏فيأخذكم‏}‏جواب النهي، ولا يجوز حذف الفاء منه، والجزم كما جاء في الأمر إلا شيئا روي عن الكسائي أنه يجيزه‏.‏ ‏{‏فعقروها فأصبحوا نادمين‏}‏أي على عقرها لما أيقنوا بالعذاب‏.‏ وذلك أنه أنظرهم ثلاثا فظهرت عليهم العلامة في كل يوم، وندموا ولم ينفعهم الندم عند معاينة العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ لم ينفعهم الندم لأنهم لم يتوبوا، بل طلبوا صالحا عليه السلام ليقتلوه لما أيقنوا بالعذاب‏.‏ وقيل‏:‏ كانت ندامتهم على ترك الولد إذ لم يقتلوه معها‏.‏ وهو بعيد‏.‏ ‏{‏إن في ذلك لآية‏}‏إلى آخره تقدم‏.‏ ويقال‏:‏ إنه ما آمن به من تلك الأمم إلا ألفان وثمانمائة رجل وامرأة‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا أربعة آلاف‏.‏ وقال كعب‏:‏ كان قوم صالح اثني عشر ألف قبيل كل قبيل نحو اثني عشر ألفا من سوى النساء والذرية، ولقد كان قوم عاد مثلهم ست مرات‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 160 ‏:‏ 175 ‏)‏

‏{‏ كذبت قوم لوط المرسلين، إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، أتأتون الذكران من العالمين، وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون، قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين، قال إني لعملكم من القالين، رب نجني وأهلي مما يعملون، فنجيناه وأهله أجمعين، إلا عجوزا في الغابرين، ثم دمرنا الآخرين، وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم ‏}‏

قوله ‏{‏كذبت قوم لوط المرسلين‏}‏مضى معناه‏.‏

قوله ‏{‏أتأتون الذكران من العالمين‏}‏كانوا ينكحونهم في أدبارهم وكانوا يفعلون ذلك بالغرباء على ما تقدم في الأعراف ‏{‏وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم‏}‏يعني فروج النساء فإن الله خلقها للنكاح‏.‏ قال إبراهيم بن مهاجر‏:‏ قال لي مجاهد كيف يقرأ عبدالله ‏{‏وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم‏}‏قلت‏}‏وتذرون ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم‏}‏قال‏:‏ الفرج؛ كماقال ‏{‏فأتوهن من حيث أمركم الله ‏} ‏.‏ ‏{‏بل أنتم قوم عادون‏}‏أي متجاوزون لحدود الله‏.‏ ‏{‏قالوا لئن لم تنته يالوط‏}‏عن قولك هذا‏.‏ ‏{‏لتكونن من المخرجين‏}‏أي من بلدنا وقريتنا‏.‏ ‏}‏قال إني لعملكم‏}‏يعني اللواط ‏{‏من القالين‏}‏أي المبغضين والقلى البغض؛ قليته أقليه قلى وقلاء‏.‏ قال‏:‏

فلست بمقلي الخلال ولا قالي

وقال آخر‏:‏

عليك السلام لا مللت قريبة ومالك عندي إن نأيت قلاء

‏{‏رب نجني وأهلي مما يعملون‏}‏من عذاب عملهم‏.‏ دعا الله لما أيس من إيمانهم ألا يصيبه من عذابهم‏.‏

قوله ‏{‏فنجيناه وأهله أجمعين‏}‏ولم يكن إلا ابنتاه على ما تقدم في هود ‏{‏إلا عجوزا في الغابرين‏}‏روى سعيد عن قتادة قال‏:‏ غبرت في عذاب الله عز وجل أي بقيت‏.‏ وأبو عبيدة يذهب إلى أن المعنى من الباقين في الهرم أي بقيت حتى هرمت‏.‏ قال النحاس‏:‏ يقال للذاهب غابر والباقي غابر كما قال‏:‏

لا تكسع الشَّول بأغبارها إنك لا تدري من الناتج

وكما قال‏:‏

فما ونى محمد مذ ان غفر له الإله ما مضى وما غبر

أي ما بقي‏.‏ والأغبار بقيات الألبان‏.‏ ‏{‏ثم دمرنا الآخرين‏}‏أي أهلكناهم بالسخف والحصب؛ قال مقاتل‏:‏ خسف الله بقوم لوط وأرسل الحجارة على من كان خارجا من القرية‏.‏ ‏{‏وأمطرنا عليهم مطرا‏}‏يعني الحجارة ‏{‏فساء مطر المنذرين‏}‏وقيل‏:‏ إن جبريل خسف بقريتهم وجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها الله بالحجارة‏.‏ ‏{‏فساء مطر المنذرين‏}‏لم يكن فيها مؤمن إلا بيت لوط وابنتاه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 176 ‏:‏ 191 ‏)‏

‏{‏ كذب أصحاب الأيكة المرسلين، إذ قال لهم شعيب ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين، قالوا إنما أنت من المسحرين، وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين، فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين، قال ربي أعلم بما تعملون، فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم ‏}‏

قوله ‏{‏كذب أصحاب الأيكة المرسلين‏}‏الأيك الشجر المتلف الكثير الواحدة أيكة‏.‏ ومن قرأ‏}‏أصحاب الأيكة‏}‏فهي الغيضة‏.‏ ومن قرأ‏}‏لَيكة‏}‏فهو اسم القرية‏.‏ ويقال‏:‏ هما مثل بكة ومكة؛ قال الجوهري‏.‏ وقال النحاس‏:‏ وقرأ أبو جعفر ونافع‏}‏كذب أصحاب ليكة المرسلين‏}‏وكذا قرأ‏:‏ في ص وأجمع القراء على الخفض في التي في سورة الحجر والتي في سورة ق فيجب أن يرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه إذ كان المعنى واحدا‏.‏ وأما ما حكاه أبو عبيد من أن ‏{‏ليكة‏}‏هي اسم القرية التي كانوا فيها وأن ‏{‏الأيكة‏}‏اسم البلد فشيء لا يثبت ولا يعرف من قاله فيثبت علمه، ولو عرف من قاله لكان فيه نظر؛ لأن أهل العلم جميعا من أهل التفسير والعلم بكلام العرب على خلافه‏.‏ و روى عبدالله بن وهب عن جرير بن حازم عن قتادة قال‏:‏ أرسل شعيب عليه السلام إلى أمتين‏:‏ إلى قومه من أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة؛ قال‏:‏ والأيكة غيضة من شجر متلف‏.‏ و روى سعيد عن قتادة قال‏:‏ كان أصحاب الأيكة أهل غيضة وشجر وكانت عامة شجرهم الدوم وهو شجر المقل‏.‏ و روى ابن جبير عن الضحاك قال‏:‏ خرج أصحاب الأيكة - يعني حين أصابهم الحر - فانضموا إلى الغيضة والشجر، فأرسل الله عليهم سحابة فاستظلوا تحتها، فلما تكاملوا تحتها أحرقوا‏.‏ ولو لم يكن هذا إلا ما روي عن ابن عباس قال‏:‏ و‏{‏الأيكة‏}‏الشجر‏.‏ ولا نعلم بين أهل اللغة اختلافا أن الأيكة الشجر الملتف، فأما احتجاج بعض من احتج بقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح أنه في السواد ‏{‏ليكة‏}‏فلا حجة له؛ والقول فيه‏:‏ إن أصله الأيكة ثم خففت الهمزة فألقيت حركتها على اللام فسقطت واستغنت عن ألف الوصل؛ لأن اللام قد تحركت فلا يجوز عل هذا إلا الخفض؛ كما تقول بالأحمر تحقق الهمزة ثم تخفضها بلحمر؛ فإن شئت كتبته في الخط على ما كتبته أولا، وإن شئت كتبته بالحذف؛ ولم يجز إلا الخفض؛ قال سيبويه‏:‏ وأعلم أن ما لا ينصرف إذا دخلت عليه الألف واللام أو أضيف أنصرف؛ ولا نعلم أحدا خالف سيبويه في هذا‏.‏ وقال الخليل‏}‏الأيكة‏}‏غيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر‏.‏ ‏{‏إذ قال لهم شعيب‏}‏ولم يقل أخوهم شعيب؛ لأنه لم يكن أخا لأصحاب الأيكة في النسب، فلما ذكر مدينقال ‏{‏أخاهم شعيبا‏}‏ ؛ لأنه كان منهم‏.‏ وقد مضى في الأعراف القول في نسبه‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ أرسل الله شعيبا رسولا إلى قومه أهل مدين، وإلى أهل البادية وهم أصحاب الأيكة؛ وقال قتادة‏.‏ وقد ذكرناه‏.‏ ‏{‏ألا تتقون‏}‏تخافون الله ‏{‏إني لكم رسول أمين‏.‏ فاتقوا الله وأطيعون‏}‏الآية‏.‏ وإنما كان جواب هؤلاء الرسل واحدا على صيغة واحدة؛ لأنهم متفقون على الأمر بالتقوى، والطاعة والإخلاص في العبادة، والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة‏.‏ ‏{‏أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين‏}‏الناقصين للكيل والوزن‏.‏ ‏{‏وزنوا بالقسطاس المستقيم‏}‏ أي أعطوا الحق‏.‏ وقد مضى في ‏{‏سبحان‏}‏وغيرها‏.‏ ‏{‏ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏}‏تقدم في ‏{‏سبحان‏}‏وغيرها‏.‏

قوله ‏{‏واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين‏}‏قال مجاهد‏:‏ الجبلة هي الخليقة‏.‏ وجبل فلان على كذا أي خلق؛ فالخُلُق جِبِلَّة وجُبُلَّة وجِبْلة وجُبْلة وجَبْلة ذكره النحاس في ‏{‏معاني القرآن‏}‏‏.‏ ‏{‏والجبلة‏}‏عطف على الكاف والميم‏.‏ قال الهروي‏:‏ الجِبِلَّة والجُبْلَة والجِبِلّ والجُبُلّ والجَبْلُ لغات؛ وهو الجمع ذو العدد الكثير من الناس؛ ومنه قوله ‏{‏جبلا كثيرا‏} ‏ ‏.‏ قال النحاس في كتاب ‏{‏إعراب القرآن‏}‏له‏:‏ ويقال جُبُلَّة والجمع فيهما جَبَّال، وتحذف الضمة والكسرة من الباء، وكذلك التشديد من اللام؛ فيقال‏:‏ جُبْلة وجُبَل، ويقال‏:‏ جِبْلة وجِبال؛ وتحذف الهاء من هذا كله‏.‏ وقرأ الحسن باختلاف عنه‏}‏والجُبُلَّة الأولين‏}‏بضم الجيم والباء؛ وروي عن شيبة والأعرج‏.‏ الباقون بالكسر‏.‏ قال‏:‏

والموت أعظم حادث فيما يمر على الجِبِلّه

‏{‏قالوا إنما أنت من المسحرين‏}‏الذين يأكلون الطعام والشراب على ما تقدم‏.‏ ‏{‏وإن نظنك لمن الكاذبين‏}‏أي ما نظنك إلا من الكاذبين في أنك رسول الله تعالى‏.‏ ‏{‏فأسقط علينا كِسْفا من السماء‏}‏أي جانبا من السماء وقطعة منه، فننظر إليه؛ كماقال ‏{‏وإن يروا كِسْفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم‏} ‏ ‏.‏ وقيل‏:‏ أرادوا أنزل علينا العذاب‏.‏ وهو مبالغة في التكذيب‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الكسف جمع كسفة مثل سدر وسدرة‏.‏ وقرأ السلمي وحفص‏}‏كِسَفا‏}‏جمع كسْفة أيضا وهي القطعة والجانب تقديره كِسْرة وكسَر‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الكسفة القطعة من الشيء، يقال أعطني كسفة من ثوبك والجمع كسَف وكسْف‏.‏ ويقال‏:‏ الكسف والكسفة واحد‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ من قرأ‏}‏كسفا‏}‏جعله واحدا ومن قرأ‏}‏كسفا‏}‏جعله جمعا‏.‏ وقد مضى هذا في سورة ‏{‏سبحان‏}‏وقال الهروي‏:‏ ومن قرأ‏}‏كسفا‏}‏على التوحيد فجمعه أكساف وكسوف، كأنه قال أو تسقطه علينا طبقا واحدا، وهو من كسفت الشيء كسفا إذا غطيته‏.‏ ‏{‏إن كنت من الصادقين، قال ربي أعلم بما تعملون‏}‏تهديد؛ أي إنما علي التبليغ وليس العذاب الذي سألتم وهو يجازيكم‏.‏ ‏{‏فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة ‏}‏قال ابن عباس‏:‏ أصابهم حر شديد، فأرسل الله سبحانه سحابة فهربوا إليها ليستظلوا بها، فلما صاروا تحتها صيح بهم فهلكوا‏.‏ وقيل‏:‏ أقامها الله فوق رؤوسهم، وألهبها حرا حتى ماتوا من الرمد‏.‏ وكان من أعظم يوم في الدنيا عذابا‏.‏ وقيل‏:‏ بعث الله عليهم سموما فخرجوا إلى الأيكة يستظلون بها فأضرمها الله عليهم نارا فاحترقوا‏.‏ وعن ابن عباس أيضا وغيره‏:‏ إن الله تعالى فتح عليهم بابا من أبواب جهنم، وأرسل عليهم هدة وحرا شديدا فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا بيوتهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء فأنضجهم الحر، فخرجوا هربا إلى البرية، فبعث الله عز وجل سحابة فأظلتهم فوجدوا لها بردا وروحا وريحا طيبة، فنادى بعضهم بعضا، فلما اجتمعوا تحت السحابة ألهبها الله تعالى عليهم نارا، ورجفت بهم الأرض، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى، فصاروا رمادا؛ فذلك قوله ‏{‏فأصبحوا في ديارهم جاثمين‏.‏ كأن لم يغنوا فيها‏} ‏ وقوله ‏{‏فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام، وسلط عليهم الحر حتى أخذ بأنفاسهم، ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب، ليتبردوا فيها فيجدوها أشد حرا من الظاهر‏.‏ فهربوا إلى البرية، فأظلتهم سحابة وهي الظلة، فوجدوا لها بردا ونسيما، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا‏.‏ وقال يزيد الجريري‏:‏ سلط الله عليهم الحر سبعة أيام ولياليهن ثم رفع لهم جبل من بعيد‏}‏فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون وشجر وماء بارد، فاجتمعوا كلهم تحته، فوقع عليهم الجبل وهو الظلة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بعث الله شعيبا إلى أمتين‏:‏ أصحاب مدين وأصحاب الأيكة فأهلك الله أصحاب الأيكة بالظلة، وأما أصحاب مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا أجمعين‏.‏‏}‏إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين‏}‏قيل‏:‏ آمن بشعيب من الفئتين تسعمائة نفر‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 192 ‏:‏ 196 ‏)‏

‏{‏ وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، وإنه لفي زبر الأولين ‏}‏

قوله ‏{‏وإنه لتنزيل رب العالمين‏}‏عاد إلى ما تقدم بيانه في أول السورة من إعراض المشركين عن القرآن‏.‏ ‏{‏نزل‏}‏مخففا قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو‏.‏ الباقون‏}‏نزل‏}‏مشددا ‏{‏به الروح الأمين‏}‏نصبا وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد لقوله ‏{‏وإنه لتنزيل‏}‏وهو مصدر نزل، والحجة لمن قرأ بالتخفيف أن يقول ليس هذا بمقدر، لأن المعنى وإن القرآن لتنزيل رب العالمين نزل به جبريل إليك؛ كما قال ‏{‏قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك‏} ‏ أي يتلوه عليك فيعيه قلبك‏.‏ وقيل‏:‏ ليثبت قلبك‏.‏ ‏{‏أي يتلوه عليك فيعيه قلبك‏.‏ وقيل‏:‏ ليثبت قلبك‏.‏ ‏{‏لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين‏}‏أي لئلا يقولوا لسنا نفهم ما تقول‏.‏ ‏{‏وإنه لفي زبر الأولين‏}‏أي وإن ذكر نزوله لفي كتب الأولين يعني الأنبياء‏.‏ وقيل‏:‏ أي إن ذكر محمد عليه السلام في كتب الأولين؛ كما قال ‏{‏يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل‏}‏ والزبر الكتب الواحد زبور كرسول ورسل؛ وقد تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 197 ‏:‏ 203 ‏)‏

‏{‏ أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل، ولو نزلناه على بعض الأعجمين، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين، كذلك سلكناه في قلوب المجرمين، لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم، فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون، فيقولوا هل نحن منظرون ‏}‏

قوله ‏{‏أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل‏}‏قال مجاهد‏:‏ يعني عبدالله بن سلام وسلمان وغيرهما ممن أسلم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد عليه السلام، فقالوا‏:‏ إن هذا لزمانه، وإنا لنجد في التوراة نعته وصفته‏.‏ فيرجع لفظ العلماء إلى كل من كان له علم بكتبهم أسلم أو لم يسلم على هذ القول‏.‏ وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجة على المشركين؛ لأنهم كانوا يرجعون في أشياء من أمور الدين إلى أهل الكتاب؛ لأنهم مظنون بهم علم‏.‏ وقرأ ابن عامر‏}‏أو لم تكن لهم آية‏}‏‏.‏ الباقون ‏{‏أو لم يكن لهم آية‏}‏بالنصب على الخبر واسم يكن ‏{‏أن يعلمه‏}‏والتقدير أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل الذين أسلموا آية واضحة‏.‏ وعلى القراءة الأولى اسم كان ‏{‏آية‏}‏والخبر ‏{‏أن يعلمه علماء بني إسرائيل‏}‏‏.‏ وقرأ عاصم الجحدري‏}‏أن تعلمه علماء بني إسرائيل‏}‏‏.‏ ‏{‏ولو نزلناه على بعض الأعجمين‏}‏أي على رجل ليس بعربي اللسان ‏{‏فقرأه عليهم‏}‏بغير لغة العرب لما أمنوا ولقالوا لا نفقه‏.‏ نظيره ‏}‏ولو جعلناه قرآنا أعجميا‏} ‏ الآية‏.‏ وقيل‏:‏ معناه ولو نزلناه على رجل ليس من العرب لما آمنوا به أنفة وكبرا‏.‏ يقال‏:‏ رجل أعجم وأعجمي إذا كان غير فصيح وإن كان عربيا، ورجل عجمي وإن كان فصيحا ينسب إلى أصله؛ إلا أن الفراء أجاز أن يقال رجل عجمي بمعنى أعجمي‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏على بعض الأعجمين‏}‏مشددة بياءين جعله نسبة‏.‏ ومن قرأ‏}‏الأعجمين‏}‏فقيل‏:‏ إنه جمع أعجم‏.‏ وفيه بعد؛ لأن ما كان من الصفات الذي مؤنثه فعلاء لا يجمع بالواو والنون، ولا بالألف والتاء؛ لا يقال أحمرون ولا حمراوات‏.‏ وقيل‏:‏ إن أصله الأعجمين كقراءة الجحدوي ثم حذفت ياء النسب، وجعل جمعه بالياء والنون دليلا عليها‏.‏ قاله أبو الفتح عثمان بن جني‏.‏ وهو مذهب سيبويه‏.‏

قوله ‏{‏كذلك سلكناه‏}‏يعني القرآن أي الكفر به ‏{‏في قلوب المجرمين‏.‏ لا يؤمنون به‏}‏وقيل‏:‏ سلكنا التكذيب في قلوبهم؛ فذلك الذي منعهم من الإيمان، قاله يحيى بن سلام وقال عكرمة‏:‏ القسوة‏.‏ والمعنى متقارب وقد مضى في الحجر وأجاز الفراء الجزم في ‏{‏لا يؤمنون‏}‏؛ لأن فيه معنى الشرط والمجازاة‏.‏ وزعم أن من شأن العرب إذا وضعت لا موضع كي لا في مثل هذا ربما جزمت ما بعدها وربما رفعت؛ فتقول‏:‏ ربطت الفرس لا ينفلت بالرفع والجزم، لأن معناه إن لم أربطه ينفلت، والرفع بمعنى كيلا ينفلت‏.‏ وأنشد لبعض بني عقيل‏:‏

وحتى رأينا أحسن الفعل بيننا مساكنه لا يقرف الشر قارف

بالرفع لما حذف كي‏.‏ ومن الجزم قول الآخر‏:‏

لطالما حلأتماها لا ترد فخلياها والسجال تبترد

قال النحاس‏:‏ وهذا كله في ‏{‏يؤمنون‏}‏خطأ عند البصريين، ولا يجوز الجزم بلا جازم، ولا يكون شيء يعمل عملا فإذا حذف عمل عملا أقوي، من عمله وهو موجود، فهذا احتجاج بيِّن ‏{‏حتى يروا العذاب الأليم‏}‏أي العذاب‏.‏ وقرأ الحسن‏}‏فتأتيهم‏}‏بالتاء، والمعني‏:‏ فتأتيهم الساعة بغتة فأضمرت لدلالة العذاب الواقع فيها، ولكثرة ما في القرآن من ذكرها‏.‏ وقال رجل للحسن وقد قرأ‏}‏فتأتيهم‏}‏‏:‏ يا أبا سعيد إنما يأتيهم العذاب بغتة‏.‏ فانتهره وقال‏:‏ إنما هي الساعة تأتيهم بغتة أي فجأة‏.‏ ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏بإتيانها‏.‏ ‏{‏فيقولوا هل نحن منظرون‏}‏أي مؤخرون وممهلون‏.‏ يطلبون الرجعة هنالك فلا يجابون إليها‏.‏ قال القشيري‏:‏ وقوله ‏{‏فيأتيهم‏}‏ليس عطفا على قوله ‏{‏حتى يروا‏}‏بل هو جواب قوله ‏{‏لا يؤمنون‏}‏فلما كان جوابا للنفي انتصب، وكذلك قوله ‏{‏فيقولوا‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 204 ‏:‏ 209 ‏)‏

‏{‏ أفبعذابنا يستعجلون، أفرأيت إن متعناهم سنين، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون، وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون، ذكرى وما كنا ظالمين ‏}‏

قوله ‏{‏أفبعذابنا يستعجلون‏}‏قال مقاتل‏:‏ قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد إلى متى تعدنا بالعذاب ولا تأتي به‏!‏ فنزلت‏}‏أفبعذابنا يستعجلون‏}‏‏.‏ ‏{‏أفرأيت إن متعناهم سنين‏}‏يعني في الدنيا والمراد أهل مكة في قول الضحاك وغيره‏.‏ ‏{‏ثم جاءهم ما كانوا يوعدون‏}‏من العذاب والهلاك ‏{‏ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون‏}‏‏{‏ما‏}‏الأولى استفهام معناه التقرير، وهو في موضع نصب ‏{‏بأغني‏}‏و‏{‏ما‏}‏الثانية في موضع رفع، ويجوز أن تكون الثانية نفيا لا موضع لها‏.‏ وقيل ‏{‏ما‏}‏الأولى حرف نفي، و‏{‏ما‏}‏الثانية في موضع رفع بـ ‏{‏أغنى‏}‏والهاء العائدة محذوفة‏.‏ والتقدير‏:‏ ما أغنى عنهم الزمان الذي كانوا يمتعونه‏.‏ وعن الزهري‏:‏ إن عمر بن عبدالعزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ‏}‏أفرأيت إن متعناهم سنين‏.‏ ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون‏}‏ثم يبكي ويقول‏:‏

نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم

فلا أنت في الأيقاظ يقظان حازم ولا أنت في النوام ناج فسالم

تسر بما يفنى وتفرح بالمنى كما سر باللذات في النوم حالم

وتسعى إلى ما سوف تكره غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم

قوله ‏{‏وما أهلكنا من قرية‏}‏‏{‏من‏}‏صلة؛ المعنى‏:‏ وما أهلكنا قرية‏.‏ ‏{‏إلا لها منذرون‏}‏أي رسل‏.‏ ‏{‏ذكرى‏}‏قال الكسائي‏}‏ذكرى‏}‏في موضع نصب على الحال‏.‏ النحاس‏:‏ وهذا لا يحصل، والقول فيه قول الفراء وأبي إسحاق أنها في موضع نصب على المصدر؛ قال الفراء‏:‏ أي يذكرون ذكرى؛ وهذا قول صحيح؛ لأن معنى ‏{‏إلا لها منذرون‏}‏إلا لها مذكرون‏.‏ و‏{‏ذكرى‏}‏لا يتبين فيه الإعراب؛ لأن فيها ألفا مقصورة‏.‏ ويجوز ‏{‏ذكرى‏}‏بالتنوين، ويجوز أن يكون ‏{‏ذكرى‏}‏في موضع رفع على إضمار مبتدأ‏.‏ قال أبو إسحاق‏:‏ أي إنذارنا ذكرى‏.‏ وقال الفراء‏:‏ أي ذلك ذكرى، وتلك ذكرى‏.‏ وقال ابن الأنباري قال بعض المفسرين‏:‏ ليس في ‏{‏العشراء‏}‏وقف تام إلا قوله ‏{‏إلا لها منذرون‏}‏ وهذا عندنا وقف حسن؛ ثم يبتدئ ‏{‏ذكرى‏}‏على معنى هي ذكرى أي يذكرهم ذكرى، والوقف على ‏{‏ذكرى‏}‏أجود‏.‏ ‏{‏وما كنا ظالمين‏}‏في تعذيبهم حيث قدمنا الحجة عليهم وأعذرنا إليهم‏:‏

الآية رقم ‏(‏ 210 ‏:‏ 213 ‏)‏

‏{‏ وما تنزلت به الشياطين، وما ينبغي لهم وما يستطيعون، إنهم عن السمع لمعزولون، فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين ‏}‏

قوله ‏{‏وما تنزلت به الشياطين‏}‏يعني القرآن بل ينزل به الروح الأمين‏.‏ ‏{‏وما ينبغي لهم وما يستطيعون‏.‏ إنهم عن السمع لمعزولون‏}‏أي برمي الشهب كما مضى في سورة الحجر بيانه‏.‏ وقرأ الحسن ومحمد بن السميقع‏}‏وما تنزلت به الشياطون‏}‏قال المهدوي‏:‏ وهو غير جائز في العربية ومخالف للخط‏.‏ وقال النحاس‏:‏ وهذا غلط عند جميع النحويين؛ وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول‏:‏ هذا غلط عند العلماء، إنما يكون بدخول شبهة؛ لما رأى الحسن في آخره ياء ونونا وهو في موضع رفع اشتبه عليه بالجمع المسلم فغلط، وفي الحديث‏}‏احذروا زلة العالم‏}‏وقد قرأ هو مع الناس ‏}‏وإذا خلوا إلى شياطينهم‏}‏ ولو كان هذا بالواو في موضع رفع لوجب حذف النون للإضافة‏.‏ وقال الثعلبي‏:‏ قال الفراء‏:‏ غلط الشيخ - يعني الحسن - فقيل ذلك للنضر بن شميل فقال‏:‏ إن جاز أن يحتج بقول رؤبة والعجاج وذويهما، جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه‏.‏ مع أنا نعلم أنهما لم يقرأ بذلك إلا وقد سمعا في ذلك شيئا؛ وقال المؤرج‏:‏ إن كان الشيطان من شاط يشيط كان لقراءتهما وجه‏.‏ وقال يونس بن حبيب‏:‏ سمعت أعرابيا يقول دخلنا بساتين من ورائها بساتون؛ فقلت‏:‏ ما أشبه هذا بقراءة الحسن‏.‏

قوله ‏{‏فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين‏}‏قيل‏:‏ المعنى قل لمن كفر هذا‏.‏ وقيل‏:‏ هو مخاطبة له عليه السلام وإن كان لا يفعل هذا؛ لأنه معصوم مختار ولكنه خوطب بهذا والمقصود غيره‏.‏ ودل على هذا قوله ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏أي لا يتكلون على نسبهم وقرابتهم فيدعون ما يجب عليهم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 214 ‏:‏ 220 ‏)‏

‏{‏ وأنذر عشيرتك الأقربين، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين، فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون، وتوكل على العزيز الرحيم، الذي يراك حين تقوم، وتقلبك في الساجدين، إنه هو السميع العليم ‏}‏

قوله ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏خص عشيرته الأقربين بالإنذار؛ لتنحسم أطماع سائر عشيرته وأطماع الأجانب في مفارقته إياهم على الشرك‏.‏ وعشيرته الأقربون قريش‏.‏ وقيل‏:‏ بنو عبد مناف‏.‏ ووقع في صحيح مسلم‏}‏وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين‏}‏‏.‏ وظاهر هذا أنه كان قرآنا يتلى وأنه نسخ؛ إذ لم يثبت نقله في المصحف ولا تواتر‏.‏ ويلزم على ثبوته إشكال؛ وهو أنه كان يلزم عليه ألا ينذر إلا من آمن من عشيرته؛ فإن المؤمنين هم الذين يوصفون بالإخلاص في دين الإسلام وفي حب النبي صلى الله عليه وسلم لا المشركون؛ لأنهم ليسوا على شيء من ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا عشيرته كلهم مؤمنهم وكافرهم، وأنذر جميعهم ومن معهم ومن يأتي بعدهم صلي الله عليه وسلم؛ فلم يثبت ذلك نقلا ولا معنى‏.‏ و‏"‏روى مسلم من حديث أبي هريرة‏"‏ قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال‏:‏ ‏(‏يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبدالمطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها ‏.‏

في هذا الحديث والآية دليل على أن القرب في الأنساب لا ينفع مع البعد في الأسباب، ودليل على جواز صلة المؤمن الكافر وإرشاده ونصيحته؛ لقوله ‏{‏إن لكم رحما سأبلها ببلالها‏}‏وقوله عز وجل ‏{‏لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين‏} ‏ الآية، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله‏.‏

قوله ‏{‏واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين‏}‏تقدم في سورة الحجر و سبحان يقال‏:‏ خفض جناحه إذا لان‏.‏ ‏{‏فإن عصوك‏}‏أي خالفوا أمرك‏.‏ ‏{‏فقل إني بريء مما تعملون‏}‏أي بريء من معصيتكم إياي؛ لأن عصيانهم إياه عصيان لله عز وجل، لأنه عليه السلام لا يأمر إلا بما يرضاه، ومن تبرأ منه فقد تبرأ الله منه‏.‏ ‏{‏وتوكل على العزيز الرحيم‏}‏أي فوض أمرك إليه فإنه العزيز الذي لا يغالب، الرحيم الذي لا يخذل أولياءه‏.‏ وقرأ العامة‏}‏وتوكل‏}‏بالواو وكذلك هو في مصاحفهم‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر‏}‏فتوكل‏}‏بالفاء وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام‏.‏ ‏{‏الذي يراك حين تقوم‏}‏أي حين تقوم إلى الصلاة في قول أكثر المفسرين‏:‏ ابن عباس وغيره‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يعني حين تقوم حيثما كنت‏.‏ ‏{‏وتقلبك في الساجدين‏}‏قال مجاهد وقتادة‏:‏ في المصلين‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أي في أصلاب الآباء، آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبيا‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ يراك قائما وراكعا وساجدا؛ وقاله ابن عباس أيضا‏.‏ وقيل‏:‏ المعني؛ إنك ترى بقلبك في صلاتك من خلفك كما ترى بعينك من قدامك‏.‏ وروي عن مجاهد، ذكره الماوردي والثعلبي‏.‏ وكان عليه السلام يرى من خلفه كما يرى من بين يديه، وذلك ثابت في الصحيح وفي تأويل الآية بعيد ‏{‏إنه هو السميع العليم‏}‏تقدم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 221 ‏:‏ 223 ‏)‏

‏{‏ هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم، يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ‏}‏

قوله ‏{‏هل أنبئكم على من تنزل الشياطين‏.‏ تنزل على كل أفاك أثيم‏}‏إنماقال ‏{‏تنزل‏}‏لأنها أكثر ما تكون في الهواء، وأنها تمر في الريح‏.‏ ‏{‏يلقون السمع وأكثرهم كاذبون‏}‏تقدم في الحجر ‏{‏فيلقون السمع‏}‏صفة الشياطين ‏{‏وأكثرهم‏}‏يرجع إلى الكهنة‏.‏ وقيل‏:‏ إلى الشياطين‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 224 ‏:‏ 227 ‏)‏

‏{‏ والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ‏}‏

قوله ‏{‏والشعراء‏}‏جمع شاعر مثل جاهل وجهلاء؛ قال ابن عباس‏:‏ هم الكفار ‏{‏يتبعهم‏}‏ضلال الجن والإنس‏.‏ وقيل ‏{‏الغاوون‏}‏الزائلون عن الحق، ودل بهذا أن الشعراء أيضا غاوون؛ لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك‏.‏ وقد قدمنا في سورة النور أن من الشعر ما يجوز إنشاده، ويكره، ويحرم‏.‏ روي مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال‏:‏ ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء‏)‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال ‏(‏هيه‏)‏ فأنشدته بيتا‏.‏ فقال ‏(‏هيه‏)‏ ثم أنشدته بيتا‏.‏ فقال ‏(‏هيه‏)‏ حتى أنشدته مائة بيت‏.‏ هكذا صواب هذا السند وصحيح روايته‏.‏ وقد وقع لبعض رواة كتاب مسلم‏:‏ عن عمرو بن الشريد عن الشريد أبيه؛ وهو وهم؛ لأن الشريد هو الذي أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ واسم أبي الشريد سويد‏.‏ وفي هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا، وإنما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية؛ لأنه كان حكيما؛ ألا ترى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم‏)‏ فأما ما تضمن ذكر الله وحمده والثناء عليه فذلك مندوب إليه، كقول القائل‏:‏

الحمد لله العلي المنان صار الثريد في رؤوس العيدان

أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مدحه كقول العباس‏:‏

من قبلها طبت في الظلال وفي مستودع حيث يخصف الورق

ثم هبطت البلاد لا بشر أنت ولا مضغة ولا علق

بل نطفة تركب السفين وقد ألجم نسرا وأهله الغرق

تنقل من صالب إلى رحم إذا مضى عالم بدا طبق

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يفضض الله فاك‏)‏‏.‏ أو الذب عنه كقول حسان‏:‏

هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء

وهي أبيات ذكرها مسلم في صحيحه وهي في السير أتم‏.‏ أو الصلاة عليه؛ كما روى زيد بن أسلم؛ خرج عمر ليلة يحرس فرأى مصباحا في بيت، وإذا عجوز تنفش صوفا وتقول‏:‏

على محمد صلاة الأبرار صلى عليه الطيبون الأخيار

قد كنت قواما بكا بالأسحار يا ليت شعري والمنايا أطوار

هل يجمعني وحبيبي الدار

يعني النبي صلى الله عليه وسلم؛ فجلس عمر يبكي‏.‏ وكذلك ذكر أصحابه ومدحهم رضي الله عنهم؛ ولقد أحسن محمد بن سابق حيث قال‏:‏

إني رضيت عليا للهادي علما كما رضيت عتيقا صاحب الغار

وقد رضيت أبا حفص وشيعته وما رضيت بقتل الشيخ في الدار

كل الصحابة عندي قدوة علم فهل علي بهذا القول من عار

إن كنت تعلم إني لا أحبهم إلا من أجلك فاعتقني من النار

وقال آخر فأحسن‏:‏

حب النبي رسول الله مفترض وحب أصحابه نور ببرهان

من كان يعلم أن الله خالقه لا يرمين أبا بكر ببهتان

ولا أبا حفص الفاروق صاحبه ولا الخليفة عثمان بن عفان

أما علي فمشهور فضائله والبيت لا يستوي إلا بأركان

قال ابن العربي‏:‏ أما الاستعارات في التشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحد وتجاوزت المعتاد؛ فبذلك يضرب الملك الموكل بالرؤيا المثل، وقد أنشد كعب بن زهير النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا إلا أغن غضيض الطرف مكحول

تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت كأنه منهل بالراح معلول

فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ولا ينكر في تشبيهه ريقها بالراح‏.‏ وأنشد أبو بكر رضي الله عنه‏:‏

فقدنا الوحى إذ وليت عنا وودعنا من الله الكلام

سوى ما قد تركت لنا رهينا توارثه القراطيس الكرام

فقد أورثتنا ميراث صدق عليك به التحية والسلام

فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعه وأبو بكر ينشده، فهل للتقليد والاقتداء موضع أرفع من هذا‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النهي، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر، أو تمثل به أو سمعه فرضيه ما كان حكمة أو مباحا، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء لا يحل سماعه ولا قوله؛ وروي أبو هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول‏:‏ ‏(‏أصدق كلمة - أو أشعر كلمة - قالتها العرب قول لبيد‏:‏

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

‏"‏أخرجه مسلم ‏"‏وزاد ‏(‏وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم‏)‏ وروي عن ابن سيرين أنه أنشد شعرا فقال له بعض جلسائه‏:‏ مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر‏.‏ فقال‏:‏ ويلك يا لكع‏!‏ وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي، فحسنه حسن وقبيحه قبيح‏!‏ قال‏:‏ وقد كانوا يتذاكرون الشعر‏.‏ قال‏:‏ وسمعت ابن عمر ينشد‏:‏

يحب الخمر من مال الندامى ويكره أن يفارقه الغلوس

وكان عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة العشرة ثم المشيخة السبعة شاعرا مجيدا مقدما فيه‏.‏ وللزبير بن بكار القاضي في أشعاره كتاب، وكانت له زوجة حسنة تسمى عثمة فعتب عليها في بعض الأمر فطلقها، وله فيها أشعار كثيرة؛ منها قوله‏:‏

تغلغل حب عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسير

تغلغل حيث لم يبلغ شراب ولا حزن ولم يبلغ سرور

أكاد إذا ذكرت العهد منها أطير لوان إنسانا يطير

وقال ابن شهاب‏:‏ قلت له تقول الشعر في نسكك وفضلك‏!‏ فقال‏:‏ إن المصدور إذا نفث برأ‏.‏

وأما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه وصاحبه ملوم، فهو المتكلم بالباطل حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحهم على حاتم، وإن يبهتوا البريء ويفسقوا التقي، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء؛ رغبة في تسلية النفس وتحسين القول؛ كما روي عن الفرزدق أن سليمان بن عبدالملك سمع قوله‏:‏

فبتن بجانبي مصرعات وبت أفض أغلاق الختام

فقال‏:‏ قد وجب عليك الحد‏.‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله ‏{‏وأنهم يقولون ما لا يفعلون‏}‏‏.‏ وروي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال‏:‏

من مبلغ الحسناء أن حليلها بميسان يسقي في زجاج وحنتم

إذا شئت غنتني دهاقين قرية ورقاصة تجذو على كل منسم

فإن كنت ندماني فبالأكبر أسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم

لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم

فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه بالقدوم عليه‏.‏ وقال‏:‏ إي والله إني ليسوءني ذلك‏.‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا مما قلت؛ وإنما كانت فضلة من القول، وقد قال الله ‏{‏والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون‏.‏ وأنهم يقولون ما لا يفعلون‏}‏فقال له عمر‏:‏ أما عذرك فقد درأ عنك الحد؛ ولكن لا تعمل لي عملا أبدا وقد قلت ما قلت‏.‏ وذكر الزبير بن بكار قال‏:‏ حدثني مصعب بن عثمان أن عمر بن عبدالعزيز لما ولي الخلافة لم يكن له هم إلا عمر بن أبي ربيعة والأحوص فكتب إلى عامله على المدينة‏:‏ إني قد عرفت عمر والأحوص بالشر والخبث فإذا أتاك كتابي هذا فاشدد عليهما وأحملهما إلي‏.‏ فلما أتاه الكتاب حملهما إليه، فأقبل على عمر، فقال‏:‏ هيه‏!‏

فلم أر كالتجمير منظر ناظر ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى

وكم مالئ عينيه من شيء غيره إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى

أما والله لو اهتممت بحجك لم تنظر إلى شيء غيرك؛ فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون‏!‏ ثم أمر بنفيه‏.‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ أو خير من ذلك ‏؟‏ فقال‏:‏ ما هو ‏؟‏ قال‏:‏ أعاهد الله أني لا أعود إلى مثل هذا الشعر، ولا أذكر النساء في شعر أبدا، وأجدد توبة، فقال‏:‏ أو تفعل ‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فعاهد الله على توبته وخلاه؛ ثم دعا بالأحوص، فقال هيه‏!‏

الله بيني وبين قيمها يفر مني بها وأتَّبع

بل الله بين قيمها وبينك‏!‏ ثم أمر بنفيه؛ فكلمه فيه رجال من الأنصار فأبى، وقال‏:‏ والله لا أرده ما كان لي سلطان، فإنه فاسق مجاهر‏.‏ فهذا حكم الشعر المذموم وحكم صاحبه، فلا يحل سماعه ولا إنشاده في مسجد ولا غيره، كمنثور الكلام القبيح ونحوه‏.‏ وروي إسماعيل بن عياش عن عبدالله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حسن الشعر كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام‏)‏ رواه إسماعيل عن عبدالله الشامي وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره‏.‏ و روى عبدالله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام‏)‏‏.‏ ‏"‏روي مسلم عن أبي هريرة‏"‏ رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا‏)‏ وفي الصحيح أيضا عن أبي سعيد الخدري‏"‏ قال‏:‏ بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشيطان - لان يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا‏)‏ قال علماؤنا‏:‏ وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله، فلعل هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه قد اتخذ الشعر طريقا للتكسب، فيفرط في المدح إذا أعطي، وفي الهجو والذم إذا منع، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم‏.‏ ولا خلاف في أن من كان على مثل هذه الحالة فكل ما يكتسبه بالشعر حرام‏.‏ وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه، ولا يحل الإصغاء إليه، بل يجب الإنكار عليه؛ فإن لم يكن ذلك لمن خاف من لسانه قطعا تعين عليه أن يداريه بما استطاع، ويدافعه بما أمكن، ولا يحل له أن يعطي شيئا ابتداء، لأن ذلك عون على المعصية؛ فإن لم يجد من ذلك بدا أعطاه بنية وقاية العرض؛ فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة‏.‏ قلت‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه‏)‏ القيح المدة يخالطها دم‏.‏ يقال منه‏:‏ قاح الجرح يقيح وتقيح وقيح‏.‏ و‏{‏يريه‏}‏قال الأصمعي‏:‏ هو من الوري على مثال الرمي وهو أن يدوي جوفه، يقال منه‏:‏ رجل موري مشدد غير مهموز‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ وروي القيح جوفه يريه وريا إذا أكله‏.‏ وأنشد اليزيدي‏:‏

قالت له وريا إذا تنحنحا

وهذا الحديث أحسن ما قيل في تأويله‏:‏ إنه الذي قد غلب عليه الشعر، وامتلأ صدره منه دون علم سواه ولا شيء من الذكر ممن يخوض به في الباطل، ويسلك به مسالك لا تحمد له، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول‏.‏ ومن كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه الأوصاف المذمومة الدنية، لحكم العادة الأدبية‏.‏ وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحه لما بوب على هذا الحديث باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر ‏.‏ وقد قيل في تأويله‏:‏ إن المراد بذلك الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره‏.‏ وهذا ليس بشيء؛ لأن القليل من هجو النبي صلى الله عليه وسلم وكثيره سواء في أنه كفر ومذموم، وكذلك هجو غير النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين محرم قليله وكثيره، وحينئذ لا يكون لتخصيص الذم بالكثير معني‏.‏ قال الشافعي‏:‏ الشعر نوع من الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيح كقبيح الكلام، يعني أن الشعر ليس يكره لذاته وإنما يكره لمضمناته، وقد كان عند العرب عظيم الموقع‏.‏ قال الأول منهم‏:‏

وجرح اللسان كجرح اليد

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر الذي يرد به حسان على المشركين‏:‏ ‏(‏إنه لأسرع فيهم من رشق النبل‏)‏ أخرجه مسلم‏.‏ و‏"‏روى الترمذي وصححه عن ابن عباس‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبدالله بن رواحة يمشي بين يديه ويقول‏:‏

خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله

فقال عمر‏:‏ يا ابن رواحة‏!‏ في حرم الله وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خل عنه يا عمر فلهو أسرع فيهم من نضح النبل‏)‏‏.‏ قوله ‏{‏والشعراء يتبعهم الغاوون‏}‏لم يختلف القراء في رفع ‏{‏والشعراء‏}‏فيما علمت‏.‏ ويجوز النصب على إضمار فعل يفسره ‏{‏يتبعهم‏}‏وبه قرأ عيسى بن عمر؛ قال أبو عبيد‏:‏ كان الغالب عليه حب النصب؛ قرأ ‏{‏والسارق والسارقة‏}‏ 5 38 و‏{‏حمالة الحطب‏}‏ 111 :4 و‏{‏سورة أنزلناها‏}‏ 24 :1 ‏.‏ وقرأ نافع وشيبة والحسن والسلمي‏}‏يتبعهم‏}‏مخففا‏.‏ الباقون ‏{‏يتبعهم‏}‏‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ تهاجى رجلان أحدهما أنصاري والآخر مهاجري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل واحد غواة قومه وهم السفهاء فنزلت؛ وقاله ابن عباس‏.‏ وعنه هم الرواة للشعر‏.‏ و روى عنه علي بن أبي طلحة أنهم هم الكفار يتبعهم ضلال الجن والإنس؛ وقد ذكرناه‏.‏ و روى غضيف عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أحدث هجاء في الإسلام فاقطعوا لسانه‏)‏ وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة رن إبليس رنة وجمع إليه ذريته؛ فقال ايئسوا أن تريدوا أمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا ولكن أفشوا فيهما - يعني مكة والمدينة - الشعر‏.‏

قوله ‏{‏ألم تر أنهم في كل واد يهيمون‏}‏يقول‏:‏ في كل لغو يخوضون، ولا يتبعون سنن الحق؛ لأن من اتبع الحق وعلم أنه يكتب عليه ما يقوله تثبت، ولم يكن هائما يذهب على وجهه لا يبالي ما قال‏.‏ نزلت في عبدالله بن الزبعرى ومسافع بن عبد مناف وأمية بن أبي الصلت‏.‏ ‏{‏وأنهم يقولون ما لا يفعلون‏}‏يقول‏:‏ أكثرهم يكذبون؛ أي يدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه‏.‏ وقيل‏:‏ إنها نزلت في أبي عزة الجمحي حيث قال‏:‏

ألا أبلغا عني النبي محمدا بأنك حق والمليك حميد

ولكن إذا ذكرت بدرا وأهله تأوه مني أعظم وجلود

ثم استثنى شعر المؤمنين‏:‏ حسان بن ثابت وعبدالله بن رواحة وكعب بن مالك وكعب بن زهير ومن كان على طريقهم من القول الحق؛ فقال ‏{‏إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا‏}‏في كلامهم ‏{‏وانتصروا من بعد ما ظلموا‏}‏وإنما يكون الانتصار بالحق، وبما حده الله عز وجل، فإن تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل‏.‏ وقال أبو الحسن المبرد‏.‏ لما نزلت‏}‏والشعراء‏}‏جاء حسان وكعب بن مالك وابن رواحة يبكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا‏:‏ يا نبي الله‏!‏ أنزل الله تعالى هذه الآية، وهو تعالى يعلم أنا شعراء ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏اقرؤوا ما بعدها ‏{‏إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏- الآية - أنتم ‏{‏وانتصروا من بعد ما ظلموا‏}‏أنتم‏)‏ أي بالرد على المشركين‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏انتصروا ولا تقولوا إلا حقا ولا تذكروا الآباء والأمهات‏)‏ فقال حسان لأبي سفيان‏:‏

هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء

وإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء

أتشتمه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء

لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء

وقال كعب يا رسول الله‏!‏ إن الله قد أنزل في الشعر ما قد علمت فكيف ترى فيه ‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل‏)‏‏.‏ وقال كعب‏:‏

جاءت سخينة كي تغالب ربها وليغلبن مغالب الغلاب

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقد مدحك الله يا كعب في قولك هذا‏)‏‏.‏ و روى الضحاك عن ابن عباس أنه قال في قوله ‏{‏والشعراء يتبعهم الغاوون‏}‏منسوخ بقوله ‏{‏إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات‏}‏‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وفي الصحيح عن ابن عباس أنه استثناء‏.‏ ‏{‏وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون‏}‏في هذا تهديد لمن انتصر بظلم قال شريح سيعلم الظالمون كيف يخلصون من بين يدي الله عز وجل؛ فالظالم ينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر النصرة‏.‏ وقرأ ابن عباس‏}‏أي منفلت ينفلتون‏}‏بالفاء والتاء ومعناهما واحد ذكره الثعلبي‏.‏ ومعنى‏}‏أي منقلب ينقلبون‏}‏أي مصير يصيرون وأي مرجع يرجعون؛ لأن مصيرهم إلى النار، وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العقاب وهو شر مرجع‏.‏ والفرق بين المنقلب والمرجع أن المنقلب الانتقال إلى ضد ما هو فيه، والمرجع العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها فصار كل مرجع منقلبا، وليس كل منقلب مرجعا؛ والله أعلم؛ ذكره الماوردي‏.‏ و‏{‏أي‏}‏منصوب ‏{‏بينقلبون‏}‏وهو بمعنى المصدر، ولا يجوز أن يكون منصوبا بـ ‏{‏سيعلم‏}‏لأن أيا وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها فيما ذكر النحويون؛ قال النحاس‏:‏ وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض‏.‏
 
سورة النمل

مقدمة السورة

سورة النمل مكية كلها في قول الجميع، وهي ثلاث وتسعون آية‏.‏ وقيل‏:‏ أربع وتسعون آية‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 1 ‏:‏ 6 ‏)‏

‏{‏ طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين، هدى وبشرى للمؤمنين، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون، إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون، أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون، وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ‏}‏

قوله ‏{‏طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين‏}‏مضى الكلام في الحروف المقطعة في البقرة وغيرها‏.‏ و‏{‏تلك‏}‏بمعنى هذه؛ أي هذه السورة آيات القرآن وآيات كتاب مبين‏.‏ وذكر القرآن بلفظ المعرفة، وقال ‏{‏وكتاب مبين‏}‏بلفظ النكرة وهما في معنى المعرفة؛ كما تقول‏:‏ فلان رجل عاقل وفلان الرجل العاقل‏.‏ والكتاب هو القرآن، فجمع له بين الصفتين‏:‏ بأنه قرآن وأنه كتاب؛ لأنه ما يظهر بالكتابة، ويظهر بالقراءة‏.‏ وقد مضى اشتقاقهما في البقرة وقال في سورة الحجر ‏}‏الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين‏}‏ فأخرج الكتاب بلفظ المعرفة والقرآن بلفظ النكرة؛ وذلك لأن القرآن والكتاب اسمان يصلح لكل واحد منهما أن يجعل معرفة، وأن يجعل صفة‏.‏ ووصفه بالمبين لأنه بين فيه أمره ونهيه وحلاله وحرامه ووعده ووعيده؛ وقد تقدم‏.‏

قوله ‏{‏هدى وبشرى للمؤمنين‏}‏‏{‏هدى‏}‏في موضع نصب على الحال من الكتاب؛ أي تلك آيات الكتاب هادية ومبشرة‏.‏ ويجوز فيه الرفع على الابتداء؛ أي هو هدى‏.‏ وإن شئت على حذف حرف الصفة؛ أي فيه هدى‏.‏ ويجوز أن يكون الخبر ‏{‏للمؤمنين‏}‏ثم وصفهم فقال ‏{‏الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون‏}‏وقد مضى بيانه‏.‏

قوله ‏{‏إن الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏أي لا يصدقون بالبعث‏.‏ ‏{‏زينا لهم أعمالهم‏}‏قيل‏:‏ أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة‏.‏ وقيل‏:‏ زينا لهم أعمالهم الحسنة فلم يعملوها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه‏.‏ ‏{‏فهم يعمهون‏}‏أي يترددون في أعمالهم الخبيثة، وفي ضلالتهم‏.‏ عن ابن عباس‏.‏ أبو العالية‏:‏ يتمادون‏.‏ قتادة‏:‏ يلعبون‏.‏ الحسن‏:‏ يتحيرون؛ قال الراجز‏:‏

ومهمه أطرافه في مهمه أعمى الهدى بالحائرين العمه

قوله ‏{‏أولئك الذين لهم سوء العذاب‏}‏وهو جهنم‏.‏ ‏{‏وهم في الآخرة هم الأخسرون‏}‏ ‏{‏في الآخرة‏}‏تبيين وليس بمتعلق بالأخسرين فإن من الناس من خسر الدنيا وربح الآخرة، وهؤلاء خسروا الآخرة بكفرهم فهم أخسر كل خاسر‏.‏

قوله ‏{‏وإنك لتلقى القرآن‏}‏أي يلقى عليك فتلقاه وتعلمه وتأخذه‏.‏ ‏{‏من لدن حكيم عليم‏}‏‏{‏لدن‏}‏بمعنى عند إلا أنها مبنية غير معربة، لأنها لا تتمكن، وفيها لغات ذكرت في الكهف وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق من الأقاصيص، وما في ذلك من لطائف حكمته، ودقائق علمه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 7 ‏:‏ 14 ‏)‏

‏{‏ إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون، فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين، يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم، وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون، إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم، وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين، فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ‏}‏

قوله ‏{‏إذ قال موسى لأهله‏}‏‏{‏إذ‏}‏منصوب بمضمر وهو أذكر؛ كأنه قال على أثر قوله‏.‏ ‏{‏وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم‏}‏‏:‏ خذ يا محمد من آثار حكمته وعلمه قصة موسى إذ قال لأهله‏.‏ ‏{‏إني آنست نارا‏}‏‏{‏إني آنست نارا‏}‏أي أبصرتها من بعد‏.‏ قال الحرث بن حلزة‏:‏

آنست نبأة وأفزعها القناص عصرا وقد دنا الإمساء

‏{‏سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون‏}‏قرأ عاصم وحمزة والكسائي‏}‏بشهاب قبس‏}‏بتنوين ‏{‏شهاب‏}‏‏.‏ والباقون بغير تنوين على الإضافة؛ أي بشعلة نار؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم‏.‏ وزعم الفراء في ترك التنوين أنه بمنزلة قولهم‏:‏ ولدار الآخرة، ومسجد الجامع، وصلاة الأولى؛ يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلفت أسماؤه‏.‏ قال النحاس‏:‏ إضافة الشيء إلى نفسه محال عند البصريين، لأن معنى الإضافة في اللغة ضم شيء إلى شيء فمحال أن يضم الشيء إلى نفسه، وإنما يضاف الشيء إلى الشيء ليتبين به معنى الملك أو النوع، فمحال أن يتبين أنه مالك نفسه أو من نوعها‏.‏ و‏{‏شهاب قبس‏}‏إضافة النوع والجنس، كما تقول‏:‏ هذا ثوب خز، وخاتم حديد وشبهه‏.‏ والشهاب كل ذي نور؛ نحو الكوكب والعود الموقد‏.‏ والقبس اسم لما يقتبس من جمر وما أشبهه؛ فالمعنى بشهاب من قبس‏.‏ يقال‏.‏ أقبست قبسا؛ والاسم قبس‏.‏ كما تقول‏:‏ قبضت قبضا‏.‏ والاسم القبض‏.‏ ومن قرأ‏}‏بشهاب قبس‏}‏جعله بدلا منه‏.‏ المهدوي‏:‏ أو صفة له؛ لأن القبس يجوز أن يكون اسما غير صفة، ويجوز أن يكون صفة؛ فأما كونه غير صفة فلأنهم قالوا قبسته أقبسه قبسا والقبس المقبوس؛ وإذا كان صفة فالأحسن أن يكون نعتا‏.‏ والإضافة فيه إذا كان غير صفة أحسن‏.‏ وهي إضافة النوع إلى جنسه كخاتم فضة وشبهه‏.‏ ولو قرئ بنصب قبس على البيان أو الحال كان أحسن‏.‏ ويجوز في غير القرآن بشهاب قبسا على أنه مصدر أو بيان أو حال‏.‏ ‏{‏لعلكم تصطلون‏}‏ أصل الطاء تاء فأبدل منها هنا طاء؛ لأن الطاء مطبقة والصاد مطبقة فكان الجمع بينهما حسنا، ومعناه يستدفئون من البرد‏.‏ يقال‏:‏ اصطلى يصطلي إذا استدفأ‏.‏ قال الشاعر‏:‏

النار فاكهة الشتاء فمن يرد أكل الفواكه شاتيا فليصطل

الزجاج‏:‏ كل أبيض ذي نور فهو شهاب‏.‏ أبو عبيدة‏:‏ الشهاب النار‏.‏ قال أبو النجم‏:‏

كأنما كان شهابا واقدا أضاء ضوءا ثم صار خامدا

أحمد بن يحيى‏:‏ أصل الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة والآخر لا نار فيه؛ وقول النحاس فيه حسن، والشهاب الشعاع المضيء ومنه الكوكب الذي يمد ضوءه في السماء‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

في كفه صعدة مثقفة فيها سنان كشعلة القبس

قوله ‏{‏فلما جاءها‏}‏أي فلما جاء موسى الذي ظن أنه نار وهي نور؛ قال وهب بن منبه‏.‏ فلما رأى موسى النار وقف قريبا منها، فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق، لا تزداد النار إلا عظما وتضرما، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنا؛ فعجب منها وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها؛ فمالت إليه؛ فخافها فتأخر عنها؛ ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضح أمرها على أنها مأمورة لا يدري من أمرها، إلى أن ‏{‏نودي أن بورك من في النار ومن حولها‏}‏‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في طه ‏{‏نودي‏}‏أي ناداه الله؛ كماقال ‏{‏وناديناه من جانب الطور الأيمن‏}‏ ‏.‏ ‏{‏أن بورك‏}‏قال الزجاج‏}‏أن‏}‏في موضع نصب؛ أي بأنه‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن تكون في موضع رفع جعلها اسم ما لم يسم فاعله‏.‏ وحكى أبو حاتم أن في قراءة أبي وابن عباس ومجاهد ‏{‏أن بوركت النار ومن حولها‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح، ولو صح لكان على التفسير، فتكون البركة راجعة إلى النار ومن حولها الملائكة وموسى‏.‏ وحكى الكسائي عن العرب‏:‏ باركك الله، وبارك فيك‏.‏ الثعلبي‏:‏ العرب تقول باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك، أربع لغات‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فبوركت مولودا وبوركت ناشئا وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب

الطبري‏:‏ قال ‏{‏بورك من في النار‏}‏ولم يقل بورك في من في النار على لغة من يقول باركك الله‏.‏ ويقال باركه الله، وبارك له، وبارك عليه، وبارك فيه بمعنى؛ أي بورك على من في النار وهو موسى، أو على من في قرب النار؛ لا أنه كان في وسطها‏.‏ وقال السدي‏:‏ كان في النار ملائكة فالتبريك عائد إلى موسى والملائكة؛ أي بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين هم حولها‏.‏ وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له، كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه؛قال ‏{‏رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت‏}‏ ‏.‏ وقول ثالث قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير‏:‏ قدس من في النار وهو الله سبحانه وتعالى، عنى به نفسه تقدس وتعالى‏.‏ قال ابن عباس ومحمد بن كعب‏:‏ النار نور الله عز وجل؛ نادى الله موسى وهو في النور؛ وتأويل هذا أن موسى عليه السلام رأى نورا عظيما فظنه نارا؛ وهذا لأن الله تعالى ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار لا أنه يتحيز في جهة ‏{‏وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله‏}‏ لا أنه يتحيز فيهما، ولكن يظهر في كل فعل فيعلم به وجود الفاعل‏.‏ وقيل على هذا‏:‏ أي بورك من في النار سلطانه وقدرته‏.‏ وقيل‏:‏ أي بورك ما في النار من أمر الله تعالى الذي جعله علامة‏.‏

قلت‏:‏ ومما يدل على صحة قول ابن عباس ما خرجه مسلم في صحيحه، وابن ماجة في سننه واللفظ له عن أبي موسى قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه حجابه النور لو كشفها لأحرقت سحبات وجهه كل شيء أدركه بصره‏)‏ ثم قرأ أبو عبيدة‏}‏أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين‏}‏أخرجه البيهقي أيضا‏.‏ ولفظ مسلم عن أبي موسى قال‏:‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات؛ فقال‏:‏ ‏(‏إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور - وفي رواية أبي بكر النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أنتهى إليه بصره من خلقه‏)‏ قال أبو عبيد‏:‏ يقال السبحات إنها جلال وجهه، ومنها قيل‏:‏ سبحان الله إنما هو تعظيم له وتنزيه‏.‏ وقوله ‏{‏لو كشفها‏}‏يعني لو رفع الحجاب عن أعينهم ولم يثبتهم لرؤيته لاحترقوا وما استطاعوا لها‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ النار حجاب من الحجب وهي سبعة حجب؛ حجاب العزة، وحجاب الملك، وحجاب السلطان، وحجاب النار، وحجاب النور، وحجاب الغمام، وحجاب الماء‏.‏ وبالحقيقة فالمخلوق المحجوب والله لا يحجبه شيء؛ فكانت النار نورا وإنما ذكره بلفظ النار؛ لأن موسى حسبه نارا، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ كانت النار بعينها فأسمعه تعالى كلامه من ناحيتها، وأظهر له ربوبيته من جهتها‏.‏ وهو كما روي أنه مكتوب في التوراة‏}‏جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير واستعلى من جبال فاران ‏.‏ فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا صلي الله عليه وسلم، وفاران مكة‏.‏ وسيأتي في القصص بإسماعه سبحانه كلامه من الشجرة زيادة بيان إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله ‏{‏وسبحان الله رب العالمين‏}‏تنزيها وتقديسا لله رب العالمين‏.‏ وقد تقدم في غير موضع، والمعنى‏:‏ أي يقول من حولها‏}‏وسبحان الله‏}‏فحذف‏.‏ وقيل‏:‏ إن موسى عليه السلام قاله حين فرغ من سماع النداء؛ استعانة بالله تعالى وتنزيها له؛ قال السدي‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول الله تعالى‏.‏ ومعناه‏:‏ وبورك فيمن سبح الله تعالى رب العالمين؛ حكاه ابن شجرة‏.‏

قوله ‏{‏يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم‏}‏الهاء عماد وليست بكناية في قول الكوفيين‏.‏ والصحيح أنها كناية عن الأمر والشأن‏.‏ ‏{‏أنا الله العزيز الحكيم‏}‏الغالب الذي ليس كمثله شيء ‏{‏الحكيم‏}‏في أمره وفعله‏.‏ وقيل‏:‏ قال موسى يا رب من الذي نادى‏؟‏ فقال له‏}‏إنه‏}‏أي إني أنا المنادي لك ‏{‏أنا الله‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏وألق عصاك‏}‏قال وهب بن منبه‏:‏ ظن موسى أن الله أمره أن يرفضها فرفضها وقيل‏:‏ إنما قال له ذلك ليعلم موسى أن المكلم له هو الله، وأن موسى رسوله؛ وكل نبي لابد له من آية في نفسه يعلم بها نبوته‏.‏ وفي الآية حذف‏:‏ أي وألق عصاك فألقاها من يده فصارت حية تهتز كأنها جان، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ لا صغيرة ولا كبيرة‏.‏ وقيل‏:‏ إنها قلبت له أولا حية صغيرة فلما أنس منها قلبت حية كبيرة‏.‏ وقيل‏:‏ انقلبت مرة حية صغيرة، ومرة حية تسعى وهي الأنثى، ومرة ثعبانا وهو الذكر الكبير من الحيات‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى انقلبت ثعبانا تهتز كأنها جان لها عظم الثعبان وخفة الجان واهتزازه وهي حية تسعى‏.‏ وجمع الجان جنان؛ ومنه الحديث ‏(‏نهي عن قتل الجنان التي في البيوت‏)‏‏.‏ ‏{‏ولى مدبرا‏}‏خائفا على عادة البشر ‏{‏ولم يعقب‏}‏أي لم يرجع؛ قاله مجاهد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لم يلتفت‏.‏ ‏{‏يا موسى لا تخف‏}‏أي من الحية وضررها‏.‏ ‏{‏إني لا يخاف لدي المرسلون‏}‏وتم الكلام ثم استثنى استثناء منقطعا فقال ‏{‏إلا من ظلم‏}‏وقيل‏:‏ إنه استثناء من محذوف؛ والمعنى‏:‏ إني لا يخاف لدي المرسلون وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم ‏{‏، إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء‏}‏فإنه لا يخاف؛ قاله الفراء‏.‏ قال النحاس‏:‏ استثناء من محذوف محال؛ لأنه استثناء من شيء لم يذكر ولو جاز هذا لجاز إني لأضرب القوم إلا زيدا بمعنى إني لا أضرب القوم وإنما أضرب غيرهم إلا زيدا؛ وهذا ضد البيان، والمجيء بما لا يعرف معناه‏.‏ وزعم الفراء أيضا أن بعض النحويين يجعل إلا بمعنى الواو أي ولا من ظلم؛ قال‏:‏

وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان

قال النحاس‏:‏ وكون ‏{‏إلا‏}‏بمعنى الواو لا وجه له ولا يجوز في شيء من الكلام، ومعنى ‏{‏إلا‏}‏خلاف الواو؛ لأنك إذا قلت‏:‏ جاءني إخوتك إلا زيدا أخرجت زيدا مما دخل فيه الإخوة فلا نسبة بينهما ولا تقارب‏.‏ وفي الآية قول آخر‏:‏ وهو أ يكون الاستثناء متصلا؛ والمعنى إلا من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد، سوى ما روي عن يحيى بن زكريا عليه السلام، وما ذكره الله تعالى في نبينا عليه السلام في قوله ‏{‏ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏}‏ ذكره المهدوي واختاره النحاس؛ وقال‏:‏ علم الله من عصى منهم يسر الخيفة فاستثناه فقال ‏{‏إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء‏}‏فإنه يخاف وإن كنت قد غفرت له‏.‏ الضحاك‏:‏ يعني آدم وداود عليهما السلام الزمخشري‏.‏ كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى عليه السلام بوكزه القبطي‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة‏؟‏ قيل له‏:‏ هذه سبيل العلماء بالله عز وجل أن يكونوا خائفين من معاصيهم وجلين، وهم أيضا لا يأمنون أن يكون قد بقي من أشراط التوبة شيء لم يأتوا به، فهم يخافون من المطالبة به‏.‏ وقال الحسن وابن جريج‏:‏ قال الله لموسى إني أخفتك لقتلك النفس‏.‏ قال الحسن‏:‏ وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب‏.‏ قال الثعلبي والقشيري والماوردي وغيرهم‏:‏ فالاستثناء على هذا صحيح؛ أي إلا من ظلم نفسه من النبيين والمرسلين فيما فعل من صغيرة قبل النبوة‏.‏ وكان موسى خاف من قتل القبطي وتاب منه‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنهم بعد النبوة معصومون من الصغائر والكبائر‏.‏ وقد مضى هذا في البقرة

قلت‏:‏ والأول أصح لتنصلهم من ذلك في القيامة كما في حديث الشفاعة، وإذا أحدث المقرب حدثا فهو وإن غفر له ذلك الحدث فأثر ذلك الحدث باق، وما دام الأثر والتهمة قائمة فالخوف كائن لا خوف العقوبة ولكن خوف العظمة، والمتهم عند السلطان يجد للتهمة حزازة تؤديه إلى أن يكدر عليه صفاء الثقة‏.‏ وموسى عليه السلام قد كان منه الحدث في ذلك الفرعوني، ثم استغفر وأقر بالظلم على نفسه، ثم غفر له، ثم قال بعد المغفرة‏}‏رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين‏}‏ ثم ابتلى من الغد بالفرعوني الآخر وأراد أن يبطش به، فصار حدثا آخر بهذه الإرادة‏.‏ وإنما ابتلي من الغد لقوله ‏{‏فلن أكون ظهيرا للمجرمين‏}‏وتلك كلمة اقتدار من قوله لن أفعل، فعوقب بالإرادة حين أراد أن يبطش ولم يفعل، فسلط عليه الإسرائيلي حتى أفشى سره؛ لأن الإسرائيلي لما رآه تشمر للبطش ظن أنه يريده، فأفشى عليه فـ ‏{‏قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس‏}‏ فهرب الفرعوني وأخبر فرعون بذلك أفشى الإسرائيلي على موسى، وكان القتيل بالأمس مكتوما أمره لا يدري من قتله، فلما علم فرعون بذلك، وجه في طلب موسى ليقتله، واشتد الطلب وأخذوا مجامع الطرق؛ جاء رجل يسعى فـ‏{‏قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك‏}‏ الآية‏.‏ فخرج كما أخبر الله‏.‏ فخوف موسى إنما كان من أجل هذا الحدث؛ فهو وإن قربه وبه وأكرمه واصطفاه بالكلام فالتهمة الباقية ولت به ولم يعقب‏.‏

قوله ‏{‏وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء‏}‏تقدم في طه ‏{‏في تسع آيات ‏}‏قال النحاس أحسن ما قيل فيه أن المعنى‏:‏ هذه الآية داخلة في تسع آيات‏.‏ المهدوي‏:‏ المعنى‏}‏ألق عصاك‏}‏‏{‏وأدخل يدك في جيبك‏}‏فهما آيتان من تسع آيات‏.‏ وقال القشيري معناه‏:‏ كما تقول خرجت في عشرة نفر وأنت أحدهم‏.‏ أي خرجت عاشر عشرة‏.‏ فـ‏{‏في‏}‏بمعنى ‏{‏من‏}‏لقربها منها كما تقول خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان أي منها‏.‏ وقال الأصمعي في قول امرئ القيس‏:‏

وهل ينعمن من كان آخر عهده ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال

في بمعنى من‏.‏ وقيل‏:‏ في بمعنى مع؛ فالآيات عشرة منها اليد، والتسع‏:‏ الفلق والعصا والجراد والقمل والطوفان والدم والضفادع والسنين والطمس‏.‏ وقد تقدم بيان جميعه‏.‏ ‏{‏إلى فرعون وقومه‏}‏قال الفراء‏:‏ في الكلام إضمار لدلالة الكلام عليه، أي إنك مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه‏.‏ ‏{‏إنهم كانوا قوما فاسقين‏}‏أي خارجين عن طاعة الله؛ وقد تقدم‏.‏

قوله ‏{‏فلما جاءتهم آياتنا مبصرة‏}‏أي واضحة بينة‏.‏ قال الأخفش‏:‏ ويجوز مبصرة وهو مصدر كما يقال‏:‏ الولد مجبنة‏.‏ ‏{‏قالوا هذا سحر مبين‏}‏جروا على عادتهم في التكذيب فلهذاقال ‏{‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا‏}‏أي تيقنوا أنها من عند الله وأنها ليست سحرا، ولكنهم كفروا بها وتكبروا أن يؤمنوا بموسى‏.‏ وهذا يدل على أنهم كانوا معاندين‏.‏ و‏{‏ظلما‏}‏و‏{‏علوا‏}‏منصوبان على نعت مصدر محذوف، أي وجحدوا بها جحودا ظلما وعلوا‏.‏ والباء زائدة أي وجحدوها؛ قال أبو عبيدة‏.‏ ‏{‏فانظر‏}‏يا محمد ‏{‏كيف كان عاقبة المفسدين‏}‏أي آخر أمر الكافرين الطاغين، انظر ذلك بعين قلبك وتدبر فيه‏.‏ الخطاب له والمراد غيره‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 15 ‏:‏ 16 ‏)‏

‏{‏ ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين، وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ‏

قوله ‏{‏ولقد آتينا داود وسليمان علما‏}‏أي فهما؛ قاله قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ علما بالدين والحكم وغيرهما كماقال ‏{‏وعلمناه صنعة لبوس لكم‏}‏ ‏.‏ وقيل‏:‏ صنعة الكيمياء‏.‏ وهو شاذ‏.‏ وإنما الذي آتاهما الله النبوة والخلافة في الأرض والزبور‏.‏ ‏{‏وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين‏}‏وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من عباد الله المؤمنين‏.‏ ‏{‏يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات‏}‏ ‏.‏ وقد تقدم هذا في غير موضع‏.‏

قوله ‏{‏وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء‏}‏قال الكلبي‏:‏ كان لداود صلى الله عليه وسلم تسعة عشر ولدا فورث سليمان من بينهم نبوته وملكه، ولو كان وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء؛ وقال ابن العربي؛ قال‏:‏ فلو كانت وراثة مال لانقسمت على العدد؛ فخص الله سليمان بما كان لداود من الحكمة والنبوة، وزاده من فضله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ داود من بني إسرائيل وكان ملكا وورث سليمان ملكه ومنزلته من النبوة، بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه فسمي ميراثا تجوزا؛ وهذا نحو قوله ‏{‏العلماء ورثة الأنبياء‏}‏ويحتمل قوله عليه السلام‏}‏إنا معشر الأنبياء لا نورث‏}‏أن يريد أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم، وإن كان فيهم من ورث ماله كـ ‏{‏زكريا‏}‏على أشهر الأقوال فيه؛ وهذا كما تقول‏:‏ إنا معشر المسلمين إنما شغلتنا العبادة، والمراد أن ذلك فعل الأكثر‏.‏ ومنه ما حكى سيبويه‏:‏ إنا معشر العرب أقرى الناس للضيف‏.‏

قلت‏:‏ قد تقدم هذا المعنى في ‏{‏مريم‏}‏وأن الصحيح القول الأول لقوله عليه السلام‏}‏إنا معشر الأنبياء لا نورث‏}‏فهو عام ولا يخرج منه شيء إلا بدليل‏.‏ قال مقاتل‏:‏ كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبدا من سليمان‏.‏ قال غيره‏:‏ ولم يبلغ أحد من الأنبياء ما بلغ ملكه؛ فإن الله سبحانه وتعالى سخر له الإنس والجن والطير والوحش، وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، وورث أباه في الملك والنبوة، وقام بعده بشريعته، وكل نبي جاء بعه موسى ممن بعث أو لم يبعث فإنما كان بشريعة موسى، إلى أن بعث المسيح عليه السلام فنسخها‏.‏ وبينه وبين الهجرة نحو من ألف وثمانمائة سنة‏.‏ واليهود تقول ألف وثلاثمائة واثنتان وستون سنة‏.‏ وقيل‏:‏ إن بين موته وبين مولد النبي صلى الله عليه سلم نحوا من ألف وسبعمائة‏.‏ واليهود تنقص منها ثلاثمائة سنة، وعاش نيفا وخمسين سنة‏.‏

قوله ‏{‏وقال يا أيها الناس‏}‏أي قال سليمان لبني إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله ‏{‏علمنا منطق الطير‏}‏أي تفضل الله علينا على ما ورثنا من داود من العلم والنبوة والخلافة في الأرض في أن فهمنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها‏.‏ قال مقاتل في الآية‏:‏ كان سليمان جالسا ذات يوم إذ مر به طائر يطوف، فقال لجلسائه‏:‏ أتدرون ما يقول هذا الطائر‏؟‏ إنها قالت لي‏:‏ السلام عليك أيها الملك المسلط والنبي لبني إسرائيل‏!‏ أعطاك الله الكرامة، وأظهرك على عدوك، إني منطلق إلى أفراخي ثم أمر بك الثانية؛ وإنه سيرجع إلينا الثانية ثم رجع؛ فقال إنه يقول‏:‏ السلام عليك أيها الملك المسلط، إن شئت أن تأذن لي كيما أكتسب على أفراخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت‏.‏ فأخبرهم سليمان بما قال؛ وأذن له فانطلق‏.‏ وقال فرقد السبخي‏:‏ مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه‏:‏ أتدرون ما يقول هذا البلبل‏؟‏ قالوا لا يا نبي الله‏.‏ قال إنه يقول‏:‏ أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء‏.‏ ومر بهدهد فوق شجرة وقد نصب له صبي فخا فقال له سليمان‏:‏ احذر يا هدهد‏!‏ فقال‏:‏ يا نبي الله‏!‏ هذا صبي لا عقل له فأنا أسخر به‏.‏ ثم رجع سليمان فوجده قد وقع في حبالة الصبي وهو في يده، فقال‏:‏ هدهد ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ ما رأيتها حتى وقعت فيها يا نبي الله‏.‏ قال‏:‏ ويحك‏!‏ فأنت ترى الماء تحت الأرض أما ترى الفخ‏!‏ قال‏:‏ يا نبي الله إذا نزل القضاء عمي البصر‏.‏ وقال كعب‏.‏ صاح ورشان عند سليمان بن داود فقال‏:‏ أتدرون ما يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنه يقول‏:‏ لدوا للموت وابنوا للخراب‏.‏ وصاحت فاختة، فقال‏:‏ أتدرون ما تقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنها تقول‏:‏ ليت هذا الخلق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا‏.‏ وصاح عنده طاوس، فقال‏:‏ أتدرون ما يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنه يقول‏:‏ كما تدين تدان‏.‏ وصاح عنده هدهد فقال‏:‏ أتدرون ما يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فإنه يقول‏:‏ من لا يرحم لا يرحم‏.‏ وصاح صرد عنده، فقال‏:‏ أتدرون ما يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنه يقول‏:‏ استغفروا الله يا مذنبين؛ فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله‏.‏ وقيل‏:‏ إن الصرد هو الذي دل آدم على مكان البيت‏.‏ وهو أول من صام؛ ولذلك يقال للصرد الصوام؛ روي عن أبي هريرة‏.‏ وصاحت عنده طيطوى فقال‏:‏ أتدرون ما تقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنها تقول‏:‏ كل حي ميت وكل جديد بال‏.‏ وصاحت خطافة عنده، فقال‏:‏ أتدرون ما تقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنها تقول‏:‏ قدموا خيرا تجدوه؛ فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها‏.‏ وقيل‏:‏ إن آدم خرج من الجنة فاشتكى إلى الله الوحشة، فآنسه الله تعالى بالخطاف وألزمها البيوت، فهي لا تفارق بني آدم أنسا لهم‏.‏ قال‏:‏ ومعها أربع آيات من كتاب الله عز وجل ‏{‏لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته‏}‏ إلى آخرها وتمد صوتها بقوله ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ ‏.‏ وهدرت حمامة عند سليمان فقال‏:‏ أتدرون ما تقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنها تقول‏:‏ سبحان ربي الأعلى عدد ما في سماواته وأرضه‏.‏ وصاح قمري عند سليمان، فقال‏:‏ أتدرون ما يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال إنه يقول‏:‏ سبحان ربي العظيم المهيمن‏.‏ وقال كعب‏:‏ وحدثهم سليمان، فقال‏:‏ الغراب يقول‏:‏ اللهم العن العشار؛ والحدأة تقول ‏{‏كل شيء هالك إلا وجهه‏}‏ ‏.‏ والقطاة تقول‏:‏ من سكت سلم‏.‏ والببغاء تقول‏:‏ ويل لمن الدنيا همه‏.‏ والضفدع يقول‏:‏ سبحان ربي القدوس‏.‏ والبازي يقول‏:‏ سبحان ربي وبحمده‏.‏ والسرطان يقول‏:‏ سبحان المذكور بكل لسان في كل مكان‏.‏

وقال مكحول‏:‏ صاح دراج عند سليمان، فقال‏:‏ أتدرون ما يقول‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إنه يقول‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ ‏.‏ وقال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الديك إذا صاح قال اذكروا الله يا غافلين‏)‏‏.‏ وقال الحسن بن علي بن أبي طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏النسر إذا صاح قال يا ابن آدم عش ما شئت فآخرك الموت وإذا صاح العقاب قال في البعد من الناس الراحة وإذا صاح القنبر قال إلهي العن مبغضي آل محمد وإذا صاح الخطاف قرأ ‏{‏الحمد لله رب العالمين‏}‏ إلى آخرها فيقول‏{‏ولا الضالين‏}‏ ويمد بها صوته كما يمد القارئ‏.‏ قال قتادة والشعبي‏:‏ إنما هذا الأمر في الطير خاصة، لقوله ‏{‏علمنا منطق الطير‏}‏والنملة طائر إذ قد يوجد له أجنحة‏.‏ قال الشعبي‏:‏ وكذلك كانت هذه النملة ذات جناحين‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ بل كان في جميع الحيوان، وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من جند سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص بالذكر لكثرة مداخلته؛ ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد ترداد أمر الطير‏.‏ وقال أبو جعفر النحاس‏:‏ والمنطق قد يقع لما يفهم بغير كلام، والله جل وعز أعلم بما أراد‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ من قال إنه لا يعلم إلا منطق الطير فنقصان عظيم، وقد آتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم ويخلق له فيه القول من النبات، فكان كل نبت يقول له‏:‏ أنا شجر كذا، أنفع من كذا وأضر من كذا؛ فما ظنك بالحيوان‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 17 ‏)‏

‏{‏ وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون ‏}‏

قوله ‏{‏وحشر لسليمان‏}‏‏{‏حشر‏}‏جمع والحشر الجمع ومنه قوله عز وجل ‏{‏وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا‏}‏ واختلف الناس في مقدار جند سليمان عليه السلام؛ فيقال‏:‏ كان معسكره مائة فرسخ في مائة‏:‏ خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية‏.‏ ابن عطية‏:‏ واختلف في معسكره ومقدار جنده اختلافا شديدا غير أن الصحيح أن ملكه كان عظيما ملأ الأرض، وانقادت له المعمورة كلها‏.‏ ‏{‏فهم يوزعون‏}‏معناه يرد أولهم إلى آخرهم ويكفون‏.‏ قال قتادة‏:‏ كان لكل صنف وزعة في رتبتهم ومواضعهم من الكرسي ومن الأرض إذا مشوا فيها‏.‏ يقال‏:‏ وزعته أوزعه وزعا أي كففته‏.‏ والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم‏.‏ روى محمد بن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ لما وقف وسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى - تعني يوم الفتح - قال أبو قحافة وقد كف بصره يومئذ لابنته‏:‏ اظهري بي على أبي قبيس‏.‏ قالت‏:‏ فأشرفت به عليه فقال‏:‏ ما ترين‏؟‏ قالت‏:‏ أرى سوادا مجتمعا‏.‏ قال‏:‏ تلك الخيل‏.‏ قالت‏:‏ وأرى رجلا من السواد مقبلا ومدبرا‏.‏ قال‏:‏ ذلك الوازع يمنعها أن تنتشر‏.‏ وذكر تمام الخبر‏.‏ ومن هذا قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزيل الرحمة وتجاوز الله عنه الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر‏)‏ قيل‏:‏ وما رأى يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أما أنه رأى جبريل يزع الملائكة‏)‏ ‏"‏خرجه الموطأ‏"‏‏.‏ ومن هذا المعنى قول النابغة‏:‏

على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع

آخر‏:‏

ولما تلاقينا جرت من جفوننا دموع وزعنا غربها بالأصابع

آخر‏:‏

ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى من الناس إلا وافر العقل كامله

وقيل‏:‏ هو من التوزيع بمعنى التفريق‏.‏ والقوم أوزاع أي طوائف‏.‏ وفي القصة‏:‏ إن الشياطين نسجت له بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم، وكان يوضع له كرسي من ذهب وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة‏.‏

في الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وزعة يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض؛ إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم‏.‏ وقال ابن عون‏:‏ سمعت الحسن يقول وهو في مجلس قضائه لما رأى ما يصنع الناس قال‏:‏ والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة‏.‏ وقال الحسن أيضا‏:‏ لابد للناس من وازع؛ أي من سلطان يكفهم‏.‏ وذكر ابن القاسم قال حدثنا مالك أن عثمان بن عفان كان يقول‏:‏ ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن؛ أي من الناس‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ قلت لمالك ما يزع‏؟‏ قال‏:‏ يكف‏.‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن وهذا جهل بالله وحكمته‏.‏ قال‏:‏ فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة لقوام الخلق، لا زيادة عليها، ولا نقصان معها، ولا يصلح سواها، ولكن الظلمة خاسوا بها، وقصروا عنها، وأتوا ما أتوا بغير نية، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها، فلم يرتدع الخلق بها، ولو حكموا بالعدل، وأخلصوا النية، لاستقامت الأمور، وصلح الجمهور‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 18 ‏:‏ 19 ‏)‏

‏{‏ حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون، فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ‏}‏

قوله ‏{‏حتى إذا أتوا على وادي النمل‏}‏قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أنه واد بأرض الشام‏.‏ وقال كعب‏:‏ هو بالطائف‏.‏

قوله ‏{‏قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم‏}‏قال الشعبي‏:‏ كان للنملة جناحان فصارت من الطير، فلذلك علم منطقها ولولا ذلك لما علمه‏.‏ وقد مضى هذا ويأتي‏.‏ وقرأ سليمان التيمي بمكة‏}‏نملة‏}‏و‏{‏النمل‏}‏بفتح النون وضم الميم‏.‏ وعنه أيضا ضمهما جميعا‏.‏ وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها وقلة قرارها‏.‏ قال كعب‏:‏ مر سليمان عليه السلام بوادي السدير من أودية الطائف، فأتى على وادي النمل، فقامت نملة تمشي وهي عرجاء تتكاوس مثل الذئب في العظم؛ فنادت‏}‏يا أيها النمل‏}‏الآية‏.‏ الزمخشري‏:‏ سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال، وكانت تمشي وهي عرجاء تتكاوس؛ وقيل‏:‏ كان اسمها طاخية‏.‏ وقال السهيلي‏:‏ ذكروا اسم النملة المكلمة لسليمان عليه السلام، وقالوا اسمها حرميا، ولا أدري كيف يتصور للنملة اسم علم والنمل لا يسمي بعضهم بعضا، ولا الآدميون يمكنهم تسمية واحدة منهم باسم علم، لأنه لا يتميز للآدميين بعضهم من بعض، ولا هم أيضا واقعون تحت ملكة بني آدم كالخيل والكلاب ونحوها، فإن العلمية فيما كان كذلك موجودة عند العرب‏.‏ فإن قلت‏:‏ إن العلمية موجودة في الأجناس كثعالة وأسامة وجعار وقثام في الضبع ونحو هذا كثير؛ فليس اسم النملة من هذا؛ لأنهم زعموا أنه اسم علم لنملة واحدة معينة من بين سائر النمل، وثعالة ونحوه لا يختص بواحد من الجنس، بل كل واحد رأيته من ذلك الجنس فهو ثعالة، وكذلك أسامة وابن آوى وابن عرس وما أشبه ذلك‏.‏ فإن صح ما قالوه فله وجه، وهو أن تكون هذه النملة الناطقة قد سميت بهذا الاسم في التوراة أو في الزبور أو في بعض الصحف سماها الله تعالى بهذا الاسم، وعرفها به الأنبياء قبل سليمان أو بعضهم‏.‏ وخصت بالتسمية لنطقها وإيمانها فهذا وجه‏.‏ ومعنى قولنا بإيمانها أنها قالت للنمل‏}‏لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون‏}‏فقولها‏}‏وهم لا يشعرون‏}‏التفاتة مؤمن‏.‏ أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن تبسم سليمان سرور بهذه الكلمة منها؛ ولذلك أكد التبسم بقوله ‏{‏ضاحكا‏}‏إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا، ألا تراهم يقولون تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزئين‏.‏ وتبسم الضحك إنما هو عن سرور، ولا يسر نبي بأمر دنيا؛ وإنما سر بما كان من أمر الآخرة والدين‏.‏ وقولها‏}‏وهم لا يشعرون‏}‏إشارة إلى الدين والعدل والرأفة‏.‏ ونظير قول النملة في جند سليمان‏}‏وهم لا يشعرون‏}‏قول الله تعالى في جند محمد صلى الله عليه وسلم ‏}‏فتصيبكم منهم معرة بغير علم‏}‏ ‏.‏ التفاتا إلى أنهم لا يقصدون هدر مؤمن‏.‏ إلا أن المثني على جند سليمان هي النملة بإذن الله تعالى، والمثني على جند محمد صلى الله عليه وسلم هو الله عز وجل بنفسه؛ لما لجنود محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل على جند غيره من الأنبياء؛ كما لمحمد صلى الله عليه وسلم فضل على جميع النبيين صلى الله عليهم وسلم أجمعين‏.‏ وقرأ شهر بن حوشب‏}‏مسكنكم‏}‏بسكون السين على الإفراد‏.‏ وفي مصحف أبي ‏{‏مساكنكن لا يحطمنكم‏}‏‏.‏ وقرأ سليمان التيمي‏}‏مساكنكم لا يحطمَنْكُنَّ‏}‏ذكره النحاس؛ أي لا يكسرنكم بوطئهم عليكم وهم لا يعلمون بكم قال المهدوي‏:‏ وأفهم الله تعالى النملة هذا لتكون معجزة لسليمان‏.‏ وقال وهب‏:‏ أمر الله تعالى الريح ألا يتكلم أحد بشيء إلا طرحته في سمع سليمان؛ بسبب أن الشياطين أرادت كيده‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذا الوادي كان ببلاد اليمن وأنها كانت نملة صغيرة مثل النمل المعتاد قاله الكلبي‏.‏ وقال نوف الشامي وشقيق بن سلمة‏:‏ كان نمل ذلك الوادي كهيئة الذئاب في العظم‏.‏ وقال بريدة الأسلمي‏:‏ كهيئة النعاج‏.‏ قال محمد بن على الترمذي‏:‏ فإن كان على هذه الخلقة فلها صوت، وإنما افتقد صوت النمل لصغر خلقها، وإلا فالأصوات في الطيور والبهائم كائنة، وذلك منطقهم، وفي تلك المناطق معاني التسبيح وغير ذلك، وهو قوله ‏{‏وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏}‏ ‏.‏

قلت‏:‏ وقوله ‏{‏لا يحطمنكم‏}‏يدل على صحة قول الكلبي؛ إذ لو كانت كهيئة الذئاب والنعاج لما حطمت بالوطء؛ والله أعلم‏.‏ وقال ‏{‏ادخلوا مساكنكم‏}‏فجاء على خطاب الآدميين لأن النمل ههنا أجري مجرى الآدميين حين نطق كما ينطق الآدميون‏.‏ قال أبو إسحاق الثعلبي‏:‏ ورأيت في بعض الكتب أن سليمان قال لها لم حذرت النمل‏؟‏ أخفت ظلمي ‏؟‏ أما علمت أني نبي عدل‏؟‏ فلم قلت‏}‏يحطمنكم سليمان وجنوده‏}‏فقالت النملة‏:‏ أما سمعت قولي‏}‏وهم لا يشعرون‏}‏مع أني لم أرد حطم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب خشية أن يتمنين مثل ما أعطيت، أو يفتتن بالدنيا، ويشغلن بالنظر إلى ملكك عن التسبيح والذكر‏.‏ فقال لها سليمان‏:‏ عظيني‏.‏ فقالت النملة‏:‏ أما علمت لم سمي أبوك داود‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالت‏:‏ لأنه داوى جراحة فؤاده؛ هل علمت لم سميت سليمان‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالت‏:‏ لأنك سليم الناحية على ما أوتيته بسلامة صدرك، وإن لك أن تلحق بأبيك‏.‏ ثم قالت‏:‏ أتدري لم سخر الله لك الريح‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالت‏:‏ أخبرك أن الدنيا كلها ريح‏.‏ ‏{‏فتبسم ضاحكا من قولها‏}‏متعجبا ثم مضت مسرعة إلى قومها، فقالت‏:‏ هل عندكم من شيء نهديه إلى نبي الله‏؟‏ قالوا‏:‏ وما قدر ما نهدي له‏!‏ والله ما عندنا إلا نبقة واحدة‏.‏ قالت‏:‏ حسنة؛ ايتوني بها‏.‏ فأتوها بها فحملتها بفيها فانطلقت تجرها، فأمر الله الريح فحملتها، وأقبلت تشق الإنس والجن والعلماء والأنبياء على البساط، حتى وقعت بين يديه، ثم وضعت تلك النبقة من فيها في كفه، وأنشأت تقول‏:‏

ألم ترنا نهدي إلى الله ماله وإن كان عنه ذا غني فهو قابله

ولو كان يهدي للجليل بقدره لقصر عنه البحر يوما وساحله

ولكننا نهدي إلى من نحبه فيرضى به عنا ويشكر فاعله

وما ذاك إلا من كريم فعاله وإلا فما في ملكنا ما يشاكله

فقال لها‏:‏ بارك الله فيكم؛ فهم بتلك الدعوة أشكر خلق الله وأكثر خلق الله‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب‏:‏ الهدهد والصرد والنملة والنحلة؛ خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبدالحق وروي من حديث أبي هريرة‏.‏ وقد مضى في الأعراف فالنملة أثنت على سليمان وأخبرت بأحسن ما تقدر عليه بأنهم لا يشعرون إن حطموكم، ولا يفعلون ذلك عن عمد منهم، فنفت عنهم الجور؛ ولذلك نهى عن قتلها، وعن قتل الهدهد؛ لأنه كان دليل سليمان على الماء ورسوله إلى بلقيس‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارا بوالديه‏.‏ والصرد يقال له الصوام‏.‏ وروي عن أبي هريرة قال‏:‏ أول من صام الصرد ولما خرج إبراهيم عليه السلام من الشام إلى الحرم في بناء البيت كانت السكينة معه والصرد، فكان الصرد دليله على الموضع والسكينة مقداره، فلما صار إلى البقعة وقعت السكينة على موضع البيت ونادت وقالت‏:‏ ابن يا إبراهيم على مقدار ظلي‏.‏ وقد تقدم في الأعراف سبب النهي عن قتل الضفدع وفي النحل النهي عن قتل النحل‏.‏ والحمد لله‏.‏

قرأ الحسن‏}‏لا يحطمنكم‏}‏وعنه أيضا ‏{‏لا يَحِطِّمَنَّكم‏}‏وعنه أيضا وعن أبي رجاء‏}‏لا يُحَطِّمَنَّكم‏}‏والحطْم الكسر‏.‏ حطمته حطما أي كسرته وتحطَّم؛ والتحطيم التكسير، ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏يجوز أن يكون حالا من سليمان، وجنوده، والعامل في الحال ‏{‏يحطمنكم‏}‏‏.‏ أو حالا من النملة والعامل ‏}‏قالت‏}‏‏:‏ أي قالت ذلك في حال غفلة الجنود؛ كقولك‏:‏ قمت والناس غافلون‏.‏ أو حالا من النمل أيضا والعامل ‏{‏قالت‏}‏على أن المعنى‏:‏ والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها‏.‏ وفيه بعد وسيأتي‏.‏

‏"‏روى مسلم من حديث أبي هريرة‏"‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله تعالى إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح‏)‏ وفي طريق آخر فهلا نملة واحدة ‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ يقال إن هذا النبي هو موسى عليه السلام، وإنه قال‏:‏ يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع‏.‏ فكأنه أحب أن يريه ذلك من عنده، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلها، وعندها قرية النمل، فغلبه النوم، فلما وجد لذة النوم لدغته النملة فأضجرته، فدلكهن بقدمه فأهلكهن، وأحرق تلك الشجرة التي عندها مساكنهم، فأراه الله العبرة في ذلك آية‏:‏ لما لدغتك نملة فكيف أصبت الباقين بعقوبتها‏!‏ يريد أن ينبهه أن العقوبة من الله تعالى تعم فتصير رحمة على المطيع وطهارة وبركة، وشرا ونقمة على العاصي‏.‏ وعلى هذا فليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل؛ فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك، ولا أحد من خلقه أعظم حرمة من المؤمن، وقد أبيح لك دفعه عنك بقتل وضرب على المقدار، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت لك وسلطت عليها، فإذا آذاك أبيح لك قتله‏.‏ وروي عن إبراهيم‏:‏ ما آذاك من النمل فاقتله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إلا نملة واحدة‏)‏ دليل على أن الذي يؤذي يؤذى ويقتل، وكلما كان القتل لنفع أو دفع ضرر فلا بأس به عند العلماء‏.‏ وأطلق له نملة ولم يخص تلك النملة التي لدغت من غيرها؛ لأنه ليس المراد القصاص؛ لأنه لو أراده لقال ألا نملتك التي لدغتك، ولكن قال‏:‏ ألا نملة مكان نملة؛ فعم البريء والجاني بذلك، ليعلم أنه أراد أن ينبهه لمسألته ربه في عذاب أهل قرية وفيهم المطيع والعاصي‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذا النبي كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة في شرعه؛ فلذلك إنما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير من النمل لا في أصل الإحراق‏.‏ ألا ترى قوله‏:‏ ‏(‏فهلا نملة واحدة‏)‏ أي هلا حرقت نملة واحدة‏.‏ وهذا بخلاف شرعنا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن التعذيب بالنار‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏لا يعذب بالنار إلا الله‏)‏‏.‏ وكذلك أيضا كان قتل النمل مباحا في شريعة ذلك النبي؛ فإن الله لم يعتبه على أصل قتل النمل‏.‏ وأما شرعنا فقد جاء من حديث ابن عباس وأبي هريرة النهي عن ذلك‏.‏ وقد كره مالك قتل النمل إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذا النبي إنما عاتبه الله حيث انتقم لنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد، وكان الأولى الصبر والصفح؛ لكن وقع للنبي أن هذا النوع مؤذ لبني آدم، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان غير الناطق، فلو انفرد له هذا النظر ولم ينضم إليه التشفي الطبعي لم يعاتب‏.‏ والله أعلم‏.‏ لكن لما انضاف إليه التشفي الذي دل عليه سياق الحديث عوتب عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح‏)‏ مقتضى هذا أنه تسبيح بمقال ونطق، كما أخبر الله عن النمل أن لها منطقا وفهمه سليمان عليه السلام - وهذا معجزة له - وتبسم من قولها‏.‏ وهذا يدل دلالة واضحة أن للنمل نطقا وقولا، لكن لا يسمعه كل أحد، بل من شاء الله تعالى ممن خرق له العادة من نبي أو ولي‏.‏ ولا ننكر هذا من حيث أنا لا نسمع ذلك؛ فإنه لا يلزم من عدم الإدراك عدم المدرك في نفسه‏.‏ ثم إن الإنسان يجد في نفسه قولا وكلاما ولا يسمع منه إلا إذا نطق بلسانه‏.‏ وقد خرق الله العادة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فأسمعه كلام النفس من قوم تحدثوا مع أنفسهم وأخبرهم بما في نفوسهم، كما قد نقل منه الكثير من أئمتنا في كتب معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ وكذلك وقع لكثير ممن أكرمه الله تعالى من الأولياء مثل ذلك في غير ما قضية‏.‏ وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏إن في أمتي محدثين وإن عمر منهم‏)‏‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في تسبيح الجماد في الإسراء وإنه تسبيح لسان ومقال لا تسبيح دلالة حال‏.‏ والحمد لله‏.‏

قوله ‏{‏فتبسم ضاحكا من قولها‏}‏وقرأ ابن السميقع‏}‏ضحكا‏}‏بغير ألف، وهو منصوب على المصدر بفعل محذوف يدل عليه تبسم، كأنه قال ضحك ضحكا، هذا مذهب سيبويه‏.‏ وهو عند غير سيبويه منصوب بنفس ‏{‏تبسم‏}‏لأنه في معنى ضحك؛ ومن قرأ‏}‏ضاحكا‏}‏فهو منصوب على الحال من الضمير في ‏{‏تبسم‏}‏‏.‏ والمعنى تبسم مقدار الضحك؛ لأن الضحك يستغرق التبسم، والتبسم دون الضحك وهو أوله‏.‏ يقال‏:‏ بسم بالفتح يبسم بسما فهو باسم وابتسم وتبسم، والمبسم الثغر مثل المجلس من جلس يجلس ورجل مبسام وبسام كثير التبسم، فالتبسم ابتداء الضحك‏.‏ والضحك عبارة عن الابتداء والانتهاء، إلا أن الضحك يقتضي مزيدا على التبسم، فإذا زاد ولم يضبط الإنسان نفسه قيل قهقه‏.‏ والتبسم ضحك الأنبياء عليهم السلام في غالب أمرهم‏.‏ وفي الصحيح عن جابر بن سمرة وقيل له‏:‏ أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال‏:‏ نعم كثيرا؛ كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح - أو الغداة - حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون ويأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم‏.‏ وفيه عن سعد قال‏:‏ كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ارم فداك أبي وأمي‏)‏ قال فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه فسقط فانكشفت عورته، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه‏.‏ فكان عليه السلام في أكثر أحواله يتبسم‏.‏ وكان أيضا يضحك في أحوال أخر ضحكا أعلى من التبسم وأقل من الاستغراق الذي تبدو فيه اللهوات‏.‏ وكان في النادر عند إفراط تعجبه ربما ضحك حتى بدت نواجذه‏.‏ ود كره العلماء منه الكثرة؛ كما قال لقمان لابنه‏:‏ يا بني إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب‏.‏ وقد روي مرفوعا من حديث أبي ذر وغيره‏.‏ وضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه حين رمى سعد الرجل فأصابه، إنما كان سرورا بإصابته لا بانكشاف عورته؛ فإنه المنزه عن ذلك صلى الله عليه وسلم‏.‏

لا اختلاف عند العلماء أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول‏.‏ وقد قال الشافعي‏:‏ الحمام أعقل الطير‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والنمل حيوان فطن قوي شمام جدا يدخر ويتخذ القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت، ويشق الكزبرة بأربع قطع؛ لأنها تنبت إذا قسمت شقتين، ويأكل في عامه نصف ما جمع ويستبقي سائره عدة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذه خواص العلوم عندنا، وقد أدركتها النمل بخلق الله ذلك لها؛ قال الأستاذ أبو المظفر شاهنود الإسفرايني‏:‏ ولا يبعد أن تدرك البهائم حدوث العالم وحدوث المخلوقات؛ ووحدانية الإله، ولكننا لا نفهم عنها ولا تفهم عنا، أما أنا نطلبها وهي تفر منا فبحكم الجنسية‏.‏

قوله ‏{‏وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي‏}‏فـ ‏{‏أن‏}‏مصدرية‏.‏ و‏{‏أوزعني‏}‏أي ألهمني ذلك‏.‏ وأصله من وزع فكأنه قال‏:‏ كفني عما يسخط‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ يزعم أهل الكتاب أن أم سليمان هي امرأة أوريا التي امتحن الله بها داود، أو أنه بعد موت زوجها تزوجها داود فولدت له سليمان عليه السلام‏.‏ وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة ص إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله ‏{‏وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين‏}‏أي مع عبادك، عن ابن زيد‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى في جملة عبادك الصالحين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 20 - 28 ‏)‏

‏{‏وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين، لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين، فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين، إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون، ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون، الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم، قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون ‏}‏

قوله ‏{‏وتفقد الطير‏}‏ذكر شيئا آخر مما جرى له في مسيره الذي كان فيه من النمل ما تقدم‏.‏ والتفقد تطلب ما غاب عنك من شيء‏.‏ والطير اسم جامع والواحد طائر، والمراد بالطير هنا جنس الطير وجماعتها‏.‏ وكانت تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها‏.‏ واختلف الناس في معنى تفقده للطير؛ فقالت فرقة‏:‏ ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك، والتهمم بكل جزء منها؛ وهذا ظاهر الآية‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ بل تفقد الطير لأن الشمس دخلت من موضع الهدهد حين غاب؛ فكان ذلك سبب تفقد الطير؛ ليتبين من أين دخلت الشمس‏.‏ وقال عبدالله بن سلام‏:‏ إنما طلب الهدهد لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الأرض؛ لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء، وأن الهدهد كان يرى باطن الأرض وظاهرها؛ فكان يخبر سليمان بموضع الماء، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة؛ تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ الشاة؛ قاله ابن عباس فيما روي عن ابن سلام‏.‏ قال أبو مجلز قال ابن عباس لعبدالله بن سلام‏:‏ أريد أن أسألك عن ثلاث مسائل‏.‏ قال‏:‏ أتسألني وأنت تقرأ القرآن‏؟‏ قال‏:‏ نعم ثلاث مرات‏.‏ قال‏:‏ لم تفقد سليمان الهدهد دون سائر الطير‏؟‏ قال‏:‏ احتاج إلى الماء ولم يعرف عمقه - أو قال مسافته - وكان الهدهد يعرف ذلك دون سائر الطير فتفقده‏.‏ وقال في كتاب النقاش‏:‏ كان الهدهد مهندسا‏.‏ وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يذكر شأن الهدهد فقال له‏:‏ قف يا وقاف كيف يرى الهدهد باطن الأرض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه‏؟‏‏!‏ فقال له ابن عباس‏:‏ إذا جاء القدر عمي البصر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ قيل لابن عباس كيف تفقد الهدهد من الطير‏؟‏ فقال‏:‏ نزل منزلا ولم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد مهتديا إليه، فأراد أن يسأله‏.‏ قال مجاهد‏:‏ فقلت كيف يهتدي والصبي يضع له الحبالة فيصيده‏؟‏ قال‏:‏ إذا جاء القدر عمي البصر‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ ولا يقدر على هذا الجواب إلا عالم القرآن‏.‏

قلت‏:‏ هذا الجواب قد قاله الهدهد لسليمان كما تقدم‏.‏ وأنشدوا‏:‏

إذا أراد الله أمرا بامرئ وكان ذا عقل ورأي ونظر

وحيلة يعملها في دفع ما يأتي به مكروه أسباب القدر

غطى عليه سمعه وعقله وسله من ذهنه سل الشعر

حتى إذا أنفذ فيه حكمه رد عليه عقله ليعتبر

قال الكلبي‏:‏ لم يكن له في مسيره إلا هدهد واحد‏.‏ والله أعلم‏.‏

في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته؛ والمحافظة عليهم‏.‏ فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظام الملك‏.‏ ويرحم الله عمر فإنه كان على سيرته؛ قال‏:‏ لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب ليسأل عنها عمر‏.‏ فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان، وتضيع الرعية ويضيع الرعيان‏.‏ وفي الصحيح عن عبدالله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد‏:‏ أبو عبيدة وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام‏.‏ الحديث؛ قال علماؤنا‏:‏ كان هذا الخروج من عمر بعد ما فتح بيت المقدس سنة سبع عشرة على ما ذكره خليفة بن خياط‏.‏ كان يتفقد أحوال رعيته وأحوال أمرائه بنفسه، فقد دل القرآن والسنة وبينا ما يجب على الإمام من تفقد أحوال رعيته، ومباشرة ذلك بنفسه، والسفر إلى ذلك وإن طال‏.‏ ورحم الله ابن المبارك حيث يقول‏:‏

وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها

قوله ‏{‏ما لي لا أرى الهدهد‏}‏أي ما للهدهد لا أراه؛ فهو من القلب الذي لا يعرف معناه‏.‏ وهو كقولك‏:‏ ما لي أراك كئيبا‏.‏ أي مالك‏.‏ والهدهد طير معروف وهدهدته صوته‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ إنما مقصد الكلام الهدهد غاب لكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه، فاستفهم على جهة التوقف على اللازم وهذا ضرب من الإيجاز‏.‏ والاستفهام الذي في قوله ‏{‏مالي‏}‏ناب مناب الألف التي تحتاجها أم‏.‏ وقيل‏:‏ إنماقال ‏{‏مالي لا أرى الهدهد‏}‏؛ لأنه اعتبر حال نفسه، إذ علم أنه أوتي الملك العظيم، وسخر له الخلق، فقد لزمه حق الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العدل، فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصر في حق الشكر، فلأجله سلبها فجعل يتفقد نفسه؛ فقال ‏{‏مالي‏}‏‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهدا يفعله شيوخ الصوفية إذا فقدوا مالهم، تفقدوا أعمالهم؛ هذا في الآداب، فكيف بنا اليوم ونحن نقصر في الفرائض‏!‏‏.‏ وقرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم والكسائي وهشام وأيوب‏}‏مالي‏}‏بفتح الياء وكذلك في يس ‏{‏ومالي لا أعبد الذي فطرني‏}‏ ‏.‏ وأسكنها حمزة ويعقوب‏.‏ وقرأ الباقون المدنيون وأبو عمرو‏:‏ بفتح التي في يس وإسكان هذه‏.‏ قال أبو عمرو‏:‏ لأن هذه التي في النمل استفهام، والأخرى انتفاء‏.‏ واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان ‏{‏فقال مالي‏}‏‏.‏ وقال أبو جعفر النحاس‏:‏ زعم قوم أنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان مبتدأ، وبين ما كان معطوفا على ما قبله، وهذا ليس بشيء؛ وإنما هي ياء النفس، من العرب من يفتحها ومنهم من يسكنها، فقرؤوا باللغتين؛ واللغة الفصيحة في ياء النفس أن تكون مفتوحة؛ لأنها اسم وهي على حرف واحد، وكان الاختيار ألا تسكن فيجحف الاسم‏.‏ ‏{‏أم كان من الغائبين‏}‏بمعنى بل‏.‏

قوله ‏{‏لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه‏}‏دليل على أن الحد على قدر الذنب لا على قدر الجسد، أما أنه يرفق بالمحدود في الزمان والصفة‏.‏ روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أن تعذيبه للطير كان بأن ينتف ريشه‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ ريشه أجمع‏.‏ وقال يزيد بن رومان‏:‏ جناحاه‏.‏ فعل سليمان هذا بالهدهد إغلاظا على العاصين، وعقابا على إخلاله بنوبته ورتبته؛ وكأن الله أباح له ذلك، كما أباح ذبح البهائم والطير للأكل وغيره من المنافع‏.‏ والله أعلم‏.‏ وفي نوادر الأصول قال‏:‏ حدثنا سليمان بن حميد أبو الربيع الإيادي، قال حدثنا عون بن عمارة، عن الحسين الجعفي، عن الزبير بن الخريت، عن عكرمة، قال‏:‏ إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارا بوالديه‏.‏ وسيأتي‏.‏ وقيل‏:‏ تعذيبه أن يجعل مع أضداده‏.‏ وعن بعضهم‏:‏ أضيق السجون معاشرة الأضداد وقيل‏:‏ لألزمنه خدمة أقرانه‏.‏ وقيل‏:‏ إيداعه القفص‏.‏ وقيل‏:‏ بأن يجعله للشمس بعد نتفه‏.‏ وقيل‏:‏ بتبعيده عن خدمتي، والملوك يؤدبون بالهجران الجسد بتفريق إلفه‏.‏ وهو مؤكد بالنون الثقيلة، وهي لازمة هي أو الخفيفة‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ ولو قرئت ‏{‏لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه‏}‏جاز‏.‏ ‏{‏أو ليأتيني بسلطان مبين‏}‏أي بحجة بينة‏.‏ وليست اللام في ‏{‏ليأتيني‏}‏لام القسم لأنه لا يقسم سليمان على فعل الهدهد؛ ولكن لما جاء في أثر قوله ‏{‏لأعذبنه‏}‏وهو مما جاز به القسم أجراه مجراه‏.‏ وقرأ ابن كثير وحده‏}‏ليأتينني‏}‏بنونين‏.‏

قوله ‏{‏فمكث غير بعيد‏}‏أي الهدهد‏.‏ والجمهور من القراء على ضم الكاف، وقرأ عاصم وحده بفتحها‏.‏ ومعناه في القراءتين أقام‏.‏ قال سيبويه‏:‏ مكث يمكث مكوثا كما قالوا قعد يقعد قعودا‏.‏ قال‏:‏ ومكث مثل ظرف‏.‏ قال غيره‏:‏ والفتح أحسن لقوله ‏{‏ماكثين‏}‏ إذ هو من مكث؛ يقال‏:‏ مكث يمكث فهو ماكث؛ ومكث يمكث مثل عظم يعظم فهو مكيث؛ مثل عظيم‏.‏ ومكث يمكث فهو ماكث؛ مثل حمض يحمض فهو حامض‏.‏ والضمير في ‏{‏مكث‏}‏يحتمل أن يكون لسليمان؛ والمعنى‏:‏ بقي سليمان بعد التفقد والوعيد غير طويل أي غير وقت طويل‏.‏ ومحتمل أن يكون للهدهد وهو الأكثر‏.‏ فجاء‏}‏فقال أحطت بما لم تحط به‏}‏‏{‏فقال أحطت بما لم تحط به‏}‏أي علمت ما لم تعلمه من الأمر فكان في هذا رد على من قال‏:‏ إن الأنبياء تعلم الغيب‏.‏ وحكى الفراء ‏{‏أحط‏}‏يدغم التاء في الطاء‏.‏ وحكى ‏{‏أحت‏}‏بقلب الطاء تاء وتدغم‏.‏

قوله ‏{‏وجئتك من سبأ بنبأ يقين‏}‏أعلم سليمان ما لم يكن يعلمه، ودفع عن نفسه ما توعده من العذاب والذبح‏.‏ وقرأ الجمهور‏}‏سبأ‏}‏بالصرف‏.‏ وابن كثير وأبو عمرو‏}‏سبأ‏}‏بفتح الهمزة وترك الصرف؛ فالأول على أنه اسم رجل نسب إليه قوم، وعليه قول الشاعر‏:‏

الواردون وتيم في ذرى سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس

وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل، وقال سبأ اسم مدينة تعرف بمأرب باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام‏.‏

قلت‏:‏ وقع في عيون المعاني للغزنوي ثلاثة أميال‏.‏ قتادة والسدي بعث إليه اثنا عشر نبيا‏.‏ وأنشد للنابغة الجعدي‏:‏

من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيله العرما

قال‏:‏ فمن لم يصرف قال إنه اسم مدينة، ومن صرف وهو الأكثر فلأنه اسم البلد فيكون مذكرا سمي به مذكر‏.‏ وقيل‏:‏ اسم امرأة سميت بها المدينة‏.‏ والصحيح أنه اسم رجل، كذلك في كتاب الترمذي من حديث فروة بن مسيك المرادي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ وسيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وخفي هذا الحديث على الزجاج فخبط عشواء‏.‏ وزعم الفراء أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبأ فقال‏:‏ ما أدري ما هو‏.‏ قال النحاس‏:‏ وتأول الفراء على أبي عمرو أنه منعه من الصرف لأنه مجهول، وأنه إذا لم يعرف الشيء لم ينصرف‏.‏ وقال النحاس‏:‏ وأبو عمر وأجل من أن يقول مثل هذا، وليس في حكاية الرؤاسي عنه دليل أنه إنما منعه من الصرف لأنه لم يعرفه، وإنما قال لا أعرفه، ولو سئل نحوي عن اسم فقال لا أعرفه لم يكن في هذا دليل على أنه يمنعه من الصرف، بل الحق على غير هذا؛ والواجب إذا لم يعرفه أن يصرفه؛ لأن أصل الأسماء الصرف؛ وإنما يمنع الشيء من الصرف لعلة داخلة عليه؛ فالأصل ثابت بيقين فلا يزول بما لا يعرف‏.‏ وذكر كلاما كثيرا عن النحاة وقال في آخره‏:‏ والقول في سبأ ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل، فإن صرفته فلأنه قد صار اسما للحي، وإن لم تصرفه جعلته اسما للقبيلة مثل ثمود إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف وحجته في ذلك قاطعة؛ لأن هذا الاسم لما كان يقع له التذكير والتأنيث كان التذكير أولى؛ لأنه الأصل والأخف‏.‏

وفي الآية دليل على أن الصغير يقول للكبير والمتعلم للعالم عندي ما ليس عندك إذا تحقق ذلك وتيقنه‏.‏ هذا عمر بن الخطاب مع جلالته رضي الله عنه وعلمه لم يكن عنده علم بالاستئذان‏.‏ وكان علم التيمم عند عمار وغيره، وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا‏:‏ لا يتيمم الجنب‏.‏ وكان حكم الإذن في أن تنفر الحائض عند ابن عباس ولم يعلمه عمر ولا زيد بن ثابت‏.‏ وكان غسل رأس المحرم معلوما عند ابن عباس وخفي عن المسور بن مخرمة‏.‏ ومثله كثير فلا يطول به‏.‏

قوله ‏{‏إني وجدت امرأة تملكهم‏}‏لما قال الهدهد‏}‏جئتك من سبأ بنبأ يقين‏}‏قال سليمان‏:‏ وما ذلك الخبر‏؟‏قال ‏{‏إني وجدت امرأة تملكهم‏}‏يعني بلقيس بنت شراحيل تملك أهل سبأ‏.‏ ويقال‏:‏ كيف وخفي على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة، وهي من مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب ‏؟‏ والجواب أن الله تعالى أخفى ذلك عنه لمصلحة، كما أخفى على يعقوب مكان يوسف‏.‏ ويروى أن أحد أبويها كان من الجن‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا أمر تنكره الملحدة، ويقولون‏:‏ الجن لا يأكلون ولا يلدون؛ كذبوا لعنهم الله أجمعين؛ ذلك صحيح ونكاحهم جائز عقلا فإن صح نقلا فبها ونعمت‏.‏

قلت‏:‏ خرج أبو داود من حديث عبدالله بن مسعود أنه قال‏:‏ قدم وفد من الجن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ يا محمد انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو جمجمة فإن الله جاعل لنا فيها رزقا‏.‏ وفي صحيح مسلم‏:‏ فقال‏:‏ ‏(‏لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم‏)‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجن‏)‏ ‏"‏وفي البخاري من حديث أبي هريرة‏"‏ قال فقلت‏:‏ ما بال العظم والروثة‏؟‏ فقال ‏{‏هما من طعام الجن وإنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى ألا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاما‏)‏ وهذا كله نص في أنهم يطعمون‏.‏ وأما نكاحهم فقد تقدمت الإشارة إليه في الإسراء عند قوله ‏{‏وشاركهم في الأموال والأولاد‏}‏ ‏.‏ و روى وهيب بن جرير بن حازم عن الخليل بن أحمد عن عثمان بن حاضر قال‏:‏ كانت أم بلقيس من الجن يقال لها بلعمة بنت شيصان‏.‏ وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى‏.‏

‏"‏روى البخاري من حديث ابن عباس‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال‏:‏ ‏(‏لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة‏)‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة ولا خلاف فيه؛ ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه، ولعله نقل عنه كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق؛ ولا بأن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم، وإنما سبيل ذلك التحكيم والاستنابة في القضية الواحدة، وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير‏.‏ وقد روي عن عمر أنه قدم امرأة على حسبة السوق‏.‏ ولم يصح فلا تلتفتوا إليه، فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث‏.‏ وقد تناظر في هذه المسألة القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي الأشعري مع أبي الفرج بن طرار شيخ الشافعية، فقال أبو الفرج‏:‏ الدليل على أن المرأة يجوز أن تحكم أن الغرض من الأحكام تنفيذ القاضي لها، وسماع البينة عليها، والفصل بين الخصوم فيها، وذلك ممكن من المرأة كإمكانه من الرجل‏.‏ فاعترض عليه القاضي أبو بكر ونقض كلامه بالإمامة الكبرى؛ فإن الغرض منه حفظ الثغور، وتدبير الأمور وحماية البيضة، وقبض الخراج ورده على مستحقه، وذلك لا يتأتى من المرأة كتأتيه من الرجل‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وليس كلام الشيخين في هذه المسألة بشيء؛ فإن المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجلس، ولا تخالط الرجال، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير؛ لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها، لأن كانت بَرْزَة لم يجمعها والرجال مجلس واحد تزدحم فيه معهم، وتكون مناظرة لهم؛ ولن يفلح قط من تصور هذا ولا من اعتقده‏.‏

قوله ‏{‏وأوتيت من كل شيء‏}‏مبالغة؛ أي مما تحتاجه المملكة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أوتيت من كل شيء في زمانها شيئا فحذف المفعول؛ لأن الكلام دل عليه‏.‏ ‏{‏ولها عرش عظيم‏}‏أي سرير؛ ووصفه بالعظم في الهيئة ورتبة السلطان‏.‏ قيل‏:‏ كان من ذهب تجلس عليه‏.‏ وقيل‏:‏ العرش هنا الملك؛ والأول أصح؛ لقوله ‏{‏أيكم يأتيني بعرشها‏}‏ ‏.‏ الزمخشري‏:‏ فإن قلت كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظيم‏؟‏

قلت‏:‏ بين الوصفين بون عظيم؛ لأن وصف عرشها بالعظيم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله بالعظيم تعظيم له بالنسبة إلى ما خلق من السماوات والأرض‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان طول عرشها ثمانين ذراعا، وعرضه أربعين ذراعا، وارتفاعه في السماء ثلاثين ذراعا، مكلل بالدر والياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر‏.‏ قتادة‏:‏ وقوائمه لؤلؤ وجوهر، وكان مسترا بالديباج والحرير، عليه سبعة مغاليق‏.‏ مقاتل‏:‏ كان ثمانين ذراعا في ثمانين ذراعا، وارتفاعه من الأرض ثمانون ذراعا، وهو مكلل بالجواهر‏.‏ ابن إسحاق‏:‏ وكان يخدمها النساء، وكان معها لخدمتها ستمائة امرأة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ واللازم من الآية أنها امرأة ملكت على مدائن اليمن، ذات ملك عظيم، وسرير عظيم، وكانت كافرة من قوم كفار‏.‏

قوله ‏{‏وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله‏}‏قيل‏:‏ كانت هذه الأمة ممن يعبد الشمس؛ لأنهم كانوا زنادقة فيما يروى‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا مجوسا يعبدون الأنوار‏.‏ وروي عن نافع أن الوقف على ‏{‏عرش‏}‏‏.‏ قال الهدوي‏:‏ فعظيم على هذا متعلق بما بعده، وكان ينبغي على هذا أن يكون عظيم أن وجدتها؛ أي وجودي إياها كافرة‏.‏ وقال ابن الأنباري‏}‏ولها عرش عظيم‏}‏وقف حسن، ولا يجوز أن يقف على ‏{‏عرش‏}‏ويبتدئ ‏{‏عظيم وجدتها‏}‏إلا على من فتح؛ لأن عظيما نعت لعرش فلو كان متعلقا بـ ‏{‏وجدتها‏}‏لقلت عظيمة وجدتها؛ وهذا محال من كل وجه‏.‏ وقد حدثني أبو بكر محمد بن الحسين بن شهريار، قال‏:‏ حدثنا أبو عبدالله الحسين بن الأسود العجلي، عن بعض أهل العلم أنه قال‏:‏ الوقف على ‏{‏عرش‏}‏والابتداء ‏{‏عظيم‏}‏على معنى عظيم عبادتهم الشمس والقمر‏.‏ قال‏:‏ وقد سمعت من يؤيد هذا المذهب، ويحتج بأن عرشها أحقر وأدق شأنا من أن يصفه الله بالعظيم‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ والاختيار عندي ما ذكرته أولا؛ لأنه ليس على إضمار عبادة الشمس والقمر دليل‏.‏ وغير منكر أن يصف الهدهد عرشها بالعظيم إذا رآه متناهي الطول والعرض؛ وجريه على إعراب ‏{‏عرش‏}‏دليل على أنه نعته‏.‏ ‏{‏وزين لهم الشيطان أعمالهم‏}‏أي ما هم فيه من الكفر‏.‏ ‏{‏فصدهم عن السبيل‏}‏أي عن طريق التوحيد‏.‏ وبين يهذا أن ما ليس بسبيل التوحيد فليس بسبيل ينتفع به على التحقيق‏.‏ ‏{‏فهم لا يهتدون‏}‏إلى الله وتوحيده‏.‏

قوله ‏{‏ألا يسجدوا لله‏}‏قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وحمزة‏}‏ألا يسجدوا لله‏}‏بتشديد ‏{‏ألا‏}‏قال ابن الأنباري‏}‏فهم لا يهتدون‏}‏غير تام لمن شدد ‏{‏ألا‏}‏لأن المعنى‏:‏ وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا‏.‏ قال النحاس‏:‏ هي ‏{‏أن‏}‏دخلت عليها ‏{‏لا‏}‏و‏{‏أن‏}‏في موضع نصب؛ قال الأخفش‏:‏ بـ‏{‏زين‏}‏أي وزين لهم لئلا يسجدوا لله‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ بـ‏{‏فصدهم‏}‏أي فصدهم ألا يسجدوا‏.‏ وهو في الوجهين مفعول له‏.‏ وقال اليزيدي وعلي بن سليمان‏}‏أن‏}‏بدل من ‏{‏أعمالهم‏}‏في موضع نصب‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ و‏{‏أن‏}‏في موضع حفض على البدل من السبيل وقيل‏:‏ العامل فيها ‏{‏لا يهتدون‏}‏أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله؛ أي لا يعلمون أن ذلك واجب عليهم‏.‏ وعلى هذا القول ‏{‏لا‏}‏زائدة؛ كقوله ‏{‏ما منعك ألا تسجد‏}‏ أي ما منعك أن تسجد‏.‏ وعلى هذه القراءة فليس بموضع سجدة؛ لأن ذلك خبر عنهم بترك السجود، إما بالتزيين، أو بالصد، أو بمنع الاهتداء‏.‏ وقرأ الزهري والكسائي وغيرهما‏}‏ألا يسجدوا لله‏}‏بمعنى يا هؤلاء اسجدوا؛ لأن ‏{‏يا‏}‏ينادي بها الأسماء دون الأفعال‏.‏ وأنشد سيبويه‏:‏

يا لعنة الله والأقوام كلهم والصالحين على سمعان من جار

قال سيبويه‏}‏يا‏}‏لغير اللعنة، لأنه لو كان للعنة لنصبها، لأنه كان يصير منادى مضافا، ولكن تقديره يا هؤلاء لعنة الله والأقوام على سمعان‏.‏ وحكى بعضهم سماعا عن العرب‏:‏ ألا يا ارحموا ألا يا اصدقوا‏.‏ يريدون ألا يا قوم ارحموا اصدقوا، فعلى هذه القراءة ‏{‏اسجدوا‏}‏في موضع جزم بالأمر والوقف على ‏{‏ألا يا‏}‏ثم تبتدئ فتقول‏}‏اسجدوا‏}‏‏.‏ قال الكسائي‏:‏ ما كنت أسمع الأشياخ يقرؤونها إلا بالتخفيف على نية الأمر‏.‏ وفي قراءة عبدالله ‏{‏ألا هل تسجدون لله‏}‏بالتاء والنون‏.‏ وفي قراءة أبي ‏{‏ألا تسجدون لله‏}‏فهاتان القراءتان حجة لمن خفف‏.‏ الزجاج‏:‏ وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود دون التشديد‏.‏ واختار أبو حاتم وأبو عبيدة قراءة التشديد‏.‏ وقال‏:‏ التخفيف وجه حسن إلا أن فيه انقطاع الخبر من أمر سبأ، ثم رجع بعد إلى ذكرهم، والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضا لا انقطاع في وسطه‏.‏ ونحوه قال النحاس‏.‏ قال‏:‏ قراءة التخفيف بعيدة؛ لأن الكلام يكون معترضا، وقراءة التشديد يكون الكلام بها متسقا، وأيضا فإن السواد على غير هذه القراءة، لأنه قد حذف منه ألفان، وإنما يختصر مثل هذا بحذف ألف واحدة نحو يا عيسى بن مريم‏.‏ ابن الأنباري‏:‏ وسقطت ألف ‏{‏اسجدوا‏}‏كما تسقط مع هؤلاء إذا ظهر، ولما سقطت ألف ‏{‏يا‏}‏واتصلت بها ألف ‏{‏اسجدوا‏}‏سقطت، فعد سقوطها دلالة على الاختصار وإيثارا لما يخف وتقل ألفاظه‏.‏ وقال الجوهري في آخر كتابه‏:‏ قال بعضهم‏:‏ إن ‏{‏يا‏}‏في هذا الموضع إنما هو للتنبيه كأنه قال‏:‏ ألا اسجدوا لله، فلما أدخل عليه ‏{‏يا‏}‏للتنبيه سقطت الألف التي في ‏{‏اسجدوا‏}‏لأنها ألف وصل، وذهبت الألف التي في ‏{‏يا‏}‏لاجتماع الساكنين؛ لأنها والسين ساكنتان‏.‏ قال ذو الرمة‏:‏

ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى ولا زال منهلا بجرعائك القطر

وقال الجرجاني‏:‏ هو كلام معترض من الهدهد أو سليمان أو من الله‏.‏ أي ألا ليسجدوا؛ كقوله ‏{‏قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ‏}‏ قيل‏:‏ إنه أمر أي ليغفروا‏.‏ وتنتظم على هذا كتابة المصحف؛ أي ليس ها هنا نداء‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ قيل هو من كلام الهدهد إلى قوله ‏{‏العظيم‏}‏وهو قول ابن زيد وابن إسحاق؛ ويعترض بأنه غير مخاطب فكيف يتكلم في معنى شرع‏.‏ ويحتمل أن يكون من قول سليمان لما أخبره الهدهد عن القوم‏.‏ ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى فهو اعتراض بين الكلامين وهو الثابت مع التأمل، وقراءة التشديد في ‏{‏ألا‏}‏تعطي أن الكلام للهدهد، وقراءة التخفيف تمنعه، والتخفيف يقتضي الأمر بالسجود لله عز وجل للأمر على ما بيناه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا أم في إحداهما‏؟‏ قلت هي واجبة فيهما جميعا؛ لأن مواضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، وإحدى القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك‏.‏

قلت‏:‏ وقد أخبر الله عن الكفار بأنهم يسجدون كما في ‏{‏الانشقاق‏}‏وسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها، كما ثبت في البخاري وغيره فكذلك النمل والله أعلم‏.‏ الزمخشري‏:‏ وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه‏.‏

قوله ‏{‏الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض‏}‏خبء السماء قطرها، وخبء الأرض كنوزها ونباتها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الخبء السر‏.‏ النحاس‏:‏ وهذا أولى‏.‏ أي ما غاب في السماوات والأرض، ويدل عليه ‏{‏ما يخفون وما يعلنون‏}‏‏.‏ وقرأ عكرمة ومالك بن دينار‏}‏الخب‏}‏بفتح الباء من غير همز‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وهو التخفيف القياسي؛ وذكر من يترك الهمز في الوقف‏.‏ وقال النحاس‏:‏ وحكى أبو حاتم أن عكرمة قرأ‏}‏الذي يخرج الخبا‏}‏بألف غير مهموزة، وزعم أن هذا لا يجوز في العربية، واعتل بأنه إن خفف الهمزة ألقى حركتها على الباء فقال‏:‏ الخب في السماوات والأرض‏}‏وأنه إن حول الهمزة قال‏:‏ الخبي بإسكان الباء وبعدها ياء‏.‏ قال النحاس‏:‏ وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول‏:‏ كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ولم يلحق بهم إلا أنه إذا خرج من بلده لم يلق أعلم منه‏.‏ وحكى سيبويه عن العرب أنها تبدل من الهمزة ألفا إذا كان قبلها ساكن وكانت مفتوحة، وتبدل منها واوا إذا كان قبلها ساكن وكانت مضمومة، وتبدل منها ياء إذا كان قبلها ساكن وكانت مكسورة؛ فتقول‏:‏ هذا الوثو وعجبت من الوثي ورأيت الوثا؛ وهذا من وثئت يده؛ وكذلك هذا الخبو وعجبت من الخبي، ورأيت الخبا؛ وإنما فعل هذا لأن الهمزة خفيفة فأبدل منها هذه الحروف‏.‏ وحكى سيبويه عن قوم من بني تميم وبني أسد أنهم يقولون‏:‏ هذا الخبؤ؛ يضمون الساكن إذا كانت الهمزة مضمومة، ويثبتون الهمزة ويكسرون الساكن إذا كانت الهمزة مكسورة، ويفتحون الساكن إذا كانت الهمزة مفتوحة‏.‏ وحكى سيبويه أيضا أنهم يكسرون وإن كانت الهمزة مضمومة، إلا أن هذا عن بني تميم؛ فيقولون‏:‏ الرديء؛ وزعم أنهم لم يضموا الدال لأنهم كرهوا ضمة قبلها كسرة؛ لأنه ليس في الكلام فعل‏.‏ وهذه كلها لغات داخلة على اللغة التي قرأ بها الجماعة؛ وفي قراءة عبدالله ‏{‏الذي يخرج الخبأ من السماوات‏}‏و‏{‏من‏}‏و‏{‏في‏}‏يتعاقبان؛ تقول العرب‏:‏ لأستخرجن العلم فيكم يريد منكم؛ قاله الفراء‏.‏ ‏{‏ويعلم ما تخفون وما تعلنون‏}‏قراءة العامة فيهما بياء الغائب، وهذه القراءة تعطي أن الآية من كلام الهدهد، وأن الله تعالى خصه من المعرفة بتوحيده ووجوب السجود له، وإنكار سجودهم للشمس، وإضافته للشيطان، وتزيينه لهم، ما خص به غيره من الطيور وسائر الحيوان؛ من المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقول الراجحة تهتدي لها‏.‏ وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وحفص والكسائي‏}‏تخفون‏}‏و‏{‏تعلنون‏}‏بالتاء على الخطاب؛ وهذه القراءة تعطي أن الآية من خطاب الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏، الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم‏}‏قرأ ابن محيصن ‏{‏العظيم‏}‏‏:‏ رفعا نعتا لله‏.‏ الباقون بالخفض نعتا للعرش‏.‏ وخص بالذكر لأنه أعظم المخلوقات وما عداه في ضمنه وقبضته‏.‏

قوله ‏{‏سننظر‏}‏من النظر الذي هو التأمل والتصفح‏.‏ ‏{‏أصدقت أم كنت من الكاذبين‏}‏ في مقالتك‏.‏ و‏{‏كنت‏}‏بمعنى أنت‏.‏ وقال ‏{‏سننظر أصدقت‏}‏ولم يقل سننظر في أمرك؛ لأن الهدهد لما صرح بفخر العلم في قوله ‏{‏أحطت بما لم تحط به‏}‏صرح له سليمان بقوله‏:‏ سننظر أصدقت أم كذبت، فكان ذلك كفاء لما قاله‏.‏ ‏{‏أصدقت أم كنت من الكاذبين‏}‏ دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم؛ لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه‏.‏ وإنما صار صدق الهدهد عذرا لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد، وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏ليس أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل‏)‏‏.‏ وقد قبل عمر عذر النعمان بن عدي ولم يعاقبه‏.‏ ولكن للإمام أن يمتحن ذلك إذا تعلق به حكم من أحكام الشريعة‏.‏ كما فعل سليمان؛ فإنه لما قال الهدهد‏}‏إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم‏}‏لم يستفزه الطمع، ولا استجره حب الزيادة في الملك إلى أن يعرض له حتىقال ‏{‏وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله‏}‏فغاظه حينئذ ما سمع، وطلب الانتهاء إلى ما أخبر، وتحصيل علم ما غاب عنه من ذلك، فقال ‏{‏سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين‏}‏ ونحو منه ما رواه الصحيح عن المسور بن مخرمة، حين استشار عمر الناس في إملاص المرأة وهي التي يضرب بطنها فتلقي جنينها؛ فقال المغيرة ابن شعبة‏:‏ شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة‏.‏ قال فقال عمر‏:‏ ايتني بمن يشهد معك؛ قال‏:‏ فشهد له محمد بن مسلمة وفي رواية فقال‏:‏ لا تبرح حتى تأتي بالمخرج من ذلك؛ فخرجت فوجدت محمد بن سلمة فجئت به فشهد‏.‏ ونحوه حديث أبي موسى في الاستئذان وغيره‏.‏

قوله ‏{‏اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم‏}‏قال الزجاج‏:‏ فيها خمسة أوجه ‏{‏فألقه‏}‏إليهم‏}‏بإثبات الياء في اللفظ‏.‏ وبحذف الياء وإثبات الكسرة دالة عليها ‏{‏فألقه إليهم‏}‏‏.‏ وبضم الهاء وإثبات الواو على الأصل ‏{‏فألقه إليهم‏}‏‏.‏ وبحذف الواو وإثبات الضمة ‏{‏فألقه إليهم‏}‏‏.‏ واللغة الخامسة قرأ بها حمزة بإسكان الهاء ‏{‏فالقه إليهم‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا عند النحويين لا يجوز إلا على حيلة بعيدة تكون‏:‏ يقدر الوقف؛ وسمعت علي بن سليمان يقول‏:‏ لا تلتفت إلى هذه العلة، ولو جاز أن يصل وهو ينوي الوقف لجاز أن يحذف الإعراب من الأسماء‏.‏ وقال ‏{‏إليهم‏}‏على لفظ الجمع ولم يقل إليها؛ لأنهقال ‏{‏وجدتها وقومها يسجدون للشمس‏}‏فكأنه قال‏:‏ فألقه إلى الذين هذا دينهم؛ اهتماما منه بأمر الدين، واشتغالا به عن غيره، وبنى الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك‏.‏ وروي في قصص هذه الآية أن الهدهد وصل فألفى دون هذه الملكة حجب جدران؛ فعمد إلى كوة كانت بلقيس صنعتها لتدخل منها الشمس عند طلوعها لمعنى عبادتها إياها، فدخل منها ورمى الكتاب على بلقيس وهي - فيما يروى - نائمة؛ فلما انتبهت وجدته فراعها، وظنت أنه قد دخل عليها أحد، ثم قامت فوجدت حالها كما عهدت، فنظرت إلى الكوة تهمما بأمر الشمس، فرأت الهدهد فعلمت‏.‏ وقال وهب وابن زيد‏:‏ كانت لها كوة مستقبلة مطلع الشمس، فإذا طلعت سجدت، فسدها الهدهد بجناحه، فارتفعت الشمس ولم تعلم، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى الصحيفة إليها، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت، لأن ملك سليمان عليه السلام كان في خاتمه؛ فقرأته فجمعت الملأ من قومها فخاطبتهم بما يأتي بعد‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ حمل الهدهد الكتاب بمنقاره، وطار حتى وقف على رأس المرأة وحولها الجنود والعساكر، فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه، فرفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها‏.‏

في هذه الآية دليل على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة، ودعائهم إلى الإسلام‏.‏ وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وإلى كل جبار؛ كما تقدم في آل عمران ‏:‏

قوله ‏{‏ثم تول عنهم‏}‏أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدب به مع الملوك‏.‏ بمعنى‏:‏ وكن قريبا حتى ترى مراجعتهم؛ قال وهب بن منبه‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه؛ أي ألقه وارجع‏.‏ ‏{‏فانظر ماذا يرجعون‏}‏في معنى التقديم على قوله ‏{‏ثم تول‏}‏واتساق رتبة الكلام أظهر؛ أي ألقه ثم تول، وفي خلال ذلك فانظر أي انتظر‏.‏ وقيل‏:‏ فاعلم؛ كقوله ‏{‏يوم ينظر المرء ما قدمت يداه‏}‏ أي اعلم ماذا يرجعون أي يجيبون وماذا يردون من القول‏.‏ وقيل ‏{‏فانظر ماذا يرجعون‏}‏يتراجعون بينهم من الكلام‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 29 ‏:‏ 31 ‏)‏

‏{‏ قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم، إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ‏}‏

قوله ‏{‏قالت يا أيها الملأ‏}‏في الكلام حذف؛ والمعنى‏:‏ فذهب فألقاه إليهم فسمعها وهي تقول‏}‏يا أيها الملأ‏}‏ثم وصفت الكتاب بالكريم إما لأنه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظمته إجلالا لسليمان عليه السلام؛ وهذا قول ابن زيد‏.‏ وإما أنها أشارت إلى أنه مطبوع عليه بالخاتم، فكرامة الكتاب ختمه؛ وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل‏:‏ لأنه بدأ فيه بـ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل كلام لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه بدأ فيه بنفسه، ولا يفعل ذلك إلا الجلة‏.‏ وفي حديث ابن عمر أنه كتب إلى عبدالملك بن مروان يبايعه‏.‏ من عبدالله لعبدالملك بن مروان أمير المؤمنين؛ إني أقر لك بالسمع والطاعة ما استطعت، وإن بني قد أقروا لك بذلك‏.‏ وقيل‏:‏ توهمت أنه كتاب جاء من السماء إذ كان الموصل طيرا‏.‏ وقيل ‏{‏كريم‏}‏حسن؛ كقول ‏{‏ومقام كريم‏}‏ أي مجلس حسن‏.‏ وقيل‏:‏ وصفته بذلك؛ لما تضمن من لين القول والموعظة في الدعاء إلى عبادة الله عز وجل، وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سبا ولا لعنا، ولا ما يغير النفس، ومن غير كلام نازل ولا مستغلق؛ على عادة الرسل في الدعاء إلى الله عز وجل؛ ألا ترى إلى قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ‏{‏ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة‏}‏ وقوله لموسى وهرون ‏}‏فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى‏} ‏ ‏.‏ وكلها وجوه حسان وهذا أحسنها‏.‏ وقد روي أنه لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم أحد قبل سليمان‏.‏ وفي قراءة عبدالله ‏{‏وإنه من سليمان‏}‏ بزيادة واو‏.‏

الوصف بالكريم في الكتاب غاية الوصف؛ ألا ترى قوله ‏{‏إنه لقرآن كريم‏}‏ وأهل الزمان يصفون الكتاب بالخطير وبالأثير وبالمبرور؛ فإن كان لملك قالوا‏:‏ العزيز وأسقطوا الكريم غفلة، وهو أفضلها خصلة‏.‏ فأما الوصف بالعزيز فقد وصف به القرآن في قوله ‏{‏وإنه لكتاب عزيز‏.‏ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏} ‏ فهذه عزته وليست لأحد إلا له، فاجتنبوها في كتبكم، واجعلوا بدلها العالي؛ توفية لحق الولاية، وحياطة للديانة؛ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏.‏

كان رسم المتقدمين إذا كتبوا أن يبدؤوا بأنفسهم من فلان إلى فلان، وبذلك جاءت الآثار‏.‏ و روى الربيع عن أنس قال‏:‏ ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ وكان أصحابه إذا كتبوا بدؤوا بأنفسهم‏.‏ وقال ابن سيرين قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أهل فارس إذا كتبوا بدؤوا بعظمائهم فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه‏)‏ قال أبو الليث في كتاب البستان له‏:‏ ولو بدأ بالمكتوب إليه لجاز؛ لأن الأمة قد اجتمعت عليه وفعلوه لمصلحة رأوا في ذلك، أو نسخ ما كان من قبل؛ فالأحسـن في زماننا هذا أن يبدأ بالمكتوب إليه، ثم ينفسه؛ لأن البداية بنفسه تعد منه استخفافا بالمكتوب إليه وتكبرا عليه؛ إلا أن يكتب إلى عبد من عبيده، أو غلام من غلمانه‏.‏

وإذا ورد على إنسان كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب؛ لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كما يرى رد السلام‏.‏ والله أعلم‏.‏

اتفقوا على كتب ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏في أول الكتب والرسائل، وعلى ختمها؛ لأنه أبعد من الريبة، وعلى هذا جرى الرسم، وبه جاء الأثر عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ أيما كتاب لم يكن مختوما فهو أغلف‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏كرم الكتاب ختمه‏)‏‏.‏ وقال بعض الأدباء؛ هو ابن المقفع‏:‏ من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به؛ لأن الختم ختم‏.‏ وقال أنس‏:‏ لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى العجم فقيل له‏:‏ إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه ختم؛ فاصطنع خاتما ونقش على فصه ‏(‏لا إله إلا الله محمد رسول الله‏)‏ وكأني أنظر إلى وبيصه وبياضه في كفه‏.‏

قوله ‏{‏إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏‏{‏وإنه‏}‏بالكسر فيهما أي وإن الكلام، أو إن مبتدأ الكلام ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏‏.‏ وأجاز الفراء ‏{‏أنه من سليمان وأنه‏}‏بفتحهما جميعا على أن يكونا في موضع رفع بدل من الكتاب؛ بمعنى ألقي إلي أنه من سليمان‏.‏ وأجاز أن يكونا في موضع نصب على حذف الخافض؛ أي لأنه من سليمان ولأنه؛ كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره بسم الله‏.‏ وقرأ الأشهب العقيلي ومحمد بن السميقع‏}‏ألا تغلوا‏}‏بالغين المعجمة، وروي عن وهب بن منبه؛ من غلا يغلو إذا تجاوز وتكبر‏.‏ وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة‏.‏ ‏{‏وأتوني مسلمين‏}‏أي منقادين طائعين مؤمنين‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 32 ‏:‏ 34 ‏)‏

‏{‏ قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون، قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين، قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ‏}‏

قوله ‏{‏قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري‏}‏الملأ أشراف القوم وقد مضى في سورة البقرة القول فيه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان معها ألف قيل‏.‏ وقيل‏:‏ اثنا عشر ألف قيل مع كل قيل مائة ألف‏.‏ والقيل الملك دون الملك الأعظم‏.‏ لأخذت في حسن الأدب مع قومها، ومشاورتهم في أمرها، وأعلمتهم أن ذلك مطرد عندها في كل أمر يعرض، ‏{‏ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون‏}‏فكيف في هذه النازلة الكبرى‏.‏ فراجعها الملا بما يقر عينها، من إعلامهم إياها بالقوة والبأس، ثم سلموا الأمر إلى نظرها؛ وهذه محاورة حسنة من الجميع‏.‏ قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أنه كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا هم أهل مشورتها، كل رجل منهم على عشرة آلاف‏.‏

في هذه الآية دليل على صحة المشاورة‏.‏ وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ في آل عمران إما استعانة بالآراء، وإما مداراة للأولياء‏.‏ وقد مدح الله تعالى الفضلاء بقوله ‏{‏وأمرهم شورى بينهم‏}‏ ‏.‏ والمشاورة من الأمر القديم وخاصة في الحرب؛ فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس‏}‏قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون‏}‏لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم فيما يقيم أمرهم، وإمضائهم على الطاعة لها، بعلمها بأنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها لم يكن لها طاقة بمقاومة عدوها، وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجدهم كان ذلك عونا لعدوهم عليهم، وإن لم تختبر ما عندهم، وتعلم قدر عزمهم لم تكن على بصيرة من أمرهم، وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها، ودخيلة في تقدير أمرهم، وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من قوة شوكتهم، وشدة مدافعتهم؛ ألا ترى إلى قولهم في جوابهم‏}‏نحن أولو قوة وأولو بأس شديد‏}‏قال ابن عباس‏:‏ كان من قوة أحدهم أنه يركض فرسه حتى إذا احتد ضم فخذيه فحبسه بقوته‏.‏

قوله ‏{‏والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين‏}‏سلموا الأمر إلى نظرها مع ما أظهروا لها من القوة والبأس والشدة؛ فلما فعلوا ذلك أخبرت عند ذلك بفعل الملوك بالقرى التي يتغلبون عليها‏.‏ وفي هذا الكلام خوف على قومها، وحيطة واستعظام لأمر سليمان عليه السلام‏.‏ ‏{‏وكذلك يفعلون‏}‏قيل‏:‏ هو من قول بلقيس تأكيدا للمعنى الذي أرادته‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو من قول الله عز وجل معرفا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته بذلك ومخبرا به‏.‏ وقال وهب‏:‏ لما قرأت عليهم الكتاب لم تعرف اسم الله، فقالت‏:‏ ما هذا‏؟‏‏!‏ فقال بعض القوم‏:‏ ما نظن هذا إلا عفريتا عظيما من الجن يقتدر به هذا الملك على ما يريده؛ فسكتوه‏.‏ وقال الآخر‏:‏ أراهم ثلاثة من العفاريت؛ فسكتوه؛ فقال شاب قد علم‏:‏ يا سيدة الملوك‏!‏ إن سليمان ملك قد أعطاه ملك السماء ملكا عظيما فهو لا يتكلم بكلمة إلا بدأ فيها بتسمية إلهه، والله اسم مليك السماء، والرحمن الرحيم نعوته؛ فعندها قالت‏}‏أفتوني في أمري‏}‏فقالوا‏}‏نحن أولو قوة‏}‏في القتال ‏{‏وأولو بأس شديد‏}‏قوة في الحرب واللقاء ‏{‏والأمر إليك‏}‏ردوا أمرهم إليها لما جربوا على رأيها من البركة ‏{‏فانظري ماذا تأمرين‏}‏فـ ‏{‏قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة‏}‏أهانوا شرفاءها لتستقيم لهم الأمور، فصدق الله قولها‏.‏ ‏{‏وكذلك يفعلون‏}‏قال ابن الأنباري‏}‏وجعلوا أعزة أهلها أذلة‏}‏هذا وقف تام؛ فقال الله عز وجل تحقيقا لقولها‏}‏وكذلك يفعلون‏}‏وشبيه به في سورة الأعراف‏{‏قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم‏.‏ يريد أن يخرجكم من أرضكم‏} ‏ تم الكلام، فقال فرعون ‏}‏فماذا تأمرون‏} ‏.‏ وقال ابن شجرة‏.‏ هو قول بلقيس، فالوقف ‏{‏وكذلك يفعلون‏}‏أي وكذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 35 ‏)‏

‏{‏ وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ‏}‏

قوله ‏{‏وإني مرسلة إليهم بهدية‏}‏هذا من حسن نظرها وتدبيرها؛ أي إني أجرب هذا الرجل بهدية، وأعطيه فيها نفائس من الأموال، وأغرب عليه بأمور المملكة‏:‏ فإن كان ملكا دنياويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نبيا لم يرضه المال ولازمنا في أمر الدين، فينبغي لنا أن نؤمن به ونتبعه على دينه، فبعثت إليه بهدية عظيمة أكثر الناس في تفصيلها، فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس‏:‏ أرسلت إليه بلبنة من ذهب، فرأت الرسل الحيطان من ذهب فصغر عندهم ما جاؤوا به‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أرسلت إليه بمائتي غلام ومائتي جارية‏.‏ وروي عن ابن عباس‏:‏ باثنتي عشرة وصيفة مذكرين قد ألبستهم زي الغلمان، واثني عشر غلاما مؤنثين قد ألبستهم زي النساء، وعلى يد الوصائف أطباق مسك وعنبر، وباثنتي عشرة نجيبة تحمل لبن الذهب، وبخرزتين إحداهما غير مثقوبة، والأخرى مثقوبة ثقبا معوجا، وبقدح لا شيء فيه، وبعصا كان يتوارثها ملوك حمير، وأنفذت الهدية مع جماعة من قومها‏.‏ وقيل‏:‏ كان الرسول واحدا ولكن كان في صحبته أتباع وخدم‏.‏ وقيل‏:‏ أرسلت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذرين عمرو، وضمت إليه رجالا ذوي رأي وعقل، والهدية مائة وصيف ومائة وصيفة، وقد خولف بينهم في اللباس، وقالت للغلمان‏:‏ إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام فيه تأنيث يشبه كلام النساء، وقالت للجواري‏:‏ كلمنه بكلام فيه غلظ يشبه كلام الرجال؛ فيقال‏:‏ إن الهدهد جاء وأخبر سليمان بذلك كله‏.‏ وقيل‏:‏ إن الله أخبر سليمان بذلك، فأمر سليمان عليه السلام أن يبسط من موضعه إلى تسع فراسخ بلبنات الذهب والفضة، ثم قال‏:‏ أي الدواب رأيتم أحسن في البر والبحر‏؟‏ قالوا‏:‏ يا نبي الله رأينا في بحر كذا دواب منقطة مختلفة ألوانها، لها أجنحة وأعراف ونواصي؛ فأمر بها فجاءت فشدت على يمين الميدان وعلى يساره، وعلى لبنات الذهب والفضة، وألقوا لها علوفاتها؛ ثم قال‏:‏ للجن علي بأولادكم؛ فأقامهم - أحسن ما يكون من الشباب - عن يمين الميدان ويساره‏.‏ ثم قعد سليمان عليه السلام على كرسيه في مجلسه، ووضع له أربعة آلاف كرسي من ذهب عن يمينه ومثلها عن يساره، وأجلس عليها الأنبياء والعلماء، وأمر الشياطين والجن والإنس أن يصطفوا صفوفا فراسخ، وأمر السباع والوحوش والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله، فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان، ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم أحسن منها تروث على لبنات الذهب والفضة، تقاصرت إليهم أنفسهم، ورموا ما معهم من الهدايا‏.‏ وفي بعض الروايات‏:‏ إن سليمان لما أمرهم بفرش الهيدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر موضع بساط من الأرض غير مفروش، فلما مروا به خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان، فلما رأوا الشياطين رأوا منظرا هائلا فظيعا ففزعوا وخافوا، فقالت لهم الشياطين‏:‏ جوزوا لا بأس عليكم؛ فكانوا يمرون على كردوس كردوس من الجن والإنس والبهائم والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم سليمان نظرا حسنا بوجه طلق، وكانت قالت لرسولها‏:‏ إن نظر إليك نظر مغضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشا لطيفا فاعلم أنه نبي مرسل فتفهم قول ورد الجواب، فأخبر الهدهد سليمان بذلك على ما تقدم‏.‏

وكانت عمدت إلى حقه من ذهب فجعلت فيها درة يتيمة غير مثقوبة، وخرزة معوجة الثقب، وكتبت كتابا مع رسولها تقول فيه‏:‏ إن كنت نبيا فميز بين الوصفاء والوصائف، وأخبر بما في الحقة، وعرفني رأس العصا من أسفلها، واثقب الدرة ثقبا مستويا، وأدخل خيط الخرزة، واملأ القدح ماء من ندى ليس من الأرض ولا من السماء؛ فلما وصل الرسول ووقف بين يدي سليمان أعطاه كتاب الملكة فنظر فيه، وقال‏:‏ أين الحقة‏؟‏ فأتى بها فحركها؛ فأخبره جبريل بما فيها، ثم أخبرهم سليمان‏.‏ فقال له الرسول‏:‏ صدقت؛ فاثقب الدرة، وأدخل الخيط في الخرزة؛ فسأل سليمان الجن والإنس عن ثقبها فعجزوا؛ فقال للشياطين‏:‏ ما الرأي فيها‏؟‏ فقالوا‏:‏ ترسل إلى الأرضة، فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها حتى خرجت من الجانب الآخر؛ فقال لها سليمان‏:‏ ما حاجتك‏؟‏ قالت‏:‏ تصير رزقي في الشجرة؛ فقال لها‏:‏ لك ذلك‏.‏ ثم قال سليمان‏:‏ من لهذه الخرزة يسلكها الخيط‏؟‏ فقالت دودة بيضاء‏:‏ أنا لها يا نبي الله؛ فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر؛ فقال لها سليمان‏:‏ ما حاجتك‏؟‏ قالت تجعل رزقي في الفواكه؛ قال‏:‏ ذلك لك‏.‏ ثم ميز بين الغلمان والجواري‏.‏ قال السدي‏:‏ أمرهم بالوضوء، فجعل الرجل يحدر الماء على اليد والرجل حدرا، وجعل الجواري يصببن من اليد اليسرى على اليد اليمنى، ومن اليمنى على اليسرى، فميز بينهم بهذا‏.‏ وقيل‏:‏ كانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها، ثم تحمله على الأخرى، ثم تضرب به على الوجه؛ والغلام كان يأخذ الماء من الآنية يضرب به في الوجه، والجارية تصب على بطن ساعدها، والغلام على ظهر الساعد، والجارية تصب الماء صبا، والغلام يحدر على يديه؛ فميز بينهم بهذا‏.‏ و روى يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير قال‏:‏ أرسلت بلقيس بمائتي وصيفة ووصيف، وقالت‏:‏ إن كان نبيا فسيعلم الذكور من الإناث، فأمرهم فتوضؤوا؛ فمن توضأ منهم فبدأ بمرفقه قبل كفه قال هو من الإناث، ومن بدأ بكفه قبل مرفقه قال هو من الذكور؛ ثم أرسل العصا إلى الهواء فقال‏:‏ أي الرأسين سبق إلى الأرض فهو أصلها، وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها، ثم رد سليمان الهدية؛ فروي أنه لما صرف الهدية إليها وأخبرها رسولها بما شاهد؛ قالت لقومها‏:‏ هذا أمر من السماء‏.‏

كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثبت عليها ولا يقبل الصدقة، وكذلك كان سليمان عليه السلام وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين‏.‏ وإنما جعلت بلقيس قبول الهدية أو ردها علامة على ما في نفسها؛ على ما ذكرناه من كون سليمان ملكا أو نبيا؛ لأنه قال لها في كتابه ‏}‏ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين‏}‏ وهذا لا تقبل فيه فدية، ولا يؤخذ عنه هدية، وليس هذا من الباب الذي تقرر في الشريعة عن قبول الهدية بسبيل، وإنما هي رشوة وبيع الحق بالباطل، وهي الرشوة التي لا تحل‏.‏ وأما الهدية المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة من كل أحد وعلى كل حال، وهذا ما لم يكن من مشرك‏.‏

فإن كانت من مشرك ففي الحديث ‏(‏نهيت عن زبد المشركين‏)‏ يعني رفدهم وعطاياهم‏.‏ وروي عنه عليه السلام أنه قبلها كما في حديث مالك عن ثور بن زيد الدبلي وغيره، فقال جماعة من العلماء بالنسخ فيهما، وقال آخرون‏:‏ ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، والمعنى فيها‏:‏ أنه كان لا يقبل هدية من يطمع بالظهور عليه وأخذ بلده ودخوله في الإسلام، وبهذه الصفة كانت حالة سليمان عليه السلام، فعن مثل هذا نهى أن تقبل هديته حملا على الكف عنه؛ وهذا أحسن تأويل للعلماء في هذا؛ فإنه جمع بين الأحاديث‏.‏ وقيل غير هذا‏.‏

الهدية مندوب إليها، وهي مما تورث المودة وتذهب العداوة؛ ‏"‏روى مالك عن عطاء بن عبدالله الخراساني‏"‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء‏)‏‏.‏ و روى معاوية بن الحكم قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏تهادوا فإنه يضعف الود ويذهب بغوائل الصدر‏)‏‏.‏ ‏"‏وقال الدارقطني‏"‏‏:‏ تفرد به ابن بجير عن أبيه عن مالك، ولم يكن بالرضي، ولا يصح عن مالك ولا عن الزهري‏.‏ وعن ابن شهاب قال‏:‏ بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏تهادوا بينكم فإن الهدية تذهب السخيمة‏)‏ قال ابن وهب‏:‏ سألت يونس عن السخيمة ما هي فقال‏:‏ الغل‏.‏ وهذا الحديث وصله الوقاصي عثمان عن الزهري وهو ضعيف‏.‏ وعلى الجملة‏:‏ فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وفيه الأسوة الحسنة‏.‏ ومن فضل الهدية مع اتباع السنة أنها تزيل حزازات النفوس، وتكسب المهدي والمهدى إليه رنة في اللقاء والجلوس‏.‏ ولقد أحسن من قال‏:‏

هدايا الناس بعضهم لبعض تولد في قلوبهم الوصالا

وتزرع في الضمير هوى وودا وتكسبهم إذا حضروا جمالا

آخر‏:‏

إن الهدايا لها حظ إذا وردت أحظى من الابن عند الوالد الحدب

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏جلساؤكم شركاؤكم في الهدية‏)‏ واختلف في معناه؛ فقيل‏:‏ هو محمول على ظاهره‏.‏ وقيل‏:‏ يشاركهم على وجه الكرم والمروءة، فإن لم يفعل فلا يجبر عليه‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ ذلك في الفواكه ونحوها‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هم شركاؤه في السرور لا في الهدية‏.‏ والخبر محمول في أمثال أصحاب الصفة والخوانق والرباطات؛ أما إذا كان فقيها من الفقهاء اختص بها فلا شركة فيها لأصحابه، فإن أشركهم فذلك كرم وجود منه‏.‏

قوله ‏{‏فناظرة‏}‏أي منتظرة ‏{‏بم يرجع المرسلون‏}‏قال قتادة‏:‏ يرحمها الله أن كانت لعاقلة في إسلامها وشركها؛ قد علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس‏.‏ وسقطت الألف في ‏{‏بم‏}‏للفرق بين ‏{‏ما‏}‏الخبرية‏.‏ وقد يجوز إثباتها؛ قال‏:‏

على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في رماد

الآية رقم ‏(‏ 36 ‏:‏ 40 ‏)‏

‏{‏ فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون، ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون، قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين، قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين، قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ‏}‏

قوله ‏{‏فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال‏}‏أي جاء الرسول سليمان بالهديةقال ‏{‏أتمدونني بمال‏}‏‏.‏ قرأ حمزة ويعقوب والأعمش‏:‏ بنون واحدة مشددة وياء ثابتة بعدها‏.‏ الباقون بنونين وهو اختيار أبي عبيد؛ لأنها في كل المصاحف بنونين‏.‏ وقد روى إسحاق عن نافع أنه كان يقرأ‏}‏أتمدونِ‏}‏بنون واحدة مخففة بعدها ياء في اللفظ‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ فهذه القراءة يجب فيها إثبات الياء عند الوقف، ليصح لها موافقة هجاء المصحف‏.‏ والأصل في النون التشديد، فخفف التشديد من ذا الموضع كما خفف من‏:‏ أشهد أنك عالم؛ وأصله‏:‏ أنك عالم‏.‏ وعلى هذا المعنى بنى الذي قرأ ‏}‏تشاقون فيهم‏} ‏ ، ‏{‏أتحآجوني في الله ‏} ‏ ‏.‏ وقد قالت العرب‏:‏ الرجال يضربون ويقصدون، وأصله يضربوني ويقصدوني‏:‏ لأنه إدغام يضربونني ويقصدونني قال الشاعر‏:‏

ترهبين والجيد منك لليلى والحشا والبغام والعينان

والأصل ترهبيني فخفف‏.‏ ومعنى ‏{‏أتمدونني‏}‏أتزيدونني مالا إلى ما تشاهدونه من أموالي‏.‏

قوله ‏{‏فما آتاني الله خير مما آتاكم‏}‏أي فما أعطاني من الإسلام والملك والنبوة خير مما أعطاكم، فلا أفرح بالمال‏.‏ و‏{‏آتانِ‏}‏وقعت في كل المصاحف بغير ياء‏.‏ وقرأ أبو عمرو ونافع وحفص‏}‏آتانيَ الله‏}‏بياء مفتوحة؛ فإذا وقفوا حذفوا‏.‏ وأما يعقوب فإنه يثبتها في الوقف ويحذف في الوصل لالتقاء الساكنين‏.‏ الباقون بغير ياء في الحالين‏.‏ ‏{‏بل أنتم بهديتكم تفرحون‏}‏لأنكم أهل مفاخرة ومكاثرة في الدنيا‏.‏

قوله ‏{‏ارجع إليهم‏}‏أي قال سليمان للمنذر بن عمرو أمير الوفد؛ ارجع إليهم بهديتهم‏.‏ ‏{‏فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها‏}‏لام قسم والنون لها لازمة‏.‏ قال النحاس‏:‏ وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول‏:‏ هي لام توكيد وكذا كان عنده أن اللامات كلها ثلاث لا غير؛ لام توكيد؛ ولام أمر، ولام خفض؛ وهذا قول الحذاق من النحويين؛ لأنهم يردون الشيء إلى أصله‏:‏ وهذا لا يتهيأ إلا لمن درب في العربية‏.‏ ومعنى ‏{‏لا قبل لهم بها‏}‏أي لا طاقة لهم عليها‏.‏ ‏{‏ولنخرجنهم منها‏}‏أي من أرضهم وقيل ‏{‏منها‏}‏أي من قرية سبأ‏.‏ وقد سبق ذكر القرية في قوله ‏{‏إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها‏} ‏ ‏.‏ ‏{‏أذلة وهم صاغرون‏}‏‏{‏أذلة‏}‏قد سلبوا ملكهم وعزهم‏.‏ ‏{‏وهم صاغرون‏}‏أي مهانون أذلاء من الصغر وهو الذل إن لم يسلموا؛ فرجع إليها رسولها فأخبرها؛ فقالت‏:‏ قد عرفت أنه ليس بملك ولا طاقة لنا بقتال نبي من أنبياء الله‏.‏ ثم أمرت بعرشها فجعل في سبعة أبيات بعضها في جوف بعض؛ في آخر قصر من سبعة قصور؛ وغلقت الأبواب، وجعلت الحرس عليه، وتوجهت إليه في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن، تحت كل قيل مائة ألف‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وكان سليمان مهيبا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه؛ فنظر ذات يوم رهجا قريبا منه، فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ بلقيس يا نبي الله‏.‏ فقال سليمان لجنوده - وقال وهب وغيره‏:‏ للجن - ‏{‏أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين‏}‏وقال عبدالله بن شداد‏:‏ كانت بلقيس على فرسخ من سليمان لماقال ‏{‏أيكم يأتيني بعرشها‏}‏وكانت خلفت عرشها بسبأ، ووكلت به حفظة‏.‏ وقيل‏:‏ إنها لما بعثت بالهدية بعثت رسلها في جندها لتغافص سليمان عليه السلام بالقتل قبل أن يتأهب سليمان لها إن كان طالب ملك، فلما علم ذلكقال ‏{‏أيكم يأتيني بعرشها‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان أمره بالإتيان بالعرش قبل أن يكتب الكتاب إليها، ولم يكتب إليها حتى جاءه العرش‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وظاهر الآيات أن هذه المقالة من سليمان عليه السلام بعد مجيء هديتها ورده إياها، وبعثه الهدهد بالكتاب؛ وعلى هذا جمهور المتأولين‏.‏ واختلفوا في فائدة استدعاء عرشها؛ فقال قتادة‏:‏ ذكر له بعظم وجودة؛ فأراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإسلام ويحمي أموالهم؛ والإسلام على هذا الدين؛ وهو قول ابن جريج‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ استدعاه ليريها القدرة التي هي من عند الله، ويجعله دليلا على نبوته؛ لأخذه من بيوتها دون جيش ولا حرب؛ و‏{‏مسلمين‏}‏على هذا التأويل بمعنى مستسلمين؛ وهو قول ابن عباس‏.‏ وقال ابن زيد أيضا‏:‏ أراد أن يختبر عقلها ولهذاقال ‏{‏نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ خافت الجن أن يتزوج بها سليمان عليه السلام فيولد له منها ولد، فلا يزالون في السخرة والخدمة لنسل سليمان فقالت لسليمان في عقلها خلل؛ فأراد أن يمتحنها بعرشها‏.‏ وقيل‏:‏ أراد أن يختبر صدق الهدهد في قوله ‏{‏ولها عرش عظيم‏}‏قاله الطبري‏.‏ وعن قتادة‏:‏ أحب أن يراه لما وصفه الهدهد‏.‏ والقول الأول عليه أكثر العلماء؛ لقوله ‏{‏قبل أن يأتوني مسلمين‏}‏‏.‏ ولأنها لو أسلمت لحظر عليه مالها فلا يؤتي به إلا بإذنها‏.‏ روي أنه كان من فضة وذهب مرصعا بالياقوت الأحمر والجوهر، وأنه كان في جوف سبعة أبيات عليه سبعة أغلاق‏.‏

قوله ‏{‏قال عفريت من الجن‏}‏كذا قرأ الجمهور وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي‏}‏عِفْرِيَةٌ‏}‏ورويت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن الله يبغض العفرية النفرية‏)‏‏.‏ النفرية إتباع لعفرية‏.‏ قال قتادة‏:‏ هي الداهية قال النحاس‏:‏ يقال للشديد إذا كان معه خبث ودهاء عفر وعفرية وعفريت وعفارية‏.‏ وقيل ‏{‏عفريت‏}‏أي رئيس‏.‏ وقرأت فرقة‏}‏قال عِفْرٌ‏}‏بكسر العين؛ حكاه ابن عطية؛ قال النحاس‏:‏ من قال عفرية جمعه على عفار، ومن قال‏:‏ عفريت كان له في الجمع ثلاثة أوجه؛ إن شاء قال عفاريت، وإن شاء قال عَفار؛ لأن التاء زائدة؛ كما يقال‏:‏ طواغ في جمع طاغوت، وإن شاء عوض من التاء ياء فقال عفاري‏.‏ والعفريت من الشياطين القوي المارد‏.‏ والتاء زائدة‏.‏ وقد قالوا‏:‏ تعفرت الرجل إذا تخلق بخلق الإذاية‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ اسم هذا العفريت كودن؛ ذكره النحاس‏.‏ وقيل‏:‏ ذكوان؛ ذكره السهيلي‏.‏ وقال شعيب الجبائي‏:‏ اسمه دعوان‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه صخر الجني‏.‏ ومن هذا الاسم قول ذي الرمة‏:‏

كأنه كوكب في إثر عفرية مصوب في سواد الليل منقضب

وأنشد الكسائي‏:‏

إذ قال شيطانهم العفريت ليس لكم ملك ولا تثبيت

وفي الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن عفريتا من الجن جعل يفتك علي البارحة ليقطع علي الصلاة وإن الله أمكنني منه فدعته‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏‏"‏ وفي البخاري‏"‏ ‏(‏تفلت على البارحة‏)‏ مكان ‏(‏جعل يفتك‏)‏‏.‏‏"‏ وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد‏"‏ أنه قال‏:‏ أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار، كلما التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه؛ فقال جبريل‏:‏ أفلا أعلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بلى‏)‏ فقال‏:‏ ‏(‏أعوذ بالله الكريم وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء وشر ما يعرج فيها وشر ما ذرأ في الأرض، وشر ما يخرج منها ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ‏(‏

قوله ‏{‏أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك‏}‏يعني في مجلسه الذي يحكم فيه‏.‏ ‏{‏وإني عليه لقوي أمين‏}‏أي قوي على حمله‏.‏ ‏{‏أمين‏}‏على ما فيه‏.‏ ابن عباس‏:‏ أمين على فرج المرأة؛ ذكره المهدوي‏.‏ فقال سليمان أريد أسرع من ذلك؛ فـ ‏{‏قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك‏}‏أكثر المفسرين على أن الذي عنده علم من الكتاب آصف بن برخيا وهو من بني إسرائيل، وكان صديقا يحفظ اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب‏.‏ وقالت عائشة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اسم الله الأعظم الذي دعا به آصف بن برخيا يا حي يا قيوم‏)‏ قيل‏:‏ وهو بلسانهم، أهيا شراهيا؛ وقال الزهري‏:‏ دعاء الذي عنده اسم الله الأعظم؛ يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ايتني بعرشها؛ فمثل بين يديه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ دعا فقال‏:‏ يا إلهنا وإله كل شيء يا ذا الجلال والإكرام‏.‏ قال السهيلي‏:‏ الذي عنده علم من الكتاب هو آصف بن برخيا ابن خالة سليمان، وكان عنده اسم الله الأعظم من أسماء الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ هو سليمان نفسه؛ ولا يصح في سياق الكلام مثل هذا التأويل‏.‏ قال ابن عطية وقالت فرقة هو سليمان عليه السلام، والمخاطبة في هذا التأويل للعفريت لماقال ‏{‏أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك‏}‏كأن سليمان استبطأ ذلك فقال له على جهة تحقيره‏}‏أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك‏}‏واستدل قائلو هذه المقالة بقول سليمان‏}‏هذا من فضل ربي‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ ما ذكره ابن عطية قال النحاس في معاني القرآن له، وهو قول حسن إن شاء الله تعالى‏.‏ قال بحر‏:‏ هو ملك بيده كتاب المقادير، أرسله الله عند قول العفريت‏.‏ قال السهيلي‏:‏ وذكر محمد بن الحسن المقرئ أنه ضبة بن أد؛ وهذا لا يصح البتة لأن ضبة هو ابن أد بن طابخة، واسمه عمرو بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد‏:‏ ومعد كان في مدة بختنصر، وذلك بعد عهد سليمان بدهر طويل؛ فإذا لم يكن معد في عهد سليمان، فكيف ضبة بن أد وهو بعده بخمسة آباء‏؟‏‏!‏ وهذا بين لمن تأمله‏.‏ ابن لهيعة‏:‏ هو الخضر عليه السلام‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الذي عنده علم من الكتاب رجل صالح كان في جزيرة من جزائز البحر، خرج ذلك اليوم ينظر من ساكن الأرض؛ وهل يعبد الله أم لا‏؟‏ فوجد سليمان، فدعا باسم من أسماء الله تعالى فجيء بالعرش‏.‏ وقول سابع‏:‏ إنه رجل من بني إسرائيل اسمه يمليخا كان يعلم اسم الله الأعظم؛ ذكره القشيري‏.‏ وقال ابن أبي بزة‏:‏ الرجل الذي كان عنده علم من الكتاب اسمه أسطوم وكان عابدا في بني إسرائيل؛ ذكره الغزنوي‏.‏ وقال محمد بن المنكدر‏:‏ إنما هو سليمان عليه السلام؛ أما إن الناس يرون أنه كان معه اسم وليس ذلك كذلك؛ إنما كان رجل من بني إسرائيل عالم آتاه الله علما وفقهاقال ‏{‏أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك‏}‏قال‏:‏ هات‏.‏ قال‏:‏ أنت نبي الله ابن نبي الله فإن دعوت الله جاءك به، فدعا الله سليمان فجاءه الله بالعرش‏.‏ وقول ثامن‏:‏ إنه جبريل عليه السلام؛ قاله النخعي، وروي عن ابن عباس‏.‏ وعلم الكتاب على هذا علمه بكتب الله المنزلة، أو بما في اللوح المحفوظ‏.‏ وقيل‏:‏ علم كتاب سليمان إلى بلقيس‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والذي عليه الجمهور من الناس أنه رجل صالح من بني إسرائيل اسمه آصف بن برخيا؛ روي أنه صلى ركعتين، ثم قال لسليمان‏:‏ يا نبي الله آمدد بصرك فمد بصره نحو اليمن فإذا بالعرش، فما رد سليمان بصره إلا وهو عنده‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هو إدامة النظر حتى يرتد طرفه خاسئا حسيرا‏.‏ وقيل‏:‏ أراد مقدار ما يفتح عينه ثم يطرف، وهو كما تقول‏:‏ افعل كذا في لحظة عين؛ وهذا أشبه؛ لأنه إن كان الفعل من سليمان فهو معجزة، وإن كان من آصف أو من غيره من أولياء الله فهي كرامة، وكرامة الولي معجزة النبي‏.‏ قال القشيري‏:‏ وقد أنكر كرامات الأولياء من قال إن الذي عنده علم من الكتاب هو سليمان، قال للعفريت‏}‏أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك‏}‏‏.‏ وعند هؤلاء ما فعل العفريت فليس من المعجزات ولا من الكرامات، فإن الجن يقدرون على مثل هذا‏.‏ ولا يقطع جوهر في حال واحدة مكانين، بل يتصور ذلك بأن يعدم الله الجوهر في أقصى الشرق ثم يعيده في الحالة الثانية، وهي الحالة التي بعد العدم في أقصى الغرب‏.‏ أو يعدم الأماكن المتوسطة ثم يعيدها‏.‏ قال القشيري‏:‏ ورواه وهب عن مالك‏.‏ وقد قيل‏:‏ بل جيء به في الهواء؛ قاله مجاهد‏.‏ وكان بين سليمان والعرش كما بين الكوفة والحيرة‏.‏ وقال مالك‏:‏ كانت باليمن وسليمان عليه السلام بالشام‏.‏ وفي التفاسير انخرق بعرش بلقيس مكانه الذي هو فيه ثم نبع بين يدي سليمان؛ قال عبدالله بن شداد‏:‏ وظهر العرش من نفق تحت الأرض؛ فالله أعلم أي ذلك كان‏.‏

قوله ‏{‏فلما رآه مستقرا عنده‏}‏أي ثابتا عنده‏.‏ ‏{‏قال هذا من فضل ربي‏}‏أي هذا النصر والتمكين من فضل ربي‏.‏ ‏{‏ليبلوني‏}‏قال الأخفش‏:‏ المعنى لينظر ‏{‏أأشكر أم أكفر‏}‏وقال غيره‏:‏ معنى ‏{‏ليبلوني‏}‏ليتعبدني؛ وهو مجاز‏.‏ والأصل في الابتلاء الاختبار أي ليختبرني أأشكر نعمته أم أكفرها ‏{‏ومن شكر فإنما يشكر لنفسه‏}‏أي لا يرجع نفع ذلك إلا إلى نفسه، حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودوامها والمزيد منها‏.‏ والشكر قيد النعمة الموجودة، وبه تنال النعمة المفقودة‏.‏ ‏{‏ومن كفر‏}‏أي عن الشكر ‏{‏فإن ربي غني كريم‏}‏في التفضل‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 41 ‏:‏ 43 ‏)‏

‏{‏ قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون، فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين، وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين ‏}‏

قوله ‏{‏قال نكروا لها عرشها‏}‏أي غيروه‏.‏ قيل‏:‏ جعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه‏.‏ وقيل‏:‏ غيّر بزيادة أو نقصان‏.‏ قال الفراء وغيره‏:‏ إنما أمر بتنكيره لأن الشياطين قالوا له‏:‏ إن في عقلها شيئا فأراد أن يمتحنها‏.‏ وقيل‏:‏ خافت الجن أن يتزوج بها سليمان فيولد له منها ولد فيبقون مسخرين لآل سليمان أبدا، فقالوا لسليمان‏:‏ إنها ضعيفة العقل، ورجلها كرجل الحمار؛ فقال ‏{‏نكروا لها عرشها‏}‏لنعرف عقلها‏.‏ وكان لسليمان ناصح من الجن، فقال كيف لي أن أرى قدميها من غير أن أسألها كشفها‏؟‏ فقال‏:‏ أنا أجعل في هذا القصر ماء، وأجعل فوق الماء زجاجا، تظن أنه ماء فترفع ثوبها فترى قدميها؛ فهذا هو الصرح الذي أخبر الله تعالى عنه‏.‏

قوله ‏{‏فلما جاءت‏}‏يريد بلقيس، ‏{‏قيل‏}‏لها ‏{‏أهكذا عرشك قالت كأنه هو‏}‏شبهته به لأنها خلفته تحت الأغلاق، فلم تقر بذلك ولم تنكر، فعلم سليمان كمال عقلها‏.‏ قال عكرمة‏:‏ كانت حكيمة فقالت‏}‏كأنه هو‏}‏‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ عرفته ولكن شبهت عليهم كما شبهوا عليها؛ ولو قيل لها‏:‏ أهذا عرشك لقالت نعم هو؛ وقاله الحسن بن الفضل أيضا‏.‏ وقيل‏:‏ أراد سليمان أن يظهر لها أن الجن مسخرون له، وكذلك الشياطين لتعرف أنها نبوة وتؤمن به‏.‏ وقد قيل هذا في مقابلة تعميتها الأمر في باب الغلمان والجواري‏.‏ ‏{‏وأوتينا العلم من قبلها‏}‏قيل‏:‏ هو من قول بلقيس؛ أي أوتينا العلم بصحة نبوة سليمان من قبل هذه الآية في العرش ‏{‏وكنا مسلمين‏}‏منقادين لأمره‏.‏ وقيل‏:‏هو من قول سليمان أي أوتينا العلم بقدرة الله على ما يشاء من قبل هذه المرة‏.‏ وقيل ‏{‏وأوتينا العلم‏}‏بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها‏.‏ وقيل‏:‏ هو من كلام قوم سليمان‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله ‏{‏وصدها ما كانت تعبد من دون الله‏}‏الوقف على ‏{‏من دون الله‏}‏حسن؛ والمعنى‏:‏ منعها من أن تعبد الله ما كانت تعبد من الشمس والقمر فـ ‏{‏ما‏}‏في موضع رفع‏.‏ النحاس‏:‏ المعنى؛ أي صدها عبادتها من دون الله وعبادتها إياها عن أن تعلم ما علمناه عن أن تسلم‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏ما‏}‏في موضع نصب، ويكون التقدير‏:‏ وصدها سليمان عما كانت تعبد من دون الله؛ أي حال بينها وبينه‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ وصدها الله؛ أي منعها الله عن عبادتها غيره فحذفت ‏{‏عن‏}‏وتعدى الفعل‏.‏ نظيره ‏}‏واختار موسى قومه‏}‏ 7 @ 155 أي من قومه‏.‏ وأنشد سيبويه‏:‏

ونبئت عبدالله بالجو أصبحت كراما مواليها لئيما صميمها

وزعم أن المعنى عنده نبئت عن عبدالله‏.‏ ‏{‏إنها كانت من قوم كافرين‏}‏قرأ سعيد بن جبير‏}‏أنها‏}‏بفتح الهمزة، وهي في موضع نصب بمعنى، لأنها‏.‏ ويجوز أن يكون بدلا من ‏{‏ما‏}‏فيكون في موضع رفع إن كانت ‏{‏ما‏}‏فاعلة الصد‏.‏ والكسر على الاستئناف‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 44 ‏)‏

‏{‏ قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ‏}‏

قوله ‏{‏قيل لها ادخلي الصرح‏}‏التقدير عند سيبويه‏:‏ ادخلي إلى الصرح فحذف إلى وعدي الفعل‏.‏ وأبو العباس يغلطه في هذا؛ قال‏:‏ لأن دخل يدل على مدخول‏.‏ وكان الصرح صحنا من زجاج تحته ماء وفيه الحيتان، عمله ليريها ملكا أعظم من ملكها؛ قاله مجاهد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان من قوارير خلفه ماء ‏{‏حسبته لجة‏}‏أي ماء‏.‏ وقيل‏:‏ الصرح القصر؛ عن أبي عبيدة‏.‏ كما قال‏:‏

تحسب أعلامهن الصروحا

وقيل‏:‏ الصرح الصحن؛ كما يقال‏:‏ هذه صرحة الدار وقاعتها؛ بمعنى‏.‏ وحكى أبو عبيدة في الغريب المصنف أن الصرح كل بناء عال مرتفع من الأرض، وأن الممرد الطويل‏.‏ النحاس‏:‏ أصل هذا أنه يقال لكل بناء عمل عملا واحدا صرح؛ من قولهم‏:‏ لبن صريح إذا لم يشبه ماء؛ ومن قولهم‏:‏ صرح بالأمر، ومنه‏:‏ عربي صريح‏.‏ وقيل‏:‏ عمله ليختبر قول الجن فيها إن أمها من الجن، ورجلها رجل حمار؛ قاله وهب بن منبه‏.‏ فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد بها الغرق‏:‏ وتعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر‏.‏ ‏{‏وكشفت عن ساقيها‏}‏فإذا هي أحسن الناس ساقا؛ سليمة مما قالت الجن، غير أنها كانت كثيرة الشعر، فلما بلغت هذا الحد، قال لها سليمان بعد أن صرف بصره عنها‏}‏إنه صرح ممرد من قوارير‏}‏والممرد المحكوك المملس، ومنه الأمرد‏.‏ وتمرد الرجل إذ أبطأ خروج لحيته بعد إدراكه؛ قاله الفراء‏.‏ ومنه الشجرة المرداء التي لا ورق عليها‏.‏ ورملة مرداء إذا كانت لا تنبت‏.‏ والممرد أيضا المطول، ومنه قيل للحصن مارد‏.‏ أبو صالح‏:‏ طويل على هيئة النخلة‏.‏ ابن شجرة‏:‏ واسع في طوله وعرضه‏.‏ قال‏:‏

غدوت صباحا باكرا فوجدتهم قبيل الضحا في السابري الممرد

أي الدروع الواسعة‏.‏ وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم؛ على ما يأتي‏.‏ ولما رأى سليمان عليه السلام قدميها قال لناصحه من الشياطين‏:‏ كيف لي أن أقلع هذا الشعر من غير مضرة بالجسد‏؟‏ فدله على عمل النورة، فكانت النورة والحمامات من يومئذ‏.‏ في روى أن سليمان تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام؛ قاله الضحاك‏.‏ وقال سعيد بن عبدالعزيز في كتاب النقاش‏:‏ تزوجها وردها إلى ملكها‏:‏ باليمن، وكان يأتيها على الريح كل شهر مرة؛ فولدت له غلاما سماه داود مات في زمانه‏.‏ وفي بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كانت بلقيس من أحسن نساء العالمين ساقين وهي من أزواج سليمان عليه السلام في الجنة‏)‏ فقالت عائشة‏:‏ هي أحسن ساقين مني‏؟‏ فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أنت أحسن ساقين منها في الجنة‏)‏ ذكره القشيري‏.‏ وذكر الثعلبي عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏أول من اتخذ الحمامات سليمان بن داود فلما ألصق ظهره إلى الجدار فمسه حرها قال أواه من عذاب الله‏)‏‏.‏ ثم أحبها حبا شديدا وأقرها على ملكها باليمن، وأمر الجن فبنوا لها ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا‏:‏ سلحون وبينون وعمدان، ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة، ويقيم عندها ثلاثة أيام‏.‏ وحكى الشعبي أن ناسا من حمير حفروا مقبرة الملوك، فوجدوا فيها قبرا معقودا فيه امرأة حلل منسوجة بالذهب، وعند رأسها لوح رخام فيه مكتوب‏:‏

يا أيها الأقوام عوجوا معا وأربعوا في مقبري العيسا

لتعلموا أني تلك التي قد كنت أدعى الدهر بلقيسا

شيدت قصر الملك في حمير قومي وقدما كان مأنوسا

وكنت في ملكي وتدبيره أرغم في الله المعاطيسا

بعلي سليمان النبي الذي قد كان للتوراة دريسا

وسخر الريح له مركبا تهب أحيانا رواميسا

مع ابن داود النبي الذي قدسه الرحمن تقديسا

وقال محمد بن إسحاق ووهب بن منبه‏:‏ لم يتزوجها سليمان، وإنما قال لها‏:‏ اختاري زوجا؛ فقالت‏:‏ مثلي لا ينكح وقد كان لي من الملك ما كان‏.‏ فقال‏:‏ لا بد في الإسلام من ذلك‏.‏ فاختارت ذا تبع ملك همدان، فزوجه إياها وردها إلى اليمن، وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه، فبنى له المصانع، ولم يزل أميرا حتى مات سليمان‏.‏ وقال قوم‏:‏ لم يرد فيه خبر صحيح لا في أنه تزوجها ولا في أنه زوجها‏.‏ وهي بلقيس بنت السرح بن الهداهد بن شراحيل بن أدد بن حدر بن السرح بن الحرس بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح‏.‏ وكان جدها الهداهد ملكا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ولدا كلهم ملوك، وكان ملك أرض اليمن كلها، وكان أبوها السرح يقول لملوك الأطراف‏:‏ ليس أحد منكم كفؤا لي، وأبى أن يتزوج منهم، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن، فولدت له بلقمة وهي بلقيس، ولم يكن له ولد غيرها‏.‏ وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كان أحد أبوي بلقيس جنيا‏)‏ فمات أبوها، واختلف عليها قومها فرقتين، وملكوا أمرهم رجلا فساءت سيرته، حتى فجر بنساء رعيته، فأدركت بلقيس الغيرة، فعرضت عليه نفسها فتزوجها، فسقته الخمر حتى حزت رأسه، ونصبته على باب دارها فملكوها‏.‏ وقال أبو بكرة‏:‏ ذكرت بلقيس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ‏)‏

ويقال‏:‏ إن سبب تزوج أبيها من الجن أنه كان وزيرا لملك عات يغتصب نساء الرعية، وكان الوزير غيورا فلم يتزوج، فصحب مرة في الطريق رجلا لا يعرفه، فقال هل لك من زوجة‏؟‏ فقال‏:‏ لا أتزوج أبدا، فإن ملك بلدنا يغتصب النساء من أزواجهن، فقال لئن تزوجت ابنتي لا يغتصبها أبدا‏.‏ قال‏:‏ بل يغتصبها‏.‏ قال‏:‏ إنا قوم من الجن لا يقدر علينا؛ فتزوج ابنته فولدت له بلقيس؛ ثم ماتت الأم وابتنت بلقيس قصرا في الصحراء، فتحدث أبوها بحديثها غلطا، فنمى للملك خبرها فقال له‏:‏ يا فلان تكون عندك هذه البنت الجميلة وأنت لا تأتيني بها، وأنت تعلم حبي للنساء ثم أمر بحبسه، فأرسلت بلقيس إليه إني بين يديك؛ فتجهز للمسير إلى قصرها، فلما هم بالدخول بمن معه أخرجت إليه الجواري من بنات الجن مثل صورة الشمس، وقلن له ألا تستحي ‏؟‏ تقول لك سيدتنا أتدخل بهؤلاء الرجال معك على أهلك فأذن لهم بالانصراف ودخل وحده، وأغلقت عليه الباب وقتلته بالنعال، وقطعت رأسه ورمت به إلى عسكره، فأمروها عليهم، فلم تزل كذلك إلى أن بلغ الهدهد خبرها سليمان عليه السلام‏.‏ وذلك أن سليمان لما نزل في بعض منازله قال الهدهد‏:‏ إن سليمان قد اشتغل بالنزول، فارتفع نحو السماء فأبصر طول الدنيا وعرضها، فأبصر الدنيا يمينا وشمالا، فرأى بستانا لبلقيس فيه هدهد، وكان اسم ذلك الهدهد عفير، فقال عفير اليمن ليعفور سليمان‏:‏ من أين أقبلت ‏؟‏ وأين تريد ‏؟‏ قال‏:‏ أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود‏.‏ قال‏:‏ ومن سليمان ‏؟‏ قال‏:‏ ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحش والريح وكل ما بين السماء والأرض‏.‏ فمن أين أنت‏؟‏ قال‏:‏ من هذه البلاد؛ ملكها امرأة يقال لها بلقيس، تحت يدها اثنا عشر ألف قيل، تحت يد كل قيل مائة ألف مقاتل من سوى النساء والذراري؛ فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها، ورجع إلى سليمان وقت العصر، وكان سليمان قد فقده وقت الصلاة فلم يجده، وكانوا على غير ماء‏.‏

قال ابن عباس في رواية‏:‏ وقعت عليه نفحة من الشمس‏.‏ فقال لوزير الطير‏:‏ هذا موضع من‏؟‏ قال‏:‏ يا نبي الله هذا موضع الهدهد قال‏:‏ وأين ذهب‏؟‏ قال‏:‏ لا أدوي أصلح الله الملك‏.‏ فغضب سليمان وقال ‏{‏لأعذبنه عذابا شديدا‏}‏ الآية‏.‏ ثم دعا بالعقاب سيد الطير وأصرمها وأشدها بأسا فقال‏:‏ ما تريد يا نبي الله‏؟‏ فقال‏:‏ علي بالهدهد الساعة‏.‏ فرفع العقاب نفسه دون، السماء حتى لزق بالهواء، فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم، فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحن اليمن، فانقض نحوه وأنشب فيه مخلبه‏.‏ فقال له الهدهد‏:‏ أسألك بالله الذي أقدرك وقواك علي إلا رحمتني‏.‏ فقال له‏:‏ الويل لك؛ وثكلتك أمك‏!‏ إن نبي الله سليمان حلف أن يعذبك أو يذبحك‏.‏ ثم أتى به فاستقبلته النسور وسائر عساكر الطير‏.‏ وقالوا الويل لك؛ لقد توعدك نبي الله‏.‏ فقال‏:‏ وما قدري وما أنا‏!‏ أما استثنى‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى إنهقال ‏{‏أو ليأتيني بسلطان مبين‏} ‏ ثم دخل على سليمان فرفع رأسه، وأرخى ذنبه وجناحيه تواضعا لسليمان عليه السلام‏.‏ فقال له سليمان‏:‏ أين كنت عن خدمتك ومكانك‏؟‏ لأعذبنك عذابا شديدا أو لأذبحنك‏.‏ فقال له الهدهد‏:‏ يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله بمنزلة وقوفي بين يديك‏.‏ فاقشعر جلد سليمان وارتعد وعفا عنه‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ إنما صرف الله سليمان عن ذبح الهدهد أنه كان بارا بوالديه؛ ينقل الطعام إليهما فيزقهما‏.‏ ثم قال له سليمان‏:‏ ما الذي أبطأ بك‏؟‏ فقال الهدهد ما أخبر الله عن بلقيس وعرشها وقومها حسبما تقدم بيانه‏.‏ قال الماوردي‏:‏ والقول بأن أم بلقيس جنية مستنكر من العقول لتباين الجنسين، واختلاف الطبعين، وتفارق الحسين؛ لأن الآدمي جسماني والجن روحاني، وخلق الله الآدمي من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار، ويمنع الامتزاج مع هذا التباين، ويستحيل التناسل مع هذا الاختلاف‏.‏

قلت‏:‏ قد مضى القول في هذا، والعقل لا يحيله مع ما جاء من الخبر في ذلك، وإذا نظر في أصل الخلق فأصله الماء على ما تقدم بيانه، ولا بعد في ذلك؛ والله أعلم‏.‏ وفي التنزيل ‏{‏وشاركهم في الأموال والأولاد‏} ‏ وقد تقدم‏.‏ وقال ‏{‏لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان‏}‏ ‏.‏ على ما يأتي في الرحمن

قوله ‏{‏قالت رب إني ظلمت نفسي‏}‏أي بالشرك الذي كانت عليه؛ قاله ابن شجرة‏.‏ وقال سفيان‏:‏ أي بالظن الذي توهمته في سليمان؛ لأنها لما أمرت بدخول الصرح حسبته لجة، وأن سليمان يريد تغريقها فيه‏.‏ فلما بان لها أنه صرح ممرد من قوارير علمت أنها ظلمت نفسها بذلك الظن‏.‏ وكسرت ‏{‏إن‏}‏لأنها مبتدأة بعد القول‏.‏ ومن العرب من يفتحها فيعمل فيها القول‏.‏ ‏{‏وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين‏}‏إذا سكنت ‏{‏مع‏}‏فهي حرف جاء لمعنى بلا اختلاف بين النحويين‏.‏ وإذا فتحتها ففيها قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه بمعنى الظرف اسم‏.‏ والآخر‏:‏ أنه حرف خافض مبني على الفتح؛ قال النحاس‏:‏

الآية رقم ‏(‏ 45 ‏:‏ 47 ‏)‏

‏{‏ ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون، قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون، قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون ‏}‏

قوله ‏{‏ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله‏}‏تقدم معناه‏.‏ ‏{‏فإذا هم فريقان يختصمون‏}‏قال مجاهد‏:‏ أي مؤمن وكافر؛ قال‏:‏ والخصومة ما قصه الله تعالى في قوله ‏{‏أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه‏}‏ إلى قوله ‏{‏كافرون‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ تخاصمهم أن كل فرقة قالت‏:‏ نحن على الحق دونكم‏.‏

قوله ‏{‏قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة‏}‏قال مجاهد‏:‏ بالعذاب قبل الرحمة؛ المعنى‏:‏ لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب، وتقدمون الكفر الذي يوجب العقاب؛ فكان الكفار يقولون لفرط الإنكار‏:‏ ايتنا بالعذاب‏.‏ وقيل‏:‏ أي لم تفعلون ما تستحقون به العقاب؛ لا أنهم التمسوا تعجيل العذاب‏.‏ ‏{‏لولا تستغفرون الله‏}‏أي هلا تتوبون إلى الله من الشرك‏.‏ ‏{‏لعلكم ترحمون‏}‏لكي ترحموا؛ وقد تقدم‏.‏

قوله ‏{‏قالوا اطيرنا بك وبمن معك‏}‏أي تشاءمنا‏.‏ والشؤم النحس‏.‏ ولا شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة‏.‏ ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد قضاء، أو يدفع مقدورا فقد جهل‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

طيرة الدهر لا ترد قضاء فاعذر الدهر لا تشبه بلوم

أي يوم يخصه بسعود والمنايا ينزلن في كل يوم

ليس يوم إلا وفيه سعود ونحوس تجري لقوم فقوم

وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة، وكانت إذا أرادت سفرا نفرت طائرا، فإذا طار يمنة سارت وتيمنت، وإن طار شمالا رجعت وتشاءمت، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال‏:‏ ‏(‏أقِروا الطير على وكناتها‏)‏ على ما تقدم بيانه في المائدة ‏{‏قال طائركم عند الله‏}‏أي مصائبكم‏.‏ ‏{‏بل أنتم قوم تفتنون‏}‏أي تمتحنون‏.‏ وقيل‏:‏ تعذبون بذنوبكم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 48 ‏:‏ 49 ‏)‏

‏{‏ وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ‏}‏

قوله ‏{‏وكان في المدينة‏}‏أي في مدينة صالح وهي الحجر ‏{‏تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون‏}‏أي تسعة رجال من أبناء أشرافهم‏.‏ قال الضحاك‏.‏ كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة، وكانوا يفسدون في الأرض ويأمرون بالفساد، فجلسوا عند صخرة عظيمة فقلبها الله عليهم‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ بلغني أنهم كانوا يقرضون الدنانير والدراهم، وذلك من الفساد في الأرض؛ وقاله سعيد بن المسيب‏.‏ وقيل‏:‏ فسادهم أنهم يتبعون عورات الناس ولا يسترون عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ غير هذا‏.‏ واللازم من الآية ما قاله الضحاك وغيره أنهم كانوا من أوجه القوم وأقناهم وأغناهم، وكانوا أهل كفر ومعاص جمة؛ وجملة أمرهم أنهم يفسدون ولا يصلحون‏.‏ والرهط اسم للجماعة؛ فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كل واحد منهم رهط‏.‏ والجمع أرهط وأراهط‏.‏ قال‏:‏

يا بؤس للحرب التي وضعت أراهط فاستراحوا

وهؤلاء المذكورون كانوا أصحاب قُدَار عاقر الناقة؛ ذكره ابن عطية‏.‏

قلت‏:‏ واختلف في أسمائهم؛ فقال الغزنوي‏:‏ وأسماؤهم قدار بن سالف ومصدع وأسلم ودسما وذهيم وذعما وذعيم وقتال وصداق‏.‏ ابن إسحاق‏:‏ رأسهم قدار بن سالف ومصدع بن مهرع، فاتبعهم سبعة؛ هم بلع بن ميلع ودعير بن غنم وذؤاب بن مهرج وأربعة لم تعرف أسماؤهم‏.‏ وذكر الزمخشري أسماءهم عن وهب بن منبه‏:‏ الهذيل بن عبد رب، غنم بن غنم، رياب بن مهرج، مصدع بن مهرج، عمير بن كردبة، عاصم بن مخرمة، سبيط بن صدقة، سمعان بن صفي، قدار بن سالف؛ وهم الذين سعوا في عقر الناقة، وكانوا عتاة قوم صالح، وكانوا من أبناء أشرافهم‏.‏ السهيلي‏:‏ ذكر النقاش التسعة الذين كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وسماهم بأسمائهم، وذلك لا ينضبط برواية؛ غير أني أذكره على وجه الاجتهاد والتخمين، ولكن نذكره على ما وجدناه في كتاب محمد بن حبيب، وهم‏:‏ مصدع بن دهر‏.‏ ويقال دهم، وقدار بن سالف، وهريم وصواب ورياب وداب ودعما وهرما ودعين بن عمير‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكر الماوردي أسماءهم عن ابن عباس فقال‏:‏ هم دعما ودعيم وهرما وهريم وداب وصواب ورياب ومسطح وقدار، وكانوا بأرض الحجر وهي أرض الشام‏.‏

قوله ‏{‏قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله‏}‏يجوز أن يكون ‏{‏تقاسموا‏}‏فعلا مستقبلا وهو أمر؛ أي قال بعضهم لبعض احلفوا‏.‏ ويجوز أن يكون ماضيا في معنى الحال كأنه قال‏:‏ قالوا متقاسمين بالله؛ ودليل هذا التأويل قراءة عبدالله ‏{‏يفسدون في الأرض ولا يصلحون‏.‏ تقاسموا بالله‏}‏وليس فيها ‏{‏قالوا‏}‏‏.‏ ‏{‏لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه‏}‏قراءة العامة بالنون فيهما واختاره أبو حاتم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ بالتاء فيهما، وضم التاء واللام على الخطاب أي أنهم تخاطبوا بذلك؛ واختاره أبو عبيد‏.‏ وقرأ مجاهد وحميد بالياء فيهما، وضم الياء واللام على الخبر‏.‏ والبيات مباغتة العدو ليلا‏.‏ ومعنى ‏{‏لوليه‏}‏أي لرهط صالح الذي له ولاية الدم‏.‏ ‏{‏ما شهدنا مهلك أهله‏}‏أي ما حضرنا، ولا ندري من قتله وقتل أهله‏.‏ والمهلك بمعنى الإهلاك؛ ويجوز أن يكون الموضع‏.‏ وقرأ عاصم والسلمي‏:‏ بفتح الميم واللام أي الهلاك؛ يقال‏:‏ ضرب يضرب مضربا أي ضربا‏.‏ وقرأ المفضل وأبو بكر‏:‏ بفتح الميم وجر اللام فيكون اسم المكان كالمجلس لموضع الجلوس؛ ويجوز أن يكون مصدرا؛ كقوله ‏{‏إليه مرجعكم‏} ‏ أي رجوعكم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 50 ‏:‏ 53 ‏)‏

‏{‏ ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون، وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ‏}‏

قوله ‏{‏ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون‏}‏مكرهم ما روي أن هؤلاء التسعة لما كان في صدر الثلاثة الأيام بعد عقر الناقة، وقد أخبرهم صالح بمجيء العذاب، اتفقوا وتحالفوا على أن يأتوا دار صالح ليلا ويقتلوه وأهله المختصين به؛ قالوا‏:‏ فإذا كان كاذبا في وعيده أوقعنا به ما يستحق، وإن كان صادقا كنا عجلناه قبلنا، وشفينا نفوسنا؛ قال مجاهد وغيره‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أرسل الله تعالى الملائكة تلك الليلة، فامتلأت بهم دار صالح، فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم، فقتلهم الملائكة رضخا بالحجارة فيرون الحجارة ولا يرون من يرميها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ خرجوا مسرعين إلى صالح، فسلط عليهم ملك بيده صخرة فقتلهم‏.‏ وقال السدي‏:‏ نزلوا على جرف من الأرض، فانهار بهم فأهلكهم الله تحته‏.‏ وقيل‏:‏ اختفوا في غار قريب من دار صالح، فانحدرت عليهم صخرة شدختهم جميعا، فهذا ما كان من مكرهم‏.‏ ومكر الله مجازاتهم على ذلك‏.‏ ‏{‏فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين‏}‏أي بالصيحة التي أهلكتهم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هلاك الكل كان بصيحة جبريل‏.‏ والأظهر أن التسعة هلكوا بعذاب مفرد؛ ثم هلك الباقون بالصيحة والدمدمة‏.‏ وكان الأعمش والحسن وابن أبي إسحاق وعاصم وحمزة والكسائي يقرؤون‏}‏أنا‏}‏بالفتح؛ وقال ابن الأنباري‏:‏ فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على ‏{‏عاقبة مكرهم‏}‏لأن ‏{‏أنا دمرناهم‏}‏خبر كان‏.‏ ويجوز أن تجعلها في موضع رفع على الإتباع للعاقبة‏.‏ ويجوز أن تجعلها في موضع نصب من قول الفراء، وخفض من قول الكسائي على معنى‏:‏ بأنا دمرناهم ولأنا دمرناهم‏.‏ ويجوز أن تجعلها في موضع نصب على الإتباع لموضع ‏{‏كيف‏}‏فمن هذه المذاهب لا يحسن الوقف على ‏{‏مكرهم‏}‏‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو‏}‏إنا دمرناهم‏}‏بكسر الألف على الاستئناف؛ فعلى هذا المذهب يحسن الوقف على ‏{‏مكرهم‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ ويجوز أن تنصب ‏{‏عاقبة‏}‏على خبر ‏{‏كان‏}‏ويكون ‏{‏إنا‏}‏في موضع رفع على أنها اسم ‏{‏كان‏}‏‏.‏ ويجوز أن تكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ تبيينا للعاقبة؛ والتقدير‏:‏ هي إنا دمرناهم؛ قال أبو حاتم‏:‏ وفي حرف أُبَي ‏{‏أن دمرناهم‏}‏تصديقا لفتحها‏.‏

قوله ‏{‏فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا‏}‏قراءة العامة بالنصب على الحال عند الفراء والنحاس؛ أي خالية عن أهلها خرابا ليس بها ساكن‏.‏ وقال الكسائي وأبو عبيدة‏}‏خاوية‏}‏نصب على القطع؛ مجازه‏:‏ فتلك بيوتهم الخاوية، فلما قطع منها الألف واللام نصب على الحال؛ كقوله ‏{‏وله الدين واصبا‏} ‏ ‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري‏:‏ بالرفع على أنها خبر عن ‏{‏تلك‏}‏و‏{‏بيوتهم‏}‏بدل من ‏{‏تلك‏}‏‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏بيوتهم‏}‏عطف بيان و‏{‏خاوية‏}‏خبر عن ‏{‏تلك‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون رفع ‏{‏خاوية‏}‏على أنها خبر ابتداء محذوف؛ أي هي خاوية، أو بدل من ‏{‏بيوتهم‏}‏لأن النكرة تبدل من المعرفة‏.‏ ‏{‏إن في ذلك لآية لقوم يعلمون‏.‏ وأنجينا الذين آمنوا‏}‏بصالح ‏{‏وكانوا يتقون‏}‏الله ويخافون عذابه‏.‏ قيل‏:‏ آمن بصالح قدر أربعة آلاف رجل‏.‏ والباقون خرج بأبدانهم - في قول مقاتل وغيره - خراج مثل الحمص؛ وكان في اليوم الأول أحمر، ثم صار من الغد أصفر، ثم صار في الثالث أسود‏.‏ وكان عقر الناقة يوم الأربعاء، وهلاكهم يوم الأحد‏.‏ قال مقاتل‏:‏ فقعت تلك الخراجات، وصاح جبريل بهم خلال ذلك صيحة فخمدوا، وكان ذلك ضحوة‏.‏ وخرج صالح بمن آمن معه إلى حضرموت؛ فلما دخلها مات صالح؛ فسميت حضرموت‏.‏ قال الضحاك‏:‏ ثم بنى الأربعة الآلاف مدينة يقال لها حاضورا؛ على ما تقدم بيانه في قصة أصحاب الرس‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 54 ‏:‏ 58 ‏)‏

‏{‏ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون، أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون، فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون، فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين، وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين ‏}‏

قوله ‏{‏ولوطا‏}‏أي وأرسلنا لوطا، أو اذكر لوطا ‏{‏إذ قال لقومه‏}‏وهم أهل سدوم‏.‏ وقال لقومه‏}‏أتأتون الفاحشة‏}‏الفعلة القبيحة الشنيعة‏.‏ ‏{‏وأنتم تبصرون‏}‏أنها فاحشة، وذلك أعظم لذنوبكم‏.‏ وقيل‏:‏ يأتي بعضكم بعضا وأنتم تنظرون إليه‏.‏ وكانوا لا يستترون عتوا منهم وتمردا‏.‏ ‏{‏أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء‏}‏أعاد ذكرها لفرط قبحها وشنعتها‏.‏ ‏{‏بل أنتم قوم تجهلون‏}‏إما أمر التحريم أو العقوبة‏.‏ واختيار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة الثانية من ‏{‏أئنكم‏}‏فأما الخط فالسبيل فيه أن يكتب بألفين على الوجوه كلها؛ لأنها همزة مبتدأة دخلت عليها ألف الاستفهام‏.‏

قوله ‏{‏فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون‏}‏أي عن أدبار الرجال‏.‏ يقولون ذلك استهزاء منهم؛ قاله مجاهد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ عابوهم والله بغير عيب بأنهم يتطهرون من أعمال السوء‏.‏ ‏{‏فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين‏}‏وقرأ عاصم‏}‏قدرنا‏}‏مخففا والمعنى واحد‏.‏ يقال قد قدرت الشيء قدرا وقدرا وقدرته‏.‏ ‏{‏وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين‏}‏أي من أنذر فلم يقبل الإنذار‏.‏ وقد مضى بيانه‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 59 ‏:‏ 62 ‏)‏

‏{‏ قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون، أم من خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون، أم من جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ‏}‏

قوله ‏{‏قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى‏}‏قال الفراء‏:‏ قال أهل المعاني‏:‏ قيل للوط ‏{‏قل الحمد لله‏}‏على هلاكهم‏.‏ وخالف جماعة من العلماء الفراء في هذا وقالوا‏:‏ هو مخاطبة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي قل الحمد لله على هلاك كفار الأمم الخالية‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا أولى، لأن القرآن منزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما فيه فهو مخاطب به عليه السلام إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى؛ أي ‏{‏قل‏}‏يا محمد ‏{‏الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى‏}‏يعني أمته عليه السلام‏.‏ قال الكلبي‏:‏ اصطفاهم الله بمعرفته وطاعته‏.‏ وقال ابن عباس وسفيان‏:‏ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده‏.‏ وفيه تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين، وإصغائهم إليه، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المستمع‏.‏ ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد، وقبل كل عظة وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المترسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني، وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن‏.‏

قوله ‏{‏الذين اصطفى‏}‏اختار؛ أي لرسالته وهم الأنبياء عليهم السلام؛ دليله قوله ‏{‏وسلام على المرسلين‏} ‏ ‏.‏ ‏{‏آلله خير أما يشركون‏}‏وأجاز أبو حاتم ‏{‏أألله خير‏}‏بهمزتين‏.‏ النحاس‏:‏ ولا نعلم أحدا تابعه على ذلك؛ لأن هذه المدة إنما جيء بها فرقا بين الاستفهام والخبر، وهذه ألف التوقيف، و‏{‏خير‏}‏ههنا ليس بمعنى أفضل منك، وإنما هو مثل قول الشاعر‏:‏

أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء

فالمعنى فالذي فيه الشر منكما للذي فيه الخير الفداء‏.‏ ولا يجوز أن يكون بمعنى من لأنك إذا قلت‏:‏ فلان شر من فلان ففي كل واحد منهما شر‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى؛ الخير في هذا أم في هذا الذي تشركونه في العبادة‏!‏ وحكى سيبويه‏:‏ السعادة أحب إليك أم الشقاء؛ وهو يعلم أن السعادة أحب إليه‏.‏ وقيل‏:‏ هو على بابه من التفضيل، والمعنى‏:‏ آلله خير أم ما تشركون؛ أي أثوابه خير أم عقاب ما تشركون‏.‏ وقيل‏:‏ قال لهم ذلك؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن في عبادة الأصنام خير فخاطبهم الله عز وجل على اعتقادهم‏.‏ وقيل‏:‏ اللفظ لفظ الاستفهام ومعناه الخبر‏.‏ وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب‏}‏يشركون‏}‏بياء على الخبر‏.‏ الباقون بالتاء على الخطاب، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية يقول‏:‏ ‏(‏بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم ‏(‏

قوله ‏{‏أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء‏}‏قال أبو حاتم‏:‏ تقديره؛ آلهتكم خير أم من خلق السماوات والأرض؛ وقد تقدم‏.‏ ومعناه‏:‏ قدر على خلقهن‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى؛ أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير أم عبادة من خلق السماوات والأرض‏؟‏ فهو مردود على ما قبله من المعنى؛ وفيه معنى التوبيخ لهم، والتنبيه على قدرة الله عز وجل وعجز آلهتهم‏.‏ ‏{‏فأنبتنا به حدائق ذات بهجة‏}‏الحديقة البستان الذي عليه حائط‏.‏ والبهجة المنظر الحسن‏.‏ قال الفراء‏:‏ الحديقة البستان المحظر عليه حائط، وإن لم يكن عليه حائط فهو البستان وليس بحديقة‏.‏ وقال قتادة وعكرمة‏:‏ الحدائق النخل ذات بهجة، والبهجة الزينة والحسن؛ يبهج به من رآه‏.‏ ‏{‏ما كان لكم أن تنبتوا شجرها‏}‏‏{‏ما‏}‏للنفي‏.‏ ومعناه الحظر والمنع من فعل هذا؛ أي ما كان للبشر، ولا يتهيأ لهم، ولا يقع تحت قدرتهم، أن ينبتوا شجرها؛ إذ هم عجزة عن مثلها، لأن ذلك إخراج الشيء من العدم إلى الوجود‏.‏

قلت‏:‏ وقد يستدل من هذا على منع تصوير شيء سواء كان له روح أم لم يكن؛ وهو قول مجاهد‏.‏ ويعضده قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة‏)‏ ‏"‏رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة‏"‏؛ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏قال الله عز وجل‏)‏ فذكره؛ فعم بالذم والتهديد والتقبيح كل من تعاطى تصوير شيء مما خلقه الله وضاهاه في التشبيه في خلقه فيما انفرد به سبحانه من الخلق والاختراع هذا واضح‏.‏ وذهب الجمهور إلى أن تصوير ما ليس فيه روح يجوز هو والاكتساب به‏.‏ وقد قال ابن عباس للذي سأل أن يصنع الصور‏:‏ إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له خرجه مسلم أيضا‏.‏ والمنع أولى والله أعلم لما ذكرنا‏.‏ وسيأتي لهذا مزيد بيان في سبأ إن شاء الله تعالى ثم قال على جهة التوبيخ‏}‏أإله مع الله‏}‏أي هل معبود مع الله يعينه على ذلك‏.‏ ‏{‏بل هم قوم يعدلون‏}‏بالله غيره‏.‏ وقيل ‏{‏يعدلون‏}‏عن الحق والقصد؛ أي يكفرون‏.‏ وقيل ‏{‏إله‏}‏مرفوع بـ ‏{‏مع‏}‏تقديره‏:‏ أمع الله ويلكم إله‏.‏ والوقف على ‏{‏مع الله‏}‏حسن‏.‏

قوله ‏{‏أمن جعل الأرض قرارا‏}‏أي مستقرا‏.‏ ‏{‏وجعل خلالها أنهارا‏}‏أي وسطها مثل ‏}‏وفجرنا خلالهما نهرا‏} ‏ ‏.‏ ‏{‏وجعل لها رواسي‏}‏يعني جبالا ثوابت تمسكها وتمنعها من الحركة‏.‏ ‏{‏وجعل بين البحرين حاجزا‏}‏مانعا من قدرته لئلا يختلط الأجاج بالعذب‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ سلطانا من قدرته فلا هذا يغير ذاك ولا ذاك يغير هذا‏.‏ والحجز المنع‏.‏ ‏{‏أإله مع الله‏}‏أي إذا ثبت أنه لا يقدر على هذا غيره فلم يعبدون ما لا يضر ولا ينفع‏.‏ ‏{‏بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏يعني كأنهم يجهلون الله فلا يعلمون ما يجب له من الوحدانية‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 62 ‏:‏ 64 ‏)‏

‏{‏ أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون، أم من يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون، أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ‏}‏

قوله ‏{‏أمن يجيب المضطر إذا دعاه‏}‏قال ابن عباس‏:‏ هو ذو الضرورة المجهود‏.‏ وقال السدي‏:‏ الذي لا حول له ولا قوة‏.‏ وقال ذو النون‏:‏ هو الذي قطع العلائق عما دون الله‏.‏ وقال أبو جعفر وأبو عثمان النيسابوري‏:‏ هو المفلس‏.‏ وقال سهل بن عبدالله‏:‏ هو الذي إذا رفع يديه إلى الله داعيا لم يكن له وسيلة من طاعة قدمها‏.‏ وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال‏:‏ أنا أسألك بالله أن تدعو لي فأنا مضطر؛ قال‏:‏ إذا فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وإني لأدعو الله والأمر ضيق علي فما ينفك أن يتفرجا

ورب أخ سدت عليه وجوهه أصاب لها لما دعا الله مخرجا

وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي بكرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء المضطر‏:‏ ‏(‏اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت ‏)‏

ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه؛ والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه؛ وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر؛ كما قال ‏{‏حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين‏}‏ وقوله ‏{‏فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون‏} ‏ فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم‏.‏ وقال ‏{‏فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين‏}‏فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده‏)‏ ذكره صاحب الشهاب؛ وهو حديث صحيح‏.‏ ‏"‏وفي صحيح مسلم ‏"‏عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن ‏(‏واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب‏)‏ وفي كتاب الشهاب‏:‏ ‏(‏اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام فيقول الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين‏)‏ وهو صحيح أيضا‏.‏ وخرج الآجري من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر‏)‏ فيجيب المظلوم لموضع إخلاصه بضرورته بمقتضى كرمه، وإجابة لإخلاصه وإن كان كافرا، وكذلك إن كان فاجرا في دينه؛ ففجور الفاجر وكفر الكافر لا يعود منه نقص ولا وهن على مملكة سيده، فلا يمنعه ما قضى للمضطر من إجابته‏.‏ وفسر إجابة دعوة المظلوم بالنصرة على ظالمه بما شاء سبحانه من قهر له، أو اقتصاص منه، أو تسليط ظالم آخر عليه يقهره كما قال عز وجل ‏{‏وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا‏} ‏ وأكد سرعة إجابتها بقول‏:‏ ‏(‏تحمل على الغمام‏)‏ ومعناه والله أعلم أن الله عز وجل يوكل ملائكته بتلقي دعوة المظلوم وبحملها على الغمام، فيعرجوا بها إلى السماء، والسماء قبلة الدعاء ليراها الملائكة كلهم، فيظهر منه معاونة المظلوم، وشفاعة منهم له في إجابة دعوته، رحمة له‏.‏ وفي هذا تحذير من الظلم جملة، لما فيه من سخط الله ومعصيته ومخالفة أمره؛ حيث قال على لسان نبيه في صحيح مسلم وغيره‏:‏ ‏(‏يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ فالمظلوم مضطر، ويقرب منه المسافر؛ لأنه منقطع عن الأهل والوطن منفرد عن الصديق والحميم، لا يسكن قلبه إلى مسعد ولا معين لغربته‏.‏ فتصدق ضرورته إلى المولى، فيخلص إليه في اللجاء، وهو المجيب للمضطر إذا دعاه، وكذلك دعوة الوالد على ولده، لا تصدر منه مع ما يعلم من حنته عليه وشفقته، إلا عند تكامل عجزه عنه، وصدق ضرورته؛ وإياسه عن بر ولده، مع وجود أذيته، فيسرع الحق إلى إجابته‏.‏

قوله ‏{‏ويكشف السوء‏}‏أي الضر‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ الجور‏.‏ ‏{‏ويجعلكم خلفاء الأرض‏}‏أي سكانها يهلك قوما وينشئ آخرين‏.‏ وفي كتاب النقاش‏:‏ أي ويجعل أولادكم خلفا منكم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ خلفا من الكفار ينزلون أرضهم، وطاعة الله بعد كفرهم‏.‏ ‏{‏أإله مع الله‏}‏على جهة التوبيخ؛ كأنه قال أمع الله ويلكم إله؛ فـ ‏{‏إله‏}‏مرفوع بـ ‏{‏مع‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون مرفوعا بإضمار أإله مع الله يفعل ذلك فتعبدوه‏.‏ والوقف على ‏{‏مع الله‏}‏حسن‏.‏ ‏{‏قليلا ما تتذكرون‏}‏قرأ أبو عمرو وهشام ويعقوب‏}‏يذَّكَّرون‏}‏بالياء على الخبر، كقول ‏}‏بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏ و‏{‏تعالى الله عما يشركون‏}‏فأخبر فيما قبلها وبعدها؛ واختاره أبو حاتم‏.‏ الباقون بالتاء خطابا لقوله ‏{‏ويجعلكم خلفاء الأرض‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏أمن يهديكم‏}‏أي يرشدكم الطريق ‏{‏في ظلمات البر والبحر‏}‏إذا سافرتم إلى البلاد التي تتوجهون إليها بالليل والنهار‏.‏ وقيل‏:‏ وجعل مفاوز البر التي لا أعلام لها، ولجج البحار كأنها ظلمات؛ لأنه ليس لها علم يهتدى به‏.‏ ‏{‏ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته‏}‏أي قدام المطر باتفاق أهل التأويل‏.‏ ‏{‏أإله مع الله‏}‏يفعل ذلك ويعينه عليه‏.‏ ‏{‏تعالى الله عما يشركون‏}‏من دونه‏.‏

قوله ‏{‏أمن يبدأ الخلق ثم يعيده‏}‏كانوا يقرون أنه الخالق الرازق فألزمهم الإعادة؛ أي إذا قدر على الابتداء فمن ضرورته القدرة على الإعادة، وهو أهون عليه‏.‏ ‏{‏أإله مع الله‏}‏يخلق ويرزق ويبدئ ويعيد ‏{‏قل هاتوا برهانكم‏}‏أي حجتكم أن لي شريكا، أوحجتكم في أنه صنع أحد شيئا من هذه الأشياء غير الله ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏‏.‏
 
الآية رقم ‏(‏ 65 ‏:‏ 66 ‏)‏

‏{‏ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون، بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون ‏}‏

قوله ‏{‏قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله‏}‏‏.‏ وعن بعضهم‏:‏ أخفى غيبه على الخلق، ولم يطلع عليه أحد لئلا يأمن أحد من عبيده مكره‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في المشركين حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة‏.‏ و‏{‏من‏}‏في موضع رفع؛ والمعنى‏:‏ قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله؛ فإنه بدل من ‏{‏من‏}‏قال الزجاج‏.‏ الفراء‏:‏ وإنما رفع ما بعد ‏{‏إلا‏}‏لأن ما قبلها جحد، كقوله‏:‏ ما ذهب أحد إلا أبوك؛ والمعنى واحد‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومن نصب نصب على الاستثناء؛ يعني في الكلام‏.‏ قال النحاس‏:‏ وسمعته يحتج بهذه الآية على من صدق منجما؛ وقال‏:‏ أخاف أن يكفر بهذه الآية‏.‏

قلت‏:‏ وقد مضى هذا في الأنعام مستوفى‏.‏ وقالت عائشة‏:‏ من زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية؛ والله تعالى يقول‏{‏قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ‏}‏ خرجه مسلم‏.‏ وروي أنه دخل على الحجاج منجم فاعتقله الحجاج، ثم أخذ حصيات فعدهن، ثم قال‏:‏ كم في يدي من حصاة ‏؟‏ فحسب المنجم ثم قال‏:‏ كذا؛ فأصاب‏.‏ ثم اعتقله فأخذ حصيات لم يعدهن فقال‏:‏ كم في يدي ‏؟‏ فحسب فأخطأ ثم حسب فأخطأ؛ ثم قال‏:‏ أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها؛ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فإني لا أصيب‏.‏ قال‏:‏ فما الفرق‏؟‏ قال‏:‏ إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب، وهذا لم تحصه فهو غيب و‏{‏لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله‏}‏وقد مضى هذا في آل عمران

قوله ‏{‏بل ادارك علمهم في الآخرة‏}‏هذه قراءة أكثر الناس منهم عاصم وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي‏.‏ وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد‏}‏بل أدرك‏}‏من الإدراك‏.‏ وقرأ عطاء بن يسار وأخوه سليمان بن يسار والأعمش‏}‏بل ادَّرك‏}‏غير مهموز مشددا‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏}‏بل أأدرك‏}‏على الاستفهام‏.‏ وقرأ ابن عباس‏}‏بلى‏}‏بإثبات الياء ‏{‏أدَّارك‏}‏بهمزة قطع والدال مشددة وألف بعدها؛ قال النحاس‏:‏ وإسناده إسناد صحيح، هو من حديث شعبة يرفعه إلى ابن عباس‏.‏ وزعم هارون القارئ أن قراءة أُبي ‏{‏بل تدارك علمهم‏}‏وحكى الثعلبي أنها في حرف أُبَي أم تدارك‏.‏ والعرب تضع بل موضع أم وأم موضع بل إذا كان في أول الكلام استفهام؛ كقول الشاعر‏:‏

فوالله لا أدري أسلمى تقولت أم القول أم كل إلي حبيب

أي بل كل‏.‏ قال النحاس‏:‏ القراءة الأولى والأخيرة معناهما واحد، لأن أصل ‏{‏ادارك‏}‏تدارك؛ أدغمت الدال في التاء وجيء بألف الوصل؛ وفي معناه قولان‏:‏ أحدهما أن المعنى بل تكامل علمهم في الآخرة؛ لأنهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به‏.‏ والقول الآخر أن المعنى‏:‏ بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة؛ فقالوا تكون وقالوا لا تكون‏.‏ القراءة الثانية فيها أيضا قولان‏:‏ أحدهما أن معناه كمل في الآخرة؛ وهو مثل الأول؛ قال مجاهد‏:‏ معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم؛ لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين‏.‏ والقول الآخر أنه على معنى الإنكار؛ وهو مذهب أبي إسحاق؛ واستدل على صحة هذا القول بأن بعده ‏{‏بل هم منها عمون‏}‏أي لم يدرك علمهم علم الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ بل ضل وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم‏.‏ والقراءة الثالثة‏}‏بل ادرك‏}‏فهي بمعنى ‏{‏بل ادارك‏}‏وقد يجيء افتعل وتفاعل بمعنى؛ ولذلك صحح ازدوجوا حين كان بمعنى تزاوجوا‏.‏ القراءة الرابعة‏:‏ ليس فيها إلا قول واحد يكون فيه معنى الإنكار؛ كما تقول‏:‏ أأنا قاتلتك‏؟‏‏!‏ فيكون المعنى لم يدرك؛ وعليه ترجع قراءة ابن عباس؛ قال ابن عباس‏}‏بلى أدارك علمهم في الآخرة‏}‏أي لم يدرك‏.‏ قال الفراء‏:‏ وهو قول حسن كأنه وجهه إلى الاستهزاء بالمكذبين بالبعث، كقولك لرجل تكذبه‏:‏ بلى لعمري قد أدركت السلف فأنت تروي ما لا أروي وأنت تكذبه‏.‏ وقراءة سابعة‏}‏بلَ ادرك‏}‏بفتح اللام؛ عدل إلى الفتحة لخفتها‏.‏ وقد حكي نحو ذلك عن قطرب في ‏{‏قم الليل‏}‏فإنه عدل إلى الفتح‏.‏ وكذلك و‏{‏بع الثوب‏}‏ونحوه‏.‏ وذكر الزمخشري في الكتاب‏:‏ وقرئ ‏{‏بل أأدرك‏}‏بهمزتين ‏{‏بل آأدرك‏}‏بألف بينهما ‏{‏بلى أأدرك‏}‏‏{‏أم تدارك‏}‏‏{‏أم أدرك‏}‏فهذه ثنتا عشرة قراءة، ثم أخذ يعلل وجوه القراءات وقال‏:‏ فإن قلت فما وجه قراءة ‏{‏بل أأدرك‏}‏على الاستفهام ‏؟‏ قلت‏:‏ هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك من قرأ‏:‏ أم أدرك‏}‏و‏{‏أم تدارك‏}‏لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة، وأما من قرأ‏}‏بلى أأدرك‏}‏على الاستفهام فمعناه بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور وقت كونها؛ لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن‏.‏ ‏{‏في الآخرة‏}‏في شأن الآخرة ومعناها‏.‏ ‏{‏بل هم في شك منها‏}‏أي في الدنيا‏.‏ ‏{‏بل هم منها عمون‏}‏أي بقلوبهم واحدهم عمو‏.‏ وقيل‏:‏ عم، وأصله عميون حذفت الياء لالتقاء الساكنين ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 67 ‏:‏ 68 ‏)‏

‏{‏ وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون، لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين ‏}‏

قوله ‏{‏وقال الذين كفروا‏}‏يعني مشركي مكة‏.‏ ‏{‏إذا كنا ترابا وآباؤنا آينا لمخرجون‏}‏هكذا يقرأ نافع هنا وفي سورة‏:‏ ‏[‏العنكبوت‏]‏‏.‏ وقرأ أبو عمرو باستفهامين إلا أنه خفف الهمزة‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة أيضا باستفهامين إلا أنهما حققا الهمزتين، وكل ما ذكرناه في السورتين جميعا واحد‏.‏ وقرأ الكسائي وابن عامر ورويس ويعقوب‏}‏أئذا‏}‏بمهزتين ‏{‏إننا‏}‏بنونين على الخبر في هذه السورة؛ وفي سورة‏:‏ ‏[‏العنكبوت‏]‏ باستفهامين؛ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ القراءة ‏{‏إذا كنا ترابا وآباؤنا آينا لمخرجون‏}‏موافقة للخط حسنة، وقد عارض فيها أبو حاتم فقال وهذا معنى كلامه‏}‏إذا‏}‏ليس باستفهام و‏{‏آينا‏}‏استفهام وفيه ‏{‏إن‏}‏فكيف يجوز أن يعمل ما في حيز الاستفهام فيما قبله‏؟‏ ‏!‏ وكيف يجوز أن يعمل ما بعد ‏{‏إن‏}‏فيما قبلها‏؟‏‏!‏ وكيف يجوز غدا إن زيدا خارج‏؟‏ ‏!‏ فإذا كان فيه استفهام كان أبعد، وهذا إذا سئل عنه كان مشكلا لما ذكره‏.‏ وقال أبو جعفر‏:‏ وسمعت محمد بن الوليد يقول‏:‏ سألنا أبا العباس عن آية من القرآن صعبة مشكلة، وهي قول الله ‏{‏وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد‏}‏ فقال‏:‏ إن عمل في ‏{‏إذا‏}‏‏{‏ينبئكم‏}‏كان محالا؛ لأنه لا ينبئهم ذلك الوقت، وإن عمل فيه ما بعد ‏{‏إن‏}‏كان المعنى صحيحا وكان خطأ في العربية أن يعمل ما قبل ‏{‏إن‏}‏فيما بعدها؛ وهذا سؤال بين رأيت أن يذكر في السورة التي هو فيها؛ فأما أبو عبيد فمال إلى قراءة نافع ورد على من جمع بين استفهامين، واستدل بقوله ‏{‏أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم‏}‏ وبقوله ‏{‏أفإن مت فهم الخالدون‏}‏ وهذا الرد على أبي عمرو وعاصم وحمزة وطلحة والأعرج لا يلزم منه شيء، ولا يشبه ما جاء به من الآية شيئا؛ والفرق بنهما أن الشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد؛ ومعنى ‏}‏أفإن مت فهم الخالدون‏}‏ أفإن مت خلدوا‏.‏ ونظير هذا‏:‏ أزيد منطلق، ولا يقال‏:‏ أزيد أمنطلق؛ لأنها بمنزلة شيء واحد وليس كذلك الآية؛ لأن الثاني جملة قائمة بنفسها فيصلح فيها الاستفهام، والأول كلام يصلح فيه الاستفهام؛ فأما من حذف الاستفهام من الثاني وأثبته في الأول فقرأ‏}‏أئذا كنا ترابا وآباؤنا إننا‏}‏فحذفه من الثاني؛ لأن في الكلام دليلا عليه بمعنى الإنكار‏.‏ ‏{‏لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين‏}‏تقدم‏.‏ وكانت الأنبياء يقربون أمر البعث مبالغة في التحذير؛ وكل ما هو آت فقريب

الآية رقم ‏(‏ 69 ‏:‏ 71 ‏)‏

‏{‏قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين، ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ‏}‏

قوله ‏{‏قل سيروا في الأرض‏}‏أي ‏{‏قل‏}‏لهؤلاء الكفار ‏{‏سيروا‏}‏في بلاد الشام والحجاز واليمن‏.‏ ‏{‏فانظروا‏}‏أي بقلوبكم وبصائركم ‏{‏كيف كان عاقبة المجرمين‏}‏المكذبين لرسلهم‏.‏ ‏{‏ولا تحزن عليهم‏}‏أي على كفار مكة إن لم يؤمنوا ‏{‏ولا تكن في ضيق‏}‏في حرج، وقرئ‏}‏في ضيق‏}‏بالكسر وقد مضى في آخر النحل ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد‏}‏أي وقت يجيئنا العذاب بتكذيبنا ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 72 ‏:‏ 75 ‏)‏

‏{‏ قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون، وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون، وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ‏}‏

قوله ‏{‏قل عسى أن يكون ردف لكم‏}‏أي اقترب لكم ودنا منكم ‏{‏بعض الذي تستعجلون‏}‏أي من العذاب؛ قال ابن عباس‏.‏ وهو من ردفه إذا تبعه وجاء في أثره؛ وتكون اللام أدخلت لأن المعنى اقترب لكم ودنا لكم‏.‏ أو تكون متعلقة بالمصدر‏.‏ وقيل‏:‏ معناه معكم‏.‏ وقال ابن شجرة‏:‏ تبعكم؛ ومنه ردف المرأة؛ لأنه تبع لها من خلفها؛ ومنه قول أبي ذؤيب‏:‏

عاد السواد بياضا في مفارقه لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردفا

قال الجوهري‏:‏ وأردفه أمر لغة في ردفه، مثل تبعه وأتبعه بمعنى؛ قال خزيمة بن مالك بن نهد‏:‏

إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا

يعني فاطمة بنت يذكر بن عنزة أحد القارظين‏.‏ وقال الفراء‏}‏ردف لكم‏}‏دنا لكم ولهذاقال ‏{‏لكم‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ ردفه وردف له بمعنى فتزاد اللام للتوكيد؛ عن الفراء أيضا‏.‏ كما تقول‏:‏ نقدته ونقدت له، وكلته ووزنته، وكلت له ووزنت له؛ ونحو ذلك‏.‏ ‏{‏بعض الذي تستعجلون‏}‏من العذاب فكان ذلك يوم بدر‏.‏ وقيل‏:‏ عذاب القبر‏.‏ ‏{‏وإن ربك لذو فضل على الناس‏}‏في تأخير العقوبة وإدرار الرزق ‏{‏ولكن أكثرهم لا يشكرون‏}‏ فضله ونعمه‏.‏

قوله ‏{‏وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم‏}‏أي تخفي صدورهم ‏{‏وما يعلنون‏}‏يظهرون من الأمور‏.‏ وقرأ ابن محيصن وحميد‏}‏ما تكن‏}‏من كننت الشيء إذا سترته هنا‏.‏ وفي القصص تقديره‏:‏ ما تكن صدورهم عليه؛ وكأن الضمير الذي في الصدور كالجسم السائر‏.‏ ومن قرأ‏}‏تكن‏}‏فهو المعروف؛ يقال‏:‏ أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك‏.‏

قوله ‏{‏وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين‏}‏قال الحسن‏:‏ الغائبة هنا القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض؛ حكاه النقاش‏.‏ وقال ابن شجرة‏:‏ الغائبة هنا جميع ما أخفى الله تعالى عن خلقه وغيبه عنهم، وهذا عام‏.‏ وإنما دخلت الهاء في ‏{‏غائبة‏}‏إشارة إلى الجمع؛ أي‏.‏ ما من خصلة غائبة عن الخلق إلا والله عالم بها قد أثبتها في أم الكتاب عنده، فكيف يخفى عليه ما يسر هؤلاء وما يعلنونه‏.‏ وقيل‏:‏ أي كل شيء هو مثبت في أم الكتاب يخرجه للأجل المؤجل له؛ فالذي يستعجلونه من العذاب له أجل مضروب لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه‏.‏ والكتاب اللوح المحفوظ أثبت الله فيه ما أراد ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 76 ‏:‏ 81 ‏)‏

‏{‏ إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين، إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم، فتوكل على الله إنك على الحق المبين، إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ‏}‏

قوله ‏{‏إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون‏}‏وذلك أنهم اختلفوا في كثير من الأشياء حتى لعن بعضهم فنزلت‏.‏ والمعنى‏:‏ إن هذا القرآن يبين لهم ما اختلفوا فيه لو أخذوا به، وذلك ما حرفوه من التوراة والإنجيل، وما سقط من كتبهم من الأحكام‏.‏ ‏{‏وإنه‏}‏يعني القرآن ‏{‏لهدى ورحمة للمؤمنين‏}‏خص المؤمنين لأنهم المنتفعون به‏.‏ ‏{‏إن ربك يقضي بينهم بحكمه‏}‏أي يقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه في الآخرة، فيجازي المحق والمبطل‏.‏ وقيل‏:‏ يقضي بينهم في الدنيا فيظهر ما حرفوه‏.‏ ‏{‏وهو العزيز‏}‏المنيع الغالب الذي لا يرد أمره ‏{‏العليم‏}‏الذي لا يخفى عليه شيء‏.‏

قوله ‏{‏فتوكل على الله‏}‏أي فوض إليه أمرك واعتمد عليه؛ فإنه ناصرك‏.‏ ‏{‏إنك على الحق المبين‏}‏أي الظاهر‏.‏ وقيل‏:‏ المظهر لمن تدبر وجه الصواب‏.‏ ‏{‏إنك لا تسمع الموتى‏}‏يعني الكفار لتركهم التدبر؛ فهم كالموتى لا حس لهم ولا عقل‏.‏ وقيل‏:‏ هذا فيمن علم أنه لا يؤمن‏.‏ ‏{‏ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين‏}‏يعني الكفار الذين هم بمنزلة الصم عن قبول المواعظ؛ فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولوا كأنهم لا يسمعون؛ نظيره ‏}‏صم بكم عمي‏} ‏ كما تقدم‏.‏ وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبي إسحاق وعباس عن أبي عمرو‏}‏ولا يسمع‏}‏بفتح الياء والميم ‏{‏الصم‏}‏رفعا على الفاعل‏.‏ الباقون ‏{‏تسمع‏}‏مضارع أسمعت ‏{‏الصم‏}‏نصبا‏.‏

مسألة‏:‏

وقد احتجت عائشة رضي الله عنها في إنكارها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسمع موتى بدر بهذه الآية؛ فنظرت في الأمر بقياس عقلي ووقفت مع هذه الآية‏.‏ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما أنتم بأسمع منهم‏)‏ قال ابن عطية‏:‏ فيشبه أن قصة بدر خرق عادة لمحمد صلى الله عليه وسلم في أن رد الله إليهم إدراكا سمعوا به مقاله ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة، وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين‏.‏

قلت‏:‏ ‏"‏روى البخاري‏"‏ رضي الله عنه؛ حدثني عبدالله بن محمد سمع روح بن عبادة قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى وتبعه أصحابه، قالوا‏:‏ ما نُرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفير الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؛ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؛ قال فقال عمر‏:‏ يا رسول الله ما تكلم من أجسام لا أرواح لها؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏)‏ قال قتادة‏:‏ أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما‏.‏ ‏"‏خرجه مسلم أيضا‏"‏‏.‏ قال البخاري‏:‏ حدثنا عثمان قال حدثنا عبدة عن هشام عن أبيه عن ابن عمر قال‏:‏ وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال‏:‏ ‏(‏هل وجدتم ما وعد ربكم حقا‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق‏)‏ ثم قرأت ‏{‏إنك لا تسمع الموتى‏}‏حتى قرأت الآية‏.‏ وقد عورضت هذه الآية بقصة بدر وبالسلام على القبور، وبما روي في ذلك من أن الأرواح تكون على شفير القبور في أوقات، وبأن الميت يسمع قرع النعال إذا انصرفوا عنه، إلى غير ذلك؛ فلو لم يسمع الميت لم يُسلَم عليه‏.‏ وهذا واضح وقد بيناه في كتاب التذكرة

قوله ‏{‏وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم‏}‏أي كفرهم؛ أي ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم‏.‏ وقرأ حمزة‏}‏وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم‏}‏كقوله ‏{‏أفأنت تهدي العمي‏}‏‏.‏ الباقون‏:‏ بهادي العمي وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وفي الروم مثله‏.‏ وكلهم وقف على بهادي بالياء في هذه السورة وبغير ياء في الروم اتباعا للمصحف، إلا يعقوب فإنه وقف فيهما جميعا بالياء‏.‏ وأجاز الفراء وأبو حاتم‏:‏ وما أنت بهاد العمي وهي الأصل‏.‏ وفي حرف عبدالله ‏{‏وما أن تهدي العمي‏}‏‏.‏ ‏{‏إن تسمع‏}‏أي ما تسمع‏.‏ ‏{‏إلا من يؤمن بآياتنا‏}‏قال ابن عباس‏:‏ أي إلا من خلقته للسعادة فهم مخلصون في التوحيد‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 82 ‏:‏ 86 ‏)‏

‏{‏ وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون، حتى إذا جاؤوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون، ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون، ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ‏}‏

قوله ‏{‏وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم‏}‏اختلف في معنى وقع القول وفي الدابة؛ فقيل‏:‏ معنى ‏{‏وقع القول عليهم‏}‏وجب الغضب عليهم؛ قاله قتادة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أي حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون‏.‏ وقال ابن عمر وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما‏:‏ إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم‏.‏ وقال عبدالله بن مسعود‏:‏ وقع القول يكون بموت العلماء، وذهاب العلم، ورفع القرآن‏.‏ قال عبدالله‏:‏ أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع، قالوا هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال ‏؟‏ قال‏:‏ يسرى عليه ليلا فيصبحون منه قفرا، وينسون لا إله إلا الله، ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم، وذلك حين يقع القول عليهم‏.‏

قلت‏:‏ أسنده أبو بكر البزار قال حدثنا عبدالله بن يوسف الثقفي قال حدثنا عبدالمجيد بن عبدالعزيز عن موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ابن لعبدالله بن مسعود رضى الله عنه عن أبيه أنه قال‏:‏ أكثروا من زيارة هذا البيت من قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه؛ وأكثروا تلاوة القرآن من قبل أن يرفع؛ قالوا‏:‏ يا أبا عبدالرحمن هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال ‏؟‏ قال‏:‏ فيصبحون فيقولون كنا نتكلم بكلام ونقول قولا فيرجعون إلى شعر الجاهلية وأحاديث الجاهلية، وذلك حين يقع القول عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ القول هو قوله ‏{‏ولكن حق القول مني لأملأن جهنم‏} ‏ فوقوع القول وجوب العقاب على هؤلاء، فإذا صاروا إلى حد لا تقبل توبتهم ولا يولد لهم ولد مؤمن فحينئذ تقوم القيامة؛ ذكره القشيري‏.‏ وقول سادس‏:‏ قالت حفصه بنت سيرين سألت أبا العالية عن قول الله ‏{‏وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم‏}‏فقال‏:‏ أوحى الله إلى نوح ‏{‏إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏} ‏ وكأنما كان على وجهي غطاء فكشف‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا من حسن الجواب؛ لأن الناس ممتحنون ومؤخرون لأن فيهم مؤمنين وصالحين، ومن قد علم الله عز وجل أنه سيؤمن ويتوب؛ فلهذا أمهلوا وأمرنا بأخذ الجزية، فإذا زال هذا وجب القول عليهم، فصاروا كقوم نوح حين قال الله ‏{‏إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏} ‏ ‏.‏

قلت‏:‏ وجميع الأقوال عند التأمل ترجع إلى معنى واحد‏.‏ والدليل عليه آخر الآية ‏{‏إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون‏}‏وقرئ‏}‏أن‏}‏‏:‏ بفتح الهمزة وسيأتي‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض‏)‏ وقد مضى‏.‏ واختلف في تعيين هذه الدابة وصفتها ومن أين تخرج اختلافا كثيرا؛ قد ذكرناه في كتاب التذكرة ونذكره هنا إن شاء الله تعالى مستوفى‏.‏ فأول الأقوال أنه فصيل ناقة صالح وهو أصحها - والله أعلم - لما ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة قال‏:‏ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال‏:‏ ‏(‏لها ثلاث خرجات من الدهر فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة - ثم تكمن زمانا طويلا ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشو ذكرها في البادية ويدخل ذكرها القرية‏)‏ يعني مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب فأرفض الناس منها شتى ومعا وتثبت عصابة من المؤمنين وعرفوا أنهم لم يعجزوا الله فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلي فتقبل عليه فتسمه في وجهه ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال ويصطلحون في الأمصار يعرف المؤمن من الكافر حتى إن المؤمن يقول يا كافر اقض حقي‏)‏‏.‏ وموضع الدليل من هذا الحديث أنه الفصيل قوله‏:‏ ‏(‏وهي ترغو‏)‏ والرغاء إنما هو للإبل؛ وذلك أن الفصيل لما قتلت الناقة هرب فانفتح له حجر فدخل في جوفه ثم أنطبق عليه، فهو فيه حتى يخرج بإذن الله عز وجل‏.‏ وروي أنها دابة مزغبة شعراء، ذات قوائم طولها ستون ذراعا، ويقال إنها الجساسة؛ وهو قول عبدالله بن عمر وروي عن ابن عمر أنها على خلقة الآدميين؛ وهي في السحاب وقوائها في الأرض‏.‏ وروي أنها جمعت من خلق كل حيوان‏.‏ وذكر الماوردي والثعلبي رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصل ومفصل اثنا عشر ذراعا - الزمخشري‏:‏ بذراع آدم عليه السلام - ويخرج معها عصا موسى وخاتم سليمان، فتنكت في وجه المسلم بعصا موسى نكتة بيضاء فيبيض وجهه، وتنكت في وجه الكافر بخاتم سليمان عليه السلام فيسود وجهه؛ قاله ابن الزبير رضي الله عنهما‏.‏ وفي كتاب النقاش عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إن الدابة الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة‏.‏ وحكى الماوردي عن محمد بن كعب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن الدابة فقال‏:‏ أما والله ما لها ذنب وإن لها للحية‏.‏ قال الماوردي‏:‏ وفي هذا القول منه إشارة إلى أنها من الإنس وإن لم يصرح به‏.‏

قلت‏:‏ ولهذا - والله أعلم - قال بعض المتأخرين من المفسرين‏:‏ إن الأقرب أن تكون هذه الدابة إنسانا متكلما يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم لينقطعوا، فيهلك من هلك عن بينة‏:‏ ويحيا من حي عن بينة‏.‏ قال شيخنا الإمام أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي في كتاب المفهم له‏:‏ وإنما كان عند هذا القائل الأقرب لقوله ‏{‏تكلمهم‏}‏وعلى هذا فلا يكون في هذه الدابة آية خاصة خارقة للعادة، ولا يكون من العشر الآيات المذكورة في الحديث؛ لأن وجود المناظرين والمحتجين على أهل البدع كثير، فلا آية خاصة بها فلا ينبغي أن تذكر مع العشر، وترتقع خصوصية وجودها إذا وقع القول، ثم فيه العدول عن تسمية هذا الإنسان المناظر الفاضل العالم الذي على أهل الأرض أن يسموه باسم الإنسان أو بالعالم أو بالإمام إلى أن يسمى بدابة؛ وهذا خروج عن عادة الفصحاء، وعن تعظيم العلماء، وليس ذلك دأب العقلاء؛ فالأولى ما قاله أهل التفسير، والله أعلم بحقائق الأمور‏.‏

قلت‏:‏ قد رفع الإشكال في هذه الدابة ما ذكرناه من حديث حذيفة فليعتمد عليه، واختلف من أي موضع تخرج، فقال عبدالله بن عمر‏:‏ تخرج من جبل الصفا بمكة؛ يتصدع فتخرج منه‏.‏ قال عبدالله ابن عمرو نحوه وقال‏:‏ لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها لفعلت وروي في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الأرض تنشق عن الدابة وعيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون من ناحية المسعى وإنها تخرج من الصفا فتسم بين عيني المؤمن هو مؤمن سمة كأنها كوكب دري وتسم بين عيني الكافر نكتة سوداء كافر‏)‏ وذكر في الخبر أنها ذات وبر وريش؛ ذكره المهدوي‏.‏ وعن ابن عباس أنها تخرج من شعب فتمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض لم تخرجا، وتخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام‏.‏ وعن حذيفة‏:‏ تخرج ثلاث خرجات؛ خرجة في بعض البوادي ثم تكمن، وخرجة في القرى يتقاتل فيها الأمراء حتى تكثر الدماء، وخرجة من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها وأفضلها الزمخشري‏:‏ تخرج من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد؛ فقوم يهربون، وقوم يقفون نظارة‏.‏ وروي عن قتادة أنها تخرج في تهامة‏.‏ وروي أنها تخرج من مسجد الكوفة من حيث فار تنور نوح عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ من أرض الطائف؛ قال أبو قبيل‏:‏ ضرب عبدالله بن عمرو أرض الطائف برجله وقال‏:‏ من هنا تخرج الدابة التي تكلم الناس وقيل‏:‏ من بعض أودية تهامة؛ قال ابن عباس وقيل‏:‏ من صخرة من شعب أجياد؛ قال عبدالله بن عمرو‏.‏ وقيل‏:‏ من بحر سدوم؛ قال وهب بن منبه‏.‏ ذكر هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة الماوردي في كتابه‏.‏ وذكر البغوي أبو القاسم عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز قال‏:‏ حدثنا علي بن الجعد عن فضيل بن مرزوق الرقاشي الأغر - وسئل عنه يحيى بن معين فقال ثقة - عن عطية العوفي عن ابن عمر قال تخرج الدابة من صدع في الكعبة كجري الفرس ثلاثة أيام لا يخرج ثلثها‏.‏

قلت‏:‏ فهذه أقوال الصحابة والتابعي في خروج الدابة وصفتها، وهي ترد قول من قال من المفسرين‏:‏ إن الدابة إنما هي إنسان متكلم يناظر أهل البدع والكفر وقد روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم‏)‏ ذكره الماوردي‏.‏ ‏{‏تكلمهم‏}‏بضم التاء وشد اللام المكسورة - من الكلام - قراءة العامة؛ يدل عليه قراءة أُبي ‏{‏تنبئهم‏}‏‏.‏ وقال السدي‏:‏ تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ تكلمهم بما يسوءهم‏.‏ وقيل‏:‏ تكلمهم بلسان ذلق فتقول بصوت يسمعه عن قرب وبعد ‏{‏إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون‏}‏وتقول‏:‏ ألا لعنة الله على الظالمين‏.‏ وقرأ أبو زرعة وابن عباس والحسن وأبو رجاء‏}‏تَكْلِمُهم‏}‏بفتح التاء من الكلم وهو الجرح قال عكرمة‏:‏ أي تسمهم‏.‏ وقال أبو الجوزاء‏:‏ سألت ابن عباس عن هذه الآية ‏{‏تكلمهم‏}‏أو ‏{‏تكلمهم‏}‏‏؟‏ فقال‏:‏ هي والله تكلمهم وتكلمهم؛ تُكَلِّم المؤمن وتَكْلِم الكافر والفاجر أي تجرحه‏.‏ وقال أبو حاتم‏}‏تكلِّمهم‏}‏كما تقول تجرِّحهم؛ يذهب إلى أنه تكثير من ‏{‏تكلمهم‏}‏‏.‏ ‏{‏أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون‏}‏أي بخروجي؛ لأن خروجها من الآيات‏.‏ وقرأ الكوفيون وابن أبي إسحاق ويحيي‏}‏أن‏}‏بالفتح‏.‏ وقرأ أهل الحرمين وأهل الشام وأهل البصرة‏}‏إن‏}‏بكسر الهمزة‏.‏ قال النحاس‏:‏ في المفتوحة قولان وكذا المكسورة؛ قال الأخفش‏:‏ المعنى بأن وكذا قرأ ابن مسعود ‏{‏بأن‏}‏وقال أبو عبيدة‏:‏ موضعها نصب بوقوع الفعل عليها؛ أي تخبرهم أن الناس‏.‏ وقرأ الكسائي والفراء‏}‏إن الناس‏}‏بالكسر على الاستئناف وقال الأخفش‏:‏ هي بمعنى تقول إن الناس؛ يعني الكفار ‏{‏بآياتنا لا يوقنون‏}‏يعني بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك حين لا يقبل الله من كافر إيمانا ولم يبق إلا مؤمنون وكافرون في علم الله قبل خروجها؛ والله أعلم‏.‏

قوله ‏{‏ويوم نحشر من كل أمة فوجا‏}‏أي رمزة وجماعة‏.‏ ‏{‏ممن يكذب بآياتنا‏}‏يعني بالقرآن وبأعلامنا الدالة على الحق‏.‏ ‏{‏فهم يوزعون‏}‏أي يدفعون ويساقون إلى موضع الحساب‏.‏ قال الشماخ‏:‏

وكم وزعنا من خميس جحفل وكم حبونا من رئيس مسحل

وقال قتادة‏}‏يوزعون‏}‏أي يرد أولهم على آخرهم‏.‏ ‏{‏حتى إذا جاؤوا قال‏}‏أي قال لهم الله ‏{‏أكذبتم بآياتي‏}‏التي أنزلتها على رسلي، وبالآيات التي أقمتها دلالة على توحيدي‏.‏ ‏{‏ولم تحيطوا بها علما‏}‏أي ببطلانها حتى تعرضوا عنها، بل كذبتهم جاهلين غير مستدلين‏.‏ ‏{‏أمَّاذا كنتم تعملون‏}‏تقريع وتوبيخ أي ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا ما فيها‏.‏ ‏{‏ووقع القول عليهم بما ظلموا‏}‏أي وجب العذاب عليهم بظلمهم أي بشركهم‏.‏ ‏{‏فهم لا ينطقون‏}‏أي ليس لهم عذر ولا حجة‏.‏ وقيل‏:‏ يختم على أفواههم فلا ينطقون؛ قاله أكثر المفسرين‏.‏

قوله ‏{‏ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه‏}‏أي يستقرون فينامون‏.‏ ‏{‏والنهار مبصرا‏}‏أي يبصر فيه لسعي الرزق‏.‏ ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون‏}‏بالله‏.‏ ذكر الدلالة على إلهيته وقدرته أي ألم يعلموا كمال قدرتنا فيؤمنوا‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 87 ‏:‏ 90 ‏)‏

‏{‏ ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين، وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون، من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون، ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ‏}‏

قوله ‏{‏ويوم ينفخ في الصور‏}‏أي واذكر يوم أو ذكرهم يوم ينفخ في الصور ومذهب الفراء أن المعنى‏:‏ وذلكم يوم ينفخ في الصور؛ وأجاز فيه الحذف والصحيح في الصور أنه قرن من نور ينفخ فيه إسرافيل قال مجاهد‏:‏ كهيئة البوق وقيل‏:‏ هو البوق بلغة أهل اليمن وقد مضى في الأنعام بيانه وما للعلماء في ذلك‏.‏ ‏{‏ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله‏}‏قال أبو هريرة‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله لما فرغ من خلق السماوات خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر بالنفخة‏)‏ قلت‏:‏ يا رسول الله ما الصور ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قرن والله عظيم والذي بعثني بالحق إن عظم دارة فيه كعرض السماء والأرض فينفخ فيه ثلاث نفخات النفخة الأولى نفخة الفزع والثانية نفحة الصعق والثالثة نفخة البعث والقيام لرب العالمين‏)‏ وذكر الحديث ذكره علي بن معبد والطبري والثعلبي وغيرهم، وصححه ابن العربي‏.‏ وقد ذكرته في كتاب التذكرة وتكلمنا عليه هنالك، وأن الصحيح في النفخ في الصور أنهما نفختان لا ثلاث، وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعة إلى نفخة الصعق لأن الأمرين لا زمان لهما؛ أي فزعوا فزعا ماتوا منه؛ أو إلى نفخة البعث وهو اختيار القشيري وغيره؛ فإنه قال في كلامه على هذه الآية‏:‏ والمراد النفخة الثانية أي يحيون فزعين يقولون ‏}‏من بعثنا من مرقدنا‏}‏ ؛ ويعاينون من الأمور ما يهولهم ويفزعهم؛ وهذا النفخ كصوت البوق لتجتمع الخلق في أرض الجزاء‏.‏ قاله قتادة وقال الماوردي‏}‏ويوم ينفخ في الصور‏}‏‏.‏ هو يوم النشور من القبور، قال وفي هذا الفزع قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه الإسراع والإجابة إلى النداء من قولهم‏:‏ فزعت إليك في كذا إذا أسرعت إلى ندائك في معونتك والقول الثاني‏:‏ إن الفزع هنا هو الفزع المعهود من الخوف والحزن؛ لأنهم أزعجوا من قبورهم ففزعوا وخافوا‏.‏ وهذا أشبه القولين‏.‏

قلت‏:‏ والسُنة الثابتة من حديث أبى هريرة وحديث عبدالله بن عمرو يدل على أنهما نفختان لا ثلاث؛ خرجهما مسلم وقد ذكرناهما في كتاب التذكرة وهو الصحيح إن شاء الله تعالى أنهما نفختان؛ قال الله ‏{‏ونفخ في الصور فصعق من السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ‏}‏ فاستثنى هنا كما استثنى في نفخة الفزع فدل على أنهما واحدة‏.‏ وقد روى ابن المبارك عن الحسن قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بين النفختين أربعون سنة الأولى يميت الله بها كل حي والأخرى يحيي الله بها كل ميت‏)‏ فإن قيل‏:‏ فإن قوله ‏{‏يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة‏} ‏ إلى أنقال ‏{‏فإنما هي زجرة واحدة‏}‏ وهذا يقتضي بظاهره أنها ثلاث قيل له‏:‏ ليس كذلك، وإنما المراد بالزجرة النفخة الثانية التي يكون عنها خروج الخلق من قبورهم؛ كذلك قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وابن زيد وغيرهم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هما صيحتان أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله، وأما الأخرى فتحيي كل شيء بإذن الله‏.‏ وقال عطاء‏}‏الراجفة‏}‏القيامة و‏{‏الرادفة‏}‏البعث‏.‏ وقال ابن زيد‏}‏الراجفة‏}‏الموت و‏{‏الرادفة‏}‏الساعة‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله ‏{‏إلا من شاء الله‏}‏اختلف في هذا المستثنى من هم‏.‏ ففي حديث أبي هريرة أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون إنما يصل الفزع إلى الأحياء؛ وهو قول سعيد بن جبير أنهم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش وقال القشيري‏:‏ الأنبياء داخلون في جملتهم؛ لأن لهم الشهادة مع النبوة وقيل‏:‏ الملائكة‏.‏ قال الحسن‏:‏ استثني طوائف من الملائكة يموتون بين النفختين قال مقاتل‏:‏ يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت‏.‏ وقيل‏:‏ الحور العين‏.‏ وقيل‏:‏ هم المؤمنون، لأن الله تعالى قال عقب هذا‏}‏من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون‏}‏وقال بعض علمائنا‏:‏ والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل‏.‏

قلت‏:‏ خفي عليه حديث أبي هريرة وقد صححه القاضي أبو بكر العربي فليعول عليه، لأنه نص في التعيين وغيره اجتهاد‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقيل غير هذا ما يأتي في الزمر

وقوله ‏{‏ففزع من في السماوات‏}‏ماض و‏{‏ينفخ‏}‏مستقبل فيقال‏:‏ كيف عطف ماض على مستقبل ‏؟‏ فزعم الفراء أن هذا محمول على المعنى؛ لأن المعنى‏:‏ إذا نفخ في الصور ففزع‏.‏ ‏{‏إلا من شاء الله‏}‏نصب على الاستثناء‏.‏ ‏{‏وكل أتوه داخرين‏}‏قرأ أبو عمر وعاصم والكسائي ونافع وابن عامر وابن كثير‏}‏آتـُوه‏}‏جعلوه فعلا مستقبلا‏.‏ وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة وحفص عن عاصم‏}‏وكل أتوه‏}‏مقصورا على الفعل الماضي، وكذلك قرأه ابن مسعود وعن قتادة ‏{‏وكل أتاه داخرين‏}‏قال النحاس‏:‏ وفي كتابي عن أبي إسحاق في القراءات من قرأ‏}‏وكل أتوه‏}‏وحده علي لفظ ‏{‏كل‏}‏ومن قرأ‏}‏أتوه‏}‏جمع على معناها، وهذا القول غلط قبيح؛ لأنه إذاقال ‏{‏وكل أتوه‏}‏فلم يوحد وإنما جمع، ولو وحد لقال‏}‏أتاه‏}‏ولكن منقال ‏{‏أتوه‏}‏جمع على المعنى وجاء به ماضيا لأنه رده إلي ‏{‏ففزع‏}‏ومن قرأ ‏{‏وكل آتوه‏}‏حمله على المعنى أيضا وقال ‏{‏أتوه‏}‏لأنها جملة منقطعة من الأول قال ابن نصر‏:‏ حكي عن أبي إسحاق رحمه الله ما لم يقله، ونص أبي إسحاق‏}‏وكل أتوه داخرين‏}‏ويقرأ‏}‏أتوه‏}‏فمن وحد فللفظ ‏{‏كل‏}‏ومن جمع فلمعناها‏.‏ يريد ما أتي في القرآن أو غيره من توحيد خبر ‏{‏كل‏}‏فعلى اللفظ أو جمع فعلى المعنى؛ فلم يأخذ أبو جعفر هذا المعنى قال المهدوي‏:‏ ومن قرأ ‏{‏وكل أتوه داخرين‏}‏فهو فعل من الإتيان وحمل على معنى ‏{‏كل‏}‏دون لفظها، ومن قرأ ‏{‏وكل آتوه داخرين‏}‏فهو اسم الفاعل من أتى يدلك على ذلك قوله ‏{‏وكلهم آتيه يوم القيامة فرادا‏} ‏ ومن قرأ ‏{‏وكل أتاه‏}‏حمله على لفظ ‏{‏كل‏}‏دون معناها وحمل ‏{‏داخرين‏}‏على المعني، ومعناه صاغرين، عن ابن عباس وقتادة‏.‏ وقد مضى في النحل

قوله ‏{‏وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب‏}‏قال ابن عباس‏:‏ أي قائمة وهي تسير سيرا حثيثا‏.‏ قال القتبي‏:‏ وذلك أن الجبال تُجمع وتُسير، فهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير؛ وكذلك كل شي عظيم وجمع كثير يقصر عنه النظر، لكثرته وبعد ما بين أطرافه، وهو في حسبان الناظر كالواقف وهو يسير قال النابغة وفي وصف جيش‏:‏

بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج

قال القشيري‏:‏ وهذا يوم القيامة؛ أي هي لكثرتها كأنها جامدة أي واقفة في مرأى العين وإن كانت في أنفسها تسير سير السحاب، والسحاب المتراكم يظن أنها واقفة وهي تسير أي تمر مر السحاب حتى لا يبقى منها شيء، فقال الله ‏{‏وسيرت الجبال فكانت سرابا‏}‏ ويقال‏:‏ إن الله تعالى وصف الجبال بصفات مختلفة ترجع كلها إلي تفريغ الأرض منها، وإبراز ما كانت تواريه، فأول الصفات الاندكاك وذلك قبل الزلزلة؛ ثم تصير كالعهن المنفوش؛ وذلك إذا صارت السماء كالمهل، وقد جمع الله بينهما فقال ‏{‏يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن‏} ‏ ‏.‏ والحالة الثالثة أن تصير كالهباء وذلك أن تتقطع بعد أن كانت كالعهن‏.‏ والحالة الرابعة أت تنسف لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها لتبرز، فإذا نسفت فبإرسال الرياح عليها‏.‏ والحالة الخامسة أن الرياح ترفعها على وجه الأرض فتظهرها شعاعا في الهواء كأنها غبار، فمن نظر إليها من بعد حسبها لتكاثفها أجسادا جامدة، وهي بالحقيقة مارة إلا أن مرورها من وراء الرياح كأنها مندكة متفتتة‏.‏ والحالة السادسة أن تكون سرابا فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئا منها كالسراب قال مقاتل‏:‏ تقع على الأرض فتسوى بها‏.‏ ثم قيل هذا مثل، قال الماوردي‏:‏ وفيهما ضرب له ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها أنه مثل ضربه الله تعالى للدنيا يظن الناظر إليها أنها واقفة كالجبال، وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب؛ قال سهل بن عبدالله‏.‏ الثاني‏:‏ أنه مثل ضربه الله للإيمان تحسبه ثابتا في القلب وعمله صاعد إلى السماء‏.‏ الثالث‏:‏ أنه مثل ضربه الله للنفس عند خروج الروح والروح تسير إلى العرش‏.‏ ‏{‏صنع الله الذي أتقن كل شيء‏}‏أي هذا من فعل الله، وما هو فعل منه فهو متقن‏.‏ و‏{‏ترى‏}‏من رؤية العين ولو كانت من رؤية القلب لتعدت إلى مفعولين‏.‏ والأصل ترأى فألقيت حركة الهمزة على الراء فتحركت الراء وحذفت الهمزة، وهذا سبيل تخفيف الهمزة إذا كان قبلها ساكن، إلا أن التخفيف لازم لترى‏.‏ وأهل الكوفة يقرؤون‏}‏تحسَبها‏}‏بفتح السين وهو القياس؛ لأنه من حسب يحسب إلا أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافها أنه قرأ بالكسر في المستقبل، فتكون على فعل يفعل مثل نعم ينعم وبئس يبئس وحكى يئس ييئس من السالم، لا يعرف في كلام العرب غير هذه الأحرف ‏{‏وهي تمر مر السحاب‏}‏تقديره مرا مثل مر السحاب، فأقيمت الصفة مقام الموصوف والمضاف مقام المضاف إليه؛ فالجبال تزال من أماكنها من على وجه الأرض وتجمع وتسير كما تسير السحاب، ثم تكسر فتعود إلى الأرض كماقال ‏{‏وبست الجبال بسا‏} ‏ ‏{‏صنع الله‏}‏عند الخليل وسيبويه منصوب على أنه مصدر؛ لأنه لما قال عز وجل ‏{‏وهي تمر مر السحاب‏}‏دل على أنه قد صنع ذلك صنعا‏.‏ ويجوز النصب على الإغراء؛ أي انظروا صنع الله‏.‏ فيوقف على هذا على ‏{‏السحاب‏}‏ولا يوقف عليه على التقدير الأول‏.‏ ويجوز رفعه على تقدير ذلك صنع الله‏.‏ ‏{‏الذي أتقن كل شيء‏}‏أي أحكمه ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رحم الله من عمل عملا فأتقنه‏)‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ معناه أحسن كل شيء والإتقان الإحكام؛ يقال‏:‏ رجل تقن أي حاذق بالأشياء وقال الزهري‏:‏ أصله من ابن تقن، وهو رجل من عاد لم يكن يسقط له سهم فضرب به المثل؛ يقال‏:‏ أرمى من ابن تقن ثم يقال لكل حاذق بالأشياء تقن‏.‏ ‏{‏إنه خبير بما تفعلون‏}‏والباقون تفعلون بالتاء على الخطاب قراءة الجمهور وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالياء‏.‏

قوله ‏{‏من جاء بالحسنة فله خير منها‏}‏قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ الحسنة لا إله إلا الله‏.‏ وقال أبو معشر‏:‏ كان إبراهيم يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ولا يستثني أن الحسنة لا إله إلا الله محمد رسول الله‏.‏ وقال علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم‏:‏ غزا رجل فكان إذا خلا بمكان قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له فبينما هو في أرض الروم في أرض جلفاء وبردى رفع صوته فقال‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له فخرج عليه رجل على فرس عليه ثياب بيض فقال له‏:‏ والذي نفسي بيده إنها الكلمة التي قال الله تعالي‏{‏ومن جاء بالحسنة فله خير منها‏}‏و روى أبو ذر قال‏:‏ قلت يا رسول الله أوصني، قال‏:‏ ‏(‏اتق الله وإذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها‏)‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏من أفضل الحسنات‏)‏ وفي رواية قال‏:‏ ‏(‏نعم هي أحسن الحسنات‏)‏‏"‏ ذكره البيهقي‏"‏، وقال قتادة‏}‏من جاء بالحسنة‏}‏بالإخلاص والتوحيد‏.‏ وقيل‏:‏ أداء الفرائض كلها‏.‏

قلت‏:‏ إذا أتى بلا إله إلا الله على حقيقتها وما يجب لها - على ما تقدم بيانه في سورة إبراهيم فقد أتى بالتوحيد والإخلاص والفرائض‏.‏

قوله ‏{‏فله خير منها‏}‏قال ابن عباس‏:‏ أي وصل إليه الخير منها؛ وقاله مجاهد وقيل‏:‏ فله الجزاء الجميل وهو الجنة وليس ‏{‏خير‏}‏للتفضيل قال عكرمة وابن جريج‏:‏ أما أن يكون له خير منها يعني من الإيمان فلا فإنه ليس شيء خيرا ممن قال لا إله إلا الله ولكن له منها خير وقيل ‏{‏فله خير منها‏}‏للتفضيل أي ثواب الله خير من عمل العبد وقوله وذكره، وكذلك رضوان الله خير للعبد من فعل العبد، قاله ابن عباس وقيل‏:‏ ويرجع هذا إلي الإضعاف فإن الله تعالى يعطيه بالواحدة عشرا؛ وبالإيمان في مدة يسيرة الثواب الأبدي قاله محمد بن كعب وعبدالرحمن بن زيد ‏{‏وهم من فزع يومئذ آمنون‏}‏قرأ عاصم وحمزة والكسائي ‏{‏فزع يومئذ‏}‏بالإضافة‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ وهذا أعجب إلي لأنه أعم التأويلين أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم، وإذاقال ‏{‏من فزع يومئذ‏}‏صار كأنه فزع دون فزع‏.‏ قال القشيري‏:‏ وقرئ‏}‏من فزع‏}‏بالتنوين ثم قيل يعني به فزعا واحدا كماقال ‏{‏لا يحزنهم الفزع الأكبر‏}‏ وقيل‏:‏ عنى الكثرة لأنه مصدر والمصدر صالح للكثرة‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا تكون القراءتان بمعنى‏.‏ قال المهدوي‏:‏ ومن قرأ‏}‏من فزع يومئذ‏}‏بالتنوين انتصب ‏{‏يومئذ‏}‏بالمصدر الذي هو ‏{‏فزع‏}‏ويجوز أن يكون صفة لفزع ويكون متعلقا بمحذوف؛ لأن المصادر يخبر عنها بأسماء الزمان وتوصف بها، ويجوز أن يتعلق باسم الفاعل الذي هو ‏{‏آمنون‏}‏‏.‏ والإضافة على الإتساع في الظروف، ومن حذف التنوين وفتح الميم بناه لأنه ظرف زمان، وليس الإعراب في ظرف الزمان متمكنا، فلما أضيف إلي غير متمكن ولا معرب بني‏.‏ وأنشد سيبويه‏:‏

على حين ألهى الناس جل أمورهم فندلا رزيق المال ندل الثعالب

قوله ‏{‏ومن جاء بالسيئة‏}‏أي بالشرك، قاله ابن عباس والنخعي وأبو هريرة ومجاهد وقيس بن سعد والحسن، وهو إجماع من أهل التأويل في أن الحسنة لا إله إلا الله، وأن السيئة الشرك في هذه الآية‏.‏ ‏{‏فكبت وجوههم في النار‏}‏قال ابن عباس‏:‏ ألقيت وقال الضحاك‏:‏ طرحت، ويقال كببت الإناء أي قلبته على وجهه، واللازم من أكب، وقلما يأتي هذا في كلام العرب ‏{‏هل تجزون‏}‏أي يقال لهم هل تجزون ثم يجوز أن يكون من قول الله، ويجوز أن يكون من قول الملائكة ‏{‏إلا ما كنتم تعملون‏}‏أي إلا جزاء أعمالكم‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 91 ‏:‏ 93 ‏)‏

‏{‏ إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين، وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون ‏}‏

قوله ‏{‏إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها‏}‏يعني مكة التي عظم الله حرمتها؛ أي جعلها حرما آمنا؛ لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصاد فيها صيد، ولا يعضد فيها شجر؛ على ما تقدم بيانه في غير موضع وقرأ ابن عباس‏}‏التي حرمها‏}‏نعتا للبلدة وقراءة الجماعة ‏{‏الذي‏}‏وهو في موضع نصب نعت لـ‏{‏رب‏}‏ولو كان بالألف واللام لقلت المحرِّمِها؛ فإن كانت نعتا للبلدة قلت المحرمة هو؛ لا بد من إظهار المضمر مع الألف واللام؛ لأن الفعل جرى على غير من هول؛ فإن قلت الذي حرمها لم تحتج أن تقول هو‏.‏ ‏{‏وله كل شيء‏}‏خلقا وملكا ‏{‏وأمرت أن أكون من المسلمين‏}‏أي من المنقادين لأمره، الموحدين له

قوله ‏{‏وأن أتلو القرآن‏}‏أي وأمرت أن أتلو القرآن، أي أقرأه ‏{‏فمن اهتدى‏}‏فله هدايته ‏{‏ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين‏}‏فليس على إلا البلاغ نسختها آية القتال‏.‏ قال النحاس‏}‏وأن أتلو‏}‏نصب بأن قال الفراء‏:‏ وفي إحدى القراءتين ‏{‏وأنِ اتلُ‏}‏وزعم أنه في موضع جزم بالأمر فلذلك حذف منه الواو، قال النحاس‏:‏ ولا نعرف أحدا قرأ هذه القراءة، وهي مخالفة لجميع المصاحف‏.‏

قوله ‏{‏وقل الحمد لله‏}‏أي على نعمه وعلى ما هدانا ‏{‏سيريكم آياته‏}‏أي في أنفسكم وفي غيركم كماقال ‏{‏سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم‏}‏ ‏.‏ ‏{‏فتعرفونها‏}‏أي دلائل قدرته ووحدانيته في أنفسكم وفي السماوات وفي الأرض؛ نظيره قوله ‏{‏وفي الأرض آيات للموقنين‏.‏ وفي أنفسكم أفلا تبصرون‏} ‏.‏ قرأ أهل المدينة وأهل الشام وحفص عن عاصم بالتاء على الخطاب؛ لقوله ‏{‏سيريكم آياته فتعرفونها ‏{‏فيكون الكلام على نسق واحد‏.‏ الباقون بالياء على أن يرد إلى ما قبله ‏{‏فمن اهتدى‏}‏فأخبر عن تلك الآية‏.‏
 
سورة القصص

مقدمة السورة

مكية إلا من آية 52 إلي 55 فمدنية وآية 85 فبالجحفة أثناء الهجرة وآياتها 88 نزلت بعد النمل مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وقال ابن عباس وقتادة إلا آية نزلت بين مكة والمدينة وقال ابن سلام‏:‏ بالجحفة في وقت، هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهي قوله عز وجل ‏{‏إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد‏} ‏ وقال مقاتل‏:‏ فيها من المدني ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب‏} ‏ إلى قوله ‏{‏لا نبتغي الجاهلين‏} ‏ وهي ثمان وثمانون آية‏.‏

الآية رقم ‏(‏ 1 ‏:‏ 6 ‏)‏

‏{‏ طسم، تلك آيات الكتاب المبين، نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون، إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ‏}‏

قوله ‏{‏طسم‏}‏تقدم الكلام فيه‏.‏ ‏{‏تلك آيات الكتاب المبين‏}‏‏{‏تلك‏}‏في موضع رفع بمعنى هذه تلك و‏{‏آيات‏}‏بدل منها‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع نصب بـ ‏{‏نتلو‏}‏و‏{‏آيات‏}‏بدل منها أيضا؛ وتنصبها كما تقول‏:‏ زيدا ضربت و‏{‏المبين‏}‏أي المبين بركته وخيره، والمبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص الأنبياء، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ يقال‏:‏ بان الشيء وأبان اتضح‏.‏ ‏{‏نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون‏}‏ذكر قصة موسى عليه السلام وفرعون وقارون، واحتج على مشركي قريش، وبين أن قرابة قارون من موسى لم تنفعه مع كفره، وكذلك قرابة قريش لمحمد، وبين أن فرعون علا في الأرض وتجبر، فكان ذلك من كفره، فليجتنب العلو في الأرض، وكذلك التعزز بكثرة المال، وهما من سيرة فرعون وقارون ‏{‏نتلو عليك‏}‏أي يقرأ عليك جبريل بأمرنا ‏{‏من نبأ موسى وفرعون‏}‏أي من خبرهما و‏{‏من‏}‏للتبعيض و‏{‏من نبأ‏}‏مفعول ‏{‏نتلو‏}‏أي نتلو عليك بعض خبرهما؛ كقوله ‏{‏تنبت بالدهن‏} ‏ ومعنى‏}‏بالحق‏}‏أي بالصدق الذي لا ريب فيه ولا كذب ‏{‏لقوم يؤمنون‏}‏أي يصدقون بالقرآن ويعلمون أنه من عند الله؛ فأما من لم يؤمن فلا يعتقد أنه حق

قوله ‏{‏إن فرعون علا في الأرض‏}‏أي استكبر وتجبر؛ قاله ابن عباس والسدي وقال قتادة‏:‏ علا في نقسه عن عبادة ربه بكفره وادعى الربوبية وقيل‏:‏ بملكه وسلطانه فصار عاليا على من تحت يده ‏{‏في الأرض‏}‏أي أرض مصر ‏{‏وجعل أهلها شيعا‏}‏أي فرقا وأصنافا في الخدمة قال الأعشى‏:‏

وبلدة يرهب الجواب دجلتها حتى تراه عليها يبتغى الشيعا

‏{‏يستضعف طائفة منهم‏}‏أي من بني إسرائيل ‏{‏يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم‏}‏تقدم القول في هذا في البقرة عند قوله ‏{‏يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم‏}‏ الآية؛ وذلك لأن الكهنة قالوا له‏:‏ إن مولودا يولد في بني إسرائيل يذهب ملكك على يديه، أو قال المنجمون له ذلك، أو رأى رؤيا فعبرت كذلك قال الزجاج‏:‏ العجب من حمقه لم يدر أن الكاهن إن صدق فالقتل لا ينفع، وإن كذب فلا معنى للقتل وقيل‏:‏ جعلهم شيعا فاستسخر كل قوم من بني إسرائيل في شغل مفرد ‏{‏إنه كان من المفسدين‏}‏أي في الأرض بالعمل والمعاصي والتجبر‏.‏

قوله ‏{‏ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض‏}‏أي نتفضل عليهم وننعموهذه حكاية مضت ‏{‏ونجعلهم أئمة‏}‏قال ابن عباس‏:‏ قادة في الخير مجاهد‏:‏ دعاة إلى الخير‏.‏ قتادة‏:‏ ولاة وملوكا؛ دليله قوله ‏{‏وجعلكم ملوكا‏} ‏

قلت‏:‏ وهذا أعم فإن الملك إمام يؤتم به ومقتدى به‏.‏

‏{‏ونجعلهم الوارثين‏}‏لملك فرعون؛ يرثون ملكه، ويسكنون مساكن القبط وهذا معنى قوله ‏{‏وتمت كلمة ربك الحسني على بني إسرائيل بما صبروا‏} ‏

قوله ‏{‏ونمكن لهم في الأرض‏}‏أي نجعلهم مقتدرين على الأرض وأهلها حتى يُستولى عليها؛ يعني أرض الشام ومصر ‏{‏ونري فرعون وهامان وجنودهما‏}‏أي ونريد أن نري فرعون وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف‏}‏ويرى‏}‏بالياء على أنه فعل ثلاثي من رأى ‏{‏فرعون وهامان وجنودهما‏}‏رفعا لأنه الفاعل الباقون ‏{‏نري‏}‏بضم النون وكسر الراء على أنه فعل وباعي من أري يري، وهي علي نسق الكلام؛ لأن قبله ‏{‏ونريد‏}‏وبعده ‏{‏ونمكن‏}‏‏{‏فرعون وهامان وجنودهما‏}‏نصبا بوقوع الفعل وأجاز الفراء ‏{‏ويُرِيَ فرعون‏}‏بضم الياء وكسر الراء وفتح الياء ويري الله فرعون ‏{‏منهم ما كانوا يحذرون‏}‏وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل فكانوا على وجل ‏{‏منهم‏}‏فأراهم الله ‏{‏ما كانوا يحذرون‏}‏قال قتاد‏:‏ كان حازيا لفرعون ـ والحازي المنجم ـ قال إنه سيولد في هذه السنة مولود يذهب بملكك؛ فأمر فرعون بقتل الولدان في تلك السنة وقد تقدم

الآية رقم ‏(‏ 7 ‏:‏ 9 ‏)‏

‏{‏ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين، فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين، وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون ‏}‏

قوله ‏{‏وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه‏}‏قد تقدم معنى الوحي ومحامله واختلف في هذا الوحي إلى أم موسى؛ فقالت فرقة‏:‏ كان قولا في منامها وقال قتادة‏:‏ كان إلهاما وقالت فرقة‏:‏ كان بملك يمثل لها، قال مقاتل ـ أتاها جبريل بذلك فعلي هذا هو وحي إعلام لا إلهام وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية، وإنما إرسال الملك إليها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى في الحديث المشهور؛ خرجه البخاري ومسلم، وقد ذكرناه في سورة براءة وغير ذلك مما روي من تكليم الملائكة للناس من غير نبوة، وقد سلمت على عمران بن حصين فلم يكن بذلك نبيا واسمها أيارخا وقيل أيارخت فيما ذكر السهيلي وقال الثعلبي‏:‏ واسم أم موسي لوحا بنت هاند بن لاوى بن يعقوب ‏{‏أن أرضعيه‏}‏وقرأ عمر بن عبدالعزير‏}‏أن ارضعيه‏}‏بكسر النون وألف وصل؛ حذف همزة أرضع تخفيفا ثم كسر النون لالتقاء الساكنين قال مجاهد‏:‏ وكان الوحي بالرضاع قبل الولادة‏.‏ وقال غيره بعدها‏.‏ قال السدي‏:‏ لما ولدت أم موسى أمرت أن ترضعه عقيب الولادة وتصنع به بما في الآية؛ لأن الخوف كان عقيب الولادة وقال ابن جريج‏:‏ أمرت بإرضاعه أربعة أشهر في بستان، فإذا خافت أن يصيح ـ لأن لبنها لا يكفيه ـ صنعت به هذا والأول أظهر إلا أن الآخر يعضده قوله ‏{‏فإذا خفت عليه‏}‏و‏{‏إذا‏}‏لما يستقبل من الزمان؛ فيروي أنها أتخذت له تابوتا من بردي وقيرته بالقار من داخله، ووضعت فيه موسى وألقته في نيل مصر وقد مضى خبره في ‏{‏طه‏}‏قال ابن عباس‏:‏ إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس، وعملوا بالمعاصي، فسلط الله عليهم القبط، وساموهم سوء العذاب، إلى أن نجاهم الله على يد موسى قال وهب‏:‏ بلغني أن فرعون ذبح في طلب موسى سبعين ألف وليد ويقال‏:‏ تسعون ألفا ويروي أنها حين اقتربت وضربها الطلق، وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بني إسرائيل مصافية لها، فقالت‏:‏ لينفعني حبك اليوم، فعالجتها فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه، وأرتعش كل مفصل منها، ودخل حبه قلبها، ثم قالت‏:‏ ما جئتك إلا لأقتل مولودك وأخبر فرعون، ولكني وجدت لابنك حبا ما وجدت مثله قط، فاحفظيه؛ فلما خرجت جاء عيون فرعون فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور نارا لم تعلم ما تصنع لما طاش عقلها، فطلبوا فلم يلفوا شيئا، فخرجوا وهي لا تدري مكانه، فسمعت بكاءه من التنور، وقد جعل الله عليه النار بردا وسلاما‏.‏

قوله ‏{‏ولا تخافي‏}‏فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ لا تخافي عليه الغرق؛ قاله ابن زيد الثاني‏:‏ لا تخافي عليه الضيعة؛ قاله يحيى بن سلام ‏{‏ولا تحزني‏}‏فيه أيضا وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ لا تحزني لفراقه؛ قاله ابن زيد الثاني‏:‏ لا تحزني أن يقتل؛ قاله يحيى بن سلام فقيل‏:‏ إنها جعلته في تابوت طوله خمسة أشبار وعرضه خمسة أشبار، وجعلت المفتاح مع التابوت وطرحته في اليم بعد أن أرضعته أربعة أشهر وقال آخرون‏:‏ ثلاثة أشهر وقال آخرون ثمانية أشهر؛ في حكاية الكلبيوحكي أنه لما فرغ النجار من صنعة التابوت نم إلى فرعون بخبره، فبعث معه من يأخذه، فطمس الله عينيه وقلبه فلم يعرف الطريق، فأيقن أنه المولود الذي يخاف منه فرعون، فآمن من ذلك الوقت؛ وهو مؤمن آل فرعون؛ ذكره الماوردي‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ فلما توارى عنها ندمها الشيطان وقالت في نفسها‏:‏ لو ذبح عندي فكفنته وواريته لكان أحب إلي من إلقائه في البحر فقال الله ‏{‏إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين‏}‏أي إلى أهل مصر‏.‏ حكى الأصمعي قال‏:‏ سمعت جارية أعرابية تنشد وتقول‏:‏

أستغفر الله لذنبي كله قبلت إنسانا بغير حله

مثل الغزال ناعما في دله فأنتصف الليل ولم أصله

فقلت‏:‏ قاتلك الله ما أفصحك ‏!‏ فقالت‏:‏ أو يعد هذا فصاحة مع قوله ‏{‏وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه‏}‏الآية فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين‏.‏

قوله ‏{‏فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا‏}‏لما كان التقاطهم إياه يؤدي إلى كونه لهم عدوا وحزنا؛ فاللام في ‏{‏ليكون‏}‏لام العاقبة ولام الصيرورة؛ لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين، فكان عاقبة ذلك أن كان لهم عدوا وحزنا، فذكر الحال بالمآل؛ كما قال الشاعر‏:‏

وللمنايا تربي كل مرضعة ودورنا لخراب الدهر نبنيها

وقال آخر‏:‏

فللموت تغذو الوالدات سخالها كما لخراب الدهر تبنى المساكن

أي فعاقبة البناء الخراب وإن كان في الحال مفروحا به والالتقاط وجود الشيء من غير طلب ولا إرادة، والعرب تقول لما وجدته من غير طلب ولا إرادة‏:‏ التقطه التقاطا ولقيت فلانا التقاطا قال الراجز‏:‏

ومنهل وردته التقاطا

ومن اللقطة وقد مضى بيان ذلك من الأحكام في سورة يوسف بما فيه كفاية وقرأ الأعمش ويحيى والمفضل وحمزة والكسائي وخلف وحزنا بضم الحاء وسكون الزاي والباقون بفتحهما واختاره أبو عبيد وأبو حاتم قال التفخيم فيه وهما لغتان مثل العدم والعدم، والسقم والسقم، والرشد والرشد ‏{‏إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين‏}‏‏{‏هامان‏}‏وكان وزيره من القبط ‏{‏خاطئين‏}‏أي عاصين مشركين آثمين‏.‏

قوله ‏{‏وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه‏}‏يروى أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت يعوم في البحر، فأمرت بسوقه إليها وفتحه فرأت فيه صبيا صغيرا فرحمته وأحبته؛ فقالت لفرعون‏}‏قرة عين لي ولك‏}‏أي هو قرة عين لي ولك فـ

قرة‏}‏خبر ابتداء مضمر؛ قاله الكسائي وقال النحاس‏:‏ وفيه وجه آخر بعيد ذكره أبو إسحاق؛ قال‏:‏ يكون رفعا بالابتداء والخبر ‏{‏لا تقتلوه‏}‏وإنما بعد لأنه يصير المعنى أنه معروف بأنه قرة عين وجوازه أن يكون المعنى‏:‏ إذا كان قرة عين لي ولك فلا تقتلوه‏.‏ وقيل‏:‏ تم الكلام عند قوله ‏{‏ولك‏}‏النحاس‏:‏ والدليل على هذا أن في قراءة عبدالله بن مسعود‏}‏وقالت امرأة فرعون لا تقتلوه قرة عين لي ولك‏}‏ويجوز النصب بمعنى لا تقتلوا قرة عين لي ولك وقالت‏}‏لا تقتلوه‏}‏ولم تقل لا تقتله فهي تخاطب فرعون كما يخاطب الجبارون؛ وكما يخبرون عن أنفسهم وقيل‏:‏ قالت‏}‏لا تقتلوه‏}‏فإن الله أتى به من أرض أخرى وليس من بني إسرائيل‏.‏ ‏{‏عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا‏}‏‏{‏عسي أن ينفعنا‏}‏فنصيب منه خيرا ‏{‏أو نتخذه ولدا‏}‏وكانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها، وكان فرعون لما رأى الرؤيا وقصها على كهنته وعلمائه ـ على ما تقدم - قالوا له إن غلاما من بني إسرائيل يفسد ملكك؛ فأخذ بني إسرائيل بذبح الأطفال، فرأى أنه يقطع نسلهم فعاد يذبح عاما ويستحيي عاما، فولد هارون في عام الاستحياء، وولد موسى في عام الذبح‏.‏

قوله ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏هذا ابتداء كلام من الله تعالى؛ أي وهم لا يشعرون أن هلاكهم بسببه وقيل‏:‏ هو من كلام المرأة؛ أي وبنو إسرائيل لا يدرون أنا التقطناه، ولا يشعرون إلا أنه ولدنا واختلف المتأولون في الوقت الذي قالت فيه امرأة فرعون ‏{‏قرة عين لي ولك‏}‏فقالت فرقة‏:‏ كان ذلك عند التقاطه التابوت لما أشعرت فرعون به ولما أعلمته سبق إلى فهمه أنه من بني إسرائيل، وأن ذلك قصد به ليتخلص من الذبح فقال‏:‏ علي بالذباحين؛ فقالت امرأته ما ذكر فقال فرعون‏:‏ أما لي فلا‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو قال فرعون نعم لآمن بموسى ولكان قرة عين له‏)‏ وقال السدي‏:‏ بل ربته حتى درج فرأى فرعون فيه شهامة وظنه من بني إسرائيل وأخذه في يده، فمد موسى يده ونتف لحية فرعون فهم حينئذ يذبحه، وحينئذ خاطبته بهذا، وجربته له في الياقوتة والجمرة، فاحترق لسانه وعلق العقدة على ما تقدم في طه قال الفراء‏:‏ سمعت محمد بن مروان الذي يقال له السدي يذكر عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إنما قالت ‏{‏قرة عين لي ولك لا‏}‏ثم قالت‏}‏تقتلوه‏}‏قال الفراء‏:‏ وهو لحن؛ قال ابن الأنباري‏:‏ وإنما حكم عليه باللحن لأنه لو كان كذلك لكان تقتلونه بالنون؛ لأن الفعل المستقبل مرفوع حتى يدخل عليه الناصب أو الجازم، فالنون فيه علامة الرفع قال الفراء‏:‏ ويقويك على رده قراءة عبدالله بن مسعود ‏{‏وقالت امرأة فرعون لا تقتلوه قرة عين لي ولك‏}‏بتقديم ‏{‏لا تقتلوه‏}‏

الآية رقم ‏(‏ 10 ‏:‏ 14 ‏)‏

‏{‏ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين، وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون، وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون، ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ‏}‏

قوله ‏{‏وأصبح فؤاد أم موسى فارغا‏}‏قال ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وأبو عمران الجوني وأبو عبيدة‏}‏فارغا‏}‏أي خاليا من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى وقال الحسن أيضا وابن إسحاق وابن زيد‏}‏فارغا‏}‏من الوحي إذ أوحى إليها حين أمرت أن تلقيه في البحر ‏{‏لا تخافي ولا تحزني‏}‏والعهد الذي عهده إليها أن يرده ويجعله من المرسلين؛ فقال لها الشيطان‏:‏ يا أم موسى كرهت أن يقتل فرعون موسى فغرقتيه أنت ‏!‏ ثم بلغها أن ولدها وقع في يد فرعون فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها وقال أبو عبيدة‏}‏فارغا‏}‏من الغم والحزن لعلمها أنه لم يغرق؛ وقاله الأخفش أيضا وقال العلاء بن زياد‏}‏فارغا‏}‏نافرا الكسائي‏:‏ ناسيا ذاهلا وقيل‏:‏ والها؛ رواه سعيد بن جبير ابن القاسم عن مالك‏:‏ هو ذهاب العقل؛ والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهش، ونحوه قوله ‏{‏وأفئدتهم هواء‏}‏ أي جوف لا عقول لها كما تقدم في سورة إبراهيم وذلك أن القلوب مراكز العقول؛ ألا ترى إلى قوله ‏{‏فتكون لهم قلوب يعقلون بها‏} ويدل عليه قراءة من قرأ‏}‏فزعا‏}‏النحاس‏:‏ أصح هذه الأقوال الأول، والذين قالوه أعلم بكتاب الله عز وجل؛ فإذا كان فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى فهو فارغ من الوحي وقول أبي عبيدة فارغا من الغم غلط قبيح؛ لأن بعده ‏{‏إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها‏} ‏ و روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ كادت تقول وا إبناه ‏!‏ وقرأ فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه ومحمد بن السميقع وأبو العالية وابن محيصن‏}‏فزعا‏}‏بالفاء والعين المهملة من الفزع، أي خائفة عليه أن يقتل ابن عباس‏}‏قرعا‏}‏بالقاف والراء والعين المهملتين، وهى راجعة إلى قراءة الجماعة ‏{‏فارغا‏}‏ولذلك قيل للرأس الذي لا شعر عليه‏:‏ أقرع؛ لفراغه من الشعر وحكي قطرب أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قرأ‏}‏فرغا ‏:‏ الفاء والراء والغين المعجمة من غير ألف، وهو كقولك‏:‏ هدرا وباطلا؛ يقال‏:‏ دماؤهم بينهم فرغ أي هدر؛ والمعنى بطل قلبها وذهب وبقيت لا قلب لها من شدة ما ورد عليها وفي قوله ‏{‏وأصبح‏}‏وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها ألقته ليلا فأصبح فؤادها في النهار فارغا الثاني‏:‏ ألقته نهارا ومعنى‏}‏وأصبح‏}‏أي صار؛ كما قال الشاعر‏:‏

مضى الخلفاء بالأمر الرشيد وأصبحت المدينة للوليد

قوله ‏{‏إن كادت‏}‏أي إنها كادت؛ فلما حذفت الكناية سكنت النون فهي ‏{‏إن‏}‏المخففة ولذلك دخلت اللام في ‏{‏لتبدي به‏}‏أي لتظهر أمره؛ من بدا يبدو إذا ظهر قال ابن عباس‏:‏ أي تصيح عند إلقائه‏:‏ وا إبناه السدي‏:‏ كادت تقول لما حملت لإرضاعه وحضانته هو ابني وقيل‏:‏ إنه لما شب سمعت الناس يقولون موسى بن فرعون؛ فشق عليها وضاق صدرها، وكادت تقول هو ابني وقيل‏:‏ الهاء في ‏{‏به‏}‏عائدة إلى الوحي تقديره‏:‏ إن كانت لتبدي بالوحي الذي أوحيناه إليها أن نرده عليها والأول أظهر قال ابن مسعود‏:‏ كادت تقول أنا أمه وقال الفراء‏:‏ إن كانت لتبدي باسمه لضيق صدرها‏.‏ ‏{‏لولا أن ربطنا على قلبها‏}‏قال قتادة‏:‏ بالإيمان السدي‏:‏ بالعصمة وقيل‏:‏ بالصبر والربط على القلب‏:‏ إلهام الصبر‏.‏ ‏{‏لتكون من المؤمنين‏}‏أي من المصدقين بوعد الله حين قال لها‏}‏إنا رادوه إليك‏} .‏ وقال ‏{‏لتبدي به‏}‏ولم يقل‏:‏ لتبديه؛ لأن حروف الصفات قد تزاد في الكلام؛ تقول‏:‏ أخذت الحبل وبالحبل وقيل‏:‏ أي لتبدي القول به‏.‏

قوله ‏{‏وقالت لأخته قصيه‏}‏أي قالت أم موسى لأخت موسى‏:‏ اتبعي أثره حتى تعلمي خبره واسمها مريم بنت عمران؛ وافق اسمها اسم مريم أم عيسى عليه السلام؛ ذكره السهيلي والثعلبي وذكر الماوردي عن الضحاك‏:‏ أن اسمها كلثمة وقال السهيلي‏:‏ كلثوم؛ جاء ذلك في حديث رواه الزبير بن بكار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة‏:‏ ‏(‏أشعرت أن الله زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثوم أخت موسى وآسية امرأة فرعون‏)‏ فقالت‏:‏ الله أخبرك بهذا ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ فقالت‏:‏ بالرفاء والبنين‏.‏ ‏{‏فبصرت به عن جنب‏}‏أي بعد؛ قال مجاهد ومنه الأجنبي قال الشاعر‏:‏

فلا تحرمني نائلا عن جنابة فإني امرؤ وسط القباب غريب

وأصله عن مكان جنب وقال ابن عباس‏}‏عن جنب‏}‏أي عن جانب وقرأ النعمان بن سالم‏}‏عن جانب‏}‏أي عن ناحية وقيل‏:‏ عن شوق؛ وحكى أبو عمرو بن العلاء أنها لغة لجذام؛ يقولون‏:‏ جنبت إليك أي أشتقت وقيل ‏{‏عن جنب‏}‏أي عن مجانبة لها منه فلم يعرفوا أنها أمه بسبيل وقال قتادة‏:‏ جعلت تنظر إليه بناحية كأنها لا تريده، وكان يقرأ‏}‏عن جنب‏}‏بفتح الجيم وإسكان النون‏.‏ ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏أنها أخته لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى رأتهم قد أخذوه‏.‏

قوله ‏{‏وحرمنا عليه المراضع من قبل‏}‏أي منعناه من الارتضاع من قبل؛ أي من قبل مجيء أمه وأخته و‏}‏المراضع‏}‏جمع مرضع ومن قال مراضيع فهو جمع مرضاع، ومفعال يكون للتكثير، ولا تدخل الهاء فيه فرقا بين المؤنث والمذكر لأنه ليس بجار على الفعل، ولكن من قال مرضاعة جاء بالهاء للمبالغة؛ كما يقال مطرابة قال ابن عباس‏:‏ لا يؤتى بمرضع فيقبلها وهذا تحريم منع لا تحريم شرع؛ قال امرؤ القيس‏:‏

جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني امرؤ صرعي عليك حرام

أي ممتنع ‏{‏فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم‏}‏الآية‏.‏ فقالوا لها عند قولها‏}‏وهم له ناصحون‏}‏وما يدريك ‏؟‏ لعلك تعرفين أهله ‏؟‏ فقالت‏:‏ لا، ولكنهم يحرصون على مسرة الملك، ويرغبون في ظئره وقال السدي وابن جريج‏:‏ قيل لها لما قالت‏}‏وهم له ناصحون‏}‏قد عرفت أهل هذا الصبي فدلينا عليهم، فقالت‏:‏ أردت وهم للملك ناصحون فدلتهم على أم موسى، فانطلقت إليها بأمرهم فجاءت بها، والصبي علي يد فرعون يعلله شفقة عليه، وهو يبكي يطلب الرضاع، فدفعه إليها؛ فلما وجد الصبي ريح أمة قبل ثديها وقال ابن زيد استرابوها حين قالت ذلك فقالت‏:‏ وهم للملك ناصحون وقيل‏:‏ إنها لما قالت‏}‏هل أدلكم علي أهل بيت يكلفونه لكم ‏{‏وكانوا يبالغون في طلب مرضعة يقبل ثديها فقالوا‏:‏ من هي ‏؟‏ فقالت‏:‏ أمي، فقيل‏:‏ لها لبن‏؟‏ قالت‏:‏ نعم ‏!‏ لبن هارون ـ وكان ولد في سنة لا يقتل فيها الصبيان ـ فقالوا صدقت والله‏.‏ ‏{‏وهم له ناصحون‏}‏أي فيهم شفقة ونصح، فروي أنه قيل لأم موسى حين ارتضع منها‏:‏ كيف ارتضع منك ولم يرتضع من غيرك ‏؟‏ فقالت‏:‏ إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن، لا أكاد أوتى بصبي إلا ارتضع مني قال أبو عمران الجوني‏:‏ وكان فرعون يعطي أم موسي كل يوم دينارا قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت كيف حل لها أن تأخذ الأجر علي إرضاع ولدها ‏؟‏ قلت‏:‏ ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع، ولكنه مال حربي تأخذه علي وجه الاستباحة‏.‏

قوله ‏{‏فرددناه إلى أمه‏}‏أي رددناه وقد عطف الله قلب العدو عليه، ووفينا لها بالوعد ‏{‏كي تقر عينها‏}‏أي بولدها ‏{‏ولا تحزن‏}‏أي بفراق ولدها ‏{‏ولتعلم أن وعد الله حق‏}‏أي لتعلم وقوعه فإنها كانت عالمة بأن رده إليها سيكون‏.‏ ‏{‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏يعني أكثر آل فرعون لا يعلمون؛ أي كانوا في غفلة عن التقرير وسر القضاء وقيل‏:‏ أي أكثر الناس لا يعلمون أن وعد الله في كل ما وعد حق‏.‏

قوله ‏{‏ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما‏}‏قد مضى الكلام في الأشد في ‏{‏الأنعام‏}‏وقول ربيعة ومالك أنه الحُلُم أولى ما قيل فيه، لقوله تعالي‏{‏حتى إذا بلغوا النكاح‏} فإن ذلك أول الأشد، وأقصاه أربع وثلاثون سنة، وهو قول سفيان الثوري، ‏{‏واستوى‏}‏قال ابن عباس‏:‏ بلغ أربعين سنة والحكم‏:‏ الحكمة قبل النبوة وقيل‏:‏ الفقة في الدين وقد مضى بيانها في ‏{‏البقرة‏}‏وغيرها والعلم الفهم في قول السدي وقيل‏:‏ النبوة وقال مجاهد‏:‏ الفقه محمد بن إسحاق‏:‏ أي العلم بما في دينه ودين آبائه، وكان له تسعة من بني إسرائيل يسمعون منه، ويقتدون به، ويجتمعون إليه، وكان هذا قبل النبوة‏.‏ ‏{‏وكذلك نجزي المحسنين‏}‏أي كما جزينا أم موسى لما استسلمت لأمر الله، وألقت ولدها في البحر، وصدقت بوعد الله، فرددنا ولدها إليها بالتحف والطرف وهي آمنة، ثم وهبنا له العقل والحكمة والنبوة، وكذلك نجزي كل محسن‏.‏
 
عودة
أعلى