من الآخر حول قصة فك الطوق عن الجيش الثالث المحاصر والخطة الوهمية المسماة "شامل" !!!!!
مشاهدة المرفق 428315
في الساعة 1100 يوم 25 من أكتوبر اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة السيد الوزير لأول مرة منذ اندلاع القتال وكان الموضوع الرئيسي للمناقشة هو كيف يمكن إعادة فتح الطريق إلى الجيش الثالث. وقد تكلم المجتمعون كلهم بإخلاص تام، ولكننا لم نستطع الوصول إلى أي حل وانفض الاجتماع على أساس إجراء الدراسات اللازمة حول هذا الموضوع .
في الساعة 1100 يوم 26 من أكتوبر حضر العميد قابيل قائد الفرقة الرابعة المدرعة إلى المركز 10 ليعرض نتيجة دراسته، وكان تقرير العميد قابيل- يؤيده في ذلك اللواء عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث- هو أن الفرقة الرابعة المدرعة لا تستطيع أن تقوم بتنفيذ هذه المهمة. كان كلام قابيل وعبد المنعم واصل كلاما منطقيا يعتمد على قواعد وأصول العلم العسكري ولم اكن أنا شخصيا أتوقع غير ذلك منذ يوم 23 أكتوبر. ولكن الوزير اخذ يحاور قابيل محاورات غريبة. وهنا قال قابيل "إنني وضباط وجنود الفرقة جميعنا مستعدين للقيـام بهذه العملية الانتحارية، ولكني لا اعتقد أننا سننجح في فتح الطريق إلى القوات المحاصرة بعد ذلك كله. وإذا دمرت هذه الفرقة فسيكون الطريق مفتوحا أمام العدو إلى القاهرة".
قال الوزير "إذن نعدل المهمة من فتح طريق السويس إلى حماية قوات إدارية تتحرك من القاهرة إلى الجيش الثالث عبر المسالك والطريق الثانوية كدت أصعق وأنا استمع إلى الوزير وهو يدلي بهذا القول. لأن مثل هذا الكلام لا يمكن أن يصدر من شخص بكامل قواه العقلية نظرا لأنه كلام غير منطقي إطلاقا فكيف يصدر من وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة؟
1- إن الحد الأدنى لمطالب الجندي من التعيينات والمياه وقت الحصار هو 3,5 كيلوجرام في اليوم، وهذا يعني أن القوات المحاصرة -عدا المدنيين الموجودين في مدينة السويس- تحتاج إلى 150 طنا يوميّا لكيلا يموت الجنود جوعا وعطشّا.
2- إن استخدام المسالك والأرض المفتوحة يتطلب عربات ذات جنازير حتى يمكنها عبور الأراضي المفتوحة ومجاري السيول، ولو حملت كل من هذه العربات 1,5 طن فإننا نحتاج إلى حوالي 100 عربة مجنزرة على الأقل لتنقل احتياجات يوم واحد بفرض أنها جميعا ستصل سليمة ولن ينجح العدو في تدمير أي منها.
3- أن العدو يتمتع بالسيطرة الجوية في تلك المنطقة ويستطيع أن يكشف أية تحركات كبيرة بالحملة عبر هذه المسالك ويقوم بتدميرها.
4- إن مخارج هذه الأراضي المفتوحة جميعا يجب أن تمر في النهاية خلال المنطقة ما بين جبل عتاقة وجبل جنيفة او ما بين جبل جنيفة والبحيرات المرة، وهي مناطق يسيطر عليها العدو.
5- من غير المعقول أن نقوم بهذه المغامرة من اجل إرسال احتياجات يوم واحد، فلو فرضنا إمداد القوات المحاصرة باحتياجات سبعة ايام فإننا نحتاج إلى 700 مركبة مجنزرة للقيام بهذه المهمة الإدارية، وهذا رقم كبير غير متيسر. ولو تيسر لنا هذا العدد من المجنزرات واستخدمناها بهذا الأسلوب الساذج لكان سبة في جبيننا.
6- إذا كانت الفرقة الرابعة المدرعة لا تستطيع أن تفتح الطريق وحدها فكـيف نحملها مسئولية عبء ثقيل وهو حماية 700 مركبة تحمل مطالب إدارية؟
7- هل نترك الباب مفتوحا إلى القاهرة بينما تكون الفرقة الرابعة المدرعة مشـغولة بهذه العملية؟
عارضت الوزير ولكنه أصّر وطلب إليَّ أن أُصدر أمرّاً كتابياً إلى قائد الفرقة بتنفيذ هذه المهمة فرفضتُ ، وقلت له :" لن أوقع بإمضائي على هذه المهمة، يمكنك أن توقع على هذا الأمر وحدك ان شئت". وهنا لجـأ الوزير إلى مناقشات غير منطقية الهدف منها تسجيل مواقف فقال : "أنا لا افهم ماذا تريد بالضبط ؟ هل تريد لهؤلاء الرجال المحاصرين أن يستسلموا؟" فأجبتُ : "بالطبع لا أريد ذلك، ولكن في الوقت نفسه لا أريد أن نفقد الفرقة الرابعة المدرعة دون أن يتغير الموقف في شيء" ، فقال :" يجب الا تقول هذا الكلام في حضور قائد الفرقة المكلف بهذه المهمة". قلت : "إنني ابدي رأيي بصراحة تحتمها عليّ مسئوليتي، وعموما هناك تقرير مكتوب من قائد الجيش الثالث يتفق مع وجهة نظري". قال الوزير "إذا لم توقع على الأمر للفرقة الرابعة لتنفيذ هذه المهمة فسوف أقوم بإخطار الرئيس بذلك"، أجبت بهدوء "يمكنك أن تفعل ذلك بكل تأكيد". قام الوزير بتوقيع الأمر بعد ذلك وسلّمه إلى العميد قابيل . ولكن المهمة أُلغيت بعد ذلك ولم تُنفَذ قَط . ربما لأن الوزير لم يستطع أن يتحمل وحده مسؤولية هذه العملية الطائشة.
السادات في قبضة كيسنجر:
في الساعة 2300 من يوم 26 من أكتوبر وصلت إلى القاهرة الدفعة الأولى من قوة الطوارئ الدولية وكان عددها 50 فردا. واعتبارا من الساعات الأولى من يوم 27 من أكتوبر وضعت الأطراف جميعها أوراقها على المنضدة ذهب الوزير لمقابلة الرئيس في الساعة الرابعة صباحا وعاد حوالي السادسة، وأدلى بالتعليمات التالية:
1- لقد تلقى الرئيس رسالة من الرئيس نيكسون يخطره بأنه سوف يكون هناك حل مشرف لمشكلة الجيش الثالث.
2- يجب أن نوقف النشاطات العسكرية جميعها اعتبارا من الساعة 1300 اليوم
3- يدفع اليوم رتل من الحملة يحمل المطالب الإدارية للجيش الثالث. يتحرك ألرتل في الساعة 1300.
4- تبدأ المفاوضـات اليوم الساعة 1500 عند علامة الكيلو 101 طريق مصر- السويس ويرأس الوفد المصري اللواء عبد الغني الجمسي رئيس هيئة العمليات.
ومنذ هذه اللحظة- من الناحية الواقعية منذ 23 من أكتوبر- أصبح الجيش الثالث رهينة في يد إسرائيل وفي يد كيسنجر. لقد اصبح مصير الجيش الثالث مرتبطا بمدى المطالب التي تطلبها إسرائيل وأمريكا ومدى خضوع السـادات لهذه المطالب. وقد استغلت كل من إسرائيل وأمريكا هذه الرهينة احسن استغلال كما سوف نرى.
مفاوضات الكيلو 101:
كان المصريون يستعجلون الأمور، وكان الإسرائيليون يعلمون ذلك فيتعمدون تأخير كل شيء وتعطيل كل شيء لقد أصبحت المعركة الآن معركة سياسية واصبـح من بيده إمداد الجيش الثالث بكسرة خبز واحدة هو كيسنجر. كان كيسنجر يعلم تلك الحـقيقة وكان يعلم أيضا ان السادات هو الآخر يعلمها، ولكنه كان يريد أن يذكر السادات بهذه الحقيقة باستمرار حتى يستطيع أن يسيطر عليه سيطرة تامة.
كانت الخطة التي وضعها كيسنجر مع إسرائيل تتلخص فيما يلي:
1- كلما طالت مدة حصار الجيش الثالث كـان ذلك افضل، حيث إن ذلك سيعطي إسرائيل وأمريكا فرصة أفضل لتحقيق مطالبهما.
2- يتم إمداد الجيش الثـالث فى أضيق الحدود بحيث يكون دائما "من اليد إلى الفم" وليس لديه أي احتياطي من التعيينات او الاحتيـاجات. ومن هنا يصبح كل يوم يمر عنصر ضغط سياسي على السادات وكأنه يقول له " توافق على هذا الطلب ام نمنع مرور قول التموين إلى الجيش الثالث؟ ".
3- إن مصر يجب ان تدفع- بسـخاء- لكل من إسرائيل وأمريكا ثمنا لإنقاذ الجيش الثالث. كان الثمن الذى تريده أمريكا هو طرد النفوذ السوفيتي من المنطقة، وإلغاء الحظر الذي فرضتـه الدول العربية على إمداد أمريكا والدول الغربية بالوقود. أما إسرائيل فكانت مطالبها كثيرة ومتعددة كما سوف نرى، وكان أهم ما فيها هو اتفاقية يناير 74 الخاصة بفض الاشتبـاك الأول والتي تعهدت فيها مصر بسحب قوات الجيشين الثاني والثالث من المنطقة شرق القناة وذلك فيما عدا 7000 جندي و30 دبابة فقط.
بدأت مرحلة ابتزاز النظام المصري واستغلال وجـود الجيش الثالث كرهينة اعتبارا من صباح يوم 27 من أكتوبر. ففي هذا اليوم وبناء على اتفاق السـادات وواشنطن تحرك قول إداري من القاهرة لإمداد الجيش الثالث. كـان القول الإداري مُكوّناً من 109 عربات تحمل 1000 طن من الاحتياجـات من مواد الإعاشة وكان معه 20 عربة إسـعاف لإخلاء الجرحى. ولكن الإسرائيليون رفضوا السماح له بالمرور. كذلك ذهب الجـمسي إلى الكيلو 101 طريق السويس ولكنه عاد لأنه لم يجد أحدا يريد اسـتقبـاله. واهتزت أسلاك الهاتف بين القاهرة وواشنطن وتل أبيب، ثم قيل للجـمسي : " اذهب مرة أخـرى وميعاد المقـابلة هو منتصف الليل" ، وذهب الجـمسى إلى الكيلو 101 مرة أخرى ولكنه عاد أيضا دون ان يقـابله أحد، واهتـز الهاتف مرة اخرى بين القاهرة وواشنطن. وبعد سلسلة من التأجيـلات وافق الجـانب الإسرائيلي على استقبال الجمسي عند علامة الكيلو 101 الساعة 1200 يوم 29 من أكتوبر 73 !
أما بخصوص إمداد الجيش الثالث فقد أثاروا الكثير من العقبات وفرضوا الكثير من القيود التي قبِلها الجانب المصري بأكملها ؛ لأنه لم تكن لديه أية فرصة للمساومة.
أ- قالوا إنهم لن يسمحوا إلا بمرور الإمدادات الطبية فقط وبعد مناقشات مُطوّلة وافقوا في الساعة 1700 يوم 29 من أكتوبر على إمداد القوات المحاصرة بثلاثين طناً فقط من الاحتياجات ( 20 طن مياه و 8 أطنان تعيينات و 2,5 من المواد الطبية).
ب- كانوا يُجرون تفتيشاً دقيقاً ومُهيناً للعربات التي تحمل تلك الاحتياجات الإدارية.
ج- رفضوا السماح للسائقين المصريين أن يتقدموا بتلك العربات بعد علامة الكيلو 101 وأصروا على أن يقودها سائقون إسرائيليون أو سائقون تابعون للأمم المتحدة خلال الرحلة ما بين الكيلو 101 والقوات المحاصرة وقبِل المفاوض المصري، وعلى الرغم من هذه التنازلات المهينة كلها إلا أن نسبة كبيرة من إمداداتنا إلى القوات المحاصرة كان ينهبها الإسرائيليون خلال الطريق !
كانت مفاوضات الكيلو 101 غريبة فى طبيعتها. لقد كانت عبارة عن تلّقي تعليمات الجانب الإسرائيلي يومياً كثمن لإمداد الجيش الثالث باحتياجاته. في أول يوم للاجتماع طلب الجانب الإسرائيلي الإفراج عن جاسوس إسرائيلي كان فى قبضتنا أسمه أڤيدان( Avidan ) وكان قد حُكم عليه بالسجن بحُكم محكمة وكـان حينئذ يقضـي العقوبة في أحد سجوننا. وافق الرئيس وفي اليوم التالي كان أڤيدان يرافق الجمسي في عربته إلى الكيلو 101 ليسلمه بنفسه إلـى الجانب الإسرائيلي. كان أڤيدان هو المقدمة ثم تبع ذلك المطالبة بتسلـيم الجواسيس الإسرائيليين كلهم الذين يقضون أحكاما في السجون المصرية بما فيهم الجاسوس المصري "باروخ مزراحي" وهو يهودي مصري اختفى قبل ذلك من مصر ثم ضُبط فى إحدى الدول العربية تحت اسم آخر ؛ وكان يتجسس لحساب إسرائيل. طالبوا بعد ذلك بتبادل أسرى الحرب. كانت وجهة نظر مصر أن يؤجَل تبادل أسرى الحرب إلى ما بعد التوقيع على اتفاقية فض الاشتباك. رفضت إسرائيل. فعدّلت مصر طلبها بأن يكون تبادل الأسرى بعد انسحاب الإسرائيليين الى خط 22 من أكتوبر فرفضت إسرائيل وأعلنت جولدا مائير فى الكنيست في 14 من نوفمبر 73 : " لن يمر كيلو جرام واحد من الاحتياجات إلى الجيش الثالث إلا بعد أن يصل إلينا رجالنا الأسرى الذين في يد المصريين "، وأذعن السادات وبدأ تسليـم الأسرى في اليوم التالي مُباشرة ، اعتبارا من يوم 15 من نوفمبر واستمر حتى 22 من نوفمبر. وعندما اشتد البرد حاولنا إرسال البطانيات والملابس الصوفية إلى رجالنا ولكن الجانب الإسرائيلي رفض السماح بمرور هذه الأصناف !
كيسنجر يستغل حصار الجيش الثالث:
وعندما اشتكت القاهرة الى واشنطن من التعنت الإسرائيلي، وصلت رسالة من كيسنجر الى وزير الخارجية المصري في 4 من ديسمبر 73 تتضمن النقاط التالية:
1- يجب ان تستأنف مفاوضات الكيلو 101 على اساس تبادل المصالح
2- ان مقترحات ياريف YARIV (نظير الجمسي ورئيس الوفد الإسرائيلي في مفاوضات الكيلو 101) يوم 23 من نوفمبر يمكن ان تكون اساسا لمؤتمر سلام !
3- ان عدم رفع قيود البترول قبل انعقاد "مؤتمر السلام" قد يجعل أمريكا غير قادرة على اتخاذ موقف مؤثر.
ها هو ذا كيسنجر قد بدأ يساوم هو الآخر لصالح أمريكا. إن إمداد الجيش الثـالث بالتعيينات والمياه يجب أن يقابله إمداد أمريكا والغرب بالوقود. إن طبيعة سلاح البترول هو أن قوة تأثيره لا تظهر الا بعد بضعة أشهر. وفي الوقت الذي بدأت فيه أمريكا والدول المؤيدة لإسرائيل تشعر بالأثر الاقتصادي نتيجة للحظر الذي فرضته الدول العربية. أقول في هذا الوقت وضع كيسنجر سلاح البترول في كفة الميزان وإنقاذ الجيش الثالث في الكفة الأخرى. كان على السادات إذن أن يلتمس من الإخوة العرب أن يقوموا بوقف استخدام هذا السلاح وهذا ما حدث فعلا. كان السادات هو اكثر الزعماء العرب تحمساً لإلغاء الحظر البترولي ضد أمريكا والدول المؤيدة لإسرائيل. مرة أخرى أقول أني لا ألوم كيسنجر على هذه السياسة فمن واجبه أن يخدم مصالح أمريكا، ولكني ألوم السادات لأنه هو الذي تسبب في حصار الجيش الثالث ولم يتصور ما يمكن أن يجُرُّه ذلك من مصائب.
وللاستفادة من حصار الجـيش الثالث أرغمتنا إسرائيل على إعلان فك الحصار البحري عنها. كنا قد ألغينا هذا الحصار البحري عملياً يوم أول نوفمبر عندما سمحنا لناقلة بترول تحمل 123000 طن بأن تدخل البحر الأحمر وتتجه شمالا إلى إسرائيل تحت نظرنا وفي مرمى صواريخنا. كان إغراق هذه الباخرة يعني التضحية بالجيش الثالث. كانت إسرائيل تعرف هذه الحقائق وتعرف أن غواصاتنا ولنشات صواريخنا التي تعمل في جنوب البحر الأحمر كان في استطاعتها أن تُغرق هذه الباخرة ولكننا سمحنا لها بالمرور ثمناً لإمداد الجيش الثالث. ولكن هذا لم يكن ليكفي غرور إسرائيل التي كانت تستغل حصار الجيش للقيام بعملية ابتزاز فظيعة، وأرادت أن يكون إلغاء الحصار البحري بطريقة علنية يعلم بها العالم أجمع، وهكذا أعلنت ان الباخرة الإسرائيلية " بير سبع" ستتحدى الحصار البحري وستدخل مضيق باب المندب يوم 2 أو 3 من ديسمبر وتتجه شمالاً إلى إسرائيل، ودخلت السفينة ومرّت أمام قطعنا البحرية وهي تتهادى، بينما ينظر إليها رجالنا في غيظ وحنق مكظومين.
السادات يكذب على الشعب:
وبينما كانت هذه الإجراءات المهينة تجري على المستوى السياسي والعسكري. كان الشعب المصري كالزوج المخدوع اَخر من يعلم. لم يكن يدري بما يحدث، كان يسمع ما يُقال له وما يكتب له بواسطة وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة، وكم من مرة ومرات خدع حكام مصر هذا الشعب و أخفوا عنه الحقائق؟ ولكن إخفاء حصار جيش يتكون من 45000 رجل ومدينة كاملة لم يكن بالأمر الهين، إذ ان مئات الألوف من أقارب وأصدقاء هؤلاء الرجال بدأوا يتشككون في الموقف ونجح بعضهم في التقاط بعض الإذاعات الأجنبية، وهنا ظهرت الصحف يوم 30 من نوفمبر بعناوين ضخمة :
" إن قواتنا تسيطر سيطرة تامة على الضفة الغربية تماماً ما بين الدفرسوار والسويس. إن معابر الجيش الثالث جميعها سليمة وان الإمداد يتّم بانتظام". وفي حديث للرئيس السادات أمام مجلس الشعب في 19 فبراير 74 نفى أن يكون الجيش الثالث قد حوصر ! إنّني لا أتصور ان يكذب رئيس دولة -يدّعي بأن نظامه نظام ديمقراطي- بهذه الصورة ثم لا يجد من يسأله أو يراجعه ! لقد طرد الشعب الأمريكي الرئيس نيكسون لأنه كذب على الشعب الأمريكي كذبة صغيرة لو قيست بأكاذيب السادات لبدت وكأنها لا تدخل ضمن تعريف الكذبة وفي خلال اجتماع "مجلس الشعب" قام السادات بإخراج تمثيلية ليُقنع بها الأعضاء أن هذه التمثيلية مازالت عالقة بالأذهان وقد قام بعضهم بتسجيلها تلفزيونياً كجزء من تاريخ السادات ، فقد استدعى السادات اللواء أحمد بدوي الذي كان قائدا للقوة المُحاصرة ، واخذ يوجه له أسئلة ويتلقى أجوبة تُثبت ان الجيش الثالث لم يكن مُحَاصراً ، فهل كان هذا معقولاً ؟! وهل يصل الاستهتار بعقول الشعب أن يتمادى الحاكم في الكذب إلى هذا الحد؟!
اتفاقية فض الاشتباك:
في يوم 18 من يناير 1974 تم التوقيع على الاتفاقية الأولى لفض الاشتباك بين مصر و إسرائيل، وكانت بنودها الرئيسية تشمل ما يلي:
1- تقوم إسرائيل بسحب قواتها إلى خط يقع شرق قناة السويس بحوالي 30 كيلومترا.
2- تقوم مصر بسحب قواتها جميعها من شرق القناة وذلك فيما عدا قوة صغيرة لا يزيد عددها على 7000 رجل وبحيث لا يكون معهم سوى 30 دبابة وألا يتجاوز وجودها شرق القناة اكثر من 10 كيلومترات.
3- تبقى قوات الأمم المتحدة في المنطقة العازلة بين القوات الإسرائيلية والقوات المصرية وعرضها حوالي 20 كيلومترا.
4- لا تعتبر هذه الاتفاقية معاهدة سلام ولكنها تعتبر مجرد خطوة على الطريق للوصول إلى معاهدة سلام طبقا لقرار مجلس الأمن رقم 338 وداخل إطار مؤتمر جنيف للسلام.
إسرائيل تنهب الأرض المحتلة:
لقد احتلت إسرائيل مساحة في الضفة الغربية لقناة السويس بلغت حوالي 1500 كيلومتر مربع، وبقيت تحتل هذه البقعة لمدة تزيد على ثلاثة اشهر إلى أن انسحبت منها خلال شهر فبراير 74 بناء على اتفاقية "فصل القوات" . وفي خلال تلك المدة انتهكت إسرائيل جميع قواعد القانون والعرف الدوليين ومبادئ الأخلاق. حيث ردموا "ترعة المياه الحلوة" التي تنقل المياه من الإسماعيلية إلى مدينة السويس والجيش الثالث. وفكّكوا "مصنع تكرير الوقود" و " مصنع السماد" اللذين كانا يقعان خارج مدينة السويس ونقلوهما إلى إسرائيل، أما الأجزاء الثقيلة التي لا يمكن نقلها فقد نسفوها عن آخرها قبل أن يغادروا المكان. لقد فكّكوا المواقع والمعدات من " ميناء الأدبية" وأخذوها معهم ؛ ثم نسفوا ما لا يستطيعون نقله. وفكّكوا خطوط أنابيب المياه وأنابيب البترول التي كانت تمر في المنطقة. ونهبوا واستولوا على المواشي والمحاصيل التي كانت في حوزة الفلاحين الذين كانوا يسكنون تلك المنطقة. لم تكن عملية النهب والسلب عملية محلية يرتكبها الجنود والقادة المحليون كما هي العادة دائما بالنسبة لجيوش الاحتلال، وإنما كانت عملية منظمة تتم بناء على تعليمات من الحكومـة الإسرائيلية وتأييدها، وهذا هو الجُرم الأكبر. لقد انسحب الإسـرائيليون من تـلك المنطقة بعد ان تركوها خرابا تشهد لهم بأنهم قد فاقوا القبائل المنغولية التي اجتاحت اَسيا وأوربا خلال القرن الثالث عشر الميلادي.
أني أتهم:
ما أغلى الثمن الذي دفعته مصر نتيجة حصار الجيش الثالث يوم 23 من أكتوبر لقد أجهض حصار الجيش الثالث انتصارات اكتوبر المجيدة و أجهض سلاح البترول. و أجهض الحصار البحري الفعّال الذي فرضته مصر على إسرائيل. وافقد القيادة السياسية المصرية القدرة على الحركة والمناورة وجعلها ألعوبة في يد إسرائيل وأمريكا. وفي سبيل إنقاذ الجيش الثالث كانت مصر ترى إسرائيل وهي تنهب وتسلب ثرواتها وتقف مكتوفة الأيدي لا تستطيع الرد ولا حتى مجرد الاجتماع. وهنا يبرز السؤال مرة اخرى: من هو المسئول عن حصار الجيش الثالث؟! إذا رغبت مصر في أن تغسل شرفها العسكري من الشوائب التي أصابته نتيجة حصار الجيش الثالث ؛ فإنها يجب أن تبحث عن المسئول عن هذه الكارثة. وأني أتهم السادات بهذه الجريمة ولدي الوثائق التي تؤيد هذا الاتهام " !
إلى هُنا إنتهت كلمات الفريق الشاذلي في كتابه ، و استكمالاً للفائدة نُرفق الموضوع بصورة توضح مراقبة العدو لامدادات الجيش الثالث الميداني ، التي تمّت تحت أعين العدو ؛ كما تُظهر الصورة المُرفقة جنود العدو أعلى بينما جنودنا أسفل ينقلون إمدادات التموين للجيش الثالث المُحاصر . كما نُعيد نشر نص خطاب الفريق الشاذلي الى النائب العام في 21 من يوليو 79 والذي يطلب فيه تقديم السادات للمحاكمة :
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد النائب العام :
تحية طيبة.. وبعد
أتشرف أنا الفريق سـعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في الفترة ما بين 16 من مـايو 1971 وحتى 12 ديسمبر 1973، أقيم حاليـا بالجمهورية الجـزائرية الديمقراطية بمدينة الجزائر العاصمة وعنواني هو ......
بأن اعرض على سيادتكم ما يلي:
أولا:
إني أتهم السيد محمد أنور السادات رئيس جمهورية مصر العربيـة بأنه خلال الفترة ما بين أكتوبر 1973 ومايو 1978، وحيث كان يشغل منصب رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية بأنه ارتكب الجرائم التالية:
1- الإهمال الجسيم:
وذلك انه وبصفته السابق ذكرها أهمل في مسئولياته إهمالاً جسيماً واصدر عدة قرارات خاطئة تتعـارض مع التوصيات التي أقرها القادة العسكريون، وقد ترتب على هذه القرارات الخاطئة ما يلي:
(أ) نجاح العدو في اختراق مواقعنا في منطقة الدفرسوار ليلة 15/16 أكتوبر 73 في حين انه كان من الممكن ألا يحدث هذا الاختراق إطلاقاً.
(ب) فشل قواتنا في تدمير قوات العدو التي اخترقت مواقعنا في الدفرسوار، فى حين أن تدمير هذه القوات كان في قدرة قواتنا، وكان تحـقيق ذلك ممكنا لو لم يفرض السادات على القادة العسكريين قراراته الخاطئة.
(ج) نجاح العدو في حصار الجيش الثالث يوم 23 من أكـتوبر 73، في حين أنه كان من الممكن تلافي وقوع هذه الكارثة.
2- تزييف التاريخ:
وذلك انه بصفته السابق ذكرها حاول و لا يزال يحاول أن يُزيّف تاريخ مصر، ولكي يحقق ذلك فقد نشر مذكراته في كتاب اسماه "البحث عن الذات" وقد ملأ هذه المذكرات بالعديد من المعلومات الخاطئة التي تظهر فيها أركان التزييف المتعمد وليس مجرد الخطأ البرىء.
3- الكذب:
وذلك انه كذب على مجلس الشعب وكذب على الشعب المصري في بياناته الرسمية وفي خطبه التي ألقاها على الشعب و أذيعت في شتى وسائل الإعلام المصري. وقد ذكر العديد من هذه الأكاذيب في مذكراته (البـحث عن الذات) ويزيد عددها على خمسين كذبة، اذكـر منها على سبيل المثال لا الحصر مايلي:
(أ) ادعاءه بـان العدو الذي اخـترق في منطقـة الدفرسوار هو سبعة دبابات فقط واستمر يردد هذه الكذبة طوال فترة الحرب.
(ب) ادعاءه بأن الجـيش الثالث لم يحاصَر قَط ، في حين أن الجيش الثالث قد حـوصر بواسطة قوات العدو لمدة تزيد على ثلاثة أشهر.
4 -الادعاء الباطل:
وذلك انه ادعى باطلا بأن الفريق الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية قد عاد من الجبهة منهارا يوم 19 من اكتوبر 73، وانه أوصى بسحب جميع القوات المصرية من شرق القناة، في حين انه لم يحدث شيء من ذلك مطلقا.
5- إساءة استخدام السلطة:
وذلك أنه بصفته السابق ذكرها سمح لنفسه بان يتهم خصومه السياسيين بادعاءات باطلة، واستغل وسائل إعلام الدولة في ترويـج هذه الادعاءات الباطلة. وفي الوقت نفسه فقد حرم خصومه من حق استخـدام وسائل الإعلام المصرية -التي تُعتبَر من الوجـهة القانونية ملكاً للشعب- للدفاع عن أنفسهم ضد هذه الاتهامات الباطلة.
ثانيا:
إني أطالب بإقامة الدعوى العمومية ضد الرئيس أنور السادات نظير ارتكابه تلك الجرائم ونظرا لما سببته هذه الجرائم من أضرار بالنسبة لأمن الوطن ونزاهة الحكم.
ثالثا:
اذا لم يكن من الممكن محـاكمة رئيس الجمهورية في ظل الدستور الحـالي على تلك الجرائم، فإن اقل ما يمكن عمله للمحافظة على هيبة الحكم هو محاكمتي لأنني تجرأت واتهمت رئيس الجمهورية بهذه التُهم التي قد تعتقدون من وجهة نظركم انها اتهامات باطلة. إن البينة على من ادعى وإني أستطيع- بإذن الله- أن أقدم البينة التي تؤدى إلى ثبوت جميع هذه الادعاءات وإذا كان السادات يتهرب من محاكمتي, على أساس أن المحاكـمة قد تترتب عليها إذاعة بعض الأسـرار، فقد سقطت قيمة هذه الحجة بعد أن قمت بنشر مذكراتي في مجلة “الوطن العربي” في الفـترة ما بين ديسمبر 78 ويوليو 1979 للرد على الأكاذيب والادعاءات الباطلة التي وردت في مذكرات السـادات. لقد اطلّع على هذه المذكرات واستمع إلى محتوياتها عشرات الملايين من البشر في العالم العربي ومئات الألوف في مصر.
الفريق سعد الدين الشاذلي