مقال سمو الأمير حسن بن طلال
لم يكن ما حدث صباح الجمعة الثالث عشر من رمضان من اعتداء على المصلين الآمنين في المسجد الأقصى المبارك بعد صلاة الفجر وليد اللحظة أو مبهمًا لأي طرف من الأطراف، ولم يأت فجأة دون مؤشرات أو مقدمات؛ فالعمليات العسكرية واقتحام المدن والمخيمات الفلسطينية ووقوع عدد كبير من الشهداء والجرحى كان حاضرا في ذلك المشهد الدموي المؤلم.
يبدو أن العالم والمجتمع الدولي ما زالا منشغلين بما يجري في العمليات العسكرية الروسية الأوكرانية على حساب القضايا الأخرى وفي صدارتها القضية الفلسطينية. وكالعادة فإن الحكومة الإسرائيلية تسعى إلى استغلال هذه الأوضاع لتنفيذ مخططاتها الاستيطانية والتوسعية.
بالرغم من كون المسجد الأقصى منطقة محتلة وفق القانون الدولي إلا أن ازدواجية المعايير لكثير من الحكومات الغربية بقيت تحول دون اتخاذ مواقف منصفة للشعب الفلسطيني، وما الموقف الغربي تجاه ما يحصل في أوكرانيا إلا مثالا على تلك الازدواجية.
يتعرض المسجد الأقصى المبارك منذ عام 1967 إلى اعتداءات إسرائيلية متواصلة، ولعل أبرزها محاولة إحراقه عام 1969، واقتحام أرئييل شارون لساحاته في سبتمبر عام 2000، وما أعقب ذلك من قتل للعشرات من المصلين وانطلاق لشرارة انتفاضة الأقصى.
ولقد عمدت السلطات الاسرائلية ومنذ سنة 1967 إلى العمل على تهويد ما يحيط بالمسجد الأقصى المبارك، ومن ثمة وضعت استراتيجية تهدف إلى خلق واقع جديد وفق خطة متدرجة تستبدل من خلالها (الوضع الراهن) للمسجد الأقصى المبارك.
من غير المقبول لأي طرف استغلال تزامن الروزنامة الدينية في سياقاتها الإسلامية والمسيحية واليهودية، حيث شهر رمضان المبارك، والجمعة العظيمة وأحد الشعانين وعيد الفصح المجيد المسيحي، وعيد الفصح اليهودي. بل كان حريا لهذا التزامن أن يوسع إدراكنا ووعينا لإدارة الفضاء الديني بعيدا عن الاستغلال السياسي والتضليل العقائدي.
يجب أن ندرك حجم التضليل الفكري والعقائدي الخارجي الذي شاب تاريخ القدس والقضية الفلسطينية عموما، وما نتج عنه من مواقف وقرارات خاطئة، وأشير هنا إلى قول الباحث الأميركي إيان لوستيك في كتابه الأصولية اليهودية: “إن بعض الأميركيين يشاطرون كثيرين من الإسرائيليين الجهل والخطر بالعقائد”.
ليست المشكلة ببعض المعتقدات الدينية المتعلقة باليهود، خاصة إذا كنا نتحدث عن اليهود العرب الذين عاشوا قرونا طويلة جنبا إلى جنب مع المسلمين والمسيحيين وغيرهم من أتباع الأديان في ظلال الحضارة العربية الإسلامية، وإنما تكمن المشكلة في الصراعات السياسية والمصالح المادية.
وهنا يمكننا أن نستحضر أهمية الحديث عن الثقافات المشرقية التي تختزن في جنباتها روح الإشراق ووحدة الضمير الإنساني والقيم البشرية الجامعة.
إن المعنى الحقيقي للحوار بين أتباع الأديان يتمثل أولا بتحقيق العدالة ورفع الظلم بينهم. فلا يمكن للعقائد أن تتوافق وأتباعها يستغلونها لإدامة الظلم والاحتلال وفرض الأمر الواقع. كما لا يعقل أن تستمر الشبكة الاستعمارية المعقدة في إنتاج رؤى استعمارية كلّ على حساب الآخر في صراع لعبة الأمم في الفضاء الأوراسي (أوروبا – آسيا).
إن الكتب المقدسة تقف شاهدا على عدالة الله ورفض العدوان والاستهانة بالأماكن المقدسة باسمه تعالى، وهنا أذكر قول النبي إرميا: “أتسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون كذبا وتبخرون للبعل، وتسيرون وراء آلهة أخرى لم تعرفوها. ثم تأتون وتقفون أمامي في هذا البيت الذي دعي باسمي عليه وتقولون قد أنقذنا”. (7: 9-10)
ومن مفارقات التاريخ أن هذه المدينة لم يشفع لها اسمها الكنعاني القديم “أوروسالم” الذي يعني “مدينة السلام” بأن تكون “مدينة صراع” ودربا للآلام والخوف نتيجة للاحتلال والطغيان.
لقد قامت السلطات الإسرائيلية عام 1980 بضم القدس وأعلنتها عاصمة أبدية وموحدة، في خطوة لم يعترف بها المجتمع الدولي الذي بقي يعتبر القدس الشرقية مدينة محتلة.
وخلافا لهذا الاتجاه، فقد حرّم الكثير من رجال الدين اليهود الصعود إلى ما يسمونه “جبل الهيكل”، والذي يدعي بعض اليهود وجوده تحت المسجد الأقصى، وأذكر هنا ما قرره العشرات من الحاخامات اليهود بعد احتلال الحرم القدسي عام 1967 من حظر لدخول اليهود إلى منطقة جبل الهيكل. باعتباره مخالفا لقانون (الطهارة)، بسبب عدم تحديد موقع الهيكل الثاني، وإمكانية أن يهتك أي يهودي حرمة قدس الأقداس.
وفي عام 2014، انتقد كبير حاخامات السفاراديم أبناء ملّته من اليهود الذين يقتحمون ساحات الأقصى، وقال إنهم هم السبب الأول في سفك دماء بني إسرائيل، لأنهم “يقومون باستفزاز العرب؛ مثلهم كمثل من يسكب الزيت على النار”.
وعلى كل الأحوال، فقد أسهم ظهور عدد من المجموعات الدينية المتطرفة والمختلفة، التي ارتبطت باسم “الهيكل” مثل حركة “أمناء جبل الهيكل”، وغيرها من التنظيمات في زيادة التحريض على الاعتداء على المسجد الأقصى.
وفي ذات الإطار فإن بعض الدراسات تشير إلى أن شرائح من المجتمع الإسرائيلي تنحو إلى المزيد من التطرف إزاء المسجد الأقصى وساحات الحرم الشريف. ففي استطلاع للرأي العام، أُجري في عام 2013، أورده مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، بلغت نسبة المؤيدين لتغيير الوضع القائم في الحرم الشريف 59 في المئة على غرار ما جرى في الحرم الإبراهيمي في الخليل.
ولا ننسى منع وصول المصلين المسيحيين إلى كنيسة القيامة بكلّ حرية في عيد الفصح المجيد هذا العام وغياب البهجة التي كانت تحيط بأقدس الكنائس المسيحية في العالم، فلم نشهد حشدا مسيحيا أمام ساحة الكنيسة، كما كان ذلك قبل سنة 1967. وهذا مساس بحرية العبادة المكفولة إنسانيا وقانونيا وأخلاقيّا ولا يمكن لها أن تتجزأ أو أن تتشارك.
إن الهدف الذي تسعى إليه السلطات الإسرائيلية هو تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى. ورغم كل شيء فلن ينجح الاحتلال في إخضاع الشعب العربي الفلسطيني الصامد ولن ينجح العنف والترهيب في إضعاف الفلسطينيين وكسر إرادتهم وهم يقفون باسم الوطن والأمة وقفة رجل واحد.
واليوم تظهر من جديد طائفة من المقدسيين تحمي المسجد الأقصى بشّر بها النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من الأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك”، قالوا: “يا رسول الله وأين هم؟” قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس”. (مسند الإمام أحمد).
وختاما فإنّ مسجدا بحجم ومكانة المسجد الأقصى المبارك، لا يمكن إلاّ أن يبقى حيّا في وجدان وضمير الأمة، فهو أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين الشريفين، وهو المسجد الوحيد الذي اقترن اسمه بالمسجد الحرام في القرآن الكريم في سورة الإسراء.