قد يكون تنظيم "داعش" فقد "دولته"، ولكنه يحتفظ بولاء العرب السنة في المنطقة لقيمه الأساسية. وقد قام فريق من الباحثين، كما نقل أبرزهم، سكوت أتران، الأستاذ في جامعتي ميشيغان وأكسفورد والباحث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، بإجراء تحقيق ميدان حول هذا بعد الهزائم العسكرية لتنظيم الدولة، واستنتج أن الكثير من الشباب يرون أن الشريعة هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ المجتمع وحكمه.
ادَعت عدة تقارير إعلامية حديثة، بعد طرد "داعش" من الموصل في العراق وبعد سقوط "الرقة" في الرقة في سوريا، أن مقاتلي التنظيم يهربون بشكل جماعي. في الشهر الماضي، ذكرت صحيفة الغارديان أن "مئات الفارين"، وأن "عددا كبيرا من المقاتلين وعائلاتهم"، هربوا من بقايا معاقل "تنظيم الدولة" المدمرة.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، نقل عنوان على الصفحة الأولى لصحيفة نيويورك تايمز أنه "في شمال العراق، لجأ مقاتلو داعش جماعيا، بعد أن أقسموا على "الحرب أو الموت"، إلى البيشمركة: القوات الكردية". ومع ذلك، يُعتقد أن فقدانهم العزم على المحاربة قد يكون أمرا مفرطا في التفاؤل، كما يتضح من استطلاع الرأي الذي أجراه فريق دولي متعدد التخصصات من المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي ومركز حل الصراعات المستعصية التابع لجامعة أكسفورد. وهم مجموعة من الباحثين انتقلوا إلى الخط الأمامي للصراع مع داعش منذ بداية عام 2015.
في الواقع، وفقا لما كتبه الباحث "سكوت أتران"، أن دافع معظم السنة الذين فروا من الأراضي التي سيطر عليها "تنظيم الدولة" كان الخوف من إرهاب الميليشيات الشيعية والقوات العراقية الشيعية الرسمية أكثر من تقدم داعش. وفي الشهر الماضي، عندما سيطرت القوات العراقية على المنطقة المحيطة بالحويجة جنوب الموصل، لم يفر مقاتلو داعش إلى كركوك التي كانت تحت السيطرة الكردية، وحدهم دون غيرهم، بل حتى العائلات التي لا ينتمي سوى عضو واحد فيها (وفي بعض الأحيان يكون ميتا) إلى الجماعة الجهادية.
واعترف العديد من العرب السنة النازحين، في المقابلات، إنهم غادروا منازلهم وخاطروا بحياتهم بعبور خطوط الجيش العراقي والميليشيات الشيعية للوصول إلى البيشمركة لأنهم "من السنة أيضا" وهم "لا يريدون قتلنا".
ورغم وجود أدلة على أن بعض قوات داعش المحلية فرت من القوات المسلحة العراقية والميليشيات الشيعية، فإن مقاتلي التنظيم الأجانب يميلون للقتال حتى الموت أو الاختفاء في المنطقة، أملا في القتال مجددا في منطقة أخرى. ولهذا السبب، لم يمر أي مقاتل أجنبي مؤخرا، ما عدا مصري واحد، على مركز الكشف "ديبيس" -حوالي 30 كم شمال الحويجة- الذي كان تحت سيطرة قوات الأمن الداخلية الكردية (أسايش)، الذين كانوا يقومون بفرز الأفراد الفارين من مناطق سيطرة "تنظيم الدولة"ـ ويُذر أن تقريرصحيفة "نيويورك تايمز" استندت إلى أفراد محتجزين في هذا المركز.
في 16 أكتوبر، انسحبت القوات الكردية، مع ما تبقى من 80 إلى 100 معتقل تتراوح أعمارهم بين 10 و80 عاما، بينما دخل الجيش العراقي والميليشيات الشيعية مركز "ديبيس" خلال هجومهما، وهذا لاستعادة السيطرة على كركوك وحقول النفط المجاورة. وقد أجرى مركز "ديبيس" عمليات تفتيش أمنية لجميع الأسر الفارة من أراضي "تنظيم الدولة" في المنطقة. ويقول النقيب علي محمد سيان، مدير المركز، إنه منذ بدء عمليات إعادة حويجة في 21 سبتمبر، فإنهم اقتادوا ما بين 7500 و8000 شخصا، رجالا ونساء وأطفالا. ويذكر أيضا أن جميعهم تقريبا لهم علاقات مع تنظيم الدولة، ومعظمهم من الروابط الأسرية، غير أن الغالبية لم تكن مقاتلة. ويوضح النقيب سيان أن التنظيم يعمل كما لو أنه دولة، ويدير الخدمات التي تتطلب الكثير من الموظفين: الإدارة الصحية والمحاكم والزراعة وإنفاذ القانون، وما إلى ذلك.
ورغم أن معظم الرجال الذين اجتازوا هذا المركز ربما لم يكونوا مقاتلين، فقد أجبر تنظيم "داعش" العديد من الرجال في المنطقة على أن يصبحوا من جنوده. خاض التنظيم حربا برية ودافع عن منطقة شاسعة وحكمت عددا كبيرا من السكان، وأمَن له التجنيد الإجباري في صفوفه تدفقا مستمرا من الرجال في مناطق سيطرته، بغض النظر عن حماسهم الديني أو إخلاصهم إلى فكرة "الخلافة". وهذا يختلف عن حالة العديد من مقاتلي الخطوط الأمامية في الحرب ضد المقاتلين الأجانب لـ"تنظيم الدولة"، الذين "لا يستسلمون ولا يتخلون أبدا حتى لو خسروا المعركة".
بعد سيطرة التحالف، الذي تدعمه الولايات المتحدة، على الموصل في الماضي، أجرى فريق البحث اختبارات نفسية ومقابلات مع الرجال العرب السنة الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاما في الموصل وفي مخيمات اللاجئين، شرق وجنوب المدينة. وكل هؤلاء الأفراد، تقريبا، الذين عاشوا تحت حكم "داعش" قالوا إنهم رحبوا في البداية بداعش، كما فعل جميع السكان العرب السنة تقريبا في المنطقة. ;تحدثوا عن أنها ثورة مجيدة لفرض الشريعة ولدعم أهل السنة المظلومين والمضطهدين سابقا من قبل الأنظمة الشيعية والعلوية في العراق وسوريا.
وعرض الكاتب نظرة رجل يبلغ من العمر 20 عاما عن الخمسة أو الستة أشهر الأولى من نظام داعش: "كان لدينا حرية الحركة، لا بطاقات الهوية، ولا نقاط التفتيش. قبل ذلك، هاجمنا الجيش العراقي عند نقاط التفتيش وأخذوا رشاوى لترك الناس. سمحت داعش للشباب بالتمتع بالحرية. لقد أعادوا بناء الجسور والمدارس". وأثناء اجتماعات فريق البحث مع مجموعة العمل المتخصصة في متابعة "داعش"، التابعة للحكومة البريطانية في عام 2015، ظهر أن بعض الأدلة على تحسن نوعية الحياة في الموصل منذ سيطرة التنظيم أقلقت أعضاء في التحالف الدولي المكلفين بمواجهة نجاح التنظيم في إقناع السكان المحليين.
واستدرك الشاب في شهادته: "لكن بعد ذلك، كذبت داعش. أبلغوا الجميع بأنه سيكون هناك عفو عام، ولا عقاب على من يحترم الشريعة، ثم لم يلتزموا بأي من وعودهم. بحثوا عن أشخاص في الماضي. قتلوا ضباط الجيش والشرطة، وجميع أولئك الذين كان لهم مكانة هامة في الحكومة [السابقة]، روعوهم في البداية، ثم أخذوا أموالهم ليعدموهم لاحقا".
ويصف عراقي، وكان زوج ابنة أحد قادة تنظيم "الدولة" في الموصل، الوضع، قائلا: "جاء داعش بفكرة بناء أمة إسلامية، لخدمة الشعب، والقضاء على كل القمع. لكن الأمراء الصغار لم يتمكنوا من تنفيذ هذه الأوامر؛ فقد كانوا الرجال السيئين في الأماكن الخطأ. وكان المقاتلون العراقيون أسوأ، نفاق كامل. وكان الأجانب أكثر ولاء لقضيتهم ولرفاقهم. كانوا صادقين في جهودهم لفرض الشريعة، ضحوا بحياتهم. كان قادتهم يسيرون في الشوارع يرتدون السترات الانتحارية دون حرس شخصي ... وكان الأفغان والأتراك هم الأكثر ولاء...".
في رأي البعض، فإن إقدام داعش على عمليات الإعدام العلنية، وأظهرت التنظيم على ما عليه حقا: منظمة قاتلة بطبيعتها ومضللة. ووفقا لآخرين، فإن داعش لجأت إلى القتل والتصرفات العنيفة الداخلية على نحو متزايد بسبب "الضغوط التي عانوا منها من التحالف بسبب الهجمات والغارات الجوية".
ورغم هذه الاختلافات، فإن جميع الرجال تقريبا الذين شملهم الاستطلاع يقولون إنهم، خلال الفترة التي حكم فيها تنظيم الدولة، رأوا فرقا واضحا بين عدم التزام أفراد داعش المحليين ووفاء المقاتلين الأجانب لقضية "الخلافة".
ومن بين قادة الميليشيات العربية السنية الذين يقاتلون حاليا جنبا إلى جنب مع الجيش العراقي والبشمركة، يعترف الكثيرون بأنهم رحبوا داعش في البداية. ولكنهم انتقلوا إلى المعسكر الآخر عندما بدأ التنظيم حربا طبقية بتشجيع الأقل حظا من هذه الجماعات (وجيرانهم) للاستيلاء على ممتلكات النخب، لإلغاء امتيازاتهم، وحتى محاولة تغيير حياتهم.
اليوم، وفقا لفريق الباحثين، فإن العديد من هذه النخب المحرومة وأسرهم ترغب في ثأر دموي. لذلك، بعد تنظيم الدولة، تلوح مخاطر أكبر تهدد المجتمع العربي السني نابعة من الانقسامات الداخلية التي تمزق الأسر والمجتمعات المحلية.
في بحثهم الذي قادهم إلى المقاتلين من الجبهة العراقية، حددوا مجموعة من البيانات النفسية التي تقيس الاستعداد لتقديم التضحيات وفاء لقضية أو أصحاب. وباستخدام الأدوات نفسها للقياس في الأبحاث مع السكان الذين عاشوا تحت حكم داعش، وجدوا أنه رغم خسارة التنظيم اليوم تقريبا جميع مناطقه العربية السنية في العراق، فإنه نقل إلى الجيل الأصغر القيمة الأكثر قدسية: الاعتقاد القاطع بأن الشريعة هي السبيل الوحيد لإنقاذ المجتمع وحكمه، وفقا لما كتبه الباحث "سكوت أتران".
ووصفوا الشريعة الإسلامية بأنها ضمان للعدالة والحرية التي منحها الله، وكذلك الطريقة الوحيدة للقضاء على القمع والفساد. ويعتقد الكثيرون أن هذا هو السبب في القضاء على مقاتلي داعش الأجانب.
ونقل الكاتب عن العديد من الشبان من مخيمي خازر وديباجا، قولهم إن "أمريكا وأوروبا تريدان فرض الديمقراطية لتقسيم الشعب السني، وفقط، ومع إقامة الشريعة، منحتنا [داعش] الأمل"،
ويختم الكاتب خلاصة التحقيق الذي أجراه فريق الباحثين بالقول: "قد يكون داعش قد فقد دولته، ولكنه لم يفقد بالضرورة ولاء العرب السنة في المنطقة لقيمه الأساسية. كما إن الظروف الكامنة وراء الصراعات السياسية والدينية التي أدت إلى انضمامهم الأولي إلى داعش لم تتغير حقا. وما دامت هذه الظروف لا تتطور نحو التسامح المتبادل، وإذا لم يُتمكن من إعادة تشكيل هذه القيم الأساسية لقبول هذا التسامح، فإن داعش ستظل، دون شك، تطارد المنطقة.
** رابط المقال الأصلي:
http://www.liberation.fr/debats/2017/10/24/l-ei-vaincu-pas-si-vite_1605373