الاستنزاف لا النصر:
"تنظيم الدولة" المحاصر في الرقة مجددا بعد أربعة أعوام
===============
2017-6-18 |
وائل عصام
قبل نحو أربع سنوات، لم يبق لتنظيم "الدولة" من وجود في الرقة سوى موقع واحد هو مبنى المحافظة، إذ حوصر يومها بداخله من قبل أحرار الشام والنصرة، كان التنظيم حينها قد تعرض لحملة منسقة من قبل فصائل معارضة مرتبطة بالجيش الحر، أدت لإبعاد مقاتليه من كامل مناطق المعارضة غرب خط حماة حلب، لتخلو اللاذقية وادلب والأرياف الشمالية والغربية لحلب وحماة من أي وجود للتنظيم، الذي تراجع إلى ريف حلب الشرقي، وفي الرقة تمترس في هذا المبنى الوحيد، محاصرا من قبل إخوة المنهج الجهاديين، النصرة وأحرار الشام، قبل أن يتمكن وبشكل مفاجئ من استعادة الرقة كلها وتنفيذ حملة إعدامات كبيرة في صفوف مقاتلي أحرار الشام المنسحبين على طريق تل أبيض، وإعدام قائد النصرة السابق الحضرمي.
وبعد تلك المرحلة، غدت الرقة معقل "تنظيم الدولة" الأول في سوريا، وشكلت تحالفات التنظيم العشائرية وانضمام كتائب محلية مسلحة، بعضها إسلامي والآخر كان ضمن الجيش الحر، شكلت عامل قوة مكن التنظيم من الهيمنة على معظم الريف الشمالي للرقة وصولا إلى الحدود التركية، حيث طردت القوى الكردية من تل أبيض وحوصرت كوباني لثلاثة أشهر، قبل أن يتمكن الأكراد بدعم أمريكي كثيف، وعلى مدى شهور من المعارك المتواصلة، من طرد التنظيم من معظم الشريط الحدودي واستعادة تل أبيض وعين عيسى ومعظم القرى المحيطة، لتستمر وتيرة التراجع العسكري وانحسار سيطرة التنظيم في محيط الرقة حتى الأسابيع الأخيرة، عندما غدت الرقة محاصرة من جميع النواحي عدا الجنوب.
لتبدأ القوى الكردية المدعومة أمريكيا والمطعمة بمجموعات عربية، التوغل داخل الرقة والسيطرة على أكثر من حي شرق المدينة، في معركة قد يصمد فيها التنظيم لعدة أسابيع، رغم أن فرص احتفاظه بالمدينة في نهاية المطاف تبدو ضئيلة، ما لم تحدث مفاجآت تتعلق بفتح جبهات جديدة متصلة بالرقة بغية تخفيف الحصار عنها ، وهو أمر يصعب تحقيقه في الوقت الراهن نظرا لموجة التراجع التي يعيشها التنظيم وفقدانه المطرد للأراضي، وتكالب جميع القوى المحلية المدعومة دوليا عليه في هذه العملية الجارية في الرقة.
فكما أن الأكراد المدعومين أمريكيا يتقدمون شمالا وشرقا، فإن النظام السوري المدعوم روسيا يتقدم من ناحية الجنوب الغربي للرقة، مضيقا الخناق حال وصوله للحدود الجنوبية للرقة، على خط الإمداد الوحيد المتبقي للتنظيم جنوب نهر الفرات.
وكما في كل مرة، تروج أخبار عن اتفاقات لانسحاب التنظيم من مدنه المحاصرة في كل معركة كبرى، فقد تناقل الناشطون كالعادة أنباء عن اتفاق لانسحاب التنظيم من الرقة بوساطة عشائرية، الأمر الذي تبين لاحقا وكما في كل مرة، أنه يخالف مجريات الواقع الماثل، وهكذا فإن التنظيم، وعلى الأغلب، لن يترك الرقة قبل استنفاد قدرته على المقاومة حتى آخر رمق، وإن اقتصرت قدرته هذه المرة على عدة أسابيع فقط، وهو لا يرمي إلى النصر في هذه المواجهة بل الاستنزاف، كما يظهر من سياق تعامله مع المعارك السابقة.
فبعيدا عن الخطاب الحماسي عن النصر الذي يروج بين أنصاره الشباب حديثي العهد بمثل هذه المعارك، فإن القيادات العتيقة في التنظيم تدرك بلا شك أن فرص الصمود والبقاء في معاقل التنظيم الحضرية، تبدو محدودة في هذه المرحلة، فضلا عن النصر، لذلك فإن ما يعملون عليه هو الاستنزاف وإطالة المعارك، لتحقيق عدة مبتغيات، إحداها هو إيقاع القدر الأكبر الممكن من الخسائر البشرية في صفوف القوات الكردية، على اعتبار آن قدرة تلك الميليشيات على التجنيد ليست كبيرة نظرا لمحدودية الخزان البشري للميليشيات الكردية في قرى الكرد شمال سوريا، مقارنة مثلا بالخزان البشري للمقاتلين في الميليشيات الشيعية العراقية، ولهذا تلجأ وحدات حماية الشعب الكردية في القامشلي وعفرين وغيرها من المناطق الكردية إلى فرض حملات تجنيد إجبارية وملاحقة الفارين من الخدمة العسكرية.
ورغم الروح القومية العالية والانتماء القوي للقضية الكردية الذي يتمتع به مقاتلو القوى الكردية المسلحة وحواضنهم الشعبية، إلا أن إطالة الحرب ستترك آثارها بلا شك على المجتمع الكردي محدود التعداد السكاني مقارنة بباقي مكونات سوريا، مما يدفع التنظيم مستقبلا لإدامة حرب الاستنزاف والهجمات الخاطفة، حتى بعد خروجه من الرقة.
وفي المقابل، فإن أعدادا قليلة من المقاتلين المدافعين المتحصنين بمدينة كالرقة، تكفي لإحداث خسائر بالقوة المهاجمة تصل لضعفي أو لثلاثة أضعاف، لذلك تبدو هذه العملية ترجح كفة القوة المدافعة بالنظر للنتيجة الإجمالية للخسائر.
النقطة المتصلة بفائدة حرب الاستنزاف داخل المدن، بالنسبة لتنظيم يجيد قتال الشوارع كالدولة، تعود إلى حقيقة أن قدرة هذه الجماعات التي لا تملك غطاء جويا، تبدو معدومة في الصمود في مساحات مكشوفة، أو في قرى صغيرة، لذلك فإنها تفضل بالفعل خوض المعارك في تلك المدن الكبرى، ورمي كامل ثقلها العسكري في ساحة مهيأة ببنية عمرانية مناسبة لقتال الشوارع، لتقليل دور الغطاء الجوي المتفوق.
القضية الأخرى التي يبدو أنها تشكل محور اهتمام قيادات التنظيم، هي الحفاظ على الصورة النمطية لقوة التنظيم عسكريا، فالقدرة على البقاء في الموصل طيلة هذه الأشهر، منحت التنظيم قوة دعائية كبيرة، مقابل منافسيه من القوى السنية الأخرى الذين عادة ما ينسحبون سريعا من مواقعهم حسب تعبير التنظيم، كما حصل في مدينة حلب التي لم تطل معركة السيطرة على أحيائها الشرقية سوى بضعة أيام، رغم أن أحياء حلب الشرقية تعادل مساحة الشطر الشرقي للموصل نفسها الذي طالت معاركه لعدة شهور.
وهكذا، فإن حسابات الاستنزاف في معركة الرقة هي التي تطغى على ما يبدو عليها، لا النصر، أو الحديث عن النصر، في مرحلة تتجه أكثر فأكثر نحو خسارة التنظيم لآخر معاقله الحضرية في دير الزور والرقة وتوجهه نحو الصحراء مجددا، لكن العمل من قبل التنظيم ينصب على إطالة المعارك، بانتظار أن تهب رياح لا تشتهيها سفن خصومهم، قد تخفف تركيز الهجمة عليهم، كما حصل عندما كانوا محاصرين في مبنى واحد في الرقة قبل أربعة أعوام!