النزاع حول معبر "التنف" قد يفضي إلى تراجع جديد للنفوذ الأمريكي أمام المحور الإيراني
============================
2017-5-29 |
وائل عصام
لم تكن عملية قصف الولايات المتحدة للميليشيات الموالية للنظام السوري وهي تتقدم قبل أيام باتجاه معبر التنف، سوى عملية عابرة، بدت وكأنها اشتباك طارئ غير مستند لرؤية إستراتيجية ثابتة في سوريا، كما إن لهجة الأمريكيين، في وصف عملية القصف، تحدثت عن وجود الميليشيات الشيعية المساندة للنظام في منطقة عدم اشتباك "متفق عليها مسبقا"، وهذه تعبيرات تظهر أن الأمريكيين والروس بينهم "اتفاق مسبق" لمنع التصادم بين القوات الحليفة لكل منهما، أي إن القصف لم يحدث في صدام مع عدو بل في اشتباك عابر مع شركاء في محاربة الجهاديين السنة بدعم مباشر للجهادية الشيعية، وإن كانت شراكتهم في هذا الملف لا تعني أنهم حلفاء، بل متنافسون ويعمل كل منهم على مسار منفصل عن الآخر داخل سوريا.
فلم تمر ساعات قليلة على القصف الأمريكي حتى عاودت قوات النظام والميليشيات الشيعية الموالية لها التقدم لعشرات الكيلومترات على الطريق المؤدي لمعبر التنف لتتجاوز نقطة الظاظا وتسيطر على الكتيبة المهجورة وتصل لنقطة الزرقة ثم استراحة الشحمة، وتصبح على بعد نحو ثلاثين كيلومتراً فقط من حدود التنف، وسط انباء عن إخلاء قوات الفصائل المدعومة من البنتاغون لموقعها على الطريق المؤدي لمعبر التنف وهي عبارة عن "كرفانات" اتخذت نقاط تمركز.
ولا يبدو هذا التقدم المتحدي بعمق المناطق المحظورة الأمريكية في سوريا سوى رسالة ايرانية روسية جديدة بأن سوريا هي منطقة لنفوذهم وليس النفوذ الأمريكي، وهذا ما جاء صراحة في بيان قاعدة حميميم الروسية التي قالت إن قوات موالية للحرس الجمهوري "كسرت الخطوط الحمراء لقوات حليفة لواشنطن"، وتقصد هنا فصائل "مغاوير الثورة" المدعومة من البنتاغون، وتوعد البيان الروسي بمواصلة التقدم في الراضي السورية.
وبينما تجتمع كل هذه الحشود الموالية للنظام في نسق واحد في تلك العمليات في البادية السورية، فشلت قوات مغاوير الثورة وفصائل المعارضة، التي يعتمد عليها البنتاغون قوات برية، في مهمتها السابقة ضد تنظيم "الدولة" قرب البوكمال تحت مسمى "جيش سوريا الجديد"، ولا تبدو قادرة على خوض مواجهات جدية دون دعم كبير، وهي لن تنجح على ما يبدو بتغيير نظرة وزارة الدفاع الأمريكية التي تعتبر أن أكثر القوات المؤهلة التي يمكن الاعتماد عليها في مواجهة تنظيم "الدولة" في سوريا هي الميليشيات الكردية. وبينما تتقدم قوات النظام بضباطها العلويين والميليشيات الشيعية لحزب الله نحو مسكنة آخر معاقل التنظيم في ريف حلب الشرقي، يزداد التصور أن النظام لا يريد أن ينفرد الأكراد بمدينة الرقة شمالًا، فتقدم النظام من جنوبها الغربي في مسكنة، يعني أنه قد يواصل الهجوم ليصل حدود الرقة الجنوبية، وسيكون على الروس وقتها الطلب من الأكراد التكفل بجبهة الرقة الشمالية والابتعاد عن الجبهة الجنوبية.
كل هذه التطورات تتم بفضل اتفاق الاستانة الذي ترعاه أصلاً دول حليفة للنظام، حيث أتاح تصميمه التجاوب مع احتياجات النظام عسكريًا وميدانيًا، فيتم في كل جولة تهدئة معظم الجبهات الثانوية ليتمكن النظام من حشد القوات على المحاور التي يراها باتت أولوية، يسعى لتحقيقها قبل منافسيه الأمريكيين في التحكم بالممرات الصحراوية التي تربطه بالعراق وصولاً لدير الزور.
السباق الحاصل بين المحور الإيراني والمحور الأمريكي للسيطرة على منطقة الحدود بين العراق وسوريا لا يبدو أنه سينتهي بغير النتيجة التي آلت إليها ساحة التنافس السابقة في العراق، عندما أحكمت طهران قبضتها على المفاصل السياسية والأمنية للسلطة في بغداد وفرضت على الأمريكيين التعايش مع عمائم "محور الشر".
ففي ظل المعطيات الراهنة السياسية والعسكرية، وتوازنات القوى داخل الساحة السورية، فإن الولايات المتحدة تبدو عاجزة عن وقف تمدد القوات الموالية للنظام السوري باتجاه معبر التنف، وإن كانت لا تحتاج للسيطرة على المعبر نفسه، بل يمكنها بالسيطرة على الطريق المؤدي إليه أن يصبح المعبر في حكم الساقط عسكرياً وبلا قيمة.
في المقابل، فإن إيران تبدي إصراراً كبيراً على تعبيد هذا الطريق الحيوي بين حلفائها في العراق وسوريا ولبنان، ليس باعتباره شريانا إضافيا لتصدير البضائع، وفقط، بل لتصدير "الثورة الشيعية" وفق مشروعها المعلن الذي ظل يقود سياستها الخارجية في المنطقة منذ عقود.
لذلك تنظر إيران إلى قضية حدود البلدين على أنها حلقة وصل ضمن مشروع ذي دوافع عقائدية ومصالح قومية عليا قدمت في سبيله المئات من أبناء وقادة حرسها الثوري، لذلك ذهب القيادي في الحشد الشيعي قيس الخزعلي للحديث تفصيلاً عن هدف يطمح له بلقاء قواته من العراق بقوات النظام السوري على الطرف الآخر من الحدود، مكوناً ما يراه "البدر الشيعي".
لذلك يخرج من وسط الصحراء فيديو لمقاتل من الميليشيات الشيعية يحتفل هاتفاً "يا علي" عندما تلتقي مجموعته مع كتيبة للجيش السوري عند نقطة صحراوية، أمكنهم من خلالها الهيمنة على نحو أربعة ألاف كيلومتر مربع من بادية الشام بين الحدود العراقية السورية وبين تدمر وريف حمص الجنوبي، ليصبح البدر الشيعي أقرب للتحقق من أي وقت مضى، بتوسيع الهلال الشمالي نحو الصحراء الجنوبية بين الانبار وبادية الشام، هذا المشروع، لا يكتسب التصدي له هذه الدرجة من الأولوية بالنسبة للولايات المتحدة، كونه بعيداً نسبياً عن تهديد أمنها القومي المباشر، بينما هو في صلب الأمن القومي الإيراني، رغم أن الولايات المتحدة تفضل أن تفصل بين بغداد ودمشق بقوات موالية لها وليس لإيران.
لكن ليس كل ما تتمناه الولايات المتحدة تدركه، خصوصاً في منطقة وجدت فيها من ينافسها، بينما يستمر الفراغ العربي الكبير الذي ينتظر دائماً من يملأه، كحال نسبة كبيرة من الجمهور العربي الذي لا يستطيع الخروج من قالب الفاعل الأمريكي الأوحد في فهم أي حدث أو تطور ميداني له أسبابه وخلفياته ومراحل تكونه من أطراف عدة، فإذا قصف الأمريكيون الحشد الشيعي على طريق تقدمهم للتنف ابتهج قطاع واسع من المتابعين وانتشرت ربما العبارات و"الهاشتاغات" المحتفلة، وإذا وصل بعد أيام الحشد والنظام لمعبر التنف ستقفز نظرية أن أمريكا سلمت المعبر لإيران.
وإضافة لأهمية الطريق الرابط بين بغداد ودمشق، فإن السيطرة على أهم نقاط الصحراء المترامية بين بادية الانبار وبادية الشام تمثل احترازاً دفاعياً هاماً لكل من حكومتي بغداد ودمشق، فهذه الصحراء وقراها العشائرية ظلت ملاذا آمنا لمقاتلي "تنظيم الدولة" منذ سنوات طويلة، ولذلك يدفع الحشد الشعبي من الجانب العراقي باتجاه التقدم جنوب غرب تلعفر نحو القيروان والبعاج وصولاً إلى نقطة حدود القائم.
وكذلك يفعل نظراؤه في مجاميع الحشد الشيعي والميليشيات الموالية للنظام السوري المتقدمون نحو الخط الحدودي الفاصل، بعد عملية واسعة شنها النظام في الحزام الصحراوي جنوب حمص وتدمر تمكنت من خلالها من تأمين طريق دمشق تدمر بالكامل وربطه بريف حمص الجنوبي، وسيطرت على حقول عدة للفوسفات بتلك المنطقة، مما يعكس اهتمام النظام ببسط نفوذه على بادية الشام، وهي عملية ستواجه بمزيد من الصعوبات مستقبلاً.
فحتى وإن أمكن السيطرة على تلك القرى والطرق الصحراوية في عمق البادية، فإن البقاء فيها ليس سهلاً، فمقاتلو "تنظيم الدولة" الذين يتحدر كثير منهم من قرى عشائرية سيبقون أقدر على التحرك في هذه المناطق الصحراوية ذات التركيبة العشائرية الأقرب لهم، وقد نجحوا بعد عام 2008 في الاحتماء بالجانب العراقي من تلك الصحراء، حيث وادي حوران وغيره من المناطق الغائرة قرب الحدود.
ورغم أن الحملة الأمنية العراقية والسورية هذه المرة ستضيق الخناق على مقاتلي التنظيم أكثر من أي وقت مضى وستواصل مطاردتهم بعد خروجهم من آخر معاقلهم في الدير والرقة بعد معارك قد تستمر لشهور طويلة، إلا أن خصائص معاقل التنظيم في القرى الصحراوية تجعلها صعبة المراس على أي قوة عسكرية غريبة عنها، خصوصاً وأن هذا العمق الصحراوي بعيد عن كل التكتلات السكانية التي توفر حاضنة للقوات المهاجمة لتنظيم الدولة، الشيعية جنوباً نحو الشرق والكردية شمالاً والاقلوية المسيحية والعلوية غرباً.
ويكفي النظر إلى عدد القتلى من قيادات الحشد الشعبي، وآخرهم القيادي في الحرس الثوري الإيراني نصيري خلال معارك السيطرة على قرى شمال البعاج، لنعرف مدى التكلفة الكبيرة التي ستدفعها القوات المهاجمة لدخول تلك المراكز والتكلفة الأكبر التي ستتحملها على المدى الطويل لمواصلة البقاء فيها، وعلى مدى القرون الماضية ظلت هذه المنطقة مصدراً لغارات العشائر على المدن وقوات الحكومات المركزية في بغداد ودمشق، ولم تفلح محاولات الحد منها إلا بعد التحالف مع أبناء تلك القرى العشائرية الذين يصعب ضمان ولائهم الكامل.