لماذا سقطت حلب وصمدت درعا؟
=================
بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
من الأسئلة الضاغطة المتداولة التي يثيرها المهتمون بالشأن السوري, لماذا سقطت حلب كبرى المدن السورية, وصمدت درعا مهد الثورة؟
-توطئة:
يناقش هذا الملف المعارك الدائرة في مدينة درعا، وتلك التي دارت في حلب بين فصائل الثورة المسلحة من جهة, وقوات النظام والميليشيات الشيعية المدعومة بالطيران الحربي الروسي، وذاك التابع للأسد من جهة ثانية.
ونمهد لهذا الملف باستعراض تحليلي موجز للأهمية الاستراتيجية للمدينتين, حلب كبرى مدن الثورة, ودرعا مهد الثورة, في البعد العسكري المتصل بنتائج كل معركة على حدا وتداعياتها المختلفة.
ويتناول الملف بالتحليل جوانب المعركتين, خططا وتفاعلات ونتائج, ويقف على احتدام الصراع وآفاقه المحتملة بالنسبة لمعركة درعا, اعتمادا على توجه عجلة الحرب ومحركاتها الدولية التي صيرت حلب أكواما من الركام والحجارة بفعل القصف العشوائي الذي استهدف كل شيء بحجة "محاربة الإرهاب". وبذات الذريعة تتعرض درعا لتدمير ممنهج بهدف إلحاقها بمصير حلب, أوقفه حل سياسي توافقي يخدم مصالح موسكو وواشنطن وقوى إقليمية, حيث يتداول الإعلام وجود توافقات روسية أردنية في الجنوب السوري تنتظر موافقة واشنطن وتل أبيب.
مدخل:
دخلت المدينتان الثائرتان خط المواجهة المسلحة منذ عام 2012، عندما قررت فصائل الجيش السوري الحر انتزاعهما من قبضة نظام الأسد, فسيطرت على غالبية الأحياء السكنية.
في حلب: تمكن لواء التوحيد بقيادة عبد القادر الصالح (حجي مارع) من السيطرة على أحياء واسعة من المدينة ابتداء من حي الخالدية وصولا إلى حي الراموسة في الجزء الجنوبي الغربي مرورا بأغلب أحياء المدينة القديمة في الشمال الغربي (باب الحديد, باب المقام, باب النيرب, باب أنطاكية, باب قنسرين, باب جنين, باب النصر) وغيرها من الأحياء القديمة التاريخية، وسميت تلك المناطق بحلب الشرقية المحررة.
وفي درعا: تمكنت فصائل الحر من بسط سيطرتها على القسم الأكبر من مدينة درعا بقسمها المعروف درعا البلد, فيما يحتل نظام الأسد القسم المتبقي من المدينة والمعروف باسم درعا المحطة.
ومع مستجدات الحرب والموقف الدولي والإقليمي المتواطئ إزاء الهجمة العدوانية التي شنها الطيران الروسي على مدينة حلب والميليشيات الشيعية التي دكت على مدار سنة كاملة المدينة حتى حوصرت بشكل كامل في صيف عام 2016م.
بدأت تنحاز فصائل المعارضة المسلحة من الأحياء الطرفية إلى داخل المدينة في الأحياء ذات المباني الأكثر كثافة إلى أن سقطت بيد الميليشيات الطائفية باتفاق دولي إقليمي وبموافقة الفصائل المسلحة التي سلمت المدينة فغادرها سكانها إلى مناطق الشتات, فيما لا تزال درعا تقاتل وتدفع الميليشيات الطائفية التي تريد إحكام السيطرة عليها، وإخضاعها إخضاعا كاملا، بوصفها مهد الحراك الثوري والتحشيد الشعبي الداعم لصمود الفصائل المسلحة.
-درعا- حلب, أسباب الانكسار, وعوامل الصمود:
=========================
1- أسباب داخلية:
لا يكتمل البحث في هذه القضية بالوقوف عند جزئيات الانكسار أو زوايا الصراع العسكري الفصائلي دون الحفر في عمقه وصميمه, لتتضح الصورة دون أن تطغى عليها التكهنات والافتراضات, لنكون وجها لوجه أمام اللوحة المتشظية في أسسها ونتائجها, فقد شكلت الانكسارات العسكرية المتتالية بعد خسارة مدينة حلب في قسمها المحرر, وما تلاها من معارك في ريفي دمشق وحماة, تزامنا مع عمليات التهجير المنظم, وتفاعلات مؤتمر أستانا, دفعا قويا على شكل استقطابات حادة بين الفصائل المسلحة, وفي الطرف السياسي المعارض تفاقمت الهوة بين التيارات المتباينة, لتنشأ كيانات سياسية كالهيئة العامة للثورة السورية والمجلس الوطني السوري, وائتلاف قوى الثورة, وصولا إلى المنصات المختلفة، وتلك الدخيلة على المعارضة, والصراعات الناشبة بين حق التمثيل في المؤتمرات الدولية من دونه, والاستقطابات الإقليمية التي لعبت دورا سلبيا على المستويين السياسي والعسكري ويمكن حصر تلك الأسباب الداخلية في نقطتين هما تكريس حكم القادة والتشظي الفصائلي.
أ- تكريس حكم القادة, والساسة:
إن فشل الفصائل العسكرية الثورية والكيانات السياسية في التوصل إلى برنامج عمل جماعي, أنتج على مدار سنوات, قادة وأمراء هم الأول في كل شيء, مما أدى إلى اجتثاث منظم لأي عمل جماعي على كافة المستويات السياسية والإدارية والاقتصادية. فبعد طرد نظام الأسد من غالبية المناطق السورية, وجد الثوار أنفسهم أمام مأزق كبير في إدارة المواجهة ضد الأسد وفي إدارة المنطقة المحررة دون امتلاك آلية العمل الجمعي المنظم في ظل غياب عمل مؤسساتي فكان الخيار الالتفاف حول الفرد وتكريسه قائدا, أو أميرا دون ضوابط تنقله إلى حيز العمل الجماعي, ليبرز عامل داخلي آخر متمم للفردية.
ب- التشظي الفصائلي, والتناحر الدامي:
تبدو الصورة الفصائلية متماثلة في حالتي درعا وحلب, فمع غياب العقل النقدي الثوري, وتجاهل مراجعة الهزائم المتلاحقة بدء من القصير ويبرود والزبداني مرورا بحمص القديمة وداريا ووقوف المعارضة السياسية صامتة بلا حراك, أدخل الحاضنة الشعبية الثورية في حالة ارتباك وفقدان ثقة بالفصائل المقاتلة على الأرض، حيث التشرذم وغياب وحدة القرار والمصير والاندماج المنشود تحت مظلة سياسية تحقق الحد الأدنى من مطالبهم.
وبعكس مناشدات الحاضنة الثورية ازدادت حالات التناحر والمواجهات بين أكبر فصائل مدينة حلب، تجمع "فاستقم كما أمرت" وحركة "نور الدين زنكي"، وما تبعها من هجمات ومحاولات استيلاء على المقرات من قبل كتائب "أبو عمارة" وجبهة "فتح الشام"، بالتزامن مع نهش الميليشيات الشيعية أحشاء مدينة حلب.
ولم يكن المشهد مغايرا في درعا, ولا يختلف في تفاصيله عن حالة حلب, فتناسل الفصائل وانقساماتها جعلت محافظة درعا تغط في حالة تخبط وفوضى أمنية شملت عمليات تصفية واغتيالات إلى جانب مواجهات بين فصائل "الجيش السوري الحر" وجيش "خالد بن الوليد" (شهداء اليرموك) سابقا الموالي لتنظيم "الدولة, وسط جمود نسبي على جبهات القتال مع قوات نظام الأسد التي لا تكف عن قصف المناطق المحررة في المحافظة, ومحاولات التقدم, وفي الآونة الأخيرة تمكنت غرفة البنيان المرصوص, التي شكلتها شخصيات سياسية وعسكرية مستقلة, من تنظيم وتنسيق العمل العسكري بين الفصائل ووضع الخطط العسكرية والدعم اللوجستي تحت مظلة الغرفة التي أسهمت في صمود درعا وتماسك فصائلها ميدانيا.
2- أسباب عسكرية:
شهدت درعا البلد منذ بداية الثورة معارك كبيرة بين فصائل الثورة وقوات نظام الأسد, من أشهرها معركة (الرماح العوالي) التي اندحرت بنتيجتها حواجز الميليشيات (أبو بكر, والقبة, والرباعي, وحارة البدو, والجمرك القديم), وتلاها عدد كبير من المعارك التي باغتت الميليشيات وقوات الأسد في أكثر من موقع ونتج عن ذلك سقوط مواقع عديدة في قبضة الفصائل كان من أبرزها تحرير مدينة بصرى الشام وكامل منطقة اللجاة, وتضييق الخناق على طريق إمداد قوات الأسد, حتى بات لا يتجاوز عرضه 500 مترا وبات بين فكي كماشة.
وتتالى تحرير مواقع مهمّة، بدءاً بالتلول الحمر الشرقية والغربية في القطاع الأوسط من محافظة القنيطرة، ثمّ معبر القنيطرة وانسحاب قوات الطوارئ الدولية "الأوندوف" العاملة في الجولان، وصولاً إلى تل الجابية وتل جموع وتل الحارة. وما تشكله هذه التلال من أهمية استراتيجية, بالإضافة إلى المدن والبلدات في ريف درعا الشمالي التي تشكل قوسا حصينا للقسم المحرر من مدينة درعا.
ومع التدخل الروسي في العام 2015م شنت الميليشيات الإيرانية هجوما كبيرا على معاقل فصائل الثورة, مستثمرة ضربات الطيران الروسي الكثيف ووسائط النيران الأخرى ضد المدنيين, لشل قدرات فصائل الثورة التي التفتت إلى تقنيات الكمائن والإغارة على مواقع الميليشيات الإيرانية, فيما ضاعف الطيران الروسي غاراته الجوية على الأحياء السكنية في المناطق الثائرة في سابقة لم تشهدها مدن وبلدات حوران طيلة سني الحرب؛ إذ بلغ عدد الغارات خلال أسبوع 120 غارة جوية, والهدف منها السيطرة على بلدة الشيخ مسكين لما لها من أهمية استراتيجية لوقوعها بالقرب من طريق إمداد قوة الأسد والميليشيات الايرانية المساندة له مما مهد للاستيلاء على المدينة لتدور المعارك في أحياء مركز المحافظة, إذ أطلقت غرفة البنيان المرصوص معركة كبيرة تمكنت بنتيجتها من تحرير غالبية حي المنشية وطرد ميليشيات تقدمت إلى كتيبة الدفاع الجوي الواقعة غربي المدينة واغتنام آليات ثقيلة وأسر عدد من المعتدين, لتفرض روسيا بالتوافق مع الدول الداعمة للثورة هدنة مؤقتة بين طرفي الصراع. تحضيرا لمؤتمر آستانا بنسخته الخامسة.
وهنا يكمن الفرق عسكريا بينها وبين حلب, فبعد سيطرة الميليشيات الشيعية على طريق الإمداد "الكاستيلو" , فقدت فصائل الثورة داخل مدينة حلب حيويتها في شهر شباط/فبراير، وسبقه سيطرة الميليشيات الشيعية بمساندة الغارات الروسية من قطع ممر الإمدادات فيما يسمى ممر أعزاز، وهو ممر حيوي كان يستخدمه الثوار ويربط بين بلدة إعزاز في شمال سورية على الحدود التركية ومدينة حلب.
وعززت الميليشيات الشيعية مواقعها بتقدمها نحو الطريق الرئيسي الكاستيلو الذي يقود إلى الأحياء الشرقية من حلب، الأمر الذي أدى إلى خنق خط المساعدات الذي يمد الثوار بالإمدادات. وقبل ذلك خسارة الريف الشمالي.
فيما تمكنت فصائل الثورة في درعا من تجنب مصير حلب بإيقاف تمدد الميليشيات الطائفية للوصول إلى الجمرك القديم لتفادي عزل مدينة درعا عن ريفها الغربي المحرر, ووقوعها في حصار خانق قد يجبر ثوارها على مغادرة المدينة.
3- أسباب تكتيكية:
تعود إلى استعجال فصائل الثورة غير المدروس لكسر الحصار عن مدينة حلب في ملحمة حلب الكبرى، حين اختارت فصائل الثورة طريقا شائكة للوصول إلى حلب الشرقية تاركين الخاصرة اليمنى التي تتمركز فيها الميليشيات الشيعية في الحاضر والوضيحي جنوب غرب حلب تعمل بحركة مريحة في استهداف طريق الإمداد بشكل متواصل. علاوة على فشل فصائل الثورة في اقتحام معمل الإسمنت الذي تتمركز فيه ميليشيا حزب الله الشيعي اللبناني, فكان ذلك بداية خسارة المدارس العسكرية في منطقة الراموسة.
استمرت الأخطاء في المحاولة الثانية لكسر الحصار عبر ضاحية الأسد-منيان للهجوم على حلب الغربية، التي اصطدمت بتحصينات نظام الأسد والميليشيات في الأحياء العمرانية الحديثة والمتباعدة ما أعاق دخول جيش الفتح عبر محور حلب الجديدة أو مشروع 3000 شقة.
4- عوامل تعود إلى اختلال موازين القوى العسكرية:
علاوة على الأسباب والعوامل التي بيناها أعلاه, فإن ما دفع فصائل الثورة إلى الانسحاب من مدينة حلب, وبعض المناطق في محافظة درعا, القصف الكثيف من الطيران الروسي, وذاك التابع لنظام الأسد, بكافة أنواع الأسلحة من قنابل فوسفورية وعنقودية ونابالم محرمة دوليا, حيث تعرضت منطقة الراشدين وهي الواقعة في الطرف الغربي من حلب لأكثر من 400 غارة جوية, واستخدام صواريخ بعيدة المدى من البوارج الروسية الراسية قبالة مدينة طرطوس, بينما يقاتل الثوار بأسلحة بسيطة ورشاشات متوسطة, علاوة على استقدام آلاف المرتزقة الشيعة التي تعمل على كل محاور المدينة. وكذلك تعرضت مدينة الشيخ مسكين شمال مدينة درعا لعملية تدمير شاملة بالطيران والوسائط النارية الأخرى.
5- العامل الدولي:
إن التواجد الأميركي والروسي, وكذلك الفرنسي والبريطاني في الجنوب السوري, خفف من السطوة الروسية وعدوان الميليشيات الشيعية, لأن المعركة في درعا باتت بحاجة لتوافقات وضمانات تثيرها مخاوف تمدد الميليشيات الشيعية الداعمة للأسد في حال اقترابها من الحدود الأردنية أو الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل.
بالمقابل كانت خطة إسقاط مدينة حلب المحررة, نتيجة تعاون بين الروس والأمريكيين وبالضغط على تركية, فالروس حاولوا من خلال عدوانهم على الشعب السوري مقايضة مدينة حلب بتسوية أوضاع دولية شائكة بينهما مثل "أوكرانيا والدرع الصاروخي ورفع العقوبات عنها" في الوقت الذي أدارت أميركا ظهرها للروس وتركت حلب عرضة للموت والدمار بحظرها عن فصائل الثورة, الأسلحة المضادة للطيران, وبالتزامن مع التحضير للانتخابات الأمريكية, كما قايض الأتراك حلب بعملية درع الفرات، كل ذلك جرى بصمت الأمم المتحدة, وتواطؤ المبعوث الأممي ديمستورا, فبدأ التصعيد العسكريّ على الأرض من قبل نظام الأسد والميليشيات الشيعية, وبإسناد جوي روسي مدمر.
ومنذ اندلاع الثورة السورية ضد نظام الأسد الطائفي, ومع استطالة وتمدد الصراع وما حققته فصائل الثورة من نتائج معتبرة إثر تحريرها مناطق مهمة. سارعت إدارة أوباما السابقة بإمكانياتها للحيلولة دون نجاح الثورة السورية, وتحويل مسارها, وتغيير اتجاه الصراع في المنطقة, وذلك بالتغاضي عن جرائم نظام الأسد والاكتفاء بتدمير الأسلحة الكيماوية التي تشكل خطرا على اسرائيل ومنحه فرص للقتل بطرق مختلفة كالبراميل المتفجرة المحملة بغاز الكلور القاتل, والعمل على تشويه الثورة من خلال ربطها بالإرهاب من جهة, وتنصيب واجهة سياسية لا تمثل الثورة السورية من جهة أخرى (المجلس الوطني - ائتلاف قوى الثورة)، كما تفاهمت مع روسيا وسهلت تدخلها العسكري المباشر إلى جانب نظام الأسد رغم التباين السياسي بينهما في قضايا دولية خارج الصراع في سورية.
الأهمية الاستراتيجية للمدينتين:
تكمن الأهمية الاستراتيجية لمدينة درعا بتموضعها الجغرافي في الخاصرة الجنوبية لسورية, وتشكيلها نقطة وصل بين محافظات الجنوب والوسط والمملكة الأردنية, ومشاطرتها المناطق الحدودية للأراضي الفلسطينية المحتلة. من هنا فحجم الأهمية الاستراتيجية للمدينة, وريفها يلعب دورا محوريا في العمليات العسكرية كنقطة انطلاق من العاصمة دمشق وإليها, لذا تنتشر عدة فرق عسكرية تابعة لنظام الأسد على أراضيها وحوافها, مهمتها قتل الشعب السوري الثائر في هذه المحافظة باعتبارها مهد الثورة السورية. أما حلب التي تعتبر الجزء الأكثر أهمية في الثورة السورية, فموقعها المحاذي للحدود التركية عبر منطقتي اعزاز وعفرين أعطاها إطلالة واسعة للاتصال بأوروبا عبر تركيا, وما يتبع ذلك من قيمة جيواستراتيجية.
كما أن طبيعة المدينة كعاصمة اقتصادية لسورية أعطاها ميزة اقتصادية في زمن السلم والحرب.
لذلك كانت حلب داخلة في حسابات العمليات العسكرية للثورة السورية حيث بدأت هذه العمليات في عام 2012.
كما تكمن الأهمية الاستراتيجية لحلب في كونها إحدى أهم النقاط الواصلة بين الشطرين الشمالي والجنوبي من سوريا, ويعزز موقعها السيطرة على شبكة الطرق البرية المؤدية إلى العاصمة دمشق.
فتكتسب هذه الطرق أهمية استراتيجية في الحرب القائمة كطريق خناصر-حلب الذي تحكمت به قوات نظام الأسد رغم تهديد فصائل الثورة لهذا الطريق مرارا.
هنا تجدر الإشارة إلى أن من بين المسائل التي ركزت عليها الميليشيات الشيعية السيطرة التامة على مفاصل الطريق الوحيد بهدف إحكام القبضة على المدينة بوصفها مركز ثقل جغرافي مثلما إنها مركز ثقل سكاني, ومركزا للحراك الثوري والتحشيد الجماهيري الداعم للثورة.
في ظل هذه المعطيات يمكن تفسير التعامل المبكر مع حلب حيث هاجمتها قوات الأسد في عام 2011 م لخنقها قبل الانفجار حيث اعتقلت غالبية الناشطين والمعارضين، واقتصر الحراك الثوري على قصر العدل والمدينة الجامعية، وحين تمدد الحراك في أرجاء المدينة قامت قوات الأسد وميليشيا الشبيحة بحملة قمعية الأمر الذي دعا لواء التوحيد وفصائل معارضة في ريف حلب إلى دخول المدينة والسيطرة على غالبية أحيائها.
معارك المدينتين:
بعد سلسلة من المعارك التي أطلقتها غرفة البنيان المرصوص الجامعة لفصائل الثورة في درعا, جاء الإعلان مؤخرا عن معركة "الموت ولا المذلة"، والتي تمكنت خلالها من السيطرة على غالبية حي المنشية في درعا البلد.
وشكِّلُ تحرير المنشية تهديداً مباشراً للميليشيات الطائفية المتواجدة في حي سجّنة، الذي يعتبر أحد أكبر حصون المليشيات الشيعية, بينما تسيطر فصائل الثورة على درعا البلد.
أمام تقهقر قوات الأسد, زجت ايران بميليشياتها الشيعية وبالأخص حزب الله الشيعي اللبناني وميليشيات فلسطينية في المعركة الدائرة في محاولات متكررة لاستعادة ما سيطرت عليه فصائل الثورة، باءت جميعها بالفشل، وتكبدت الميليشيات المهاجمة خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات كان بنتيجتها انسحاب ميليشيا حزب الله من المواجهة المباشرة لكثرة قتلاه, واحتدام التوتر مع قوات الأسد, وقيام ميليشيا الحزب بتنفيذ إعدامات ميدانية طالت عددا من الضباط والجنود بتهمة التخاذل في المعارك. حيال هذا التقهقر للميليشيات الشيعية ضاعف الطيران الروسي غاراته الجوية لمنع تقدم فصائل الثورة, وزجت قوات الأسد بالفرقة الرابعة, علاوة على ثلاث فرق عسكرية هي: الفرقة الخامسة والفرقة التاسعة والفرقة الخامسة عشر, إضافة إلى مشاركة جميع الافرع الامنية وحشود الشبيحة, وجلب تعزيزات إضافية كالآليات الثقيلة التي وصلت المدينة وقدرت بـ30 عربة مدرعة ودبابة منها 3 دبابات "T90" حديثة روسية الصنع، وسيارات دفع رباعي مصفحة مزودة برشاشات ثقيلة ترفع العلم الروسي استقرت في "الملعب البلدي" وبعض نقاط التماس بالقرب من حي المنشية.
- خطط المواجهات في حلب ودرعا:
تجري المعارك في درعا عبر محورين رئيسين, الأول محور مخيم درعا للاجئين الفلسطينيين, إذ حاولت قوات الأسد والميليشيات المساندة لها التقدم من نقاط تمركزها في منطقة المخابرات الجوية والمنطقة الصناعية باتجاه صوامع حبوب درعا وحاجز الرباعي وسجن غرز ومخيم درعا, وجرت في هذا المحور معارك شرسة قتل بنتيجتها العشرات من ميليشيا الشبيحة التي يحمل غالبيتهم هويات فلسطينية, والمحور الثاني هو المحور الغربي من المدينة المحاذي لحي المنشية الذي شهد معارك كبيرة, كان أعنفها وأشدها ضراوة تلك التي جرت في القاعدة الجوية التي قتل فيها كامل المجموعة المهاجمة وأسر آخرون, بالإضافة لاغتنام آليات ثقيلة. وهدف قوات الأسد والميليشيات الشيعية الوصول إلى جمرك درعا القديم لفصل الريف الغربي عن المدينة إيذانا بتطويقها ومن ثم الانقضاض عليها, وفشل الأسد والميليشيات الداعمة له في التقدم واستعادة ما خسره في المعركة الجارية هناك, فاضطر إلى الإعلان عن هدنة لالتقاط أنفاسه ليعود مجددا لمحاولاته الفاشلة, وينتقم من المدنيين. فاستهدف بطيرانه الحربي بلدة النعمية شرقي درعا، بـ16غارة و6 براميل متفجرة، وطالت عشرات الغارات الجوية درعا البلد، بالإضافة إلى قصف بالمدفعية وصواريخ الفيل، ثم أعلن عن هدنة مؤقتة لمدة ستة أيام.
يحرك هذه المعركة عوامل سياسية, يأتي في مقدمتها الضغط الروسي على الولايات المتحدة لتحقيق مكاسب جديدة بعد عرقلة واشنطن خطط الميليشيات الإيرانية بالسيطرة على البادية السورية والوصول إلى الحدود مع العراق, وما تقوم به روسيا يخالف قرارات مؤتمر آستانة 4 الذي ينص على تخفيف التوتر والذي يشمل درعا.
وكانت فصائل الثورة في درعا رفعت جاهزيتها واستعدت لخوض معركة مصيرية تمكنت بنتيجنها من دحر قوات الأسد وميليشيات الشبيحة التي اعتمدت على قصف الطيران الروسي وذاك التابع للأسد وسط صمود أسطوري لثوار درعا.
كشفت المعارك التي دارت في حلب بعد خسارة فصائل الثورة ملامح للخطط العسكرية والتكتيك المتبع وفق خطط ارتبطت بالعلاقات الروسية الأمريكية فرضها تدافع الأحداث السياسية والعسكرية.
فروسيا التي وضعت حلب في المزاد العلني لمساومة واشنطن على تسوية قضايا دولية كأوكرانيا والدرع الصاروخي ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها, لم تقنع واشنطن التي تركت حلب عرضة للتدمير الوحشي بمنعها أسلحة مضادة للطيران .
لذلك اتبعت روسية في خططها العسكرية سياسة إراقة الدماء وإرهاق واستنزاف فصائل الثورة المسلحة داخل المدينة من خلال فرض حصار خانق على الأحياء المحررة بعد إحكام سيطرتها على طريق الكاستيللو.
وهذه الاستراتيجية الهدف منها إنهاك الخصم والتحول إلى وضعية الهجوم وتطويره بالتركيز على قصف الأحياء المحررة بكافة أصناف الأسلحة الفتاكة المحرمة دوليا سواء من خلال الطائرات الحربية الروسية أو صواريخ أرض-أرض أو المدفعية الثقيلة.
ومن خلال عمليات الالتفاف التي قامت بها الميليشيات الشيعية المهاجمة وقوات الشبيحة المساندة لها في أكثر من حي سقطت مواقع عديدة كمدينة هنانو والصاخور والهلك شرقي حلب, ووضع مقاتلي الثورة بين فكي كماشة بفعل ذلك الالتفاف وباستثمار ضربات الطيران الوحشي ووسائط النيران الأخرى, إذ بلغت تلك الغارات في يوم واحد 120 غارة بهدف منع أية محاولة للتجمع وشن هجوم مضاد.
وكان هدف تلك الغارات التي تجاوزت خلال الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي 320 غارة، والهدف منها قتل أكبر عدد من المدنيين وتدمير المباني بمن فيها، وإضعاف الروح المعنوية عند المقاتلين الذين تجمعوا في أحياء حلب الجنوبية الغربية, ومهد للاستيلاء على المدينة بعد تواطؤ إقليمي دولي على تسليم المدينة وتشريد سكانها.
تفاعلات ونتائج:
ارتبطت المعارك الدائرة في درعا, وتلك التي جرت في حلب بخيارات استراتيجية متصلة بعوامل دولية حسمت معركة حلب لصالح الميليشيات الشيعية وقوات الأسد, وعلقت مسألة حسم درعا إلى حين التوافق على صيغة حل سياسي.
ويمكن الاحاطة بالنتائج العسكرية للمدينتين, في سيطرة فصائل الثورة في درعا على غالبية درعا البلد وقسم من درعا المحطة مع تقدم ملحوظ للفصائل في الأشهر الأخيرة, بينما تخضع حلب لاحتلال الميليشيات الشيعية, وميليشيا (ب ي د) الكردية الانفصالية مع وجود رمزي لقوات الأسد المتمثلة بالشبيحة.
هذه الظروف والتفاعلات الدولية والإقليمية, سخرتها الميليشيات الشيعية المساندة للأسد لتوسيع دائرة الصراع في البادية السورية ومحافظة درعا, وبما أنها لا تملك القرار أو الإرادة السياسية لوقوعها تحت حسابات ومصالح روسية, وموقف الولايات المتحدة التي لا يسرها انتهاء الحرب في سوريا عموما, فإطالة الحرب تستنزف كافة أطراف الصراع, لتحقيق مصالحها, أما الدول الاقليمية المعنية بالشأن السوري تنظر إلى تحقيق أمنها الداخلي بصرف النظر عن نتائج المعارك الدائرة على الساحة السورية.
خلاصة:
شكل القصف المتواصل لدرعا وريفها المحرر فصلا جديدا من صمود ثوارها, وإخفاقا متجددا لقوات الأسد والميليشيات الشيعية في محاولات الاختراق المترافق مع تدمير منظم لأحياء درعا وبلداتها المحررة, وباتت إحدى أهم الملفات الملتهبة في المشهد السوري, فاضطر نظام الأسد للتعبير عن فشله وهزيمته بإعلان هدنتين خلال أسابيع معدودة، تشير إلى أزمة ميدانية يعانيها الأسد وحلفاؤه رغم استخدام كل التقنيات العسكرية بما فيها البراميل المتفجرة والطائرات والمدفعية بهدف التقدم وإعادة احتلال المدينة وريفها المحرر، ويعود ذلك إلى امتلاك فصائل الثورة إرادة القتال والصمود والدفاع المستميت عن مهد الثورة من جهة, ولأن واشنطن المتواجدة في المنطقة لم توافق على حسم المعركة في درعا كما فعلت إدارة أوباما في معركة حلب. لينتقل ملف درعا إلى دوائر صناعة القرار انتظارا لتفاهمات بينية باعتبار المنطقة دخلت خطوط الاشتباكات إقليميا ودوليا.
فالتواجد الأميركي والروسي والإسرائيلي وكذلك الفرنسي والبريطاني في الجنوب السوري يحتاج لتوافقات وضمانات تثيرها مخاوف تمدد الميليشيات الشيعية الداعمة للأسد في حال اقترابها من الحدود الأردنية أو الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل.
من هنا تستثني مفاوضات آستانة البت بوضع المنطقة الجنوبية المشمولة بقرار تخفيف التوتر, أملا في التوصل إلى اتفاق بين موسكو وواشنطن بعد اللقاء الاول الذي يجمع الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب يوم غد الجمعة خلال قمة العشرين في مدينة هامبورغ الالمانية.
لم تكن خسارة حلب سهلة بنتائجها وتداعياتها على الثورة, ولكن الأسئلة المطروحة, ما الذي أعدته الفصائل المسلحة بعد أشهر من خسارة حلب؟
الإجابة على هذا السؤال يتوقف على الإرادة السياسية التي كانت سببا في مآلات معركة حلب, فالواجب الثوري يقضي بتحرير الارادة السياسية من الحسابات الضيقة، والمخاوف المتعلقة، كي لا يسقط ما تبقى من المناطق المحررة, أما إذا ظلت الأوضاع على حالها فإن معارك أخرى في انتظار تساقط مدن وبلدات, واستمرار التلاعب الدولي بمسار الثورة التي لا يمكن إطفاء جذوتها مهما اشتد أوار الحرب وتعاظم التدخل الأجنبي.