مقدمة
أظهرت التحركات الروسية منذ بداية عام 2017 وحتى الآن تحرّكاً دؤوباً باتجاه الوصول إلى حل سياسي، يُكرّس التقدّم الميداني الذي حققته موسكو على الأرض، ويحمي المصالح الاستراتيجية الروسية في سوريا والمنطقة، على حساب المصالح الأميركية والغربية، وحتى على حساب مصالح الشريك الإيراني.
وبدا واضحاً أن الدستور القادم لسوريا يحظى بأولوية في الرؤية الروسية للحل، إذ عملت روسيا مع عدد من المجموعات السورية، وحتى مع مراكز تفكير غربية، على إنتاج مسودة مقترحة للدستور، وقامت بطرحها في لقاء الإستانة الأول. وبقي الحديث عن الدستور حاضراً في الخطاب الروسي طوال الوقت، وتكرّس ذلك بصورة واضحة في فكرة مؤتمر سوتشي، الذي عُقد نهاية كانون الثاني/ يناير الماضي، حيث تركّز عمل المؤتمر بالكامل على الإصلاحات الدستورية، وتشكيل لجنةٍ سوريةٍ برعاية من الدول الراعية لمسار الإستانة لصياغة الدستور، لتكون هذه اللجنة محل اعتماد الأمم المتحدة في هذه السلة التفاوضية.
وبين تتالي التصريحات الروسية الرسمية، وتزايد الجدل بين قوى المعارضة حول قضايا الإصلاح الدستوري، تسعى الورقة لمناقشة أبرز الأفكار المطروحة للإصلاح الدستوري وفق الرؤية الروسية، ومدى ارتباط قضايا الإصلاح الدستوري بالحل السياسي للأزمة السورية، وخيارات المعارضة للتعاطي مع هذه الرؤية.
أولاً: الأفكار المطروحة للإصلاح الدستوري وفق الرؤية الروسية
سعت روسيا خلال الفترة الماضية إلى الدفع بقضايا الإصلاح الدستوري كأولوية في المفاوضات السورية، وتسعى من خلال ذلك إلى تجاوز نقاط الاتفاق الدولية السابقة وخصوصاً بيان جنيف (1)، والقاضي بتشكيل هيئة حكم انتقالي وصياغة إعلان دستوري يُنظّم عمل المرحلة الانتقالية، وقرارات مجلس الأمن السابقة الذكر.
فمع نهاية مباحثات الجولة الأولى لمباحثات "إستانة" في 24 كانون الثاني/ يناير 2017، طرحت روسيا مسوّدة لمشروع دستور جديد لسوريا يتضمن رؤيتها لقضايا الإصلاح الدستوري، وأكدت أن المسودة وُضعت للاسترشاد فحسب، وتشجيع السوريين للبدء بمناقشة الدستور، مع طرحها إمكانية تعديل الدستور القائم وفق الرؤية نفسها.
وتضمنت المسوّدة (85) مادة، تناولت صلاحيات رئيس الجمهورية والبرلمان، وعلاقة السلطات ببعضها، فضلاً عن مواد تتناول تمثيل الأقليات في سلطات ومناصب الدولة، مع طرحها لهوية فدرالية تركز في أكثر من مادة على تحقيق طموحات المكون الكردي (
1).
وتقترح المسوّدة توسيع صلاحيات البرلمان على حساب صلاحيات رئيس الجمهورية، بما في ذلك تنحية رئيس الجمهورية وإقرار مسائل الحرب والسلم، وتعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا وحاكم المصرف المركزي وإقالته.
كما تقترح إزالة تعابير تشير إلى عروبة الدولة وإحلال اسم "الجمهورية السورية"، وحذف المادة التي تنص على أن دين الدولة هو الإسلام، وأن الفقه الإسلامي هو مصدر رئيس للتشريع، والتأكيد على المساواة بين اللغتين العربية والكردية كلغتين رسميتين في أجهزة الحكم الذاتي.
كما تشير المسودة الروسية إلى ضرورة مراعاة التمثيل النسبي لجميع الأطياف الطائفية والقومية في التعيينات الحكومية، مع تخصيص بعض المناصب لتمثيل الأقليات.
وتشدّد المسودة على عدم جواز استخدام القوات المسلحة في المجال السياسي، واضطهاد السكان، أو عملية انتقال السلطة.
وتؤكد المسودة على سمو القانون الدولي والمعاهدات التي تقرها سوريا واعتبارها جزءاً أساسياً من النظام القانوني للدولة، وجاء في البند الثالث من المادة السابعة بالمسودة: "تكون مبادئ وأحكام القانون الدولي المعترف بها ومعاهدات سوريا الدولية جزءاً لا يتجزأ من نظامها القانوني".
وأبقت المسودة الروسية لمشروع الدستور السوري على مدة ولاية رئيس الجمهورية والمحددة بسبع سنوات مع إمكانية الانتخاب لولاية ثانية(
2) .
وتبدو فكرة طرح مسوّدة الدستور بحد ذاتها تجسيداً لسلوك استعماري تحاول روسيا تنفيذه، إذ تسعى لتوجيه رسالة أكانت للسوريين أم للدول الأخرى، مفادها أن لروسيا اليد العليا في رسم سوريا المستقبل، كما تعكس مبادرةً روسيةً لفرض معطيات سياسية، على غرار سياستها العسكرية القائمة على فرض وقائع بالقوة، ثمّ دعوة الفاعلين للبحث في آليات للتعامل مع هذه الوقائع.
محددات الرؤية الروسية للإصلاح الدستوري
ترتَكز الرؤيةُ الروسية في الإصلاح الدستوري في سوريا على ثلاثة محددات:
• تطبيق مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية في مرافق الدولة كافة، الذي سينعكس على السلم الأهلي بإبقاء بذور الصراع حاضرة مستقبلاً، بالإضافة إلى عدم إمكانية وضع سياسة خارجية مستقرة وموحّدة بين المؤسسات السيادية للدولة، كحال لبنان.
• تأكيد مبدأ اللامركزية وتوزيع السلطات بين الحكومة المركزية والمناطق، لاستيعاب طموحات أي مكوّن في الحاضر أو المستقبل، كمساعي بعض القوى الكردية في الوقت الحالي لإنشاء كيان حكم ذاتي.
• التوازن بين السلطات عبر توزيع أكبر للصلاحيات، وتوسيع صلاحيات المجالس التمثيلية.
وفي ذلك لم تخرج روسيا عن الإطار العام الذي سعت الدول الكبرى لتطبيقه في الكثير من دول العالم التي شهدت صراعات وحروباً داخلية، في أثناء محاولاتها فرض حلول سياسية ودستورية دون أن تراعي خصوصية تلك الدول ومجتمعاتها، مما أنشأ كيانات ضعيفة بنيوياً وتعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية مزمنة.
من جهة أخرى، فإن تطبيق اللامركزية الإدارية بوجود مبدأ المحاصصة الطائفية قد يدفع أبناء الأقليات الأخرى في سوريا، التي يُمثّل وجودها أغلبية في مناطق جغرافية معيّنة، إلى المطالبة بالمزيد من أشكال الحكم الذاتي، بما يمكن أن يؤدّي إلى ولادة كياناتِ نفوذ مستقبلية لقوى إقليمية ودولية.
الإصلاح الدستوري في مسار التسوية السياسية
تسارعت الأمور بعد طرح موسكو لمسوّدة الدستور في بداية عام 2017، فتبنّت الوساطة الأممية مبدأ "السلال الأربع" التي كشف عنها الوسيط الأممي "دي ميستورا" مع نهاية محادثات جنيف 4 في آذار/ مارس من العام نفسه، وتتضمن إقامة حكم غير طائفي ووضع جدول زمني لدستور جديد، وإجراء انتخابات، ومكافحة الإرهاب(
3) .
وفي تماهٍ مع الرؤية الروسية أيضاً، أعلن المبعوث الأممي في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2017، أن مباحثات جنيف (8) ستركز على نقطتين أساسيتين هما: التحضير للدستور الجديد، وإجراءات عقد انتخابات تحت إشراف ورعاية الأمم المتحدة. وكانت الأجندة التي تبنتها الوساطة الأممية قد فرضت تحولاً عن المسار الذي نص عليه بيان جنيف (1)، عبر تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، تتولى إصدار إعلان دستوري يدشن لمرحلة انتقالية يتم من خلالها صوغ دستور جديد(
4) .
وفي خلال ذلك وتحديداً يوم 23 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، عقد زعماء روسيا وإيران وتركيا قمةً ثلاثيةً في سوتشي، اتفقوا فيها على خطوات للتوصل إلى تسوية سياسية تنهي الحرب في سوريا، ويشمل ذلك تنظيم مؤتمر حوار تشارك فيه كل المكونات السورية، وتعزيز وقف إطلاق النار، وزيادة المساعدات للمتضررين من الحرب(
5) ، وانضوت هذه القمة على أهمية كبيرة لجهة توقيتها والأحداث التي ارتبطت بها، إذ جاءت القمة بعد يومين من زيارة قام بها بشار الأسد إلى سوتشي التقى خلالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأعلن الكرملين يوم 21 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أي في اليوم التالي، أن الرئيس فلاديمير بوتين أطلع قادة الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل على نتائج لقائه بالأسد(
6) ، وبذلك يوحي أن هناك محاولة لبناء توافق دولي في الملف السوري باتت تُرسم ملامحه بيد روسيا.
ويُلاحظ أن الرؤية الروسية للإصلاح الدستوري تتقاطع في عدة جوانب منها مع الرؤيتين الإيرانية والتركية، فالدول الثلاث لا ترغب بصياغة الدستور تحت رعايةٍ غربية، وترغب في عكس حضورها الميداني الحالي في مستقبل سوريا السياسي، الذي تبدأ ملامحه أولاً في الدستور.
وقد عكس مؤتمرُ سوتشي التوافقَ الثلاثي بين الدول الفاعلة على الأرض، إذ تركّزت أعمال المؤتمر بالكامل على إنتاج لجنة دستورية تعتمدها الدول الثلاث، وتكون مهمتها منصبّة على اقتراح التعديلات الدستورية في المرحلة الأولى وكتابة دستور جديد في مرحلة لاحقة، بما يسحب ملف الدستور تحديداً من مهام الهيئة العليا للمفاوضات.
لكن من المهم الإشارة إلى أن توافق الدول الثلاث على بعض الجوانب المتعلقة بالدستور والحل السياسي لا يعني أنها تتشاطر الرؤية ذاتها، فإيران لا ترغب أصلاً في منح المعارضة فرصة المشاركة في الإصلاح الدستوري، وترى أن النظام الذي تُشرف على إدارته على الأرض ليس في وضع يضطره تقديم تنازلات كبيرة في هذا المجال، كما أن إيران ترفض فكرة نزع الصلاحيات المركزية وتوزيعها على الأطراف أو أي فكرة يمكن أن تؤدّي إلى حالة "فدرلة"، في حين ترفض تركيا فكرة الفيدرالية الإثنية، وإن كانت لا تُمانع بفيدرالية جغرافية، في الوقت الذي ترى روسيا، وهي نظام فيدرالي أصلاً، أن هذا هو النظام الأمثل للحكم في سوريا.
وتتقاطع الرؤية الثلاثية التي أنتجها مؤتمر سوتشي مع رغبة الأمم المتحدة في تجسير الهوة بين مساري جنيف والإستانة، وهي الهوة التي أظهرت مسار جنيف بمظهر العاجز عن تحقيق الإنجاز رغم اعتماده دولياً، ومن ثم فإنّ المنظمة الدولية ترى في اللجنة الدستورية التي أفرزها سوتشي مدخلاً لتحقيق رغبات الدول الفاعلة على الأرض فيما يتعلق بالدستور، ورغبات المجتمع الدولي فيما يتعلق بتحقيق تقدّم في مسار الحل السياسي.
وفي قراءة ما سبق، بات واضحاً أن روسيا أصبحت تملك الدور المركزي والمحوري في ترتيبات حل الأزمة السورية. وقد تعزّز هذا الدور بفعل عوامل عدة أبرزها التراجع المستمر للدور الأمريكي في المنطقة أمام التمدد الاستراتيجي لروسيا، وتراجع المعارضة سياسياً وعسكرياً أمام الضغط الروسي المستمر، ما دفع بذلك بالقوى الداخلية والإقليمية كافة إلى التنسيق مع روسيا، التي باتت تملي شروطها على أطراف الأزمة كافة، بما تملكه من أدوات سياسية وعسكرية.
خيارات المعارضة للتعامل مع الرؤية الروسية
تواجه المعارضة السورية خيارات صعبة في المسارين السياسي والعسكري. فهي تواجه ميدانياً تقلصاً مستمراً في مساحة السيطرة، حتى وصلت إلى أقل من 12% في نهاية شهر كانون الثاني/ يناير الماضي (بما فيها مناطق درع الفرات التي تُسيطر عليها تركيا)، ومن المرجح أن تنخفض بشكل أكبر في الأشهر المقبلة. أما من الناحية السياسية فإنّها تواجه تراجعاً أميركاً، ومن ثم غربياً، في الاهتمام بالملف السوري عموماً، وانسحاباً إقليمياً مماثلاً، بما لا يترك الكثير من المجال للمناورة في حَلبة أضحت فيها مساحات التأثير المحلي محدودةً للغاية.
وعلى المستوى الداخلي، تُعاني المعارضةُ أصلاً من حالة الانقسام الواسعة، فعلى المستوى العسكري تستشري الفصائلية بصورة مزرية، في حين تواجه المؤسسات السياسية حالة من الانقسام وتنازع الشرعية. وتنعكس هذه الأوضاع على قدرة المعارضة بشقيها السياسي والعسكري على إنتاج استراتيجية واحدة للتعامل مع الرؤية الروسية أو أي رؤية أخرى، فضلاً عن قدرتها على إنتاج رؤيتها الخاصة أصلاً.
وتترك هذه المعطيات خيارات محدودة أمام الهيئة العليا للمفاوضات، الجسم الذي أنيط به التعامل مع مسار جنيف من جهة المعارضة. ومن أبرز هذه الخيارات:
1- التمسك ببيان جنيف (1) والمطالبة بتنفيذ مقتضياته، خصوصاً لجهة تشكيل هيئة حكم انتقالية ووضع إعلان دستوري، وجعله مرجعية في أي عملية تفاوضية حول الأزمة السورية، باعتبار أنه يحظى بدعم دولي ومرجعية أممية، إضافة إلى ضرورة تنفيذ القرارات الأممية ذات الصلة.
2- التركيز على مسار جنيف، باعتباره المسار الذي يحدّ بدرجة ما من تغوّل روسيا على العملية التفاوضية.
3- التعاطي بعقلانية وإيجابية مع الخيارات المتاحة حالياً، بما في ذلك اللجنة الدستورية المنبثقة عن سوتشي، التي يبدو أنها ستصبح أمراً واقعاً بعد اعتمادها من الأمم المتحدة. ويمكن أن يؤدّي التعنّت والرفض المطلق لها إلى خروج الهيئة العليا من سلة الدستور نهائياً.
4- العمل على بناء رؤية دستورية خاصة بالمعارضة، كي يتحوّل العمل المعارض من الحالة السلبية المقتصرة على التعاطي مع رؤى الآخرين إلى حالة إيجابية يتعاطى فيها الآخرون مع رؤية المعارضة.
5- الاستفادة من الفجوة الكبيرة بين الرؤيتين الروسية والإيرانية للإصلاحات الدستورية والحل السياسي برمته، إذ تتفق الدولتان على أهمية تحييد الغرب عن هذه الملفات، لكنهما تختلفان بصورة واضحة حول مضمون الدستور وشكل الحل.
6- توسيع نطاق التشاور مع كل أطراف المعارضة، بشكل يمنح الهيئة القدرة على تمثيل كل الفاعلين، بمن فيهم أولئك الذي تم تغييبهم عن مؤتمر الرياض (2)، الذي كان قد أفرز الهيئة.
خاتمة
تسعى روسيا بعد أن حققت نجاحاً عسكرياً ملحوظاً بفعل استخدامها المفرط للقوة على مدار العامين الماضيين إلى تكريس رؤيتها في مسارات الحل السياسي للأزمة السورية بما يتوافق مع مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
لكن المساعي الروسية تصطدم بعدد من المعطيات على المستوى الدولي أو المحلي، فرغم تراجع الدور الأمريكي في ملفات المنطقة، وبروزٍ أكبر للدور الروسي، ما تزال الولايات المتحدة تملك الهيمنة على ربع البلاد من خلال قواعدها العسكرية التي تجاوز عددها اثني عشر، كما أنها ما زالت الدولة الأكثر تأثيراً في العالم والمنطقة، ولا يمكن لموسكو تجاوزها، كما أنها تصطدم برؤيةِ وخيارات شريكها الإيراني، الذي ينطلق من منظومة مصالح مختلفة بشكل كبير.
وتبقى الإشارة أخيراً إلى أنه لا معنى لأي عملية إصلاح دستوري دون وجود تسوية سياسية شاملة للأزمة السورية، تحقق الحد الأدنى من العدالة الانتقالية، وتُحدث تغييراً حقيقياً في سوريا، وهذا مرتبط بوقف العمليات العسكرية على الأرض، وتحقيق توافقات بين القوى الدولية الفاعلة.
الهوامش:
1-