منقــــــــــــــــــــــــــــول
الفصل الاول
كل شيء كان يبدو هادئا ، في صيف عام1954م، عندما أوقف " جون كاربنتر" ، الصحفي في جريدة محلية صغيرة في " بوسطون " سيارته ، أمام مقهى شعبي بسيط ، على مشارف ولاية "نيوجيرسي" الأمريكية ،ليتناول فنجانا من القهوة ، قبل أن يكمل رحلته الطويلة ، لحضور حفل زفافشقيقه الوحيد " ألبرت " في مدينة " دوفر " ...
وداخل المقهى ، كان هناك ثلاثة من كبار السن ،يتناولون افطارهم في هدوء ويتبادلون أحاديث هامسة ، وكأنهم يخشون أن يرتفعصوتهم ، فيحطم ذلك الصمت الساكن الذي يلف المكان كله .
وبصوت خافت ، صنعه احساسه بالمكان ، طلب " جون " فنجان قهوة دون سكر ، و ...
وفجأة ، اقتحم ذلك الرجل المكان ...
رجل تجاوز الأربعين من عمره بعام أو اثنين علىالأكثر ، ويوحي بنيانه بأنه كان يمارس يوما عملا شاقا منتظما يحتاج الى قوةبدنية عالية ، في حين يمنحه شعره الذي امتزج سواده ببياض ، مظهرا أقرب الىالوسامة المعتدلة ، التي كان من الممكن أن يتمتع بها وجهه كله ، لولانظراته الزائغة ، ولهجته الحادة الى حد ما ، وهو يهتف بصوت مرتفع ، بداوكأنه قد شق السكون والصمت في قسوة :
- - من صاحب تلك السيارة الصغيرة في الخارج ؟!
كان من الواضح أن كل الحاضرين يعرفونه جيدا ،فقد أداروا أبصارهم اليه لحظة في اشفاق ، ثم لم يلبث كل منهم أن عاد الى مايشغله ، وكأنهم لم يسمعوا حتى ما هتف به المقبل .
أما " جون " فقد انتفض جسده مع الهتاف المباغت ،الذي أفسد ما شعر به من استرخاء في المكان ، فاستدار الى صاحبه ، وهمبابلاغه أنه صاحب السيارة الصغبرة ، وان كان المكان متسع ، بحيث لا يمكن أنيتصور أن سيارته هذه ، يمكن أن تسبب لأي انسان أية مشكلة من أي نوع ولكنهلم يكن قد نطق بحرف واحد بعد ، عندما اتجه الرجل نحوه مباشرة ، ولوّح ايهبسبابته في وجهه هاتفا :
- أنت صحفي ... أليس كذلك ؟!
ازدرد " جون " لعابه ، وهو يجيبه :
- بلى ... هل من خدمة يمكنني أن ...
قاطعه الرجل ، قبل أن يتم سؤاله :
- انك تعتقد أنني مجنون ... أليس كذلك ؟!
لم يدر " جون " بم يمكن أن يجيب سؤالا هكذا ، وشعر بحرج شديد في أعماقه ، وهو يتطلع الى الرجل مغمغما :
- الواقع أن ...
مرة أخرى ، قاطعه الرجل ، وهو يميل نحوه ، قائلا في توتر بالغ :
- هذا ما يريدونه بالضبط ... أن نبدو كالمجانين ... أن يظن الكل أننا فاقدو العقول ... أتعلم لماذا ؟!
لم يفهم " جون " من هؤلاء ، ولا ما الذي يريدونه ، الا أنه تمتم في خفوت ، وهو يتطلع الى الرجل مباشرة :
- لماذا ؟!
أشار الرجل الى رأسه ، وهو يميل نحوه أكثر ، قائلا بلهجة عجيبة :
- حتى لا يصدقنا أحد .
تضاعفت حيرة " جون " وهو يتطلع الى وجه الرجل ، الذي اعتدل بحركة واحدة ، وهزّ رأسه ، مستطردا في أسى بالغ :
- ولقد نجحوا في هذا ... لم يصدقنا أحد ... لقد عشت التجربة بنفسي ، ورأيت مايمكن أن يصيب أكثر الناس عقلا بالجنون ولا أحد يصدقني .
بدا الضجر والتبرم ، على وجه صاحب المقهى ، وهو يقول في شيء من الغلظة والخشونة :
- عد الى منزلك يا " فيليب " ... الوقت ما زال مبكرا على ما تفعله .
لوّح " فيليب " هذا بذراعه كلها ، صائحا :
- الوقت ما زال مبكرا ؟! ... أي قول هذا يا رجل ... الصحافة ينبغي أن تعرف الحقيقة ... كل الحقيقة .
جذبت العبارة انتباه " جون " بشدة ، وخاصة عندما حملت الكلمتين التي تعنيان عنده كل شيء .
الصحافة ... والحقيقة ...
وفي حدة واضحة ، كرر صاحب المقهى :
- عد الى منزلك يا " فيليب " .
ولكن " جون " أشار اليه بالهدوء ، وهو يسأل الرجل في اهتمام :
- أية حقيقة يا سيد " فيليب " ؟!
أجابه الرجل في سرعة :
- " دوران " ... اسمي " فيليب دوران " ... خاطبني باسم السيد " دوران " ...
سأله " جون " مرة أخرى ، وهو يسأله في اهتمام أكبر :
- حسنا يا سيد " دوران " ... ما الحقيقة التي تعنيها ؟
التقط " فيليب " نفسا عميقا ، قبل أن يميل نحوه ، قائلا بلهجة خاصة توحي بأهمية وخطورة الأمر :
- حقيقة السفينة " دي - 173 " .
وبح صوته مع الانفعال الجارف ، وهو يميل أكثر ، مكملا :
- لقد رأيتها تختفي أمام عيني ... بكل ما عليها ، ومن عليها.
لم يفهم " جون " ما يعنيه هذا بالضبط ، لكنه تمتم :
- تختفي ؟! أتقصد تغرق ؟!
هز " فيليب " رأسه في قوة ، وهو يلوح بذراعه ، هاتفا :
- لا ... لم تغرق ... اختفت ... تلاشت ... أحاط بها بخار رمادي خفيف ، ثم اختفت...
وارتفع صوته بغتة ، كما لو أن نوبة من الجنون قد أصابته ، وهو يتابع :
- تماما مثل فيلم " الرجل الخفي "... هل تذكره ؟!
اتسعت عينا " جون " عن آخرهما ، وهو يحدق في وجه " فيليب " في حين صاح صاحب المقهى في غضب :
- " فيليب "... لقد حذرتك من القدوم الى هنا ، وترديد تلك الخزعبلات... هيا... انصرف... عد الى منزلك ، والا ...
صاح " فيليب " في ثورة :
- ليست خزعبلات... لقد رأيتها بنفسي .
اختطف صاحب المقهى بندقيته ، وصوّب فةهتها الى " فيليب " صائحا في خشونة شديدة قاسية :
- عد الى منزلك .
مط " فيليب " شفتيه في يأس ، وهز رأسه مستسلما ، ثم أدار وجهه الى " جون " وكرر في اصرار :
- لقد رأيتها تختفي .
ثم استدار، وغادر المكان بخطوات متثاقلة مرهقة ،جعلته يبدو وكأنه يفوق عمره الحقيقي بثلاثين عاما على الأقل ، في حين أعادصاحب المقهى بندقيته الى موضعها ، وهو يقول في غلظة :
- لا تلق بالا لحديثه هذا... انه مجنون بالفعل... كان مجندا في مشاة البحرية ، خلال الحرب العالمية الثانية ، وخرج منها عام1944م ، بسبب جنون صنعه الخوف ، وقضى ما يقرب من ثماني سنوات ، في مصحةللأمراض النفسية والعصبية ، ومنذ سمحوا له بالخروج منها ، وهو يردد هذهالسخافات .
تألقت عينا " جون " على نحو أدهش صاحب المفهى نفسه ، وهو يسأله في لهفة شديدة :
- كان أحد جنود مشاة البحرية ؟! قل لي يا رجل : هل تعلم أين كانت وحدته بالضبط ؟!
رمقه صاحب المقهى بنظرة حذرة ، وهو يجيب :
- في " فيلادلفيا " حسبما أذكر .
وهنا تضاعف تألق عيني " جون " وهو يهتف :
- " فيلادلفيا "... آه... كنت أتوقع هذا .
ثم اندفع خارج المقهى ، في محاولة للحاق بالرجل ، وهو يهتف :
- سيد " دوران "... انتظرني... أريد أن أتحدث اليك... صحفيا .
واتسعت عيون الجميع في دهشة مستنكرة ، وقد بدا لهم لحظتها أن " جون " هو المجنون الحقيقي في هذا الأمر .
ولم يخطر ببال أحدهم لحظة واحدة ، أن " جونكاربنتر " قد وضع يده ، في تلك اللحظة التاريخية ، على طرف الخيط ، الذيسيقوده الى كشف أخطر تجربة بحرية عسكرية ، أجرتها الولايات المتحدةالأمريكية ، في تاريخها كله...
تجربة " فيلادلفيا "...
الرهيبة...