لنعد إلى صدام، يقولون إنه يعيش هاجساً أمنياً دائماً؟
نعم، وأكثر من أي شخصية أخرى حكي عن هاجس الأمن لديها. حسه الأمني عال جداً وهو نتيجة ظروف نشأته وحياته. منذ الطفولة كانت حياته قاسية ويعتبر القوة الضمانة الوحيدة. ولد في قرية تتميز أطباع أهلها بالشراسة. باكراً شعر أنه مهدد وأن عليه أن يكون عنيفاً ليحمي نفسه. أما أسلوب تغيير مقار الإقامة والإفلات من المتربصين به فهو أسلوب ينمّ عن عبقريته في هذا المجال.
مسدسه دائماً معه؟
المسدس رفيقه الدائم.
وينقلون عنه أنه يحتفظ لنفسه بالرصاصة الأخيرة!
ممكن جداً. فأنا أعتقد بأن استسلامه شبه مستحيل. لا يمكن أن يترك نفسه يسقط أسيراً. بحسب معرفتي ببنائه الشخصي وتربيته أقول إن من الصعب أن نراه أسيراً يمثل أمام محكمة دولية.
هذا يعني أنه سيقاتل إلى آخر لحظة؟
يقاتل أو ينتحر.
ماذا تعرف عن نشأة صدام حسين وبداياته في تكريت؟
صدام حسين من مواليد قرية العوجة التي تبعد حوالي تسعة كيلومترات عن تكريت المدينة التي ولدت فيها. يقال إنه من مواليد 1937. ولا مبرر للاستغراب إن كان من الصعب تحديد الشهر واليوم. ففي تلك المرحلة كانت العائلات تتأخر في تسجيل أبنائها في الدوائر الرسمية ويضيع الموعد الدقيق للولادة. أنا حاولت أن أسأل أمي عن تاريخ ولادتي بدقة فلم تستطع أن تتذكر على رغم أنني من مواليد المدينة ومن عائلة كانت ظروفها مقبولة. هنا يجب أن أقول إن سيرة صدام تعرضت لأكثر من تشويه. فهناك الروايات الرسمية التي سعت إلى تلميع بدايات الرجل ونسبت إليه ما لم يكن موجوداً. وهناك روايات الخصوم التي حاولت أحياناً أن تلصق به ما لم يفعله أو ما لم يثبت أنه فعله.
ولد صدام في عائلة فقيرة. والده كان شبه فلاح ويعمل حارساً في بعض الأوقات. من عرفوه يذكرون أنه كان إنساناً بسيطاً. توفي الرجل قبل أن يبلغ نجله الثالثة. وهكذا رأت صبحة، والدة صدام، نفسها وحيدة مع نجلها. امرأة شابة وتريد أن تعيل طفلها في ظروف من الفقر ووطأة التقاليد. تزوجت صبحة من إبراهيم الحسن وأنجبت منه من عرفوا لاحقاً كإخوة غير أشقاء لصدام مثل برزان ووطبان وسبعاوي.
كيف تعامل إبراهيم الحسن مع الصغير؟
الذين عرفوا إبراهيم الحسن يقولون إنه صاحب شخصية شريرة لا حدود لمشاعر القسوة فيها. لم يحمل إبراهيم أي مشاعر ود لابن صبحة. عامله بعداء مفرط وكان يضربه بلا رحمة على رغم صغر سنه. ربما هنا يمكن تفسير بعض ملامح صدام. ولد في قرية يمتاز أهلها بالقسوة ويحتكمون إلى القوة لتصفية الخلافات بينهم. قرية فقيرة، غياب الكهرباء يزيد ليلها قسوة. وصبي يتيم يعامله زوج والدته بالتهديد والضرب المبرح. ولعل الصغير استنتج أن العالم لا يرحم وأن على المرء أن يكون قوياً ليدفع الأذى عنه أو أن يكون قوياً إلى درجة مبادرة الآخرين بالأذى. وثمة من يقول إن الصغار كانوا يسخرون من الولد اليتيم ويضربونه إلى حد أنه اقتنع بأن عليه أن يقتني دائماً ما يساعده على رد الهجمات، بدءاً من السكين وصولاً إلى المسدس الذي جعله صدام رفيقه الدائم.
وهذا ما دفع صدام إلى الفرار إلى بيت خاله خيرالله طلفاح؟
قد يكون اختار الفرار من جحيم إبراهيم الحسن. وقد تكون صبحة شجعته على ذلك لتتفادى رؤية زوجها ينهال بالضرب على ابنها. هنا لا بد من كلمة عن خيرالله طلفاح الذي لا يمكن فهم شخصية صدام من دون التوقف عنده. كان ضابطاً في الجيش واعتقل لدى حصول ثورة رشيد عالي الكيلاني لمدة أربع سنوات. وتختلف الروايات حول أسباب اعتقاله. هناك من يقول إنه اعتقل لأنه كان مشاركاً. ويقول فريق آخر إنه اعتقل لأنه ادعى أنه صاحب دور. وأنا أميل إلى هذا الرأي. بعد إطلاقه سكن خيرالله طلفاح فترة في تكريت وعيّن مديراً لمدرسة متوسطة أهلية مدة عامين ثم رجع إلى بغداد ليمضي فيها غالبية أيام حياته.
يقال إن صدام لجأ إلى بيت خاله وكان في التاسعة ولم يدخل المدرسة بعد؟
أعتقد بأنه كان أكبر من ذلك. الأكيد أن صدام دخل المدرسة الابتدائية في تكريت. كان خالي سعيد عبدالفتاح مدرساً فيها وهو ما يزال حياً. سألته فقال إن اسم صدام موجود في سجلات المدرسة وأكد أنه كان من الطلاب الأذكياء ويعتبر من المتفوقين.
لماذا صدام حسين التكريتي وهو من العوجة؟
تكريت من أقدم المدن العربية. مدينة قديمة للغاية. إبان الفتح الإسلامي كانت تسكن تكريت ثلاث قبائل: التغالبة والنمر وأياد، وهي قبائل عربية. في الوقت الحاضر تضم مدينة تكريت ثلاث عشائر هي: التكارتة وهم أهل المدينة، والبوناصر التي جاء منها أحمد حسن البكر وصدام حسين وخيرالله طلفاح، والحديثية الذين جاؤوا من مدينة حديثة القريبة من الحدود السورية. صدام من عشيرة البوناصر وهم من ضاحية المدينة ومسكنهم الحقيقي في العوجة وفي الغالب لا ينطبق عليهم أصلاً لقب تكريتي.
متى التقيت صدام للمرة الأولى؟
في 1964. انقسم الحزب وكانت كل موجوداته تحت سيطرة المسؤول السابق علي صالح السعدي الذي راح يستخدمها ضد الحزب بما في ذلك إصدار بيانات تهاجمنا. ذات يوم أبلغني فاتك الصافي عضو القيادة القطرية ومسؤولي الحزبي المباشر بالآتي: يجب أن تكون عند الخامسة مساء في اليوم الفلاني في المقهى الفلاني. سيأتيك شاب نحيف أسمر يقود سيارة فولكسفاغن ويعرّف عن نفسه باسم محمد. المطلوب أن ترافقه في السيارة لأنه سينقل إليك توجيهات من الحزب.
في الساعة المحددة انتظرت في مقهى الأعظمية. أوقف الشاب النحيف السيارة، وقال إنه محمد فرافقته. قال الشاب: أخي صلاح، تعرف أن موجودات الحزب هي الآن تحت سيطرة علي صالح السعدي الذي يستخدمها ظلماً ضد الحزب الذي تسبب في انشقاقه. لم يترك لنا مجالاً لخيار آخر. يجب أن نسترجع موجودات الحزب. القيادة تعتقد بأنها موجودة في بيت رصدته ويرجح أن جماعة السعدي تستخدمه مقراً رئيسياً. هناك المطابع وأشياء أخرى. وقع الخيار عليك لاقتحام هذا البيت ووضع اليد على الموجودات وإعادتها إلى الحزب.
وشرح لي الشاب التعليمات المرافقة للتنفيذ خصوصاً أننا في العمل السري. قال: يجب أن تضعوا خطة وتتأكدوا من خلو الدار عند اقتحامها. إذا فوجئتم بوجود أحد في الدار يجب الانسحاب. إذا حصل صدام بينكم وبين رجال داخل الدار الرجاء عدم إيذائهم. عليكم الانسحاب قبل أن تلقي الشرطة القبض عليكم. وسنختار عدداً من الشبان ليكونوا معك في التنفيذ.
أبلغت بالأسماء وتحركنا للتنفيذ ليلاً بعد مراقبة البيت. حملنا معنا مجموعة من المفاتيح لكنها لم تنجح في فتح الباب. لم يكن أمامنا غير الاستعانة بعضلات أحد المشاركين وهو أحد أبطال المصارعة المعروفين في بغداد. ضرب الباب بقدمه فانفتح. عثرنا على الطابعة وبعض قطع السلاح الصغيرة. وفيما نحن داخل البيت حرك شخص مفتاح الباب ودخل فقبضنا عليه ووضعناه في غرفة. وبعد عشر دقائق جاء شخص آخر من جماعة السعدي فاعتقلناه. أخذنا كل الموجودات وغادرنا.
هل كنت تعرف أصلاً أن محمد هو صدام حسين؟
لا، لكن عندما راح يحدثني في السيارة أدركت أن لهجته تنتمي إلى منطقتنا أي لهجة شمال بغداد. خالجني شعور أنه قد يكون صدام وكانت القاعدة تقضي أن لا نطالب الرفاق بكشف أسمائهم الحقيقية. قررت أن أسأله فأجابني أنه صدام. وكان هذا اللقاء الأول.
ألم تكن قد سمعت باسم صدام من قبل؟
بلى. كان اسم صدام تردد في الدوائر الحزبية وخارجها بعد مشاركته في محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم وفراره إلى سورية ومنها إلى مصر، وعودته إلى البلاد بعد أيام قليلة من تولي الحزب السلطة في 8 شباط/فبراير 1963. وقبل ذلك تردد اسم صدام في حادثة اغتيال في تكريت نفسها يمكن أن نتحدث عنها لاحقاً. كنت سمعت بصدام لكن لم أكن أعرفه شخصياً.
الانطباع الأول هو أنه رجل جاد وإنسان شجاع وحاذق. كان في غاية الأدب واللياقة والاحترام. وتعزز هذا الانطباع لاحقاً عندما التقينا كأعضاء في القيادة القطرية وبعدما تعاملت معه. انطباعي لم يتغير. صدام ذكي وشجاع ومهذب ويوحي بالاحترام. هادئ ويستمع ويشعرك بالاهتمام بما تقوله له. طبعاً أنا أتكلم هنا عن صدام الحزبي قبل تسلّم السلطة وما غيرته في الشخص وطباعه وممارساته.
يقولون إنه كان قليل الكلام في الاجتماعات الحزبية؟
لا، لم يكن قليل الكلام. كان يتدخل حين يرى أن لديه ما يقوله ويتحدث بتهذيب واحترام ومسؤولية.
هل حصلت صدامات بينك وبينه في الاجتماعات؟
لم يصطدم بي ولا بغيري. كان صدام شخصاً نموذجياً في تلك الأيام. شاب متفرغ كرس جهده للحزب. لا أذكر أنه وجّه في تلك الأيام كلمة نابية إلى عضو آخر أو تسبب له بإزعاج. وكان التزامه كاملاً.
بعض الكتابات تقول إن افتقاره إلى الثقافة ولّد عقدة لديه؟
هذا الكلام غير صحيح. يعرف ماذا يريد أن يتحدث. يتكلم بانسياب وهدوء ودقة ووضوح. يصغي جيداً ويتحدث جيداً وهو قارئ جيد أيضاً.
ما هي العوامل التي سهّلت عودة البعث إلى السلطة في بغداد في تموز/يوليو 1968؟
طبيعي أن يسعى الحزب للعودة إلى السلطة لتنفيذ برنامجه وتطلعاته. بهذا المعنى لم نكن نحتاج إلى قرار لأنه موجود دائماً وإنما العبرة في التنفيذ، والفرص.
هزت هزيمة 1967 المنطقة. وفي ضوء حصولها وذيولها عقد مؤتمر قومي للحزب في لبنان شارك فيه ممثلون عن الحزب من الأقطار العربية المختلفة. وهو مؤتمر مهم. لم أشارك فيه لأن الذهاب إلى لبنان كان يحتاج إلى تأشيرة. ولم يحضره أحمد حسن البكر أو صدام حسين. شارك الرفاق العراقيون الموجودون في سورية.
اعتبر المشاركون هزيمة 1967 هزيمة للأنظمة وتركز البحث حول سبل تمكين الشعوب من الرد عليها. وكان الاستنتاج ضرورة إقامة جبهات في كل الأقطار العربية تمهيداً لإقامة جبهة قومية شعبية واسعة وشاملة تتبنى خيار الرد على الهزيمة. أبلغت فروع الحزب بالمقررات هذه. كان علينا أن نسعى إلى إقامة جبهة في العراق. لم تكن المسألة سهلة. فقصة البعث مع الشيوعيين معروفة، وتخللتها فصول دامية تركت جروحاً لدى الجانبين. وهناك صراعات أخرى مع قوى أخرى. بعد نقاشات تبين أن علينا أن نحاول. وبدأ حوار مع الشيوعيين والقوى الكردية وأطراف أخرى.
كان الحزب الشيوعي منقسماً بين القيادة التقليدية وهي اللجنة المركزية برئاسة عزيز محمد والقيادة المركزية بزعامة عزيز الحاج الذي انشق عن الحزب. بدأنا حواراً مع اللجنة المركزية ونظمنا لقاءات دورية. حاولنا الاتصال بمجموعة عزيز الحاج فرفضوا باعتبار أنهم ثوار ويؤيدون الكفاح المسلح إلى ما هناك من هذا الكلام. بدأنا أيضاً الاتصال بكل من الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. كان الغرض من الحوار إعادة بناء جسور الثقة وبناء جبهة إذا أمكن وضمان عدم تكرار مأساة 1963 في حال حصول عملية تغيير. وقد أدت هذه الحوارات غرضها.
ما هي الأسس التي اعتمدت في الإعداد لـ17 تموز؟
- ناقشنا في إطار القيادة القطرية القضايا التي ستواجهنا في حال نجاحنا في العودة إلى السلطة. وكان واضحاً أن القضية الأولى التي سنجد أنفسنا أمامها هي القضية الكردية المطروحة باستمرار أمام النظام العراقي منذ العهد الملكي وحتى الآن. وظهرت قناعة بأن لا حل عسكرياً للقضية الكردية وأن الحل يجب أن يتم بالتفاوض والتفاهم والاتفاق. وبحثنا أيضاً في علاقاتنا بالحركات السياسية العراقية واتخذنا قراراً بالسعي، بعد نجاح الثورة، إلى تشكيل حكومة ائتلاف وطني تضم كل القوى السياسية العراقية أو على الأقل القوى السياسية المستعدة للتعاون. والقراران مهمان جداً.
والاستعدادات لإنجاح عملية إطاحة النظام ميدانياً؟
إضافة إلى عملنا الحزبي والتنظيمي على الجانبين المدني والعسكري، سعينا إلى تحالفات داخل المؤسسة العسكرية خصوصاً مع الضباط الذين يشغلون مواقع حساسة داخل بغداد. كنا نقوم في اجتماعاتنا بعملية جرد لأسماء الضباط المؤثرين داخل المؤسسة العسكرية في بغداد. نطرح الاسم ونستمع إلى المعلومات المتوافرة عنه. ما هي ميوله؟ وهل يمكن التعاون معه؟ ومن يستطيع التأثير عليه؟ أم أن الأفضل عدم مفاتحته؟ وعندما كنا نتفق على العمل لاجتذاب ضابط نكلف من يستطيع الاتصال به، واستغرق العمل شهوراً.
نعم. كان سعدون غيدان مسؤولاً عن قوة عسكرية متمركزة في القصر الجمهوري وحوله. موقعه هذا يجعله مهماً لنجاح العملية. ومن دون مشاركته يمكن أن تحصل مواجهة. كلفنا أحد الضباط البعثيين بمفاتحته بالتدريج، ووافق في النهاية. كان هناك ضابط آخر مسؤول عن حماية القصر اسمه ابراهيم عبدالرحمن الداوود. هذا الضابط قوي وشجاع وقومي الاتجاه ولديه ميول دينية واضحة. نقطة ضعفه تأثره الشديد والمفرط بمعاون مدير الاستخبارات العسكرية عبدالرزاق النايف. كان الداوود ينقاد بشكل أعمى للنايف. وقعنا في إشكال. مشاركته ضرورية لنجاح الخطة، لكن تسرب الخطة إلى النايف خطير. ناقشنا الأمر طويلاً وفي النهاية قررنا مفاتحته.
تحدث البكر إلى الداوود في محاولة لضمان عدم تسرب الموضوع. قال له إن هذه العملية ترتب مسؤوليات وأخطاراً كثيرة علينا وعليك وعلى آخرين. دعنا نضمن بقاء هذا الموضوع سراً بيننا وبينك. أنت رجل متدين، فلنقسم على القرآن أن هذا الكلام الذي أحدثك به لن يخرج إلى شخص ثالث، وطبعاً كان البكر يقصد النايف. أقسم الداوود في 15 تموز لكنه لم يتردد في إبلاغ النايف. الرجل ما يزال حياً ويقيم في السعودية وباستطاعته التعليق على الواقعة إذا شاء.
لننتقل إلى عملية التنفيذ؟
صباح 16 تموز أبلغنا زمر التنفيذ المدنية والعسكرية بالصيغة النهائية لمهامها. فكرنا في البداية بتنفيذ العملية في 14 تموز لقيمته الرمزية، ثم فكرنا في اليوم التالي لكن اعتبارات عملية اضطرتنا إلى التأخير. في 16 أخرجنا الأسلحة المخبأة في الأوكار الحزبية ومعها كمية من الملابس العسكرية للتمويه. وفي الثامنة مساء التقينا في بيت البكر في حي علي الصالح على شارع 14 رمضان. كان علينا أن نضع اللمسات النهائية بانتظار ساعة التنفيذ عند الثانية والنصف بعد منتصف الليل. وهنا وقعت المفاجأة.
ماذا كانت؟
- كنا في القيادة القطرية نتداول في آخر الاستعدادات حين طرق الباب. ذهب البكر، فتح ثم عاد حاملاً ورقة صغيرة. فجأة قال البكر إنها رسالة من المقدم عبدالرزاق النايف يقول فيها: لدي معلومات أنكم ستقومون بهذه العملية. أضم صوتي إلى صوتكم. أنا معكم وجاهز لتنفيذ أي مهمة وتوكلوا على الله. وقال البكر: هذه الرسالة بين أيديكم أريدكم الآن أن تبحثوا في الأمر وتتخذوا القرار المناسب.
كان للرسالة التي حملها ضابط برتبة ملازم يعمل مرافقاً للنايف وقع القنبلة. ناقل الرسالة بعثي من دون أن يدري رئيسه، لكن ذلك لا يقلل من حجم المشكلة. حصل تشاور مع شيء من الارتباك. النايف ضابط قوي وشديد الذكاء وطموح، ما يجعل دوره يفوق موقعه. قلّبنا الأمر على مختلف الجهات. إذا ألغينا العملية فمن يضمن أن النايف لن يغتنم المناسبة لكشفها وذبحنا تماماً، فهو سيعتبر أننا تحركنا من دون اقتراح بإشراكه وألغينا العملية لأنه علم بها. بدا واضحاً أن الإلغاء سيعني كارثة للحزب. من جهة أخرى إن إشراك النايف يعتبر مغامرة بدوره. كان واضحاً أن الداوود لم يلتزم قسم اليمين والذي أدخلنا في ورطة سيدفع ثمنها.
في النهاية قررنا السير في التنفيذ وبعثنا إلى عبدالرزاق النايف بالجواب الآتي: تعمدنا عن قصد ودراية عدم إبلاغك والسبب وجودك في موقع حساس وخوفنا عليك. إننا أبلغنا الأخ إبراهيم الداوود كي لا نبلغك مباشرة تجنباً للإحراج واعتبرنا أن هذه الطريقة الأجدى والأنفع وكنا نعرف أنه سيبلغك. لقد اتخذنا قرارنا بالسير في العملية وستكون رئيساً لوزراء العراق إذا وفقنا الله.
الواقع أننا اتخذنا قرارين متلازمين: الأول إغراء عبدالرزاق النايف بالمشاركة عن طريق عرض رئاسة الوزراء عليه. القرار الثاني وجوب التخلص من النايف والداوود في أقرب فرصة. ونفذنا العملية.
لا بد أولاً من الإشارة إلى أن نظام عبدالرحمن عارف كان معزولاً وبلا قاعدة شعبية. نظام بسيط وهش ومفصول حتى عن الأجهزة الأمنية. على سبيل المثال كان المسؤول عن شرطة النجدة في بغداد بعثياً. عبدالرحمن عارف شخص وطني لا غبار عليه لكنه شخص ضعيف، لذا كانت الحركات السياسية تتسابق ليلاً ونهاراً للسيطرة على السلطة. لو كان الرئيس قوياً وممسكاً بالأجهزة الأمنية بقوة لزادت صعوبة التغيير.
هناك مسألة أُخذت في الاعتبار في إعداد الخطة وهي اضطلاع الحزب بدور كبير عبر قيادته كي لا نقع في ما حصل في 1963 حين كان التنظيم العسكري أقوى من القيادة المدنية واعتبر أنه صاحب الفضل الأكبر في الوصول إلى السلطة. وزعنا المسؤوليات والمهمات تبعاً للأماكن المستهدفة. وقررنا أن يكون اقتحام القصر الجمهوري من مسؤولية أعضاء القيادة القطرية.
قبل التنفيذ التقينا في بيت عبدالكريم الندى شقيق زوجة أحمد حسن البكر. كان عبدالكريم موظفاً في السكة الحديد ويقيم في مبان مخصصة لها قرب الإذاعة في منطقة الصالحية. طبعاً لا داعي إلى وصف المشاعر في تلك الساعات الحاسمة. جلسنا في الشقة أعضاء القيادة التسعة، وبينهم البكر وصدام، إضافة إلى عدد من الأشخاص بينهم حردان التكريتي على ما أذكر. أي أن رقم الموجودين في الشقة كان أقل من عشرين. وكانت الخطة تقتضي أن يكون الداوود وغيدان في انتظارنا.
كيف تحركتم؟
ارتدينا ملابس عسكرية وشارات ضباط. وفي التوقيت المحدد حضرت شاحنة عسكرية فصعدنا إليها واستقل القسم الآخر سيارتين مدنيتين. ووصلنا إلى مدخل القصر بثيابنا العسكرية ورشاشاتنا. عند مدخل كتيبة الدبابات كان سعدون غيدان في انتظارنا وفتح باب الكتيبة. انضم إلينا أيضاً عدد من الشبان الحزبيين كنا قد أرسلناهم سراً للتدرب على استخدام الدبابات. فوجئنا أن الدبابات المرابطة حول القصر حديثة ولم يتمكن هؤلاء الشباب من تشغيلها. صدفة نجح شاب في تشغيل دبابة وراح ينتقل من واحدة إلى أخرى فاستكملنا محاصرة القصر.
في مقر كتيبة الدبابات أقمنا مقر قيادتنا. وبادر البكر إلى الاتصال بعبدالرحمن عارف الذي كان نائماً. بين الرجلين صداقة وزمالة ولقاءات عدة. فوجئ عارف وقال للبكر، وكنا إلى جانبه، خير أبو هيثم ما القصة؟ فرد عليه: يا أبو قيس إن قيادة الثورة أنجزت مهمتها وسيطرت على كل البلد. باسم قيادة الثورة ندعوك أن تكون عاقلاً ومدركاً للأمور وأن تتحاشى أي محاولة. أنصحك أن تسلم نفسك لقيادة الثورة، وفي المقابل لك الأمان الكامل والمطلق والأمر نفسه بالنسبة إلى عائلتك. العملية لا تستهدف شخصك. الهدف إنقاذ البلاد من مشاكل ربما تترتب على استمرار حكمكم الضعيف وربما تدخل البلاد مجدداً في حمام دم. أرجوك أرجوك أرجوك سلم نفسك ولا تقم بأي محاولة. كل شيء انتهى وأنت تعرف ماذا أعني.
ليس من السهل على رئيس دولة التجاوب مع دعوة من هذا النوع. حاول عبدالرحمن عارف استكشاف الأجواء فاتصل بعدد من قادة الفرق في معسكرات خارج بغداد ووجد الأبواب مقفلة. بعد نحو عشر دقائق طلبه البكر ثانية وألح عليه أن يسلّم نفسه. وبعد دقائق أجرى معه اتصالاً أخيراً حازماً وقال له: إذا لم تسلّم نفسك فأنت الذي سيتحمل المسؤولية. مسؤولية حياتك ومسؤولية حياة عائلتك. عندها أوعزنا إلى أحد الضباط بأن يطلق فوق القصر بضع طلقات مدفعية. عندما سمع عارف دوي القذائف أدرك أن لا مجال للمساومة فبادر إلى الاتصال هذه المرة للتفاوض على عملية التسليم. عندها ذهبت أنا وأنور عبدالقادر الحديثي إلى الباب الرئيسي للقصر. خرج عارف فاصطحبناه في سيارة عسكرية صغيرة إلى مقر كتيبة الدبابات.
كان الرجل خائفاً ومرعوباً. راح يرتجف ويطلق كلاماً مبهماً. ربما لم يكن واثقاً أن سلامته مضمونة. عاملناه باحترام لكن موقفنا لم يبدد قلقه. كنا اتفقنا سابقاً على أن يغادر عارف البلاد إذ لا حاجة لاعتقاله. وبانتظار تحضير الطائرة التي ستقله إلى الخارج طرح اقتراح بأخذه إلى بيت حردان التكريتي. قاد حردان السيارة وفي داخلها عارف وأنا. كان الرجل قلقاً بالفعل. لم يصدق أن طائرته قيد التحضير. كان يعتقد بأننا نقتاده إلى مكان ما لقتله. ولأنني كنت مرتدياً الملابس العسكرية ومسلحاً كان عارف يزداد قلقاً كلما قمت بأي حركة عادية. وعلى مدى الطريق كان يردد ما معناه أنه ابتلي برئاسة الجمهورية وأنه نادم على قبولها.
في النهاية أكدنا له أن سلامته مضمونة وأن باستطاعته أن يأخذ معه عائلته وكل ما يحتاج له. وهذا ما حصل صباحاً وأعتقد بأن الطائرة أقلته إلى تركيا.
طبعاً في بداية العملية توجهت مجموعة واعتقلت رئيس الوزراء طاهر يحيى من منزله. وهكذا عاد البعث إلى السلطة ومن دون إراقة دماء.
كيف تصرف صدام حسين خلال عملية التنفيذ؟
تماماً كما تصرف الآخرون. ارتدى الملابس العسكرية وحمل رشاشه أسوة بسائر أعضاء القيادة القطرية.
من كان القائد الفعلي؟
كان البكر قائد الحزب وهو عسكري معروف ورئيس وزراء سابق. وأستطيع الجزم أن العمل كان جماعياً.
هل كان صدام شجاعاً في اللحظات الحرجة؟
إن عملنا اليوم لإسقاط صدام يجب ألا يدفعنا إلى تزوير الوقائع. يمكن اليوم اتهام صدام بأشياء كثيرة لكن لا يمكن القول إنه غير شجاع. صدام رجل اعتاد المواقف الصعبة. شجاعته لا تحتاج إلى دليل وقسوته كذلك. يجب هنا أن نتنبه إلى مسألة أن العمل الحزبي كان صعباً وشاقاً وأن صدام لم يكن في تلك الفترة نجماً ولم يصادر القرار. أستطيع القول إنه كان حزبياً وملتزماً قرارات الحزب.
هناك رواية تقول إنه اقتحم القصر بدبابة؟
أنا أروي بأمانة ما شاهدته وعشته. أما الروايات التي ظهرت لاحقاً فتلك مسألة أخرى.