الحديث عن مسيرات قادرة على تعطيل خطوط الإمداد لا يعكس الواقع العملياتي بدقّة، لأن المسيرات مهما بلغ مداها أو قدرتها على التحمل تبقى أداة تكتيكية، لا استراتيجية. ما حصل في كيرسك لم يكن انتصاراً للمسيرات بقدر ما كان نتيجة لخلل في منظومة القيادة والسيطرة الأوكرانية أثناء تبديل الخطوط، أي خلال أكثر المراحل هشاشة في أي نظام دفاعي.
أما عملية أنبوب الغازفهي تعكس مخاطرة تكتيكية عالية، لكنها في المقابل تؤشر إلى عجز ميداني عن تحقيق اختراق تقليدي في الميدان المفتوح، مما اضطر القوات الروسية إلى استخدام وسائل غير نمطية وغير مستدامة عملياتياً. فمثل هذه الحركات تعجز عن التحول إلى قاعدة اشتباك دائمة، لأنها تستهلك العنصر البشري إلى حد الانهاك.
وبشأن الطائرات RUBICON السلكية، فابتكارها لم يغيّر معادلة الحرب. التحكم السلكي بالفيبر غلاس يعالج فقط مسألة التشويش، لكنه يحد من حرية المناورة ويحوّل المسيرة إلى أداة كمين محدودة النطاق، أكثر منها عنصر ضرب استراتيجي. هي أشبه بشِراك تكتيكية تقدم ضجيجاً إعلامياً أكثر مما تحقق تأثيراً عسكرياً متراكم الأثر.
الدروس الجوهرية لا تُستخلص من إعجاب بلقطات استثنائية، بل من قراءة التوازن بين الفعل والقدرة على الاستمرار. في النهاية، التفوق الحقيقي سواء في كيرسك أو غيرها لا يُقاس بلقطة جريئة، بل بامتلاك منظومة تكيف قادرة على امتصاص الضربات والاستمرار بالميزان الاستراتيجي طويل الأمد.
ولهذا، التركيز على المسيرات أو الاختراقات غير التقليدية دون النظر إلى استدامة المنظومة أشبه بالانبهار بخدعة تكتيكية مؤقتة. وكما الجيش المصري حيّد أعقد التحصينات بوسائل مبتكرة وبسيطة، فالفارق ليس في الأداة؛ بل في العقل الذي يقرأ الثغرة في اللحظة المناسبة.