أما ارتداء النِّقاب الذي يستر الوجه: فهو من قبيل العادات عند جمهور الفقهاء، وبمذهبهم نفتي، وليس من قبيل التَّشَرُّع، هذا هو المقرر في مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد بن حنبل وعليه أصحابه، وهو مذهب الأوزاعي وأبي ثور، ومِن قَبْلِ أولئك: عُمَر، وابن عباس رضي الله عنهم، ومن التابعين: عطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، والضحاك، وإبراهيم النخعي، وغيرهم كثير من مجتهدي السلف؛ بناءً على أن عورة المرأة المسلمة الحرة جميعُ بدنها إلا الوجه والكفين؛ استنادًا إلى حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها المذكور سابقًا، وكذلك القدمان عند الإمام أبي حنيفة والثوري والمزني، فيجوز لها كشفهما.وقال القرطبي رحمه الله «ت 671هـ»: «قوله تعالى: ﴿ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ﴾ الجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء، وقد قيل: إنه القناع، والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن»[58].
وقال البيضاوي رحمه الله «ت 685هـ»: «كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرَم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة، كالمعالجة»[59].
وقال أيضا: «يغطين وجوههن، وأبدانهن بملاحفهن إذا برزن لحاجة»[60].
وقال ابن جُزي «ت 741هـ»: «كان نساء العرب يكشفن وجوههن كما تفعل الإماء، وكان ذلك داعيا إلى نظر الرجال لهن، فأمرهن الله بإدناء الجلابيب؛ ليسترن بذلك وجوههن»[61].
وقال النيسابوري رحمه الله «ت 850هـ»: «كانت النساء في أول الإسلام على عادتهن في الجاهلية متبذلات يبرُزن في درع وخمار من غير فصل بين الحرة والأمة، فأُمرن بلبس الأردية والملاحف وستر الرأس والوجوه، ذلك الإدناء أدنى وأقرب إلى أنْ يُعْرَفْنَ أنهن حرائر، أو أنهن لسْن بزانيات، فإن التي سترت وجهها أولى بأن تستر عورتها فلا يُؤْذَيْنَ»[62].
وقال جلال الدين المحلي رحمه الله «ت 864هـ» في تفسير قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ﴾ [الأحزاب: 59]: «هي المُلاءة التي تشتمل بها المرأة أي يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا عينا واحدة؛ حتى يعرفن بأنهن حرائر، فلا يؤذين بالتعرض لهن بخلاف الإماء فلا يغطين وجوههن»[63].
وقال البقاعي رحمه الله «ت 885هـ»: نزه الله تعالى المؤمنات عن حالة الجاهلية من التبرج وعدم الحجاب، وصانهن عن التبذل، والامتهان[64].
وقال الإيجي رحمه الله «ت 905هـ»: «الجلباب: رداء فوق الخمار يستر من فوق إلى أسفل، يعني يرخينها عليهن، ويغطين وجههن، وأبدانهن»[65].
وقال الألوسي رحمه الله «ت 1270هـ»: عندي أن على النساء تغطية جميع أجسادهن، وقيل: على رؤوسهن أو على وجوههن؛ لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه[66].
وقال الدكتور محمد سيد طنطاوي: يجب ستر المرأة جميع جسدها ووجهها[67].
وقال في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ [النور: 31]: «أي وعلى النساء المؤمنات أن يسترن رؤوسهن وأعناقهن وصدورهن بخمرهن؛ حتى لا يطلع أحد من الأجانب على شيء من ذلك»[68].
بعض أقوال الحنفية:
قالت الحنفية: تُمنع المرأة الشابة من كشف وجهها بين الرجال؛ لئلا يؤدي إلى الفتنة، وفي زماننا المنع واجب، بل فرض لغلبة الفساد[69].
قال ابن الهُمام رحمه الله: دلت المسألة -أي حديث عائشة الآتي عند ذكر أدلة القول الأول- على أن المرأة منهية عن إبداء وجهها للأجانب بلا ضرورة[70].
قال ابن نُجيم رحمه الله: في فتاوى قاضي خان: ودلت المسألة على أنها لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة، وهو يدل على أن هذا الإرخاء عند الإمكان ووجود الأجانب واجب عليها[71].
قال الحصفكي رحمه الله: تمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين رجال لا لأنه عورة بل لخوف الفتنة كمسِّه[72]، وإن أمِنَ الشهوة؛ لأنه أغلظ[73].
قال ابن عابدين رحمه الله: تمنع المرأة من الكشف؛ لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع الفتنة؛ لأنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة[74].
بعض أقوال المالكية:
حكى ابن رشد القرطبي رحمه الله عن الإمام مالك أنه قال: المرأة كلها عورة[75].
وقال القاضي ابن العربي رحمه الله: «المرأة كلها عورة؛ بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة، كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يَعِنُّ، ويعرض عندها»[76].
وقال أيضا: «الأنوثة نقصان يخل بالعقل حسب ما نص الله تعالى عليه، وتوجب الحجاب، وتمنع من الخلط بالجماعة»[77].
وقال العبدري رحمه الله «ت 897هـ»: «وتسدل على وجهها إن خشيت رؤية رجل»[78].
قال ابن غانم رحمه الله «ت 1126هـ»: «الذي يقتضيه الشرع وجوب سترها وجهها في هذا الزمان، لا لأنه عورة، وإنما ذلك لما تعورف عند أهل هذا الزمان الفاسد أن كشف المرأة وجهها يؤدي إلى تطرق الألسنة إلى قذفها، وحفظ الأعراض واجب كحفظ الأديان، والأنساب»[79].
بعض أقوال الشافعية:
قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: «من تحققت نظرَ أجنبيٍّ لها يلزمُها ستر وجهها عنه وإلا كانت معينةً له على حرامٍ فتأثم»[80].
قال الحصني الشافعي رحمه الله «ت 829هـ»: يحرم كشف وجه المرأة وكفيها مطلقا، قاله الاصطخري، وأبو علي الطبري، وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والروياني، واتفق المسلمون على منع النساء من الخروج حاسرات سافرات[81].
وقال أيضا: «إن خيف من النظر إليها ما يجر إلى الفساد حرم عليها رفع النقاب، وهذا كثير في مواضع الزيارة كبيت المقدس زاده الله تعالى شرفا فليُجتنب ذلك»[82].
وقال ابن قاسم الغزي «ت 918هـ»: «وجميع بدن المرأة الحرة عورة إلا وجهها وكفيها، وهذه عورتها في الصلاة، أما خارجَ الصلاة فعورتها جميع بدنها»[83].
وقال أيضا: المرأة الحرة المسلمة لها ثلاث عورات:
أحدها: عورة في الصلاة: جميع بدنها سوى الوجه والكفين.
الثانية: عورة بالنسبة لنظر الأجانب إليها: جميع بدنها حتى الوجه والكفين على المعتمد.
الثالثة: عورة في الخلوة وعند المحارم: كعورة الرجل، أي ما بين السرة والركبة[87].
بعض أقوال الحنابلة:
قال الإمام أحمد رحمه الله: الزينة الظاهرة هي الثياب، وكل شيء من المرأة الحرة المسلمة عورة حتى الظفر[88].
وقال ابن تيمية رحمه الله: ليس للمرأة أن تبدي وجهها ويديها للأجانب على الأصح بخلاف ما كان قبل النسخ، بل لا تبدي إلا الثياب، ولا يجوز للنساء كشف وجوههن بحيث يراهن الأجانب، وعلى ولي الأمر الأمر بالمعروف والنهي عن هذا المنكر وغيره، ومن لم يرتدع فإنه يعاقب على ذلك بما يزجره، وإنما ضُرب الحجاب على النساء؛ لئلا ترى وجوههن وأيديهن، والحجاب مختص بالحرائر دون الإماء كما كانت سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه أن الحرة تحتجب، والأمة تظهر[89].
وقال ابن مفلِح رحمه الله «ت 763هـ»: «قال أحمد: ولا تبدي زينتها إلا لمن في الآية[90]، ونقل أبو طالب ظفرها عورة، فإذا خرجت فلا تُبَيِّنُ شيئا، ولا خُفَّها؛ فإنه يصف القدم، وأحبُّ إليَّ أن تجعل لكُمِّها زِرًّا عند يدها.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/social/0/155366/حجاب-المرأة-1/#ixzz8DHmpg5Sd
- فعند السادة الحنفية: قال العلامة القدوري في "مختصر القدوري" (ص: 26، ط. دار الكتب العلمية): [وبدن المرأة الحرة كله عورة إلا وجهها وكفيها وقدميها] اهـ.
وقال العلامة العيني في "البناية شرح الهداية" (2/ 126، ط. دار الكتب العلمية): [وفي "المفيد": في القدمين اختلاف المشايخ. وقال الثوري رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى والمزني: القدمان ليستا من العورة] اهـ.
وقال العلامة ابن نُجَيْم في "البحر الرائق" (1/ 284، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(قوله: وبدن الحرة عورة إلا وجهها وكفيها وقدميها)؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ [النور: 31]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "وجهها وكفيها"] اهـ.
- وعند السادة المالكية: قال الإمام الدرير في "الشرح الكبير" من كتب المالكية (1/ 214، ط. دار الفكر): [(وَ) هِيَ مِنْ حُرَّةٍ (مَعَ) رَجُلٍ (أَجْنَبِيٍّ) مُسْلِمٍ (غَيْرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ) مِنْ جَمِيعِ جَسَدِهَا] اهـ.
بل نص السادة المالكية أيضًا على أن انتقاب المرأة مكروهٌ إذا لم تجر عادة أهل بلدها بذلك، وذكروا أنه من الغلو في الدين:
قال الشيخ الدسوقي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 218) عند قول الإمام الدردير: [(و) كره (انتقاب امرأة) أي تغطية وجهها بالنقاب وهو ما يصل للعيون في الصلاة لأنه من الغلو والرجل أولى ما لم يكن من قوم عادتهم ذلك؛ (ككف)، أي: ضمّ وتشمير (كُمٍّ وَشَعْرٍ لِصَلَاةٍ) راجع لما بعد الكاف؛ فالنقاب مكروه مطلقًا]؛ قال: [(قوله: وانتقاب امرأة) أي: سواءٌ كانت في صلاة أو في غيرها كان الانتقاب فيها لأجلها أو لا، (قوله: لأنه من الغلو) أي: الزيادة في الدين إذ لم ترد به السنة السمحة، (قوله: والرجل أولى) أي: من المرأة بالكراهة، (قوله: ما لم يكن من قوم عادتهم ذلك) أي: الانتقاب؛ فإن كان من قوم عادتهم ذلك كأهل نفوسة بالمغرب فإن النقاب من دأبهم ومن عادتهم لا يتركونه أصلًا، فلا يكره لهم الانتقاب إذا كان في غير صلاة، وأما فيها فيكره وإن اُعْتِيدَ كما في المج، (قوله: فالنقاب مكروه مطلقًا) أي: كان في الصلاة أو خارجها سواء كان فيها لأجلها أو لغيرها ما لم يكن لعادة] اهـ.
- وعند السادة الشافعية: قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (1/ 176، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(وعورة الحرة في الصلاة وعند الأجنبي) ولو خارجها (جميع بدنها إلا الوجه، والكفين)] اهـ.
- وعند السادة الحنابلة: قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (1/ 431، ط. مكتبة القاهرة): [رُخِّصَ لها في كشف وجهها وكفَّيْها؛ لما في تغطيته من المشقة، وأبيح النظر إليه لأجل الخطبة] اهـ.
وقد استدل الجمهور على ذلك بأدلة كثيرة من القرآن والسنة:
۞ فمن القرآن: قوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ [النور: 31] أي موضعها، فالكحل زينة الوجه، والخاتم زينة الكف، كما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تفسير الزينة الجائز إظهارها: وجهها، وكفاها، والخاتم. قال ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية: "ورُوي عن ابن عمر، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، والضحاك، وإبراهيم النخعي، وغيرهم نحوُ ذلك".
۞ ومن السُّنة: ما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمٍ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا (وجاء في بعض الروايات: وكَانَتِ امْرَأَةً حَسْنَاء) وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، وَذَلِكَ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ. ولو كان الوجه عورة يلزم ستره لَمَا أقرها عليه الصلاة والسلام على كشفه بحضرة الناس، ولأمرها أن تسبل عليه من فوق، ولو كان وجهها مغطًّى ما عرف ابن عباس رضي الله عنهما أحسناء هي أم شوهاء.
وروى البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ»، ولو كان الوجه والكف عورة ما حَرُم سترهما.
وروى مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وفيه تذكير النبي صلى الله عليه وآله وسلم النساءَ بالصدقة لِتَوَقِّي النار، فقالت امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ -أي من خيارهن- سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ: لِمَ يا رسول الله..؟ إلخ، وفيه إشارة إلى أن المرأة كانت كاشفة عن وجهها، وأن راوي الحديث رأى ذلك منها، ولحديث السيدة عائشة رضي الله عنها الذي سبق ذكره وفيه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا أَسْمَاءُ، إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا» وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ. رواه أبو داود وغيره. وغير ذلك من الأحاديث.
وأيضًا فإن الحاجة تدعو إلى إبراز الوجه للبيع والشراء، وإلى إبراز الأكُفِّ للأخذ والعطاء.
ومن رأى من العلماء وجوب النقاب استدل ببعض النصوص المحتملة، وقد أجاب عنها الجمهور بأن ما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، وإذا تعارضت الأدلة فالأصل براءة الذمة من التكليف.
والراجح ما عليه الجمهور من جواز كشف المرأة وجهها وكفيها، وهو الذي عليه العمل والفتوى في الديار المصرية، أما المجتمعات الأخرى التي يتناسب معها مذهب الحنابلة، فلا بأس بأن تلتزم النساء فيها بهذا المذهب لموافقته لعاداتها وعدم ارتباطه بتدين المرأة، إذا جرى العرف عندهم بأن تغطي المرأة وجهها؛ فإن قضية الثياب مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بعادات الناس وأعرافهم.