من ممالك النار للـ”الاختيار”.. مواجهة الاختراق التركي للعقل العربي
منذ أن تولي حزب العدالة والتنمية مقاليد السلطة في تركيا في عام 2002، بدا واضحاً انتهاج تركيا لاستراتيجية عظمي تهدف لإعادة وضعها في الإقليم كقوة مركزية تستند إلى مزاعم استحقاقات تاريخية تعود بالزمن للوراء خمسمائة عام، وتحديداً وقت نشوء الدولة العثمانية بين جنبات هضبة الأناضول ومناطقها الرعوية. بيد أن تلك الاستراتيجية العظمي شملت أبعاد متعددة، بل؛ متداخلة أيضاً، بين توظيف مختلف أدوات القوة الصلبة والناعمة بمرونة أحياناً كثيرة، وبتنسيق مُحكَم.
تعرضت الاستراتيجية العظمي التركية لاستعادة الدور التاريخي، لتحولات جوهرية في العشرية الأولي من حكم العدالة والتنمية، أفضت بدورها لبروز ركائز معينة في الاستراتيجية وتعاظم دورها على قدر لم يكن في حُسبان المخططين الأتراك، من هذه الركائز كانت أدوات القوة الناعمة دائماً في المقدمة ولاسيما الأعمال الفنية الدرامية.. فما هي التحولات التي أدت لتعاظم مهامها ودورها في الاستراتيجية الرامية لاستعادة “الاستحقاق التاريخي” التركي المزعوم في العشرية الأولي من حكم العدالة والتنمية؟
أولاً: بروز معضلة الإسلام السياسي في السياسة الخارجية الغربية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وتوهم نخبة الساسة الغربين بإمكانية تخليق نموذج حكم إسلامي معتدل يمكن التعويل عليه فيما يُعرف بالعالم الإسلامي، ومشاركته في درء خطر التطرف والإرهاب العابر للحدود.
ثانياً: تراجع رهانات تركيا الأوروبية مع الانهيار المبكر للعملية التفاوضية التي انطلقت من أجل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. ما دفع توجه تركيا بأنظارها إلى ثلاثة دوائر رئيسية (العربية – الإسلامية – آسيا الوسطي) كونها مجال شد وتر قوس الهيمنة.
وعليه، فإن تركيا انتهجت سياسة إيجابية نشطة تجاه دول جوارها ومحيطها العربي والإسلامي في الفترة (2002-2010)، بالرغم من بداية إعادة هندسة الإقليم منذ غزو العراق عام 2003، علي أسس طائفية، حيث أفرز الغزو العديد من التحولات الأمنية التي مهدت بصورة مباشرة للتأسيس لتوجهات سياسية تركية متغيرة تجاه المنطقة. ومع انخفاض محفزات وفرص استخدام القوة الصلبة لتحقيق الأهداف التركية، ظهرت محورية تفعيل ما أسمته نخبة العدالة والتنمية ” التغلغل الناعم “، أيّ توظيف أدوات القوة الناعمة في محيط إسلامي وعربي.
كعادة مصطلحات العلوم السياسية،
يأتي مصطلح القوة الناعمة مرواغِ إلي حدِ كبير، وحاز عن نصيب من اهتمام علماء السياسة والأنثروبولوجي ومنظري الاستراتيجية العسكرية، لكن تعريف جوزيف ناي كان كما الأول؛ الأبرز كذلك في حقل العلاقات الدولية، حيث عني بالقوة الناعمة: ” القدرة علي التأثير في سلوك الآخرين عبر الجاذبية والاحتواء وليس عبر الإكراه “. من هذا المنطلق ذهبت تركيا لتدعيم صناعة الدراما – رأس سهم التغلغل – للتأثير في نظرة الملايين من المتلقين لتركيا ونظامها السياسي ومكوناتها الاجتماعية وجذبهم لمسافة أقرب للتعاطف مع تركيا وأفكارها.
عملية صناعة الدراما، لم تُطلق للعشوائية بل يمكن القول أنها باتت من بنات الأفكار العريضة لاستراتيجية التغلغل الناعم، وعليه، جاء ضمن تراتبية راعت إلى حد كبير الظرف الاستراتيجي التي تعيشه تركيا، عبر مرحلتين رئيسيتين:
- تخليق الصورة الذهنية (2005-2010): وفي هذه المرحلة اتسمت الأعمال الدرامية التركية بالطابع “المجتمعي”، حرص القائمون بها علي ترسيخ صورة ذهنية عن تركيا المتحضرة والراقية صاحبة الرفاهية المعيشية، إذ حاول صناع الدراما في هذه الفترة “أوربة” تركيا نظاماً حاكماً وشعباً، وكانت المحاولات أشبه بادعاء الواجهة الأوروبية عن رسم سياسات التقارب مع الدائرة العربية، وذلك من خلال أجزاء مسلسلات “نور ومهند” و”سنوات الضياع”، وما تلاها من أعمال عززت من ادعاءات التفوق الحضاري والرقي الثقافي التركي علي المحيط العربي.
- بث رسائل الشخصية القومية التركية (2011-2020): هنا، وبعد أن انتهت سياسات الانخراط الإيجابي النشط لتركيا مع دول جوارها ومحيطها، اشتبكت أنقرة مع الجغرافيا السياسية علي نحو عنيف، فدعمت صعود تنظيمات الإسلام السياسي لسدة الحكم في وخاصة في دول شمال إفريقيا، وأدارت شبكة واسعة من التنظيمات المسلحة – أكثر من 20 فصيل وتنظيم مسلح – تعمل تحت إمرة أجهزة استخباراتها في شمال سوريا وغرب ليبيا، وتحظي بدعم مالي ولوجيستي وعسكري سخي، وصل إلي حد توفير التغطية الميدانية للتنظيمات والميليشيات المسلحة والاشتباك الميداني المباشر مع خصوهم ولاسيما الجيش الوطني الليبي. حيث ظهرت جلياً نزعة الهيمنة علي دول الجوار العربي في العقل السياسي التركي. علي وقع الحدة المتزايدة لتصريحات المسؤولين الاتراك عن الاستحقاق التاريخي المزعوم لبلادهم، بدءاً من شمال العراق وصولاً لشمال إفريقيا وشرق المتوسط، زادت كثافة الأعمال الفنية التركية ذات الطابع القومي التاريخي (أرطغرل – السلطان عبد الحميد)، وبدا واضحاً أن هذه المرحلة ما كانت لتأتي لولا نجاح أنقرة في المرحلة الأولي بالاستحواذ علي ملايين العقول الذين انبهروا بادعاءات الوجاهة الأوروبية لتركيا. فكان التغلغل في هذه المرحلة وجهاً جديداً لتطلعات الشخصية القومية التركية للهيمنة الإقليمية، وهو وجه رغم قِدم ما يصبوا ليه، إلا أنه يُراعي ويستوعب متغيرات العولمة المعرفية، ما جعله وجهاً يحظى بالقبول لدي قطاعات كثيرة من الشرائح المجتمعية المتدينة والتي تشهد اضطراباً في الانتماء للوطن أم للعقيدة والدين؟.
الدعم القومي التركي للتغلغل الناعم
في هذه الأثناء، وصلت تكلفة إنتاج الساعة الواحدة من أي مسلسل تركي إلى 100 ألف دولار، وفي حين كانت صادرات تركيا من الدراما في 2008 لا تتجاوز 10 ملايين دولار، وصلت لأكثر من 350 مليون دولار في 2018.
كما زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تصوير مسلسل “أرطغرل”، واصطحب أبطاله إلى بعض دول الخليج، مما يؤكد رغبة النظام التركي في إبراز مقومات الشخصية القومية التركية، التي باتت الآن تُوظف أدوات الإسلام السياسي لخدمة أهدافها التوسعية.
نسبة مشاهدات المسلسلات التركية زادت بعدها بشكل لافت، وخاصة بعد انتهاج الحكومة التركية لخطط مدروسة بعناية لتسويق المسلسلات علي شبكة “نتفلكس”، إذ أصبح يتابعها أكثر من نصف مليار شخص في أكثر من 140 بلدا حول العالم، الأمر الذي دفع أنقرة علي التخطيط من أجل رفع أرباحها من الدراما إلى مليار دولار بحلول عام 2023.
ويصل معدل الإنتاج السنوي من المسلسلات في تركيا إلى أكثر من 70 مسلسلاً، فيما يتم تصدير ما بين 10 إلى 15 مسلسلا من بقية المسلسلات التي تحقق نجاحاً كبيراً إلى خارج تركيا. وتتم دبلجتها إلى عدد من اللغات، علي رأسها العربية. وذلك لتغييب الميراث السيئ للاستعمار العثماني ومحاولة حرف الهوية والثقافة الوطنية للدول المستهدفة عن جذورهما.
الهبّة العربية .. التراكم الفني والإرث الثقافي يهدد 15 عاماً من التغلغل التركي الناعم
مع اشتداد المبارز الاستراتيجية بين تركيا والدول العربية الوطنية خاصة تلك التي تدعم مشروع الدولة الوطنية والقومية الجامعة. ووصولها إلي حد المواجهة العسكرية الغير مباشرة عبر وكلاء ميليشياويين، ظهرت الحاجة المُلِحة لتقويض “المكاسب الناعمة” لأنقرة، ولاسيما بعد استخدام القصر الرئاسي التركي ومعه وزارة الدفاع لمصطلح “العناصر المحلية الداعمة” في وصف السوريين المتعاونين مع الأجهزة التركية لتسهيل عمليات قضم واحتلال الأراضي بالشمال السوري. لكن المحصلة ظهرت كونها ثقيلة أمام الدول العربية المواجهة لمشروع تركيا التوسعي، إذ ماتزال أنقرة تتربع علي عرش صناعة الدراما في الإقليم، وجندت ملايين العقول، وباتت 15 عاماً من التغلغل والاختراق الناعم في ركن بعيد من الصعب الوصول إليه لتقويضه، إلا أن ظهرت بوادر أعمال فنية واقعية وتاريخية، شقّت بأسافين إرث 15 عاماً من غسيل الأدمغة، وكان ذلك عبر:
- مسلسل ممالك النار، من انتاج شركة جينوميديا الإماراتية، وكان مثال حقيقي للتضافر والتكامل العربي في المجال الفني والدرامي. إنتاج إماراتي ومساهمة سعودية وبطولة مصرية، وتصوير في الأراضي التونسية، مسلسل استوعب العقليات العربية الرائدة في فن الإنتاج والتصوير الدرامي والسرد التاريخي ليثبت حالة تاريخية يحتاجها العرب في الوقت الحاضر ويسعون لتوثيقها في ذهن المشاهد. حيث تناول التحولات الكبرى في المنطقة العربية بعد وقوع معركة جالديران بين العثمانيين بقيادة سليم الأول والدولة الصفوية التي حكمت بلاد فارس في إيران، وانتهت بهزيمة الصفويين التي مهدت للعثمانيين الدخول الى بلاد العرب في مصر والشام من خلال معركة مرج دابق التي انتصر فيها العثمانيين على المماليك بقيادة قنصوة الغوري.
ويبرز مسلسل ممالك النار من خلال أحداثه الدور التاريخي لـ السلطان طومان باي آخر سلاطين المماليك في مصر، الذي جسده خالد النبوي، والذي انتهت عنده دولة المماليك في مصر على يد العثمانيين الذين شنقوه على باب زويلة. برز المسلسل الجرائم التي ارتكبها العثمانيون ببلاد الشام ومصر، واظهر بحق بعضاً من سمات الشخصية القومية التركية الحقيقية هذه المرة. وأثار المسلسل استهجان المسؤولين الأتراك من ضمنهم مستشار الرئيس اردوغان، ياسين أقطاي الذي كتب مقالتين يهاجم فيها المسلسل ويعتبره محاولة للتخفيف من تأثير وقع المسلسلات التركية في العالم العربي التي تحظي بمتابعة كبيرة. حقق المسلسل نجاحاً كبيراً في الأوساط الشعبية والنخبوية التي استجابت بصورة إيجابية للرسائل المنضوية بداخله، وتتحدث عن تصحيح وقائع التاريخ وإعزاز قيم التضحية والوطنية.
- الاختيار، عمل مصري خالص، يُعرض طوال شهر رمضان، ويحكي سيرة شهيد مصري كتب له القدر أن يتصدر مشهد البطولة والإباء. يعرض المسلسل قصة الشهيد المصري، العقيد أركان حرب أحمد المنسي، الذي استشهد في معركة البرث في 7 يوليو 2017. يبرز المسلسل العقيدة الإخوانية ودورها الهدّام، وتقديمها مصالحها الذاتية علي مصلحة أي وطن تعيش فيه، كما يوضح صورة مبسطة عما يعيشه أفراد القوات المسلحة من حرب ضد عصابات بعيدة كل البعد عن صحيح الدين ورفعة الإنسان في الأرض. يحقق المسلسل في أيامه الأولي نجاحاً كبيراً، ليس لتصويره الإبداعي للمعارك، وإنما لتطرقه لمعانِ موجودة في أعماق وعي المصريين، الذين يعدون الأكثر غزارة إنتاجية وفنية إبداعية في إقليم الشرق الأوسط، بالرغم من غزو المسلسلات التركية طيلة 15 عاماً. هذه المعان تتمحور حول فكرة التضحية والوطنية وإنكار الذات في حالة الحرب.
وعليه، فإن التجربتين العربيتين في مضمار تصحيح المفاهيم واستعادة بوصلة التوجيه التاريخي قد كشفتا عن الآتي:
- لا يفل الدراما إلا الدراما: إذ لا يمكن مواجهة وتقويض التزييف التركي لوقائع التاريخ بما يتماشي مع مقومات الشخصية القومية التركية التي تدعي حيناً الوجاهة الغربية، وحيناً أخري الرداء العربي والإسلامي؛ إلا بأعمال درامية مماثلة تعرض الحقيقة المجردة التي تثري بها ميادين القتال والمواجهة المصرية علي وجه الخصوص. وما يدعم ذلك، وجود تراكم فني وثقافي كبير للغاية لدي الدولة المصرية، والدليل “عثمان الجبار”!. فهو اسم فيلم تركي بين عشرة أفلام لعب بطولتها فريد شوقي، في إسطنبول نهاية ستينيات القرن المنصرم، وحتى مطلع السبعينات، وحظي في أكثر من مهرجان، بجائزة أفضل ممثل، واعتبروه النجم الشعبي الأول في الشارع التركي.
- إرث 15 عاماً تأكله وقائع معركة: علي الرغم من تعرض الكتلة الشعبية المصرية لجُل منتوج انقرة الدرامي التاريخي، ولاسيما في الأقاليم المصرية، إلا أن اعتزاز الشخصية المصرية بمؤسستها العسكرية يظل الغالب في معارك تحديد المصير. فالتفاف عشرات الملايين من المصريين كل ليلة أمام عمل درامي يستند لقصة معاصرة حقيقية ويقوم بتعزيز قيم الولاء والانتماء والتضحية للوطن؛ يضرب عرض الحائط، بمئات الحلقات عن مجموعة رعوية عاشت قبل 500 عام تدعي نصرة الدين.
المرصد المصرى