الغوطة الشرقية.. سيناريوهات متعددة لمعركة الثورة الأخيرة
بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
ظلت غوطة دمشق الشرقية طيلة أعوام الثورة عصية على عدوان نظام الأسد والميليشيات الشيعية الإيرانية, ما جعل منها دعامة عسكرية للثورة, ورافدا سياسيا للمعارضة في كل المحافل الدولية, فضلا عن كونها شوكة في عين نظام الأسد, الذي ما برح يحاول حسم معركتها عسكريا باستهدافها بالأسلحة الكيماوية, وبالحصار المميت.
لفتت الغوطة انتباه إيران بعد أن بنت قاعدة عسكرية بالقرب من مطار دمشق الدولي, الذي سخرته لاستقبال أسلحتها وتهريب ميليشياتها, وتعرض قوافلها العسكرية الذاهبة إلى "حزب الله" لهجمات صاروخية من قبل ثوار الغوطة.
هذه المدركات، وضعت غوطة دمشق برمتها كهدف لقوات الأسد وميليشيات إيران, وقيامها بمحاولات متكررة لحسم معركة الغوطة عسكريا، لكن كان فشلها ذريعا في كل مرة, على الرغم من أن استخدام الأسد الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين في الغوطة.
بادرت فصائل الغوطة بهجوم معاكس بهدف السيطرة على دمشق, فأوقف تقدمها قرار إقليمي دولي لمنع سقوط بشار الأسد, وهذا ما أكدته طهران وموسكو تباعا, ومع تطور الحرب السورية والاقتتال الداخلي بين فصائل الغوطة, تمكن نظام الأسد من إطباق الحصار الكامل على الغوطة, وفي الآونة الأخيرة كثف القصف عليها بغطاء جوي روسي, ترافقه حملة إعلامية لمحور الأسد وإيران وروسيا, ليتحول محيط الغوطة إلى ثكنة عسكرية تنتظر لحظة الانفجار الكبير في معركة غير متكافئة بين قوة المهاجم الذي يملك الطيران والعتاد العسكري, والمدافع الذي لا يملك سوى تكتيكات دفاعية, وخبرة سنوات طويلة في حرب المدن.
أمام استمرار المعارك طرأت تغيرات شتى على خارطة السيطرة ونمط القتال وخططه وإمكانياته ومواقف الأطراف في التحالفات والتكتلات, وظلت معركة دمشق مثار جدل حول تعثر فصائل الثورة المسلحة الذي أفضى إلى تهجير ممنهج ودمار مدن وبلدات على رؤوس أهلها.
تناقش هذه الورقة المعركة المستمرة والمفتوحة في غوطة دمشق بين فصائل الثورة السورية المسلحة من جهة, وبين قوات نظام الأسد والميليشيات الشيعية الطائفية المدعومة بالطيران الروسي من جهة أخرى.
ونمهد باستعراض تحليلي موجز لأهمية الغوطة في بعدها العسكري المتصل بنتائج المعركة وأهدافها, ونتناول بالتحليل جوانب هذه المعركة, خططا وتفاعلات ونتائجا, كما نقف على آفاقها المحتملة اعتمادا على توجه عجلة المعارك ومحركاتها التي ستقلب الموازين في سياق مآلاتها.
أهمية الغوطة ومعركتها
يمكن وصف معركة غوطة دمشق, بأنها الجانب الأكثر حساسية وتأثيرا في مسار الثورة باعتبارها جزءا من العاصمة السياسية (سفارات وقنصليات ومطار دولي), وتتركز فيها مواقع وغرف عمليات الميليشيات الإيرانية الشيعية التي تحتل مفاصل العاصمة, وبمحاذاتها يمر خط إمداد إيران إلى ميليشيا "حزب الله" اللبناني من مطار دمشق الدولي عبر منطقة القلمون الغربي وصولا إلى ضاحية بيروت الجنوبية.
ويتبع ذلك قيمة استراتيجية وجيواستراتيجية للغوطة التي يخترقها نهر بردى، مما أعطاها ميزة اقتصادية كانت عاملا استراتيجيا في صمود أهلها على مدار سنيّ الثورة. وتكمن أهمية الغوطة في كونها أهم منطقة دمشقية صامدة في وجه الإيرانيين وحليفهم الأسد, وهو ما وضعها في خريطة من يسعى لتحقيق نصر عسكري وسياسي.
حصار السنوات الخمس
بعد العجز عن استعادتها عسكريا, فإن نظام الأسد ومعه الميليشيات الإيرانية, اتبعا في غوطة دمشق استراتيجية الحصار حتى الموت, ومنذ ما قبل خمسة أعوام ونيف باتت جميع المداخل المؤدية إلى غوطة دمشق الشرقية مغلقة، لانتشار الحواجز العسكرية التابعة لنظام الأسد التي تمنع دخول أية مواد غذائية أو طبية، ولا خروج أو دخول المدنيين، لتدخل الغوطة في حصار خانق, فالتهبت الأسعار لتصل حدا لا يمكن لأغلب الأهالي الذين يعانون قبل الثورة ظروفا معيشية صعبة إمكانية تحمل ذلك, كما توقفت كل المرافق العامة والخدمات عن العمل, ولم تقتصر أبعاد الحصار على تأمين الحاجات الأساسية بل تعدته إلى تفشي أمراض يعجز الكادر الطبي عن معالجتها أو الحد منها.
وللإغراق أكثر في تفاصيل مآسي الحصار, فإن هناك مثلا عائلات بأكملها لا تأكل بشكل يومي، ومنها تأكل وجبة واحدة في اليوم وأحيانا الوجبة الواحدة في يومين, وطعام الكثير من العائلات اقتصر على ما هو متوفر من زراعة محلية لا تكفي الاستهلاك المحلي, فنتج عن ذلك ظهور الأعراض المرضية على معظم سكان الغوطة، كنقص التغذية والتهاب الأمعاء، والتهاب الأعصاب وضعف الأسنان بسبب نقص الفيتامينات، فلا وجود للحليب ومشتقاته كما أن اللحوم أصبحت مرتفعة السعر.
وكي تكتمل فصول المعاناة، فإن سكان الغوطة لا يخفون خيبة أملهم بمن يفترض بهم حمايتهم أو العمل على تأمين متطلباتهم، فقد كانوا يترقبون رداً حاسماً يخلصهم من حصارهم, من فصائل الغوطة المسلحة التي باتت تأكل بعضها بعضا, بعدما كشفت الوقائع والأحداث في الغوطة والاجتياحات المتبادلة بين الفصائل أن العامل الخارجي يلعب الدور الأكبر في تحريك المكنة الفصائلية في كافة الاتجاهات, ويتجلى للمراقب عن كثب أن أدوارا متبادلة تتقاسمها الفصائل المسلحة في إخضاع مناطق نفوذهم للسيطرة الكاملة, وإن كان "جيش الإسلام" صاحب الحظ الوافر في الغوطة لما يتمتع به من نفوذ وسيطرة عسكرية.
مما أضاف لأهالي الغوطة موتا آخر لا يقل بشاعة عن الإبادة الجماعية التي ارتكبها نظام الأسد باستخدامه السلاح الكيماوي ضد المدنيين قبل خمسة أعوام والتي تعتبر مرحلة جديدة في إزهاق أرواح آلاف المدنيين من أهالي الغوطتين الشرقية والغربية، وسط صمت المجتمع الدولي وأكاذيبه المفضوحة في محاسبة الجاني، حيث اكتفى بتجريده من سلاحه الكيماوي, والعويل على أرواح أطفال الغوطة وإدانة الأمم المتحدة لنظام الأسد وهي أشبه بالمضغ بلا أسنان.
وقد جرت تلك المجزرة في 21 آب 2013م, وقضى فيها نحو 1400 شخص، جلّهم من النساء والأطفال.
محققون أمميون قالوا "إن الأسلحة الكيميائية التي استعملت في منطقة الغوطة خرجت من مخازن جيش نظام الأسد". وأجمعت التقارير على أن "أجهزة مخابرات عدد من الدول الغربية ذهبت في تقصيها للحقيقة إلى مسؤولية نظام الأسد عن الهجوم بغاز السارين السام على المدنيين في منطقة الغوطة، ومنها تقرير الاستخبارات الفرنسية وكذلك الألمانية".
أما منظمة "هيومن رايتس ووتش" فأكدت بعد أكثر من أسبوعين من الهجوم حصولها على أدلة توضح وقوف قوات نظام الأسد وراء مجزرة الغوطة، وأشارت إلى أن حمولة كل صاروخ تجاوزت55 ليترًا من غاز السارين، وأكّدت أيضًا أن شكل الصاروخ المُستخدم مميز ولم يُرَ مثله خارج سوريا، وأوضحت أن لديها صورًا سابقة لمثل هذا النوع من الصواريخ الموجود في حوزة جيش الأسد، ما يؤكد بالنسبة إلى المنظمة، وبما لا يدع مجالًا للشك، أن قوات نظام الأسد هي من استخدمت هذه الصواريخ.
غير أن الأسد"الممانع" نجا من العقاب بعد قيام إسرائيل بتسوية قضية أسلحته الكيماوية بالتعاون مع الروس لتجنيبه ضربة أميركية من جهة، وتخليص أوباما المنصرف من ورطة خطه الأحمر من جهة أخرى، وتدمير هذا السلاح الذي ربما يهدد "أمن إسرائيل".
تكتيك المعركة
في كل المعارك التي خاضتها فصائل الغوطة ضد قوات نظام الأسد لم تصل إلى مدى بعيد يهدد نظام الأسد, نتيجة المواقف الدولية الداعمة لتثبيته, وعلى رأس تلك الدول "إسرائيل" التي ساندته سياسيا في تجاوز العقاب الدولي جراء استخدامه الأسلحة الكيماوية, منعا لوصول أي نظام ديمقراطي في سورية يهدد فعليا "إسرائيل" التي تحتل الجولان السوري.
أمام اندفاعة الميليشيات الإيرانية والحملة الجوية الروسية الشرسة, فإن نجاح فصائل المعارضة يتطلب إغلاق الفجوات التي يعتزم المهاجمون إحداثها بين مدن وبلدات الغوطة لإيجاد ثغرات على شكل ألسنة ممتدة تفضي إلى تطويقها وإحكام السيطرة عليها, وستعمد الميليشيات المهاجمة إلى شن هجوم منظم من محورين: الأول محور المرج في محاولة لاستكمال السيطرة على بساتين الغوطة التي تعد السلة الغذائية لأهالي الغوطة, والثاني هجوم على كافة أحياء المدن, وبالأخص على دوما, وفي حال تمكنت الفصائل من تثبيت مواقعها ستتجه إلى شن هجمات خاطفة كما فعل جيش الإسلام في هجومه على منطقة المشافي القريبة من الطريق الدولي.
لذلك تجري معركة الغوطة الشرقية وفق خطط وآليات فرضتها الأحداث العسكرية على فصائل الثورة المسلحة التي تحولت من وضعية الهجوم إلى الدفاع وتطويره, واتجهت في مناطق التماس مع العدو في اعتماد استراتيجية دفاعية تشمل استخدام الألغام الأرضية لدعم الدفاع عن النقاط الرئيسية, كخط دفاعي أول لإعاقة أي هجوم بري, وأي مناطق تتيح طبيعتها العسكرية عمل رأس جسر من ميليشيات إيران المتدفقة على الغوطة, فيما تشكل حرب الشوارع (المدن والبلدات) خط الدفاع الثاني الذي باتت خططه جاهزة، تدعمها إمكانيات بشرية ومهارات قتالية نوعية عند فصائل الغوطة, لا تتوفر لدى الميليشيات والمرتزقة والشبيحة حديثي الالتحاق بمكاتب "واغنر" وشركات الخميني العسكرية, فيما تواصل روسيا بطيرانها حصد أرواح المدنيين التي تجاوزت خلال أربعة أيام أكثر من 300 مدني بالإضافة إلى مئات الجرحى وتدمير مناطق واسعة في بلدات ومدن الغوطة.
مستقبل الغوطة
في ضوء الهجمة الشرسة يمكن تصور المآل المحتمل لغوطة دمشق وفق عدة رؤى, يقف على رأسها خيار الحسم العسكري لتقرير مصيرها, بعد أن بات أولية لدى المعتدين, وفقًا لتصريحات الروس تحت مبررات واهية, فضلا عن أن ما يجري في الغوطة هو استكمال لاستراتيجية موسكو في إخضاع الثورة السورية, سواء بخيار القوة أو بالخيار السياسي, وفي ظل هذا الخيار، تجدر الإشارة إلى أن قوات الأسد هي رديف للقوات المهاجمة كالميليشيات الشيعية الإيرانية واللبنانية والعراقية, ومرتزقة "واغنر" الروسية, وفي حال عجزهم عن التقدم إلى قلب الغوطة, سيطالب الروس بإخراج فصيل "هيئة تحرير الشام", ريثما تحين الظروف لاستكمال السيطرة على المنطقة, أما في حال صمود فصائل الغوطة في وجه الهجمة الشرسة, واستمرار حمامات الدم المتدفقة من أجساد الأطفال والنساء, فالمجتمع الدولي بكل ضعفه سيضطر وفقا لمصالحه لإدخال الأمم المتحدة لتدويل الغوطة من باب تسهيل وصول المساعدات الإنسانية في ظل الحملة الجوية والبرية التي تشرف عليها وترعاها روسيا، حيث تفرط في قتل المدنيين لأسباب تخص مصالحها, وبما أن قانون الحرب يضع على عاتق روسيا مسؤولية حماية المدنيين, لذلك ستسارع روسيا إلى استصدار قرار من مجلس الأمن يبيح لها الاستمرار في القتل بذريعة محاربة الإرهاب واستكمال مخططها مع إيران لاحتلال آخر منطقة ملاصقة للعاصمة دمشق, وبالتالي سنشهد في الأيام القليلة القادمة صراعا محموما بين الدول المتنافسة على سورية, وستكون مجازر الغوطة إحدى أدوات المتاجرة بأرواح المدنيين.
بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
ظلت غوطة دمشق الشرقية طيلة أعوام الثورة عصية على عدوان نظام الأسد والميليشيات الشيعية الإيرانية, ما جعل منها دعامة عسكرية للثورة, ورافدا سياسيا للمعارضة في كل المحافل الدولية, فضلا عن كونها شوكة في عين نظام الأسد, الذي ما برح يحاول حسم معركتها عسكريا باستهدافها بالأسلحة الكيماوية, وبالحصار المميت.
لفتت الغوطة انتباه إيران بعد أن بنت قاعدة عسكرية بالقرب من مطار دمشق الدولي, الذي سخرته لاستقبال أسلحتها وتهريب ميليشياتها, وتعرض قوافلها العسكرية الذاهبة إلى "حزب الله" لهجمات صاروخية من قبل ثوار الغوطة.
هذه المدركات، وضعت غوطة دمشق برمتها كهدف لقوات الأسد وميليشيات إيران, وقيامها بمحاولات متكررة لحسم معركة الغوطة عسكريا، لكن كان فشلها ذريعا في كل مرة, على الرغم من أن استخدام الأسد الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين في الغوطة.
بادرت فصائل الغوطة بهجوم معاكس بهدف السيطرة على دمشق, فأوقف تقدمها قرار إقليمي دولي لمنع سقوط بشار الأسد, وهذا ما أكدته طهران وموسكو تباعا, ومع تطور الحرب السورية والاقتتال الداخلي بين فصائل الغوطة, تمكن نظام الأسد من إطباق الحصار الكامل على الغوطة, وفي الآونة الأخيرة كثف القصف عليها بغطاء جوي روسي, ترافقه حملة إعلامية لمحور الأسد وإيران وروسيا, ليتحول محيط الغوطة إلى ثكنة عسكرية تنتظر لحظة الانفجار الكبير في معركة غير متكافئة بين قوة المهاجم الذي يملك الطيران والعتاد العسكري, والمدافع الذي لا يملك سوى تكتيكات دفاعية, وخبرة سنوات طويلة في حرب المدن.
أمام استمرار المعارك طرأت تغيرات شتى على خارطة السيطرة ونمط القتال وخططه وإمكانياته ومواقف الأطراف في التحالفات والتكتلات, وظلت معركة دمشق مثار جدل حول تعثر فصائل الثورة المسلحة الذي أفضى إلى تهجير ممنهج ودمار مدن وبلدات على رؤوس أهلها.
تناقش هذه الورقة المعركة المستمرة والمفتوحة في غوطة دمشق بين فصائل الثورة السورية المسلحة من جهة, وبين قوات نظام الأسد والميليشيات الشيعية الطائفية المدعومة بالطيران الروسي من جهة أخرى.
ونمهد باستعراض تحليلي موجز لأهمية الغوطة في بعدها العسكري المتصل بنتائج المعركة وأهدافها, ونتناول بالتحليل جوانب هذه المعركة, خططا وتفاعلات ونتائجا, كما نقف على آفاقها المحتملة اعتمادا على توجه عجلة المعارك ومحركاتها التي ستقلب الموازين في سياق مآلاتها.
أهمية الغوطة ومعركتها
يمكن وصف معركة غوطة دمشق, بأنها الجانب الأكثر حساسية وتأثيرا في مسار الثورة باعتبارها جزءا من العاصمة السياسية (سفارات وقنصليات ومطار دولي), وتتركز فيها مواقع وغرف عمليات الميليشيات الإيرانية الشيعية التي تحتل مفاصل العاصمة, وبمحاذاتها يمر خط إمداد إيران إلى ميليشيا "حزب الله" اللبناني من مطار دمشق الدولي عبر منطقة القلمون الغربي وصولا إلى ضاحية بيروت الجنوبية.
ويتبع ذلك قيمة استراتيجية وجيواستراتيجية للغوطة التي يخترقها نهر بردى، مما أعطاها ميزة اقتصادية كانت عاملا استراتيجيا في صمود أهلها على مدار سنيّ الثورة. وتكمن أهمية الغوطة في كونها أهم منطقة دمشقية صامدة في وجه الإيرانيين وحليفهم الأسد, وهو ما وضعها في خريطة من يسعى لتحقيق نصر عسكري وسياسي.
حصار السنوات الخمس
بعد العجز عن استعادتها عسكريا, فإن نظام الأسد ومعه الميليشيات الإيرانية, اتبعا في غوطة دمشق استراتيجية الحصار حتى الموت, ومنذ ما قبل خمسة أعوام ونيف باتت جميع المداخل المؤدية إلى غوطة دمشق الشرقية مغلقة، لانتشار الحواجز العسكرية التابعة لنظام الأسد التي تمنع دخول أية مواد غذائية أو طبية، ولا خروج أو دخول المدنيين، لتدخل الغوطة في حصار خانق, فالتهبت الأسعار لتصل حدا لا يمكن لأغلب الأهالي الذين يعانون قبل الثورة ظروفا معيشية صعبة إمكانية تحمل ذلك, كما توقفت كل المرافق العامة والخدمات عن العمل, ولم تقتصر أبعاد الحصار على تأمين الحاجات الأساسية بل تعدته إلى تفشي أمراض يعجز الكادر الطبي عن معالجتها أو الحد منها.
وللإغراق أكثر في تفاصيل مآسي الحصار, فإن هناك مثلا عائلات بأكملها لا تأكل بشكل يومي، ومنها تأكل وجبة واحدة في اليوم وأحيانا الوجبة الواحدة في يومين, وطعام الكثير من العائلات اقتصر على ما هو متوفر من زراعة محلية لا تكفي الاستهلاك المحلي, فنتج عن ذلك ظهور الأعراض المرضية على معظم سكان الغوطة، كنقص التغذية والتهاب الأمعاء، والتهاب الأعصاب وضعف الأسنان بسبب نقص الفيتامينات، فلا وجود للحليب ومشتقاته كما أن اللحوم أصبحت مرتفعة السعر.
وكي تكتمل فصول المعاناة، فإن سكان الغوطة لا يخفون خيبة أملهم بمن يفترض بهم حمايتهم أو العمل على تأمين متطلباتهم، فقد كانوا يترقبون رداً حاسماً يخلصهم من حصارهم, من فصائل الغوطة المسلحة التي باتت تأكل بعضها بعضا, بعدما كشفت الوقائع والأحداث في الغوطة والاجتياحات المتبادلة بين الفصائل أن العامل الخارجي يلعب الدور الأكبر في تحريك المكنة الفصائلية في كافة الاتجاهات, ويتجلى للمراقب عن كثب أن أدوارا متبادلة تتقاسمها الفصائل المسلحة في إخضاع مناطق نفوذهم للسيطرة الكاملة, وإن كان "جيش الإسلام" صاحب الحظ الوافر في الغوطة لما يتمتع به من نفوذ وسيطرة عسكرية.
مما أضاف لأهالي الغوطة موتا آخر لا يقل بشاعة عن الإبادة الجماعية التي ارتكبها نظام الأسد باستخدامه السلاح الكيماوي ضد المدنيين قبل خمسة أعوام والتي تعتبر مرحلة جديدة في إزهاق أرواح آلاف المدنيين من أهالي الغوطتين الشرقية والغربية، وسط صمت المجتمع الدولي وأكاذيبه المفضوحة في محاسبة الجاني، حيث اكتفى بتجريده من سلاحه الكيماوي, والعويل على أرواح أطفال الغوطة وإدانة الأمم المتحدة لنظام الأسد وهي أشبه بالمضغ بلا أسنان.
وقد جرت تلك المجزرة في 21 آب 2013م, وقضى فيها نحو 1400 شخص، جلّهم من النساء والأطفال.
محققون أمميون قالوا "إن الأسلحة الكيميائية التي استعملت في منطقة الغوطة خرجت من مخازن جيش نظام الأسد". وأجمعت التقارير على أن "أجهزة مخابرات عدد من الدول الغربية ذهبت في تقصيها للحقيقة إلى مسؤولية نظام الأسد عن الهجوم بغاز السارين السام على المدنيين في منطقة الغوطة، ومنها تقرير الاستخبارات الفرنسية وكذلك الألمانية".
أما منظمة "هيومن رايتس ووتش" فأكدت بعد أكثر من أسبوعين من الهجوم حصولها على أدلة توضح وقوف قوات نظام الأسد وراء مجزرة الغوطة، وأشارت إلى أن حمولة كل صاروخ تجاوزت55 ليترًا من غاز السارين، وأكّدت أيضًا أن شكل الصاروخ المُستخدم مميز ولم يُرَ مثله خارج سوريا، وأوضحت أن لديها صورًا سابقة لمثل هذا النوع من الصواريخ الموجود في حوزة جيش الأسد، ما يؤكد بالنسبة إلى المنظمة، وبما لا يدع مجالًا للشك، أن قوات نظام الأسد هي من استخدمت هذه الصواريخ.
غير أن الأسد"الممانع" نجا من العقاب بعد قيام إسرائيل بتسوية قضية أسلحته الكيماوية بالتعاون مع الروس لتجنيبه ضربة أميركية من جهة، وتخليص أوباما المنصرف من ورطة خطه الأحمر من جهة أخرى، وتدمير هذا السلاح الذي ربما يهدد "أمن إسرائيل".
تكتيك المعركة
في كل المعارك التي خاضتها فصائل الغوطة ضد قوات نظام الأسد لم تصل إلى مدى بعيد يهدد نظام الأسد, نتيجة المواقف الدولية الداعمة لتثبيته, وعلى رأس تلك الدول "إسرائيل" التي ساندته سياسيا في تجاوز العقاب الدولي جراء استخدامه الأسلحة الكيماوية, منعا لوصول أي نظام ديمقراطي في سورية يهدد فعليا "إسرائيل" التي تحتل الجولان السوري.
أمام اندفاعة الميليشيات الإيرانية والحملة الجوية الروسية الشرسة, فإن نجاح فصائل المعارضة يتطلب إغلاق الفجوات التي يعتزم المهاجمون إحداثها بين مدن وبلدات الغوطة لإيجاد ثغرات على شكل ألسنة ممتدة تفضي إلى تطويقها وإحكام السيطرة عليها, وستعمد الميليشيات المهاجمة إلى شن هجوم منظم من محورين: الأول محور المرج في محاولة لاستكمال السيطرة على بساتين الغوطة التي تعد السلة الغذائية لأهالي الغوطة, والثاني هجوم على كافة أحياء المدن, وبالأخص على دوما, وفي حال تمكنت الفصائل من تثبيت مواقعها ستتجه إلى شن هجمات خاطفة كما فعل جيش الإسلام في هجومه على منطقة المشافي القريبة من الطريق الدولي.
لذلك تجري معركة الغوطة الشرقية وفق خطط وآليات فرضتها الأحداث العسكرية على فصائل الثورة المسلحة التي تحولت من وضعية الهجوم إلى الدفاع وتطويره, واتجهت في مناطق التماس مع العدو في اعتماد استراتيجية دفاعية تشمل استخدام الألغام الأرضية لدعم الدفاع عن النقاط الرئيسية, كخط دفاعي أول لإعاقة أي هجوم بري, وأي مناطق تتيح طبيعتها العسكرية عمل رأس جسر من ميليشيات إيران المتدفقة على الغوطة, فيما تشكل حرب الشوارع (المدن والبلدات) خط الدفاع الثاني الذي باتت خططه جاهزة، تدعمها إمكانيات بشرية ومهارات قتالية نوعية عند فصائل الغوطة, لا تتوفر لدى الميليشيات والمرتزقة والشبيحة حديثي الالتحاق بمكاتب "واغنر" وشركات الخميني العسكرية, فيما تواصل روسيا بطيرانها حصد أرواح المدنيين التي تجاوزت خلال أربعة أيام أكثر من 300 مدني بالإضافة إلى مئات الجرحى وتدمير مناطق واسعة في بلدات ومدن الغوطة.
مستقبل الغوطة
في ضوء الهجمة الشرسة يمكن تصور المآل المحتمل لغوطة دمشق وفق عدة رؤى, يقف على رأسها خيار الحسم العسكري لتقرير مصيرها, بعد أن بات أولية لدى المعتدين, وفقًا لتصريحات الروس تحت مبررات واهية, فضلا عن أن ما يجري في الغوطة هو استكمال لاستراتيجية موسكو في إخضاع الثورة السورية, سواء بخيار القوة أو بالخيار السياسي, وفي ظل هذا الخيار، تجدر الإشارة إلى أن قوات الأسد هي رديف للقوات المهاجمة كالميليشيات الشيعية الإيرانية واللبنانية والعراقية, ومرتزقة "واغنر" الروسية, وفي حال عجزهم عن التقدم إلى قلب الغوطة, سيطالب الروس بإخراج فصيل "هيئة تحرير الشام", ريثما تحين الظروف لاستكمال السيطرة على المنطقة, أما في حال صمود فصائل الغوطة في وجه الهجمة الشرسة, واستمرار حمامات الدم المتدفقة من أجساد الأطفال والنساء, فالمجتمع الدولي بكل ضعفه سيضطر وفقا لمصالحه لإدخال الأمم المتحدة لتدويل الغوطة من باب تسهيل وصول المساعدات الإنسانية في ظل الحملة الجوية والبرية التي تشرف عليها وترعاها روسيا، حيث تفرط في قتل المدنيين لأسباب تخص مصالحها, وبما أن قانون الحرب يضع على عاتق روسيا مسؤولية حماية المدنيين, لذلك ستسارع روسيا إلى استصدار قرار من مجلس الأمن يبيح لها الاستمرار في القتل بذريعة محاربة الإرهاب واستكمال مخططها مع إيران لاحتلال آخر منطقة ملاصقة للعاصمة دمشق, وبالتالي سنشهد في الأيام القليلة القادمة صراعا محموما بين الدول المتنافسة على سورية, وستكون مجازر الغوطة إحدى أدوات المتاجرة بأرواح المدنيين.