لماذا نجح التعريب في مصر والشام والمغرب... وفشل في فارس وتركيا؟

إنضم
7 مارس 2022
المشاركات
13,516
التفاعل
20,329 387 12
الدولة
Egypt
بسم الله الرحمن الرحيم


منذ أربعة عشر قرنًا، لم يكن ما حدث في الشرق والغرب مجرد فتحٍ عسكري، بل كان تحوّلًا حضاريًا غيّر وجه الزمان والمكان. ففي غضون قرون قليلة، غيّرت اللغة العربية خريطة شعوبٍ كاملة، فصارت لسان المصريين، والشوام، والعراقيين، وسكان المغرب العربي من ليبيا إلى موريتانيا، بعد أن كانت هذه الشعوب تتكلم القبطية والآرامية والبربرية ولغات أخرى طُمست أو انكمشت أمام سطوة العربية.


لكن الغريب أن هذا التحوّل لم يحدث في مناطق أخرى دخلها الإسلام مبكرًا، مثل فارس الكبرى والبلاد التركية الممتدة من الأناضول إلى ما وراء النهر. فقد بقي الفرس على لغتهم، وصمدت الفارسية أمام العربية رغم أن القرآن كُتب بها، والحكم الإسلامي استمر في بلادهم لقرون. وكذلك الترك، من السلاجقة إلى الغزنويين والقراخانيين، حافظوا على لسانهم رغم اندماجهم العميق في قلب الحضارة الإسلامية.


وقد جاء هذا الموضوع بدافعٍ من الجدل المتكرّر الذي يثور كلما طُرح سؤال التعريب:
هل حدث بسرعة؟ هل فُرض بالقوة؟ هل كان نتيجة استبدال ثقافي قسري؟
يتكرر الطعن والتشكيك من أكثر من جهة: بعض القوميين العرب يرونه دليلًا على قوة ثقافتهم وهيمنتها الحضارية، وبعض القوميين غير العرب يرونه جرحًا في الهوية وطمسًا لخصوصيات الشعوب. وبين الطرفين، تضيع الحقائق التاريخية تحت سطوة الأيديولوجيا والانفعالات.


قال المؤرخ عبد العزيز الدوري:


"التعريب لم يكن صراعًا بين غالب ومغلوب، بل كان تفاعلاً طويلًا تشكلت فيه الهويات الجديدة من خلال اللغة."

وقال ابن خلدون:


"من غلب بلغة قوم، فقد غلبهم في أمرهم."

أما المستشرق إرنست رينان فأقر بدهشة:


"ما من لغة انتشرت في الأرض بسرعة مثل العربية، وما من لسان قاومها كما قاومتها الفارسية."

هذا الموضوع محاولة لقراءة التجربة كما حدثت: لا تمجيدًا للعروبة، ولا تباكيًا على الهويات، بل فهمًا لما جرى. كيف كانت تلك الشعوب قبل الإسلام؟ ما الذي جعل بعضهم يتحدثون العربية دون قسر؟ ولماذا حافظ آخرون على ألسنتهم؟ ومتى تكون اللغة جسرًا للتلاقي، ومتى تُصبح ساحةً للتنازع؟


رحلة نبدأها من الجاهلية وتمتد إلى العصر الحديث، لفهم كيف تغيّرت ألسنة أمم، وكيف احتفظت أمم أخرى بلسانها… رغم وحدة الدين والمصير.


1754162501209.png
 

مصر قبل الإسلام... أمة مُنهَكة تحت صليب الإمبراطور


حين دخل العرب مصر في منتصف القرن السابع الميلادي، لم يجدوا أمة موحّدة مستقرة، بل أرضًا قد مزقتها الصراعات الإمبراطورية، وأرهقها التنازع بين الدين والسياسة، والهوية المحلية والاحتلال البيزنطي.


كانت مصر في تلك المرحلة خاضعة لحكم الإمبراطورية البيزنطية المسيحية، والتي ورثت الهيمنة الرومانية القديمة، لكنها حافظت على الطابع القمعي للإدارة الرومانية، خاصة في شقّها الاقتصادي والديني. وعلى الرغم من أن المصريين كانوا قد اعتنقوا المسيحية منذ القرن الثاني والثالث الميلادي، إلا أن انقسامهم المذهبي عن بيزنطة (تبنيهم للكنيسة القبطية الوطنية الرافضة لمجمع خلقدونية) جعلهم غرباء في وطنهم.


كتب المؤرخ ويل ديورانت:
"لم تكن مصر رومانية إلا بالقوة، ولم تكن بيزنطية إلا بالقهر. الشعب قبطي، واللغة قبطية، والكنيسة وطنية، ولكن السيف كان أجنبيًا."

اللغة والهوية في مصر من عهد الفراعنة حتى دخول العرب​


كانت مصر، منذ فجر التاريخ، مهدًا لهوية راسخة تتجلى في لغتها الخاصة التي نشأت من رحم حضارة عمرها آلاف السنين. فقد تحدث المصريون القدماء بلسان عرف لاحقًا باسم اللغة المصرية القديمة، والتي تطورت تدريجيًا عبر العصور إلى الهيروغليفية الرسمية، والهيراطيقية الشعبية، ثم إلى الديموطيقية في العصور المتأخرة. كانت هذه اللغة هي جوهر الشخصية المصرية، لا تقتصر على الكلام فحسب، بل في طقوسهم، ومعتقداتهم، ونصوصهم المقدسة، وصولًا إلى كتاب الموتى والمراسيم الملكية.


غير أن هذه اللغة لم تسر في مسارٍ هادئ؛ فمع كل غزو أجنبي، تعرضت لهوية مصر اللغوية لهزات عنيفة. حين دخل الفرس إلى مصر في القرن السادس قبل الميلاد، لم يحاولوا فرض لغتهم الزرادشتية أو الفهلوية، بل تركوا الإدارة للمصريين، غير أن الانهيار الذي خلفه احتلالهم أعاق تطور اللغة وأضعف مكانتها أمام النخب. ثم جاء الإسكندر الأكبر، حاملاً معه روح اليونان وآلهة الأولمب، فبدأت مرحلة جديدة من التغريب الثقافي واللغوي.


تحت حكم البطالمة، بدأ الاستعلاء اليوناني يتغلغل في الدولة، حيث أصبحت اليونانية اللغة الرسمية للإدارة والجيش والعلوم، بينما تراجعت اللغة المصرية إلى مستوى العامة والكهنة، وتقلص استخدامها حتى في الطقوس الدينية. وقد وصف المؤرخون من العصور الوسطى هذا التحول، فقال المقريزي في "الخطط" إن "لغة أهل مصر اندرثرت من الاستعمال، إذ غلبت عليهم الرومية، ثم اليونانية، فلما دخلت القبطية، أضحت من قبيل الرموز القديمة". أما ابن خلدون، فذكر في "المقدمة" أن "أهل مصر بدّلوا لسانهم، لما تداخله العجم من الروم والفرس واليونان، ففقدوا من لسانهم ما به كانت لغتهم مفهومة".


لكن الاحتلال الروماني كان القشة التي قصمت ظهر اللغة القديمة. فمع دخول الرومان، أصبحت اللاتينية لسان السلطة والجيش، بينما انقسمت اللغة المصرية إلى لهجات محلية ضعيفة، أبرزها القبطية، وهي صورة متأخرة من الديموطيقية، لكنها كُتبت بأبجدية يونانية معدّلة. في هذا السياق، كانت القبطية تمثل مقاومة ثقافية، لكنها لم تصمد طويلًا أمام هيمنة لغات الغزاة.


ومع مطلع القرن السابع الميلادي، قبيل الفتح الإسلامي، لم تكن اللغة المصرية الأصلية تُستخدم في الدواوين أو المراسلات، بل صارت مقصورة على بعض النصوص الدينية في الكنائس القبطية، حتى أن بعض الأساقفة آنذاك كانوا لا يجيدونها تمامًا. ورُوي عن يوحنا النيقوسي، المؤرخ القبطي، أن "الناس قد انصرفوا إلى اللغة اليونانية في شعائرهم، ولم يبق من لسان أجدادهم سوى نغمة في الترانيم".


إذاً، حين دخل العرب مصر، لم يجدوا لسانًا مصريًا راسخًا، بل وجدوا ألسنة متعددة منقسمة بين اليونانية، والقبطية، واللاتينية، كل واحدة مرتبطة بطبقة معينة أو إدارة معينة. في هذا المناخ اللغوي الممزق، لم يكن للعربية عدو قوي يقف في وجهها، بل استطاعت أن تسري بسرعة، خاصة حين تبناها الأقباط الوطنيون في الدواوين والتعليم، لتصبح مع الزمن ليس فقط لغة الدولة، بل لغة المصريين أنفسهم، وتستعيد بها مصر هويتها الموحدة تحت راية حضارية جديدة.




1754163915090.png


العرب في أطراف مصر قبل الإسلام… جيرة وتجارة وبدايات احتكاك​


قبل أن تطأ أقدام جيوش الفتح أرض مصر، لم تكن صحراؤها خالية من العرب، بل كان لهم في أطرافها موطئ قدم ونقطة تماس حضاري وتجاري تعود إلى قرون طويلة. فقد سجل المؤرخون، بل حتى النقوش القديمة، أن قبائل عربية كانت تعيش في أطراف مصر الشرقية والجنوبية منذ العهد الفرعوني، حيث ذُكرت قبائل مثل عمورو وشاسو، وهي تسميات قديمة لقوم من البدو العرب الذين كانوا يتنقلون بين سيناء وشبه الجزيرة.


في النقوش الفرعونية، وخصوصًا من عهد رمسيس الثالث، يظهر تسجيل لحملات تأديب ضد "بدو الرمال" أو "شاسو"، والذين كانوا على تماس دائم مع الحدود المصرية الشرقية، وفي بعض الأحيان يُستخدمون كمرتزقة أو سعاة. ويُعتقد أن بعضهم امتزج لاحقًا بالمجتمع المصري في مناطق حدودية مثل الفيوم والنوبة العليا.


أما في العهد الفارسي والبطلمي، فقد توسع هذا التماس، إذ اعتمدت الدولة على القبائل العربية كنقاط مراقبة على الطرق الصحراوية، وعُرف عن العرب دورهم في نقل البضائع بين مصر والجزيرة العربية وبلاد الشام، خصوصًا عبر طريق القصير-قفط، الذي ربط النيل بالبحر الأحمر. وقد سجل الجغرافي اليوناني سترابون وجود عرب في صحراء مصر الشرقية، يمارسون الرعي والتجارة، ويقيمون علاقات سلمية مع أهل الصعيد.


وحين جاء الرومان، ازداد حضور العرب كعنصر وظيفي، فجنّدهم القياصرة في حاميات تحرس طرق القوافل، وسمحوا لهم بالاستيطان في بعض واحات مصر مثل الداخلة والخارجة. بل إن المؤرخ البلاذري في "فتوح البلدان" أشار إلى أن "العرب في برية مصر كانوا على عهد الروم حلفاءً، بعضهم ينصر الروم، وبعضهم على وفاق مع نصارى مصر"، مما يُشير إلى تنوع التوجهات والانتماءات.


ومع انتشار المسيحية في القرن الثالث الميلادي، دخل العرب أيضًا على خط الدين، فاعتنق بعضهم النصرانية، وباتوا يترددون على الأديرة في جنوب مصر، وظهرت أسماء عربية في الوثائق القبطية، ما يشير إلى تداخل ثقافي لغوي محدود، مهّد لما بعده. يقول المسعودي في "مروج الذهب": "كان للعرب في صعيد مصر منازل ومراعي، عرفهم بها القبط، وتبادلت معهم الأسواق، حتى إذا دخل عمرو بن العاص، وجد من العرب من عرّفوه بمسالك مصر ومساربها".


إذًا، لم يكن العرب غرباء حين دخلوا مصر، بل عادوا إلى أرض عرفوها من قبل، تعاملوا معها، وتبادلوا معها التجارة والثقافة، فكان الفتح استمرارًا لاحتكاك قديم، لكنه هذه المرة بحضور حضاري شامل، لا عابر.


1754164546522.png




بلاد الشام قبيل الفتح الإسلامي: أرض الحضارات والاختلاط والانتظار الطويل


حين تطل على بلاد الشام في القرن السابع الميلادي، تجد أرضًا عريقةً مثقلةً بتاريخ طويل من الحضارات والتحولات، لكنها – آنذاك – كانت رهينة كيانين متصارعين أنهكتهما الحروب: البيزنطيين من جهة، والفرس الساسانيين من جهة أخرى. كانت الشام حينها ولاية تابعة للإمبراطورية البيزنطية، تحكمها عيون من القسطنطينية وتدير شؤونها قوى محلية متحالفة أو مرتهنة.


لكن هذه الأرض لم تكن مستقرة. فقد شهدت الشام خلال القرن السادس والقرن السابع موجات متكررة من الاضطراب نتيجة للحرب الطويلة بين بيزنطة وبلاد فارس. تلك الحروب لم تكن مجرد اشتباكات على الحدود، بل كانت غزوات حقيقية استباحت المدن، وانتهكت المقدسات، وقطّعت أوصال الاقتصاد. وفي بعض المراحل، كما في عهد خسرو الثاني، اجتاحت الجيوش الفارسية قلب الشام، حتى دخلوا القدس عام 614 م، وأخذوا الصليب المقدس إلى المدائن. استمر الوجود الفارسي حتى عام 628، حين استعاد البيزنطيون المدن المنكوبة.


سياسيًا، كانت الشام منقسمة بين مدن ساحلية مزدهرة تربطها التجارة بالمتوسط، ومدن داخلية متعبة من الحروب والضرائب. وكان الحُكم من نصيب نخب بيزنطية تُسندها قوات محلية أو مرتزقة، وتفرض هيمنتها بلغة يونانية لا يفهمها العامة. أما اجتماعيًا، فكان المجتمع الشامي فسيفساء من الأديان والمذاهب: المسيحيون هم الأكثر عددًا، لكنهم ليسوا كتلة واحدة، بل طوائف متصارعة: الملكانيون الموالون لروما، والمنوفيزيون في الجنوب، والنساطرة أحيانًا، إلى جانب بقايا الوثنيين، واليهود المنتشرين في مدن الشمال والقدس، وعدد قليل من الصابئة.


العلاقات بين هذه الجماعات لم تكن متناغمة، بل توترًا خافتًا يتحول إلى صراع حين تضعف القبضة الإمبراطورية. البيزنطيون حاولوا فرض مذهبهم الديني بالقوة، وفرضوا قيودًا على الطوائف الأخرى، مما خلق مرارة داخلية، خاصة لدى السكان السريان والعرب المسيحيين. ومع تكرار الحروب، وتضاعف الضرائب، وخيبات الأمل من السلطة المركزية، بدأت روح التململ تسري في جسد الشام، تهيئه لتحول قادم.


1754165838614.png

اللغة والهوية الثقافية في الشام قبل الإسلام

كانت بلاد الشام على مدار العصور بوتقة تنصهر فيها الحضارات، ومسرحًا لتفاعل ثقافي ولغوي شديد التعقيد، نتيجة لموقعها الجغرافي عند ملتقى الطرق بين الجزيرة العربية، وبلاد الرافدين، ومصر، وآسيا الصغرى. ولم تكن هذه الأرض يومًا أحادية اللغة أو الثقافة، بل كانت مرآة للتغييرات السياسية التي مرّت بها، وللهجرات التي عبرتها أو استقرت فيها.


في العصور الأولى، كانت اللغات السامية هي السائدة بين السكان الأصليين، حيث انتشرت الكنعانية والأمورية والفينيقية، وكلها فروع من السامية الغربية، وكانت تُكتب بالأبجدية الفينيقية التي ألهمت لاحقًا معظم الأبجديات في حوض المتوسط. الفينيقيون على الساحل، والآراميون في الداخل، أسسوا تقاليد لغوية وثقافية عميقة أثّرت في هوية الشام لمئات السنين. ومع مرور الوقت، أصبحت الآرامية هي اللغة الأكثر شيوعًا وانتشارًا، وتحوّلت إلى لغة التخاطب اليومي والإدارة والتجارة، حتى أصبحت أشبه بلغة رسمية لمنطقة الشرق الأدنى برمّته، خاصة في عهد الإمبراطوريات الكبرى مثل الآشورية والبابلية والفارسية.


لكن السيطرة السياسية المتعاقبة أدخلت لغات جديدة إلى نسيج الشام. فحين خضعت المنطقة للفرس الأخمينيين، ظهرت الفارسية القديمة كلغة نخبوية في الإدارة، لكن لم تتمكن من مزاحمة الآرامية المتغلغلة بين الناس. ثم جاءت الموجة اليونانية مع الإسكندر الأكبر وخلفائه السلوقيين، وأدخلت اليونانية كلغة الثقافة والسلطة، خاصة في المدن الكبرى مثل أنطاكية ودمشق، حيث برزت طبقة مثقفة تتحدث اليونانية وتتبنّى نمط الحياة الهيليني. وعلى الرغم من ذلك، ظلت الآرامية راسخة في الريف وبين العامة، بل تطورت إلى ما يُعرف بالسريانية، التي أصبحت لغة الكنيسة والثقافة المسيحية في القرون اللاحقة.


لم تكن هذه التفاعلات اللغوية منعزلة عن الدين، بل كانت متشابكة معه. فمع انتشار اليهودية، ظهرت الآرامية التلمودية في أوساط اليهود الشاميين، ومع بروز المسيحية، أصبحت السريانية لسانًا للكنائس الشرقية، واستخدمت في الترجمات الدينية والكتابات اللاهوتية. وفي ظل السيطرة الرومانية التي دامت قرونًا، حاولت اللاتينية فرض نفسها كلغة إمبراطورية، لكنها بقيت محصورة في أروقة الدولة والقانون، وظلت بعيدة عن قلوب الناس وألسنتهم.


هكذا كان الشام قبل الإسلام: فسيفساء لغوية تتشابك فيها السريانية، واليونانية، والعبرية، واللاتينية، وفي أطرافها الجنوبية تلامس العربية القديمة لهجات سكان البادية والمدن الحدودية. ومع أن العربية لم تكن آنذاك اللغة الغالبة، إلا أن وجودها لم يكن طارئًا، بل كانت تسري على ألسنة القبائل العربية المتوغلة في الجنوب، مثل الغساسنة والمناذرة، وتُستخدم في الشعر والتخاطب والتجارة، مما مهّد الطريق لاحقًا لانتشارها السريع بعد الفتح الإسلامي، ليس بوصفها لغة دولة فقط، بل كلغة جامعة لهوية جديدة كانت تتخلق بين ركام الهويات القديمة.

ثالثًا: العرب وبلاد الشام... احتكاك دائم قبل الفتح


ما من حقبة في تاريخ الشام إلا وكان للعرب فيها أثر أو حضور. فقد كانت الصحراء العربية ملاصقة للشام، وكانت القوافل تسلك طريقها من الحجاز إلى الشام منذ أقدم العصور. كان العرب جزءًا من المشهد، وإن من خلف الستار.


أول احتكاك جدي يمكن رصده يعود إلى زمن الأنباط، العرب الذين أسسوا مملكة مزدهرة بين جنوب الأردن وشمال الحجاز وعاصمتها البتراء. هم عرب بالحرف، ولكنهم استعملوا الآرامية في الكتابة، ثم طوروا نصًا خاصًا صار لاحقًا أصل الخط العربي. كانت مملكتهم التجارية جسراً بين العرب والشام حتى اجتاحها الرومان عام 106م.


ثم برز دور عرب الغساسنة، الحلفاء المسيحيون للإمبراطورية البيزنطية، الذين استقروا في جنوب الشام وتولوا حماية الحدود ضد الفرس والقبائل المعادية. كانوا عربًا أقحاحًا، لكنهم تهيلنوا ثقافيًا ودينيًا، واتخذوا من بصرى وجوارها مركزًا لهم. وفي المقابل، كان هناك المناذرة في الحيرة (العراق)، وهم حلفاء للفرس. وبين الطرفين دارت حرب طويلة بالوكالة.


لكن العرب لم يكونوا فقط جنودًا أو مرتزقة. فقد استقر بعضهم في دمشق، وفي تخوم المدن الكبرى، وجلبوا معهم عاداتهم وأسواقهم. كانت أسواق الحج، كسوق دومة الجندل وبصرى، مكانًا للتفاعل التجاري والثقافي. وجاء التجار من مكة ويثرب إلى الشام مرارًا، بل إن الرسول محمد نفسه ذهب في شبابه في رحلات تجارية إلى بصرى، والتقى الراهب بحيرا هناك.


ومع الزمن، أصبح العرب جزءًا من توازنات الشام. لا هم غرباء تمامًا، ولا هم جزء أصيل من الدولة. كانوا جسرًا بين الإمبراطوريات، لكنهم أيضًا كانوا البذرة التي ستنبت منها القوة الجديدة… قوة لا تتبع بيزنطة ولا فارس، بل تنبع من الصحراء وتحمل معها لغة العرب وعقيدتهم الجديدة.


1754166340785.png



1754166444894.png

 

أولًا: العراق قبل الإسلام – قلب الإمبراطوريات وملتقى الشعوب


كان العراق، أو بلاد الرافدين كما عرفها المؤرخون، واحدًا من أقدم وأغنى المراكز الحضارية في التاريخ الإنساني. فمنذ فجر الحضارة السومرية والأكدية، كان وادي دجلة والفرات مركزًا للزراعة، التجارة، والفكر. لكن عند اقتراب عصر الفتح الإسلامي، كان العراق قد أصبح حجر الزاوية في الإمبراطورية الساسانية.


في ظل الساسانيين، كانت المدائن – عاصمة ملك الملوك – رمزًا للقوة والفخامة، حيث قصور كسرى المذهّبة، وأروقة مكللة بالأحجار الكريمة، وبلاط يعج بالوزراء وقادة الجند ورجال الدين الزرادشتيين. كتب المؤرخ الطبري عن المدائن وثرائها قائلًا: "لم يكن في أرض المشرق أعظم سلطانًا، ولا أكثر مالًا وعددًا، من ملك فارس بالمدائن".


لم تكن بلاد الرافدين مجرد عاصمة سياسية، بل كانت ملتقى طرق العالم القديم؛ فمن الشرق كانت تأتِي قوافل الهند والصين عبر فارس، ومن الغرب كانت تصل تجارة الشام ومصر، ومن الجنوب يطل الخليج العربي كنافذة بحرية تربطها ببحر العرب والمحيط الهندي. لكن هذا الموقع الاستراتيجي جعلها أيضًا ميدانًا دائمًا للصراع؛ فقد تناوب الفرس والروم على السيطرة على أطرافها، وكانت الحرب الباردة بينهما لا تهدأ.


اجتماعيًا، كان المجتمع العراقي فسيفساء معقدة: طبقة أرستقراطية فارسية تهيمن على الحكم، فلاحون آراميون يزرعون الأرض، تجار يهود ومسيحيون في المدن، ورهبان سريان يملؤون الأديرة بالعلم، وعرب من بني لخم والمناذرة يحكمون الحيرة نيابة عن الفرس. هذا التنوع منح العراق ثراءً ثقافيًا لا مثيل له، لكنه أيضًا جعل هويته السياسية والثقافية عرضة للتأثيرات الخارجية.


1755014914034.png


ثانيًا: الألسنة في بلاد الرافدين – من لغات الملوك إلى لغات الأسواق


اللغة في العراق قبل الإسلام لم تكن موحدة، بل كانت طبقات متراكمة من التاريخ. في العصور الغابرة، كانت السومرية هي لغة الدين والإدارة، تبعتها الأكدية كلغة للملوك والأدب، حتى زاحمتها الآرامية منذ القرن السابع قبل الميلاد، فأصبحت لغة الحياة اليومية من الشمال إلى الجنوب.


المؤرخ اليعقوبي يذكر أن الآرامية "كانت مفهومة في جميع سواد العراق والشام"، بينما بقيت اللغات الأقدم محصورة في النقوش والطقوس. ومع قيام الدولة الساسانية، دخلت الفارسية الوسطى (البهلوية) لتكون لغة الدولة والدواوين، بينما ظلت الآرامية، خصوصًا في صورتها السريانية، لغة الكنائس والمدارس، ولغة التخاطب بين الناس.


لم تكن العربية غائبة، فقد كانت لهجات القبائل العربية حاضرة في الحيرة وعلى تخوم البادية، لكن تأثيرها كان محدودًا في المدن الكبرى قبل الإسلام. ومن الطريف أن المؤرخ المسعودي وصف أسواق العراق في القرن الثالث الهجري بأنها "مجمع الألسن: العربي، الفارسي، السرياني، اليوناني"، ما يوحي أن التعدد اللغوي كان تقليدًا قديمًا في هذه الأرض.


هذا التنوع اللغوي كان له أثر مزدوج: من جهة جعل العراق بوتقة ثقافية عظيمة، ومن جهة أخرى جعل فكرة التعريب لاحقًا عملية معقدة تتطلب وقتًا وجهدًا، بخلاف مناطق كانت لغتها أقرب إلى العربية أو أقل رسوخًا.


1755015047086.png

ثالثًا: العرب والعراق – من صحراء الحيرة إلى بوابة المدائن


علاقة العرب بالعراق لم تبدأ مع الفتح الإسلامي، بل ترجع إلى قرون سبقت ذلك. فمنذ القرن الثالث الميلادي، تأسست مملكة الحيرة على يد بني لخم، لتكون حليفًا استراتيجيًا للفرس الساسانيين ضد غارات القبائل البدوية، وضد حلفاء الروم من الغساسنة في الشام.


الحيرة لم تكن مجرد حصن حدودي، بل مركز حضارة عربية مبكرة. فيها بنى المناذرة القصور، وأقاموا مجالس الأدب والشعر، حتى قال الأعشى الكبير في مدح نعمان بن المنذر:
"ألم ترني وابنَ الكرامِ نعمانَ... نغادي ونمسي على سُرُر"


كما كانت الحيرة محطة على طريق التجارة بين الجزيرة والعراق، حيث تلتقي قوافل اليمن والحجاز بما يأتي من الهند وفارس. هذا الاحتكاك المستمر أوجد معرفة متبادلة بين عرب البادية وأهل العراق، ليس فقط في السلع، بل في اللغة والثقافة.


أما في الجنوب، فقد كان للعرب وجود في الأهوار والبوادي القريبة من البصرة، حيث كانوا يختلطون بالفلاحين والتجار الفرس والآراميين. وعند الفتح الإسلامي، لم يدخل العرب المسلمون أرضًا مجهولة، بل أرضًا يعرفون ملوكها، وطرقها، وأسواقها، ولهم فيها أقارب وحلفاء.


1755015205455.png


أولًا: بلاد المغرب قبل الإسلام – أرض الأمازيغ بين قرطاج وروما


قبل أن يفتح العرب المسلمون المغرب، كان هذا الإقليم يعيش على وقع قرون من الصراع بين القوى المتوسطية الكبرى، بينما ظل القلب النابض له هو الأمازيغ. ابن خلدون يصفهم في مقدمته بأنهم "أمة عظيمة جليلة، لهم قبائل وبطون، يضربون في البرية والجبال، ويعمرون القرى والحصون، ويتميزون بالشجاعة والصبر على المكاره".


منذ القرن التاسع قبل الميلاد، أسس الفينيقيون مستعمراتهم التجارية على سواحل شمال إفريقيا، وأهمها قرطاج التي تحولت إلى قوة بحرية عظيمة تنازع روما نفسها. الأمازيغ لم يكونوا مجرد متفرجين؛ بل اندمجوا في هذه الحضارة القرطاجية، وانخرط كثير منهم في جيوشها وتجارتها. المؤرخ الروماني سالوست ذكر أن ملوك الأمازيغ كانوا أحيانًا حلفاء وأحيانًا أعداء لقرطاج، لكنهم دائمًا حافظوا على استقلال نسبي في جبال الأطلس والصحراء.


بعد سقوط قرطاج سنة 146 ق.م في الحرب البونيقية الثالثة، بسط الرومان سيطرتهم على معظم السواحل. أسسوا مدنًا كبرى مثل لبدة الكبرى (في ليبيا الحالية) وتنجيس (طنجة) وقيصرية (شرشال)، وأدخلوا أنظمة إدارية وزراعية جديدة. لكن كما يذكر اليعقوبي في كتابه "البلدان"، فإن "جبال المغرب وصحراؤه كانت عصيّة على سلطان الروم، لا يدخلها جندي إلا عاد منها مريضًا أو مقتولًا".


مع القرن الخامس الميلادي، جاء الوندال الجرمانيون من إسبانيا، وسيطروا على السواحل لعدة عقود، لكنهم تركوا أثرًا ضعيفًا بسبب قلة عددهم وانقطاعهم عن الداخل. ثم جاء البيزنطيون ليستعيدوا بعض الموانئ، لكن سلطتهم كانت هشة، كما أقر البكري في "المسالك والممالك" حين قال: "وأما بلاد البربر، فسلطان الروم عليها اسم لا فعل، وإنما الأمر فيها لرؤساء القبائل".


1755015727242.png

ثانيًا: اللغة والهوية الثقافية في المغرب قبل الإسلام


الهوية اللغوية والثقافية للمغرب قبل الإسلام كانت غنية ومعقدة. اللغة الأم لمعظم السكان كانت الأمازيغية، بلهجاتها المختلفة، وهي لغة ضاربة في القدم، تُكتب أحيانًا بخط التيفيناغ في بعض المناطق الصحراوية. ابن خلدون أشار إلى ذلك بقوله: "ولهم لسان بربري لا يشاركهم فيه أحد من الأمم".


مع القرطاجيين، انتشرت البونية (الفينيقية الغربية) في المدن الساحلية، وأصبحت لغة التجارة والإدارة، خاصة في تونس وشرق الجزائر. ثم جاءت اللاتينية مع الرومان، فأصبحت لغة الدولة والكنيسة، وكتب بها مفكرون أمازيغ مثل أوغسطينوس من طاغاست. ومع ذلك، ظلت الأمازيغية قوية في الريف والجبال، حيث لم تستطع اللاتينية أن تمحوها.


البكري يصف هذا التعدد اللغوي عند حديثه عن طنجة في القرن الحادي عشر، إذ يقول: "وأهلها يتكلمون البربرية والرومية، ويفهمون من العربية ما يحتاجون إليه في التجارة". ورغم أن وصفه جاء بعد الفتح بقرون، فإنه يعكس حالة التنوع التي كانت موجودة من قبل الإسلام، مع فارق أن "الرومية" هنا تشير للاتينية المتأخرة.


هذا التعدد اللغوي جعل الهوية الأمازيغية متينة، لكنها منفتحة على التأثيرات الخارجية، فالمغرب لم يكن معزولًا، بل كان نقطة التقاء المتوسط بالصحراء، وهو ما أعدّ أرضيته لاستقبال العربية لاحقًا ودمجها في بنيته الثقافية.


1755015794689.png

ثالثًا: العرب وبلاد المغرب قبل الفتح الإسلامي


رغم أن المغرب لم يعرف حكمًا عربيًا قبل الإسلام، إلا أن التواصل كان موجودًا. ابن خلدون يروي أن بعض بطون لخم وجذام وصلوا إلى برقة وطرابلس في أزمنة متفرقة قبل البعثة النبوية، استقروا قليلًا ثم اندمجوا مع السكان المحليين. هذه الهجرات لم تكن ضخمة، لكنها تركت أثرًا لغويًا محدودًا في بعض مفردات الساحل الشرقي للمغرب العربي.


التجارة كانت أهم وسيلة احتكاك. قوافل العرب كانت تحمل اللبان والتوابل من جنوب الجزيرة إلى أسواق قرطاج ولِبدة الكبرى، وتعود بالذهب والعاج والملح. البكري أشار إلى أن بعض تجار الحجاز كانوا يعرفون طرق الصحراء المؤدية إلى سجلماسة، وهي مدينة لم تكن موجودة قبل الإسلام لكنها قامت على طرق تجارة قديمة.


كما أن بعض الأخبار كانت تصل إلى المغرب عن طريق الحجاج الذين يمرون بمصر في طريقهم إلى الحجاز، وهو ما جعل بعض القبائل الأمازيغية على علم بظهور الإسلام قبل وصول الجيوش الإسلامية. لكن، وكما يصف اليعقوبي، "كانوا يرونه أمرًا بعيدًا، لا يصل إليهم إلا بعد سنين".


وعندما جاء الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، لم يأتِ العرب إلى أرض مجهولة تمامًا، لكنهم واجهوا شعبًا له هوية عريقة، اعتاد التفاعل مع القوى الكبرى، ويعرف كيف يتفاوض، وكيف يقاوم إذا لزم الأمر.


1755015866992.png
 

أولًا: المشهد السياسي والاجتماعي قبل الفتح الإسلامي


الأناضول: قلعة بيزنطية منيعة على حدود الشرق


قبل الإسلام بقرون، كانت الأناضول – أو آسيا الصغرى – جوهرة الإمبراطورية البيزنطية، ومفتاحها الشرقي الذي يصد غزوات الفرس والساسانيين. من الشمال تحيط بها سواحل البحر الأسود المليئة بالمرافئ، ومن الجنوب تمتد جبال طوروس كحائط طبيعي يمنع تسلل الجيوش. مدنها الكبرى، مثل القسطنطينية وأنطاكية وطرسوس وملطية، لم تكن مجرد مراكز عمران، بل نقاط ارتكاز لأسقفيات كبرى وقواعد عسكرية متقدمة.


المجتمع الأناضولي كان مزيجًا من الإغريق والأرمن والسريان، جميعهم يدينون بالمسيحية الأرثوذكسية، ويخضعون لنظام إداري دقيق يرعاه الإمبراطور والبطريرك معًا. كان الولاء الديني والسياسي ممتزجًا، ما جعل البيزنطيين يرون في لغتهم ودينهم خط الدفاع الأول ضد "البرابرة" من الشرق. المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس (القرن السادس الميلادي) وصف هذه الذهنية حين قال: "الإيمان هو الحصن، واللغة سور، ومن تركهما فقد فتح باب داره للعدو".


في هذا الزمن، لم يكن للترك أي حضور في الأناضول، ولم ترفع فيها راية تركية إلا بعد أربعة قرون، حين جاء السلاجقة بعد معركة ملاذكرد (1071م).



1755016470023.png

أراضي الترك: ممالك البدو الرحل في قلب آسيا


على بعد آلاف الكيلومترات شرق الأناضول، كانت القبائل التركية تعيش في فضاء مختلف تمامًا، هو ما وراء النهر (Transoxiana) وآسيا الوسطى. هذه المنطقة، الممتدة بين نهري سيحون (سير داريا) وجيحون (آمو داريا)، كانت موطنًا لقبائل الغوك تُرك والقارلوق والأوغوز، وهي قبائل لا تعرف الاستقرار الطويل، بل تعتمد على الرعي، والغزو الموسمي، والتحالفات القبلية.


مدن مثل بخارى وسمرقند وخوارزم كانت مراكز حضارية، لكنها لم تكن تركية الثقافة آنذاك، بل سغدية وفارسية، تحت حكم محلي أو تبعية اسمية للفرس الساسانيين أو الهياطلة. كان الترك يأتون إليها كتجار أو محاربين مرتزقة، لا كحكام دائمين.


المؤرخ اليعقوبي وصف هذه المنطقة بقوله: "دار تجارة عظيمة، يتلاقى فيها أهل الصين والهند وفارس والعرب، ولكل قوم فيها خان وسوق". أما ابن خلدون فذكر طبيعة الترك الاجتماعية قائلاً: "الترك أهل بداوة، لا يغلب على لسانهم غيرهم إلا أن يسكنوا الحضر ويخالطوا العجم"، وهي ملاحظة دقيقة تفسر كيف حافظوا على لغاتهم الأصلية رغم اتصالهم المتكرر بالحضارات المجاورة.


1755016675541.png

ثانيًا: اللغة والهوية الثقافية قبل الإسلام


الأناضول البيزنطية: اليونانية كلغة إمبراطورية


في الأناضول، كانت اليونانية هي لغة الدولة والكنيسة والتعليم، منذ أن أصبحت البلاد جزءًا من الإمبراطورية الرومانية الشرقية. ومع أن بعض المناطق النائية احتفظت بلغات قديمة كالكبادوكية أو الأرمنية في الشرق، إلا أن هذه اللغات كانت مهددة بالاندثار أو محصورة في نطاقات محلية.


اللغة اليونانية لم تكن مجرد وسيلة للتواصل، بل كانت رمز الانتماء للإمبراطورية وللكنيسة الأرثوذكسية. أي محاولة لاستخدام لغة بديلة في الإدارة أو الطقوس كانت تُعتبر خروجًا على النظام. حتى الطبقات الفلاحية، رغم أميتها، كانت تتعلم الصلوات والأناشيد باليونانية.


المؤرخ البيزنطي ثيوفانس المعترف أشار في حولياته إلى هذه القوة اللغوية بقوله: "كما أن الميناء يحفظ السفينة من الغرق، كذلك اللغة تحفظ الأمة من الضياع". هذا التجذر جعل من الصعب لاحقًا على اللغة العربية أن تحل محل اليونانية في هذه المنطقة، رغم وصول الحكم الإسلامي إليها.




أراضي الترك: لغات البدو وأبجديات التجارة


في المقابل، كانت الهوية اللغوية عند الترك أكثر تعددية. القبائل البدوية استخدمت لغات تركية بدائية، تكتب أحيانًا بأبجدية رونية تركية (مثل كتابات أورخون)، وأحيانًا بالخط السغدي عند الحاجة إلى التعامل التجاري أو مع المراكز الحضرية.


أما المدن الكبرى في ما وراء النهر فكانت تتحدث السغدية، وهي لغة إيرانية شرقية ذات تأثير عالمي على التجارة، أشبه بما كانت عليه اللغة الإنجليزية في عصرنا. السغدية كانت لغة رسائل التجار، والعقود، والمراسلات بين الشرق الأقصى وغرب آسيا.


هذه الازدواجية بين لسان البادية ولسان الحضر ساعدت الترك على الحفاظ على لغاتهم، إذ كان من السهل على القبائل أن تتبنى لغة تعامل خارجي دون أن تفقد لغتها في داخل مجتمعها القبلي. المؤرخ المسعودي يصف الترك قائلاً: "قوم يحسنون الترجمة إلى ألسنة العجم، ويأبون ترك لغتهم في خطاب بعضهم بعضًا".


1755016981272.png


ثالثًا: العرب واحتكاكهم مع الأناضول والترك قبل الفتح الإسلامي


العرب والأناضول: تماس عسكري على أطراف الشام


لم يعرف العرب الأناضول معرفة عميقة قبل الإسلام، إذ كان الاحتكاك يتم عند تخوم الشام الشمالية، عبر الصراع بين الغساسنة (حلفاء الروم) والمناذرة (حلفاء الفرس). هذه المعارك لم تصل إلى عمق الأناضول، بل بقيت في مناطق الحدود مثل قيليقية وملطية.


العلاقات التجارية كانت محدودة، فالتبادل العربي-البيزنطي تمركز أكثر في الشام ومصر، بينما ظلت الأناضول منطقة عسكرية مغلقة، يحكمها الهاجس الأمني. المؤرخ الطبري يذكر: "لم يكن للعرب في بلاد الروم نصيب إلا ما أذن به ملوكهم من تجارات يسيرة، خشية أن يدخلوا إلى قلاعهم".




العرب والترك: تجارة وخيول على طريق الحرير


أما مع الترك، فقد كان الاحتكاك قائمًا على التجارة والسمعة الحربية. القوافل العربية من الحيرة واليمن وصلت إلى أسواق بخارى وسمرقند، محملة بالبخور والجلود والبهارات، لتعود بالخيول الأصيلة والفراء الثمينة.


لكن الصدام العسكري الكبير لم يحدث إلا بعد الفتح الإسلامي لفارس، حين قاد قتيبة بن مسلم الباهلي حملاته الشهيرة (705–715م) إلى ما وراء النهر. هذه الحملات وضعت العرب في مواجهة مباشرة مع القبائل التركية، وكان المؤرخون العرب يصفونهم بأنهم "أشد الناس بأسًا، وأسرعهم على الخيل، لا يبالون بالموت في الحرب"، كما ورد في أخبار الطبري.



أولًا: المشهد السياسي والاجتماعي لفارس قبل الفتح الإسلامي


كانت بلاد فارس قبل الإسلام تحت حكم الدولة الساسانية (224–651م)، وهي واحدة من أقوى إمبراطوريات العصور القديمة المتأخرة، تنافس روما وبيزنطة على السيادة في آسيا. امتدت أراضيها من نهر السند شرقًا إلى حدود الأناضول غربًا، ومن الخليج العربي جنوبًا إلى تخوم ما وراء النهر شمالًا.


العاصمة المدائن (سلوقية – طيسفون) كانت قلب الإمبراطورية ومقر الشاهنشاه، رمز السلطة المركزية. المجتمع الساساني كان شديد الطبقية: في القمة النبلاء والفرسان (الآزادان)، ثم الكهنة (الموابذة) الذين حافظوا على العقيدة الزرادشتية، ثم التجار والحرفيون، وأخيرًا الفلاحون والعبيد.


الساسانيون مارسوا سياسة دمج قسري للمناطق الخاضعة، لكنهم كانوا براغماتيين؛ سمحوا ببقاء لغات محلية إذا لم تهدد وحدة الدولة، مع فرض الفهلوية (الفارسية الوسطى) كلغة الإدارة.


المؤرخ البلاذري أشار إلى قوة الدولة الساسانية قائلاً: "كانت مملكة الفرس في الإحكام كالبنيان المرصوص، لا يتخلله الخلل إلا أن يشاء الله". أما اليعقوبي فوصف المدن الفارسية بأنها "من أعظم مدن الأرض عمرانًا، وأكملها أسواقًا، وأكثرها جيوشًا"، وهو وصف يعكس ما كان لفارس من بنية حضرية متطورة.


1755017246729.png

ثانيًا: اللغة والهوية الثقافية في فارس قبل الإسلام


كانت اللغة الرسمية في عهد الساسانيين هي الفهلوية، وهي شكل من أشكال الفارسية الوسطى، مكتوبة بالخط البهلوي المشتق من الآرامية. لكنها لم تكن اللغة الوحيدة في البلاد؛ فقد بقيت الآرامية لغة الدين والتجارة في بعض الأقاليم، والبارثية في الشمال، إضافة إلى لغات محلية كثيرة في خراسان وبلاد ما وراء النهر.


فارس كانت وريثة لإرث لغوي طويل:



  • في العصر الأخميني (550–330ق.م)، كانت الفارسية القديمة تُستخدم في النقوش الملكية، بينما كانت الآرامية لغة الدواوين.
  • في العصر الفرثي (البارثي)، سادت البارثية في الشرق، والفارسية الوسطى بدأت تظهر في الجنوب.
  • عند الساسانيين، تم توحيد اللغة الرسمية على الفهلوية، لكن تأثير الآرامية ظل قويًا، خاصة في المفردات الدينية والإدارية.

المؤرخ المسعودي لاحظ هذا التعدد اللغوي فقال: "لم تخل بلاد الفرس من ألسنة شتى، يجمعها لسان الملك". أما ابن المقفع، الذي ترجم نصوصًا فارسية إلى العربية في العصر العباسي، فقد أشار في مقدماته إلى صعوبة ترجمة الفهلوية لأنها "لغة متينة الألفاظ، بعيدة المأخذ، لا يحيط بها إلا من نشأ عليها".


هذه البنية جعلت الهوية الفارسية قبل الإسلام مزيجًا من العصبية القومية الساسانية، والتراث الزرادشتي، وطبقة مثقفة تكتب بالفهلوية وتفخر بآدابها، كما في "كارنامه أردشير" و"الشاهنامة" (التي دونت لاحقًا).



1755017361541.png

ثالثًا: العرب واحتكاكهم بفارس قبل الفتح الإسلامي


الاتصال بين العرب وفارس قديم، وسبق الإسلام بقرون. العرب كانوا على تماس مباشر مع الساسانيين عبر مملكة الحيرة، وهي دولة عربية تابعة لفارس لعبت دور الحاجز البشري ضد هجمات العرب البدو على العراق الفارسي. المناذرة – حكام الحيرة – كانوا عربًا لكنهم خضعوا ثقافيًا ولغويًا للتأثير الفارسي.


التبادل لم يكن عسكريًا فقط؛ التجارة عبر الخليج العربي ربطت موانئ عُمان والبحرين بالبصرة والساحل الفارسي، فانتقلت البضائع والألفاظ وحتى بعض العادات. المؤرخ الطبري يذكر أن العرب استوردوا من فارس السلاح الفارسي، وأن بعض الشعراء تغنوا بـ"سيوف الهند المجلوبة من بلاد الفرس".


كما شارك العرب كجنود مرتزقة في جيوش فارس، خاصة من قبائل إياد وبكر وتغلب، وهو ما سمح بانتقال مفردات فارسية إلى العربية قبل الإسلام، مثل "إستبرق" و"ديباج" و"إيوان".


الاحتكاك الأكبر كان على الحدود الشمالية الشرقية للجزيرة، حيث حاول الفرس مرارًا التوغل في عمق الصحراء، لكنهم فشلوا بسبب طبيعتها القاسية. ابن خلدون أشار إلى هذه الظاهرة قائلاً: "لم تقدر الممالك العظيمة على ملك العرب في أوطانهم، لخشونة معاشهم وبعد مأخذهم".
 

اللغة العربية قبل الإسلام: الجذور، البيئة، والتفاعل مع العالم المحيط


أولًا: الجذور التاريخية ونشأة العربية


اللغة العربية ليست وليدة اللحظة التي بدأ فيها الإسلام، بل هي امتداد طويل ومتفرع لواحدة من أعرق العائلات اللغوية في العالم — اللغات السامية. هذه الأسرة التي تضم العبرية، والآرامية، والأكادية، والحبشية، تشترك في بنية صرفية قائمة على الجذور الثلاثية في الغالب، وفي نظام نحوي وصوتي متقارب.


أقدم الشواهد على العربية تعود إلى النقوش الصفائية والثمودية واللحيانية المنتشرة في شمال الجزيرة من القرن السادس قبل الميلاد، لكنها كانت لهجات كتابية محلية. أما أقرب نص إلى العربية الفصحى التي نعرفها اليوم فهو نقش النمارة المؤرخ بسنة 328م، المنسوب إلى امرئ القيس بن عمرو ملك الحيرة، والمكتوب بالخط النبطي الذي كان يتطور آنذاك نحو الخط العربي المعروف.


لم تكن العربية في ذلك الوقت لغة دولة كبرى مثل الفارسية أو اليونانية، لكنها كانت لغة أمة متناثرة في الصحراء، مما منحها استقلالًا عن التأثير المباشر للغات الإمبراطوريات الكبرى، وأبقى على بنيتها السامية الأصلية قوية وخالصة.


ابن فارس، صاحب مقاييس اللغة، أشار إلى أصالة العربية بقوله:


"أعلم أن للعرب لسانًا يخصّها، ونطقًا يحيط بمعانيها، واشتقاقًا هو قاعدتها، فليس كل ما وُجد في لسان العجم يجوز أن يُلحق بها إلا بحجّة".

1755018217463.png

ثانيًا: أثر البيئة العربية في تكوين اللغة


الجزيرة العربية — بصحرائها الممتدة وواحاتها النادرة — صنعت طبيعة خاصة للغة أهلها. كان العربي يحتاج لأن يصف بدقة كل تفصيل في الإبل، لأنها عماد حياته؛ وكل مرحلة في المطر، لأنه مورد حياته؛ وكل تغير في السماء، لأنه دليله في السفر. لذلك نجد في العربية عشرات الأسماء للإبل حسب عمرها وجنسها وحالتها، ومئات الكلمات للمطر، وأسماء دقيقة لنجوم لم يعرفها الإغريق أنفسهم.


البيئة القاسية أيضًا خلقت نزعة للإيجاز والدقة، لأن الترحال والتجارة يتطلبان سرعة الفهم وقوة التعبير. لكن الأسواق الموسمية — كسوق عكاظ وسوق مجنة — كانت مسرحًا للبسط والتفصيل، حيث يتبارى الشعراء والخطباء في البلاغة.


الجاحظ وصف هذا التوازن بين الإيجاز والإسهاب بقوله في البيان والتبيين:


"كانوا إذا اختصروا أبانوا، وإذا أطالوا أفادوا، فهم بين إيجاز يبلغ المعنى، وإطناب يزيده وضوحًا".


ثالثًا: اللهجات العربية قبل الإسلام — تنوع يوحِّده الشعر والتجارة

قبل الإسلام، لم تكن هناك "عربية فصحى" بالمعنى الموحّد الذي نعرفه الآن، بل فسيفساء من اللهجات المنتشرة في أرجاء الجزيرة. كان لكل قبيلة طريقتها في النطق وبعض مفرداتها الخاصة، لكن الرابط الأكبر كان الشعر والأسواق والمواسم التي عملت على توحيد اللسان.


لهجة قريش، التي ستصبح لاحقًا لغة القرآن، لم تأتِ من فراغ. فقد كانت قريش في قلب مكة، ملتقى الحجيج من جميع أرجاء الجزيرة، ومركزًا تجاريًا يربط اليمن بالشام. هذا الموقع جعلها تتجنّب الألفاظ الغريبة والصعبة التي قد تعيق التفاهم، فصار لسانها وسطًا بين اللهجات، كما ذكر الجواليقي في المعرَّب:


"ألسنة قريش أصفى الألسنة وأعذبها لفظًا، لأنهم اجتمعوا من كل قبيلة، فاختاروا أحسن ما عندهم".

في الشرق، عند تميم وربيعة، كانت بعض الخصائص الصوتية مميزة، مثل قلب القاف كافًا أحيانًا، أو نطق الجيم ياءً، بينما عند هذيل كانت هناك ألفاظ خاصة بالشعر والصيد لم يعرفها غيرهم. أما لهجات الجنوب كالحميرية والسبئية، فقد كانت مختلفة جدًا في البنية، مكتوبة بخط المسند، وتحمل إرثًا حضاريًا أقدم بكثير، لكنها فقدت مكانتها تدريجيًا مع أفول الممالك اليمنية الكبرى قبل الإسلام.


ومع أن الفروق كانت كبيرة، فإن التواصل كان قويًا، خاصة عبر أسواق العرب مثل سوق عكاظ وسوق مجنة وذي المجاز، حيث يلتقي الشعراء والتجار والخطباء، فتتناقل الألفاظ والأساليب، وتتشكّل شيئًا فشيئًا لغة أدبية مشتركة تصلح لأن يفهمها الجميع. وهذا ما جعل القرآن، بلسانه القرشي، يُدرك معناه أغلب العرب من اللحظة الأولى.

1755018370519.png

رابعًا: الاحتكاك باللغات الأخرى — جسور ثقافية على أطراف الصحراء


الجزيرة لم تكن معزولة كما يُتصوَّر، بل كانت مفتوحة على أربع بوابات حضارية:


  1. الشام في الشمال الغربي، حيث اللغة الآرامية والسريانية هما لسان الدين والتجارة، وقد انتقلت منهما كلمات مثل قسيس وقربان وإنجيل.
  2. العراق وفارس في الشمال الشرقي، حيث الفارسية كانت لغة البلاط والبيروقراطية، ودخل منها ألفاظ مثل بستان وديوان وإيوان.
  3. البحر الأحمر والحبشة في الجنوب الغربي، حيث تسربت كلمات حبشية مثل مشكاة ومنبر، خصوصًا في المجال الديني.
  4. بيزنطة واليونان عبر الغساسنة والروم، حيث دخلت ألفاظ مثل قنطار وإستراتيج وفردوس.

لكن ما يميز العربية هو قدرتها على تمصير الألفاظ الدخيلة، أي جعلها على وزن عربي مألوف، بحيث تذوب في نسيج اللغة ولا تبدو غريبة. قال ابن دريد في الجمهرة:


"وما دخل لسان العرب من كلام العجم فجرى على أوزانهم فهو عربيّ بالولادة الثانية".

هذا الاحتكاك لم يكن مجرد استعارة كلمات، بل كان تبادلًا ثقافيًا ومعرفيًا؛ فقد أخذ العرب عن الفرس بعض مفاهيم الحكم والإدارة، وعن الروم بعض المصطلحات العسكرية، وعن السريان ألفاظًا لاهوتية، لكنهم أعادوا صياغتها في قالبهم الخاص.



خامسًا: اللغة كهوية والعرب كحماة لها


عند العرب، كانت اللغة أكثر من وسيلة للتخاطب؛ كانت دليل النسب، ووعاء التاريخ، ومستودع القيم. لم تكن هناك سجلات مكتوبة واسعة، لذا كانت القصائد والخطب هي السجل الحي للذاكرة الجماعية.


كان الشاعر لسان قبيلته، يخلّد مآثرها ويمحو عارها بالمديح والهجاء. قال الأصمعي:


"كانت العرب تُقيم الشاعر مقام الملك، إن مدح رفع وإن هجا وضع".

حتى الأنساب كانت تحفظ شعرًا ونثرًا، ولولا الشعر لضاع الكثير من أخبار العرب قبل الإسلام. وبهذه المكانة المهيبة، صار الحفاظ على الفصاحة واجبًا قوميًّا، واللحن (الخطأ في النطق) عيبًا كبيرًا.


ابن خلدون لخّص هذه الظاهرة في المقدمة بقوله:


"اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن ملكة، فإذا فسدت الملكة فسدت العبارة".

لهذا، حين جاء الإسلام، وجد أمامه لسانًا حيًا، قوي البنية، متماسك القواعد، مهيأ لأن يحمل رسالة عالمية، وينتشر مع الفاتحين من حدود الصين إلى المحيط الأطلسي.

1755018456930.png



كيف جاء الإسلام وأثر في العربية — من لهجة قبيلة إلى لسان أمة


حين بزغ فجر الإسلام في مكة، كانت العربية لغة حيّة، لكنها متفرقة اللهجات، تدور في فضاء القبيلة والسوق. لم يكن لها كيان سياسي موحّد، ولا مؤسسة تضبط قواعدها، ولا نص جامع يشمل العرب جميعًا. كان الشعر هو المعيار الأعلى للفصاحة، ومعايير البلاغة محصورة في دوائر النخبة من الشعراء والخطباء.


لكن نزول القرآن غيّر المشهد تمامًا. لم يكن كتابًا دينيًا فحسب، بل نصًا لغويًا خارقًا جمع بين فصاحة لهجة قريش وجماليات أسلوبية لم يعرفها العرب من قبل. يقول عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز:


"جاء القرآن على أسلوب بديع خارج عن أساليب كلام العرب، مع أنه من جنس كلامهم، فجمع لهم بين المألوف والمُعجِز".

مع الإسلام، صار القرآن هو المرجع اللغوي الأول، وأصبح لسانه معيار الفصاحة. فتوحّدت لهجات العرب تدريجيًا، وبدأت العربية تتحول من لسان محلي إلى أداة خطاب أممي.


1755018874373.png

صعود العربية في البلاد المفتوحة: من لسان الفاتحين إلى لغة الأمصار


حين بدأ العرب المسلمون فتوحاتهم في القرن السابع الميلادي، لم تكن العربية مجهولة في البلاد المفتوحة، لكنها أيضًا لم تكن لغة رسمية ولا لغة أغلبية. كانت في أفضل الأحوال لغة التجارة الموسمية مع القبائل، وفي أسوأ الأحوال غريبة لا يعرفها إلا قلّة. لكن خلال قرن أو قرنين، تغيّر المشهد جذريًا، وصارت العربية هي لغة الشعائر، ثم الإدارة، ثم الحياة اليومية في كثير من المناطق.


المرحلة الأولى: العربية كلغة دين وشعائر (الفتوحات – القرن الأول الهجري)


منذ دخول الإسلام إلى أي إقليم، كانت أول وظيفة للعربية هي لغة القرآن والصلاة. فكل مسلم جديد كان يتعلم الفاتحة وبعض الآيات، ولو بحد أدنى من النطق، لأداء الصلاة. هذا وحده خلق احتكاكًا لغويًا يوميًا بين الأهالي واللغة العربية، حتى لمن لم يكن يعرف منها إلا ما يكفي للشعائر.


المدن الكبرى التي أسسها المسلمون — مثل الفسطاط في مصر، والبصرة والكوفة في العراق، والقيروان في المغرب — كانت مراكز لنشر هذه اللغة، إذ أقيمت فيها المساجد الجامعة حيث تُقرأ خطب الجمعة بالعربية، ويُتلى القرآن على الملأ.
يذكر البلاذري في فتوح البلدان:


"وكانوا إذا افتتحوا بلدة جعلوا فيها مسجدًا جامعًا يقرأ فيه الكتاب ويعلّم فيه الدين"،
في إشارة إلى دور المساجد كمراكز تعليم اللغة ضمن تعليم الدين.

المرحلة الثانية: العربية كلغة إدارة وحكم (أواخر القرن الأول – أوائل الثاني الهجري)


في البداية، أبقى المسلمون على اللغات المحلية في الدواوين: الفارسية في العراق وخراسان، واليونانية في الشام ومصر، والقبطية في شؤون الريف المصري. لكن هذا تغيّر جذريًا في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، حين أمر بـ تعريب الدواوين بين 81هـ و86هـ، وهي الخطوة التي جعلت العربية لغة الدولة، لا مجرد لغة دين.


هذا القرار أجبر الكتبة والموظفين المحليين على تعلم العربية، لأن المعاملات الرسمية، وسجلات الضرائب، وأوامر الجند، صارت جميعها تصدر بها. يقول المسعودي في مروج الذهب:


"وكان في تعريب الدواوين رفع للسان العرب على سائر الألسنة، وذهاب لسلطان العجم والروم في المكاتبات".

1755018961976.png

المرحلة الثالثة: العربية كلغة نخب وعلم (القرن الثاني – الثالث الهجري)


مع استقرار الحكم وبدء حركة الترجمة في العصر العباسي، تحولت العربية إلى وعاء جامع للمعارف. فحتى العلماء من أصول فارسية أو سريانية — مثل سيبويه في النحو، والرازي في الطب، والخوارزمي في الرياضيات — كتبوا مؤلفاتهم بها.
هذه المرحلة جعلت العربية لغة النخبة المتعلمة في كل مكان، وأعطتها مكانة مرموقة حتى بين غير المسلمين، لأن إتقانها صار شرطًا للترقي في الإدارة والجيش والتجارة.


المرحلة الرابعة: العربية كلغة المجتمع والبيت (القرن الثالث – الخامس الهجري)


بعد أجيال من التعليم والإدارة والاحتكاك، بدأت العربية تحل محل اللغات المحلية في الحياة اليومية. في مصر، ضعفت القبطية تدريجيًا حتى اقتصرت على الاستخدام الكنسي. في الشام، انقرضت السريانية من المدن الكبرى وبقيت في الأديرة والقرى الجبلية. في المغرب، صارت العربية لغة المدن الساحلية والداخلية مع بقاء الأمازيغية في الجبال والصحراء.


هذا التحول كان بطيئًا وغير متساوٍ، لكنه كان عميقًا: اللغة التي كانت غريبة صارت لغة الأم لأبناء الأهالي، ولم يعد يميز العرب عن غيرهم في كثير من المدن إلا النسب، لا اللسان.


أدوات القوة اللغوية


هناك عوامل رئيسية ساعدت على هذا الصعود:


  • الدين: كون العربية لغة القرآن جعلها مرتبطة بالهوية الإسلامية.
  • الدولة: قرارات التعريب في الإدارة والجيش.
  • التجارة: انفتاح طرق التجارة البرية والبحرية على العربية.
  • المدن الجديدة: مراكز حضرية عربية-إسلامية جذبت السكان المحليين.
  • الزواج والاختلاط: الاندماج الاجتماعي بين العرب والأهالي.

يقول ابن خلدون في مقدمته:


"إنما غلبت لغة العرب سائر اللغات، لأن الشريعة التي دان بها العرب كانت دين الدولة، فغلب أهلها على الممالك، فكان الغلب للسانهم".

1755019168640.png
 

رحلة العربية في مصر: من لغة الفاتحين إلى نبض المصريين


المرحلة الأولى: دخول العربية إلى أرض النيل – لغة الدين والقيادة (20هـ – منتصف القرن الأول الهجري)


عندما دخل عمرو بن العاص إلى مصر سنة 20هـ (641م)، كان المشهد اللغوي متشابكًا ومعقّدًا. في العاصمة الإدارية الإسكندرية، كانت اليونانية لغة الدولة والكنيسة الرسمية في ظل الحكم البيزنطي، بينما ظلت القبطية – وهي آخر صور المصرية القديمة – لغة الشعب في القرى والمدن الداخلية، خصوصًا في الصعيد والدلتا.


العربية دخلت أول الأمر كلغة دين وخطاب سياسي، فالمساجد القليلة الأولى التي أقيمت – وعلى رأسها جامع عمرو بن العاص في الفسطاط – كانت مراكز بث اللسان العربي. لكن عمرو، بذكاء سياسي واجتماعي، لم يفرض العربية فرضًا في الأيام الأولى، بل كان إذا خطب قرأ القرآن بالعربية، ثم يفسره بالقبطية حتى يفهم الحضور من أهل البلاد. البلاذري يذكر:


"وكان عمرو إذا خطب قرأ الآية بالعربية، ثم فسّرها بالقبطية لمن حضر من القبط"

هذه المرحلة جعلت العربية مألوفة في الأذن قبل أن تصبح مألوفة على اللسان، وخلقت ما يمكن تسميته "مرحلة السمع" قبل "مرحلة النطق".




المرحلة الثانية: التعريب الإداري – الخطوة التي غيّرت المسار (87هـ)


حتى بعد الفتح، ظل ديوان مصر يُكتب باليونانية لأكثر من أربعة عقود، وهو ما أبقى النخبة الإدارية من القبط والروم في مواقعهم. لكن في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، جاء القرار الحاسم سنة 87هـ بتعريب الدواوين، ونفّذه عبد الله بن عبد الملك والي مصر.


المقريزي يصف هذه الخطوة بقوله:


"فلما عُرّبت الدواوين، قلّ من كان لا يحسن العربية من أهل العمل"

وهنا بدأ التحول الفعلي: إذا أردت منصبًا إداريًا أو ترقية في الدولة، فعليك أن تتقن العربية. هذه السياسة جعلت كبار القبط والموظفين يتعلمون العربية بسرعة، ثم بدورهم علموها لأولادهم.




المرحلة الثالثة: هجرات العرب – دمج العرق باللسان


لم تقتصر عملية التعريب على قرارات الدولة، بل جاءت موجات الهجرة العربية لتلعب دورًا أكبر. منذ الفتح وحتى القرن الثالث الهجري، استوطنت قبائل عربية كثيرة:


  • لخم وجذام في شرق الدلتا وسيناء.
  • قيس عيلان وجهينة في الصعيد.
  • جماعات من قريش والأنصار في الفسطاط والمدن الكبرى.

هذه القبائل لم تكن جيوشًا عابرة، بل كانت أسرًا وتجارًا ورعاة استقروا وتزاوجوا مع المصريين، فكوّنوا جيلًا جديدًا نصفه من أصول عربية ونصفه من أصول قبطية، لكنه عربي اللسان. ابن عبد الحكم يشير إلى أن عمرو بن العاص منح العرب أراضي في مصر "ليزرعوها ويعمروها"، ما جعلهم جزءًا من الدورة الاقتصادية والاجتماعية.




المرحلة الرابعة: المجتمع يتغير – من التحفظ إلى التقبل


المصري بطبعه تاريخيًا لا يرفض اللغة الجديدة ما دامت تحقق له منفعة أو تحفظ له مكانته. في البداية، بقيت القبطية لغة البيوت والقرى، لكن العربية أصبحت لغة السوق والمسجد والحكم. حتى في المعاملات التجارية، بدأ التجار القبط يضيفون كلمات عربية إلى حديثهم لجذب الزبائن من العرب.


التحول كان تدريجيًا؛ في القرى، استمرت القبطية لعدة قرون جنبًا إلى جنب مع العربية، لكن الجيل الثاني أو الثالث من القبط الذين تعلموا العربية في المدارس والمساجد صاروا يفضلونها لأنها لغة أوسع وأقوى في مجالات التجارة والتدين.




المرحلة الخامسة: ولادة اللهجة المصرية العربية


مع تزاوج العرب والقبط، ظهرت لهجة جديدة عربية القواعد لكن فيها تأثيرات صوتية من القبطية. المقدسي في القرن الرابع الهجري يقول:


"ولأهل مصر لحن في كلامهم يعرفه من جاورهم"

هذا "اللحن" هو ما نراه اليوم في ملامح اللهجة المصرية الأولى: قلب القاف همزة في بعض المواضع، أو مد بعض الحركات، أو إدخال كلمات قبطية مثل "طوبة" للشهر، و"تمساح"، و"بَرم" (لفّ).


حتى أسماء الأماكن حملت مزيجًا عربيًا-قبطيًا، مثل "منية" (منيا) التي تعني المرسى أو الميناء بالقبطية، لكنها دخلت في إطار عربي.




المرحلة السادسة: الحاكم بأمر الله – التعريب القسري (القرن الخامس الهجري)


رغم انتشار العربية، بقيت القبطية قوية نسبيًا في الكنيسة والريف. فجاء الحاكم بأمر الله الفاطمي بقرارات صارمة: فرض العربية في الكنائس بجانب القبطية، ومنع استخدام القبطية في بعض المناسبات، وأمر بترجمة القراءات إلى العربية حتى يفهمها الجميع.


المقريزي يذكر أن هذه السياسة أدت إلى "انقطاع كثير من أهل القبط عن لغتهم"، وسرّعت من تحول الأقباط نهائيًا إلى العربية.




المرحلة السابعة: اكتمال التحول – العربية لسان النيل


بحلول العصر المملوكي، كانت القبطية قد انحصرت في طقوس الكنيسة، وحتى هناك كان الكهنة يترجمون للناس بالعربية. لم يعد بالإمكان التفريق بين "عربي الأصل" و"مصري قبطي الأصل" في الشارع أو السوق أو المسجد، فالكل يتحدث بالعربية، ويستخدمها في الشعر والمكاتبات والأمثال.


ابن خلدون يلخص الظاهرة بقوله:


"اللسان إنما يغلب على الناس بغلبة أهل اللسان وسلطانهم"
وفي مصر، غلب العرب بالسياسة، وغلبت العربية بالدين والتجارة والاختلاط، لكن المصريين أعادوا صياغتها لتصبح على مقاسهم وثقافتهم.




رحلة العربية في بلاد الشام: من لهجات متفرقة إلى لغة جامعة


المرحلة الأولى: دخول العربية – لغة الدين والسلطة الجديدة (13هـ – منتصف القرن الأول الهجري)


عندما دخل جيش أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد إلى الشام سنة 13هـ، كان المشهد اللغوي معقّدًا. المدن الكبرى مثل دمشق وحمص وحلب كانت تتعامل باليونانية كلغة إدارة منذ الحكم البيزنطي، بينما القرى والمناطق الداخلية احتفظت بلهجات سريانية وآرامية، وبعض المناطق القريبة من البادية كانت تسمع فيها العربية الشمالية (لغة قبائل الغساسنة وحلفائهم).


العربية لم تدخل أولاً كلغة عامة، بل كلغة دين وخطاب سياسي. في خطبة فتح دمشق، يُروى أن خالد بن الوليد قرأ الآيات بالعربية، ثم فسّرها لمن لم يفهم، في مشهد يشبه ما فعله عمرو بن العاص في مصر. ابن عساكر يذكر:


"وكان أهل الشام يسمعون القرآن، فيعجبون من فصاحته، وإن لم يفهموا جميع معانيه"

هذا الإعجاب الأولي كان مدخلًا لتقبّل العربية كلسان مقدس مرتبط بالنص القرآني والسلطة الجديدة.




المرحلة الثانية: التعريب الإداري – من اليونانية إلى العربية (تسعينيات القرن الأول الهجري)


رغم أن الخلافة الأموية كانت عاصمتها دمشق، استمر ديوان الشام يُكتب باليونانية لعقود بعد الفتح، وكانت رواتب الجند تسجّل بهذه اللغة. حتى جاء عهد عبد الملك بن مروان الذي قرر سنة 81هـ تعريب الدواوين، ونفّذ ذلك في الشام بمساعدة كاتب من حِمْير اسمه سرجون بن منصور (والد القديس يوحنا الدمشقي)، حيث وضع نظامًا يضمن الانتقال السلس.


الطبري يصف أثر ذلك القرار:


"فاحتاج أهل الديوان إلى العربية، فتعلموها، وتركوا ما كانوا عليه من لسان الروم"

هذه الخطوة قلبت موازين القوى الاجتماعية: من يتقن العربية يمكنه أن يظل في الإدارة، ومن لا يتقنها يخرج منها.




المرحلة الثالثة: هجرات العرب – الدمج بين البادية والحاضرة


قبل الفتح، كان في الشام وجود عربي قديم (الغساسنة في الجنوب، وتغلب وكلب في الشمال)، لكن بعد الفتح جاءت موجات أوسع من قبائل قيس وتميم وكلب وبني عامر، استوطنت قرب المدن وفي القرى الزراعية.


هؤلاء العرب جلبوا معهم لهجاتهم، وتزاوجوا مع السكان المحليين، خصوصًا في السهول الخصبة حول دمشق وحمص. وبالتدريج، صار في الشام جيل جديد نصفه من أصول آرامية أو سريانية ونصفه عربي، لكنه يتكلم بالعربية بطبيعة الحياة اليومية.




المرحلة الرابعة: التفاعل الاجتماعي – سرعة القبول مقارنة بمصر


الشام تفاعلت مع العربية أسرع من مصر لعدة أسباب:


  1. وجود قبائل عربية قبل الفتح جعل العربية مألوفة في الأذن.
  2. قربها من الجزيرة العربية وسهولة حركة البدو نحوها.
  3. اتصالها بالعاصمة الأموية التي جعلت العربية لغة الفخامة والسياسة.

في أسواق دمشق، يروي ياقوت الحموي، أن التجار بدأوا يكتبون لافتاتهم بالعربية منذ زمن مبكر "لأنها لغة السلطان"، وفي المساجد والمدارس الناشئة كانت اللغة الوحيدة المعتمدة هي العربية، ما جعلها تنتشر بين الأجيال الجديدة بسرعة.




المرحلة الخامسة: ولادة لهجة الشام العربية


مع ذوبان اللغات القديمة، وخصوصًا السريانية، في العربية، وُلدت لهجة شامية مميزة. كان التأثير السرياني واضحًا في بعض الأصوات، مثل قلب القاف همزة في المدن، وبعض المفردات مثل "بكّير" (مبكر)، و"شوب" (حر)، و"شتي" (مطر).


المقدسي لاحظ هذا في القرن الرابع الهجري فقال:


"وأهل الشام يلحنون لحناً يعرفهم به الغريب، وأكثره من أثر السريانية"

لكن العربية الفصحى ظلت قوية في الكتابة والأدب، مما جعل اللهجة قريبة منها نسبيًا.




المرحلة السادسة: اكتمال التعريب – انحسار اللغات القديمة


بحلول القرن الثالث الهجري، كانت العربية قد أصبحت لغة الشعب، واليونانية والسريانية انحصرتا في الكنائس وبعض الأديرة. المؤرخ البكري يصف دمشق في زمنه قائلاً:


"وأهلها عرب اللسان، قد ذهبت عنهم لغات الأمم التي كانت قبلهم"

هذا التحول كان نتيجة تضافر سلطان الدولة، وجاذبية الدين، والتجارة، والهجرات العربية التي جعلت العربية في الشام ليست مجرد لغة رسمية، بل هوية مشتركة.
 

كيف أصبح العراق عربي اللسان: من الفتح إلى العباسيين


الفتح الأول وبداية التغيير


حين دخل المسلمون العراق في عهد الخليفة أبي بكر الصديق، كانت المعارك الأولى بقيادة المثنى بن حارثة الشيباني وخالد بن الوليد مجرد غارات محدودة، لكن الانتصارات المتتالية وسقوط الحاميات الفارسية مهّد الطريق لمعركة القادسية سنة 15 هـ، التي فتحت الباب لدخول المدائن، قلب الإمبراطورية الساسانية.


في البداية، لم تفرض العربية فرضًا على السكان، بل بقيت الفهلوية والآرامية حاضرتين في المعاملات المحلية، لكن الدواوين ظلت تديرها أيادٍ فارسية. العرب الفاتحون استقروا أولًا في معسكرات منفصلة، أشهرها الكوفة والبصرة، وهي مدن خطط لها خصيصًا لتكون قواعد عسكرية وإدارية، لكنها تحولت سريعًا إلى مراكز ثقافية ولغوية.


المؤرخ البلاذري أشار إلى هذه المرحلة بقوله:


"وكانت الكوفة والبصرة منازل العرب ومثابة جموعهم، ومنها يفيضون إلى البلاد، فغلبت لغتهم على من جاورهم."



هجرات القبائل وتثبيت العربية


بعد الفتح، لم تكن الجيوش وحدها هي التي جاءت إلى العراق؛ بل تلتها موجات هجرة كبيرة من قبائل تميم، وبكر بن وائل، والأزد، وعبد القيس، وغيرها. هذه القبائل لم تبقَ في المعسكرات، بل انتشرت في القرى والمدن على ضفاف الفرات ودجلة، وبدأت تدريجيًا في التزاوج والتجارة مع السكان المحليين.


مع كل جيل جديد، كانت العربية تزداد رسوخًا، خاصة في المدن المختلطة. البصرة والكوفة أصبحتا مختبرًا لغويًا هائلًا، إذ تمازجت لهجات القبائل العربية مع الألفاظ الفارسية والآرامية، مكوّنة ما يمكن أن نسميه "العربية العراقية" في طورها المبكر.


ابن خلدون يذكر هذه الظاهرة عند حديثه عن العراق قائلاً:


"واختلط العرب بسائر الأمم بالعراق، فكان اللسان العربي هو الغالب، مع بقاء أثر للأعجمية في بعض الألفاظ."



سياسة الدولة وتعريب الإدارة


حتى منتصف القرن الأول الهجري، كانت دواوين العراق تدار بالفهلوية، لكن مع حكم الخليفة عبد الملك بن مروان، بدأ مشروع شامل لتعريب الدواوين في كل الأمصار، فأصبحت العربية اللغة الرسمية للمعاملات الحكومية. في العراق، أشرف الحجاج بن يوسف على هذه العملية، التي لم تكن مجرد تبديل لغة الوثائق، بل تدريب الموظفين على العربية، وتوظيف كتّاب عرب مكان الكتّاب الفرس.


هذا القرار جعل تعلم العربية ضرورة اقتصادية واجتماعية، وأدى إلى انتقالها من لغة القبائل الفاتحة إلى لغة السوق والسلطة.




التفاعل الاجتماعي والاندماج الثقافي


العراقيون، خاصة في المدن، لم يقاوموا العربية بقدر ما استوعبوها، لأنها جاءت مع دين جديد وحضارة صاعدة. المدارس القرآنية في المساجد، وحلقات العلم، جذبت أبناء السكان الأصليين، ومع تعلم القرآن، كان تعلم العربية شرطًا لفهمه.


كما أن الحياة في الكوفة والبصرة جعلت الاحتكاك اليومي بالعربية أمرًا حتميًا، خاصة أن الأسواق، التي كانت تجمع التجار من الجزيرة وبلاد فارس والشام، صارت تدير التعاملات بالعربية.


مع مرور الوقت، تزاوجت القبائل العربية مع الأسر الفارسية والآرامية، مما خلق أجيالًا مزدوجة الثقافة، لكنها لسانها الأول كان عربيًا.




من لغة قبلية إلى لغة علم وحضارة


مع قيام الدولة العباسية وجعل بغداد عاصمتها سنة 145 هـ، شهد العراق مرحلة ذهبية للعربية. صارت اللغة أداة للفكر الفلسفي والعلمي، ومركزًا للترجمة عن الفارسية واليونانية والسريانية. لكن اللافت أن كل هذه العلوم المترجمة كانت تُصاغ في النهاية بالعربية، مما جعلها لغة حضارة عالمية، لا مجرد لغة محلية.


الجاحظ يصف بغداد في زمنه بقوله:


"هي مدينة الدنيا، ولسانها عربي، وإن كان فيها من الأمم ما لا يُحصى عدده."

من السواحل البيزنطية إلى قلب الصحراء: كيف تعرّب المغرب العربي؟


على أعتاب الفتح: أرض القبائل والمدن الساحلية


قبل أن يلوح لواء الإسلام في الأفق، كان المغرب العربي أرضًا شاسعة تتناوب عليها القوى، لكنها لم تخضع يومًا لسيطرة كاملة. في السواحل، كانت الحاميات البيزنطية تحكم المدن الكبيرة مثل قرطاج وسبتة وطنجة، تحرس الموانئ وتجمع الضرائب باسم الإمبراطور، بينما في الداخل تمتد ممالك وقبائل أمازيغية لا تعترف إلا بسلطانها وعاداتها.


الأمازيغ، بصلابتهم المعهودة، عاشوا بين الجبال والهضاب والسهول، يحافظون على لغتهم وعاداتهم، لا يغيّرها زمن ولا غزو. أما المدن الساحلية، فقد عاشت ازدواجية لسانية؛ اللاتينية في الإدارة والكنيسة، والأمازيغية في الأسواق والمنازل. الروم والبيزنطيون تركوا أثرهم في الحجر، لكن اللسان بقي أمازيغيًا في الغالب. كما يقول ابن خلدون:


"وأمّا البربر فإنّهم حفظوا لسانهم على ممرّ الدهور، ولم تنقطع دولتهم إلا إلى أمد قريب."



العربية تخطو أولى خطواتها في أرض الأطلس


حين وصل عمرو بن العاص إلى برقة، لم يكن يدرك أن هذه الخطوة ستفتح الباب أمام قرون من التحولات. الفتح الإسلامي لم يكن ضربة خاطفة، بل موجات متتابعة: الأولى في العهد الراشدي، والثانية مع عقبة بن نافع الذي أسس القيروان عام 50هـ، لتكون قلب العرب النابض في المغرب، وقلعة لغتهم.


في القيروان، اجتمع العرب القادمون من مصر واليمن والحجاز، ومعهم الفقهاء والقراء، فكانت العربية تُتلى في المساجد وتُكتب في الدواوين. ومن هناك، انتشرت القوافل الحاملة للسلع، وفي ثناياها الحروف العربية التي تتسلل إلى ألسنة الناس.


ابن خلدون وصف القيروان بأنها:


"دار ملك الإسلام بالمغرب، ومجتمع العرب، ومنها انبثوا في البوادي والقرى."

لكن الطريق لم يكن سهلًا. الأمازيغ في الداخل قاوموا في البداية، وبعضهم احتفظ بلغته قرونًا بعد الفتح. ومع ذلك، كانت العربية تكسب أرضًا كل يوم، لا بالسيف وحده، بل بالقرآن والتجارة والمصاهرة.




من لهجة القبائل إلى لغة المدن: اكتمال التعريب


على مر القرون، انصهرت الأمازيغية والعربية في بوتقة واحدة، فظهرت لهجات عربية بلكنة أمازيغية، وكلمات أمازيغية اختبأت في ثنايا العربية. المدن الكبرى مثل فاس وتلمسان ومراكش تعربت سريعًا، وأصبح أهلها يتحدثون العربية في الأسواق والمجالس، وإن ظل كثير منهم يعرف الأمازيغية ويحتفظ بها في بيته.


البكري، في وصفه لفاس في القرن الخامس الهجري، قال:


"أهلها من العرب والبربر، ولسانهم العربي، وإن كان فيهم من يحفظ كلام البربر."

الهجرات الكبرى مثل قدوم بني هلال وبني سليم في القرن الخامس الهجري عجّلت بانتشار العربية في البوادي، حتى صار الرعاة والمزارعون يتحدثون بها كما يتحدث بها القاضي في مجلسه. وبحلول القرن السابع، أصبحت العربية لغة العلم والشعر والإدارة، وصار من الصعب التفريق بين العربي والأمازيغي في الهوية واللسان.


ابن خلدون يلخص الأمر قائلاً:


"وأما أهل الأمصار بالمغرب فكلهم على اللسان العربي، إلا قليلاً من البربر بمواطنهم في الجبال."

وهكذا، من سواحل المتوسط حتى عمق الصحراء، أصبحت العربية لسانًا جامعًا، حمل معها الدين والفقه والشعر، وفتح للمغرب أبواب الأندلس والمشرق، وجعل منه جزءًا حيًا من الحضارة الإسلامية.
 
اخي الكريم

العرب من قبل الميلاد كانوا موجودين في بلاد الشام

وحتى عند دخول السلام كانت قبائل عربية مثل غسان وتنوخ وتغلب وجذام ولخم مسيحية ووقفوا مع الروم قبل ان يسلموا
 

فارس والعربية: محاولة تعريب أمة لم تغيّر لسانها


البداية: دخول العربية إلى أرض الأكاسرة


حين انهارت الدولة الساسانية بعد هزيمتها في القادسية (15 هـ) ونهاوند (21 هـ)، وجد الفرس أنفسهم أمام واقع جديد: سلطة عربية مسلمة تحكم بلادهم من المدائن أولًا، ثم من الكوفة والبصرة لاحقًا.
في البداية، لم يكن هدف العرب الفاتحين إجبار الفرس على التخلي عن لغتهم، بل كانت الإدارة تسير بلغاتهم المحلية (الفهلوية) في الدواوين، خاصة في عهد الخلفاء الراشدين. لكن هذا الوضع تغيّر جذريًا مع إصلاحات الخليفة عبد الملك بن مروان، الذي أمر بتعريب الدواوين في كل الأمصار، وأسند إلى الحجاج بن يوسف تنفيذ القرار في العراق وفارس.


تعريب الدواوين كان بداية دخول العربية إلى مؤسسات فارس، وأصبح لزامًا على أي موظف أو كاتب أن يتقنها ليحافظ على وظيفته. ومع ذلك، بقيت الحياة اليومية في الريف والمدن الداخلية تُدار بالفارسية، بينما انتشرت العربية في المدن الكبرى ذات الجاليات العربية الكثيفة، مثل الأهواز وأصفهان.





مرحلة الهجرات العربية والتمازج الجزئي


مع الفتح، جاءت إلى فارس قبائل عربية من بكر بن وائل وتميم وعبد القيس وغيرهم، خاصة إلى مناطق الأحواز وكرمان وفارس السفلى. هذه القبائل استقرت في مناطق استراتيجية، لكنها لم تذُب كليًا في المجتمع الفارسي، إذ احتفظت بلهجاتها وأعرافها، وظل الفرس ينظرون إليها كـ"عرب فاتحين" أكثر من كونهم شركاء كاملين.


ورغم وجود تزاوج بين العرب والفرس، إلا أن الطبقة الفارسية المثقفة (الدهقانة) حافظت على هويتها القومية واللغوية، معتبرة الفارسية إرثًا حضاريًا ضارب الجذور، لا يمكن التفريط فيه لصالح لغة البدو – كما كانوا يصفون العرب.





بذور المقاومة: من النفور الثقافي إلى الشعوبية


مع انتقال الحكم إلى الأمويين، وتصاعد الفوارق بين العرب والموالي (ومنهم الفرس المسلمون)، بدأت حالة استياء شعبي من التمييز الاجتماعي. هذا الشعور غذّى حركة فكرية وأدبية عُرفت بـ"الشعوبية"، دافعت عن فضل الأمم غير العربية، وأعلت من شأن التراث الفارسي.


يصف المسعودي هذه المرحلة في مروج الذهب بقوله:



"وكانت الفرس تذكر أيام ملوكها وتفتخر بأفعالهم، وتستعظم أمرهم، ولا ترضى أن تُقرع أسماعها بذكر فضل العرب."

العربية في هذه البيئة لم تعد مجرد لغة دين وإدارة، بل صارت رمزًا للسلطة السياسية التي يرفضها جزء كبير من الشعب، مما جعل تعلمها اختيارًا أكثر من كونه فرضًا شعبيًا.




أبو مسلم الخراساني والمجازر ضد العرب


عندما قامت الثورة العباسية بقيادة أبو مسلم الخراساني (129 هـ)، تحولت خراسان وفارس إلى ساحات تصفية حسابات بين العرب والفرس. أبو مسلم، رغم أنه رفع شعار نصرة آل البيت، استغل المشاعر المعادية للأمويين والعرب، وقام بعمليات قتل واسعة في صفوف القبائل العربية في خراسان.
هذه المجازر، كما يذكر الطبري، أضعفت الكثافة السكانية العربية في شرق فارس، وقطعت سلسلة التعريب الطبيعي التي كانت الهجرات قادرة على إحداثها بمرور الوقت.





استعادة الفارسية: من السطور الدينية إلى لغة الحكم


مع صعود الدولة العباسية، كان الفرس في قلب السلطة، لكنهم سرعان ما بدأوا إعادة إحياء لغتهم. في البداية، استمروا في استخدام العربية لغة للعلوم والدين، لكنهم عملوا على تطوير الفارسية لتصبح لغة أدب وإدارة.
وفي القرن الرابع الهجري، شهدنا ميلاد "الفارسية الجديدة" أو "الفارسية الدَرِيّة"، التي استخدمت الحروف العربية بدل الأبجدية البهلوية، ودمجت آلاف المفردات العربية في مفرداتها.


ابن النديم يصف هذا التحول في الفهرست:



"وكان الفرس قد تركوا رسمهم في الكتابة بعد الإسلام، وصاروا يكتبون بالحروف العربية، مع تحريف يسير في بعض الأشكال."



العربية التي بقيت… والفارسية التي انتصرت


فشلت العربية في أن تصبح لسان الشعب الفارسي، لكنها تركت بصمات عميقة:


  1. الحروف: انتقلت الفارسية إلى الكتابة بالحرف العربي المعدّل، الذي ما زال مستخدمًا حتى اليوم.
  2. المفردات: دخلت آلاف الكلمات العربية إلى الفارسية، خاصة في مجالات الدين والإدارة والعلم (مثل: كتاب، مدرسة، دولة، قانون، صلاة، قاضي…).
  3. الثقافة الإسلامية: حتى مع هيمنة الفارسية، ظل القرآن وتلاوته بالعربية حاضرًا في حياة الفرس.

لكن في المقابل، انتصرت الفارسية كلغة حياة وأدب، مدعومة بوعي قومي قوي، ونجحت في احتواء العربية بدل أن تُحتوى بها.


من هم «الترك» وكيف التقوا بالعرب؟


في البداية، لم يكن هناك «ترك واحد» بل هي سلالات وقبائل تتقاطع في سهوبٍ شاسعة: أوغوز، قِرغيز، قُرخان، قِرخانيون، وغيرهم. كانوا في جوهرهم رعويين ومُقاتلين، يغزون ويعودون، يتاجرون على طريق الحرير، ويبيعون خيولهم وفروهم في أسواق المدن. المدن نفسها — بخارى، سمرقند، ترمذ — لم تكن تركية اللغة؛ كانت سغدية وفارسية في كتابتها وإدارتها، والترك يأتون إليها ضيوفًا أو محاربين أو مرتزقة.


الاحتكاك الأول مع العرب كان عبر حدود فارس وخراسان: التجار، الميمنة، الحمايات. عندما عبرت جيوش قتيبة بن مسلم وأصحابها جيحون، تغيرت طرق اللقاء — صار هناك لقاءٌ مباشر في المدن والحصون، لكن طبيعته بقيت انتخابية: العرب جاءوا كقوات فاتحة ومتعاقبة، لا كمستعمرين مدنيين بالمعنى الذي غيّر لغات مثل مصر.




قتيبة وفتوحات ما وراء النهر: احتكاك تبقى نتائجه محدودة​


مشاهد قُتيبة بن مسلم أمام حصون السغديين كانت مَشاهد حربٍ وتبادلٍ ثقافي، لكن الفتح العسكري لا يساوي استيطانًا لغويًا. العرب تركوا مساجد وأسموا أحياء، وعلّموا القرآن، لكن سكان المدن ظلوا يتكلّمون سغدياً وفارسياً، وأهل الحواضر حافظوا على ثقافتهم المكتوبة. لذلك دخلت العربية كمقدّس: لغة الصلاة والقرآن، ولغة الخطاب الرسمي في بعض المرات، لكنها لم تصبح لغة الشارع بين أهل المدينة.


التقارب كان عمليًا: التجار والمرابون أدخلوا مفردات عربية إلى الأسواق، وبعض أسماء المناصب انتقلت، لكن المنطلق الحضاري ظلّ محليًا؛ لغة الإدارة والقصور كانت لا تزال – غالبًا – الفارسية أو السغدية.




الهجرات ليست بالضرورة تعريبا: لماذا لم يغيّر وصول الأتراك لغتهم؟​


حتى لو هاجر بعض الأتراك غربًا، فالحاسمة هنا طريقة الهجرة: القبائل التركية تحرّكت جيوشًا وقطعانًا، ولم تتشكل مجتمعات مدنية عربية ضخمة داخل أراضيها. اللغة تُغيَّر على نطاق واسع عندما تكون هناك أغلبية أو طبقة ذات غلبة لغوية طويلة الأمد — مثل ما حدث في مصر أو الشام حيث صار للعرب أحياء ومدن وأعراس ومجالس تتكاثر فيها الأجيال الناطقة بالعربية.


الترك حافظوا على خُصائص النقل الشفوي: حلقات السرد، الشعر الشفهي، نسب القبيلة، والتوارث عبر الأسر. هذا النمط الاجتماعي يولّد صعوبة في إزاحة اللغة الأم. كما أن كثيرًا من القادة الأتراك وجدوا في الفارسية لغة سلطةً وثقافةً مرموقة، فتبنّوها بدل تبني العربية — وهو ما سنفصله الآن.




العصر العبّاسي: استقدام الترك، موالاةٌ ثم سلطة، وتأثيرٌ لا يكفي للاستبدال​


العباسيون، الذين نشأوا بدعم من خراسان، احتكّوا بالترك أولا كقوةٍ عسكرية، ثم وظفوهم كجندٍ وغلمان وكتّابٍ وخدمٍ. بمرور الوقت صار للترك وجود فعلي في قلب الحكم العباسي: جنود المماليك، والقادة، وأُسر البلاط. هذا الوضع أعطى للترك وصولًا إلى مراكز القرار، لكنه لم يدمّر لغتهم بل جعله تصطفّ أمام مسارين:


  • لغوياً ودينياً، كانوا يَتعلمون العربية لقراءة القرآن والفتوى — ذلك واجب لا مَناصّ منه؛
  • ثقافيًا وإدارياً، كانوا يلتصقون في كثير من الأحيان بالفارسية، لأنها كانت لغة البلاط والإدارة والادب في المشرق الإسلامي.

نقطة محورية هنا: كثيرون من القادة والناعقين الأتراك لم يقْدِموا على «التحوّل إلى عرب» لأن الاستفادة السياسية والاجتماعية كانت تكمن في الفارسية. التحوّل اللغوي الكبير يحتاج حافزًا اجتماعيًا — والفرصة في شرق الإسلام كانت غالبًا للفرس، لا للعرب، فتجلّت «الفرسنة» في البلاطات التركية قبل أن تُسمع «العربية» كلغة شعبية.




الفصل الخامس — قيام السلالات التركية: لماذا حفظوا لغتهم؟


عندما تشكّلت دول تركية: الغزنويون، السلاجقة، القراخانيون، خانات وسط آسيا، لم تكن هناك مناعةٌ ضد العربية كدين، بل هناك رفضٌ لفقدان اللغة الأم باعتبارها صمام هوية قبليّ. سلاطين مثل سلجوقيان وغياث الدولة فضلوا الفارسية في ديوانهم، وتركوا التركية لغة الجيش والريف. نفس الحال مع العثمانيين لاحقًا: البلاط العثماني ادّعى العربية في الدين، لكن الديوان كان عثمانيًا/تركيًا، وكتّاب السلطان يكتبون بالفارسية أحيانًا، وبالتركية في دواوينهم.


النتيجة: اللغة التركية نمت وتطورت وحفظت نفسها، فيما استوعبت العربية بطرق محددة جدًا — على مستوى الدين والمصطلح، وفي عدد لا يُحصى من القروض اللفظية — لكنها لم تذِق أن تكون لسان الشعب الوحيد.




التمازج اللغوي: ما أخذته التركية من العربية وكيف تبدّل هي بدورها


الحياة العملية تترك آثارها دائماً في اللغات. التركية — خصوصًا في عالم الإسلام — امتصّت آلاف الألفاظ العربية في مجالات الدين (إمام، مسجد، حجّ)، القضاء (قاضي، شرع، فقه)، الدولة (سلطان، وزارت، ديوان)، والثقافة (كتاب، علم، مَقْهى). هذه المفردات لم تُلغِ التركيّة؛ بل أُلبِسَت ثوبًا صوتيًّا تركيًا واندمجت طبيعيًا.


كما أن اعتماد الحرف العربي لكتابة التركية (بأشكالٍ مطوّعة لاحقًا) كان تغييرًا شكليًا عميقًا: الخطّ العربي صار أداة كتابة لقصائدٍ تركية، ونُسِخت به دواوين الشعر، فارتبطت به التركيّة كتابةً بينما بقيت منطوقةً تركية. هذا التبنّي للخطّ عزّز الاتصال الثقافي لكنه لم يستبدل الروح اللغوية.




الأناضول: حيث تغيّرت المعادلات فجأةً بفضل الاستيطان التركي الطويل


القصة في الأناضول تختلف: هنا دخل الأتراك تدريجيًا، وبعد ملاذكرد (1071م) بدأت موجات هجرة تركية دائمة استوطنت القرى والمدن. الأناضول كانت آنذاك يونانية ومسيحية؛ الهجرة التركية الطويلة، تليها إسلام السكان وتدفق القبائل، أنتجت في نهاية المطاف عملية «تركّنة» حقيقية: لغة الشعب انتقلت تدريجيًا إلى التركية. هذه ليست قصة تعريب بالعربية، بل استبدال لغوي بفعل ديموغرافيا هجرة وتركيبة اجتماعية جديدة.




قراءات تاريخية: ماذا قال المؤرخون؟


أشار بعض المؤرخين المسلمين إلى طبيعة الترك وقوة لغتهم الشفاهية. قال ابن خلدون في مقدمته بصراحة ملاحَظة نفسية-اجتماعية:


«الترك أهل بداوة، لا يغلب على لسانهم غيرهم إلا أن يسكنوا الحضر ويخالطوا العجم.»

وبيروني (بحكم عمله في آسيا الوسطى) لاحظ أن الشعوب التركية تأخذ من لغات الآخرين ما تحتاجه من مفردات وممارسات، ثم تعيد صوغها على طريقتها — ليس امتصاصًا أو استبدالًا كاملاً. هذه شهادات تؤكد ما رصدناه: تأثير عربي واضح، لكن لا سيطرة لغوية.




العربية بصمةٌ لا تُمحى، والتركية قلبٌ باقٍ


إذا أردنا اختصار القصة في سطر واحد: العربية دخلت بصفاتها كدين ولغة علم وفكر، وأثّرت في التركية تأثيرًا كبيرًا في المفردات والكتابة والشكل الديني، لكنها لم تغيّر بنيتها الأساسية لأن الظروف المعيارية للتعريب — استيطان ديموغرافي عربي كبير، وإرادة نخبوية لتحويل اللغة، واحتكار مؤسساتي للعربية — لم تتوافر في فضاء الترك. على العكس: كثير من القادة الأتراك وجدوا في الفارسية أداة تماهي وشرعية ثقافية، وفي التركية مصدر هويةٍ لا يُهدر.


وفي عبارة تلخّص روح الأمر، يمكن القول بما يقارب ما لاحظه المؤرخون: اللغة تُنتزع أو تُحفظ بحسب ما يقرره الناس في بيوتهم قبل أن يقرره السيف في الميادين.
 

حين تتكلم الأرض… لماذا نجحت العربية هنا وفشلت هناك؟


من يتأمل رحلة العربية، يكتشف أنها لم تكن تسير بخط مستقيم، بل كانت تشبه موجًا يعلو في شاطئ، ثم ينكسر في آخر.
ففي مصر والمغرب والشام والعراق، وجدت العربية بيئةً حاضنة: هجرات عربية كثيفة، اندماج اجتماعي، سلطة سياسية مركزية، ولغة دينٍ واحد يوحّد المآذن والقلوب. يصف المؤرخ ابن عبد الحكم دخول العرب لمصر قائلاً: «لمّا نزلوا بها، اختلطوا بأهلها حتى لم تفرّق بينهم عين ولا أذن».


أما في فارس والأناضول وأرض الترك، فقد كانت الصورة مغايرة. هناك، وقفت لغات راسخة كالفارسية واليونانية والتركية بتراثها المكتوب، تحرسها طبقات مثقفة وجيوش من الأدباء، بينما العرب كانوا أقلية عسكرية أو إدارية. ولمّا جاءت الشعوبية، رفعت شعارها القديم: «لكل قوم لسانهم، فكيف نبدّل ألسنتنا؟».


سر النجاح كان في مزيج معقد: استيطان واسع، سلطة موحّدة، وحاجة الناس للغة الإدارة والقرآن. وسر الفشل كان في غياب هذه العناصر، مع قوة الهوية الثقافية الأصلية، وصعود قوى محلية تنافس المشروع العربي.




من لهجة قبائل إلى لغة أمم: كيف غيّر الإسلام وجه العربية؟


قبل الإسلام، كانت العربية لغة شعرية قبلية، حية على ألسنة شعراء مثل امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى، لكنها لم تكن لغة دولة موحدة. فجاء الإسلام، فرفعها من ميدان الفروسية والخيمة، إلى ميدان الإدارة والمكتبة، وجعلها لغة الوحي: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}.


هذا النص القرآني أعطاها قداسة، وجعل تعلّمها عبادة، فصار العربي الأعجمي يجتهد في النحو والصرف ليحسن قراءة الفاتحة. ومع الفتوحات، خرجت العربية من الجزيرة تحمل معها الدين والإدارة والعلم، وتدخل إلى دمشق والقاهرة وقرطبة وسمرقند.




الأثر الذي لا يُمحى: حين صارت العربية جسرًا بين حضارات العالم


كانت بغداد في القرن الثالث الهجري قلب العالم الثقافي، وفي بيت الحكمة ترجمت علوم اليونان والهند وفارس إلى العربية، ثم منها إلى اللاتينية. ويقول المستشرق جوستاف فون جرونيباوم: «العربية كانت لغة العلم الأولى في العالم لأكثر من خمسة قرون».


دخلت مصطلحاتها إلى أوروبا عبر الأندلس وصقلية: algebra (الجبر)، algorithm (الخوارزمي)، azúcar (السكر)، aceite (الزيت). وفي إفريقيا، امتدت مع قوافل الملح والذهب إلى تمبكتو، وفي آسيا تركت بصمتها على الأوردية والملايوية والفارسية.

تمام، خلينا نغوص أكتر في فكرة إن العربية لغة تستقبل الغرباء وتمنحهم مفاتيحها، ونحكيها بأسلوب سردي مليان أمثلة وحياة.




لغة تستقبل الغرباء وتمنحهم مفاتيحها


العربية على عكس كثير من اللغات لم تُغلق أبوابها في وجه من يطرقها، بل كانت دائمًا كما يصفها المؤرخ الأندلسي لسان الدين بن الخطيب: «لسان يلبس من يتحدث به حلّة العرب».
منذ اللحظة التي خرج فيها العرب من الجزيرة إلى الأمصار، كان في صفوفهم المقاتل العربي، والمولى الفارسي، والحليف القبطي، والمترجم السرياني. هؤلاء لم يُعاملوا كلغةٍ أجنبية، بل دُعوا إلى استخدامها فورًا، حتى لو لم يتقنوها بعد.


في البصرة والكوفة مثلاً، جاء الفرس والنبط والسريان، ودخلوا حلقات العلم بجوار العرب، وتعلموا النحو والبلاغة، حتى أن سيبويه – وهو فارسي الأصل – صار المرجع الأول لقواعد العربية. كان هذا المشهد في ذاته شهادة على أن العربية لا تسأل عن نسبك، بل عن لسانك.


الأمر نفسه تكرر في الشام، حيث اعتنق كثير من السريان والعبرانيين العربية سريعًا، وبدأوا يكتبون بها مؤلفاتهم الدينية والعلمية. البطريرك يوحنا النحوي في القرن الثامن مثلاً كتب رسائل لاهوتية بالعربية، رغم أنه جاء من بيئة آرامية خالصة.


وفي الأندلس، لم يكن معظم العلماء الكبار من أصل عربي صريح، بل من أصول بربرية أو إسبانية قوطية، لكن العربية منحتهم مفاتيحها، فأصبحوا شعراء وفلاسفة، مثل ابن حزم وابن باجة وابن رشد. بل إن بعض الإسبان الذين بقوا مسيحيين – وعُرفوا باسم "المستعربين" – صاروا يكتبون بالعربية أفضل من العرب أنفسهم.


المثير أن العربية لم تكن فقط وسيلة للتواصل، بل كانت بطاقة انتماء. من يتحدث بها بطلاقة، ويكتب بها شعرًا أو علمًا، كان يُحسب على أهلها، حتى لو كان أبوه يتحدث لغة أخرى. كما قال الجاحظ: «العرب لا يسألون عن نسب الرجل إذا أتقن لغتهم».


حتى اللهجات العربية العامية في الأمصار، كانت بدورها منفتحة على الغرباء. المصريون مثلاً دمجوا العربية مع كلمات قبطية، والمغاربة دمجوها مع الأمازيغية، لكنهم ظلوا يرون أنفسهم جزءًا من الفضاء العربي الكبير، وتفاهموا بسهولة مع إخوانهم في المشرق.


وهنا نرى كيف أن العربية كانت وما زالت جسرًا للاندماج الحضاري، تمكّن الداخل إليها من حمل إرثها، والمساهمة فيه، حتى وإن كان بالأمس يتحدث لغة أخرى تمامًا.
 

مصر ونهضة اللسان العربي من جديد


مع بداية القرن التاسع عشر، كانت العربية – في أغلب أرجاء العالم العربي – قد تراجعت في ساحة الأدب الراقي أمام التركية العثمانية والفارسية، وصارت لغة الدين وبعض الشؤون الرسمية، لكنها ابتعدت عن روح الإبداع التي عُرفت بها في القرون الأولى.
ثم جاء في مصر جيل من النهضويين والشعراء الذين أعادوا للعربية أنفاسها، فأنزلوها من رفوف المساجد إلى ساحات الحياة اليومية، ورفعوها من لغة النساخ إلى لغة الصحف والمدارس والقصائد الوطنية.


كان رفاعة الطهطاوي أحد رواد هذا الإحياء، حين ترجم عشرات الكتب من الفرنسية إلى العربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لكنه لم يكتفِ بالترجمة الحرفية، بل صاغ عبارات جديدة، وأدخل ألفاظًا علمية وأدبية أغنت القاموس العربي. في كتابه تخليص الإبريز في تلخيص باريز كتب جملة صارت شعارًا للنهضة: «اللغة وعاء الفكر، فإذا ضاق الوعاء ضاق الفكر».


ثم جاء محمود سامي البارودي، الذي يُلقب بـ"رائد النهضة الشعرية الحديثة"، ليعيد الشعر العربي إلى بحوره الكلاسيكية وقوافيه الرصينة بعد قرون من الركود. قصائده أعادت للأذن العربية إيقاع المعلقات، ولكن بروح وطنية معاصرة، حتى قال عنه طه حسين: «هو الذي ردّ إلى العربية نضارتها بعد أن كاد يذبلها الإهمال».


أما أحمد شوقي، أمير الشعراء، فقد أخذ لواء البارودي، لكنه جعله أكثر إشراقًا، فكتب مسرحيات شعرية كاملة بالعربية الفصيحة، وأدخلها مجال الفنون التمثيلية، لتصبح الفصحى لغة على المسرح، بعد أن كانت العامية هي السائدة فيه.


وفي النثر، لمع نجم المنفلوطي، بأسلوبه المميز في الصياغة، الذي امتزج فيه السجع الخفيف مع العمق العاطفي، وجعل القارئ العادي يعشق الفصحى من خلال روايات وقصص إنسانية مؤثرة.


وفي الصحافة والأدب الفكري، لعب طه حسين والعقاد والمازني أدوارًا كبيرة في جعل الفصحى لغة جدل ثقافي وفلسفي، لا مجرد وعاء ديني أو أدبي تقليدي. طه حسين في الأيام جعل السيرة الذاتية تُكتب بفصحى رشيقة قريبة من القلب، والعقاد في مقالاته فتح أبواب العربية على مصراعيها للنقاش الفكري الحديث.


وكان لكل هؤلاء تأثير عابر للحدود؛ فقد قرأ المشرقيون والمغاربة نتاجهم، وقلدهم الكتّاب في الشام والعراق واليمن، وكأن مصر في تلك اللحظة صارت "قلب العروبة الثقافي" بحق.


كما أن الإذاعة المصرية في منتصف القرن العشرين، عبر أصوات مثل أم كلثوم وعبد الوهاب، ساهمت في ترسيخ مفردات عربية فصيحة في أذهان الجماهير، من خلال الأغاني الوطنية والقصائد المغناة، فصار الناس يحفظون الشعر كما يحفظون الأناشيد.


وهكذا، أعاد الأدباء والشعراء المصريون للعربية مكانتها التي كادت تضعف، وجعلوها لغة حياة وحب وفكر، بعد أن كانت مهددة بأن تصبح حبيسة الكتب القديمة. وكما قال العقاد: «اللغة الحية هي التي تعيش على ألسنة الناس، لا في بطون المعاجم».


تمام، هنكمل بنفس الأسلوب السردي الغني بالتفاصيل والاقتباسات عن دور النهضويين في الشام والمغرب العربي في إحياء اللغة العربية، ونبدأ بالشام ثم ننتقل للمغرب العربي.




الشام... حارس الفصحى ومُبدع صورها الحديثة


في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان للشام – بمدنه الكبرى مثل بيروت ودمشق وحلب – دور محوري في إحياء العربية، خاصة عبر حركة الطباعة والصحافة.
ظهرت المطابع في بيروت أوائل القرن، ثم انتشرت في حلب ودمشق، وجعلت الكتاب المطبوع بالعربية متاحًا للجمهور بعد أن كان المخطوط حكرًا على العلماء. بطرس البستاني، الملقب بـ"أبو النهضة"، أسس دائرة المعارف، وهي أول موسوعة عربية حديثة، وصنع بها قاموسًا للعلم والثقافة بلغة فصيحة ولكن قريبة من القارئ.


ثم جاء ناصيف اليازجي، الذي استعاد أسلوب المقامات البديع، وكتب نصوصًا أدبية تمزج بين البلاغة القديمة وروح النهضة. وقد قال في إحدى رسائله: «إن العربية لا تُحيا إلا إذا صارت لغة أهل البيت والمجالس، لا لغة العلماء وحدهم».


ولعبت الصحف الشامية مثل الجنان ولسان الحال دورًا مشابهًا لما فعلته الصحافة المصرية، لكن مع نزعة قوية للبحث في التراث وإحياء النصوص القديمة، مما رسّخ الوعي بالصلة بين الماضي والحاضر.


وفي مطلع القرن العشرين، ظهر شعراء المهجر – كثير منهم شاميون – مثل جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة، الذين حملوا الفصحى معهم إلى الأمريكيتين، فكتبوها بأسلوب إنساني عابر للجغرافيا، وأعادوا للعربية حسها الفلسفي والرمزي. جبران مثلاً كتب: «إنما اللغة روح الأمة، فإذا ذهبت روحها تفرّق جسدها».




المغرب العربي... عودة الفصحى رغم الاستعمار


في المغرب العربي، كانت العربية تواجه تحديًا مختلفًا؛ فقد جاء الاستعمار الفرنسي والإسباني في القرن التاسع عشر محاولًا إحلال لغاته محل العربية، خاصة في التعليم والإدارة. لكن النهضويين هناك لم يستسلموا، بل جعلوا من الدفاع عن الفصحى معركة هوية.


في الجزائر، برزت جمعية العلماء المسلمين بقيادة عبد الحميد بن باديس، الذي اتخذ شعارًا خالداً: «شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب». بن باديس كتب مقالات وخطبًا بالعربية في زمن كان التحدث بها في المدارس جريمة يعاقب عليها المستعمر.


وفي المغرب، ساهم علال الفاسي في ربط العربية بحركة التحرر الوطني، فكتب شعرًا ومقالات تحث على تعليمها ونشرها، واعتبرها "السد الأول أمام ذوبان الهوية المغربية في الفرنسية".


أما في تونس، فكان الطاهر بن عاشور وإصلاحيو جامع الزيتونة يعيدون إنتاج المناهج بالعربية، ويؤلفون كتبًا حديثة الأسلوب، مما جعل الفصحى لغة التعليم الديني والعلمي معًا.


رغم الظروف القاسية، بقيت العربية في المغرب العربي حية في المساجد والأسواق والأغاني الشعبية، حتى إذا جاء الاستقلال، عادت لتصبح لغة التعليم والإدارة، وإن كان التحدي مع اللغات الأجنبية ما زال قائمًا.
 

العربية… لغة لا تموت مهما تبدلت الرياح


ولدت العربية في قلب الجزيرة، بين رمال الصحراء وجبال الحجاز، في مجتمع قبلي شديد الارتباط بالشفاهية، حيث كانت الكلمة الموزونة أعظم من الذهب، وكان الشاعر لسان قبيلته. في تلك البيئة، صقل البدو لسانهم حتى بلغ ذروة البلاغة قبل أن يعرفوا دولةً أو مدينةً عظيمة. كانت العربية يومئذٍ أداة فخر وهوية، لكن حدودها لم تتجاوز البادية وبعض أطراف الحواضر العربية في اليمن والحيرة والغساسنة.


ثم جاء الإسلام، فانتقلت العربية من ضيق القبيلة إلى سعة الأمة، من كونها لغة قصيدة إلى لغة كتاب مقدس، ومن لهجات متعددة إلى معيار واحد هو لغة القرآن. ومع الفتوحات، عبرت حدود الجزيرة إلى العراق والشام ومصر والمغرب، ثم إلى الأندلس وآسيا الوسطى والهند. صارت لغة الحكم والإدارة في عهد الأمويين، ثم لغة العلم والفلسفة في عهد العباسيين، حتى كتب بها الفرس والترك والبربر والهنود، وأضافوا إليها من علومهم وفنونهم ما جعلها لغة حضارة كونية.


في مصر، حلّت محل القبطية تدريجيًا، بفضل الإدارة العربية والهجرات، حتى أصبح المصريون يتكلمونها بلهجتهم الخاصة التي ما زالت تحمل أثرًا قبطيًا في بعض الألفاظ. وفي الشام، وجدت العربية أرضًا مهيأة بفضل وجود قبائل عربية منذ قرون، فأصبحت بسرعة لغة المدن والريف. وفي المغرب، قاومت الأمازيغ فترة، لكن التزاوج والاندماج السياسي والثقافي جعلا العربية لسان الأغلبية، دون أن تمحو الأمازيغية التي ظلت حية إلى اليوم. أما العراق، فقد احتضن العربية منذ العصر الأموي، حتى صار مركز إشعاعها في العصور العباسية، بفضل أعلام مثل الخليل بن أحمد وسيبويه والكسائي.


لكن العربية لم تنتصر في كل مكان. ففي فارس، قاومت الفارسية بصلابة، حتى بعد قرون من الحكم العربي. ساعد على ذلك اعتزاز الفرس بثقافتهم، وصعود الحركة الشعوبية، ومجازر مثل تلك التي ارتكبها أبو مسلم الخراساني ضد العرب. وفي الأناضول وآسيا الوسطى، ورغم الوجود العربي لفترة، لم تتخل الشعوب التركية عن لغاتها، خاصة بعد أن أصبح لهم نفوذ سياسي كبير في الدولة العباسية والدول اللاحقة، حيث ظلوا يستخدمون التركية والفارسية كلغات أدب وإدارة، مع تأثرهم العميق بالمفردات العربية.


ثم جاءت العصور الحديثة، وحلّ الاستعمار الأوروبي محل الدولة العثمانية في أغلب البلاد العربية، فتراجعت العربية أمام الفرنسية في المغرب والإنجليزية في المشرق. لكن النهضة الفكرية في القرن التاسع عشر، بقيادة مثقفين مثل رفاعة الطهطاوي في مصر وبطرس البستاني في الشام، وشعراء مثل محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، أعادت للعربية ألقها. كتب البارودي ما أُطلق عليه "إحياء الشعر العربي"، وأعاد شوقي صياغة المعلقات بروح العصر، أما حافظ إبراهيم، شاعر النيل، فوقف يخاطب العربية كأنها كائن حي يخشى عليه:


أنا البحر في أحشائه الدر كامن ** فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟


اليوم، تقف العربية على مفترق طرق. فهي لغة رسمية لأكثر من 400 مليون، وواحدة من ست لغات أممية، وحاضرة في الإعلام والإنترنت، لكن التحديات كثيرة: سيطرة اللهجات على الحياة اليومية، ضعف التعليم باللغة الأم، وهيمنة اللغات الأجنبية في البحث العلمي. ومع ذلك، ما زالت العربية قادرة على التكيف، إذ تستعير ما تحتاجه من ألفاظ، وتمنح الوافدين إليها مفاتيحها كما فعلت مع الفرس والأتراك والأمازيغ قديمًا.


كما قال المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون: "العربية بحرٌ من المعاني، تستطيع أن تغمر حضارةً كاملة وتمنحها لسانًا واحدًا"، وهي ما زالت تفعل ذلك، رغم تبدل الأمواج والرياح.
إنها لغة تعرف أن تتنفس مع التاريخ… فلا تموت، بل تتشكل وتعود، كما فعلت مرارًا عبر القرون.


1755023191423.png
 
انتهي بفضل الله و رحمته
لو في اي تقصير مني ارجو تنبيهي للتعديل و اتمني ان ينال الموضوع اعجابكم

و اتمني من الإدارة @الإدارة لو شافت ان الموضوع كويس بناء علي رائي الاعضاء ان تقوم بتثبيته لانه بصراحه اخد مني جهد و تعب كتير


 
اخي الكريم

العرب من قبل الميلاد كانوا موجودين في بلاد الشام

وحتى عند دخول السلام كانت قبائل عربية مثل غسان وتنوخ وتغلب وجذام ولخم مسيحية ووقفوا مع الروم قبل ان يسلموا


ثالثًا: العرب وبلاد الشام... احتكاك دائم قبل الفتح


ما من حقبة في تاريخ الشام إلا وكان للعرب فيها أثر أو حضور. فقد كانت الصحراء العربية ملاصقة للشام، وكانت القوافل تسلك طريقها من الحجاز إلى الشام منذ أقدم العصور. كان العرب جزءًا من المشهد، وإن من خلف الستار.


أول احتكاك جدي يمكن رصده يعود إلى زمن الأنباط، العرب الذين أسسوا مملكة مزدهرة بين جنوب الأردن وشمال الحجاز وعاصمتها البتراء. هم عرب بالحرف، ولكنهم استعملوا الآرامية في الكتابة، ثم طوروا نصًا خاصًا صار لاحقًا أصل الخط العربي. كانت مملكتهم التجارية جسراً بين العرب والشام حتى اجتاحها الرومان عام 106م.


ثم برز دور عرب الغساسنة، الحلفاء المسيحيون للإمبراطورية البيزنطية، الذين استقروا في جنوب الشام وتولوا حماية الحدود ضد الفرس والقبائل المعادية. كانوا عربًا أقحاحًا، لكنهم تهيلنوا ثقافيًا ودينيًا، واتخذوا من بصرى وجوارها مركزًا لهم. وفي المقابل، كان هناك المناذرة في الحيرة (العراق)، وهم حلفاء للفرس. وبين الطرفين دارت حرب طويلة بالوكالة.


لكن العرب لم يكونوا فقط جنودًا أو مرتزقة. فقد استقر بعضهم في دمشق، وفي تخوم المدن الكبرى، وجلبوا معهم عاداتهم وأسواقهم. كانت أسواق الحج، كسوق دومة الجندل وبصرى، مكانًا للتفاعل التجاري والثقافي. وجاء التجار من مكة ويثرب إلى الشام مرارًا، بل إن الرسول محمد نفسه ذهب في شبابه في رحلات تجارية إلى بصرى، والتقى الراهب بحيرا هناك.


ومع الزمن، أصبح العرب جزءًا من توازنات الشام. لا هم غرباء تمامًا، ولا هم جزء أصيل من الدولة. كانوا جسرًا بين الإمبراطوريات، لكنهم أيضًا كانوا البذرة التي ستنبت منها القوة الجديدة… قوة لا تتبع بيزنطة ولا فارس، بل تنبع من الصحراء وتحمل معها لغة العرب وعقيدتهم الجديدة.




حضرتك انا ذكرت ده
 
رغم انتشار العربية، بقيت القبطية قوية نسبيًا في الكنيسة والريف. فجاء الحاكم بأمر الله الفاطمي بقرارات صارمة: فرض العربية في الكنائس بجانب القبطية، ومنع استخدام القبطية في بعض المناسبات، وأمر بترجمة القراءات إلى العربية حتى يفهمها الجميع.


المقريزي يذكر أن هذه السياسة أدت إلى "انقطاع كثير من أهل القبط عن لغتهم"، وسرّعت من تحول الأقباط نهائيًا إلى العربية
قرأت أنه أمر بقطع لسان كل من يتحدث بلغة غير العربية
 
شكرا جزيلا على المجهود
ولكن بصراحه استغرب من ماتفضلت فيه؟
اول ذكر للعرب كان من الأكاديين وثم الآشوريين والبابليين في العراق وكلها قبل الميلاد ذكرت قيدار وثمود وطي
مملكه عربايه او الحضر كانت قبل الميلاد في العراق وكان ملوكها عرب ومن طي
بعدها مملكه ميسان وكانت عربيه وبالقرن الثاني بعد الميلاد وهم عرب
ومعها مملكه المناذرة حيث اول من أطلق على نفسهم ملوك العرب هم المناذره
العراق في الجاهليه كان طي ولخم وجذام وربيعه و إياد وأبناء قنص بن معد ومنهم المناذرة و قضاعه وتميم
سكن الفرس المدائن وسكن العرب في جميع أنحاء العراق بمافيها المدائن

من الأحداث التاريخيه لربيعه في العراق قبل الإسلام يوم ذيقار

ومن معارك ربيعه العراق مع باقي ابناء عمومهم فبسببهم جلت قضاعه لليمن

وكانت لهم يو خزاز

ويوم مبايض مع تميم وانتصر بطن أبا ربيعه من شيبان


وبدائه الفتح كان على أيد ربيعه في العراق بقياده المثنى بن حارثه الشيباني

سكن العرب في العراق بجميع المناطق حتى المدائن فسكنت فيها قبيله اياد

اما الفرس فسكنو من النهروان إلى كرمان

هناك لايزال الكثير من المعلومات فيما يخص العراق حيث كان أب للبطون العربيه القديمه
 

ثالثًا: العرب والعراق – من صحراء الحيرة إلى بوابة المدائن


علاقة العرب بالعراق لم تبدأ مع الفتح الإسلامي، بل ترجع إلى قرون سبقت ذلك. فمنذ القرن الثالث الميلادي، تأسست مملكة الحيرة على يد بني لخم، لتكون حليفًا استراتيجيًا للفرس الساسانيين ضد غارات القبائل البدوية، وضد حلفاء الروم من الغساسنة في الشام.


الحيرة لم تكن مجرد حصن حدودي، بل مركز حضارة عربية مبكرة. فيها بنى المناذرة القصور، وأقاموا مجالس الأدب والشعر، حتى قال الأعشى الكبير في مدح نعمان بن المنذر:
"ألم ترني وابنَ الكرامِ نعمانَ... نغادي ونمسي على سُرُر"


كما كانت الحيرة محطة على طريق التجارة بين الجزيرة والعراق، حيث تلتقي قوافل اليمن والحجاز بما يأتي من الهند وفارس. هذا الاحتكاك المستمر أوجد معرفة متبادلة بين عرب البادية وأهل العراق، ليس فقط في السلع، بل في اللغة والثقافة.


أما في الجنوب، فقد كان للعرب وجود في الأهوار والبوادي القريبة من البصرة، حيث كانوا يختلطون بالفلاحين والتجار الفرس والآراميين. وعند الفتح الإسلامي، لم يدخل العرب المسلمون أرضًا مجهولة، بل أرضًا يعرفون ملوكها، وطرقها، وأسواقها، ولهم فيها أقارب وحلفاء.



شكرا جزيلا على المجهود
ولكن بصراحه استغرب من ماتفضلت فيه؟
اول ذكر للعرب كان من الأكاديين وثم الآشوريين والبابليين في العراق وكلها قبل الميلاد ذكرت قيدار وثمود وطي
مملكه عربايه او الحضر كانت قبل الميلاد في العراق وكان ملوكها عرب ومن طي
بعدها مملكه ميسان وكانت عربيه وبالقرن الثاني بعد الميلاد وهم عرب
ومعها مملكه المناذرة حيث اول من أطلق على نفسهم ملوك العرب هم المناذره
العراق في الجاهليه كان طي ولخم وجذام وربيعه و إياد وأبناء قنص بن معد ومنهم المناذرة و قضاعه وتميم
سكن الفرس المدائن وسكن العرب في جميع أنحاء العراق بمافيها المدائن

من الأحداث التاريخيه لربيعه في العراق قبل الإسلام يوم ذيقار

ومن معارك ربيعه العراق مع باقي ابناء عمومهم فبسببهم جلت قضاعه لليمن

وكانت لهم يو خزاز

ويوم مبايض مع تميم وانتصر بطن أبا ربيعه من شيبان


وبدائه الفتح كان على أيد ربيعه في العراق بقياده المثنى بن حارثه الشيباني

سكن العرب في العراق بجميع المناطق حتى المدائن فسكنت فيها قبيله اياد

اما الفرس فسكنو من النهروان إلى كرمان

هناك لايزال الكثير من المعلومات فيما يخص العراق حيث كان أب للبطون العربيه القديمه
اظن اخي الكريم اني ذكرت ما تفضلت بيه لكن انا اسف اني لم افسر اكتر و اعتذر لك علي ده

و اتمني لو عند حضرتك معلومات و تفاصيل اكتر تشاركها خصوصا لو عن احتكاك العرب بالحضارات العراقيه القديمه و الكلام بخصوص ان حضاره زي الكلدانيه يعتبر مؤسسينها عرب مثلا
 
اظن اخي الكريم اني ذكرت ما تفضلت بيه لكن انا اسف اني لم افسر اكتر و اعتذر لك علي ده

و اتمني لو عند حضرتك معلومات و تفاصيل اكتر تشاركها خصوصا لو عن احتكاك العرب بالحضارات العراقيه القديمه و الكلام بخصوص ان حضاره زي الكلدانيه يعتبر مؤسسينها عرب مثلا
العفو اخي الكريم وشكرا على مجهودك
ولكن سأضيف معلومات اكثر فيما يخص العراق
 
عودة
أعلى