لم تكن سيرة أبي جلدة والعراميط، يومًا، سيرة عابرة أو مجرّد حكاية يخبو نجمها مع تقادم الزمن، بل ألهمت كثيرين للعيش على وقعها. ففي وقتٍ قياسي بين 1930- 1934، تحوّل هذان الاسمان إلى أسطورة فلسطينية مدهشة لا تزال عالقة في الذهن إلى يومنا هذا. هذه الأسطورة استفاضت في التعبير عن ذاتها حين استطاع صاحباها تشكيل عصابة مقاومة أرهقت الانتداب البريطاني لسنوات، ونجحت مئات المرات في الإفلات من الكمائن التي نصبها الإنجليز للإمساك بها، لدرجة أنّ “البوليس” البريطاني استقدم مئات القوات،وألبس أنفارًا منها لباسًا قرويًا، واشترى لهم حميرًا حمّلها عنبًا ليبيعوه في القرى لالتقاط أخبار أبو جلدة، لكن دون جدوى.
صحيفة “مرآة الشرق”، 26 تشرين أول 1933
لم تتوقف هذه المحاولات عند هذا الحدّ، بل عزمت الحكومة الانتدابية، آنذاك، على الاستعانة بفريق من جنود قوة الحدود لتضييق الخناق على الثائرَيْن ومنع المؤونة عنهما، واضطرارهما إلى الاستسلام، لكن لم تمضِ هذه الخطوة أيضًا في طريقها إلى النجاح.
صحيفة “مرآة الشرق”، 7 تشرين أول 1933
وبعدما استنفد الانتداب البريطاني طاقاته القصوى في العثور على صاحبَيْ الأسطورة تلك، أعلن الانتداب بدوره عن جائزة قدرها 350 ليرة لمن يدلي بأي معلومة عنهما، علّها تكون طرف خيطٍ يقود للإمساك بهما. ومن الواضح أن هذه الحيلة أتت ثمارها في شهر نيسان من العام 1934، إذ حاصرت القوات البريطانية أحد كهوف نابلس، والتي تحصّن بها “الملك أبو جلدة” والعراميط. وبعد أن ألقيا بأسلحتهما، أُلقي القبض عليهما، لتحكم المحكمة عليهما لاحقًا بالإعدام شنقًا، وذلك في 26 حزيران من العام نفسه (1934).
اللافت هنا أن الشهود الذين وثّقوا المحاكمة، كانوا شهودًا على لحظة تاريخية تختزل كل معاني الأسطورة التي سجّلاها أبو جلدة والعراميط، إذ سجّل أولئك الشهود في وقتٍ لاحق للمحاكمة أن المحكومَيْن بالإعدام لم يجزعا- البتّة- ولم تَبْدُ عليهما إمارات القلق أو الارتباك والذعر، وهما في طريقها إلى المشنقة. وكأنّهما يلاقيان الموت ببسالة وقلبٍ قوي، مقبلَيْن غير مدبرَيْن، من واقع التيقّن بأحقيّة قضيتهما وعدالتها. ويمكن الاستدلال على ذلك أيضًا بشقاء الدرب الذي قطعه كلٌّ من أبي جلدة والعراميط، دون أن يتراجعا، إذ كانت الجبال التي يحتمي بها أبو جلدة حصينة جدًا لا تصلها الأرجل إلا بشقّ الأنفس، وليس في طاقة الخيل أن تتسلّق إليها. كما ذكرت جريدة “مرآة الشرق”، في عددها الصادر بتاريخ 13 أيلول 1933، أن أبا جلدة كان إذا تمشى ليلةً في مكانٍ ما، فإنه كان يمشي طوال الليل ليبتعد عن ذاك المكان، ويخفي أي أثر يمكّن الانتداب البريطاني من اقنفائه والإمساك به ورفيق دربه صالح العراميط.
صحيفة “مرآة الشرق” ، 13 أيلول 1933
إن كلّ هذه الحقائق والوقائع التاريخية تجعلنا أمام نموذجين كانا مطمئنَيْن إلى مآلاهما الأخير في عزّ السجن، إذ في تاريخ 21 آب من العام 1934وقبل تنفيذ حكم الإعدام بحقّهما، طلب أبو جلدة من المفتي أمين الحسين أن يُوارَى الثرى في مدينة القدس التي تشكّل للثوّار بداياتهم وخواتيمهم وفطرتهم التي جُبِلوا عليها. غير أن الانتداب البريطاني وقف حجر عثرةٍ في سبيل ذلك الحلم، ليحتضن تراب طمون جسد أبي جلدة في نهاية المطاف، فيما ينغرس صالح العراميط في تراب نابلس، ويسير في جنازتيهما جمهورٌ كبيرٌ من أقاربهما والقرى المجاورة التي اتشحت سماؤها بالحزن عليهما، إذ كان معنى فقدانهما آنذاك كبيرًا، ومحرّضًا على القصاص والثأر في آنٍ واحد.
كما تذكر صحيفة “الدفاع”، في عددها الصادر بتاريخ 22 آب 1934، أن كلًا من أبي جلدة والعراميط كانا قد تسابقا على ملاقاة ربهما، وتنازعا الموت، كلٌّ يريده أولًا. فعلى الرغم من قرار إدارتي السجن والصحة بتنفيذ حكم الإعدام بحقّ العراميط أولًا، إلا أن أبا جلدة تقدّم للمشنقة قبل رفيقه وطلب تنفيذ حكم الإعدام فيه، لكن الإدارة لم ترضخ له، ليذهب العراميط إلى حتفه راضيًا ومنسحبًا إلى السماء قبل أبي جلدة، ومودّعًا إياه بالقول: “لا بأس في هذه النتيجة. ولا يأخذك الأسف على هذه الحياة في مثل هذا الحكم الجائر، وإن من يغلِبُ الرجال، سيُغْلَب ذات يوم”. فيما ألقى نظرة الوداع على زملائه المساجين، قائلًا: “خاطركم، يا إخوان! خاطركم، كلٌّ واحد منكم باسمه”، وملحقًا ذلك بنطقه بالشهادتين، قبل أن يتوقّف قلبه بعد تعليقه على حبل المشنقة بإحدى عشرة دقيقة.
صحيفة “الدفاع”، 22 آب 1934
بالمقابل، ودّع أبو جلدة رفيقه في الصحو والمنام، وهو يسير نحو حبل المشنقة بخطوات رزينة ثابتة، بأغنيات قروية حماسية شداها بصوتٍ مرتفع، وذلك من الساعة الثامنة صباحًا حتى الثامنة وخمسٍ وأربعين دقيقةً. كما كان كلٌ منهما كأنهما ذاهبان إلى عرسٍ وفرحٍ لا يُعوّض، إذ كانت أيديهما مخضبّة بالحناء ولحيتاهما محلوقة، وملابسهما نظيفة للغاية، وتفوح منهما روائحُ عطرة،ٌ وقتما حضرا ساحة الإعدام.
وفي إحدى شهادات جريدة “الدفاع” على إعدام أبي جلدة والعراميط، تصوّر الصحيفة أبا جلدة، وهو ملاقٍ الموتَ ببسالة لا نظير لها، كأنّه “ذاهب إلى السينما يختال في مشيته ويتبختر كالأسد”، بل إنّها لم ترَ من قبل موقفًا أكثر جرأة ورجولة مما عاينته بنفسها عن كثب عند أبي جلدة، متمنيةَ لو فشلت الحكومة في إلقاء القبض عليه، معتبرةً أن “إعدام مثل هذا البطل حرام”. ففي الساعة التاسعة صباحًا، سيق أبو جلدة إلى حبل المشنقة بخطى واثقة موزونة، ملتفتًا إلى المساجين ليودّعهم، والابتسامة تعلو محياه والشجاعة تتجلّى على أسارير وجهه. وبعد أن نطق بالشهادتين، نُفِذ فيه الحكم وتوقّفت حركة قلبه بعد ست دقائق من تعليقه على المشنقة.
صحيفة “الدفاع”، 22 آب 1934
لم تُطوَ صفحة أبو جلدة والعراميط مع إعدامهما، بل استحالت مفتوحةً على مئات القصص والحكايا والقصائد والأغاني. حتى على الجانب اليهودي، تغلّغلت سيرتهما في الأدبيات اليهودية والكثير من الأغاني والحكايات، إذ يستعيد- مثلًا-أرئيل شارون في مذكراته أبا جلدة والرعب الذي خلّفه للمسافرين، دون أن ينحّي أثر الخوف منهما على نفسه، بل عبّر في تلك المذكّرات عن خوفه، حين سافر من القدس إلى “تل أبيب”، كي لا يتعرض لهم “الإرهابي الشهير”.
كتابة: فادي عاصلة تحرير: عروبة عثمان لم تكن سيرة أبي جلدة والعراميط، يومًا، سيرة عابرة أو مجرّد حكاية يخبو نجمها مع تقادم الزمن، بل ألهمت كثيرين للعيش على وقعها. ففي وقتٍ قياسي بين 193…
khazaaen.wordpress.com