صدمة أسعار النفط .. 2015 عام «صراع الحصص»
تحليل: عبد الكريم اليوسف
خبير نفطي واستشاري ومدير أول في قطاع التنمية الاقتصادية في شركة أوليفر وايمان
تحول النفط في الأشهر الثلاثة الماضية إلى أهم مادة إخبارية في النشرات الاقتصادية بعد أن انهارت أسعاره من أعلى قيمها وبأكثر من 60 في المائة نزولاً بشكل مفاجئ وفي فترة قياسية ونادرة الحدوث ما أثار الكثير من الهلع في أوساط المتداولين والكثير من التساؤلات والتكهنات من قبل الاقتصاديين والخبراء حول مستقبل هذا القطاع وتداعيات هذه الصدمة في الأسعار على الدول المنتجة ومن ضمنها السعودية. فما أسباب هذا الانهيار المفاجئ؟ وبماذا يختلف عن الانهيارات السابقة؟ وما تداعياته على القطاع وعلى الدول المنتجة؟ وهل سيستمر هبوط الأسعار أم ستعاود الصعود؟
تقلبات أسعار النفط ومسبباتها عُرفت سوق النفط منذ سبعينيات القرن الماضي بالتقلبات السعرية الحادة صعوداً وهبوطاً فليست هذه المرة الأولى التي تتعرض فيها أسعار النفط لضغوط سعرية، سواء من جانب الطلب أو جانب العرض مع اختلاف المسببات بين اقتصادية وسياسية. جاء آخر تلك الضغوط قبل الهبوط الأخير وربما أكثرها حدة بسبب جانب الطلب على أثر الأزمة المالية العالمية في 2008 حيث تهاوت الأسعار بما يزيد على 60 في المائة في فترة وجيزة مدفوعة بانخفاض الطلب على النفط بعد دخول معظم الدول المستهلكة في دائرة الركود أو التباطؤ الاقتصادي. سارعت حينها منظمة أوبك في تقليص حصص الإنتاج على ثلاث مراحل وبعد ثلاثة اجتماعات طارئة لدول المنظمة في النصف الثاني من عام 2008، حيث بلغ إجمالي التقليص الإنتاجي فيها 4.2 مليون برميل أو 12 في المائة من إجمالي إنتاج دول المنظمة قبل الأزمة الاقتصادية بهدف امتصاص الفائض في العرض. ساهم هذا الإجراء في إعادة التوازن للسوق النفطية، حيث أخذت الأسعار مساراً تصاعدياً في النصف الأول من 2009 وتعافت تماماً في 2011 لتستقر فوق مستوى 100 دولار لما يقارب الأربع سنوات.
وبعد أربع سنوات من الاستقرار السعري تكالبت على سوق النفط ضغوط من جانبي العرض والطلب، فمن جانب الطلب دخل عدد من الدول المستهلكة الكبرى دائرة التباطؤ أو الركود الاقتصادي كروسيا والصين واليابان ومنطقة اليورو، ما دعا مؤسسة النقد الدولية أن تراجع توقعاتها لنمو الاقتصاد العالمي نزولاً في كل من 2014 و2015، كما قامت وكالة الطاقة الدولية (IEA) بخفض توقعاتها لنمو الطلب على النفط في السنوات القادمة للمرة الرابعة في خمسة أشهر، حيث تقوم وكالة الطاقة الدولية بإصدار نشرات شهرية عن سوق النفط ومن ضمن ذلك استشراف كميات الطلب على النفط للسنوات القادمة مبنية بشكل أساسي على الأداء الاقتصادي للدول للمستهلكة. فباستثناء الولايات المتحدة، فإن عام 2014 لم يكن عاماً مزدهراً للاقتصادات المتقدمة وبوادر 2015 لا تحمل أيضاً الكثير من الأخبار المشجعة. فآثار العقوبات الاقتصادية وتكلفة الحرب في أوكرانيا بدأت تنعكس على الاقتصاد الروسي والذي دخل بالفعل مرحلة الركود، أما الصين فقد خفضت معدلات نموها الاقتصادي إلى ما دون الـ8 في المائة (وهي النسبة التي يراها الكثير من الاقتصاديين الحد الأدنى لتحقيق أهدافها الاقتصادية) نتيجة لتباطؤ النمو في الناتج الصناعي، بل وانكماشه حسب بيانات شهر كانون الأول (ديسمبر)، كما دخلت اليابان مرحلة جديدة من الركود الاقتصادي نتيجة السياسات الضريبية التي اتخذتها الحكومة مطلع العام، أما منطقة اليورو فلا تزال تعاني تبعات أزمة الديون السيادية، حيث لا يزال النمو الاقتصادي ضعيفا جداً مع إمكانية انزلاق المنطقة إلى دوامة الركود الاقتصادي.
أما جانب العرض، وهو الجانب الآخر من المعادلة الاقتصادية التي عصفت بأسعار النفط، فقد كان مصدرهالرئيس هذه المرة الولايات المتحدة من خلال طفرة إنتاجية من حقول ما يعرف بالنفط الصخري (Shale oil). يوجد هذا النفط بكميات ضخمة في الولايات المتحدة، ولكن في مكامن يصعب استخراجه منها بتكلفة تجارية حتى وقت قريب. ولكن أدى استقرار أسعار النفط فوق مستوى 100 دولار للبرميل منذ 2010 إلى تحفيز ابتكار تقنيات مثل الحفر الأفقي (Horizontal Drilling) وما يُعرف بالتكسير الهيدروليكي (Hydraulic Fracturing) ما مكّن شركات النفط من جعل استخراجه مجدياً اقتصادياً، حيث تراوح تكلفة استخراجه بين الـ50 والـ80 دولارا للبرميل وبالتالي تحقيق ربح مجز بشرط أن يستمر سعر برميل النفط فوق أسعار التكلفة. نتج عن ذلك بزوغ نجم أطلق عليها طفرة النفط الصخري في الولايات المتحدة، حيث ارتفع إنتاجه بمقدار 3.2 برميل يومياً منذ 2010 وهو ما يعادل إنتاج دول نفطية مؤثرة كالإمارات وإيران، وأدت هذه الطفرة إلى إغراق السوق وخلق فائض في العرض يقدره بعض المحللين بمليون برميل يومياً مرشح للازدياد، بل ويتوقع كثير من الخبراء أن تتحول الولايات المتحدة من استيراد النفط إلى تصديره في العقد المقبل إذا ما استمرت طفرة الإنتاج هذه .
ومع هذه الضغوط من جانبي العرض والطلب تهاوت الأسعار في فترة قياسية لتخسر أكثر من 50 في المائة من قيمتها في ظرف ثلاثة أشهر، وكالعادة اتجهت الأنظار إلى منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) التي عقدت اجتماعها نهاية شهر (نوفمبر) وبحثت إمكانية خفض الإنتاج مدفوعة برغبات بعض الدول، التي تعيش ظروفا اقتصادية خانقة وتحديداً إيران وفنزوليا والعراق والجزائر. أما المملكة (وبقية دول مجلس التعاون الأعضاء في المنظمة) فقد اتخذت موقفاً يدعو إلى الإبقاء على مستويات الإنتاج الحالية والتعويل على آليات الطلب والعرض لتحقيق تصحيح واستقرار الأسعار على المدى المتوسط. وفي نهاية المطاف اتفقت دول المنظمة على عدم خفض الإنتاج مرسلة موجة من الذعر في سوق التداولات تكبد فيها سعر برميل النفط مزيداً من الخسائر، وذلك في مسعى منها للحفاظ على حصصها السوقية كما أعلن وزراؤها.
التداعيات على ميزانية المملكة إن الأثر الاقتصادي على الدول المنتجة للنفط من انهيار الأسعار يتركز حول محورين: الأول هو ضعف التنوع الاقتصادي في تلك الدول والحجم الكبير للقطاع النفطي في نواتجها المحلية، والثاني هو اعتماد موازنات حكوماتها على عوائد الصادرات النفطية. ونظراً لملكية معظم حكومات الدول المنتجة للشركات النفطية، فإن تركيز المحللين الاقتصاديين يصب كثيراً في المحور الثاني (موازنات الحكومات) ولتحليل هذا الأثر يجب النظر إلى كل من نسبة العوائد النفطية إلى غير النفطية في الموازنات العامة بالإضافة إلى سعر برميل النفط الذي تحقق بموجبه الميزانية التوازن بين العوائد والنفقات، وهو ما يعرف بسعر نقطة التعادل لبرميل النفط (Break-even price) للميزانية العامة، الذي يتفاوت بشكل كبير بين الدول المنتجة، حيث يصل على سبيل المثال إلى 140 لإيران و 100 لروسيا و70 للكويت، وذلك حسب تحليل أجرته مجلة الإيكونمست أخيرا.
وبالنظر إلى الميزانية العامة للسعودية عام 2015، وما رصدته من عوائد ومصروفات ففي حال استمرت الأسعار بمستوياتها الحالية مع استمرار النفقات الحكومية في الارتفاع (بلغ ما تم رصده 860 مليار بزيادة بسيطة عن العام الماضي) فستسجل الميزانية عجزاً قُدر بـ145 مليار ريال، حسب أرقام الميزانية. وعلى الرغم من أن وزارة المالية لا تعلن السعر المفترض لبرميل النفط في حساب الميزانية فمن المتوقع أنه يتراوح بين 60 و65 دولار للبرميل. ولكن ونظراً لأنه من المعتاد أن تتجاوز المصروفات الفعلية أرقام الميزانية فمن غير المستبعد أن يرتفع العجز إلى 300 مليار ريال، حيث بلغ معدل تجاوز المصروفات الفعلية 25 في المائة مما تم رصده في السنوات الـ15 الماضية. أي أنه لتحقيق ميزانية متوازنة بين المصروفات والعوائد نهاية 2015 يتوجب أن يحقق سعر برميل النفط 90 دولارا للبرميل على أقل تقدير.
وعلى الرغم من أن هذا العجز كبير جداً، وإن حصل فسيفوق حجم أي عجز في السنوات الماضية، فإن المملكة تتمتع برصيد احتياطات نقدية ضخمة كفيلة بسده وسد أي عجز مالي لعدة سنوات قادمة، حيث بلغت احتياطيات النقد الأجنبية لدى مؤسسة النقد العربي السعودي ما يقارب الثلاثة تريليونات ريال تم توفيرها من فوائض الميزانية الكبيرة في السنوات الماضية. كما أن قدرة المملكة على الاستدانة لتسديد العجز تعد عالية وتتمتع بتصنيفات ائتمانية إيجابية لدى جميع مؤسسات التصنيف الائتماني، كما أن الدين العام للمملكة يكاد لا يذكر، إذ بلغ أقل من 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو معدل منخفض جداً إذا ما قورن بمعظم دول العالم الأخرى (يصل المعدل العالمي إلى 50 في المائة) أو حتى مقارنة بمستوياته في المملكة في نهاية التسعينيات (قارب الـ100 في المائة من الناتج المحلي). وملخص هذه الحالة المالية للمملكة أنها في وضع مريح جداً لمواجهة تحديات المرحلة القادمة وأكثر من أي وقت مضى.
ومن هنا، فإن السياسات المالية والنقدية المحافظة التي اتبعتها المملكة في السنوات الماضية من خلال توفير فوائض الميزانية كاحتياطيات أجنبية سيمتص كثيراً أي أزمة للسيولة على المديين القصير والمتوسط. فلو أن الحكومة أغدقت بإنفاق جميع عائدات النفط في السنوات الماضية لأدى ذلك إلى خلق تقلبات كبيرة في السيولة يشعر بها المواطن مع كل انخفاض لأسعار النفط. وممكن مقاربة هذه السياسة بنظرية الاقتصاد الكينزي (Keynesian economics) التي وضعها العالم الاقتصادي John Keynes حيث يرى بأهمية دور الحكومة في تحفيز الاقتصاد عند دخوله مراحل الركود من خلال زيادة الإنفاق وملء الفراغ الذي تخلقه دورة الأعمال (Business cycle).
مدى حصانة القطاع الخاص أما بالنسبة للقطاع الخاص في السعودية فما يعيبه حالياً هو صغر حجمه نسبياً بالمقارنة مع حجم قطاع النفط (37 في المائة للقطاع الخاص مقابل 47 في المائة لقطاع النفط في 2013)، وهي حصة منخفضة إذا ما قورنت باقتصاديات الدول المتقدمة، وعلى الرغم من نمو القطاع الخاص مما يقارب الـ300 مليار ريال في 2003 إلى أكثر من تريليون ريال في 2013، فإن نسبة مساهمته في الناتج المحلي لم تتغير وذلك بسبب ارتفاع إسهام قطاع النفط. وطالما لم يتجاوز نمو القطاع الخاص نمو قطاع النفطي على المدى الطويل فسيستمر اعتماد المملكة على النفط، ولهذا فمن ناحية الاقتصاد الكلي، فإن حصانة المملكة من تقلبات السوق النفطية لم تتقلص وخطط التنويع الاقتصادي لم تتكلل بالنجاح بعد.
أما الجانب الإيجابي فيما يخص القطاع الخاص في المملكة فهو يكمن في تركيبته التي لا يشكل القطاع النفطي نسبة تذكر منها، وبسبب ذلك نجد محدودية تأثر هذا القطاع بتقلبات أسعار النفط تاريخياً، فعلى الرغم من انخفاض أسعار النفط الحاد في 2008 وقبله في 1998 على سبيل المثال فقد استمر القطاع الخاص في النمو وبمعدلات مرتفعة نسبياً. ومن هنا فمن المتوقع أن يستمر القطاع الخاص في النمو في 2015 مدفوعاً باستمرار الإنفاق الحكومي والاستهلاك وبالتالي زيادة حصته في الناتج المحلي إلى مستويات قد تتجاوز الـ40 في المائة، خصوصاً مع انخفاض حصة قطاع النفط.
الأثر المباشر للميزانية في المواطن تحدثنا آنفا عن أثر انخفاض أسعار النفط على الميزانية بشكل عام، ولكن كثيرا من المواطنين لا يعرف انعكاسات الميزانية عليه وعلى أسرته. ولتحليل ذلك الأثر يمكن قراءة الميزانية حسب نوع الإنفاق: الرأسمالي والتشغيلي. فالإنفاق الرأسمالي يعزز من جودة الخدمات التي تقدمها الدولة عبر تطوير وبناء المزيد من الطرق والمستشفيات والمؤسسات التعليمية والإسكان وغيرها من مشاريع التنمية التي تُسهم في تقديم حياة أفضل للمواطن، كما تسهم المشاريع في تحفيز القطاع الخاص وضخ السيولة في الاقتصاد الوطني، أما النفقات التشغيلية فاستمرارها يعني استمرارية الرواتب لموظفي الدولة وزيادتها تعني خلق المزيد من الوظائف في القطاع الحكومي، حيث يعمل قرابة نصف السعوديين.
وبالنظر إلى ميزانية المملكة: فبالنسبة للنفقات الرأسمالية التي تقدر بـ30 في المائة من حجم الميزانية في الأعوام الستة السابقة فمن المنتظر أن تستمر للعامين القادمين - على أقل تقدير- وبغض النظر عن أسعار النفط، وقد أكد وزير المالية ذلك أخيرا وأكدته ميزانية 2015. ولكن من غير المستبعد أن يتم تقليص هذه النفقات بشكل محدود عبر التركيز على المشاريع التنموية ذات التأثير الأكبر على المواطن. أما في حال بقاء أسعار النفط في مستوياتها الحالية لعدة سنوات أخرى فقد تنخفض نفقات المشاريع إلى ما دون الـ10 في المائة من إجمالي الميزانية كما حصل عند هبوط الأسعار في فترة التسعينيات وعندها سيشعر المواطن بكل تأكيد بتباطؤ عجلة التنمية والانخفاض في مستوى الخدمات.
أما بالنسبة للنفقات التشغيلية، فإنه عطفاً على حجمها الحالي فمن المستبعد جداً أن تعجز الحكومة عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه عقود تشغيل وصيانة ورواتب موظفي الدولة ومصروفات الدعم وغيرها من النفقات التشغيلية على المديين القصير والمتوسط حتى مع مستوى الأسعار الحالي فسعر 50 دولارا للبرميل كفيل بتغطية هذه النفقات دون الحاجة للاستدانة أو السحب من الاحتياطات النقدية.
انخفاض النفط هل يحد من التضخم؟ يربط الكثير من الناس ارتفاع أسعار النفط بالتضخم وهذا صحيح، إذ إن النفط هو أهم مصادر الطاقة وتدخل الطاقة في إنتاج كل شيء من الأجهزة والآلات والمواد البلاستيكية حتى المنتجات الزراعية. وكما شهد العقد الماضي ارتفاعاً غير مسبوق لأسعار النفط فقد صاحب ذلك ارتفاع لعدد كبير من المنتجات الأخرى لمسها المواطن بشكل مباشر وأثرت كثيراً في مستويات التضخم. وكما في الارتفاع فإن الانخفاض في أسعار النفط أيضاً يؤدي إلى انخفاض السلع الأخرى فقد انخفضت مؤشرات جميع السلع الأخرى من نحاس وحديد وبتروكيماويات وأيضاً المواد الغذائية، فقد انخفض مؤشر منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) الذي يشمل المواد الغذائية الرئيسة (اللحوم والألبان والحبوب والزيوت النباتية والسكر) بمعدل 10 في المائة حسب بيانات شهر نوفمبر ومن المنتظر أن ينخفض بشكل أكثر، نظراً للعلاقة المترابطة بين أسعار هذه السلع والنفط في السنوات الماضية.
وأخيراً فبالتزامن مع انخفاض أسعار النفط ارتفع الدولار ومعه الريال إلى مستويات قياسية مقابل جميع العملات الرئيسية باستثناء اليوان الصيني فمنذ مطلع العام ارتفع الدولار بمعدل 10 في المائة مقابل اليورو و25 في المائة مقابل الين. ويؤدي ارتفاع مستوى صرف الريال إلى ارتفاع القوة الشرائية للريال للسلع المستوردة من دول الاتحاد الأوروبي واليابان التي تصل إلى 30 في المائة من قيمة الواردات السعودية، ما سيسهم في إبقاء مستويات التضخم منخفضة نسبياً.
سوق الأسهم أما الانخفاضات التي شهدتها سوق الأسهم أخيرا والتي أدت إلى إثارة القلق بل ذعر ملحوظ في دوائر المتداولين والرأي العام فهي إلى حد كبير نفسية ونابعة من حالة من الغموض حول مستقبل الاقتصاد الوطني من قبل المتداولين في ظل انهيار أسعار النفط، فبالنظر إلى الشركات المدرجة نجد عدم وجود ارتباط حقيقي بين نشاطاتها وقطاع النفط، إذ إن القطاع الوحيد المرتبط بسوق النفط بشكل مباشر هو قطاع البتروكيماويات الذي تشكل قيمته السوقية أقل من 25 في المائة من القيمة السوقية للشركات المدرجة. أما بقية القطاعات فإن كانت أسهمها تتفاعل عادة بشكل مباشر مع تقلبات أسعار النفط، فإن عوائدها وأرباحها لا تتأثر كثيراً بالسوق النفطية. ولا شك هنا أن سوق الأسهم تتفاعل عادة مع تقلبات سوق النفط الحادة، خصوصاً في حالة الهبوط المفاجئ لأسعار النفط، ولكنها ليست القاعدة فعندما انهار مؤشر الأسهم في 2006 من أعلى مستوياته حول 20,000 نقطة كانت أسعار النفط 60 دولارا للبرميل، واستمر المؤشر حينها في الهبوط حتى 13,000 نقطة في ثلاثة أشهر على الرغم من ارتفاع أسعار النفط إلى 75 دولارا للبرميل، وعندما وصلت أسعار النفط إلى أعلى مستوياتها في صيف 2008 فقد مؤشر الأسهم السعودية أكثر من 2000 نقطة ذلك العام.
ومن هنا، فإن أزمة الانهيارات المتتابعة لسوق الأسهم في الفترة الماضية مرتبطة كثيراً بالعامل النفسي وزرعت تصريحات وزير المالية، وكذلك إعلان الميزاينة نوعاً من الطمأنينة في السوق، ولكن الإشارة الأهم التي ينتظرها السوق هو إعلان نتائج الربع الأخير، ومن المنتظر ألا تتأثر الأرباح كثيراً بأسعار النفط (باستثناء شركات البتروكيماويات). ومن شأن ذلك أن يعيد للسوق توازنها خصوصاً مع انخفاض أسهم الكثير من الشركات المدرجة بشكل كبير ما جعلها تشكل فرصاً استثمارية جذابة على المدى المتوسط حيث انخفضت المكررات الربحية لعدد من الشركات الريادية إلى دون 10 وهو مكرر يعد مغرياً لدخول السوق، حسب المعايير الفنية للتداول.
التداعيات على الدول المنتجة الأخرى إن مجمل دول مجلس التعاون في مأمن من التبعات الاقتصادية لانخفاض أسعار النفط، فهذه الدول تحتاج إلى أقل من 80 دولارا للبرميل لتحقق التوازن بين المصروفات والإيرادات في موازناتها العامة للعام الماضي. أضف إلى ذلك أن الاحتياطيات المالية الضخمة التي تمتلكها هذه الدول التي تصل إلى 850 مليار دولار في الإمارات و550 مليار دولار في الكويت و250 مليار دولار في قطر تمنح هذه الدول الملاءة اللازمة لمواصلة الإنفاق على مشاريع التنمية وغيرها من المصروفات حتى لو تعرضت إلى عجز في موازناتها.
أما الدول الأعضاء الأخرى في “أوبك” فقد تغرق في أزمات اقتصادية حادة نتيجة لانخفاض أسعار النفط ونخص منها إيران والعراق وفنزويلا ونيجيريا والجزائر. فإيران تجد نفسها في مأزق حقيقي في ظل الأسعار الحالية وهي أصلاً تعاني حصارا اقتصاديا خانقا بسبب برنامجها النووي إضافة إلى انخفاض حاد في سعر صرف الريال الإيراني وتضخم كبير وصل إلى 25 في المائة هذا العام. وكانت إيران قد دعت إلى خفض الإنتاج قبيل اجتماع “أوبك” الماضي وذهب رئيسها حسن روحاني إلى أبعد من ذلك واصفاً انخفاض أسعار النفط بـ”الخيانة للعالم الإسلامي”. فمن أجل أن تحقق إيران توازناً بين المصروفات والإيرادات في موازنتها العامة وجب أن تصل أسعار النفط إلى 140 دولارا للبرميل. كما قدم الرئيس روحاني موازنته لعام 2015 إلى البرلمان الإيراني حاملة في طياتها زيادة كبيرة في حجم الضرائب المفروضة على المواطنين. وعلى النقيض من دول مجلس التعاون فإن احتياطيات إيران الخارجية تصل إلى 50 مليار دولار وهي متواضعة جداً بالنظر لحجم اقتصادها، ولا تكفي لسد عجز الميزانية ناهيك عن صعوبة إجراء سحوبات منها بسبب العقوبات الاقتصادية. أما العراق فهو يدور في دوامة من الأزمات السياسية والاقتصادية ونزول سعر النفط تحت الـ 110 دولارات للبرميل سيؤدي إلى عجز في الميزانية بلا شك وذلك بغض النظر عن الأزمات الأمنية والسياسية، التي تعصف بالبلد. أما فنزويلا فهي الأخرى على حافة الإفلاس فقد بلغ مستوى التضخم بها 60 في المائة حتى الآن وتعاني البلاد شحا حادا في المواد الأساسية، ولهذا سعى الوزير الفنزولي بشدة إلى إقناع دول “أوبك” إلى خفض الإنتاج وكان أكبر الخاسرين بنهاية الاجتماع.
وإذا نظرنا إلى الدول المصدرة خارج “أوبك” نجد أن روسيا في مأزق اقتصادي لا يختلف كثيراً عن إيران فاقتصادها دخل فعلياً حالة الانكماش بشكل رسمي وانخفض الروبل 45 في المائة مقابل الدولار نتيجة العقوبات الاقتصادية، ومع انخفاض أسعار النفط، فإن الموازنة ستحقق عجزاً في ميزانيتها طالما قل سعر النفط عن 100 دولار للبرميل.
انعكاسات هبوط الأسعار على الدول المستهلكة بالنظر إلى معظم دول العالم من الدول المستوردة للطاقة، فإن أي انخفاض لأسعار النفط يعد محفزاً لاقتصادياتها، وبحسب توماس هيلبلينج وهو خبير من البنك الدولي في مقولة نشرتها مجلة الإيكونومست، فإن أي تغيير بنسبة 10 في المائة لأسعار النفط يصاحبه تغيير بنسبة 0.2 في المائة للاقتصاد العالمي. بل إن حتى الولايات المتحدة التي تستورد ما يقارب 7.5 مليون برميل يومياً من النفط قد يوفر مواطنوها ما يقارب الـ150 مليارا في العام القادم في حال بقاء الأسعار على حالها، وهذا بلا شك يشكل دفعة قوية للاقتصاد الأمريكي. وفي ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية لمعظم الدول المستهلكة الأخرى فإن انخفاض أسعار النفط سيسهم في الدفع بها خارج دوامة الركود، وبالتالي ارتفاع الطلب مجدداً على النفط. فكما ذكر آنفاً، فإن وكالة الطاقة العالمية تستعين بالمعطيات الاقتصادية في استشرافها للطلب على النفط. فكلما ازداد الإنتاج الصناعي ازداد معه الطلب على النفط فقد ارتفع على سبيل المثال استهلاك الصين للنفط بمعدل 50% في عشر سنوات من 6.5 مليون برميل يومياً في 2004 إلى عشرة ملايين برميل يومياً في 2014 بالتوازي مع نمو إنتاجها الصناعي في تلك الفترة، وكما أن انخفاض أسعار النفط وبالتالي منتجاته المكررة وبالتحديد البنزين يزيد من مستوى الاستهلاك على مستوى الفرد وعلى وجه التحديد في البلدان النامية. ومن هنا، فإن انخفاض أسعار النفط في الفترة الحالية يشكل فرصة للاقتصاد العالمي للتعافي واستعادة مساره التصاعدي، وبالتالي ارتفاع الطلب على النفط من جديد.
التداعيات على إنتاج النفط الصخري من غير المتوقع أن تتخلى أي من الدول المنتجة في المرحلة الحالية عن مستويات إنتاجها بشكل أحادي وطوعي فدول منظمة “أوبك” لا تزال متمسكة بحصتها السوقية، حيث قال وزير الطاقة الإمارتي قبل أيام أنه لا داعي لأن تعقد أوبك اجتماعاً طارئا لمناقشة الأسعار حتى في حال انخفاضها إلى 40 دولارا للبرميل. كما أجاب وزير النفط السعودي علي النعيمي على تساؤلات على هامش مؤتمر التغير المناخي في ليما حول ما إذا كانت أوبك تنوي خفض الإنتاج بقوله “لماذا علينا أن نخفض الإنتاج؟”. هذه الإشارات تشير إلى تغيير جذري في استراتيجية “أوبك” في التجاوب مع انخفاض أسعار النفط، فالمملكة والدول المؤيدة لموقفها في “أوبك” لم تعد مستعدة لتحمل عبء المحافظة على استقرار الأسعار والتخلي عن حصصها الإنتاجية لصالح الدول المنتجة للنفط من خارج “أوبك” وأهمها روسيا وكندا والبرازيل التي لم يسبق أن تعاونت بشكل فعلي في الحفاظ على استقرار السوق، فروسيا على وجه التحديد رفضت التعاون مع “أوبك” وتقليص حصص الإنتاج خلال 2001 و2008 وفي نفس الوقت جنت ثمار ارتفاع الأسعار نتيجة إجراءات خفض إنتاج دول “أوبك”.
ولكن أكثر التساؤلات تداولاً حول جانب العرض أخيراً هي عن مدى قدرة حقول النفط الصخري على الاستمرار في الإنتاج في ظل الضغوط السعرية الحالية وللإجابة على ذلك يكفي فقط معرفة تكلفة الإنتاج لهذا النوع من النفط، ولكن ونظراً لتفاوت هذه التكلفة من حقل لآخر (بين 40 - 90 دولارا للبرميل) فإن عددا لا بأس به من إنتاج الحقول لا يزال ذا جدوى اقتصادية حتى في ظل المستوى الحالي للأسعار.
كما يجب الأخذ في الحسبان مبدأ التكلفة غير المتكررة أو الغارقة (Sunk cost) قبل الجزم بدخول بعض حقول النفط نطاق الخسارة الإنتاجية، ومعنى ذلك أن الجزء الأكبر من معدل تكلفة الإنتاج لكل برميل نفطي يتم صرفها عادة في مرحلتي الحفر وإنشاء البنية التحتية للآبار النفطية، بينما تكلفة مرحلة الإنتاج المسماة هنا بالتكلفة الحدية أو الهامشية (Marginal cost) لا تكاد تذكر بالمقارنة. فالأهم هنا – وبالمنظور القصير- هو معرفة أن هذه التكلفة الهامشية لا تتخطى العشرة دولارات للبرميل لكل الآبار المنتجة حالياً وهذا يفسر عدم تقلص الإنتاج الفعلي الأمريكي على الرغم من تهاوي أسعار النفط لمستوياتها الحالية، إذ إن الشركات المنتجة في الحقول ذات التكلفة العالية تكبدت خسائر بناء البنية التحتية والحفر في وقت سابق وطريقها الوحيد لتقليص الخسائر الإجمالية هو استمرار في الإنتاج. المعلومة الأخرى والتي لا يجب تجاهلها هو سرعة تناقص الإنتاج لآبار النفط الصخري، حيث ينخفض حجم الإنتاج النفطي بين 60 في المائة إلى 70 في المائة بعد أول سنة من الإنتاج فلو بدأ برميل النفط إنتاج عشرة آلاف برميل يومياً ينتهي به الإنتاج نهاية العام إلى أربعة آلاف أو ثلاثة آلاف برميل فقط. كما ذكر بحث أجرته مجموعة Global Sustainability Research يشير إلى أن إنتاجية الآبار الحديثة تقل عن تلك التي تم حفرها في السنوات الأولى لطفرة الإنتاج أي أنه على الرغم من كبر حجم الاحتياطات، فإن أكثر الآبار إنتاجية وبالتالي ربحية تم تطويرها في وقت سابق من قبل الشركات النفطية.
نستنتج هنا أنه وبالرغم من استمرار إنتاج النفط الصخري بمستوياته القياسية فإن استمرار انخفاض الأسعار يهدد مستقبل نموه في السنوات القادمة. وقد بدأت بالفعل ظهور علامات ضعف الثقة فيه من خلال انخفاض تصاريح الحفر في الولايات المتحدة بمقدار 40 في المائة حسب بيانات شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من قبل بيانات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية. كما أعلنت قبل أيام شركة كونوكو فيلبس وهي أحد أكبر منتجي النفط الصخري من ميزانيتها الرأسمالية للعام القادمة بنسبة 20 في المائة.
ما يراهن عليه تنفيذيو قطاع النفط الصخري هو إما ارتفاع الأسعار إلى مستوياتها مطلع العام أو تطورات تقنية نوعية تسمح باستخراج النفط الصخري بتكلفة منافسة للنفط التقليدي.
مسار الأسعار في 2015 من الصعب جداً التكهن باتجاه أسعار النفط في العام الجديد وذلك في ظل ظروف ذات تأثيرات عكسية على الأسعار فالاقتصاد العالمي يمر بعدة أزمات يسودها الغموض ودول نفطية مهمة كليبيا والعراق ونيجيريا تعيش ظروفا أمنية حرجة. ولكن تاريخ تقلبات الأسعار في العقود الماضية يشير إلى أن تعافي أسعار النفط من نكسات سعرية سابقة يستغرق ما بين ستة أشهر إلى بضع سنوات.
ولكن المتغير الجديد في هذه الأزمة السعرية هو النفط الصخري الذي يرى الكثير من المحللين أنه لم يمنح السوق سقفاً سعرياً فقط، بل أيضاً قاعاً سعرياً. فطفرة إنتاج النفط الصخري ساهمت في كبح جماح ارتفاع الأسعار في العامين الماضيين، ونظراً لتكلفة إنتاجه المرتفعة فمن المرجح أن يلعب دور المنتج الموازن للسوق (Swing producer) ولكن بشكل غير إرادي، وذلك لأن هبوط الأسعار إلى ما دون 50 دولارا للبرميل سيسحب كميات كبيرة من الإنتاج تؤدي إلى عكس مسار الأسعار، ولكن تظل هذه هي المرة الأولى التي يمر فيها النفط الصخري بهذا المحك، وكل ما يقال عن تكلفة الإنتاج وقدرات الشركات المنتجة مبني على بحوث ودراسات ونظريات تدخل الآن اختبارها الأول.
في الموجز مما لا شك فيه أن تهاوي أسعار النفط بهذا الحد وبهذه السرعة يكلف الدول المصدرة للنفط ومن ضمنها المملكة المليارات من الدولارات وله تأثير سلبي في موازناتها واقتصادياتها بمستويات متفاوتة، لذا فإن خيار عدم مكافحة انهيار الأسعار من قبل منظمة “أوبك” يشكل ضرراً لدولها على المدى القصير، ولكن خفض الإنتاج في المقابل قد يكلف منظمة أوبك في المديين المتوسط والطويل أكثر من ذلك بكثير، إذ إنه قد يسهم في رفع الأسعار وقتياً، ولكنه سيفتح المجال لأهم المتسببين في انهيار الأسعار وهم منتجو النفط الصخري لزيادة إنتاجهم على حساب دول المنظمة والضغط مجدداً على الأسعار.
ولحسن الحظ فإن سياسة المملكة المالية المحافظة في السنوات الماضية، والتي وازنت بين الإنفاق على التنمية من جهة وتسديد الدين العام ورفع احتياطياتها النقدية من جهة أخرى مكنتها من اتخاذ موقف عدم تخفيض الإنتاج ستمكنها من تلافي تبعات هذا الهبوط، على النقيض من دول كروسيا وإيران وفنزوليا التي تعيش أزمات اقتصادية خانقة ستتفاقم كثيراً مع استمرار الأسعار في مستوياتها الحالية.
الأهم هنا بالنسبة للمملكة في هذه المرحلة أن تكون هذه الأزمة في سوق النفط تذكيراً لنا بأهمية تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط من خلال دعم وتطوير قطاعات الصناعة والتقنية والخدمات ومراجعة خطط التنمية والاستفادة من الأخطاء السابقة. لا نعلم إلى متى ستستمر هذه النافذة الزمنية، حيث إننا نقف أمام مصدر ناضب ونرى العالم من حولنا يتجه نحو الاعتماد على مصادر أخرى للطاقة ويطور تقنيات تقلل من استهلاك النفط ومشتقاته. إن بناء اقتصاد متنوع ومزدهر ومستدام لم يعد خيارا بل ضرورة ملحة وواجب تجاه الأجيال القادمة.