معركة أجنادين
الدكتور فوّاز القاسم
لم يكن الروم جالسون بلا حراك ، بل كانوا يرقبون تحركات جيوش المسلمين بمنتهى الحذر والقلق ، ونظروا إلى جيوش المسلمين المتفرّقة والمتباعدة ، فقرروا الالتفاف عليها لإرباكها ، فوجّهوا قوة إلى عمرو بن العاص في فلسطين للانفراد به وسحقه ، وفي نفس الوقت تحركت قوّة أخرى من حمص ، عليها وردان ، وهو واحد من خيرة قادتهم ، وسلكت طريق الداخل ، للالتفاف على شرحبيل المرابط في منطقة بصرى من أرض حوران للاستفراد به وسحقه أيضاً ، ثم يلتفوا على خالد وأبي عبيدة ، ويحصرونهما في منطقة دمشق بزعمهم ، بعد أن يكونوا قد قطعوا عنهما خطوط الإمداد لهما من جزيرة العرب .
ولكن عيون خالد كانت ترقب كل هذه التطورات بعين الصقر ، فقرر الانسحاب من عمق الشام ، كعادته دوماً في عدم التمسك بالأرض ، إلى أقصى الجنوب في فلسطين ، وأرسل إلى جميع الجيوش الإسلامية أن توافيه هناك ، وشدّد على شرحبيل بشكل خاص ، وحذره من وردان ، وأمره بأن لا يشتبك معه ، حتى تجتمع الجيوش ، وتكون المعركة الفاصلة ، كما أرسل إلى عمرو بن العاص يحذّره من القوات الرومية المواجهة له بمثل ما حذّر به شرحبيل ...
وتحرّكت الجيوش إلى الجنوب تسابق الريح حتى التقت جميعها في منطقة أجنادين من أرض فلسطين ، ولما أحسّ وردان بإفلات شرحبيل منه ، وتحرك المسلمين بسرعة فائقة إلى الجنوب ، خشي على القوة التي تقابل عمرو بن العاص في فلسطين من أن ينفرد بها المسلمون فيسحقوها ، ولم يكن أمامه إلا أن ينصاع للأمر الواقع ، فعبر نهر الأردن من شرقه إلى غربه ، والتحق بالجيش الرومي الذي كان يواجه عمرو بن العاص ، وكان للعبقري خالد ما أراد ، من سحب جيش وردان بعيداً عن حمص مركز انطلاقه وإمداداته ، وتجميع قواته المتفرّقة لتوجيه ضربة ساحقة لأعدائه ، واختيار أرض المعركة التي يحب هو أن ينازل فيها أعداءه ...
وتقابل الجيشان : كان ذلك في السابع والعشرين من جمادى الأولى ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة الشريفة . جيش المسلمين ، وهو لا يزيد على ثلاثة وثلاثين ألف مجاهد ، وهم مجموع الجيوش الخمسة للمسلمين في أرض الشام ، بما فيهم جيش خالد الذي قدم معه من العراق ، وجيش الروم الذي يزيد على مائة ألف مقاتل ، ولكن المسلمين كانوا على يقين بأنهم لا يقاتلون أعداءهم بعدد ولا عدّة ، إنما كانوا يقاتلون بهذا الدين العظيم .
وعبّأ خالد قواته ، فجعل على المشاة أبو عبيدة بن الجراح ، وجعل على الميمنة معاذ بن جبل ، وعلى الميسرة سعيد بن عامر ، وجعل على الخيل سعيد بن زيد ، وأمر النساء أن يجلسن في مؤخرة الجيش لتشجيع المسلمين على القتال ...
وخرج بين صفوف قواته يحثّهم على الصبر ، ويحرّضهم على القتال ...
فأقبل حتى وقف على كل قبيلة ، وكل جماعة ، وهو يقول : ( اتقوا الله عباد الله ، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ، ولا تنكصوا على أعقابكم ، ولا تهنوا من عدوّكم ، ولكن أقدموا كإقدام الأُسْد وأنتم أحرار ، فلقد أبيتم الدنيا ، واستوجبتم على الله ثواب الآخرة ، ولا يهولكم ما ترون من كثرتهم ، فإن الله منزلٌ عليهم رجزه وعقابه )
ثم قال : ( فإذا حملت عليهم فاحملوا ) !!!
فكان أول من حمل على الروم ليكون قدوة لجنوده رضوان الله عليه ، ثم حمل أصحابه من بعده ...
يقول الرواة رحمهم الله : ( فما صبر الروم للمسلمين فواق ناقة )...!!!
وانهزموا شرّ هزيمة ، وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا ، وأصابوا معسكرهم وما حوى . ولما انتهت أخبار هذه الهزيمة المنكرة إلى هرقل ، نُخِبَ قلبُه ، وسُقط في يده ، ومُليء رعباً ...!!!
وأما خالد فقد كتب من فوره إلى أبي بكر الصدّيق يبشّره والمسلمين بالفتح العظيم ، وانظروا إلى أدبه وتواضعه مع خليفة رسول الله رضوان الله عليهم جميعاً :
( لعبد الله ، أبي بكر ، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، من خالد بن الوليد ، سيف الله المصبوب على المشركين ، سلامٌ عليك ، أما بعد ...
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، وأخبرك أيها الصدّيق أنّا التقينا نحن والمشركون ، وقد جمعوا لنا جموعاً جمّة كثيرة بأجنادين ، وقد رفعوا صُلُبهم ، ونشروا كُتُبهم ، وتقاسموا بالله لا يفرّون حتى يُفنونا أو يُخرجونا من بلادهم .
فخرجنا إليهم واثقين بالله ، متوكّلين على الله .
فطاعنّاهم بالرماح ، ثم صرنا إلى السيوف ، فقارعناهم في كل شعب وفجّ
فنحمد الله على إعزاز دينه ، وإذلال عدوّه ، وحسن الصنيع لأوليائه ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته )
فلما قرأ أبو بكر الرسالة ، وعلم بالخبر ، فرح به فرحاً عظيماً ، وقال : ( الحمد لله الذي نصر المسلمين ، وأقرّ عيني بذلك )...
ونحن نقول : الحمد لله الذي حفظ لنا هذا التراث الخالد لأولئك الصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعاً ، وأوصله لنا بهذه الأمانة ، وهذه العظمة ، وهذا النقاء وهذا الصفاء ...
وحريّ بنا أن نقتدي بهم ، وننهج نهجهم ، ونسير على هديهم ، ونجاهد جهادهم ، ونصبر صبرهم ، ونتخلّق بأخلاقهم ...
عن موقع رابطة أدباء الشام
الدكتور فوّاز القاسم
لم يكن الروم جالسون بلا حراك ، بل كانوا يرقبون تحركات جيوش المسلمين بمنتهى الحذر والقلق ، ونظروا إلى جيوش المسلمين المتفرّقة والمتباعدة ، فقرروا الالتفاف عليها لإرباكها ، فوجّهوا قوة إلى عمرو بن العاص في فلسطين للانفراد به وسحقه ، وفي نفس الوقت تحركت قوّة أخرى من حمص ، عليها وردان ، وهو واحد من خيرة قادتهم ، وسلكت طريق الداخل ، للالتفاف على شرحبيل المرابط في منطقة بصرى من أرض حوران للاستفراد به وسحقه أيضاً ، ثم يلتفوا على خالد وأبي عبيدة ، ويحصرونهما في منطقة دمشق بزعمهم ، بعد أن يكونوا قد قطعوا عنهما خطوط الإمداد لهما من جزيرة العرب .
ولكن عيون خالد كانت ترقب كل هذه التطورات بعين الصقر ، فقرر الانسحاب من عمق الشام ، كعادته دوماً في عدم التمسك بالأرض ، إلى أقصى الجنوب في فلسطين ، وأرسل إلى جميع الجيوش الإسلامية أن توافيه هناك ، وشدّد على شرحبيل بشكل خاص ، وحذره من وردان ، وأمره بأن لا يشتبك معه ، حتى تجتمع الجيوش ، وتكون المعركة الفاصلة ، كما أرسل إلى عمرو بن العاص يحذّره من القوات الرومية المواجهة له بمثل ما حذّر به شرحبيل ...
وتحرّكت الجيوش إلى الجنوب تسابق الريح حتى التقت جميعها في منطقة أجنادين من أرض فلسطين ، ولما أحسّ وردان بإفلات شرحبيل منه ، وتحرك المسلمين بسرعة فائقة إلى الجنوب ، خشي على القوة التي تقابل عمرو بن العاص في فلسطين من أن ينفرد بها المسلمون فيسحقوها ، ولم يكن أمامه إلا أن ينصاع للأمر الواقع ، فعبر نهر الأردن من شرقه إلى غربه ، والتحق بالجيش الرومي الذي كان يواجه عمرو بن العاص ، وكان للعبقري خالد ما أراد ، من سحب جيش وردان بعيداً عن حمص مركز انطلاقه وإمداداته ، وتجميع قواته المتفرّقة لتوجيه ضربة ساحقة لأعدائه ، واختيار أرض المعركة التي يحب هو أن ينازل فيها أعداءه ...
وتقابل الجيشان : كان ذلك في السابع والعشرين من جمادى الأولى ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة الشريفة . جيش المسلمين ، وهو لا يزيد على ثلاثة وثلاثين ألف مجاهد ، وهم مجموع الجيوش الخمسة للمسلمين في أرض الشام ، بما فيهم جيش خالد الذي قدم معه من العراق ، وجيش الروم الذي يزيد على مائة ألف مقاتل ، ولكن المسلمين كانوا على يقين بأنهم لا يقاتلون أعداءهم بعدد ولا عدّة ، إنما كانوا يقاتلون بهذا الدين العظيم .
وعبّأ خالد قواته ، فجعل على المشاة أبو عبيدة بن الجراح ، وجعل على الميمنة معاذ بن جبل ، وعلى الميسرة سعيد بن عامر ، وجعل على الخيل سعيد بن زيد ، وأمر النساء أن يجلسن في مؤخرة الجيش لتشجيع المسلمين على القتال ...
وخرج بين صفوف قواته يحثّهم على الصبر ، ويحرّضهم على القتال ...
فأقبل حتى وقف على كل قبيلة ، وكل جماعة ، وهو يقول : ( اتقوا الله عباد الله ، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ، ولا تنكصوا على أعقابكم ، ولا تهنوا من عدوّكم ، ولكن أقدموا كإقدام الأُسْد وأنتم أحرار ، فلقد أبيتم الدنيا ، واستوجبتم على الله ثواب الآخرة ، ولا يهولكم ما ترون من كثرتهم ، فإن الله منزلٌ عليهم رجزه وعقابه )
ثم قال : ( فإذا حملت عليهم فاحملوا ) !!!
فكان أول من حمل على الروم ليكون قدوة لجنوده رضوان الله عليه ، ثم حمل أصحابه من بعده ...
يقول الرواة رحمهم الله : ( فما صبر الروم للمسلمين فواق ناقة )...!!!
وانهزموا شرّ هزيمة ، وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا ، وأصابوا معسكرهم وما حوى . ولما انتهت أخبار هذه الهزيمة المنكرة إلى هرقل ، نُخِبَ قلبُه ، وسُقط في يده ، ومُليء رعباً ...!!!
وأما خالد فقد كتب من فوره إلى أبي بكر الصدّيق يبشّره والمسلمين بالفتح العظيم ، وانظروا إلى أدبه وتواضعه مع خليفة رسول الله رضوان الله عليهم جميعاً :
( لعبد الله ، أبي بكر ، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، من خالد بن الوليد ، سيف الله المصبوب على المشركين ، سلامٌ عليك ، أما بعد ...
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، وأخبرك أيها الصدّيق أنّا التقينا نحن والمشركون ، وقد جمعوا لنا جموعاً جمّة كثيرة بأجنادين ، وقد رفعوا صُلُبهم ، ونشروا كُتُبهم ، وتقاسموا بالله لا يفرّون حتى يُفنونا أو يُخرجونا من بلادهم .
فخرجنا إليهم واثقين بالله ، متوكّلين على الله .
فطاعنّاهم بالرماح ، ثم صرنا إلى السيوف ، فقارعناهم في كل شعب وفجّ
فنحمد الله على إعزاز دينه ، وإذلال عدوّه ، وحسن الصنيع لأوليائه ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته )
فلما قرأ أبو بكر الرسالة ، وعلم بالخبر ، فرح به فرحاً عظيماً ، وقال : ( الحمد لله الذي نصر المسلمين ، وأقرّ عيني بذلك )...
ونحن نقول : الحمد لله الذي حفظ لنا هذا التراث الخالد لأولئك الصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعاً ، وأوصله لنا بهذه الأمانة ، وهذه العظمة ، وهذا النقاء وهذا الصفاء ...
وحريّ بنا أن نقتدي بهم ، وننهج نهجهم ، ونسير على هديهم ، ونجاهد جهادهم ، ونصبر صبرهم ، ونتخلّق بأخلاقهم ...
عن موقع رابطة أدباء الشام