رد: عمليات فدائية جزائرية في عمق سيناء
كنا على علم بأننا أوشكنا على العودة إلى ديارنا. كان هذا بمثابة تباشير الاستقلال وكنا نملك مشاريع كثيرة، لكننا رغم ذلك لم نكن متلهفين للعودة ولم أملك تفسيرا لهذا الأمر بصراحة.
وفي شهر أكتوبر 1969 تلقينا أمرا بالتحضير لاستقبال اللواء الجديد، وهو اللواء الرابع الذي يقوده الرائد محمّد علاّهم. وجهّزنا خطة نقل اللواء والبعثات الأولى من وحدتي غادرت ليلا إلى القاهرة، حيث يعودون إلى الجزائر عبر طائرات "أنطونوف12". وبحسب القدوم والذهاب، على امتداد 20 يوما تقريبا، وصل قائد اللواء الجديد. وفي هذا الوقت كله، لم نكن نشعر بمرور الزمن بسبب انشغالنا بالأعمال اليومية. وكان يحدث بانتظام أن نتوجه إلى المخابئ، فالإسرائيليون الذين رأوا بالضرورة هذه التحركات كانوا "يحيّوننا" و"يسلمون" على الوافدين الجدد بطريقتهم الخاصة. وعندما كنا متواجدين أمام المخابئ، كنا نداعب بعضنا البعض من أجل تمضية الوقت، ولم نكن ندخل مخابئنا إلا إذا فهمنا بدافع الخبرة أن العبوات كانت تستهدفنا، وكنا نضحك عندما يرتمي القادمون الجدد على الأرض عند إطلاق الإسرائيليين العبوات، لأنهم لم يكونوا متعودين على الوضع.
وكان هذا أيضا هو الوقت المناسب للقيام بتعريف المصالح المصرية بالوافدين الجدد. وفي نفس المناسبة، كنا نشكر المسؤولين والضباط المصريين ونودّعهم متمنين لهم مزيدا من النجاح في عملهم.
وأعترف أنه بسبب تواجدي في مصر في تلك الفترة، تمكنت من تطبيق كل معارفي النظرية التي حصّلتها أثناء تربصي في قيادة الأركان بموسكو. وتمكنت بناء على هذا من استغلال هذه التجربة التي لا تقدّر بثمن لفائدة الجيش الجزائري، خاصة في تندوف، وعلى امتداد حياتي المهنية.
احتفظت بذكريات طيبة عن العميد مصطفى شاهين، رحمة الله عليه، فلقد كان رجلا من طراز عال، وحظي بالتقدير من طرف الضباط الذين عملوا تحت قيادته. كما كان العميد واقعيا، حيث أدرك حجم الهوة التي تفصل بين جيشه والجيش المقابل، ومع ذلك لم يدّخر جهدا ليسد هذه الفجوة. أنا جد ممتن له، لأنه اعتبرني دائما واحدا من أفراد فرقته، فكان يُشركني في كل اجتماعات الضباط ولا يخفي عني أدق التفاصيل حول ما يحدث في الجبهة. ومنذ الاجتماع الأول بمركز قيادة الفرقة، حينما تمت مناقشة كل المواضيع المتعلقة بالعمل وبدأ الحديث عن الأمور الداخلية كنت أتأهب للمغادرة فالتفت إليّ وقال لي بكل تواضع: "ابق معنا يا أخ خالد، لا يوجد شيء نُخفيه عنك". وفي أحد الأيام وضع تحت قيادتي وحدة حرس السواحل المنتشرة على امتداد البحيرة المرة. ولم يتوان عن تنبيهي إلى حادثة مزعجة وقعت لهم قبل ذلك، حيث قال: "احذر فقد فوجئوا من جهة السويس وقُتل حوالي 60 جنديا بالخناجر".
الحروب المتعاقبة في منطقة الشرق الأوسط:
1956: هزيمة عسكرية وانتصار سياسي
بعد الإطاحة بالملك فاروق، أعلن جمال عبد الناصر أمام الجماهير الثائرة تأميم قناة السويس. وشكّل هذا صدمة في كل القنصليات الأجنبية بمصر إلى درجة جعلت البعض لا يُصدّق ما قاله الرئيس المصري. لقد تفاجأت السفارات الغربية، لأنه لم يبق على انقضاء الامتياز الأجنبي سوى 13 سنة، فهل أدرك عبد الناصر مدى هذا القرار فعلا؟ في البداية، ظن كثيرون أن هذا مجرد فبركة إعلامية قبل أن تفهم الحكومات الأوروبية بأن إعلان التأميم لم يكن مجرد حيلة أو خدعة.
وفي تلك السنة، لم يكن الإسرائيليون مستعدين للدخول في حرب، لأنهم لم ينظروا إلى تأميم القناة بنفس المنظار الذي نظر به البريطانيون والفرنسيون، وكانت القضية حينها بحسب الفكرة الصهيونية قضية بقاء، وأدركوا أنهم غير مستعدين لمواجهة المصريين، جيرانهم "الأقوياء". وهذا رغم أنهم لم يُطيقوا الحصار الذي فرضته القاهرة على الخليج الذي كانوا يُصدّرون عبره المواد الأولية.
أما بالنسبة للجانب الأوروبي، فقد أرادوا جميعا قطع العلاقات مع عبد الناصر، حيث كانت بريطانيا المتضرر الأكبر من إعلان التأميم، لأنها كانت شريكة في القناة مع فرنسا ومصر، وكان 28 بالمائة من مجموع تنقلاتها ترتبط بذلك المكان. أما فرنسا، فقد أرادت الإجهاز على ألق "الرئيس" الذي بدأ يمتد إلى الدول العربية المجاورة، وخاصة الجزائر التي كانت في حرب معها. ولكي يتم تبني الحل العسكري، دفع الأوروبيون الوضع إلى التأزم السياسي، وتناسى الفرنسيون والبريطانيون المعارك التي خاضاها ضد بعضهما البعض في هذه المنطقة، خاصة بسبب القناة، وتحالفا ضد مصر وفق مخطط تم على ثلاث مراحل، كان الإسرائيليون هم أول من هاجم المصريين بغتة في 29 أكتوبر 1956، وقدّمت قوات التحالف الأخرى، وهي بريطانيا وفرنسا، إنذارا نهائيا إلى مصر مجددا بتاريخ 30 من نفس الشهر، قبل أن تشرع في هجمات جوية في 31 أكتوبر كمرحلة ثانية، لإعاقة الطيران المصري وتسهيل التوغل البري الإسرائيلي. وتمت المرحلة الثالثة بالإنزال الفرنسي والبريطاني بتاريخ 6 نوفمبر في بورسعيد. وأوقفت المساومة والضغط السياسي الأمريكي والسوفييتي تقدّم قوات التحالف، وهدد السوفييت باستعمال السلاح النووي في حين اعتبر الأمريكيون هذه الحرب استعمارية، خاصة وأنهم لم تكن لهم مصالح مباشرة للخوض في قضية قناة السويس.
وهكذا، صادقت الأمم المتحدة بصفة عاجلة على إنشاء قوة دولية تحل محل القوات الفرنسية والبريطانية في القناة، وخرج جمال عبد الناصر من هذه المغامرة التي استهدفت بلاده كبيرا في نظر المصريين، واستغلت إسرائيل الظرف لتحرير مضيق تيران، وهو ما منح سفنها حرية التحرك. ودمر الهجوم الإسرائيلي على سيناء، وهو الهجوم المدعوم أوروبيا، الجيش المصري، ولمدة طويلة. وتترّس جمال عبد الناصر بهذه الهزيمة العسكرية التي تحولت إلى انتصار سياسي، حيث كان همه الوحيد هو الاعتماد الشعبي الذي تمنحه له الجماهير المصرية والعربية، في حين أن أبرز وسائل دفاعه تحطمت لأكثر من عشرية.
1967حرب الستة أيام (05-10 جوان) العد التنازلي:
كانت الخطابات العربية الملتهبة تنبعث من كل مكان، وشارك فيها الجميع ابتداء من الرئيس المصري ومرورا ببومدين، نائب الرئيس ووزير الدفاع الجزائري، ووزير خارجية اليمن والمُشير عبد الرحمن عارف، رئيس العراق، وحافظ الأسد وزير الحرب السوري، إلخ.
في 02 جوان، جمع عبد الناصر قيادة أركانه ليُعلمهم أن هناك احتمالا كبيرا بقيام الإسرائيليين بهجوم في الأيام القادمة. لكن العمداء المصريين افترقوا بعد الاجتماع لينعموا بعطلة نهاية الأسبوع! واقترح مسؤولون إسرائيليون على وزير الدفاع العميد موشي دايان إلقاء قنبلة نووية لثني العرب عن القيام بأي هجوم، لكن دايان رفض هذا الاقتراح بحجة أن هذا الأمر سيسمم العلاقة المعقدة أصلا وقد يُفقده الدعم الثمين للولايات المتحدة. وتم إعلام الأمريكيين عبر ممثل الجالية اليهودية بأن الهجوم سيتم في أقل من 24 ساعة.
يوم الأحد 04 جوان 1967، تعذر الاتصال بأغلبية ضباط قيادة الأركان المصرية، ولم يكن على علم بقرب بداية الهجوم الإسرائيلي أحد من العرب سوى ملك الأردن، حيث تلقى المعلومة عن طريق سفير تركيا في عمّان. ويوما قبل ذلك، كانت القوات الإسرائيلية تعرف أن الهجوم العام سيبدأ صبيحة الغد على الساعة السابعة والنصف.
قامت الطائرات المصرية بإجراء دورية اعتيادية، خاصة منذ بداية الأزمة، على مقربة من الحدود وذلك بهدف الاحتياط من أي هجمة إسرائيلية. ولما حط الطيارون المصريون بطائراتهم لم يتخيلوا أن ما سيحدث يؤدي إلى تدمير سلاح الطيران. واستغل الإسرائيليون هذه الغفلة.
بدأت الموجة الأولى من الهجمات بـ191 طلعة جوية قامت بها طائرات "ميراج" و"ميستار"، ثم طائرات "فوتور" تتبعها "أوراغون"، وكان الهدف هو مطارات أبو صوير والكبريت وبير جفجافة وفايد والقاهرة غرب وبير التمد والمنصورة والعريش وجبل لبني. وأثناء هذا الهجوم الأول، تم تحطيم أكثر من نصف الطائرات المصرية، مقابل إصابة 19 طائرة إسرائيلية، 8 منها أسقطت.
معارك شرسة ضد الأردن
على الجبهة الأردنية، كانت مدينتا رام الله والقدس هما الهدف الإسرائيلي، وانتشر نبأ سقوط القدس انتشار النار في الهشيم. وانحازت أغلبية الوحدات القتالية الأردنية نحو جسور نهر الأردن. وهكذا قام الإسرائيليون بهجمات في اتجاه مدينتي جنين ونابلس، ولم يحتلاهما إلا بعد معارك ضارية. وفي 07 جوان، وصل الإسرائيليون إلى جسر نهر الأردن، ودخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في نفس اليوم.
احتلال الجولان السوري
قام السوريون بعمليات فردية مستقلة عن الهجمة الجوية التي أعاقت الطيران السوري عن التحليق منذ زوال 5 جوان واستهدفوا إسرائيل انطلاقا من هضبة الجولان التي تُشرف على بحيرة طبرية. وتلخصت هذه الهجمات في القصف المدفعي وكذا بعض المناوشات الجوية الضعيفة بين طائرات "ميغ" التابعة لسلاح الجو السوري، وطائرات "ميراج" الإسرائيلية. وفي 08 جوان، اقترح عبد الناصر على السوريين قبول وقف إطلاق النار الذي فاوض عليه هو بنفسه، لإنقاذ جيشه. وفي زوال نفس اليوم أمرت قيادة الأركان السورية بالانسحاب التدريجي إلى داخل البلد، فاغتنم الإسرائيليون الفرصة وهاجموا الجولان، خاصة بعد ما تم سحب الجنود من الجبهتين الأردنية والمصرية إضافة إلى الاستخبارات السورية أشارت إلى انسحاب جزئي من الجولان.
وهكذا تمكنت القيادة الإسرائيلية المكلفة بالتصدي للهجمات الآتية من الجولان بالاعتماد على 8 ألوية جديدة، 3 منها مدرعة وواحدة تتبع لوحدات المظليين. وخارت عزيمة الجنود السوريين لما سمعوا بسقوط القدس
وفي 9 جوان على الساعة 11 والنصف، بدأت الهجمات الإسرائيلية على الجولان بعد تهيئة جوية دامت 5 ساعات، وتمت الهجمات على مرحلتين: ففي نفس اليوم، تقدم الإسرائيليون على 3 محاور مسبوقة بالجرافات لتسوية الطريق، ودمرت كثير من مدرعاتهم أثناء هذه الهجمة. وعلى المحاور الثلاثة تمت معاينة معارك ضارية وكلفت الطرفين خسائر كبيرة، ومع حلول الليل تمكن الإسرائيليون من تثبيت الجيش السوري.
أما اليوم التالي (10 جوان)، فقد تم تخصيصه لإحكام السيطرة على الهضبة، ثم تنظيم الاختراق النهائي، وهكذا سقطت عين توفيق، ثم قرى فيق والعال، قبل أن يتوجهوا نحو البطمية ورفيد، ومقاطعات شمال القُنيطرة. وحاصرت الوحدات القادمة من الجنوب هذه المدينة نهائيا.
وإذا دافع الجنود السوريون في اليوم الأول ببسالة، فإن الجيش الإسرائيلي بدا في نزهة مع اليوم الثاني لاسيما بعد الاجتياح الكبير، وذلك أن القوات السورية انسحبت بكاملها ليلا.
وفي منتصف النهار، نُقل الإسرائيليون عبر المروحيات إلى قمة حرمون واستحوذوا على محطة المراقبة والتنصت، وعلى الساعة السادسة والنصف مساء في العاشر من شهر جوان أصبح وقف إطلاق النار ساري المفعول، وانتهت الحرب.
على امتداد هذه الحرب، لم تفلح الدبلوماسية، كالعادة، في الوصول إلى نتيجة، وهو ما منح الإسرائيليين الوقت لاستكمال "غزواتهم".
كنا على علم بأننا أوشكنا على العودة إلى ديارنا. كان هذا بمثابة تباشير الاستقلال وكنا نملك مشاريع كثيرة، لكننا رغم ذلك لم نكن متلهفين للعودة ولم أملك تفسيرا لهذا الأمر بصراحة.
وفي شهر أكتوبر 1969 تلقينا أمرا بالتحضير لاستقبال اللواء الجديد، وهو اللواء الرابع الذي يقوده الرائد محمّد علاّهم. وجهّزنا خطة نقل اللواء والبعثات الأولى من وحدتي غادرت ليلا إلى القاهرة، حيث يعودون إلى الجزائر عبر طائرات "أنطونوف12". وبحسب القدوم والذهاب، على امتداد 20 يوما تقريبا، وصل قائد اللواء الجديد. وفي هذا الوقت كله، لم نكن نشعر بمرور الزمن بسبب انشغالنا بالأعمال اليومية. وكان يحدث بانتظام أن نتوجه إلى المخابئ، فالإسرائيليون الذين رأوا بالضرورة هذه التحركات كانوا "يحيّوننا" و"يسلمون" على الوافدين الجدد بطريقتهم الخاصة. وعندما كنا متواجدين أمام المخابئ، كنا نداعب بعضنا البعض من أجل تمضية الوقت، ولم نكن ندخل مخابئنا إلا إذا فهمنا بدافع الخبرة أن العبوات كانت تستهدفنا، وكنا نضحك عندما يرتمي القادمون الجدد على الأرض عند إطلاق الإسرائيليين العبوات، لأنهم لم يكونوا متعودين على الوضع.
وكان هذا أيضا هو الوقت المناسب للقيام بتعريف المصالح المصرية بالوافدين الجدد. وفي نفس المناسبة، كنا نشكر المسؤولين والضباط المصريين ونودّعهم متمنين لهم مزيدا من النجاح في عملهم.
وأعترف أنه بسبب تواجدي في مصر في تلك الفترة، تمكنت من تطبيق كل معارفي النظرية التي حصّلتها أثناء تربصي في قيادة الأركان بموسكو. وتمكنت بناء على هذا من استغلال هذه التجربة التي لا تقدّر بثمن لفائدة الجيش الجزائري، خاصة في تندوف، وعلى امتداد حياتي المهنية.
احتفظت بذكريات طيبة عن العميد مصطفى شاهين، رحمة الله عليه، فلقد كان رجلا من طراز عال، وحظي بالتقدير من طرف الضباط الذين عملوا تحت قيادته. كما كان العميد واقعيا، حيث أدرك حجم الهوة التي تفصل بين جيشه والجيش المقابل، ومع ذلك لم يدّخر جهدا ليسد هذه الفجوة. أنا جد ممتن له، لأنه اعتبرني دائما واحدا من أفراد فرقته، فكان يُشركني في كل اجتماعات الضباط ولا يخفي عني أدق التفاصيل حول ما يحدث في الجبهة. ومنذ الاجتماع الأول بمركز قيادة الفرقة، حينما تمت مناقشة كل المواضيع المتعلقة بالعمل وبدأ الحديث عن الأمور الداخلية كنت أتأهب للمغادرة فالتفت إليّ وقال لي بكل تواضع: "ابق معنا يا أخ خالد، لا يوجد شيء نُخفيه عنك". وفي أحد الأيام وضع تحت قيادتي وحدة حرس السواحل المنتشرة على امتداد البحيرة المرة. ولم يتوان عن تنبيهي إلى حادثة مزعجة وقعت لهم قبل ذلك، حيث قال: "احذر فقد فوجئوا من جهة السويس وقُتل حوالي 60 جنديا بالخناجر".
الحروب المتعاقبة في منطقة الشرق الأوسط:
1956: هزيمة عسكرية وانتصار سياسي
بعد الإطاحة بالملك فاروق، أعلن جمال عبد الناصر أمام الجماهير الثائرة تأميم قناة السويس. وشكّل هذا صدمة في كل القنصليات الأجنبية بمصر إلى درجة جعلت البعض لا يُصدّق ما قاله الرئيس المصري. لقد تفاجأت السفارات الغربية، لأنه لم يبق على انقضاء الامتياز الأجنبي سوى 13 سنة، فهل أدرك عبد الناصر مدى هذا القرار فعلا؟ في البداية، ظن كثيرون أن هذا مجرد فبركة إعلامية قبل أن تفهم الحكومات الأوروبية بأن إعلان التأميم لم يكن مجرد حيلة أو خدعة.
وفي تلك السنة، لم يكن الإسرائيليون مستعدين للدخول في حرب، لأنهم لم ينظروا إلى تأميم القناة بنفس المنظار الذي نظر به البريطانيون والفرنسيون، وكانت القضية حينها بحسب الفكرة الصهيونية قضية بقاء، وأدركوا أنهم غير مستعدين لمواجهة المصريين، جيرانهم "الأقوياء". وهذا رغم أنهم لم يُطيقوا الحصار الذي فرضته القاهرة على الخليج الذي كانوا يُصدّرون عبره المواد الأولية.
أما بالنسبة للجانب الأوروبي، فقد أرادوا جميعا قطع العلاقات مع عبد الناصر، حيث كانت بريطانيا المتضرر الأكبر من إعلان التأميم، لأنها كانت شريكة في القناة مع فرنسا ومصر، وكان 28 بالمائة من مجموع تنقلاتها ترتبط بذلك المكان. أما فرنسا، فقد أرادت الإجهاز على ألق "الرئيس" الذي بدأ يمتد إلى الدول العربية المجاورة، وخاصة الجزائر التي كانت في حرب معها. ولكي يتم تبني الحل العسكري، دفع الأوروبيون الوضع إلى التأزم السياسي، وتناسى الفرنسيون والبريطانيون المعارك التي خاضاها ضد بعضهما البعض في هذه المنطقة، خاصة بسبب القناة، وتحالفا ضد مصر وفق مخطط تم على ثلاث مراحل، كان الإسرائيليون هم أول من هاجم المصريين بغتة في 29 أكتوبر 1956، وقدّمت قوات التحالف الأخرى، وهي بريطانيا وفرنسا، إنذارا نهائيا إلى مصر مجددا بتاريخ 30 من نفس الشهر، قبل أن تشرع في هجمات جوية في 31 أكتوبر كمرحلة ثانية، لإعاقة الطيران المصري وتسهيل التوغل البري الإسرائيلي. وتمت المرحلة الثالثة بالإنزال الفرنسي والبريطاني بتاريخ 6 نوفمبر في بورسعيد. وأوقفت المساومة والضغط السياسي الأمريكي والسوفييتي تقدّم قوات التحالف، وهدد السوفييت باستعمال السلاح النووي في حين اعتبر الأمريكيون هذه الحرب استعمارية، خاصة وأنهم لم تكن لهم مصالح مباشرة للخوض في قضية قناة السويس.
وهكذا، صادقت الأمم المتحدة بصفة عاجلة على إنشاء قوة دولية تحل محل القوات الفرنسية والبريطانية في القناة، وخرج جمال عبد الناصر من هذه المغامرة التي استهدفت بلاده كبيرا في نظر المصريين، واستغلت إسرائيل الظرف لتحرير مضيق تيران، وهو ما منح سفنها حرية التحرك. ودمر الهجوم الإسرائيلي على سيناء، وهو الهجوم المدعوم أوروبيا، الجيش المصري، ولمدة طويلة. وتترّس جمال عبد الناصر بهذه الهزيمة العسكرية التي تحولت إلى انتصار سياسي، حيث كان همه الوحيد هو الاعتماد الشعبي الذي تمنحه له الجماهير المصرية والعربية، في حين أن أبرز وسائل دفاعه تحطمت لأكثر من عشرية.
1967حرب الستة أيام (05-10 جوان) العد التنازلي:
كانت الخطابات العربية الملتهبة تنبعث من كل مكان، وشارك فيها الجميع ابتداء من الرئيس المصري ومرورا ببومدين، نائب الرئيس ووزير الدفاع الجزائري، ووزير خارجية اليمن والمُشير عبد الرحمن عارف، رئيس العراق، وحافظ الأسد وزير الحرب السوري، إلخ.
في 02 جوان، جمع عبد الناصر قيادة أركانه ليُعلمهم أن هناك احتمالا كبيرا بقيام الإسرائيليين بهجوم في الأيام القادمة. لكن العمداء المصريين افترقوا بعد الاجتماع لينعموا بعطلة نهاية الأسبوع! واقترح مسؤولون إسرائيليون على وزير الدفاع العميد موشي دايان إلقاء قنبلة نووية لثني العرب عن القيام بأي هجوم، لكن دايان رفض هذا الاقتراح بحجة أن هذا الأمر سيسمم العلاقة المعقدة أصلا وقد يُفقده الدعم الثمين للولايات المتحدة. وتم إعلام الأمريكيين عبر ممثل الجالية اليهودية بأن الهجوم سيتم في أقل من 24 ساعة.
يوم الأحد 04 جوان 1967، تعذر الاتصال بأغلبية ضباط قيادة الأركان المصرية، ولم يكن على علم بقرب بداية الهجوم الإسرائيلي أحد من العرب سوى ملك الأردن، حيث تلقى المعلومة عن طريق سفير تركيا في عمّان. ويوما قبل ذلك، كانت القوات الإسرائيلية تعرف أن الهجوم العام سيبدأ صبيحة الغد على الساعة السابعة والنصف.
قامت الطائرات المصرية بإجراء دورية اعتيادية، خاصة منذ بداية الأزمة، على مقربة من الحدود وذلك بهدف الاحتياط من أي هجمة إسرائيلية. ولما حط الطيارون المصريون بطائراتهم لم يتخيلوا أن ما سيحدث يؤدي إلى تدمير سلاح الطيران. واستغل الإسرائيليون هذه الغفلة.
بدأت الموجة الأولى من الهجمات بـ191 طلعة جوية قامت بها طائرات "ميراج" و"ميستار"، ثم طائرات "فوتور" تتبعها "أوراغون"، وكان الهدف هو مطارات أبو صوير والكبريت وبير جفجافة وفايد والقاهرة غرب وبير التمد والمنصورة والعريش وجبل لبني. وأثناء هذا الهجوم الأول، تم تحطيم أكثر من نصف الطائرات المصرية، مقابل إصابة 19 طائرة إسرائيلية، 8 منها أسقطت.
معارك شرسة ضد الأردن
على الجبهة الأردنية، كانت مدينتا رام الله والقدس هما الهدف الإسرائيلي، وانتشر نبأ سقوط القدس انتشار النار في الهشيم. وانحازت أغلبية الوحدات القتالية الأردنية نحو جسور نهر الأردن. وهكذا قام الإسرائيليون بهجمات في اتجاه مدينتي جنين ونابلس، ولم يحتلاهما إلا بعد معارك ضارية. وفي 07 جوان، وصل الإسرائيليون إلى جسر نهر الأردن، ودخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في نفس اليوم.
احتلال الجولان السوري
قام السوريون بعمليات فردية مستقلة عن الهجمة الجوية التي أعاقت الطيران السوري عن التحليق منذ زوال 5 جوان واستهدفوا إسرائيل انطلاقا من هضبة الجولان التي تُشرف على بحيرة طبرية. وتلخصت هذه الهجمات في القصف المدفعي وكذا بعض المناوشات الجوية الضعيفة بين طائرات "ميغ" التابعة لسلاح الجو السوري، وطائرات "ميراج" الإسرائيلية. وفي 08 جوان، اقترح عبد الناصر على السوريين قبول وقف إطلاق النار الذي فاوض عليه هو بنفسه، لإنقاذ جيشه. وفي زوال نفس اليوم أمرت قيادة الأركان السورية بالانسحاب التدريجي إلى داخل البلد، فاغتنم الإسرائيليون الفرصة وهاجموا الجولان، خاصة بعد ما تم سحب الجنود من الجبهتين الأردنية والمصرية إضافة إلى الاستخبارات السورية أشارت إلى انسحاب جزئي من الجولان.
وهكذا تمكنت القيادة الإسرائيلية المكلفة بالتصدي للهجمات الآتية من الجولان بالاعتماد على 8 ألوية جديدة، 3 منها مدرعة وواحدة تتبع لوحدات المظليين. وخارت عزيمة الجنود السوريين لما سمعوا بسقوط القدس
وفي 9 جوان على الساعة 11 والنصف، بدأت الهجمات الإسرائيلية على الجولان بعد تهيئة جوية دامت 5 ساعات، وتمت الهجمات على مرحلتين: ففي نفس اليوم، تقدم الإسرائيليون على 3 محاور مسبوقة بالجرافات لتسوية الطريق، ودمرت كثير من مدرعاتهم أثناء هذه الهجمة. وعلى المحاور الثلاثة تمت معاينة معارك ضارية وكلفت الطرفين خسائر كبيرة، ومع حلول الليل تمكن الإسرائيليون من تثبيت الجيش السوري.
أما اليوم التالي (10 جوان)، فقد تم تخصيصه لإحكام السيطرة على الهضبة، ثم تنظيم الاختراق النهائي، وهكذا سقطت عين توفيق، ثم قرى فيق والعال، قبل أن يتوجهوا نحو البطمية ورفيد، ومقاطعات شمال القُنيطرة. وحاصرت الوحدات القادمة من الجنوب هذه المدينة نهائيا.
وإذا دافع الجنود السوريون في اليوم الأول ببسالة، فإن الجيش الإسرائيلي بدا في نزهة مع اليوم الثاني لاسيما بعد الاجتياح الكبير، وذلك أن القوات السورية انسحبت بكاملها ليلا.
وفي منتصف النهار، نُقل الإسرائيليون عبر المروحيات إلى قمة حرمون واستحوذوا على محطة المراقبة والتنصت، وعلى الساعة السادسة والنصف مساء في العاشر من شهر جوان أصبح وقف إطلاق النار ساري المفعول، وانتهت الحرب.
على امتداد هذه الحرب، لم تفلح الدبلوماسية، كالعادة، في الوصول إلى نتيجة، وهو ما منح الإسرائيليين الوقت لاستكمال "غزواتهم".