تعلم كيفية الثبات فى زمن المتغيرات

إنضم
22 أغسطس 2010
المشاركات
136
التفاعل
2 0 0
تعلم كيفية الثبات فى زمن المتغيرات


( علامات إرشادية على طريق الثورة )


كما تعودنا عزيزى القارئ فى هذه السلسلة ( سلسلة تعلم كيف .. )[1] , تعودت ألا يقدم الكاتب نفسه من مقعد المعلم , بل من مقعد طالب العلم , والذى لا يطرح العلم لغيره بل يناقشه معه ,
وهنا .. نحاول أن نناقش بعضنا البعض فى أمور أصبحت الثقافة فيها فرض عين على كل راشد , لا سيما وأننا فى زمان حذرنا منه النبي عليه الصلاة والسلام ,
زمان يصبح فيه المنكر معروفا والمعروف منكرا , ويُري الحليم فيه حيرانا , والعالم الحقيقي محبوسا عن جماهيره , بينما تصعد الرويبضة ( جهلاء القوم ) لتتصدر المشهد بعد أن ذهب زمن العلماء , وتسيدت الآلة الإعلامية على أذهان الناس , وأصبح التلقين الإعلامى أشبه بالسحر الأسود له تأثير طاغ , ويستطيع صاحب المنظومة الإعلامية أن يجعل الشمس تشرق من مغربها فى عيون الناس إذا أراد ,
وهذا أمر طبيعى بعد ستين عاما عاشتها المنطقة فى زيف وكذب وخداع وتضليل وحرب طواحين الهواء ,
فانتقلت المنطقة بأكملها من الإعلام الموجه المنفرد بالساحة فى فترة الستينيات إلى نهاية الثمانينات , إلى الفضائيات التى لم يكن تأثيرها أوفق من الإعلام الرسمى , بل تحكمت فيها إمبراطوريات المال والأعمال وأصبحت إعلاما موجها ولكن بقدرة المال عوضا عن قدرة النفوذ
وبين هذا وذاك ضاع الوعى العام وتخبط وأصبحت المعلومة الصحيحة شحيحة على طالبها , وغريبة على صاحبها

اليوم سنناقش مجمل القضايا المثارة على الساحة المصرية بعد الثورة النبيلة التى غيرت مجرى التاريخ عند المفترق المصري , وسنعرض للزخم الإعلامى الهائل الذى يفرض سطوته بتيارات متضاربة تتحرك وفق مصالحها الخاصة , دون أن تأبه بأى أمانة يحملها اللسان أو القلم فى التوعية ..
هذا إلى جوار الطامة العظمى , وهى سقوط رموز قيادات الرأى العام ـ والذين هم قادة الأمة كما يفترض ـ فى فخ رهيب حفروه لأنفسهم عندما تباينت مواقفهم من الثورة , فسقطوا من أعين الجماهير التى اكتشفت فجأة , وعلى حين غرة , أن بعض قادتها اللامعين الذين حسبوهم أهل جهاد ونضال وعلم , إذا بهم يظهرون على حقيقتهم , فإذا الأمر بينهم وبين الأنظمة الحاكمة مصالح متبادلة , يتنازل الحاكم فيها لهم فيمنحهم فرصة الوصول للجمهور , فى مقابل فروض الطاعة والولاء , والتى ربما تكون خفية وربما تكون ظاهرة بحسب أصول اللعبة , وبحسب القدرة على خداع الجماهير ,
فظهرت مؤسسات رسمية للإعلام والعلم وهى تنافق العالم صراحة , ولا يُسمح لها بالتجاوز , مثل القيادات الرسمية للأزهر , وقيادات الجامعات , والصحف القومية والتليفزيون الرسمى ..
كما ظهرت وسائل إعلام تحمل وصف المعارضة , وهى أولى بوصف العارضة , عارضة أزياء الديمقراطية لكن على غير أساس واقعى , وتحمل توجيهاتها من رموز أمن الدولة رغم مانشيتات وهتافات النضال التى تتصدر صحفهم وقنواتهم ,
وهؤلاء مثالهم صارخ فى الأكشاك الحزبية المعروفة ـ زورا ـ باسم أحزاب المعارضة , وهى أطوع للنظام من بنانه , بل إن حزبا مثل حزب الوفد ممثلا فى شخص رئيسه السيد البدوى , والذى ظهر أيام الثورة أسدا هصورا يعلن سقوط شرعية النظام ,
كان خادما مطيعا لسياسات نظام مبارك بأسرع مما يطلب مبارك نفسه , وتمكن من إقصاء إبراهيم عيسي عن جريدته الفذة ( الدستور ) عندما اشتراها فى صفقة مشبوهة هزت الوسط الصحفي ليقصي عيسي وسياسته التحريرية عن الجريدة التى كانت تمثل صداعا مزمنا فى رأس النظام [2]

ثم جاءت الثورة ..
وإذا بالغالبية العظمى التى كانت منبطحة , ومعهم جمهور عريض من الأقلام والوجوه التى كان يظن الناس بها خيرا , إذا بها تتذبذب فى مواقفها تجاه الثورة , وإذا بالصفقات التى كان يعقدها النظام أوسع نطاقا مما كانت تتصوره الجماهير !!

وانكشفت الصفقة التى ذهبت ضحيتها الجماهير العريضة , وكانت الصدمة هائلة ومحزنة , مما كرس لحالة من فقدان الإتزان لدى الشباب ولدى الغالبية العظمى من الناس , وجعلتهم على وشك أن يكفروا بكل شخص يقدم نفسه بالعلم والفكر , بعد أن ذاقوا الويلات فى السابق من الذين تاجروا بعلمهم ومكانتهم بين الناس , وهم أبعد الناس عن الإخلاص !

ولما كانت حالة فقدان الثقة العارمة هذى , حالة مدمرة لأى مجتمع , كان لزاما أن نتوقف قليلا تحت خمائل شجرة الأحداث , لنتأمل ونعى ونعيد توجيه الصورة وتنقيتها واستخلاص الحقيقة المجردة أولا , ثم استخلاص القادة الحقيقيين من القادة المزيفين بناء على معايير موضوعية لا تخضع مطلقا لهوى التعصب للأشخاص , بل تخضع فقط للمقاييس التى يجب أن تكون عليها ..

وهذا أمر طبيعى ..
إذ أن أمة الإسلام لا يمكن أن تخلو فى أى وقت من الأوقات من العلماء الربانيين والمفكرين المخلصين , وإذا كان الشعب المصري ومن قبله التونسي أثبت للعالم أن هناك مخلصون من عامة الناس بالملايين , فليس غريبا ولا مستغربا أن نثق بوجود العلماء وقادة الرأى العام الجديرين بالثقة ,
لا سيما إذا وضعنا بأذهاننا أن هؤلاء المفكرين المخلصين , والعلماء النابهين , أغلبهم بعيد عن بؤرة الضوء غالبا , لأن المخلص فى زمن الفتن لابد أن تبتعد عنه الأضواء , فأضواء الشهرة أصبحت من زمن بعيد حكرا على أصحاب المصالح , أما أصحاب الفكر فلا مكان لهم إلا عند من يعرفهم حق المعرفة ,
وليس أمامنا اليوم إلا التفتيش عن الكنوز المخبوءة التى خرجت حتما من صوامعها بعد أحداث الحراك الإجتماعى الثورى الذى دفع دماء الأمل لهؤلاء العلماء مرة أخرى , وجعلهم يستبشرون خيرا بمستقبل أفضل ..
هذا بالإضافة لمناقشة هادئة لشتى القضايا التى تعرض الآن فى مرحلة إعادة البناء , مناقشة تضرب مفصل القضية وأساسها , ولا تنشغل بالذيول الإعلامية التى تعتمد على الإثارة وحدها للتكسب وجذب الجماهير

فقد حان الوقت الآن أن يرضخ الإعلام لرغبة الجماهير فيترك الإثارة التى يتعمدها كوسيلة للإنتشار , لأنها كانت وسيلة النظم البائدة فى السيطرة على أذهان الجماهير وجذبها عن أهم قضايا المجتمع لصالح توافه الأمور ..
والجمهور وحده هو من يملك إخضاع الأبواق الإعلامية لرغبته فى تحرى الحقيقة المجردة ,
وذلك باستخدام نفس الأسلوب الثورى فى معاقبة وسائل الإعلام الخاضعة والملوثة , حيث أحسنت الجماهير عقاب التليفزيون المصري ومذيعيه وقياداته على مواقفهم المخزية , فضل على مظاهراتهم ضد الصحف القومية والتابعة , بالإضافة إلى تصديهم الثورى للقنوات الخاصة التى كانت بوقا لإشاعات النظام طيلة أيام الثورة مثل قناة المحور وأضرابها ..


الهوامش :

[1]ـ نشر من السلسلة 12 بحثا حتى الآن

[2]ـ الدستور ( قصة حياة جرنال ) ـ موسوعة الملف الصحفي لأزمة الدستور ـ إبراهيم عيسي وآخرون
 
رد: تعلم كيفية الثبات فى زمن المتغيرات

القضية الأولى : عظمة الحدث .. وندرة الإستيعاب ..


وقعت الثورة المصرية كحدث هائل منفرد , و رغم التأثير الجارف الذى تأثرت به الجماهير , والتفاعل غير المسبوق فى وقوعه وتكاتف الشعب المصري الذى لم يتكرر منذ أحداث حرب أكتوبر المجيدة , وانبهار العالم أجمع بما تحقق , ونهوض جيل الشباب بما لم يأت فى خاطر أعتى المتفائلين ..

رغم كل هذا ,

إلا أننا نستطيع أن نجزم فى وضوح بأن الغالبية الساحقة من المصريين لم تحسن استيعاب ما حققته من إنجاز , ولم يصل إليها بعد معنى ومغزى ما تحقق , فكان البون شاسعا بين علو الحدث وبراعته , وبين قدرة الجماهير على استيعابه ..

نلمس هذا الأمر من حالة الإدراك فى تأثر البعض بالأحداث التى شهدتها مصر الثورة , وبالفتن التى تفجرت ـ رغم محدودية تأثيرها ـ وبخوف البعض المبالغ فيه مما هو منتظر , بالإضافة إلى انحسار نسبي لموجة التفاؤل من ناحية , ومن ناحية أخرى استعجال كبير لنتائج الثورة ,

أما الشعور بالخوف وانحسار نسبة التفاؤل ..

فيتمثل فى الصدمة المبالغ فيها من أحداث ما يسمى بالإنفلات الطائفي , والإنفلات الأمنى

ومن ناحية الإستعجال , فهو انبهار البعض بموجات الثورة الكاسحة التى كنست النظام السابق , وظن البعض أن مجرد وقوع هذا الطوفان , هو مؤشر لأن تصبح مصر بين عشية وضحاها من أوائل دول العالم !!!

ينسي هؤلاء وهؤلاء أن التاريخ لا يعرف العجلة , ولا يعرف البناء اللحظى , بل الكون كله لا تعرف منظومته الإنقلاب الفورى , إلا فى أمر المعجزات فقط , وهو الأمر الذى يعد استثناء من القاعدة , ألا وهى قاعدة البناء خطوة .. خطوة ,

فبالنسبة للذين تأثروا بحالة الإنفلات الأمنى والتخبط الطائفي , فإنهم بالغوا فى عرض خطورة الأمر , وهو بلا شك يستحق الخوف والترقب والعمل على الحل , لكنه بالقطع لا يستحق هذه الحالة الغريبة من الفزع ,

وهى حالة غريبة على من يشعرون بها بحسن نية , ولكنها قصد مقصود عند المروجين لهذه النظرة القاتمة للأحداث , طمعا فى أن يستشعر الشعب أن ثورته أتت علي حساب أمنه واستقراره ,

وهو عين أهداف الثورة المضادة التى يروج لها فلول النظام , والتى تساعد فيها اليوم العديد من الصحف الخاصة الشهيرة كجريدة الفجر برياسة تحرير عادل حمودة , والذى أصدر عدادا به صورة كبيرة لشيخ سلفي يحمل سيفا وكتب معلقا أنها بدء الحرب السلفية لذبح الجميع !! ولست أدرى من أين اقتبس الصورة التى تبدو كأنها صورة أبي لهب !!

ولا يصدق المرء أن هذه العناوين الفاقعة تغطية لأحداث بؤرية لم تتجاوز منطقتها وجرى سحقها فى ساعات !

بالإضافة للتضخيم المبالغ فيه للأزمة الإقتصادية حيث خرجت جريدة المصري اليوم بعنوان يبشر المصريين بانعدام السولار والبترول وضياع الإقتصاد , حتى أنى شعرت بأن أسواقنا ليس بها رغيف خبز !!

وعلى نفس النهج تجد جريدة الدستور ـ الدستور المزيفة التابعة للبدوى ـ تبشر بانحطاط اقتصادى مروع ينتظر مصر !!!

وهذه الصحف الخاصة تلجأ لهذه الأساليب بشكل يدفعنا للتشكيك المباشر فى نواياها لا سيما وأن مؤسسات تعتمد فى تمويلها على رجال أعمال كانت لهم مصالحهم المشتركة مع النظام السابق , بشراكة الفساد والإفساد

ولا شك أن هذه الصحف تنتهج سياستها التحريرية كل ما ينفع مموليها بغض النظر عن أمانة النقل أو ميثاق الشرف الصحفي الذى أصبح هذه الأيام ( بيولع ميت مرة زى الولاعة , غير زمان أيام عود الكبريت اللى ميولعش إلا مرة واحدة )

وهذه الصحف تعتمد على ضعف ذاكرة العامة والبسطاء , والذين عانوا طيلة حكم مبارك من أسوأ فترات الإنفلات الأمنى بعد تحالف الجريمة المنظمة مع الشرطة فى الحرب على الجماعات الإرهابية , ثم فى ممارسات الشرطة القمعية التى جعلت كل مواطن لا يستطيع أن يأمن على بيته ونفسه فى ظل ثلاثين عاما من الطوارئ تتيح لأصغر ضابط شرطة أن يعتقل أى مواطن أو يقتله علنا فى الطريق العام دون أدنى مساءلة !!

وليست حادثة خالد سعيد شهيد الإسكندرية وأيقونة الثورة ببعيدة , ومثالها تكرر عبر السنوات الطويلة بتعمد تغطية أفعال الضباط فى التعذيب والقتل بالتواطؤ مع مصلحة الطب الشرعي التى كانت تصدر تقاريرها عن ضحايا التعذيب بالعبارة الشهيرة

( مات المذكور بسبب هبوط حاد فى الدورة الدموية )

بخلاف تغول القبضة الأمنية لجهاز أمن الدولة بصورة عاتية , وأصبح مستقبل آلاف الشباب مرهون بتقارير أمن الدولة التى تتحكم فى تعييناتهم ووظائفهم وفى حريتهم , ومن الممكن أن يتم طرد أى أستاذ جامعى أو حتى قاض من القضاة إذا جاء تقرير أمن الدولة بشأنه بالرفض , وبلا إبداء أسباب !!

فضلا على حالة التسلط المرضي على خصوصيات الناس حتى من العوام , وهناك تصريح شهير لحبيب العادلى قال فيه معقبا على زيادة الإنتقاد لتصنت أمن الدولة على مكالمات المواطنين بلا وجه حق , ( اللى خايف ميتكلمش !! )

هكذا علنا ..

ناهيك عن حوادث الإرهاب التى رعتها الشرطة بنفسها تحت رعاية حبيب العادلى , والذى ابتكر هذا الأسلوب فى صناعة وحش الإرهاب بهدف الحفاظ على مقعده لأطول فترة ممكنة عن طريق تخويف النظام بفزاعة الإرهاب الإسلامى كل فترة , وترويجه لنظرية أنه الوزير الوحيد الذى يتمكن من حماية النظام , وبالفعل نجح فى أن يقضي على مقعد الوزارة أطول فترة فى تاريخ الجمهورية

فأين هو الأمان والإستقرار الذى يحلو لبعض الحمقي أن يرددوه فى وصف عصر مبارك !!

وأين هو المواطن الذى كان يستطيع أن يأمن على نفسه وأهله وماله فى عصر مبارك ؟!!
 
رد: تعلم كيفية الثبات فى زمن المتغيرات

وكل هذا الإنفلات والرعب الأمنى فى عصر مبارك يفوق بعشرات الأضعاف ما تعانيه مصر الآن من حوادث متفرقة أشبه برقصة المذبوح لنظام لا يزال رهن صدمة الهزيمة الساحقة
هذا بالإضافة إلى أن كل ما حدث وما سيحدث ـ لو فرضنا وقوع ما هو أسوأ ـ إنما هو أمر طبيعى وفى الحدود الآمنة والمحتملة , بل هو أقل من الطبيعى فى الواقع إذا أردنا حكما منصفا ,
فما تحقق من إنجاز بكنس نظام مبارك كنسا من على قمة السلطة بعد ثلاثين عاما , وانتهاء عصر الديكتاتورية الفرعونية القائمة على صمت الشعوب بعد ستين عاما كاملة , ونزول الشعب لأول مرة فى العصر الحديث ليفرض كلمته كأمر واقع ,
هذا الحدث أعتى وأكبر وأهم من أن نغفل قيمته , وأن نستهول المقابل الطبيعى الذى ينبغي علينا دفعه كأثر جانبي لشفاء مرض عضال عمره ستين عاما طويلة !!
فأصبح حال المتوجسين والخائفين كحال المريض المصاب بمرض مزمن أصابه بشلل رباعى , ونجح الأطباء فى شفائه بأثر جانبي يتمثل بعرج خفيف , وبدلا من أن يتفاءل المريض ويحمد العاقبة , تجده يتخوف من هذا العرج ويتعاظم تأثيره عليه !!
ينسي المتخوفون ومن استهولوا المقابل المتمثل فى ثمنمائة شهيد , وفى ضحايا الفتنة , والإنفلات الأمنى الذين لم يتجاوزا العشرات , أننا حققنا بهذه التضحيات , ما كان يستحق على أقل تقدير ـ ثلاثين ألف شهيد على الأقل ـ لكى يتم إنجازه


ثبات النظام الحاكم بالقبضة الأمنية الهائلة المتمثلة فى قوات الشرطة البالغ عددها مليون ومائتى ألف جندى أمن مركزى , بتسليح وميزانية هائلة تعتبر هى الثانية من حيث الضخامة على مستوى العالم بعد الصين , بالإضافة إلى استقرار فى الحكم على مدى ثلاثين عاما بعلاقات وتحالفات دولية تحرص على هذا النظام بشدة لأنه مكنها من السيطرة على المنطقة طيلة هذه الفترة ,

نظام بهذه القوة , وبهذا الرسوخ , أين العاقل الذى يقول بإمكانية سقوطه فى ثمانية عشر يوما !!!

وأين العاقل الذى كان يتصور فدائية الشباب المتظاهرين وهم يجبرون الأمن على التراجع والإنسحاب ؟!

وأين العاقل الذى كان يتصور انحياز الجيش التام والمطلق للشعب ضد النظام دون أن يشذ قائد واحد من قادة الجيش فيكون عونا لمبارك ضد الشعب تحت ذريعة حماية الشرعية ؟!

وأين العاقل الذى كان يتصور انحياز الحرس الجمهورى ـ بإمكانياته الهائلة ـ إلى صف الجيش ورفض الأوامر بفض المظاهرات بالقوة , رغم أن الحرس الجمهورى معروف الإنتماء لرئيسه , ويحوز قادته على أعلى الإمتيازات ليحتفظ النظام بولائهم له ؟!

وأين العاقل الذى كان يتصور فشل خطة الفوضي الأمنية التى اعتمدها وزير الداخلية السفاح حبيب العادلى , عن طريق سحب الشرطة وإطلاق البلطجية على الآمنين بالسلاح الآلى والأبيض , وفتح السجون وإطلاق المساجين على الناس مع تحريضهم على الفوضي والتخريب , ففوجئت القاهرة وحدها بعشرين ألف هارب من السجون يعيثون فسادا فى الأرض !!! ويطلقون النار على منازل الآمنين مستخدمين فى ذلك عربات الإسعاف المسروقة !!

وأين العاقل الذي كان يتخيل أن ينجح المتظاهرون العزل فى ميدان التحرير فى 2 فبراير الماضي يوم موقعة الجمل فى التصدى لمحاولة بلطجية النظام فض الميدان بالقوة المسلحة , رغم أن المتظاهرين كانوا عزلا من أى نوع من السلاح , بينما خصومهم يتجاوزون العشرة آلاف بلطجى مسلحين جميعا بالأسلحة البيضاء والحجارة المحملة على ناقلات خاصة , بالإضافة لمدافع آلية فضلا على عدد لا يحصي من زجاجات المولوتوف , هجموا بهذا كله على الشباب فى قلب الميدان ,

وإذا بالشباب يصمدون للمعركة ثمانية عشر ساعة كاملة , وينجحون أيضا فى ردع الهجوم ردعا تاما ويسيطرون على الميدان من جديد ؟ وحاربوا خصومهم بحجارة قاموا بتكسيرها من أرصفة الميدان , واتخذوا لهم دروعا من صناديق القمامة حتى انتصروا !

تعالوا لنتأمل النتائج المتوقعة فى حال إذا ما تحقق أى خيار من الخيارات السابقة ..

ولنبدأ بموقف الجيش ..

ألم يكن من المنطقي والمتوقع أن ينحاز المشير طنطاوى قائد الجيش إلى مبارك , لا سيما وأنه ظل فى وزارة الدفاع منذ عام 1991م , أو أن ينحاز معه بقية قادة الجيش على اعتبار مبارك من أبناء المؤسسة العسكرية ,

لا أقول بانحيازهم بمعنى هجومهم على المتظاهرين , ولكن على الأقل الوقوف على الحياد ,

لكن هذا لم يحدث وجاءت بيانات الجيش كلها تؤكد على مشروعية مطالب المتظاهرين , وحماية الجيش لهم , ثم جاء البيان رقم (1) فجأة يوم 10 فبراير ليـُـــفشل آخر خطة لمبارك بالإفلات , عندما كانت مطالب المتظاهرين من الممكن أن تقتنع بالتفويض , إلا أن بيان الجيش الذى سبق خطاب التفويض جعل المتظاهرين يجزمون بوقوف الجيش معهم فلم يرضوا بديلا للتنحى الكامل !

ليس هذا فقط ..

بل إن الجيش تجاوز حتى أحلام المتظاهرين فى أيام الثورة , فلم يعط مبارك ضمانا بعدم المحاكمة مقابل التنحى عن السلطة , رغم أن هذا الأمر ساعتها كان مقبولا جماهيريا , وعبر عنه أكثر من ناشط سياسي , ومع ذلك رفض الجيش وحاكموه !

ألم يكن من المنطقي أن تنجح خطة الترويع الأمنى فى استسلام الشعب ووقوفه ضد المتظاهرين بعد إطلاق المسلحين من بلطجية النظام فى الشوارع والمنازل ,

وهل كان من المنطقي أن تنجح اللجان الشعبية وحدها بالعصي والأدوات البسيطة فى التصدى لهجمات البلطجية وردعهم وتحقيق الأمن فى البيوت بسواعد شبابها فى غياب تام وتواطؤ كامل للشرطة ؟!

ألم يكن منطقيا أن ينحاز الحرس الجمهورى للرئيس ,

على الأقل بما هو معروف من تنافس بين الجيش وقوات الحرس الجمهورى وما بينهما من حساسيات معروفة , فيقوم الحرس الجمهورى بحماية مبارك ويضطر الجيش للرد وتصبح حربا ضروسا تدفعه البلاد ثمنا غاليا لها حتى تحقق حريتها ؟!

وأمامنا الآن مثال ما يحدث فى ليبيا , وفى اليمن عندما تفرقت القوات المسلحة بين الجبهة الشعبية وجبهة السلطة ووقعت المعارك الضارية التى ستستمر بضحايا الله .. أعلم بهم حتى يتمكن الليبيون واليمنيون من تحقيق ما حققه المصريون ..

ألم يكن منطقيا أن يستغل النظم السابق بعد رحيله من الحكم , إمكانياته المادية الهائلة المتمثلة فى الأموال المنهوبة وفى رجال الأعمال المتعاملين مع النظام والمتحالفين معه , وقرابة مليون بلطجى ربتهم وزارة الداخلية فى حجرها , فى أن يضربوا استقرار مصر إلى مدى مفزع يتجاوز كثيرا ما حدث بالفعل

إن إمكانيات الثورة المضادة الواقعية , تجعلنا من المنطقي للغاية أن نتوقع كوارث أمنية لا يعلم حدودها إلا الله تتمثل فى عمليات إرهابية واسعة النطاق يشرف عليها ضباط أمن الدولة ورجالهم والبلطجية التابعين لهم ,

ورغم كل ذلك نجت مصر والحمد لله وكانت الثورة المضادة محكومة بالفشل فى كل خطواتها بتكاتف الجيش مع الشعب وعدم إنزلاق أغلبية الناس الساحقة لحوادث الفتنة ,
 
رد: تعلم كيفية الثبات فى زمن المتغيرات

وبعد هذه النظرة المتأملة ,
أليس من حقنا أن نقول بأن التضحيات التى قدمناها لتحقيق ما وقع , هى بالفعل تضحيات تقل كثيرا جدا عن المقابل المنطقي لثورة مثل هذه الثورة ونتائجها ,
إن مصر طيلة الثلاثين عاما الأخيرة كانت تخسر ألف وخمسمائة قتيل سنويا فى حوادث الطرق , بخلاف ثلاثين ألف مصاب بخلاف الحوادث التى كانت تقع لإهمال السلطة فيذهب ضحيتها الآلاف بلا ثمن , مثل حادثة قطار الصعيد أو حادثة عبّارة السلام ,
فإذا كانت مصر تحملت هذا الثمن الفادح فى مقابل لا شيئ !!
فهل يعتبر الثمن كبيرا عندما يذهب منا ثمنمائة شهيد فى مقابل نصر كامل مؤزر كهذا النصر ,
ومصر فى السنوات الثلاثين الأخيرة مرت ـ تحت رعاية النظام ـ بفتن الإرهاب وفتن الطائفية التى قضت على آلاف الأبرياء وضعضعت الحالة الإقتصادية للبلاد , فى مقابل لا شيئ
فهل نستكثر على الثورة وقوع محاولات للفتنة هنا وهناك يذهب ضحيتها أفراد معدودون , تمكن الشعب وقواته من التآزر لمنع آثارها قدر المستطاع
ومصر فى السنوات الثلاثين الأخيرة عانت من نهب منظم غير مسبوق منذ أيام الفراعنة , بلغ فيه مجموع المال المنهوب سائلا وفى شكل عقارات , ما يقارب ثلاثة تريليونات جنيه مصري ( أى ثلاثة آلاف مليار جنيه )
ذهبت بلا مقابل , وإلى خزائن العائلة الحاكمة وبطانتها ورجال أعمالها ,
فهل نستكثر على الثورة أثرا سلبيا يتمثل فى اهتزاز معدل النمو والإنتاج هذا العام ,
وحتى لو استمر الإهتزاز لأعوام قادمة ـ لا قدر الله ـ ما الذى تمثله هذه الخسارة المحدودة أمام جحافل المليارات المنهوبة سابقا ,
لا سيما لو وضعنا بأذهاننا أن ميزانية الدولة شهدت اليوم موارد ضخمة جديدة مضافة إليها , وهى الموارد التى كان نظام مبارك يستبعدها من حساب الميزانية الخاصة بالدولة وتذهب حكرا لرياسة الجمهورية ومصاريف الحكومة دون أى حساب ,
مثل مليارات الصناديق الخاصة والمنح المختلفة , بالإضافة لدخل قناة السويس , وثروة الغاز الطبيعى والبترول الذى كان يتم تصديره بفارق أسعار مذهل لصالح إسرائيل مقابل عمولات معروفة , فضلا على إنتاج مناجم الذهب التى كان يتم تهريبها برعاية رسمية من رجال النظام , بالإضافة إلى القروض المشبوهة التى يتم نهبها من البنوك , .... إلخ
وهذه القيمة المالية المضافة تفوق فعليا ميزانية الدولة السنوية , أى أننا نستطيع القول بل مبالغة أن ميزانية مصر ابتداء من العام القادم ستشهد مضاعفة فى الموارد بسبب ضم الموارد المنهوبة إلى الميزانية بعد قطع دابر النهب المنظم

فالخائفون والمتوجسون عليهم أن يهدءوا نفسا , لأنهم إذا استعادوا المشاهد السابقة فى الثورة , سيثقون أن هناك معاملا خفيا غائبا عن منطق الأحداث ,

هذا المعامل هو الذى أثقل كفة الشعب الأعزل فى مواجهة النظام المتسلط , وكفل للشعب نصرا باهرا بأقل مستوى من التضحيات ..

هذا العامل هو توفيق الله عز وجل , والذى جعل ضربة العـُــزّل أشد فتكا من ضربات القنابل ,

وهو نفس العامل الذى ينبغي أن يـُـطمئن الخائفين على مستقبل الثورة , فمن رعاها فى بدايتها لابد أن حاميها فى نهايتها ..

والله عز وجل أكرم من أن يمنع ما أعطاه , أو يرعي ثم يترك رعيته ,

وهو عز وجل الذى طلب إلينا أن نغير ما بأنفسنا , ثم وعدنا أن النصر حليفنا إن فعلنا , وقد غيرنا أنفسنا بأنفسنا , فكان عليه حقا نصر المؤمنين ..

أما بالنسبة للفريق الثانى ..

الفريق المتعجل لنتائج الثورة والذى يعتقد أن مجرد وقوع الثورة يعنى بالتبعية خروج مصر أخرى فى غمضة عين !

فكما قلنا من قبل أن الطوفان الجارف الذى أحدثته الثورة , قام فينا بقيامة طوفان نوح عليه السلام , كانت وظيفته كنس الكفار وأبنائهم ومسح آثارهم من على وجه الأرض لتعود بكرا كما كانت

لكن لم يكن من وظائف الطوفان الذى أنقذ نوحا وقومه أن يقوم بإعادة بناء دولة التوحيد بعد زوال دولة الكفر , وهذا أمر طبيعى لأن إعادة إعمار الأرض بعد الطوفان كانت موكلة إلى المؤمنين الناجين مع نوح فى السفينة ,

وهؤلاء هم الذين شمروا عن سواعد الكد والجهد سنوات طوال لإعادة البناء وخلق أرض جديدة على أرضية صافية ونقية ..

وهذا بطبيعة الحال استلزم جهدا ووقتا امتد لقرون ,

ومصر الجديدة التى خرجت من رحم الثورة , لم يلاحظ المتعجلون أنها أرض جديدة مسح النظام السابق منها كل وجوه الحياة , وامتص خيرها وضرعها حتى اللحم , ومن الطبيعى أن أن إيقاف النزيف وكف يد النهب , يحتاج معه إلى إعادة البناء بموارد خصبة تنتظر السواعد التى تشارك فى نهضتها ,

وأمام مصر عشرين عاما قد تطول أو تقصر بحسب الظروف لكى يمكن لها أن تحتل المكانة العالمية اللائقة بها داخليا وخارجيا , وليس فى هذا ما يدعو لليأس أو هبوط الحماس

بالعكس ..

المفروض أن يكون سببا للتفاؤل

فمصر الحرية , ستعرف أخيرا معنى البناء عندما يشمر أبناؤها لنهضتها ويعملون بجد واجتهاد وهم واثقون من أن نتاج عملهم سيعود لهم هم هذه المرة , بعد طول عمل كانت ثماره تُنهب كل يوم أمام أعينهم

فما أجمل العمل الذى يشعر صاحبه بأن نتاجه حتما هو راجع إليه , مهما استطال التعب فى سبيله ,

فضلا على إغراء آخر ينتظر هذا الجيل وهو أننا الجيل الذى قام بالثورة , وأمامنا فرصة لنضيف إلى مجد الثورة مجدا آخر وهو مجد بناء الدولة المصرية الحديثة الأولى بعد مصر محمد علىّ

لتتذوق الأجيال القادمة من مصر مذاقا مختلفا عما شربناه نحن , وهذا المجد وحده يكفي للصبر ويستحقه ..

 
رد: تعلم كيفية الثبات فى زمن المتغيرات

القضية الثانية .. الثورة وسقوط الرموز


حديثنا فى هذا الجانب لن يشمل نوعا بعينه من الرموز , بل سنحاول وضع الأساسيات التى تؤهلنا كجمهور للتمييز بين رجل الحق ورجل الباطل فى شأن كافة الرموز العلمية والفكرية , سواء كانوا من العلماء والدعاة أو من المفكرين والكـُـــتـّـاب , أو من رجال السياسة ,

وفى مختلف الحالات , سواء فى الأجواء العامة العادية , أو فى الأحداث الإستثنائية كالثورة مثلا ..

والحكم على الرموز ليس أمرا سهلا فهذا أمر عظيم القدر وكبير المسئولية .. والمشكلة أنه بالغ الضرورة لنا هذه الأيام .. لأن ثقافة التمييز أصبحت الآن لازمة لا غنى عنها

وإذا كانت هذه الثقافة قديما إحدى مقومات الكمال , فهى الآن فرض عين لإدراك مقاييس الرجال ,

والسبب جلىْ وواضح , ويكمن فى أن النفاق بعصرنا أصبح هو القاعدة , والإخلاص هو الإستثناء , وليس كل من حمل العلم والفكر عالم أو مفكر , طالما استخدمه فى أغراض دنيوية بغض النظر عن رسالته ,

لا سيما إذا تذكرنا نبوءات النبي عليه الصلاة والسلام فى أمر آخر الزمان , وكيف أن الظاهرة التى ستحكم هذا الزمن هى ظاهرة أئمة النار الذين يدعون إلى النار بدعاء الجنة وعلم السلف ,

وفى ظل الظروف المتلاطمة فى مرحلة إعادة البناء اليوم , فإن الوطن لا يحتمل دخول لبنة واحدة فاسدة فى تكوين البناء الجديد , الذى ينبغي له أن يقوم على أساس سليم قوامه المخلصون .. والمخلصون وحدهم ..

وقبل أن نعرض لقضية تقييم الرموز وأحوالهم , ينبغي لنا أولا أن نعرف من هم الرموز ,

من هؤلاء الذين يستحقون هذا الوصف .. ؟!

ورغم أنه سؤال قد يبدو ساذجا , إلا أن الإنقلابات المجتمعية فى تقييم البشر أخلت بالموازين , ورفعت الجهلة وخفضت العلماء ,

وأصبح المقياس الوحيد لاعتبار الشخصية الرمز أو الشخصية العامة هو انتشارها إعلاميا بأى وجه من أوجه الشهرة ,

المهم أن يكون الشخص شهيرا إعلاميا ليحصد الإعتراف المجتمعى به كشخصية عامة تفتى فى مدار أحداث الوطن الجسام !! وليس غريبا أيضا أنهم يضعون الحلول لقضايا لا تتمكن عقولهم حتى من استيعاب اسمها , فضلا على فحواها !

وساهم الإعلام الرسمى فى تكريس هذه النظرة فأصبحت البرامج الحوارية طيلة العقود الماضية تستطلع الآراء فى أخطر قضايا المجتمع من الممثلين والراقصات ومن شاكلهم !

واستعيدوا كل الكوارث أو الأحداث الجسام التى مرت بها مصر خلال ثلاثين عاما , وراجعوا الإعلام الرسمى والخاص وقارنوا عدد الممثلين وأهل الإعلام الذين ظهروا ليفتوا بالحلول إلى جوار آراء المتخصصين والعلماء وأهل الفكر

كما ساهم هذا فى فتح جبهات الجهلة للهجوم على ثوابت الأمة والدين فى خفة عقل لا مثيل لها , لمجرد الشهرة , فتجد صحفيا يطعن أو يناقش صحة قاعدة فقهية , وتجد حلاق صحة ـــ تحول إلى طبيب فى حركة ترقيات "[1] " ـــ يناقش مبادئ العقيدة !!

ولعل هذه الثقافة المنتشرة كانت هى السبب فى خروج بعض المراهقين السياسيين ليطرحوا أنفسهم لمنصب رياسة الجمهورية , كما لو كانت انتخابات الرياسة شبيهة بانتخابات نادى هيليوبوليس أو مركز شباب إمبابة ,

ولم يجد هؤلاء حرجا أو وقتا ليسألوا أنفسهم هل مصر الثورة ـ بعد كل هذا التغيير ـ تستحق مرشحين تنطبق عليهم أوصاف المتردية والنطيحة وما أكل السبع !!

والمشكلة أن هؤلاء المرشحين يعتبرون دليلا قاطعا على غياب ثقافة التمييز من المجتمع , لأنهم اكتسبوا الشهرة الإعلامية وظنوها ذات حصانة لهم فى الكل العهود ! وظنوا أن الشعب طالما اعتاد رؤيتهم مع الممثلين والراقصات على شاشات التليفزيون فإن أى موقف منهم مقبول من الشعب !

فشخص مثل عمرو موسي يعتبر أحد الآبناء الشرعيين لنظام مبارك ونديم الفكر والخمر لهذا الأخير والصديق الوحيد له ـ بعد حسين سالم ـ الذى كان يزوره فى كابينته الشخصية بالمصيف كل عام لتبادل الدعابات والأحاديث غير الرسمية , ويعتبر أحد راسمى سياسة الإنبطاح التى أخرجت مصر من دورها لتدور فى فلك السياسة الأمريكية منذ أن كان وزيرا للخارجية وحتى شغله لمنصب جامعة الدول العربية , وهو بطل أبطال التصريحات والكلام الفارغ الذى ظن أن يبنى به شعبية ولا زال يمارس نفس الأسلوب حتى اليوم , سياسة حرب التصريحات والشجب والندب إلى غير ذلك من لوازم السياسة العربية القديمة

شخص مثله أعلن قبل شهور من الثورة أنه إذا ترشح مبارك للمرة السادسة فهو معه بلا جدال هو نفس الشخص الذى استجاب للنظام وذهب للمعتصمين فى ميدان التحرير كى يحثهم على فك الإعتصام قبل رحيل النظام !

شخص مثله لم يستح أن يتكلم باسم الثورة وأن يقدم نفسه رئيسا منتظرا وزعيما ملهما ! , وكل صُوره توحى بهذا الداء المركب الذى يستولى على عقله المريض سياسيا والذى يتخيل نفسه على مقعد الفرعون ورافعا يده ليحيي الجماهير كزعيم منتظر , وهى الأمنية العريقة فى قلب عمرو موسي ويتخيل أن الشعب المصري ـ بوعيه الثورى ـ قابلا للخدعة مرة أخرى ليثق بأحد رجالات مبارك كانت كل وظيفته فى النظام ( كداب زفة )

والمشكلة أنه يصدق نفسه وكأنه فقد الذاكرة أو الوعى ,

فإذا به يقف فى البرلمان الأوربي فى الجلسة المعقودة لمناقشة الثورات العربية بشهر يونيو الحالى "2" ويلقي خطبة عصماء باعتباره أبا للثورة المصرية , وأكثر المعبرين عنها الآن !!! ـ ولم يقف عند هذا الحد بل امتد به التبجح أنه ادعى التربع على قلوب الشعب باعتباره المرشح الأوفر حظا لرياسة الجمهورية !!!

وليست المشكلة فى ممارسته للدعارة السياسية , بل المعضلة فى درجة الفجور التى مارسها بها

فليته اكتفي بتملق الثورة مثلا , أو اكتفي بالإنقلاب على مبارك بعد أن ظل تابعه المطيع طيلة السنوات الماضية , بل إنه زايد حتى على الثوار وصادر على رأى ووعى الجماهير وقدم نفسه باعتباره أحد آباء الثورة بينما هو وزير الخارجية الأطول عمرا فى عهد مبارك ـ وهذا الأخير معروف عنه أنه لا يبقي بجواره إلا أقرب وأخلص رجاله ـــ ومنفذ سياسة الإنبطاح التى اعتمدها النظام , تلك السياسة التى اعتبرت بها إسرائيل أن مبارك ونظامه كنز استراتيجى لها ـ على حد تعبير بن اليعازر ـ وهو المدشن الأول لسياسة التصريحات الفارغة والمقارعة الصوتية بلا أى فعل إيجابي على الأرض ,

وبلغ به حد ابتلاع الإهانة أنه سمح لنفسه وهو أمين الجامعة العربية ومعه وزراء خارجية العرب جميعا أن يتعرضوا للطرد شبه الصريح من كوندوليزا رايس ــ وزيرة الخارجية فى إدارة بوش الإبن ــ قبيل حرب العراق , وذلك عندما ذهب الوفد برياسته لمقابلة بوش فى البيت الأبيض فوجهتهم رايس إلى نيويورك ـ حيث مقر الأمم المتحدة ـ ولم تسمح لهم الإدارة بمقابلة الرئيس الأمريكى وانصرفوا وكأنهم بعض المتسولين وليسوا وزراء ممثلين لبلادهم التى تمثل للولايات المتحدة ـ كما هو مفترض شريكا إستراتيجيا ـ فإذا بها ـ بسياسات موسي ورفاقه وأنظمتهم ـ عبارة عن أتباع للسياسة الأمريكية تحركهم إشارة وتثبطهم أخرى

وهو المحلل السياسي للنظم العربية القمعية بالذات فى ليبيا وسوريا ومصر والممهد الأول لديكتاتوريتها , وهو المسئول الذى لم ينطق حرفا ـ وهو وزير خارجية أو أمين للجامعة العربية ـ حرفا واحدا تجاه ممارسات القمع أو الإرهاب الأمنى التى مارستها تلك الأنظمة

ومواقفه أثناء الثورة ـ وقبل إعلان فوزها ـ دليل آخر على مدى انتمائه لمبارك حيث أوصي جهاز أمن الدولة باستغلال عمرو موسي لمحاولة خداع ثوار ميدان التحرير وهو ما كشفته وثائق أمن الدولة وأكده الواقع حيث رأيناه نزل الميدان بالفعل داعيا للتجاوب مع النظام وما ينادى به من إصلاحات , ثم زادت الطين بلة بأن قدم نفسه للمتظاهرين على أنه مرشح رياسي محتمل ـ فى هذا الوقت ودماء الشهداء لم تجف بعد !

وشخص آخر مثل أحمد شفيق ـ رجل البلوفر ـ قـَــبـِـل أن يكون محللا سياسيا للنظام ! , وكان أحد رجال مبارك الموثوق بهم لدرجة تفصيل منصب وزير الطيران خصيصا لأجله ,

وشغل منصب رئيس الوزارة فى أحرج فترة من تاريخ مصر الحديث حيث كان قبول رياسة الوزارة أو الوزارة خيانة للثورة وانتفاضة الشعب المصري ..

شخص مثله شارك وتواطأ على قتل المتظاهرين فى موقعة الجمل وهو يشغل منصب رئيس الوزراء وظهر على شاشة قناة الحياة ليعلن أن حماية المتظاهرين فى رقبته ( برقبتى يا ريس ! ) ثم فعل مثلما فعل عبد الحكيم عامر الذى أضاع مصر فى نكسة 1967 م عندما قال نفس العبارة وفى اليوم التالى سقطت سيناء فى يد الإسرائيليين

فقالها شفيق ليسقط المتظاهرون فى اليوم التالى مباشرة فى موقعة الجمل ليفقدوا ستمائة شهيد على الأقل وقرابة خمسة آلاف مصاب بإصابات فادحة تراوحت بين فقد العينين معا أو أحدهما أو الشلل النصفي أو الشلل التام من جراء هجوم البلطجية بقنابل المولوتوف وحجارة الرخام والمدافع الآلية والأسلحة البيضاء على صهوات الجياد والخيول التى اقتحمت ميدان التحرير على متظاهريه العزّل

ثم خرج شفيق بعد المعركة الدامية التى استمرت يوما وليلة ليعلن أنه لم يكن شيئا عن أحداث موقعة الجمل !! ... هكذا ببساطة لا يعلم شيئا وهو الذى تعهد قبلها بساعات بحماية المتظاهرين برقبته !!

هذا الشخص الذى رفض تسمية الثورة بالثورة , واعتبرها مجرد احتجاجات وانتفاضة , وأعلن فى الإعلام العالمى أنه يستطيع أن يحصر الإعتصام فى ميدان التحرير ويحرره من المتظاهرين ويفتح الطريق ويترك المعتصمين يفعلون ما شاءوا ويرسل إليهم بالبونبون والشيكولاته !!

هذا الشخص نفسه هو الذى يرشح نفسه لرياسة الجمهورية الآن ويردد فى لقاء ـ بعد التنحى ـ بلا حياء أنه يستبشر بثورتنا ـ لاحظوا اللفظ ( ثورتنا ) ! ـ التى وضعت مصر على خارطة التقدم !!

فبم يمكن أن نسمى هذه المواقف ؟!

وهل يفي مصطلح الدعارة السياسية للتعبير عن هذه السياسات , أم أننا ندين بالإعتذار للدعارة باعتبار ممارسيها لا يبلغ بهم التبجح أن يقدموا أنفسهم كرعاة للفضيلة , !!

ويُضاف إلى هؤلاء الراقصين على أحبال السياسة , الراقصين أمام الشاشات الصغيرة والكبيرة , والذين يقدمون أنفسهم على أنهم أهل الفن وضمير المجتمع , فلا فارق بين النوعين فى ممارسة كل منهما لنوع من أنواع الدعارة الإعلامية سواء كان يمارسها بمفهومها القديم منذ الأزل , أو بمفهومها الحديث فى السياسة وعالم الإنتخابات !


الهوامش

[1]ـ تعبير ساخر شهير للأستاذ محمود السعدنى رحمه الله فى أحد كتبه

[2] ـ شهر يونيو 2011 م
 
رد: تعلم كيفية الثبات فى زمن المتغيرات

ومن هنا ينبغي أن ندرك أن الرمز فى أى مجتمع له شروط وأولها أن يكون من أهل العلم والرأى مع التطبيق ,
لا من أهل الرأى والسياسة مع التصفيق ! , كما يجب أن يكون من قيادات الفكر التى يُـناط بها توجيه الرأى العام , والمفكرين الذين يقدمون للناس خلاصة الرؤي فى القضايا المختلفة , وأصحاب المواقف الثابتة القيادية المعبرة عن نبض المجتمع أو حتى عن بعضه والهادفين لإصلاح المجتمع لا لتحقيق مصالحهم
وبهذا الحصر يخرج كافة الأشكال التى اعتاد الإعلام السابق تقديمها لنا لمناقشة القضايا الجوهرية ممن لا يصلحون أساسا كأفراد عاديين يساهمون فى المجتمع فضلا على أن يتم تقديمهم كرموز فكرية !

والآن ..
فى ظل الثورة الفكرية التى نحتاجها تبعا للثورة السياسية , ينبغي لنا إعادة ضبط الموازين أولا قبل أن نكيل الكيل ..
نحتاج أن نطبق عمليا ـ ولو لمرة واحدة ـ أن نعرف الحق أولا ثم نعرف رجاله , لا أن نعرف الحق بالرجال ..
وما يهمنا فى قضية الرموز هو إدراك المعادلة التى يتعين علينا أن نُسقط الرمز عن مكانته فى المجتمع على أساسها , ولا نأخذ منه علما أو فكرا باعتباره غير مأمون الجانب ..
وهذا لا يتحقق إلا بالثقة التامة فى أن هذا الرمز خان مجتمعه الذى رفعه , ولم يؤد أمانته الواجبة فى القول الفصل وإرشاد الناس عن طريق الهوى أو النفاق أو التلون لتحقيق مكاسب شخصية ..
وقد ظهرت عشرات النماذج لهذا الأمر خلال فترة الثورة , وكلها تستحق الإسقاط للأسف الشديد لأنه ثبت بالدليل القاطع أنهم يتبعون الجواد الرابح ولا يدينون إلا لمصالحهم سواء كانوا من العلماء أو الدعاة أو المفكرين
وما يثير الإستغراب أن هؤلاء الرموز لم يكتفوا بالوقوف السلبي المهين من الثورة وأحداثها , بل انقلبوا وتحولوا بعد نجاحها تماما وأظهروا أنفسهم كما لو أنهم كانوا من مفجرى الثورة وقادتها , ومن المدافعين عن الحق وأصحابه !!
ووجه الإستغراب أن التلون جاء فادحا والإنقلاب كان شاملا ! , وفى ظل أدوات إعلامية تتيح للعامة من الناس أن تقارن ببساطة ويسر فائقين بين مواقف هؤلاء الزمرة فى البداية ومواقفهم فى النهاية ..
وقد حاول بعضهم الإفلات من الفخ عن طريق الإعتذار للمجتمع الثائر بأنهم لم يكونوا يدركون الحقيقة , وأن الإعلام الرسمى والنظام ساهم فى تضليلهم !!
وهذا عذر أقبح من ذنب ..
فإذا كان العامة من الناس لم تقع رهن الخداع من النظام الذى انكشفت عورته أمام الكافة , فكيف بالعالم والمفكر والداعية أن يقع رهن الخداع من أجهزة إعلام ونظام احترف الكذب والتضليل ؟!
والأهم من ذلك ..
هل كان فساد النظام طيلة ثلاثين عاما فى حاجة إلى من يوضحه , أو من يظهره بعد أن كشف النظام عن وجه سافر فى تحدى كافة الإرادة الشعبية سواء فى السياسة الداخلية أو الخارجية !! ؟
وأخيرا ..
لو تتبعنا هذه الزمرة من المتحولين سنكتشف أنهم جميعا كانوا من سدنة النظام وحراسه طيلة الفترة السابقة ولن تجد لأحدهم كلمة واحدة فى الإعتراض على بشاعة سياسة القهر والإرغام التى يمارسها النظام فى الداخل أو سياسة الخيانة والعمالة التى يمارسها فى الخارج ,
هذا بالرغم من أنهم كانوا يرفعون عقيرتهم بالإعتراض على أهون الأمور وأتفه القضايا , أما الحكام وسياسة الحكام فهؤلاء محصنون من نقد هذه الزمرة

ولا شك أن محاولة اعتذار هؤلاء العلماء والمفكرين غير مقبولة للمجتمع ولا تنم إلا عن نفاق متجذر الطباع للطرف الرابح , لأنهم يدركون تماما أنهم كانوا ينافقون النظام الحاكم على حساب أمانة الكلمة , وجعلوا من أنفسهم أدوات تضليل مضاعفة مع الإعلام الرسمى لثقة الناس فيهم ,
وأكبر دليل على ذلك ..
أن كل من اعتذر بالوقوع فى الخداع بسبب موقفه السلبي من الثورة , لا زال حتى اليوم ينافق ويسكت عن باقي أنظمة الحكم العربي التى ثارت وتثور شعوبها بسبب فساد حكامها ,
والأهم ..
أنهم انقلبوا إلى منافقين لمن بيدهم السلطة اليوم , وهم أعضاء المجلس العسكري ! , مما يؤكد أن هذا الأمر طبع يغلب التطبع ..
ولو كان هؤلاء الناس يعتذرون عن صدق نية حقا , لسمعنا منهم كلمة حق واحدة تجاه أى حاكم لا زال فى السلطة , أو تجاه أى موقف خاطئ للمجلس العسكري أو الحكومة الحالية ,
وهو ما لم يحدث ولن يحدث على الإطلاق !
ذلك أن النية نفسها اتضح فيها الخلل , والإخلاص كان غائبا بالهوى الشخصي ,
وهؤلاء جزاؤهم السقوط الحتمى , ولا يمكن قبول اعتذارهم بأى حال , ذلك أنهم لم يعتذروا عن خطأ , بل قدموا الاعتذار الشكلى لتغيير البوصلة لا أكثر ولا أقل , بهدف استمرار الشعبية أو استمرار التواجد على الساحة !

وطالما اهتز الإخلاص وتمركز الهوى فى نفس العالم أو المفكر , فقد سقطت قيمته حتى لو كان أكثر أهل الأرض علما وفكرا , طالما أنه خان أمنته وضميره وساهم متعمدا فى تضليل الناس عن الحق , وهو أولى الناس بهدايتهم إليه ,
ذلك أن علمه سيكون رهنا لهواه , وفكره سيصبح أداة من أدوات خدمة ذاته , لا خدمة التوعية وخدمة الجمهور ,

ولكى يستطيع المرء أن يكرس لنفسه المبادئ الواضحة للحكم على مواقف الرجال والعلماء , عليه أولا أن يربي نفسه على المبدأ الأصيل ( اعرف الحق .. ثم اعرف رجاله )
فيحدد الحق الأبلج الواضح الذى لا يحتاج إرشادا , ثم ينظر بعد ذلك إلى القائل به فيتبعه ,
وأما الحكم على الرموز بالإسقاط فيكون فقط حال التيقن من سوء النية وغياب الإخلاص فى هذا الرمز أو ذاك , مع مراعاة الفارق الضخم بين المواقف التى يتخذها بعض العلماء أو المفكرين عن خطأ رؤية حقيقي ـ والخطأ مغفور مهما بلغ ـ
وبين المواقف التى يتم اتخاذها عمدا .. بقصد تحقيق مآرب شخصية أو أهواء متأصلة ـ مهما كانت درجة الخطأ هنا بسيطة وهينة ـ لأنها تكون فى هذه الحالة عنوانا لطامة أعظم بكثير وهى طامة فساد النية فى العلم والعمل

وهذا يمكن شرحه فيما يلي
فى البداية ينبغي لنا أن نؤصل لقاعدة كبيرة ومهمة وهى أنه لا أحد معصوم لا من الخطأ ولا من الهوى ,
أما الخطأ فهذا أمره يسير إذا لحق بالعالم او المفكر أو السياسي لأن الإجتهاد صاحبه مأجور حتى فى الخطأ ـ طبقا للقاعدة الفقهية الشهيرة ـ لأن المجتهد يلتمس الحق دوما بنية مخلصة
ومن المستحيل أن نُسقط عالما لأجل أنه غفل عن قاعدة أو حديث أو أخطأ القياس والتفسير , أو أن نسقط مفكرا لأنه غفل عن معلومة أو قدم رؤية خاطئة لأى سبب من الأسباب الطبيعية المقبولة , أو نسقط كاتبا دافع أو اتخذ موقفا خاطئا تبعا لرؤية ملتبسة خدعت كثيرين مثله وعندما عرف بخطئه تراجع عنه
فالخطأ مهما بلغ فهو مردود ومكانة صاحبه محفوظة طالما أن الفعل كان فى محتوى الخطأ
وتعريف الخطأ هو الزلل الذى يقع فيه الإنسان عن غير عمد قاصد بذلك الصواب ,
نكرر ..
الخطأ هنا هو الفعل الناجم عن غير عمد , وداعى التكرار والتركيز أن هذه النقطة بالذات ـ نقطة العمد ـ هى المقياس الوحيد الذى يتم وصف الفعل الخاطئ على أساسه , فيكون بوجود العمد جريمة غير قابلة للغفران , وبغياب العمد خطأ مغفورا
مثل خطأ أبي حنيفة فى قوله أن الإيمان قول باللسان وإقرار بالقلب فقط دون العمل مستدلا بالآية الكريمة :
( الذين آمنوا وعملوا الصالحات )
فافترض أن الواو هنا فاصلة بين الإيمان والعمل واستنبط منها اجتهاده السابق , وهو بخلاف الإجماع أنه قول وعمل
وجاء الشافعى فأبطل هذا الإستدلال باحتجاجه بالآية الكريمة
( رب المشرقين و رب المغربين )
فالواو لو كانت هنا فاصلة لكانت كارثة إذ أنه معنى ذلك وجود إلهين واحد للمشرق والآخر للمغرب !
وبالتالى فالواو الأولى ليست فاصلة بل واو للبيان وحسب
ورغم أن قول أبي حنيفة فى الإيمان مخالف ويعتبر أحد أقوال المرجئة " [1] "ــ إحدى الفرق الشاذة ـــ إلا أن أحدا لم يأخذها عليه كذلك لأنها جاءت بخطأ فى الإستدلال فحسب
أما الهوى ..
فهو المعضلة الحقيقية , ذلك أن الخطأ بهوى يختلف عن الخطأ المجرد حيث يصبح الفعل شبه عمدى , بحيث يستجيب فيه العالم لهواه ضاربا الأدلة جانبا ,
والهوى هو الذى يسقط العلماء لكن بشروط ..
فالهوى ليس نوعا واحدا كما أنه ليس مقدارا واحدا
لأنه موجود فى الفطرة البشرية بطبيعتها ولا يوجد إنسان خال من الهوى مطلقا إلا المعصومين
ولهذا فإنه ينقسم إلى نوعين , لكل منهما حكم مختلف ..

أولا : هوى فطرى تقليدى لا يؤثر فى صاحبه
وهذا النوع من الهوى لو توفر الإدراك له لوفر الكثيرون من ذنوب الطعن بالعلماء وأعراضهم ..
لا سيما وأن الطعن فى أى شخص بالأصل هو جناية عظمى كما ورد فى الحديث الذى صححه الألبانى فيما معناه
( إنه من أربي الربا أن يخوض المرء فى عرض أخيه )
فكيف إذا كان الخائضون فى الأعراض يخوضون فى أعراض العلماء الذين هم ورثة الأنبياء ولحومهم مسمومة من تتبع عوراتهم بغرض فضحها تتبعه الله حتى جوف بيته
والسبب فى نزوع بعض طلبة العلم والشباب المتسرع إلى الطعن هو تحمسهم الشديد لما ينتسبون إليه من توجهات وآراء فلا يتحملون عليها أدنى مخالفة ومن ثم إن وجدوا أحد كبار العلماء وله هفوات من الهوى الطبيعي الغير المعيب أساسا ..
تجدهم سراعا إلى رفضهم وإسقاطهم وحتى دون مستند
( مع ملحوظة شديدة الأهمية , وهى أن هذا النهى المغلظ مقصود به مجال الطعن الشخصي , أما الرد على العلماء فى الآراء والمواقف , ومهما بلغ الرد من العنف , فهو خارج إطار التعدى على العلماء بالقطع , ولا يعتبر إطلاقا خوضا فى أعراضهم , فالمقصود هنا هو نزوع البعض إلى إسقاط حشمة وقيمة بعض العلماء بناء على آرائهم الفقهية أو الفكرية أو مواقفهم التى قد تكون خاطئة لكنها مبررة .. )

و التصيد للأهواء فى العلماء وإسقاطهم يخالف إجماع السلف بل وإجماع المفكرين والمحققين العقلاء ـ حتى من خارج مجال الشريعة ـ على أن الهوى المحتمل هو الذى يدور حوله المثل المعروف
( الإختلاف لا يفسد للود قضيا )
والإنسان مهما بلغ من القدرة على الحياد سيعجز أن ينأى بنفسه عن الهوى التقليدى الكامن فى طبيعة ذاته .. مثال هذا الهوى المحتمل الشدة التى عرف بها بن حزم فى مناظراته ومحاوراته وثقته المتينة بعلمه وفضله ..
لا شك أن هذا نوع من الهوى .. لكنه مقبول لأنه بالفعل عالم محقق مدقق وفضله لا ينكره أحد
وشدته التى ألبت عليه علماء عصره كانت إحدى مميزاته فى جانب آخر
وهو جانب دفاعه عن عقيدة أهل السنة فى مواجهة الفرق المختلفة والملل الزائغة كاليهود والنصاري
وتراثه العلمى مشهود ـ ليس عندنا فقط ـ بل حتى فى أوربا التى نقلت علمه عبر الأندلس وأبحرت فى مجالاته الفكرية حيث لم يكتف بن حزم بعلوم الشريعة بل صنف فى الفكر العام والأدب كما فى كتابه طوق الحمامة :


الهوامش :
[1] ـ راجع كتاب ( الفرق بين الفرق ) ـ الخطيب البغدادى
 
رد: تعلم كيفية الثبات فى زمن المتغيرات

أيضا هناك مثال على الهوى المقبول فى مجال الفكر السياسي وأعنى به عملاق التحليل السياسي محمد حسنين هيكل .. ,
معروف بالضرورة أنه مؤسس الناصرية ومُـنـظــّــرها الرئيسي فى زمانها الذهبي ..
وبعض بسطاء الفكر يعتقدون أن هيكل هو من استفاد من عبد الناصر بينما الواقع أن عبد الناصر ما كان لتجربته أن تتحول من تجربة رياسة إلى تجربة زعامة على المحيط العربي والإفريقي والآسيوى لولا محمد حسنين هيكل ..
فهو النابغة الذى تولى مكانة رهيبة الثقل فى السياسة الدولية بفضل موهبته وشعبيته الساحقة وخطابه المؤثر

وقد رهن إمكانياته تلك كلها ومواهبه فى خدمة التجربة الناصرية ونشرها حتى أن اسم هيكل كان فى أيام عبد الناصر نفسه يتزامن فى القوة والتأثير مع هذا الأخير ومقالاته فى كل يوم جمعة تحت عنوان ( بصراحة ) كانت تترصدها دوائر الإعلام وترتجف لها أسماء كبري فى محيط السياسة العربية
وكان المقال الذى دوما ما يكون أشبه ببحث كامل يتناول الشأن الجارى وقتها بالتحليل والمعلومات والتوثيق ويطرح رؤاه فى القضايا المشتعلة فى تلك الفترة الساخنة من تاريخ العالم .. وبعد نشره كان يذاع فى الإذاعة الرسمية حرفا حرفا وكلمة كلمة بمنتهى الدقة حتى أن المذيع كان إذا مر بفاصلة فى المقال ذكرها ..
ويعود هذا إلى أهمية التحليل الاستراتيجى لدى هيكل والذى جعله واحد من أنبغ عشرة صحفيين فى هذا المجال الحساس
وقيمته العالمية أشهر من أن تذكر لا سيما بعد أن اعتزل العمل الرسمى فى السبيعينات وأسس للمرحلة الجديدة فى حياته وهى مرحلة التوثيق السياسي للتاريخ المعاصر والتى شهدت موسوعاته الضخمة التى حملت الحقائق والوثائق النادرة والتحليلات البارزة التى جعلته مؤسسة بحد ذاته , وهى الموسوعات التى بدأت بكتاب ( خريف الغضب ) , وانتهت بكتاب ( الإمبراطورية الأمريكية وحرب العراق )
وتزداد قيمة هيكل بروزا إذا عرفنا أن تاريخنا العربي المعاصر هو تاريخ غير موثق ومن كتب فيه كتب بهواه بلا رابط ولا توثيق .. بعكس تاريخنا الإسلامى الذى تميز بالتوثيق عن تاريخ الغرب
فتفوق الغرب علينا فى العصر الحالى فى حفظ تاريخه لأن الوثائق مهما بلغت سريتها تقوم المؤسسات بإعلانها للباحثين بعد فترة وهو ما يختلف جذريا فى السياسة العربية التى لا تُخرج من تحت أيديها الوثائق ـ هذا إن وجدت أصلا ـ إلا فى حالات الفضائح الإنقلابات العسكرية فحسب !
فجاء هيكل بهوايته الأكثر شغفا وهى استغلال نفوذه فى تجميع الوثائق من مختلف الجهات إقليميا ودوليا لتجعله مرجعا خرافيا لمرحلة التاريخ العربي فى فترة القرن العشرين التى انقلبت فيها موازين القوى عدة مرات
ولا يوجد باحث أو توجد جامعة كتبت أو تكتب فى التاريخ السياسي العربي وعلاقته بالقوتين الأعظم إلا ولهيكل عليها فضل ومنة بكتبه , بفضل احتفاظه بأطنان من الوثائق السرية يعلم القاصي والدانى أن من بينها وثائق لا توجد فى رياسة الجمهورية أو المخابرات العامة نفسها ..
أضف لذلك قدرته الخرافية على تحليل المعلومات على نحو يجعل القارئ يستغرب توقعاته ,
ومنها ما توقعه من فشل انقلاب بوريس يلتسين فى التسعينات بروسيا على جورباتشوف .. فرغم أن الإنقلاب كانت بدايته ناجحة ومتينة إلا أن هيكل وفى الساعات الأولى من يوم الإنقلاب العسكري وبعد أن جمع معلوماته من كافة أنحاء العالم حكم عليه بالفشل الذريع وهو ما تحقق بالفعل
رغم أن بوريس يلتسين تولى السلطة بالفعل ولكن لم يكن هذا بسبب نجاح الإنقلاب بل بسبب استقال جورباتشوف واعتزاله ..

فهذا الرجل بكل هذه القيمة المتفردة عندما يكون عيبه أن هواه ناصري وهو بنفسه يعترف بذلك ويقر أن لديه هوى وتحيز لعبد الناصر فمن المستحيل أن نأخذ هواه سببا فى إسقاطه !!
لا سيما وأن هواه تراجع كثيرا جدا عما كان وأصبح مجرد ذكرى للصداقة المتينة التى ربطته بالرجل , وكان تراجعه شديد الوضوح فى الآونة الأخيرة منذ عام 1995 م , وحتى اليوم , حيث بدأ يتعرض للشأن الجارى منذ ذلك التاريخ وكانت أولى بواكير إنتاجه المتميز فى الشأن المصري , محاضرته فى الجامعة الأمريكية عام 1995 م , والتى أطلق فيها مفاجأة تخطيط نظام الحكم فى مصر للتوريث !! "[1]"
ولهذا يعتبر هيكل هو أول من أطلق شرارة التحذير من مؤامرة التوريث قبل حدوثها الفعلى بسبع سنوات كاملة
لهذا فكان من الحماقة بمكان أن يصرح بعض السياسيين أن هيكل يفتقد المصداقية لهواه الناصري وهو لم يكتب عن عبد الناصر أصلا إلا مجموعة مقالات جمعها بكتابين فقط كتاب ( لمصر لا لعبد الناصر ) , والكتاب الثانى ( عبد الناصر والعالم )
وباقي حديثه عن عبد الناصر يأتى فى إطار كتبه التقليدية
وسائر كتبه بعد ذلك من النوع الموسوعى الذى يتناول التأريخ السياسي للمرحلة بأكملها موثقا توثيقا كاملا
ومن الممكن جدا أن يختلف أى قارئ مع تحليل هيكل للوقائع والمعلومات .. لكنه من المجازفة أن نتصور اختلافنا معه فى الحقائق التى يذكرها لأنه لا يتكلم من رأسه بل من وثائقه .. فإذا خسرته فمعناها أنك تخسر بإرادتك المصدر الوحيد للتاريخ الحقيقي للقضايا المعاصرة ..

أما النوع الثانى من الهوى ..
فهو الهوى الذى يؤثر جزئيا , فيظهر فى صاحبه على فترات ويغيب فى أغلب أحواله :
وهذا الهوى مشابه للسابق وإن كان أكثر ظهورا بقليل ويكون سببه فى الغالب شخصيا بسبب العداوات التى يتعرض لها العالم أو ما شاكل ذلك فتجعله يميل بهواه إلى مخالفة المتجنين عليه حتى لو كانوا لو على حق فى بعض الأحيان
وأكبر مثال على الواقع وله تأثير مؤسف فى حياتنا هو الخلاف التاريخى بين مدرستى الأزهر والسلفية والذى عبرنا عنه سابقا "[2] "
أنه خلاف مصطنع سياسي أكثر منه فعلى على أرض الواقع سببه فى الأصل يعود لمنتصف الخمسينيات عندما كانت العلاقة السياسية متوترة بين مصر والسعودية فى عهد الملك سعود
ثم تطور الأمر الخلاف تشاحن بين بعض العلماء من الجانبين لكون الأزهر فيه بعض توجهات المدرسة الأشعرية بينما المدرسة السلفية لها خلاف تاريخى آخر مع الأشاعرة ..
وإن كانت خلافهم مع الأشاعرة شيئ ومع أشاعرة الأزهر أمر آخر لأن الأزهر لم يتبن المذهب الأشعري على وجه الإطلاق ولا كان كل علمائه بنفس المنهج بل فيهم الرموز الحقيقيين للسلفية الحقة والذين تعتبرهم مدرسة السلفيين المعاصرين زعماء للسلفية بالفعل .. وهؤلاء خرجوا من الأزهر أصلا
مثل الشيخ محمد الأمين الشنقيطى والشيخ أحمد شاكر ووالده الشيخ محمد شاكر الذى كفّر خطيب الملك فؤاد على الملأ فى الثلاثينات فى واقعة مشهورة تشهد بشجاعة هذا العالم الربانى

فهذا النوع من الخلاف بين الجانبين هناك الكثير من العقلاء تجنبوه وهناك من غالوا فيه .. ولهذا فموقفنا نحن يجب أن يكون وسطا فى رفض هذا الخلاف كله وعدم الالتفات إليه واتخاذ العلماء من الجانبين قدوة ومثلا
لا كما يفعل بعض الشباب من المنتسبين للفريقين باتخاذهم الأمر كما لو كان تشجيعا لنوادى كرة القدم فتجد أنصار هذا العالم يهاجمون خصومه وأنصار الخصم يردون وهكذا !

وهوى العلماء فى هذا الجانب مقبول لأنهم بشر وأخطاؤهم فيه بسيطة بالنظر إلى جبال الفضل التى تركوها .. ومن الحماقة وسفاهة الرأى أن نُسقط عالما بحجم الرموز لأجل أن رأيه فى عالم آخر كبير رأى سلبي أو جائر أو حتى رأى ظالم ..
ومن ذلك على سبيل المثال الشيخ الشعراوى إمام المفسرين المعاصرين
والذى كان لديه ميل للتصوف الأول بمعناه الحقيقي لا بمعناه المبتدع .. بل كان الشعراوى يحمل حملة عظيمة على صوفية البدع كما صرح فى أكثر من موطن ..
والسلفيون لا يطيقون التصوف نظرا لما انتشر فيه من السمعة السيئة فتجد بعضهم يسقط الشعراوى من الإعتبار لمجرد أنه يري آراء تتفق مع ما ينكره السلفيون فى كثير من المسائل الخلافية التى فيها متسع كالتوسل وغيرها
بالإضافة إلى أن عقيدته فى الأسماء والصفات سلفية محضة , ويمكن التيقن من ذلك بمراجعة تفسيره فى آيات الصفات
وكان الشيخ أبو اسحق الحوينى زعيم السلفيين المعاصرين اليوم من أكبر الناس الذين دافعوا عن الشعراوى وأنصفوه عندما هاجمته المجلة المشبوهة ( روزاليوسف ) فى التسعينيات ..

المثال الثانى هو العلامة الألبانى محدث عصره
والرجل الذى له منة على كل طالب حديث فى هذا العصر .. وما قام به من أعمال عظام فى تحقيق السنة لا سيما بعض الكتب الستة كان ولا زال مسجلا باسمه باعتباره سبقا فريدا ..
كان للألبانى رحمه الله بعض الآراء التى خالف فيها وشذ عن المشهور من رأى الجمهور ..
ولأن الألبانى زعيم السلفية فى آخر القرن العشرين فقد تتبعه خصوم السلفية فى تلك الأخطاء ليُسقطوه عن الاعتبار كما زعموا رغم أن ما انفرد به الألبانى لا يعدو كونه وجهات نظر لها وجهاتها على أية حال
فتجد البعض يتحاشي الألبانى مع تلك الزوابع المثارة حوله رغم أنك لو جمعت خصوم الألبانى فى قفة وعجنتهم ما وزنوا مثقال ذرة بعلمه وفضله
لهذا فإن أراد القارئ أن يعرف من هو صاحب المنهج السليم فى الأخذ عن العلماء ستجد أنه الذى يأخذ عن جميع المدارس التى تتفق فى العقيدة وتختلف فى الفروع فتجده يجمع بين حب الألبانى والشعراوى وبين حب الحوينى وعطية صقر وهكذا ..

والنوع الثالث :
هو الهوى بلغ القمة وهو الذى يتحكم فى صاحبه تماما , وهو الذى يبلغ به مدارج النفاق والتلون بلا شك ..
وإسقاط العلماء لا يكون إلا مع النوع الثالث فقط لأن الهوى إذا تحكم فإنه يأخذ بالعالم إلى مدارك غير محسوبة من تعمد التجهيل ويوقعه فى التعمية المقصودة والإنتصار للنفس أو للمذهب وساعتها لا يصبح مأمونا فى طلب العلم عنه
وهذا النوع من العلماء لا يحتاج إلى شهادة عالم لإسقاطه , ولو أن شهادات العلماء تكون معززة فى هذا الأمر , والسبب أن هذا النوع من الهوى يكون واضحا شديد الوضوح فى المواقف المفصلية حيث لا يكون هناك خيار مقبول بين كلمة الحق والباطل ,
ومثال ذلك ما حدث فى الثورة المصرية ,
فالمواقف كانت علامات الرجال لا شك فى ذلك , وأوضحت من يمالئ السلطة وينافقها , ومن يتقي الله وينطق بكلمة الحق ولو على حساب أمنه وسلامته ,
كما أنها أوضحت المنافقين والمتلونين وأصحاب الغرض فى كل أمر

والهوى المتحكم خسرنا بسببه علماء كثيرين وفقهاء كبارا ومفكرين جهابذة , كان لهم فضل كبير لكنهم مع الأسف ارتكبوا مع هذا الهوى أمورا حرفتهم تماما عن المنهج القويم للدرجة التى جعلتهم فى بعض الأحيان حجة للعلمانيين والمستشرقين فى شبهاتهم على الإسلام
ومن ذلك العلماء المغرقون جدا فى التصوف وأتباع صوفية الطرق .. والعلماء الذين يشعرون بذواتهم أكثر مما ينبغي فيرون من دونهم من العلماء لا يساوون شيئا وهؤلاء لبّس عليهم إبليس بالغرور القاتل
ولن أستطيع التمثيل بالأسماء فى هذا الصدد لكنى سأضع بعض العلامات التى إذا لمحها القارئ فى أى عالم أيا كان وقد اجتمعت فيه فليتحاشاه
وهذه الصفات نجملها فيما يلي :
أولا :
بُــغض أهل الحديث والمحدثين والتقليل من فضلهم واعتبارهم عالة على الدين وأن الدين قام على أكتاف الفقهاء وحدهم وأن الفقهاء هم من يحددون الصحيح من الضعيف حتى لو ضعّفوا البخارى ومسلم ! والمهملين للسنة فى غالب أحكامهم
ومن هذه العينة كثير للأسف .. ومعلوم كقاعدة علمية أنه لا يُبغض أهل الحديث إلا أصحاب البدع
ثانيا :
العلماء المجترئين على من سبقهم من أجيال علماء الأمة فتجد الواحد منهم ينتقد ويتهم أعاظم الفقهاء والمحدثين من أصحاب المذاهب وغيرهم للدرجة التى دفعت الوقاحة بعضهم إلى اتهام الطبري بأنه عبيط !
ثالثا :
المعتدين على الصحابة كمعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم والمنادين بالتقريب بين السنة والشيعة والمدعين بأن الخلاف بيننا وبينهم فى الفروع ويجاملون الشيعة على حساب عرض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام
رابعا :
العلماء أصحاب الغرام بالفتاوى الشاذة لمجرد الشهرة فتجد لهم ولع كبير بإثارة ضجة كل فترة بفتوى غريبة قد لا يكون لها أى داعى أصلا ..
ولكنهم يتبعون المثل القائل خالف تعرف ..
من هؤلاء منكرى بعض الحدود الثابتة أو أصحاب الفتاوى التى لا أصل لها من عقل أو نقل كالذى يفتى بجواز الصلاة فى حمامات المنازل المغطاة بالسيراميك !
خامسا :
العلماء الذين نسبوا أنفسهم لحاشية السلطان طواعية أو كرها , فحتى الإكراه فى هذه الحالة لا يجوز بأى حال , ولو أن التقية كانت تجوز للعلماء لاستخدمها بن حنبل والشافعى ومالك وسفيان الثورى وأبي حنيفة وغيرهم من أبطال الدعوة الذين وقفوا فى وجه السلاطين , لأن العالم إذا استخدم التقية فمن أين يعلم عامة الناس الحق من الباطل ؟!
وهؤلاء علامتهم تجدها واضحة شديدة الوضوح هذه الأيام حيث تسمع منهم العجب العجاب فى تقديس وتقدير حكامهم رغم أن التجربة أثبتت لكل ذى عينين أن كافة حكام المنطقة العربية عبدة سلطة ومن أهل الطغيان , وهم أكثر الناس تحالفا مع الغرب فى هدم رسالة الإسلام ومصلحة العروبة , تلك التهمة التى يحلو لهم ترديدها وإلصاقها بدعاة الحرية اليوم ,
وكأن الغرب كان ينتظر مزيدا بعد هذه العمالة الصريحة التى وفرتها السياسات العربية له , حتى أصبحت أرض المسلمين نهبا للجيوش الغازية وبرعاية وتحت بصر وسمع وفوق أرض وسلطان حكامنا المغاوير !
وعلى دربهم أيضا أصحاب الفكر والأقلام الذين ضموا أنفسهم للحكام أو تآمروا على الشعوب بالسكوت عن الحق , أو أولئك الذين سعوا للمصالح الشخصية والشهرة الإعلامية فى رشوة صريحة على حساب أمانتهم الإعلامية نظير منصب أو سلطة أو حتى نظير مجاملة فاضحة سعيا لتأمين مكانه أو مكانته !!

خلاصة القول فى هذا الجانب ..
أن المجتمع العربي إذا أراد البناء الصحيح والصريح فى طريق الحرية السياسية والاجتماعية , فعليه أن يبادر سريعا بإسقاط كل هؤلاء المتلونين أيا كانت أقدارهم وأيا ما كان حسن الظن بهم فى سابق الأيام , بعد أن ثبت بالتجربة أنهم لا يستحقون ذرة واحدة من الإحترام عندما تبدلوا من النقيض إلى النقيض فى أيام معدودات على الأصابع !
بل إن بعضهم يُظهر نفسه هذه الأيام كزعيم للثورة التى قامت , والحرية التى جاءت , ولله فى خلقه شئون !!
وإلى اللقاء مع بقية القضايا ..

الهوامش :
[1] ـ المحاضرة منشورة ومطبوعة فى كتيب عن دار الشروق المصرية
[2]ـ راجع موضوع ( الأزهر والحركة السلفية ) ـ شبكة العز الثقافية
 
رد: تعلم كيفية الثبات فى زمن المتغيرات

القضية الثالثة : حكاية الدستور .. والمادة الثانية !


ونأتى الآن لقضية هى نموذج حرفي للقضايا والمعارك المفتعلة التى لا تتسبب فى شيئ إلا فى زرع الفتن فى المجتمع وزيادة الإستقطاب فى وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة الكاملة والوعى الساطع بمصالح وطن على حافة البناء , ولا زال ركام العصر المنقضي يفرض نفسه على الساحة ,
ومن عجائب الأمور حقيقة أن أزمة القضايا المفتعلة التى انشغل بها الناس وانشغلت بها دوائر الإعلام ـ وهو حال معظم القضايا التى تفجرت فى أشهر ما بعد الثورة ـ هى قضايا تفجرت بسبب غياب الوعى السياسي لا أكثر ولا قل ونجمت عن قلة الخبرة والتكبر على الإستعانة بالخبراء ! , وكان أكبر مثال لذلك هو السياسة القانونية للمجلس العسكري والتى أوقعته فى مآزق متعددة
وثمة سبب آخر يعود إلى ممارسة بعض التيارات لعادتها القديمة من تفجير القضايا والمعارك تافهة المعنى والمضمون سعيا إلى التكسب التى يعتمد على تفرقة المجتمع إلى طوائف , ويقبع على رأس هؤلاء التيارات الإسلامية بأنواعها فضلا على التيارات العلمانية أيضا !!
فالكل نزل إلى سوق الإستقطاب بحثا عن الشعبية والمناصرة حتى لو على حساب مصير بلد بأكمله يتشكل من جديد , وأصبح الحديث عن قضية المصير من قبيل الإستغلال لا أكثر ولا أقل مع الغياب التام للإخلاص !

وكانت أول المعارك الورقية التى لم يكن لها داع أصلا هى مسألة التعديلات الدستورية التى تمت بشكل أفرز فى مجمله نتائج سلبية تامة دون نتيجة إيجابية واحدة !

فمن حيث المعالجة القانونية والدستورية ..
ورغم أننا نعلم تماما أن المجلس العسكري ـ على عكس ما يظن البعض ـ يضم كفاءات فى مجالات مختلفة , وليس مجلسا حربيا صرفا , وإدارته لشئون البلاد تتسم بالوعى والإلتزام بالقانون والتخصص , بناء على وجود مساعد لوزير الدفاع للشئون القانونية حاصل على درجة الدكتوراة فى القانون ,
لكن ليس معنى هذا بالطبع أن يكتفي المجلس بوجهة نظر المستشار القانونى له فيما يخص الأمور القانونية والدستورية , نظرا لعدة اعتبارات أهمها أن مجالات القانون الرئيسية تتفرع إلى خمسة عشر مجالا فرعيا لكل منها متخصصون وأهل دراية , ولا يوجد خبير قانونى يستطيع أن يحيط علما بشتى فروع القانون ولو أوتى عقل وفهم الأولين والآخرين , فضلا على أن مجال القانون الدستورى ـ فى هذه المرحلة ـ أخطر من أن نتركه لمشورة عالم واحد لأن طبيعة الفقه الدستورى نفسه هى تنوع الاجتهادات فيه نظرا لأن الدساتير لا تحمل وجهة نظر شخص أو مجموعة محددة بل هى مقياس طيفي لكافة تيارات المجتمع , لأن الدستور وثيقة مبادئ مجتمعية لا مواد قانونية
كما أن الدساتير لا يصنعها أهل القانون , بل هم من يصوغونها كتابة فقط , بطريق التعبير عن المجتمع الذى يعتبر هو واضع الدستور ..
ولهذا فإن كل دستور فى العالم له ديباجة تبدأ باسم الشعب باعتباره واضع الدستور كما هو الحال فى الدستور الفرنسي والأمريكى
ولهذا ـ ومع تقديرنا الشديد للواء شاهين مساعد الوزير ـ فإن الأطروحات الدستورية التى يتبناها المجلس العسكري منذ توليه تنبئ عن اضطراب شديد بعمق الفقه الدستورى مما يحتاج معه إلى استشارات كبار فقهاء القانون الدستورى فى مصر ,
خاصة وأنهم لم يقصروا , فتحدث الدكتور فتحى فكرى , وتحدث مستشارو المحكمة الدستورية العليا وتحدث مستشارو مجلس الدولة وخبراء الفتوى والتشريع به , لكن دون أن توضع أقوالهم موضع التنفيذ رغم أنهم أهل الإختصاص
ومن التناقضات التى وقع فيها المجلس العسكري
تجربة التعديلات الدستورية التى خرج فيها الإستفتاء بـ ( نعم ) ,
وإذا بالمجلس العسكري يتخذ من الإجراءات ما يتناسب مع نتيجة ( لا ) !
فنعم للتعديلات الدستورية كان معناها ببساطة إعادة الدستور القديم مع التعديلات المطروحة , وهو ما لم يحدث وإذا بالمجلس يصدر إعلانا دستوريا يقضي بانتهاء الدستور القديم الذى تم تجميده مرحليا , ويبدأ العمل بالإعلان الدستورى المؤقت لحين وضع الدستور الجديد كما لو أن نتيجة الإستفتاء جاءت برفض التعديلات !
ولم يقم المجلس بتفسير تصرفه حتى اليوم ولا قام بشرح خطوة التعديلات التى أحيت الدستور القديم قانونا وتدخل المجلس لإماتته فعليا ؟!

وبالمثل ..
طرح المجلس العسكري تصورا للمجالس النيابية القادمة يحافظ على نسبة 50% عمال وفلاحين فى مجلس الشعب , فضلا على الإبقاء على مجلس الشورى ,
وكلا الأمرين هما من صلب بقايا نظام يوليو وتم اختراع الأمرين لفرض سيطرة الفرد على القرار والتكريس للدكتاتورية , لأن نسبة العمال والفلاحين فى مجلس منوط به التشريع ورقابة أعمال الحكومة معناه أن أعضاء البرلمان لديهم المؤهل الكاف لمناقشة أعتى الأمور السياسية التخصصية مثل مناقشة الموازنة والرقابة المالية ومناقشة مشروعات القوانين , وإقرار السياسة العامة للدولة بالتعاون مع الحكومة
فكيف يمكن أن نتصور قدرة البرلمان على ذلك وهو يضم بين أعضائه أكثر من خمسين فى المائة من الأميين ! ومن منعدمى القدرة الثقافية !!
وهو شرط لبرلمان لا يمكن أن تجده فى أى دولة فى العالم
وقد كان مفهوما من النظام السابق حرصه على الحفاظ على تلك النسبة حتى يتسنى له السيطرة عليهم وتوجيههم كيفما يحلو له , ورأينا هذا واضحا فى فضائح موازنات بطرس غالى وعجز الأعضاء عن فهمها , وفى تفويض الأعضاء للرئيس بصفقات السلاح عبر ثلاثين عاما فضلا على استمرار مد العمل بقانون الطوارئ
لكن ما الداعى لهذا الآن ,
لا سيما وأن المجلس العسكري يريد إحالة أمر الدستور الجديد للبرلمان القادم , فهل نغامر بوضع الدستور المنتظر ـ وهو ثمرة الثورة ـ بين أيدى برلمان لا يعرف بوعه من كرسوعه ؟!

وأما مسألة مجلس الشورى ..
فقد أفاض فى شرحها فقهاء القانون الدستورى مثل الدكتور فتحى فكرى [1] وشرح الغاية التى من أجلها سن السادات هذا المجلس عام 1971 م , حيث قام السادات بابتكار هذا المجلس ـ بنفس نسبة العمال والفلاحين رغم زعمه أنه مجلس للعلم والإستشارة ! ـ من أجل غاية واحدة وهى أن يحل مجلس الشورى محل ( الإتحاد الإشتراكى ) فى ملكية الصحف القومية , وذلك بعد أن تم إلغاء الإتحاد الإشتراكى والنظام الإشتراكى كله فى أيام السادات ,
ولا يوجد لهذا المجلس أى وظيفة فعلية من أى نوع ولا يملك ولاية تشريعية أو حتى استشارية ملزمة لا للحكومة ولا للبرلمان , وذلك لأن مصر لا تأخذ أصلا بنظام المجلسين المتبع فى بريطانيا والولايات المتحدة , حيث تتوزع الإختصاصات التشريعية والرقابية على مجلسين مختلفين يمثلان معا البرلمان الشعبي
فمجلس الشورى المصري لا موقع ولا محل له من الإعراب , وقد طرحه السادات ـ كما سبق القول ـ لغاية وحيدة وهى مواجهة مأزق عدم وجود هيئة تمثل المالك بالنسبة للصحف القومية التى صادرتها حكومة الثورة ,
ولما كان لا يستطيع أن يجعل الصحف القومية تابعة للحكومة ـ شكلا ـ فقد ابتكر هذا المجلس لهذا الغرض وتحول المجلس منذ إنشائه إلى مكافأة يعطيها النظام لرجاله المخلصين عبر تعيين نصف أعضائه من رئيس الجمهورية !!
فلماذا نصر على بقائه رغم ما يتكلفه من ميزانية الدولة بلا أدنى طائل ويعتبر مركزا لتجميع مراكز القوة ورعاية الفساد عبر حصانة أعضائه التى ليس لها أدنى مبرر تشريعي ,
لهذا لابد من الإستماع لخبراء القانون الدستورى لا سيما إذا أجمعوا على أمر محدد , وقد أجمعوا على ضرورة وضع دستور جديد كخطوة سابقة على الإنتخابات التشريعية , فضلا على تعديل نظام الإنتخاب بما يتناسب مع النظام الديمقراطى , وإلغاء مجلس الفاسدين المسمى بمجلس الشورى ووضع الشروط الملزمة والكافية لمن يرشح نفسه عضوا بالبرلمان حتى يستطيع أداء وظيفته على الوجه الأكمل ,


الهوامش :
[1]ـ القانون الدستورى ـ د. فتحى فكرى ـ مكتبة النهضة العربية ـ مقرر الدراسات العليا للقانون العام بجامعة القاهرة عام 2001
 
رد: تعلم كيفية الثبات فى زمن المتغيرات

ولم يكن هذا الأمر هو الأمر السلبي الوحيد ..
بل أفرز الإستفتاء نتيجة خطيرة للغاية وهى تفرد الإعلام المغرض بمقدرات الناس وتفجير قضية طائفية فى موضع ليس له أى مكان من الإعراب ! , فى نفس الوقت الذى يفتقد فيه المجلس العسكري لأى وسيلة إعلامية حقيقية تدافع عن سياسته وتتبناها بالإيضاح للشعب ,
لا سيما وأن الصحف القومية والإعلام الرسمى الذى ورثه من النظام السابق لا يساوى مقدار خردلة من القيمة بين الناس لافتقاده أدنى قدر من المصداقية واتباعه سياسة ( عاش الملك .. مات الملك )
وهو ما أدى بكل صاحب بوق أن يتفرد بوعى الجماهير وتفجرت الصراعات الإعلامية مدوية لهذا السبب
ففجأة أصبحت التعديلات الدستورية ـ دون أدنى سند من الواقع ـ عبارة عن صراع طائفي على المادة الثانية من الدستور والقاضية بأن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسي للتشريع !
ولست أدرى أين هو من تحدث عن تعديل هذه المادة أو حذفها ! وكل التعديلات المقترحة كانت تخص مواد دستورية تنظيمية لا علاقة لها إطلاقا بالمبادئ الدستورية الواردة فى الباب الأول من الدستور والتى تعتبر تعبيرا عن حالة المجتمع وغير وارد إطلاقا تعديلها أو المساس بها سواء فى الدستور القديم أو الدستور الجديد ..
وحتى يستوعب القارئ مدى تفاهة مضمون الصراع الذى دار فى أن التصويت بنعم يعنى الإنحياز للإسلام والتصويت بلا يعنى العكس ..
ينبغي لنا أن نفهم أولا ما هو الدستور ومم يتكون , ولماذا تعتبر المادة الثانية مبدأ دستوريا غير قابل للمساس به وإلا اختل الدستور فى مضمونه ..
فالدستور فى أى دولة فى العالم هو أبو القوانين , ولا يتكون من مواد قانونية تفصيلية كتلك الموجودة فى القوانين العادية بأكواد مرقمة مثل قانون العقوبات أو القانون المدنى , بل يتكون من شقين ..
الشق الأول وهو المبادئ التى تعبر عن المجتمع .. وهى مبادئ شارحة لثقافة المجتمع وتوجهاته وتاريخه
والشق الثانى وهو الشأن التنظيمى للنظام الحاكم لتلك البلد والذى وقع عليه اختيار الجمهور سواء كان برلمانيا أو جمهوريا ..

وبالنسبة للشق الأول ..
فهو يحتوى ـ كما سبق القول ـ المبادئ العامة التى تصف حالة المجتمع الذى يوضع له الدستور , ولهذا فهى عبارة عن مبادئ واقعية غير قابلة للتغيير ولا تخضع للتعديل , لأنها وببساطة تصف طبيعة المجتمع الذى يوضع له الدستور ,
وتحتل هذه المبادئ الأبواب الأولى من الدستور ..
وكمثال للإيضاح ..
فإن المادة الثانية مثلا فى الدستور المصري هى توصيف لطبيعة دين الأغلبية فى القطر المصري وهو دين الإسلام فمن الطبيعى أن تكون الشريعة الإسلامية هى المصدر الأصلي الذى تنبع منه سائر القوانين مع عدم الإخلال بالأقليات , وأى مساس بها يعنى ببساطة أن الدستور غير مطابق لواقع حال هذا المجتمع ومن ثم يعتبر دستورا معيبا .,
بالضبط كما لو كنا بصدد إعداد كتاب عن أحوال مصر أو أى قطر فنحن نضع فى هذا الكتاب ما تعبر عنه الأغلبية ونصفه بغض النظر عن رأينا فيه ,
فإذا جاء كاتب أوربي مثلا وأعد كتابا عن مصر وقال فيه أن مصر دولة إسلامية فهو هنا لا يضع رأيا بل ينقل واقعا وإذا دس وجهة نظره هنا وقال خلاف ذلك لكان كتابه وقوله وهما فى وهم وخيال فى خيال !!
نخلص من هذا الأمر إلى أن المادة الثانية أو أى مادة من مواد المبادئ الدستورية غير قابلة للنقاش أو الطرح إلا إذا تغيرت أحوال المجتمع نفسه !
فعلام إذا كان الصراع من الأساس ؟!

وبالنسبة للشق الثانى من الدستور فهو يختص بنظم الحكم , وهذا الجانب هو الذى جاءت مواد التعديلات الدستورية لمعالجته , وهى مواد قابلة للتغيير والتبديل بحسب تغير نظام الحكم ووفقا لما تتعارف عليه قوى المجتمع السياسية ,
فالثورة فى مصر وفى أى بلد فى العالم عندما تقوم بالتغيير فإنها لن تتناول شيئا من مواد الأبواب الأولى الخاصة بالمبادئ لأنها بطبيعتها مواد واقعية لا قانونية , وسيقتصر التعديل على مواد النظام السياسي الذى تعالجه بقية أبواب الدستور ومن ثم فإن التيارات الدينية التى أشعلت المعركة الأخيرة وكذلك التيارات العلمانية التى نافستها على قول نعم أو لا كانوا يتصارعون فى ميدان الجهل فى صراع ديكة لم يخلف إلا الفتن ,
فما أعلنته التيارات الدينية أن المعركة معركة المادة الثانية كان كلاما فارغا وغير ذى أساس والمواد التى تم تعديلها بالكامل لا يوجد فيها مادة واحدة تمس الإسلام من قريب أو بعيد !!
والتيارات العلمانية التى تحارب اليوم لإلغاء المادة الثانية تنافس التيارات الأخرى فى الجهل لأن مواد المبادئ إنما تعبر عن طبيعة المجتمع ولما كان المجتمع المصري بأكمله مجتمع متدين سواء فى الغالبية العظمى المسلمة أو الأقلية المسيحية فهذا يعنى أن العلمانية ليس لها أى مكان بالمجتمع ومن ثم فأى نص دستورى لها هو محض تخريف ..

والنداءات الأخرى التى ظهرت تنادى بإضافة الشريعة النصرانية كمصدر إضافي للمادة الثانية مع الشريعة الإسلامية هى أصوات أيضا تحارب فى ميدان الجهل العقيم ,
فأقل الدارسين فى مجال الأديان يعلم بالضرورة أن الشريعة الإسلامية هى التشريع الوحيد المحفوظ بحفظ الله بنظام كامل متكامل للدولة والقوانين فى المجالات السياسية والعقابية والمدنية , وأن كافة الأديان السماوية السابقة لم تأت إطلاقا بتنظيم سياسي أو تنظير دستورى يحكم نظام الدولة بالقوانين واللوائح التى تنظم حياة المجتمع ..
وحتى لو فرضنا وجوده ,
فهل يستطيع المسيحيون واليهود اليوم أن يسندوا هذه الشريعة إلى الله تعالى أو رسله عيسي وموسي عليهم السلام , بينما يدرك أهل الذمة أنفسهم قبل أى شخص أن شريعة موسي وعيسي غائبة عنهم غيابا تاما بانقطاع فى الإسناد يبلغ أربعمائة عام على الأقل ؟!
أى أنهم ببساطة لا يملكون إقامة شبهة دليل على نسبة أى تشريع أو أى قاعدة إلى موسي وعيسي عليهما السلام بأى نوع من الإسناد أيا كان
فالشريعة الإسلامية هى الوحيدة بين كافة الأديان التى تم حفظها وتديونها ونقلها كلمة كلمة , وحرفا حرفا من الله عز وجل إلى نبيه عليه السلام إلى الصحابة على مر القرون حتى وصلت إلينا اليوم بإسناد لا يقبل الشك مصداقا لوعد الله تعالى بحفظ كتابه وشريعته ..
وهو الوعد الذى أخبرنا به القرآن مقرونا بحقيقة لا تقبل الجدل وهى ضياع شرائع الأمم السابقة ضياعا تاما ووقوعها رهن تحريف الرهبان والأحبار
بالإضافة لميزة هامة وموضوعية ـ تخص موضوع نقاشنا اليوم ـ وهى أن الشريعة الإسلامية هى الشريعة الوحيدة التى نزلت متكاملة دين ودولة وبها كافة البنود التى تعالج كافة المبادئ التى يقوم عليها نظام الدولة فى الإسلام بغض النظر عن شكلها سواء كان برلمانيا أو جمهوريا ,
بالإضافة إلى احتواء الشريعة الإسلامية على نظام اقتصادى كامل يعتمد على دور الدولة فى التحكم فى مجالات الإنتاج السيادية ومنع الإحتكار وفى نفس الوقت إطلاق الحريات الفردية فى التجارة الحرة الخاضعة لنظام المشاركات والمرابحة الخالية من النظام الربوى الذى ثبت فساده قطعا فى الأزمة المالية الأخيرة ..
هذا فضلا على احتواء الشريعة الإسلامية على القوانين الجنائية والمدنية التى تعالج الحقوق والواجبات مع نظام دقيق فى الإجراءات الجنائية وأدلة الثبوت وغيرها
فأين هو فى الشريعة الكنسية أو اليهودية مثل هذا النظام الحاكم الذى يعالج كل كبيرة وصغيرة فى الحكم ؟!
وإذا كانت شريعة الكنيسة لا تعالج إلا الجانب الدينى فى أمور العقيدة والجانب المدنى فى الزواج والطلاق التى يسمح الإسلام للنصاري أن يحتكموا لها ..
فأين هو النظام السياسي الذى يريدون إضافته لنظام الشريعة الإسلامية وهو غير موجود أصلا , وعلى أى أساس يتم إضافة كلمة ( شريعة مسيحية ) إلى مصادر التشريع ؟!

فهل كان هناك داع ـ بعد الذى شرحناه ـ للمعركة حامية الوطيس التى ساهمت فى بذر الفرقة وزيادة الإستقطاب والعمل بسوء نية ؟!
هذا بالإضافة إلى أن زلزال التعديلات الدستورية استمر فى إفرازه للتوابع القاصمة التى هزت أركان المجتمع لليوم , فلولا هذه المعركة غير المبررة لما ظهر الصراع بين طائفتى ( الدستور أولا ) و ( الإنتخابات أولا ) لا سيما وأن جامعة القاهرة والعديد من خبراء القانون الدستورى أعلنوا أن وضع دستور جديد لنظام الحكم القادم لا يكلف الدولة شيئا وأن إعداده لن يستغرق الوقت الذى تلكأ به المجلس العسكري ..
بالإضافة إلى وجود دستور جاهز وكامل مكمل أعده كبار خبراء القانون بمصر فى الخمسينيات طبقا لأوامر الرئيس عبد الناصر الذى أمر بتشكيل لجنة دستورية تضع للبلاد دستورا نموذجيا وأسند المهمة ورياسة اللجنة إلى أبو القانون فى العصر الحديث العلامة الدكتور عبد الرازق السنهورى .. واستغرق عمل اللجنة عامين كاملين
واجتمعت اللجنة التى ضمت أساطين الفكر والقانون ووضعت دستورا تحسدنا عليه بريطانيا وفرنسا , ورفعوه إلى عبد الناصر الذى رفضه تماما عندما وجده دستورا ديمقراطيا على أعلى مستوى يقلص صلاحيات الحكومة ورئيس الدولة لصالح رقابة الشعب ..
وأمر بإعداد دستور آخر وظل دستور السنهورى محفوظا إلى اليوم بكامل بنوده التى توازى مطالب الثورة المصرية اليوم

ومن الآثار السلبية لمعركة الإستفتاء ايضا ..
ظهور بدعة ( المبادئ فوق الدستورية ) التى حاولت القوى العلمانية فرضها على المجتمع وهى بدعة غير موجودة فى أى دستور لأى دولة فى العالم ولم يخترعها العلمانيون وتابعتهم القوى المدنية فى ذلك إلا تخوفا من الإسلاميين ومن نوايا المجلس العسكري بعد نتائج معركة الاستفتاء ..
وتطايرت الإتهامات إلى التيار الإسلامى أنه يريد دولة دينية ـ رغم أن الإسلام لا يعرف هذا المصطلح أساسا كما سنشرح لاحقا ـ وأدى هذا إلى أن المجتمع تخوف فعلا من التيارات الإسلامية وأخشي ما أخشاه أن يساهم هذا التخوف فى تمهيد الأرض للعلمانيين ليجنوا لأول مرة قاعدة شعبية لهم فى المجتمع الذى لفظهم منذ ظهورهم بالقرن الماضي ,
والسبب يعود فى المقام الأول إلى ممارسات التيارات الإسلامية التى أساءت للإسلام بأكثر مما فعل العلمانيون أنفسهم عندما قدموا أنفسهم على أنهم خلفاء الله فى الأرض ومن معهم فهو مع الله ومن يعاديهم فهو مع الشيطان متناسين أن الله تعالى لم يعط العصمة لأحد بعد الأنبياء ..
ومتناسين أن أصل شريعة الإسلام يعود إلى تحكيم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ثم الإجتهاد فيما لا نص فيه , وكلنا يعرف أن النبي عليه الصلاة والسلام أوصي أحد أصحابه إن هو حاصر أهل حصن وقبلوا النزول على حكمه فلينزلهم على حكمه هو ولا يقول أن ينزلهم على حكم الله والصحابي بشر كالبشر لا يعرف إن حكم هل سيصيب حكم الله أم لا ..
وهى الواقعة التى أسست لكيفية تحكيم الشريعة وبيان أن طرق تحكيم الشريعة ليست واحدة بين البشر وقابلة للإختلاف , وهو الأمر الذى تروج التيارات الإسلامية لعكسه مما يصب لمصلحة العلمانيين فى المقام الأول عندما يحاربون الإسلام عقيدة وشريعة !

ومن الآثار السلبية أيضا ظهور فجوة تتسع كل يوم بين المجلس العسكري وبين رموز الثورة ورجالها وشبابها ,
والإختلاف بينهم لم يكن واردا من الأساس لأن الجهتين ( المجلس العسكري والقادة ) كلاهما فى مركب واحد وإخلاصهم لرسالتهم يجب أن يجمع بينهم لا أن يفرق .. وهذه الفرقة الغريبة تسببت فى تسلسل العناصر النفعية لسكب الزيت على النار بعد أن وجدوا الفرصة سانحة لدى المجلس العسكري فى اتهامات التخوين التى لا أساس لها وتزايدت فجوة عدم الثقة بين رموز الثورة وقادة الجيش وكلا الطرفين يلقي باللوم على الآخر , ونتعشم أن يجتمع عقلاء الطرفين على كلمة سواء فى ظل تلك الظروف

فمن هو المستفيد من تلك الفتن التى ضيعت وقت الخبراء وأهل السياسة والحكم وتسببت فى ضياع ستة أشهر فى صداع مستمر وغفلنا عن أخطر وأهم القضايا التى تهم الوطن فى تلك المرحلة الحساسة ..
ولعل أهل الرأى وأهل التنفيذ ينتبهون قبل فوات الأوان إلى خطورة مرور الوقت قبل إحداث التغييرات الملموسة التى يجب أن يستشعرها الشعب واضحة قبل أن يفقد ثقته فى كافة من يتصدون لقيادته سواء كان المجلس العسكري أو رموز الوعى القومى فى البلاد من أهل الإعلام الجاد ..
 
رد: تعلم كيفية الثبات فى زمن المتغيرات

القضية الرابعة
أسطورة الدولة الدينية وتخاريف العلمانية !



رغم أن الثورة المصرية قامت أصلا لإسقاط النظام جملة وتفصيلا , وهدم التشوهات التى أضافها إعلامه الرسمى عن عمد طيلة الفترة السابقة , وأهمها تشويه صورة الإسلام والمتدينين حتى أصبح كل ذى لحية متطرفا , وأصبح كل متدين متمسك بشعائر الدين خارجا عن التحضر !

رغم هذا إلا أن ما يسمى بأوساط النخبة ( أهل الإعلام والثقافة ) لم يدركوا أن استمرار هذا التشويه يعتبر منافيا تماما لحقيقة أهداف الثورة التى اعترف الجميع فيها بأن النظام مارس تشويها منتظما متعمدا للقيم الإسلامية وصب فى مصلحة العلمانية وتعمد تغييب دور الأزهر وتطويعه وأعلن الحرب على كافة رموز وقيم الحضارة الإسلامية

وبالتالى يكون التصرف الطبيعى من الكافة سواء الشعب أو النخبة هو رفض ورفع هذا الحظر على قيمنا وحضارتنا وفتح المجال أمام حقيقة الإسلام وتاريخه ورموزه وفلسفته ,

إلا أن هذا حدث مع الشعب الذى ظل رافضا دوما أى أسلوب للتشويه , ولكنه لم يحدث مع النخبة المتصدرة لوسائل الإعلام واستمرت دعاوى رفض الإسلام عقيدة وشريعة ومنهجا قائمة , بل وزادت قنوات الإعلام ودعوات العلمانية شراسة فى رفض أى حديث عن الحضارة الإسلامية وشريعتها ونظم حكمها ومبادئها رغم الطنطنة المستمرة عن حرية الرأى !!

وطغى فى المجتمع الإعلامى لوثة عقلية تحارب التيارات الدينية المتمثلة فى الإخوان والسلفية واختصرت الإسلام ـ عن عمد ـ فى هذين الفريقين , وجلبوا الآراء الشاذة والمشوهة وقدموها على أنها تمثل الدين والتدين لكى ينفذوا غرضهم من إقصاء الدين الإسلامى عن الحياة السياسية تماما !

ولما كان هذا الهدف الإقصائي هو بعينه هدف النظام السابق , ولما كان هذا الإقصاء ينافي فى شدة دعاوى الديمقراطية التى يتذرع بها العلمانيون والليبراليون , فقد انكشف لكل منصف ومتأمل حقيقة الدعوة العلمانية وكيف أنها كانت أكثر المستفيدين من جبروت النظام السابق وتسلطه حيث كانت تتعمد تسليط قوة الدولة للقضاء على الإسلام فى صورة محاربة أى تيار يحمل حضارته حتى لو كان تيار الأزهر الشريف

وهذا ليس غريبا بالطبع فالعلمانية انتعشت ووجدت لها موطنا فى الدولة تحت رعاية نظام مبارك وكان على رأس وزارة الإعلام دوما دعاة العلمانية والتحرر الفوضوى , من صفوت الشريف ـ القوّاد السابق ـ إلى أنس الفقي ـ راقص الباليه السابق أيضا ! ـ

وكان على رأس وزارة الثقافة فاروق حسنى الإنسان المشوه الذى كان يري الدين خصما تجب محاربته , وهو الذى تمكن من إنهاء دور وزارة الثقافة تماما وجعلها بوقا للعلمانية والنظام وتسلط رموزها فى شتى المجالات على كافة أنشطة الوزارة ,

وفتح الباب لمتطرفي العلمانية كى ينشروا بذاءاتهم ضد الأخلاق والدين بأموال الدولة ,

وكلنا يتذكر رواية الكاتب السورى حيدر حيدر ( وليمة لأعشاب البحر ) والتى شبه فيها القرآن بالفضلات والعياذ بالله , وتمت طباعتها على نفقة الوزارة , كذلك كتب المتطرف العلمانى الكافر بإجماع علماء الأمة المسمى سيد القمنى المزور الذى قام بسرقة أفكار المستشرقين ونشرها على أنها من أفكاره وأعطته وزارة الثقافة جائزة الدولة التقديرية على كتاباته التى يقرر فيها أن القرآن إنما هو مؤلف بشري نسجه محمد عليه السلام بالتعاون مع عمه أبو طالب لتأكيد زعامة بنى هاشم !! فضلا على اتهامه للسيدة العذراء عليها السلام بإنجاب عيسي عليه السلام الزنا مع كاهن المعبد !! فضلا على ديوان شعر ( الآية جيم ) الذى قدمه صاحبه مقلدا آيات القرآن الكريم !

ووجد سيد القمنى وأمثاله من حثالة الكتاب من يدافع عنهم ويروج لأفكارهم ..

وغيرهم كثير مثل روايات البذاءة الثلاث التى كانت تحتوى فضائح جنسية ونشرتها الوزارة أيضا فضلا على عشرات الكتب الأخرى التى كانت تهتم فقط بترويج أى تيار متطرف للفرق الإسلامية الشاذة كالمعتزلة والصوفية الفلسفية والشيعة الإسماعيلية وغيرها ...

وينبغي لنا أن نلاحظ بشدة أن التيار الإعلامى الرسمى والعلمانية ودعاتها كانوا يرصدون العداء فقط لصحيح الإسلام القائم على السنة الصحيحة وحدها , بينما فى المقابل يرجون هم بأنفسهم لكافة التيارات البدعية التى خرجت من الفرق الشاذة فى تاريخ الإسلام ويقدون شخصياتها المشوهة على أنهم كبار دعاة التنوير

مما يشي لأى متأمل بحقيقة الهدف الذى ترمى إليه العلمانية وهو محاربة صحيح الإسلام عن طريق معاداة التدين والإنتماء الحضاري الإسلامى وفى نفس الوقت تشجيع المسلمين على اتباع الفرق المبتدعة كالمعتزلة والصوفية الفلسفية والشيعة الرافضة بكافة فرقها وتقديمهم لهم على أنهم ضحايا قهر الإسلام السنى !

باختصار كانت مهمة وزارة الثقافة ووزارة الإعلام طيلة فترة مبارك هى الحض على السخرية من الدين والتدين والحضارة الإسلامية وفتح الباب للتيار العلمانى بدعاوى التحضر واستضافة الأفكار الشاذة تحت اسم التجديد وفى نفس الوقت التضييق بكل السبل على أى تيار معتدل أو علمى محترم يقدم الحضارة الإسلامية كما هى بعيدا عن التشوهات السياسية ,

ولهذا فعلينا أن ندرك تماما أن التيار العلمانى فى مصر إنما هو جزء من النظام البائد عاش معه واستفاد منه وركب الثورة على حين غفلة متوقعا أن يجد له مكانا مستفيدا من الفزاعة التى تُخوف من الإسلام ومستغلا الأخطاء الغبية التى وقعت فيها تيارات السلفية والإخوان ليروج لفكرة أن الإسلام لا يعنى إلا التطرف والإرهاب ورفض الآخر بينما التيار العلمانى بممارساته ومحاولاته الدءوبة لقمع الفكر الإسلامى يمثل الصورة الأبلغ لمحاكم التفتيش الإسبانية التى قامت منذ قرون فى إسبانيا لنفس الغرض !

ومن أعجب العجب أن يرتكبون أبشع أنواع قهر الرأى الآخر ويرمون التهمة على الثقافة الإسلامية ودعاتها !

ولا يفوتنا أن ندرك مدى حنق وغضب التيارات العلمانية من الثورة وأبطالها لأنهم وجدوا الشعب ـ بعد كل هذا التشويه ـ لا زال متمسكا بعقيدته يحدوه الأمل فى توفيق ربه , وكانت مشاهد الثورة معبرة بشكل قاطع عن أصل هذا الشعب ومدى رسوخ إيمانه , وصار ميدان التحرير يحفل بملايين المصلين خلال الثورة وحافلا بكل أنواع الدعاء المرتبط بالله تعالى المتوكل عليه فى إشارة بليغة إلى فشل الدعاوى العلمانية من التسرب لقلب المواطن المصري البسيط الذى يرفض أمثال هذا النداءات المخرفة باعتبار الدين والتدين مظهرا من مظاهر التخلف , بينما الغرب ـ الذى يروج له العلمانيون ـ هو نفسه يتمسك بعقيدته المحرفة وبكتبه المزورة ويريد العلمانيون منا نحن أبناء الإسلام أن نتخلى عن حضارتنا وديننا الثابت ثبوتا مطلقا منذ أربعة عشر قرنا كى نبلغ التحضر ـ كما يزعمون ـ

وعندما ضحى أبطال الثورة بحياتهم كانت أعينهم معلقة بالشهادة كجزاء أوفي , وهذا أمر طبيعى لأن الأمر لو سار كما هو منهج العلمانية لما بذل أى شهيد نفسه وحياته فى سبيل الآخرين بلا أى جزاء على ذلك , ولولا وجود الجزاء الأخروى النابع من الإيمان فعلى أى أساس كان الشهداء يضحون بحياتهم وهم يعلمون أن انتهاء حياتهم معناه أنهم لن يجنوا من ثمار ثورتهم شيئا !!

لكنها هكذا هى التيارات العلمانية تتميز بالجهل المدقع فضلا على التجهيل والتشويه واللجاجة وإثارة القضايا التى تمت مناقشتها والرد عليها آلاف المرات !

ورغم ذلك يكررونها فى ملل رهيب لأنهم بالفعل لا يملكون سواها فى هذا المجال , وبعض الإنتقادات التى يوجهونها للإسلام عمرها عشرة قرون وأكثر ! وتم الرد عليها مرارا وتكرارا لكنهم كانوا يعمدون إلى كتب المستشرقين القديمة ويستخرجون منها الشبهات ويعيدون تكرارها أمام العامة الذين لا يدركون أن قضايا مثل رضاع الكبير وشبهات ثبوت السنة وغيرها هى قضايا عفا عليها الزمن ورد عليها العلماء منذ القرن الثالث الهجرى كما فى كتاب ( تأويل مختلف الحديث ) لابن قتيبة مثلا .. وهم فى إحيائهم لتلك الأمور إنما يفعلونها اعتمادا ورهانا على ضعف الذاكرة وقلة العلم والإنتباه وعدم وجود وسائل إعلام مستقلة تعرض وجهة نظر علماء المسلمين الذين كانوا قادة الأمة طيلة أربعة عشر قرنا وكانوا هم مفجرو ثورات التحرر فى تاريخنا الوطنى ,

لا سيما مع افتقار عشرات العلماء الأزهريين وغيرهم لأى وسيلة إعلام تروج لردودهم العلمية , واقتصار الإعلام وتمويله الضخم على التيارات العلمانية والسلفية الإخوان وكلٌ له أجندته الخاصة التى يتاجر بها

ولو عدنا للتاريخ الإسلامى القديم والوسيط سنشهد أن شخصيات مثل مالك والشافعى وبن حنبل وأبي حنيفة والأوزاعى وبن تيمية والعسقلانى وبن كثير وغيرهم كانوا هم قادة الهمة العالية المدافعين عن المجتمع وعن الشريعة فى المقام الأول الحافظين لذاكرة الأمة وحضارتها .. وهم كذلك قواد الثورات والدعاة إلى الجهاد ضد الظلم وضد الحروب على مختلف أشكالها

ولو عدنا للتاريخ الحديث وتأملنا تاريخ الرافعى مثلا لوجدنا أن علماء الأزهر كانوا هم السبب فى الصحوة الوطنية المصرية فى العصر الحديث فى بداية القرن التاسع عشر كما كانوا قبلها هم حماة الشعب فى مواجهة ظلم المماليك , وبعدها كانوا قادة ثورتى القاهرة الأولى والثانية ضد الحملة الفرنسية وكانوا هم مستشاري محمد على الكبير وصانعى شعبيته ودولته ,

ولم يتراجع دورهم قط إلا مع التغييب المتعمد للأزهر فى فترة ما بعد ثورة يوليو 1952 والتى ظهرت معها أفكار الإشتراكية والعلمانية ووجدت فى الساحة الإعلامية متسعا لها مع التضييق على الأزهر بالقانون الذى عرف باسم قانون إصلاح الأزهر !

وعن عمد وتحت تأثير جهل العامة يتفرد دعاة العلمانية بالإعلام ويتابعهم فى ذلك بعض حسنى النية ممن لا يدركون حقيقة تلك الأساطير التى يروج لها العلمانيون لتخويف الناس من أى ذكر للإسلام , ومنها أسطورة اختصار الإسلام فى التيارات السلفية والإخوان ! والتى ساعد عليها قطعا عدم خلوص نوايا تلك التيارات واستباحتهم لكل رقي حضارة الحوار فى الإسلام سعيا وراء المكاسب السياسية

وبلغ الجهل والإسفاف بالإعلام الرسمى والتيارات العلمانية أنها حسبت صلاة المتظاهرين فى الميادين دليلا على أنهم من قوى الإخوان المسلمين ! وكأن الإسلام وشعائره لا يؤديها فى مصر إلا هذه الفئة !

ومنها أيضا الترويج لما يسمى الدولة الدينية التى يتوعدون بها الناس إن هم لزموا الدين أو طلبوا تحكيم الشريعة الإسلامية ..

وهذه كلها أساطير لا وجود لها فى الإسلام الذى لا يعرف كهنوت الدولة الدينية ولا يقره , ولو أن أى عاقل تأمل فى دعاوى العلمانية واستعاد فى ذاكرته التاريخ القديم والحديث لسأل نفسه سؤالا منطقيا يهدم كافة الدعوات التى تنادى بإقصاء الدين عن الحياة العامة ..

وهو أننا أمة نشأت وترعرعت وسادت على كافة الأمم بالدعوة الإسلامية وحدها التى وحدت أولا عرب الجزيرة العربية بعد أن كانوا شتاتا .. ولولا العقيدة الإسلامية لما نشأ مصطلح العروبة من الأساس , ثم اعتمدت الإسلام وعقيدته كعامل مشترك يجمع أقطار الأرض فى الشرق والغرب على كلمة لا إله إلا الله .. محمد رسول الله ..

وبهذه الدعوة وحدها تكونت إمبراطورية الإسلام وسادت على العالم منفردة طيلة ثلاثة عشر قرنا بعد أن قضت بالعقيدة والإيمان على إمبراطوريات الشرك والكهنوت المتمثلة فى الرومان والفرس وحكم المسلمون من الصين شرقا حتى الأندلس غربا ..

ثم تصدت للمغول وأرجعتهم عن حدودها وأعادت خلق الخلافة من جديد على يد الظاهر بيبرس الذى اعتمد القاهرة ودمشق كعاصمتين للخلافة العباسية فى مرحلتها الثالثة واستمر الإسلام بدوله المتعددة حتى قامت الخلافة العثمانية وملكت مساحة هائلة من الأرض فى إفريقيا وآسيا وأوربا وأخضعت الدول العظمى فى زمانها حتى أفل نجم الخلافة وانهارت من الداخل وظهرت على إثرها دعوات المذاهب الإنسانية ..

والسؤال المنطقي الآن ..

لقد جرب المسلمون فى التاريخ عقيدتهم الإسلامية واتخذوها أساسا لبناء دولتهم فحكموا العالم أجمع طيلة القرون السابقة ,

ثم تخلى المسلمون طواعية عن هذه العقيدة تحت تأثير دعاوى النعرات القومية الضيقة التى يعتبرها الإسلام من دعاوى الجاهلية , وتحت تأثير دعوات العلمانية التى قامت فى أوربا لرفض حكم الكهنة والكنيسة واتبعت الأنظمة العربية هذه الدعاوى منذ منتصف القرن العشرين وحتى يومنا هذا ؟!

فماذا كانت النتيجة عندما كان المسلمون متمسكون بعقيدتهم ؟! وكيف أصبحت النتيجة بعد أن تخلوا عنها لصالح المذاهب الإنسانية ؟!

وسنعرض تفصيلا لأساطير العلمانية التى تروجها حول الدين الإسلامى فى المجال السياسي وأهمها أسطورة الدولة الدينية بعد أن نتعرف باختصار على ما هية العلمانية وحقيقة أهدافها ..

العلمانية فى الغرب

العلمانية ثقافة خاطئة حكمت بعض العلمانيين العرب ممن ينتهجون المناهج الغربية لمجرد أنها غربية ولا يطالعون أصل الفكر عند أهله ؟!

وهو فكر خرج هو وفكر الشيوعية والصهيونية من مشكاة واحدة ألا وهى إبعاد الدين عن سائر قضايا الحياة فلا يكون الدين رقيبا أو حكما أو مشرعا بل يصبح أمرا شخصيا يخص صاحبه داخل جدران منزله فحسب بمعنى أنه لا يقبل أن يخرج بتدينه إلى خارج حدود المنزل

ورأينا هذا واضحا بالطبع فى قضية رفض فرنسا لحجاب المسلمات وتعطيل أى مظاهر دينية فى تركيا منذ أيام أتاتورك

وقد قامت حمى العلمانية بأوربا بعد عصور الظلام مباشرة وعند بدء عصر النهضة كرد فعل طبيعى على الكوارث التى تسببت فيها الكنيسة ومحاكم التفتيش على مدى قرون فحاربت الكنسية كل منهج وبسطت سلطتها على سائر شئون الدولة فأفسدتها أيما إفساد , بعد أن نصب الكهنة أنفسهم كرجال دين وتشريع متحدثون باسم الله ولهم سلطانه على الأرض !

وفى نفس الوقت وفى مقابل عصور الظلام كانت الحضارة الإسلامية فى قمة تألقها بالفكر الإسلامى والحكم الإسلامى الذى يعود بالسلطة ومصدر التشريع لأحكام المشرع وهو الله جل وعلا وحده وما أنزله فى رسالته الخاتم بعكس الأسلوب الكنسي القائم على حق الحاكم فى السلطة بمقتضي الحق الإلهى وهى نظرية قانونية جعلت من الحكام والأباطرة حاكمون باسم الله

وقامت الثورة الفرنسية وهدمت سلطة الكنيسة وأعلنت العلمانية منهجا وبالمثل قامت الثورة البلشفية فى روسيا وأسقطت الدين من حساباتها بدستورها الناص على أنه لا إله والحياة مادة ..

ونفذت أوربا تجربة العلمانية بعد قرون التخلف التى تسلطت فيها الكنيسة والرهبانية ومحاكم التفتيش وكلها أمور تم إستخدامها من العلمانيين العرب فى مواجهة الإسلام عن جهل عنيف ومغالطة مقصودة لأن هذه المفاهيم لم يعرفها الإسلام فى أى عصر من عصوره بل قامت أحكامه على أن كل بن آدم خطاء , وليس هناك حجة لشخص فى الدين إطلاقا بعد النبي عليه الصلاة والسلام , وكلٌ يؤخذ منه ويُرد إلا صاحب مقام الرسالة

ومنذ تسعينيات القرن الماضي تنبه الغرب لحقيقة فادحة أفصح عنها وركز عليها تركيزا شديدا وهى أنهم فى ظل المادية البحتة عطلوا كل منافذ الروحانيات الضرورية وهى الأمور التى فشلوا فى التعبير عنها بمفهومها الأصلي وهى غياب الدين عن شئون الحياة لأنهم خرجوا من خطأ إلى خطيئة

فبدلا من أن يعدلوا من عقيدتهم الفاسدة للعقيدة الصحيحة رفضوا العقائد فى مجملها فتكشفت لهم نتيجة ذلك فى إحصائيات مفزعة تبين انتشار معدلات الإنتحار لدرجة الهوس وتفكك المجتمع وإنحلاله وغياب القيم لأن غياب الدين معناه غياب الدافع التقليدى الحاض على الفضيلة فغاب الضمير وبقي فقط الخوف من القانون .. وهو خوف دنيوى لا يمنع أية آثار سلبية

ومهما كانت مواد القانون حازمة ودقيقة ومهما كان المنفذون واعون لهذا فلن يستطيعوا أن يراقبوا كل شخص بكل وقت مع غياب أهم قيمة إنسانية وهو الضمير

وظهر العلماء والمفكرون ليطرحوا المسألة على مائدة البحث ليفهموا ما الذى ينقص الحضارة الأوربية فى ظل بحوث البروفسور أنوكى الذى شرح أن المخ له نصفان أيسر مسئول عن الماديات ومخ أيمن مسئول عن الروحانيات والمعنويات وهو النصف الذى صار معطلا بفعل الإهمال وشرح كيف أن غياب الجانب الروحى والتغذية الروحية ينتزع من الإنسان إنسايته ويحوله لمجرد ترس فى آلة لا يملك من إرادته شيئا ولا يملك هدفا واضحا

وعبر أحد المفكرين عن تلك النتيجة قائلا " أن أوربا الآن منذ عصر النهضة تعيش بنصف مخ فقط "

وكانت النتيجة التى نقلها لنا د. مصطفي محمود أن العلماء بالغرب اتخذوا قرارا جوهريا بدئوا بتطبيقه ألا وهو إعادة النظر فى المنهج كله والعمل على تخريج أجيال تهتم بالفص الأيمن المعطل لأن الحضارة ليست فى الأجهزة والأبنية بل هى فى الفكر وحده .. وأوربا ذاتها عندما تفخر بتاريخها إنما تفخر بنتاج فلاسفتها ومفكريها لا مهندسيها وأبنيتهم

وعلى حد قول د. مصطفي محمود أيضا فى مقالاته العديدة فى هذا الشأن ..

فإن الغرب مختل الإدراك النفسي بسبب هذا البعد عن الإيمان وتجد الشباب هناك يهملون الروابط الأسرية ويتركون آبائهم وأمهاتهم فى دور المسنين وفى نفس الوقت يعطون جل عاطفتهم للكلاب والقطط ويتفنون فى التعبير عن عاطفتهم نحوها ولهذا نجد للكلاب والقطط فى أوربا حقوقا تفوق حقوق البشر أنفسهم !

هذا فضلا على الإختلال الأسري الناجم عن العزوف عن الزواج والشكوى الرئيسية فى معظم أوربا الآن هى قلة النسل بسبب ركون الشباب للعلاقات الحرة بلا مسئولية وبسبب قوانين الزواج والطلاق التى تمثل رادعا قويا للشباب فى الزواج حيث ينص القانون هناك على مناصفة المرأة المطلقة لزوجها فى كامل دخله وثروته !

وهذا المصير الذى وقعت فيه اوربا اليوم هو ما يريد العلمانيون العرب لنا السعي إليه واتباعهم فيه !
 
رد: تعلم كيفية الثبات فى زمن المتغيرات

العلمانية عند العرب

أطرف ما يمكن أن يواجهه المرء حال مطالعته لتجربة العلمانيين والماركسيين العرب هى الجبن المعنوى الهائل الذى يحكمهم فلا يعبرون عن صريح ما ينادون به أبدا ويحاولون مرارا الخروج من المأزق بابتكار الشبهات التى تدفعنا للتسليم لهم بأن الشريعة الإسلامية للصلاة والصوم والزكاة وغير ذلك من أمور شخصية لا تحكم شأن المجتمع

وبداية الأمر تكون مع التساؤل المنطقي الذى لم نجد له إجابة منهم مطلقا

لقد استوردتم العلمانية ودعوتم بدعواتها الرافضة لرهابنية رجال الدين وتدخلهم فى شئون الحكم وتسلطهم بصكوك الغفران بل واستخدمتم نفس تلك المسميات كحجة أمام تطبيق الشريعة الإسلامية دون أن توضحوا لنا أين هذه الأمور فى الإسلام ؟

هل هناك من شيوخ الإسلام من نصب نفسه راهبا متحكما كراسبوتين بروسيا ؟!

وهل هناك صكوك غفران فى الإسلام ؟!

وهل عانت الحضارة الإسلامية فى ظل الشريعة ما عاناه الغرب فى ظل الكنيسة

أم أن الإسلام كان هو السبب الرئيسي فى تكوين الإمبراطورية الإسلامية والفكر الإسلامى فى سائر المجالات والتى لا زالت حتى يومنا هذا أساسا لعلوم الغرب باعتراف رجال الغرب لا اعترافنا نحن

وعندما شن الغرب مختلف حملاته الصليبية قديما وعندما وقف جورج بوش يعلن أنها حرب صليبية جديدة تلك التى يشنها على بلاد المسلمين لم نستمع من العلمانيين تفسيرا لدعواتهم باتباع الغرب والتخلى عن الدين وفكره فى حين أن هذا التخلى هو هدف كل تلك الحملات منذ ظهور الإسلام وحتى اليوم

فإذا كان كل أهداف الغرب العدو لأمتنا هى نزع عقيدة الإسلام ومحاربتها وتشويهها بشتى السبل وإقصائها عن كافة شئوننا ؟!

فكيف يمكن أن يكون صحيحا أو مفيدا للأمة أن تتخلى عنها طواعية أو تظن بها الضرر بينما يظن بها العدو نفس الظن ؟!

ومن عجائب ولطائف العلمانية المصرية أن بعضهم روج لأن الغرب لم يعادى الإسلام قط , وأن هذا الإدعاء هو مظهر مرضي من مظاهر الإضطهاد !!!

ولست أدرى كيف تجرأ هؤلاء على مثل هذا السؤال الفضيحة التى يتجاهل أربعة عشر قرنا من الصراع الدموى والفكرى بين الإسلام والغرب

ولست أدرى ما الذى يمكن أن يفعله الغرب أكثر مما فعل حتى نوقن بذلك

لا زال البعض يتساءل , هل هناك استهداف من الغرب للإسلام وحضارته أم لا ؟!

تماما كما فعل رهبان النصاري فى كنيسة القسطينينية , أثناء دك محمد الفاتح لأسوارها بمدافعه, بينما هم مجتمعون فى قلب الكنيسة يناقشون كم شيطانا يمكن أن يجتمع فى رأس دبوس !!

لقد توارثت النظم الغربية خططها للإسلام عبر القرون حتى اليوم ونفذتها ومارستها من الحملات الصليبية وحتى الاحتلال الأمريكى ومؤامرة سبتمبر

ومن تحريض القساوسة وحتى مذكرات ريتشارد نيكسون

ومن تصريح إمبراطور الروم قديما وحتى تصريح بوش وبيرلسكونى بأنهم بصدد حرب صليبية جديدة

وهؤلاء يستنكرون وجود مؤامرة !

ومصيبتنا الحقيقية أننا لم نكتف فقط بإهمال النظر إلى التاريخ بمعالجة الواقع واستشراف المستقبل

بل إننا أهملنا مجرد قراءة الخطط المعلنة والمنشورة ومذكرات أصحابها من قادة الغرب ومفكريه من المستشرقين وهم بالآلاف عبر العصور ومن السياسيين فى العصر الحديث مثل نيكيسون فى كتابه الفرصة السانحة , والتى تعلن بوضوح مدى فوبيا الإسلام حتى فى أكثر أزمنة المسلمين ضعفا

وهذا يؤكد على أن نظرة الغرب لنا كشعوب لا تقرأ ولا تفهم هو أمر صحيح لأنهم لم يهتموا حتى بإخفاء نواياهم !!

ولهذا صدقت فينا تماما حكمة ( أمة بلا تاريخ أمة سلمت نفسها لأعدائها )

فى مذكرات نيكسون الصادرة فى السبيعينات وضع نيكسون خطة ما أسماه نصر بلا حرب

وهى كيفية نجاح الولايات المتحدة فى اتخاذ التدابير اللازمة لمنع تكرار الاتحاد الجزئي الذى تم بين العرب فى حرب أكتوبر , ورسم المنهج الكامل لكيفية دخول قوات الانتشار السريع لمنطقتنا بحجة الحماية وبقائها لحراسة منابع البترول وتدمير أى محاولة ليقظة كيقظة أكتوبر ,

وبعد خمس عشرة سنة بالضبط من مذكرات نيكسون دخلت القوات الأمريكية إلى منطقة الخليج بحجة حماية وتحرير الكويت ولبثت منذ ذلك الحين تحمى منابع النفط وتسيطر على المنطقة عسكريا بعد أن سيطرت عليها سياسيا

ونجحت السياسة الامريكية فى تنفيذ الخطة بإحكام وإتقان ,

وهى نفس الخطة التى وضعها نيكسون فى البيت الأبيض لتصبح خطة عمل الرؤساء القادمين لكى لا ينالوا تجربة مثل تجربة نيكسون فى حرب اكتوبر عندما وقفت السيارات والمصانع فى قلب أميركا عندما نفذ العرب حظر البترول

ونحن لا زلنا نسأل

هل هناك مؤامرة أم لا ؟!

والعداء الغربي للإسلام عداء تاريخى منذ انهيار امبراطورية الروم واتخذ أشكالا عدة , سواء بالحملات العسكرية المتوالية أو الهجوم الفكرى من خلال كتابات المستشرقين ..

والعداء الغربي ليس نسيجا واحدا

فالشعوب الغربية تنقسم إلى عوام ومفكرين

أما المفكرين

منها فئة صغيرة مستثناه من المفكرين الذين يدركون جرائم قياداتهم , أو أولئك الذين يدركون ويعترفون بفضل الإسلام على الغرب , لكنهم فئة قليلة كما سبق دفعها تفكيرها الحر المستقل إلى هذه النتيجة من أمثالهم روجيه جارودى وزيجريد هونكه صاحبة كتاب ( شمس العرب تشرق على الغرب )

والفئة الأكبر منها تدفعها العنصرية لتوظيف قدراتها الفكرية لهذا الحقد الأعمى , وهم لا يكتفون بالتأييد بل كثير منهم يعتبر هو المُنظّر وواضع القواعد التى تسير عليها السياسات الغربية , ولعل أشهرهم فى العصر الحديث الصحفي اليهودى الأمريكى توماس فريدمان الذى وضع الخطة الكاملة لمناصرة الشيعة الإثناعشرية فى العراق وتسليح عصاباتها وحمايتهم قهرا للسنة هناك وتنفيذا لمخططهم القديم بالحرب على العقيدة الصحيحة ورعاية أصحاب الفرق الشاذة عن السلوك القويم وتنمية النعرات المذهبية "[1]"

أما العوام ,

وهم يختلفون عن عوامنا كعرب ومسلمين إذ أنهم جميعا تقريبا لهم مستوى ثقافي عال ,

والأغلبية منهم تقع تحت تأثير التيار الفكرى الغالب فى العداء العنصري الشديد لأنهم يقرءون الإسلام من وجهة نظر مفكريهم المنحرفة , لا سيما إن وضعنا بأذهاننا أن هؤلاء المفكرين من الجبهة المعادية ليسوا هم الأكثر من ناحية العدد فقط بل هم الأقوى من حيث القدرة والشهرة والنفوذ فى الأوساط الثقافية , وامتلاكهم لإمبراطورية الإعلام العالمية

ولا ننسي أن الغرب عندما بدأ قبل قرون فى رحلة الاستشراق , أنتج أجيالا وراء أجيال من المستشرقين الذين كرسوا لتلك النظرة ,

وهناك بعض العوام وهم فئة غير قليلة , تتعامل من منطلق الفكر الليبرالى الذى يقوم على قراءة الأحداث وتحليل القضايا من واقعها الأصلي فجاءت الحملة الشرسة من الغرب على الإسلام كدافع لهم إلى محاولة فهم هذا الدين من منابعه الأصلية ,

وتحقق عندئذ قول الله تعالى

[ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] {الأنفال:30}

إذ أن المبالغة الغربية فى بيان خطر المسلمين المزعوم على الحضارة الغربية والمبالغة الشديدة فى تجاهل حقهم المشروع فى الدفاع عن أنفسهم ضد الهجمة العسكرية والحضارية والثقافية عليهم جعلت الكثيرين لا يستسيغون هذا المنطق الرسمى فدرسوا الإسلام نفسه وكانت المفاجأة أمامهم أن الإسلام دين لم يتخيلوا مدى عظمته على نحو أبهرهم

فانضم منهم منذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر قرابة مائتى ألف مواطن واعتنقوا الإسلام

وما ساعد على هذا

الماضي المخزى الذى يحمله الغرب على أكتافه , إذ أنه يقدم نفسه كشعلة حضارة ونور بينما حضارته ـ إن جاز تسميتها حضارة ـ قامت على انحطاط أخلاقي وإنسانى لم تتدنى البشرية إلى مثله منذ عهد الرومان

ولما انكشفت هذه الفضائح التى مارستها السياسة الغربية ضد مستعمراتها فى الشرق الأوسط والأدنى وفى افريقيا وفى الولايات المتحدة ضد الهنود الحمر , كان هناك العديد من أولئك المواطنين من ذوى الفطرة السليمة لا يستطيع أن يتقبل مثل هذه الممارسات بالغة البشاعة ,

ولو أننا ضربنا المثال بالولايات المتحدة مثلا

والتى تأسست من الغربيين أصحاب سجلات الإجرام الذين هاجروا لأرض الهنود الحمر , سنجد أمامنا جريمة إبادة لشعب كامل كان يغطى هذه الأرض بالملايين فلم يتبق من جنسهم فرد واحد

وكمثال آخر أيضا على ما وصلت به العنصرية الأوربية ما فعلته إيطاليا بعهد سفاحها الشهير بنيتو موسولينى فى غزو الحبشة , عندما قتل مائة ألف من سكان البلاد باستخدام الغاز السام عندما استعصت عليه العاصمة ورأى موسولينى أن الجيش استغرق وقتا أكثر مما ينبغي للسيطرة على الحبشة فأصدر أوامره باستخدام الغاز ,

ولكى نعطى فكرة بسيطة عن النظرة التى كان ينظر بها الجنود الإيطاليون لمواطنى الحبشة وكيف أنهم يرونهم أقل قيمة من حيوانات الغابة ,

أن هناك أفراد من الجيش الأثيوبي التقطوا صورا تذكارية أرسلوها لعشيقاتهم وهم يحملون بأيديهم اليمنى سلاحهم وفى اليد اليسري رأس مقطوعة لمواطن أثيوبي يهزونها أمام الكاميرا فى سخرية !

وفى لقاء مع العالم الألمانى الأصل الأمريكى الجنسية أوبنهايمر صاحب القنبلة الذرية التى صنعتها الولايات المتحدة , سأله الصحفيون عن شعوره بعد أن تم استخدام قنبلتين ذريتين ضد اليابان فى الحرب العالمية الثانية بل داعى وبلا مقتضي لأن اليابان كانت فى طريقها للاستسلام بالفعل

فأشار مستشارو الرئيس الأمريكى ترومان عليه أن يستخدم القنبلة الذرية الأولى ضد اليابان كى يرهب الاتحاد السوفياتى ويضع أمريكا على عتبات قيادة عالم بعد الحرب

فوافق ترومان لهذا السبب وحده

وليتهم اكتفوا بهذا ,

بل أصر مستشاروه أن يستخدم قنبلة ثانية وأيضا ضد اليابان , وكانت حجتهم أن المعامل الأمريكية أنتجت نوعين من القنابل أحدهما ذرية إندماجية والأخرى نووية إنشطارية ولابد من تجربة القنبلتين عمليا !

فوافق ترومان ليبيد من على وجه الأرض مدينتين بأكملهما لا لشيئ إلا لغطرسة القوة ,!

فجاء أوبنهايمر للقاء الصحفي الذى سألوه فيه عن شعوره عندما سمع بالفاجعة التى تسبب فيها باعتباره أنه هو المسئول الذى نفذ هذا السلاح الرهيب الذى لم يكن هناك إنسان فى العالم يتخيل بشاعته إلا العلماء القائمين عليه

فكان رد أوبنهايمر أنه قال ( لقد تقيأت )

وعلى حد تعبير الدكتور المسيري رحمه الله يقول عن إجابته تلك , أن أوبنهايمر أصدر حكما أخلاقيا على نفسه

كما انكشف أمام المواطنين العاديين حقيقة أخرى حملتها أحداث الحادى عشر من سبتمبر كانت هى الطريق الذهبي الذى جعل هؤلاء المواطنين يسارعون للإسلام رغم أنه فى أكثر عهوده ضعفا , وجعلتهم يتبرءون داخليا من انتمائهم للجنس الغربي وقياداته التى لم تتلاعب فقط بمصائر شعوب الدول الأخرى , بل تلاعبت ـ وفقا لسياسة المصالح ـ بمصائر عشرات الألوف من مواطنيها الغربيين أنفسهم

فمع ظهور العديد من التحقيقات المكتوبة والمصورة عن حادثة سبتمبر وانكشاف الضلوع الأمريكى فيها بما لا يدع مجالا للشك , بلغت نسبة الأمريكيين الذين يثقون أن إدارة بوش كانت متواطئة فى تلك العملية إما بالمشاركة المباشرة وإما بالعلم والسكوت , لاستغلال الحادثة لتحقيق مصالحها السياسية , أصبحت نسبتهم 65 % وكان من أهم المعالجات التى ظهرت لأحداث سبتمبر ما نشره الكاتب الفرنسي تيري ميسان بعنوان( الخدعة الرهيبة )

وكذلك الفيلم الوثائقي الذى أحدث إنقلابا ( التغيير غير المحكم ـ loose of change )

وفى حرب الخليج الثانية ( عاصفة الصحراء ) ,

ظهرت اعترافات مذهلة لبعض قادة الكتائب من السلاح الطبي الأمريكى أفادت بأن الأمريكيين استخدموا طلقات مدافع وقذائف من مكونات اليورانيوم المخضب وذلك للتغلب على التحصينات الأسمنتية , فصارت تلك القذائف أشبه ما يكون بوحدات نووية مصغرة لها تأثير محدود فى منطقة الإصابة من الناحية التدميرية ,

لكن تأثيرها على البيئة لا ينقص ذرة واحدة

وهو الأمر الذى أدى لإصابة الجنود الأمريكيين بالسرطان بنسبة كاسحة , وهؤلاء الجنود استخدمتهم إدارة بوش الأب لتجربة هذا السلاح الجديد دون أن تبالى بما يصيبهم

وتلوثت منطقة الخليج بتلك الآثار لا سيما فى العراق وأيضا بقية دول الخليج العربي , وكان هذا هو السر وراء انتشار موجة الأمراض السرطانية فى المنطقة طبقا لما كشفته قناة الجزيرة فى حلقة خاصة وثائقية عن تلك الأسلحة استضافت فيها أصحاب الاعترافات من قادة الوحدات الطبية الأمريكية المستقيلين

ناهيك عن انكشاف النيات العنصرية علنا عندما تم تسمية هجمات العسكرية الأمريكية باسم ( المجد للعذراء ! ) وقبلها فى حرب العراق الأولى كان الجنود الأمريكيون يكتبون على صواريخهم قبل إطلاقها على القوات العراقية

( نادوا على الله .. فإن لم يستجب لكم فنادوا على شوارتزكوبف )

متهكمين على العقيدة الإسلامية وعلى شوارتزكوبف وزير الخارجية السوفياتى الذى انهارت بلاده قبيل حرب العراق وانفراد الولايات المتحدة بمقدرات العالم

هذه فقط بعض النماذج والأمثلة وما خفي كان أعظم !

وعنصرية الغرب ضد العالم الإسلامى عنصرية مقيتة غير متصورة تنفي فى وضوح كل إدعاءات الحرية والمساوة التى يتشدقون بها لا سيما فى نظرة الغرب للعالم الإسلامى ومواطنيه على أنهم مواطنين من الدرجة العاشرة !

بينما العكس مع اليهود مثلا , رغم أن اليهود بتاريخهم المعروف تسببوا فى كوارث لدول أوربا طيلة عهدهم بها وكانوا دائما أبدا مصدر فساد وإفساد

ورغم هذا

فمسألة اليهود خطا أحمر ضد أى انتقاد ـ ولا عزاء لأصحاب دعاوى الحرية هنا حيث تمارس الضغوط بشتى صورها من الإغراء المادى وحتى التصفية الجسدية ـ , توضح لنا حقيقة ساطعة وهى أن ما يدعيه الغرب من الحضارة والحرية , إنما هى عبارة عن أفكار معلبة , وإلا ما مارسوا القهر الفكرى بأبشع وسائله ضد أى مفكر تجرأ على نبش قبور الأسرار فى أى مجال , وكان آخر هؤلاء روجيه جارودى ,

فعنصرية الغرب فى عدائه للإسلام لا ينكرها إلا العميان والحملات الموجهة من الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن هدفها اقتصادى وحسب ـ إذ أنها بطبيعة الحال مسيطرة علي مراكز النفط دون حاجة لبذل جهد عسكري ـ ولكن الهدف الأسمى ضرب الإسلام بأى وجه وإنهاء الأمل فى خروج قوة تحرر الشعوب الإسلامية من ضعفها وتعيد لها ذاكرتها المفقودة ,

على حد تعبير هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى أثناء حرب أكتوبر عندما قال عن تجربة الحرب التى افتتحها الجنود بصيحة ( الله أكبر ) .. إن هذا ينبغي ألا يتكرر ثانية أبدا

وهم يعلمون علم اليقين أن التفاف المسلمين على عقيدة التوحيد معناه ببساطة عودة العملاق الإسلامى مرة أخرى إلى النهوض ولهذا كانت حربهم الأخيرة حربا للغزو الفكرى بعد أن تمكنوا خلال سنوات الإحتلال للأقطار العربية من غرز الثقافات الغربية ومذاهبها الضحلة لتفتك بصحيح الدين فى نفوس الناس وحاربوا التعليم الدينى حربا لا هوادة فيها , واستغلوا وجود عملائهم على مقاعد الحكم لكى يضربوا الإسلام من داخله وصار الحكام منذ منتصف القرن الماضي أشبه بوكلاء معتمدين للسياسة الغربية فى محاربتهم لأى صحوة دينية أو حضارية ..

ولولا نهوض المفكرين والعلماء المسلمين للرد ومحاولة استبقاء جذوة العقيدة فى النفوس لكان الإنهيار شاملا وكاملا ..

واليوم فى ظل تلك النهضة الثورية التى تبحث عن الإصلاح ينبغي لنا أن نعلم أن مواجهة العداء فى الداخل أكبر من مواجهته فى الخارج , ويبدو هذا متمثلا فى ضرورة التخلص من كافة الشراذم الفكرية التى استفادت من سلطات الأنظمة البائدة فى تحقيق الأهداف الغربية , وإعادة الفكر والتنوير الإسلامى وبسط سماحته على عقيدة التوحيد وبيان حقيقة تاريخه بعد التشويه الذى استمر لنصف قرن ..

فالثورة فى مصر يجب أن تتجه إتجاها ثوريا فى مجال الفكر والتعليم بعد أن أصبح التعليم بكافة مراحله خرابا ما بعده خراب , بعد أن أصبحت السياسة الأمريكية صاحبة الإملاء الحقيقي على مناهج التعليم تحت رعاية حسنى مبارك وأضرابه فى المنطقة ,

والأمل كل الأمل فى علماء الأزهر ومفكرى الإسلام المستقلين بعيدا عن مؤسسة شيخ الأزهر والمفتى الرسمى الذى ظلوا فى أماكنهم بعد الثورة دون خجل أو حياء رغم أنهم كانوا أكبر رموز التغييب بموافقتهم وتعضيدهم لحكم مبارك وتسخيرهم الدين لخدمة نظامه ومواقفهم مسجلة لن ينساها التاريخ وينبغي ألا ننساها نحن ..

فالأزهر تلك المؤسسة العملاقة لا يمثلها شيخ الأزهر بل تمثله جبهة علماء الأزهر التى تمت محاربتها طيلة العصور السابقة واضطهاد علمائها وتهميش دورهم الفقهى الواسع وعلمهم الغزير ومشاريعهم التربوية التى ساهمت فى تأسيس الحضارة الإسلامية عبر القرون ,

الهوامش

[1] ـ صراع المصالح فى وادى الرافدين ـ أحمد فهمى ـ دار التبيان
 
رد: تعلم كيفية الثبات فى زمن المتغيرات

عدم قابلية المجتمع المصري للعلمانية

الجبن المعنوى الذى أشرنا إليه فى دعاوى العلمانين العرب

فيتمثل فى أنهم أجبن من الملحدين فالملحد يعلن صراحة أنه لا يؤمن بإله مشرع .. بينما هم يعيشون فى مجتمعات إسلامية لا يستطيعون معها إعلان هذا وإلا عانوا من الإزدراء ولهذا حاولوا أن يعرّبوا العلمانية وفشلوا بالطبع نتيجة للتضارب العنيف بينها وبين الشريعة الإسلامية والفطرة الطبيعية لأى مجتمع يدين بها

فالسؤال المنطقي للعلمانيين الذين يتشدقون بأنهم ليسوا ضد الدين وليسوا ضد التشريع الإسلامى ..

هل آمنتم بالله على أنه الخالق الرازق وأنكرتم عليه أنه الحكم العدل ؟!

وكيف نقول بلا إله إلا الله ثم نطلب أن يكون لنا تشريعنا الخاص بغض النظر عن قول الشرع فيه ؟!

وماذا نفعل فى قول الله تعالى

[وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا] {الأحزاب:36}

وماذا نفعل فى قوله تعالى

[وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] {الذاريات:56}

وكيف تقولون بلا إله إلا الله ثم تطلبون علانية ألا تقام حدود الله قصاصا ولا يتم تنفيذ تحريم ما حرم الله من الفساد والإفساد والربا وضوابط مشاركة المرأة للمجتمع ومكانها من التشريع فى الشهادة والأحكام التوريث ؟!

وليتهم طالبوا مثلا وبشيئ من الحياء ألا يتم تطبيق الحدود لأن ظروف المجتمع لا تسمح مثلا , وليت أنهم نادوا مثلما نادى علماء المسلمين وفقهاءه بضرورة توافر ضوابط تطبيق الحدود قبل تطبيقها الفعلى وهم أمر شرعي لا غبار فيه , إذ أن حد السرقة مثلا وحد الزنا لا يقام فى ظل غياب العدالة الإجتماعية أو فى ظل قهر الفضيلة ومحاربتها على النحو الذى كان عليه النظام السابق

بل إنهم طالبوا بإسقاطها على إعتبار أنها فقه يحكم القرن الثالث الهجرى ولا يصلح لعصر الإنفتاح

وكأنى بهم يعتقدون أن تلك الأحكام من بنات أفكار الفقهاء , أو أن شرع الله تعالى الذى وضعه خالق الخلق وهو أدرى الناس بخلقه , اعتبروه أمرا قابلا للتطوير حسب خطوط الموضة !

وبشأن الفقهاء أوقعونا ضحكا من مآخذهم عليهم إذ يتهمونهم بالتدخل فيما لا يخصهم من علوم عندما يبدى أى مفتى رأيه بشأن يخص المجتمع وفى نفس الوقت لا يستحوا أن يتحدثوا فى أمور الفقه وكأنها مجال متاح للعامة ويتحدثون فيها بلا حياء وهم أجهل من دابة فى تلك الأمور ,

ولهذا يتهربون دائما أبدا من معادلة منطقية بسيطة ,

وهى أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة فتحا باب الإجتهاد والتطوير فى الفروع , ولكنهما جزما بثبوت الأصول والفرائض والحدود , وشرعها الله لنا كمبادئ غير قابلة للنقض وسمى منكرها أو متجاوزها جحودا بالكافر المارق عن الدين ,

الله عز وجل هو من قال ذلك وحكم به وليس نحن الذين سمينا هذا بالكفر والزندقة ,

والعلمانيون يقولون أنهم يؤمنون بالخالق عز وجل ,

فإن كان كلامهم صادقا فكيف يتناسب مع إنكار شريعته وطلب محوها تماما ؟!

وإن كانوا غير ذلك فليعنوها صراحة أنهم كافرون به ملحدون عنه , وليروا رد فعل المجتمع عليهم إن كان يقبل هذا الكلام أم يرفضه وفق قواعد الديمقراطية التى ينادون بها !

الديمقراطية الكاذبة التى أثبت العلمانيون أنها مصطنعة لا أصل لها عندما يرفضون نتائج الأغلبية وحكمها ويصرون على اعتبار أنفسهم أنبياء جدد وأوصياء على المجتمع الذى يلفظهم

وقد حاولوا الدخول من بوابة مغلقة عندما قالوا أن العلمانية هى الحل للصراعات الدينية وهذا حل عبقري يكشف مدى براعة العلمانيين الذين يرون أن الحل الوحيد لحوادث السيارات أن نلغي السيارات .. والحل الوحيد لكوارث الطائرات أن نلغي الطائرات ؟! وبالمثل الحل الوحيد للتيارات المتطرفة أن نلغي الدين !!

فبدلا من أن نفسح المجال لعلماء الشريعة كى يحاربوا التطرف بكافة أشكاله بالحجة والدليل , يطالبوننا بأن نرفض الدين فى مجمله , هكذا بخفة عقل ليس لها مثيل

وبالطبع أوقعتهم هذه التناقضات فى حرج بالغ لم يستسيغوا معه هزيمتهم الساحقة التى أفرزتها صناديق الإنتخابات فى مصر وتركيا والجزائر وفلسطين والكويت عندما انتصر التيار الإسلامى بشكل ساحق ينم عن أغلبية رائدة بالرغم من القمع الوحشي لسائر أنواع التيارات الإسلامية وحملات التشويه من الداخل والخارج بل وفى إعلام الدول الرسمى وفى ظل غياب تام للإعلام المعبر عن التيار الإسلامى ورغم كل هذا فالمجتمع أعلن أنه مع خيار الدين

وآخر الأعاجيب هى أن الغرب ـ معقل العلمانية ـ أعلن أنها بالتطبيق المباشر أثبتت فشلها أما العلمانيون العرب فلا زالوا مثل إخوانهم من الماركسيين ينادون بأن الخطأ ليس فى النظرية ولكن فى التطبيق

وهى كلمة حق أريد بها باطل لأن النظرية التى تفشل فى ميدانها الأصلي وفى سائر تجاربها هى نظرية فاشلة قطعا

بينما النظرية التى أثبتت نجاحا كاملا ومبهرا على سائر المستويات وأسس حضارة لا تغيب عنها الشمس لهى النظرية التى ينبغي أن ندرك أنها الحق الكامل .. لأنها ليست من وضع البشر بل من وضع خالق البشر

ولو تأملنا ببساطة شديدة كيف كان حال عالمنا العربي فى ظل الإسلام الصحيح وكيف أصبحنا نحن فى ظل التخلى عنه لما كان لنا نجادل كثير جدال مع هؤلاء المرضي النفسيين

فالمعادلة بسيطة الإستيعاب لمن أراد الحق .. فلينظر كيف كنا مع الإسلام .. وكيف أصبحنا مع العلمانيين وتطبيقاتهم

والعلمانيون لا يدركون أن الشعب المصري فى هذه الأرض لا يمكن بأى حال من الأحوال أن يعيش بلا عقيدة أو يستبدل بها مذهبا إنسانيا صرفا , فعبادة الله بعقيدة التوحيد فى قلب وعقل المجتمع منذ آلاف السنين فى هذه البقعة المميزة من الأرض ..

وهى فى قلب وعقل الإنسان المصري البسيط لا يفهم غيره ولا يعمل إلا بها , والشريعة والعبادة دوما عنده هى قرينة العمل الحياتى التقليدى , وفقا ومصداقا للآية الكريمة


فجاء العمل والجد والإجتهاد وإعمار الدنيا فى صحبة العبادة والذكر وحسن التوكل على الله تعالى

والشعب المصري تغلغلت داخل فطرته عقيدة التوحيد منذ عصر القرون الأولى ولهذا قلنا أن العلمانية لن تجد لها سوقا مهما فعلت ,

ففي الحضارة الفرعونية المغرقة فى القدم كان التوحيد والإهتمام بالحياة الآخرة أساس اعتقاد العامة المصريين , وما يقال عن أنهم كانوا فى فترة من الفترات عبدة للأوثان قول مردود وغير صحيح , إذ أن الحضارة الفرعونية كانت قائمة على التوحيد ولم يشذ منها إلا طرفا من بعض حكامهم , بينما ظل العامة على عهد التوحيد منذ دعوة إدريس عليه السلام , وهذا أمر طبيعى فلا يوجد وثنى إطلاقا يمكن أن يهتم بالحياة بعد الموت , بينما الفراعنة كان شغلهم الشاغل قضية الحساب والعقاب والثواب الأخروى وهو ما يبدو صريحا فى معابدهم ومقابرهم التى حفلت بعشرات الأدلة على إيمانهم بالتوحيد والبعث بعد الموت

ولو أننا ألقينا نظرة على كتاب " الموتى " وهو أقدم كتاب فرعونى تمت ترجمته وفك رموزه ليتضح أن الحضارة المصرية قامت على أساس التوحيد وذلك بسبب الآتى ...

أولا .. كلمة " نفر " والتى وجدها الأثريون تصف 2800 تمثال لشخصيات متعددة لا تعنى كلمة " إله " بل ترجمتها الحرفية " اليد القوية " أى أنها صفة وليست مسمى الهي .. ومن ثم يسقط الإدعاء تماما بأن الفراعنة كانوا يؤمنون بتعدد الآلهة أو يعبدون الأوثان لأن هذه الشخصيات الممثلة فى حفرياتهم ونقوشهم هى رموز أنبيائهم وعظمائهم

وتتجلى الإثارة الحقيقية فى الصفات التعريفية المكتوبة إلى جوار تماثيل هذه الآلهة ولفتت نظر العديدين من الباحثين لقوة الربط الحادث بالأنبياء والمرسلين ..

فهناك " أتوم " والتعريف به هو أنه أول بشري نزل من السماء وأبو الحياة على الأرض وهو يطابق اسم آدم عليه السلام

وهناك " أوزوريس " ووصفه يقول بأنه الذى علم الناس الكتابة والحياكة وسبل التسجيل وهو يطابق اسم وسيرة إدريس عليه السلام الذى عاش بمصر وترك صحائفه ودعوته

وهناك " نوه " ووصفه بأنه الذى أنقذ البشرية من الغرق وهو يطابق اسم وقصة سيدنا نوح عليه السلام

والأسماء والأوصاف شديدة الوضوح كما نرى

ثانيا .. وهو الدليل القاطع على التوحيد لدى الفراعنة .. ما نقلته نصوص كتاب الموتى حيث قالت إحدى صحائفه بالحرف

" أنت الأول قبل كل شيئ وأنت الآخر وليس بعدك شيئ "

" قال الله خلقت كل شيئ وحدى وليس بجوارى أحد "

كما يُعرف كتاب الموتى المسلات أنها إشارة التوحيد وهو ما يتضح من إشارتها الدائمة للسماء .. فضلا على أخناتون الذى يعد الملك الفرعونى الوحيد الذى نادى بالتوحيد من بين الملوك ووجوده الغامض فى قلب التاريخ الفرعونى لا يمكن قبوله على أنه كان مصادفة ـ على حد قول د. مصطفي محمود "[1]"

بل من المؤكد أنه جاء معبرا عن أصل شعبي حاربه الكهنة من قديم الزمن وسعوا فيه ومعهم الملوك لعبادة تماثيل الأنبياء والصالحين على النحو المعروف فى سائر الحضارات وتكرر فى الجزيرة العربية كما تكرر فى الحضارات الصينية والهندية مع بوذا وكونفشيوس وهم من أهل التوحيد قبل الميلاد بثمانمائة عام وتوارثتهم الحضارات وعبدوهم فى النهاية

يضاف إلى ذلك أن الاهتمام الفرعونى بحياة ما بعد الموت يصل حدا لا يمكن وجوده فى حضارة وثنية على الإطلاق لاختلاف المبادئ نهائيا بين الأسلوبين كما أن الفراعنة هم الحضارة الوحيدة قبل التاريخ التى آمنت بالبعث دون تحديد لرسول أتى إليها أو أحد الأنبياء فيما عدا إدريس وعيسي عليهما السلام

ويبدو الأمر أكثر وضوحا عندما نتأمل التحقيق القرآنى لقصة فرعون فى قوله تعالى

" وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه "

وهو التعبير القاطع عن وجود الإيمان داخل الشعب وخروج الفئة الضالة بسبب أهواء الحكم وحصرها فى الكهنة والملوك وهو ما أكده أيضا موقف السحرة الذين واجهوا موسي عليه السلام فآمنوا به ورفضوا التراجع أمام بطش فرعون الذى مزق أجسادهم وألقاها فى نقاط مختلفة من صعيد مصر وكان هؤلاء السحرة هم " أسيوط ـ إسنا ـ أرمنت " ولا زالت البقاع التى ألقيت فيها تلك الجثث تحمل أسماء هؤلاء السحرة حيث تعد أسيوط قلب محافظات الصعيد واسنا و أرمنت مدينتين متجاورتين تقعان جنوب الأقصر بأربعين كيلومترا تقريبا

هذا بشأن دعوة إدريس والعهد الفرعونى الأول ,

واستمر العامة فى مصر يسلمون بعقيدة التوحيد ويناصرون دعوات كافة الأنبياء الذين وجدوا على أرضهم مثل موقفهم من موسي عليه السلام حيث أعطى المصريون ذهبهم كله لبنى إسرائيل قبل خروجهم وكان عطاؤهم طواعية وليس كما قال بعض المفسرين أنه كان إخراجا بالاحتيال لأن عدد بنى إسرائيل بلغ نحو ثلاثمائة ألف شخص من المستحيل أن يذهبوا لجيرانهم المصريين فى نفس الوقت ليطلبوا حليهم على سبيل الاقتراض لفترة وإعادتها لأن هذا كان كفيلا بإيضاح نيتهم فضلا على أن العدد الهائل لا يسمح بالخروج تسللا بل كان خروجا صريحا ومن ثم تبعهم فرعون وحاشيته فقط وهم الذين خرجوا معه

أما الذهب المسروق فهو الذهب الذى سرقه قارون عندما كلفه موسي عليه السلام بالعودة إلى العاصمة لتنصيب ملكا يختاره الشعب المصري لضبط الأمر بعد هلاك فرعون فعاد قارون على رأس جيش ونفذ الأمر واحتال لنفسه فاستولى على بعض كنوز فرعون المخبأة فى سراديب قصره

وآخر نقطة تخص هذا الأمر هى أن جميع الأمم السالفة التى طغت وبغت أرسل الله عز وجل إليها ما قضي عليها نهائيا من على وجه الأرض مثل عاد وثمود وإرم والنمروذ وقوم لوط وأصحاب الأيكة وغيرهم ..

بينما ظلت الحضارة المصرية بشعبها بمنأى عن أى عقاب الهي عام فى مطلق تاريخها واقتصر عقاب الغرق وغيره على فرعون وحاشيته فقط وهذا مما يؤكد على استمرار التوحيد فى المصرين منذ قدوم إدريس عليه السلام ..

والبدايات المتشابهة تؤدى للنهايات المتشابهة فكما استقبل المصريون دعوة إدريس وموسي عليهما السلام استقبلوا المسيحية بالبشر ودافعوا عنها وصارت الكنيسة المصرية هى المعبرة عن المسيحية لكافة شعوب المنطقة ,

وكذلك عندما جاء عمرو بن العاص وعلى أبواب سيناء استقبلته قبائل البدو بالترحاب وانضمت جيوشهم لجيشه وقادهم عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وعلمهم الإسلام لينطلقوا مخلصين مصر من يد الرومان لتنشأ الحضارة الإسلامية بمصر بتأيد كاسح من جموع القبط المصريين

ثم هاجر العرب إلى مصر وتوطنوا فيها كما فى سائر بلاد الإسلام وأصبحت مصر إشعاعا للحضارة الإسلامية منذ ذلك التاريخ , وامتلأت آفاق الفكر باجتهادات علمائها من الليث بن سعد حتى بن حجر العسقلانى والسيوطى والسخاوى وقام الفكر الإسلامى فى مصر جنبا إلى جنب مع العلوم التجريبية التى صارت مقياسا لتقدم شعوب المنطقة ,

وأصبحت مصر والشام هما المركز الحربي المتميز المدافع ضد هجمات الصليبيين والمغول , وكانت مصر هى التى أحيت الخلافة بعد سقوط العباسيين إثر اجتياح المغول وتمكن الأزهر ـ الذى أسسه الشيعة الإسماعيلية ليكون معهدا لهم ـ تمكن من ترسيخ علوم السنة وانقلب على الأفكار الشيعية المتطرفة وأصبح قبلة العالم الإسلامى ومنارة حضارتها بالتفاف العلماء والعامة حول عقيدة واحدة متحدة

ولم تقم مصر أو تحارب أو تثور فى تاريخها الإسلامى إلا دفاعا عن بيضة الدين , وحماية للإسلام والمسلمين منذ اشتعال الفتنة الكبري ومرورا بالحملات الصليبية والمغولية ووصولا إلى قهر الحملة الفرنسية بالثورات المتتابعة ,

وكان المصريون هم الذين قبلوا الخلافة العثمانية لاتحاد العقيدة ورفضوا الإحتلال الغربي رغم كل الإغراءات والمظاهر التى اتخذها نابليون بتجميل صورته أمام المسلمين ومحاولاته المستميتة لاستغلال ظلم المماليك والآثار السلبية لحكم الخلافة العثمانية بأيامها الأخيرة "[2]"

وهو ما أكد بأن المصريين يحتملون ظلم الحاكم المسلم ويعملون على تقويمه بالثورات الداخلية والإحتجاجات , ولكنهم لا يقبلون حكم المحتل الغاصب مهما بدا لهم من مزاياه الظاهرية

فكيف يمكن أن نتصور أن تجد العلمانية لها موطنا وداعما فى بلد يمثل الدين فيه أساس الحياة وشريان العمل ؟!


الهوامش :

[1]ـ لغز الهرم الأكبر ـ د. مصطفي محمود ـ مجموعة الحلقات العلمية لبرنامج العلم والإيمان

[2]ــ تطور الحركة القومية ـ جزءان ـ عبد الرحمن الرافعى ـ دار المعارف
 
رد: تعلم كيفية الثبات فى زمن المتغيرات

أسطورة الدولة الدينية

يروج العلمانيون كثيرا لأساطير تخوف من تطبيق الشريعة الإسلامية أو اعتمادها كمصدر أساسي للتشريع , وينزلق وراءهم الليبراليون الذين يقدمون أنفسهم على جناح الإعتدال وإن كان الهدف بين الفئتين واحدا ..

والترويج لهذه الأساطير استمرار لسياسة النظام السابق التى نفذها بأجندة أمريكية لفصل الدين الإسلامى عن أى واقع للحياة واستخدام فزاعة الإرهاب والإقصاء والتخويف ودعاوى التخلف ,

وهذا الاستمرار لسياسة النظام السابق يكشف لنا فى وضوح ـ كما سبق القول ـ أن هذا الأمر منظم وممنهج , ولعل ما كشفه عبدالقادر شهيب رئيس تحرير المصور فى كتابه ( الساعات الأخيرة ) أعطى لنا بالصدفة البحتة تفسيرا منطقيا لمن يقف خلف هذه الدعاوى وخلف هذه السياسة الكريهة ,

فقد نقل لنا عبد القادر شهيب فى كتابه ما نشرته المؤسسات الأمريكية تحت عنوان ( رجال أمريكا فى مصر ) كشفت فيه عن عشرات الهيئات والمؤسسات المدنية والشخصيات الإعلامية التى تعتبرها الولايات المتحدة منظمات تقع تحت رعايتها وتروج لأفكارها التقدمية فى الشأن السياسي والذى كان أهم بنوده العمل على تحجيم الوعى الدينى ..

وإلى جانب هؤلاء المستأجرين يوجد بالطبع المفكرين والصحفيين الذين ينتهجون نفس النهج ولكن عن اقتناع كامل وعداء فطرى للأساس الدينى وينكشف من خلال محاربة الدين نفسه فى شكل محاربة الإخوان والسلفيين والمبالغة العنيفة فى إظهار عيوبهم والتحذير الرهيب من إمكانية وصولهم إلى مقعد الحكم فى مصر ..

وهذا كله من التضليل المنظم ..

فالدولة الدينية لا يعرفها الإسلام مطلقا , وأحد الثوابت التى أسسها الإسلام كان إبطال الكهنوت والرهبنة بنصوص صريحة فى القرآن والسنة ,

ولأن العلمانيون يعتمدون اعتمادا كليا على خلط الأوراق , فكان من الطبيعى أن يدعوا على الإسلام ما ليس فيه كوسيلة لمحاربته والتخويف وإثارة الفزع منه , ولم يكونوا أمناء فى آرائهم رغم الطنطنة التى يروجون لها عن حرية التعبير وقبول الآخر لأنهم حاربوا معركتهم حربا غير شريفة عن طريق تزوير المصادر والإفتئات على التاريخ والعقيدة ..

ولكى ندرك حجم الخديعة العلمانية تعالوا بنا ـ بقواعد البحث العلمى ـ نتعرف على ما هية الدولة الدينية وطبيعتها ثم نقارن ذلك كله بالشريعة الإسلامية ونرى ونحكم

الدولة الدينية هى الدولة التى يخضع نظامها السياسي لما يسمى برجال الدين ,وتصبح المؤسسة الدينية هى بذاتها المؤسسة الحاكمة أو الرقيبة على الحكم والتى تملك ما يمكن أن نسميه حق الفيتو ولا تملك السلطة التنفيذية تعديلا على أحكامها وتدخلاتها فى كافة مناحى الحياة ,

ومعنى هذا ببساطة أن رجال الدين يقومون مقام الإله وليس حتى مجرد النبي أو الرسول ـ بل مقام الإله المشرع فتصدر عنهم القوانين والتشريعات دون أى استناد لدستور ثابت أو واضح حيث تتغير القوانين وفقا لأهوائهم ووفق لما يصدرونه من أحكام ,

وقد ظهرت الدولة الدينية فى نموذجها الأول فى نظرية قانونية قديمة اسمها ( الحكم بمقتضي الحق الإلهى ) وفيها يقوم الكهنة بتنصيب الحاكم الذى يعتبر وكيلا أو ابنا للإله ويحكم بالتشاور مع مؤسسته الدينية بلا أدنى رقابة أو اعتراض أو حقوق من الشعب أو عامته أو حتى خاصته من العلماء ..

وقد سادت هذه النظرية فى أوربا ردحا طويلا من الزمن , وتطورت إلى الأسلوب الكنسي الذى تسلطت فيه الكنيسة على شئون الحكم فى العصور الوسطى وأصبح الرهبان والقساوسة كمن قبلهم من أحبار اليهود يقومون بالوكالة عن السماء فى التشريعات دون التفات إلى الشريعة السماوية التى ينتمون ظاهرا إليها وهى المسيحية أو اليهودية

ووصلت الدرجة بالكنيسة أنها نفذت أحكام الهرطقة على كبار علماء عصرها مثل جاليليو الذى خالف قول الكنسيين فى علوم الفلك , كما قامت الكنيسة بالسيطرة على العامة بصكوك الغفران حيث منحت الكنيسة حق العفو الإلهى لإرادة الرهبان وقام معظم القساوسة فى ذلك العصر بالتجارة بصكوك الغفران وبيعها للمواطنين

ولم تقتصر نظرية الحق الإلهى والدولة الدينية على تحريف الأديان السماوية فقط , بل إنها كانت أوضح ظهورا فى العقائد الأرضية الوثنية مثل المجوسية ( عبدة النار ) حيث أرسي الإمبراطور الفارسي ورجل الدين ساسان دعائم أول دينية فى فارس وكان هو نفسه كاهن المعبد الأكبر واستغل مكانة ابنه قائد الجيش لينقلب على الإمبراطور وينصب نفسه مكانه , ومنذ ذلك الحين تأسس فى فارس ما يشبه النظرية القائل بوجوب توافر الحكم والدين فى بيت واحد معصوم عن الخطأ وموكل من الله ..

واستمر الحال فى فارس بهذه الطريقة بحكم أتوقراطى مطلق حتى جاء الإسلام وأبطل العقيدة الفارسية التى نزلت إلى تحت الأرض بتنظيمات سرية ظهرت فيما بعد تحت اسم ( التشيع لآل البيت ) وهم بهذه النظرية نقلوا الطبائع الفارسية وصبغوها بصبغة الإسلام وادعوا أن النبوة والرسالة والعصمة متصلة فى بيت واحد وهو بيت النبي عليه الصلاة والسلام وانتخبوا لهم أئمة اثنا عشر هم وكلاء الله على الأرض وهم فى نفس الوقت الحكام الشرعيون لأمة الإسلام وأى حاكم آخر أتى بالشورى أو الإنتخاب منذ عهد الخلافة الراشدة فخلافته باطلة !!

وتأسست فى إيران دولة الشيعة الإثناعشرية على هذه النظرية التى ظهرت وازدهرت أكثر بظهور الخمينى عام 1979 بعد نجاح ثورته على الشاه , وجاء الخمينى بتطبيق عملى لنظرية الوكالة الإلهية فجعل العلماء ( مراجع ورجال الدين ) يمتلكون من السلطات ما يفوق أى حكومة ولا راد لأمرهم مهما كان كما أنه نصب نفسه خليفة للإمام الغائب ومتحدثا باسمه وبالطبع اكتسب حق التشريع للأمة والتحليل والتحريم أيضا "[1]"

نخلص من هذا العرض السريع إلى أن الدولة الدينية مفهومها يتمثل فى وجود ما يسمى برجال الدين يمتلكون عصمة نسبية أو مطلقة تخول لهم وضع التشريع للأمة ويحكمون ويتدخلون فى الحكم بمقتضي حق إلهى مزعوم لا يقبل النقض من أى جهة ولا يملك الشعب أى حق فى تقرير أمر إلا بمشورة وإرادة رجال الدين ..

وهو كما أسلفنا أمر لم يحدث ولم يقم إلا فى الإمبراطوريات القديمة والديانات الوثنية أو فى عصر حكم الكنيسة فى أوربا ـ وهو العصر الذى قامت ثورة العلمانية عليه فى أواخر القرن الثامن عشر ـ وكذلك فى الفرق الشيعية المتطرفة التى هى بإجماع علماء المسلمين خارجة عن صحيح العقيدة الإسلامية الثابتة بالقرآن والسنة

وبلا شك أن الدولة الدينية بهذا المفهوم هى حكم أوتوقراطى فردى لا يخضع لأى شريعة أو قانون أو عقل , باعتباره حكما متسلطا لا تقوم به حضارة ولا ينهض به شعب , وبسبب تفشي مفاهيم الدولة الدينية فى أوربا فى عصور الظلام قامت لأجل ذلك ثورة مضادة كفرت بكل القيم الدينية لأن عامة الشعوب الأوربية قاست الويلات من تسلط رجال الدين فنبذوا الدين لأجل ذلك ورفضوه رفضا تاما وحرروا أنفسهم منه بالمذاهب العلمانية والإشتراكية وغيرها

والسؤال الآن ..

ما شأن هذا كله بالإسلام ؟!

وأين هى مفاهيم الدولة الدينية التى أقرها الإسلام أو وقف فى صفها ؟!

إن أصغر مطالع للقرآن والسنة يلتمس فى طول الكتاب وعرضه تأكيدا لمفاهيم تحرير الإنسان المسلم من عبادة الفرد وتسلط الرأى , وقد قامت دعوة الإسلام ضد دعوى الشرك فى قريش وانتقد القرآن الكريم رهبانية النصاري واعتبرها مبتدعة تتسلط على الخلق بغير حق , ووصف أتباعهم بالشرك المطلق

وأول درس يتعلمه المسلم فى طفولته أن لا إله إلا الله محمد رسول الله وأن الحكم كله لله لا يوجد له وكلاء على الأرض , وحتى الأنبياء والرسل يرسلون بالدعوة بالحسنى لا بالإجبار , وهذا منتهى الإعلاء لقيم الحرية الدينية وصيانة حقوق الفرد , وانتشرت فى القرآن الكريم الآيات التى ترفع الحرج عن المؤمنين

وقد خاطب الله عز وجل نبيه قائلا :

( ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين )

وخاطبه قائلا

( ما على الرسول إلا البلاغ )

والعصمة فى الإسلام والحجة بشخص واحد فقط هو النبي عليه الصلاة والسلام ومن عداه فهو بشر يصيب ويخطئ ويتعرض لرقابة المسلمين وتقويمهم إعلاء لكلمة الشورى التى صدح الإسلام منذ أربعة عشر قرنا ..

وكانت أول كلمات خلفاء النبي عليه الصلاة والسلام أبي بكر وعمر هو مناشدة الناس إصلاحهم إن أخطأوا ومعاضدتهم إن أساءوا

بالإضافة إلى أن الإسلام لم يعرف أبدا رجالا للدين بل عرف فقط علماء الشريعة ,

وهم النفر الذين حملوا أمانة الرسالة وأداءها , ولا يوجد لهم فى التشريع الإسلامى أى موضع يقر لهم بحق الحكم أو إجبار الناس على اتباعهم بل يقرر أن الحكم كله لله , والأمر شورى بين المسلمين ليس لاختيار الحاكم فحسب بل لاختيار نظام الحكم الذى يناسب مجتمعهم ويرتضونه حكما لهم ..

ولا يجبرهم على اتباع نظم معينة بل أرسي لهم فقط المبادئ العامة للتشريع وحق الله تعالى فى العبادة وفرائضها وفى رعاية وكفالة المجتمع بعضه لبعض وفى الذود والدفاع عن حدود أرض المسلمين وعن المسلمين أنفسهم وفى رعاية حقوق أهل الذمة وترك حرية العقيدة بلا أدنى مساس وحفظ الكنائس والمعابد وحمايتهم والدفاع عنهم

كما جاء الإسلام لكفالة حقوق المرأة وضمان ذمتها المالية وحقها فى كفالة الأب والزوج والولى , وجعلها دائما فى كفالة ولى الأمر , فضلا على رعاية الإسلام لحقوق الحرية الفردية ومحاربة الرق ـ الذى كان منتشرا بشكل فاحش ـ فتقررت المغفرة والعفو والرضا والثواب الأكبر فى تحرير الرقاب وجعله كفارة لكافة الذنوب , وتقرر في ذلك مبدأ فقهى عبر عنه علماء الأصول وهو ( الفقه يتشوف إلى العتق )

بمعنى أن الله عز وجل وضع لتحرير الرقاب مكانة متميزة فى التشريع حتى يضمن انتهاء الظاهرة تدريجيا من بلاد المسلمين ..

ولم يكتف التشريع الحكيم بذلك , بل قرر معاملة خاصة وقوانين صارمة لمعاملة الأرقاء فنفي عنهم صفة العبودية وحذر النبي عليه الصلاة والسلام من مخاطبة الرقيق بمسمى العبودية واستخدم مكانها ألفاظ الفتيان والفتيات , كما قرر لهم حقوقا على أوليائهم وحرم الإسلام بيع أمهات الأولاد وقرر لهن حق الزوجة وجعل كفالة الأرقاء على أوليائهم كاملة تحت رقابة ولى أمر الخلافة ..

واعتمد الإسلام مبدأ الشورى بين أمة المسلمين فى تقرير مصير الأمة وفى نظام الحكم وجعل على الحكام حقوقا قاطعة تلزمهم بالعدالة وتوعد الظالمين منهم بالعذاب الشديد , كما قرر للأمة مبادئ التراضي بين الحكام والمحكومين على النحو يكفل لولى الأمر الطاعة إلا ما كان فى معصية الله , وجعل الجهر بكلمة الحق أسمى معانى الجهاد ..

وفى النظام الإقتصادى حرر الحرية الفردية والتجارة وشجع عليها وجعل تسعة أعشار الرزق فى التجارة , وفرض الزكاة على كل رأس مال بقدر معلوم وخصصه للكفالة الإجتماعية كما قام بإلزام الدولة أن تتدخل لحفظ حقوق العامة من الإحتكار والربا , فحرمهما تحريما قاطعا وجعل الدولة قائمة على مصادر الطاقة والماء والطعام بقول النبي عليه الصلاة والسلام ( ثلاث للناس جميعا النار والكلأ والماء )

ولم يجعل الإسلام لأى كائن من كان احتكار الحديث أو الحكم بما أنزل الله وجعل القرآن الكريم والسنة المطهرة هى المرجع الدستورى للأمة الذى لا يملك عالم أو حاكم تعديل مبادئه أو الخروج عليها .. ومنح حق الإجتهاد فى الأحكام للعلماء على مدار الزمن وقرر أن الإختلاف رحمة وسع الله بها على خلقه لا يملك غيره أن يضيقها

هذه الحقائق الساطعة لحقيقة الدعوة الإسلامية هى التى استدعت مئات الآلاف سنويا للإنضمام إليه , وقد كان المنضمون للإسلام من الغرب عن قناعة تامة بما يفعلون بعد أن اكتشفوا البون الواسع بين ما يُروج عن الإسلام وبين ما يحتويه القرآن بين دفتيه ,

وكمثال بسيط على مدى التشويه الذى اكتشفه معتنقو الإسلام ما نشرته الصحف خلال شهر رمضان الحالى عن انضمام طبيبة أمريكية وسبع من رفاقها للإسلام لما رأته من احترام لحقوق المرأة وللحريات الإنسانية بشكل يخالف ممارسات بعض المسلمين الذين تعرفت بهم "[2]"

بينما ـ للمفارقة ـ فإن أهم ما يتشبث به العلمانيون فى مهاجمة المسلمين هى إدعاء هضمه لحقوق المرأة !!

فتأملوا شهادة معتنقي الإسلام عن قناعة بعد دراسة حيادية وبين ما يروج له من يدعون الإنتساب له ؟!

باختصار ..

أقام الإسلام نظاما كاملا للدولة المدنية النموذجية التى يتكافل فيها المجتمع ويبلغ قمة الرقي لو أحسن كل فرد دوره فى تطبيق مبادئ الشريعة , والتشريع الإسلامى فى مجالات السياسة والإقتصاد ملئ السمع والبصر فى مؤلفات أكابر الفقهاء كاملة مكملة , وجاء علماء العصر الحديث فصنعوا لها القوالب الحديثة التى تتماشي وروح العصر , وهذه المؤلفات نتحدى بها أى معارض أن يجد بها شبهة تسلط أو احتكار للحرية الفردية أو إضرار بالصالح العام أو شبهة قيام دولة كهنوت كالتى يحذر منها العلمانيون اليوم

وليس ذنبا فى رقبة المسلمين أن بعض من يدعون الحديث باسم الإسلام اختصروا الشريعة فى التنطع والمظهرية وغفلوا عن أعلى قيم التوحيد وهى الحرية وعدالة الحكم ,

والنظر إلى تشريع الإسلام ومقارنته بغيره لا يكون عن طريق محاكمة الإسلام فى شخوص التيارات السلفية أو الإخوانية التى تحترف استغلال الدين لمصالحها , بل يكون الحكم والإلزام بما ألزمنا الله به فى كتابه الكريم وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام

وكما قلنا مرارا ..

إن التيارات العلمانية لا تجرؤ على المصارحة ولهذا تلجأ لرفض الإسلام عن طريق الإدعاء بأن الدين والشريعة من أفكار الفقهاء القديمة التى لا تناسب العصر !! , وكأنى بهم ينظرون للفقهاء على أنهم مخترعو الشريعة لا ناقليها , ولو أنهم اتسموا بشيئ من الشجاعة الواجبة لأعلنوها صراحة بما تختزنه صدورهم من إنكار للدين وقالوا أنهم لا يرون إلزاما لهم من الله بتطبيق شريعته ..

فالحدود والمبادئ الإقتصادية والسياسية ليست من صنع الفقهاء وليست من عند البشر حتى ينزلوها مجال المناقشة والمحاججة والذى يريد أن يرفضها عليه التحلى بالشجاعة فى إعلان قناعته وليقلها صريحة أنه لا يؤمن بتلك الشريعة حتى يري رد الفعل المجتمع الذى له الكلمة فى هذا الشأن وينظرون هل يقبل المجتمع بأفكارهم أم لا .. وهذا هو أساس ما ينادون به من الديمقراطية التى يدعونها


الهوامش :

[1]ـ الخمينى ( كبيرهم الذى علمهم السحر ) ـ محمد جاد الزغبي ـ مكتبة صيد الفوائد

[2]ـ رابط الخبر

 
رد: تعلم كيفية الثبات فى زمن المتغيرات

كيفية تطبيق الشريعة ..

عانت الأفكار الفقهية ـ مثل بقية الفكر وقضاياه ـ من التسطيح الشديد منذ بدء حملة التغريب على العالم الإسلامى واستيراد القوانين الوضعية الفرنسية وجعلها أساسا ومرجعية للحكم خلال فترة الإحتلال البريطانى لمصر ..

وتعاقبت الحرب على القيم الإسلامية عن طريق تحجيم دور الأزهر وتخفيف المناهج الدينية من المدارس وفق مخطط مرسوم أشرف عليه سياسي بريطانى وهو ( دانلوب ) الذى قاد تلك العملية فانهار التعليم العربي واللغة العربية وآدابها والمعارف والعلوم الفقهية وعانى أهلها تضييقا شديدا فى المعيشة فى الوقت الذى تم الإحتفاء فيه باللغات الأجنبية والحضارة الغربية وجعلها أساسا للتعليم الجامعى

وبعد انهيار السطوة البريطانية ومجئ نظام يوليو وما صاحبه من أحداث حتى عصر السادات ,

تم استبدال السلطة البريطانية والغزو الفكرى الذى قامت به بالغزو الفكرى الأمريكى وزاد التسلط أضعافا مضاعفة على مناهج التعليم فى عصر مبارك الذى سمح بمنظمات مشبوهة تقتلع جذور الحضارة الإسلامية عن طريق الندوات والمشاريع ومراكز البحوث التى تهتم أول ما تهتم بالتنظير للغزو الفكرى ..

فضلا على أن التعليم ومناهجه فى مراحله الأساسية بالذات من المرحلة الإبتدائية حتى الثانوية خضع لعملية تصفية منظمة حتى وصلت فى عهد أحمد زكى بدر آخر وزير تعليم فى عهد مبارك إلى إلغاء المناهج الدينية أصلا واستبدالها بما يسمى ( مادة الأخلاق ) هذا بعد حشو مناهج التاريخ واللغة بثقافة مغرضة ومشوهة تهدم الأسس الأصيلة للدين الإسلامى والتى يجب أن يتلقاها الطفل فى مراحل تعليمه الأولى

ثم تقررت اللغات الأجنبية على الصف الأول الإبتدائي بعد أن ظلت زمنا طويلا تبدأ مع المرحلة الإعدادية حتى يتسنى للطفل استيعاب اللغة العربية وآدابها وحفظ ما تيسر من القرآن الكريم وتعلم مبادئ دينه , مما أثر بشكل مباشر على الأجيال التى تعرضت لهذا المسخ وأصبح الدين غائبا عن المعادلة تماما .. ولم يعد للمدرسة أدنى دور فى تعليم الطفل العبادات واللغة والفروض وما شاكلها من المعارف الرئيسية

وما ينطبق على الشريعة واللغة ينصرف أكثر على مناهج التاريخ الإسلامى التى أصبحت من قبيل الثقافة المفقودة إلى حد مفزع

وكل هذا تم تحت أعين وبصر المؤسسة الدينية الرسمية ممثلة فى شيخ الأزهر والمفتى الحالى , والمفتى على جمعة والذى كان أحد أركان النظام السابق لم يستح أن يعلن تأييده لوزير التعليم المخلوع زكى بدر فى تصفية المناهج الدينية من المدارس تحت مسمى ( الحرب على الأفكار الطائفية ) !!

ولم يكن هذا تصرفا مستغربا منه بناء على سابق مواقفه المشينة وآخرها كتابته مقالا بمجلة أمريكية شهيرة يستعدى فيها الإدارة الأمريكية على التيارات السلفية !! وهو التصرف يستحى العلمانيون أنفسهم أن يفعلوا مثله

وبالتالى ..

نحن أمام حالة رهيبة من الفراغ الثقافي والإنتماء إلى الأصول والهوية الإسلامية التى تجذرت فى مصر منذ الفتح الإسلامى ,

ومسألة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ليست بالمسألة السطحية أو السهلة حتى يتم الحديث عنها من كل أحد أو الترويج لأحكام مسبقة عليها أو استخدامها جوازا لمداعبة الجماهير والمتاجرة بها من مجموعات احترفت التجارة بالشعارات الكاذبة ,

فنحن الآن فى المجتمع المصري ـ كما فى كافة المجتمعات الإسلامية تقريبا ـ نعانى بما يسميه فقهاء الإسلام العظام ( حالة شيوع البلوى ) وهى الحالة التى وضع لها الفقهاء ـ إستنادا إلى السنة المطهرة ـ معالجة تختلف عن المعالجة الفقهية المعتادة فى المجتمع ذو الحالة الطبيعية أى فى المجتمع الإسلامى المنظم الذى شهدته دولة الخلافة ,

ولا شك أن حالة المجتمع اليوم ينطبق عليها أحكام شيوع البلوى بعد أن استشري الفساد المنظم والجهل المدقع والإرهاب بين أفراد المجتمع وصارت ثروات البلاد إلى نهب منظم عبر سنين إلى جوار جهل عام كاسح يعصف بأجيال الأمة تحتاج معه هذه الأمة إلى إعادة بعث من جديد لتتشرب المبادئ الإسلامية الصحيحة ,

وتطبيق الشريعة الإسلامية يشمل كافة جوانب الحياة المختلة , والتى يجب معالجة إختلالها أولا قبل الشروع فى التطبيق ,

فمن ناحية الشق الجنائي

فبلا شك أن تطبيق الحدود الجنائية هو من لب الإسلام لكن التشريع الجنائي لم يقتصر فقط على الحدود , واختصار التشريع فى الحدود وحدها ليس بكلام العلم والفقه بل كلام المتاجرين والمهاجمين من ذيول العلمانية لأن الحدود فى الإسلام تخضع لرقابة وشروط صارمة تجعل من تطبيقها بظلم أمر مستحيل تقريبا ..

فالشرع الجنائي الإسلامى أسس للحدود ضوابط فى منتهى الشدة لو توافرت جميعها فلن يكون هناك مجال لأدنى شك فى عدالة التطبيق , خاصة فى ظل تشديد النبي عليه الصلاة والسلام على القضاة فى تلافي الشبهات فى تطبيق الحدود واللجوء للعقوبات التعزيزية حال توافر أى شبهة عدم اقتناع من القاضي بعدالة الحكم

ومن هذه الضوابط حالة المجتمع نفسه , كما فى حد السرقة مثلا , فليس متصورا أن يتم تطبيق حد السرقة وحوالى 40 % من الشعب لا يجد قوت يومه , فى نفس الوقت الذى يجب أن نضع فى اعتبارنا تطور جريمة السرقة والتبديد لظهور مفهوم سرقة المال العام , ومدى عظم هذه الجريمة إلى جوار السرقات العادية مهما بلغت

وهذه كلها مشاكل يتصدى لها العلماء لإيجاد الحلول اللازمة لها فى معرض التمهيد والتأهيل لتطبيق الحدود ,

كذلك انتشار الفساد الأخلاقي المنظم من كافة وسائل الإعلام وإعطائه المشروعية تحت بند الفنون وحرية الإبداع يحتاج لمعالجته تشريعيا أولا قبل الشروع فى تطبيق حد الزنا , مع ملاحظة انحسار الزواج من المجتمع بسبب الأحوال الإقتصادية وهذه كلها أسباب فقهية تحتاج معالجة خاصة عند تطبيق الحدود ,

نخلص من ذلك إلى أن المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية ابتداء هى ليست بالقضية المختصرة فى الحدود الجنائية وحدها , فضلا على ان تطبيق الحدود الجنائية ليس هناك ما يخشي منه مما يروج له العلمانيون نظرا لأن ضوابط وظروف تطبيقها عالجها الشارع الحكيم بشكل يضمن تلاشي احتمالية الظلم أو تطبيقها على برئ

هذا فى الجانب الجنائي ..

وفى الجانب الإقتصادى والذى يحتج العلمانيون فيه بأن النظام الإسلامى يحارب البنوك الربوية بينما البنوك هى أساس الإقتصاد , فهذا القول ـ فضلا على جهله ـ ينم عن سوء نية , فلم يقل أحد بأن المناداة بتطبيق الشريعة الإسلامية تعنى هدم نظام الدولة كله سياسيا وإقتصاديا والإطاحة به والإنتقال من النقيض إلى النقيض دفعة واحدة ..

فكل علماء الإقتصاد الإسلامى الذين وضعوا منهجية اعتماد النظام الإسلامى التجارى قدموا الحلول عبر دراسات مستفيضة تراعى الإنتقال التدريجى فى نظام الدولة ,

ولا ينطبق هذا فقط على الجانب الإقتصادى بل إن حكمة ( التدرج ) هى أساس اعتمدته الشريعة الإسلامية فى كافة أحكامها منذ بدء الدولة , وطالما أن حالة المجتمع الإسلامى اليوم تكاد تتشابه مع الحالة التى كان عليها العالم قبل الإسلام , فلا شك أن التطبيق التدريجى للتشريع هو الحل الأمثل لمواجهة التعديلات المطلوبة ,

وذلك إعمالا للقاعدة الفقهية الأصولية التى تقرر أن شرع الله حيث مصلحة الناس

وبهذا يتقدم الإقتصاد الوطنى بأفضل ما يستطيع فى ظل أحكام الإقتصاد الإسلامى الذى يعتبر التشريع الوحيد الذى ليس عليه أى مطعن فى ظل انهيار الشيوعية فى ديارها وانهيار الرأسمالية فى أقوى دولة فى العالم بعد أن أطاح النظام الربوى القاتل بإقتصاديات تلك الدول وجعلها مهددة بالإفلاس فى الأزمة العالمية الأخيرة , رغم كل الإمكانيات الإقتصادية الهائلة التى تتمتع بها تلك الدول

بالإضافة إلى وجود نظم قانونية فى المجال الإجتماعى لا تحتاج الإنتظار أو التدرج باعتبارها أحكاما مسلما بها منذ زمن وكانت مطبقة تطبيقا كليا قبل أن يتدخل نظام مبارك بتعديلات مشوهة بناء على الضغوط الأمريكية فى هذا الشأن ومن تلك القوانين قوانين الأسرة والمواريث وبعض أحكام قانون المرافعات

هذا مع ضرورة الإنتباه ان تطبيق الشريعة الإسلامية يحتاج معه ـ فى نفس الوقت ـ إصلاحا مجتمعيا كاملا يرد للأمة هويتها المفقودة سواء فى نظم التعليم أو الثقافة العامة

وبهذا فقط يمكن أن نقول أننا بصدد دولة تطبق الشريعة الإسلامية عن عمق وكما أنزلها الله تعالى , لا كما ينادى البعض بقصرها على بعض الشرع دون بعض أو تطبيقها شكليا والدفاع عن وجود المادة الثانية فى الدستور دون النظر إلى تفعيل هذه المادة التى لم نجد لها فائدة فعلية فى كافة القوانين الصادرة بعهد مبارك والتى ضربت بالأحكام الإسلامية عرض الحائط

وتتبقي النقطة الأخيرة التى يتذرع بها من ينادون بتنحية الشريعة الإسلامية ..

وهى نقطة مفتعلة يدرك المنادون بها إدراكا تاما أنها مفتعلة وليس لها أصل فى الواقع المصري ,

وأعنى بها نقطة وجود المسيحيين

والمسيحيون فى مصر لم يعانوا فى ظل تطبيق الشريعة الإسلامية منذ الفتح الإسلامى وحتى بدء العمل بدستور 1882 م , أى منغصات لا فى الحرية الدينية أو العقدية أو ممارسة الحياة الشخصية , والذى يقول بعكس ذلك عليه إثبات ذلك بالحجة والدليل من التاريخ

والتاريخ أمامنا بطوله وعرضه منذ أن أعطى عمر بن الخطاب العهد لأقباط مصر بحرية الدين والعقيدة وعدم التعرض لكنائسهم أو دور عبادتهم بأدنى شيئ , ومعاملتهم معاملة المسلمين فى القوانين والمسئولية الفردية واختصاص أحوالهم الشخصية بشريعتهم دون أدنى منغصات , وهو ما تم تطبيقه فى الواقع الفعلى طيلة القرون التالية على هذه المعاهدة التى تعتبر صفعة على وجه كل من روج لاضطهاد المسيحية فى مصر ..

وهذه أعلى قيم التسامح فى الإسلام , بينما الغرب هو من كان حربا وإرهابا على المسلمين وارتكب بحقهم وبحق مساجدهم المذابح الجماعية التى ينوء بها ضمير البشرية سواء فى عصر محاكم التفتيش أو الإرهاب والتطهير العرقي الذى مورس على يد ميلوسوفيتش فى الصرب والبلقان ..

ولم يتعرض الأقباط فى مصر للإضطهاد إلا فى ظل العلمانية وقوانين العلمانية , ولم تبدأ ما يسمى بالفتنة الطائفية إلا فى ظل نظام السادات الذى ابتدء باستخدام هذه الورقة لتحقيق أغراضه السياسية , وشق وحدة المجتمع ليتسنى استعداء بعضه على بعض مما يكفل السيطرة عليه بسهولة ,

وهو ما استمر فيه نظام مبارك بشكل أكثر فجاجة وفجرا وذلك فى معرض ترويجه للمخاطر التى يتعرض لها الأقباط حتى تصبح ورقة ضغط يستخدمها معهم ومع الولايات المتحدة فى حربه مع الأصوليين والتيار الإسلامى وفى نفس الوقت استخدم نظام مبارك عملاءه فى الجانبين ليؤجج الفتنة برعاية جهاز أمن الدولة مستخدما فى ذلك الإعتداءات المدبرة على الكنائس والمساجد حتى أدخل الروع فى قلوب عامة المسلمين والأقباط لينفرهم عمدا من أى هوية إسلامية , وبالطبع اعتمد على ورقته الأثيرة المتمثلة فى رعايته للفتنة بين الجانبين ومراهنته على جهل الشعوب ونسيانها لتاريخها ..

وليس أدل على ذلك أكثر مما حدث فى حادث كنيسة القديسين الذى ارتكبه النظام السري لحبيب العادلى وزير داخلية مبارك وألقي تبعته على الجماعات السلفية بالإسكندرية وفلسطين !

ولهذا فإن قضية ما يسمى بالفتنة الطائفية يجب العودة فيها للجذور قبل الخوض فى مناقشات عقيمة ..

وعليه فنحن نقول أن الشريعة الإسلامية كفلت للأقباط أكرم معيشة لهم طيلة حياتهم فى فترة ما بعد الإسلام ودليلنا على ذلك كافة كتب تاريخ تلك الفترة التى لا تشرح فقط مدى التسامح والمعاملة الحسنة بين الجانبين بل تشرح مدى التكاتف الهائل بين الأقباط والمسلمين فى مواجهة الإحتلال على مختلف أنواعه ..

ويكفينا للتدليل على هذا موقف الكنيسة المصرية المشهود لها تاريخيا عندما رفضت أن تكون عونا للحملات الصليبية ورفضت دعاوى ملك فرنسا فى ذلك الحين تحت دعواه المجيئ لحماية أصحاب العقيدة المشتركة ..

وانعدام أحداث الفتنة الطائفية فى مصر فى مرحلة ما قبل النظام العلمانى يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن ورقة الفتنة الطائفية إنما هى ورقة مدسوسة نفذتها أجندة الإحتلال البريطانى حينا وتبعتها فى ذلك السياسة الأمريكية لاستخدامها ورقة ضغط على السياسة المصرية , ثم اقتبسها نظام مبارك لنفسه كى يقدمها ورقة اعتماد للإدارة الأمريكية تحمل أدلة الفزع لهم إذا ما فكروا فى استبدال نظامه بنظام آخر ..

وكما قلنا سابقا ..

ها هى نصوص الشريعة الإسلامية قاطعة وواضحة فى الحقوق والواجبات , فأين هو ما يمكن اتهام الشريعة به على أنه من التمييز مع كل تلك الحرية التى كفلها الإسلام لهم , فضلا على تمتعهم بممارساتهم الإقتصادية بلا أدنى معوقات واحتفاظهم بتطبيق شريعتهم فى مجال المعاملات الشخصية ,

وتتبقي مسألة الجزية ..

والجزية هى نظام ضريبي مفروض كان يؤديه الأقباط للدولة الإسلامية وفى المقابل يكون من حقهم الكامل التمتع بحماية الخلافة الإسلامية لهم ولمصالحهم , وهو حق معترف به فى أى نظام حكومى فى العالم مثله مثل أى نظام ضريبي , ويؤدى المسلمون فى المقابل الزكاة للدولة أيضا فضلا على شرع الجهاد على أبناء المسلمين وحدهم دون الأقباط الذين كانوا يتمتعون بالحماية دون أداء ضريبة الدم ..

وشيئا فشيئا شارك الأقباط فى الدفاع عن البلاد وهو الأمر الذى استمر منذ سقوط الخلافة , وعليه فلا يوجد مانع شرعي من استمراره ولا توجب الشريعة الجزية طالما أن الأقباط يؤدون ضريبة الدم بالتجنيد الإجباري مثلهم فى ذلك مثل المسلمين وكتفا بكتف ..

وعليه تتلاشي أى فوارق فى الحقوق والواجبات بين مواطنى الدولة وتسقط كل الإدعاءات خلاف ذلك ..

هذا فضلا على إشارة هامة للغاية ,

وهى أن الحفاظ على هوية مصر الإسلامية هى شأن إسلامى بحكم التاريخ وحكم الأغلبية وليس فيه أى افتئات على حقوق الأقباط لأنه حق خالص للمسلمين الذين يشكلون تسعين بالمائة من تعداد الوطن و وهذا الحق ثابت للمسلمين سواء بالنظام الإسلامى أو حتى النظام الليبرالى الذى يقوم على احترام قرار الأغلبية ..

ولا يمكن لعاقل أن يقبل بتجاهل إرادة أغلبية ساحقة كهذى لمجرد النزول على رغبة أقلية لا تتعدى الخمسة بالمائة , ثم يزايدون على هذا بالديمقراطية ؟!

وعليه فإن إدعاء علمانى أو ليبرالى خلاف ذلك يثبت للقارئ الكريم كيف أن العلمانية تتظاهر بالديمقراطية إذا كانت فى صالح أهوائها فحسب بينما ترفض نتيجتها تماما إذا كانت فى غير مصلحتهم

فالعلمانيون خاسرون بمصر على طول الخط سواء قبلوا حكم الإسلام او تذرعوا بحكم الديمقراطية لأن أغلبية الشعب متفق على خلاف رسالتهم وأهدافهم

تم بحمد الله
 
عودة
أعلى