مجموعة مقالات الدكتور عائض القرني

سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ

سلسلة شهر القرآن

إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ

الدكتور عائض القرني​

هجوم أدبي كاسح، وتهديد رباني ماحق ساحق، لأعداء محمد صلى الله عليه وسلم وخصومه ومبغضيه، وهذا ذب عن شخصه الكريم، ودفاع عن مقامه العظيم، فإذا كان المدافع الحامي والناصر هو الله فلتقر عينه صلى الله عليه وسلم بهذا النصر والدفاع والولاية، وشانئه صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا كافرا ماردا حقيرا خسيسا؛ لأنه ما أبغضه إلا بعد ما أصابه بخذلان، وكتب عليه الخسران، وأراد له الهوان، وإلا فإنسان مثل الرسول صلى الله عليه وسلم يوجب النقل والعقل حبه، إذ لو كان الطهر جسدا لكان جسده صلى الله عليه وسلم، ولو كان النبل والسمو صورة لكان صورته بأبي هو وأمي، فهو منتهى الفضيلة، وغاية الخصال الجميلة، والمستحق للوسيلة، وصاحب الدرجة العالية الرفيعة الجليلة، فكان الواجب على من عنده ذرة رأي، وبصيص من نور، إذا كان يحترم عقله أن يحب الإمام العظيم لما جمع الله فيه من الفضائل، ولما حازه من مناقب، لكن واحسرتاه، على تلك العقول العفنة، والنفوس المتدثرة بجلباب الخزي، القابعة في سراديب البغي، الراتعة في مهاوي الرذيلة، كيف عادته مع كماله البشري، ومقامه السامي، فكأنه المقصود بقول الشاعر:

«أعادي على ما يوجب الحب للفتى * وأهدأ والأفكار في تجول»..

وقول الآخر:

«إذا محاسني اللاتي أُدل بها كانت * ذنوبي فقل لي كيف أعتذر؟»..

«هو الأبتر»: أي مقطوع البركة والنفع والأثر، فكل من عاداك لا خير فيه ولا منفعة من ورائه، أما أنت فأنت المبارك أينما كنت، اليُمن معك، السعادة موكبك، الرضا راحلتك، البركة تحفك، السكينة تغشاك، الرحمة تتنزل عليك، الهدي حيثما كنت، النور أينما يممت، وأعداؤه صلى الله عليه وسلم قالوا: إنه أبتر لا نسل له ولا ولد، فجاء الجواب مرغما لتلك الأنوف، واضعا لتلك الرؤوس، محبطا لتلك النفوس، فكأنه يقول: كيف يكون أبتر وقد أصلح الله على يديه الأمم، وهدى بنوره الشعوب، وأخرج برسالته الناس من الظلمات إلى النور؟

كيف يكون أبتر والعالم أشرق على أنواره، والكون استيقظ على دعوته، والدنيا استبشرت بقدومه؟

كيف يكون أبتر والمساجد تردد بالوحي الذي جاء به، والحديث الذي تكلم به، والمآذن تعلن مبادئه، والمنابر تذيع تعاليمه، والجامعات تدرس وثيقته الربانية؟

كيف يكون أبتر والخلفاء الراشدون نهلوا من علمه، والشهداء اقتبسوا من شجاعته، والعلماء شربوا من معين نبوته، والأولياء استضاءوا بنور ولايته؟

كيف يكون أبتر وقد طبق ميراثه المعمورة، وهزت دعوته الأرض، ودخلت كلمته كل بيت، فذكره مرفوع، وفضله غير مدفوع، ووزره موضوع؟

منقول

يتبع

 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/يَا أَيُّهَا النَّبِي حَسْبُكَ اللَّهُ

سلسلة شهر القرآن

يَا أَيُّهَا النَّبِي حَسْبُكَ اللَّهُ

الدكتور عائض القرني


حسبك الله يكفيك من كل ما أهمك، فيحفظك في الأزمات، ويرعاك في الملمات، ويحميك في المدلهمات، فلا تخش ولا تخف ولا تحزن ولا تقلق. فمن تخاف ونحن معك؟ ومن تخشى ولدينا نصرك؟ ومن ترهب وعندنا عزك؟ فيكفيك أن حسبك الله.

حسبك الله فهو ناصرك على كل عدو، ومظهرك على كل خصم، ومؤيدك في كل أمر، يعطيك إذا سألت، ويغفر لك إذا استغفرت، ويزيدك إذا شكرت، ويذكرك إذا ذكرت، وينصرك إذا حاربت، ويوفقك إذا حكمت.

حسبك الله فيمنحك العز بلا عشيرة، والغنى بلا مال، والحفظ بلا حرس، فأنت المظفر لأن الله حسبك، وأنت المنصور لأن الله حسبك، وأنت الموفق لأن الله حسبك، فلا تخف من عين حاسد ولا من كيد كائد، ولا من مكر ماكر، ولا من خبث كافر، ولا من حيلة فاجر؛ لأن الله حسبك.

إذا سمعت صولة الباطل، ودعاية الشر، وجلبة الخصوم، ووعيد اليهود، وتربص المنافقين، وشماتة الحاسدين، فاثبت؛ لأن حسبك الله.

إذا ولى الزمان، وجفا الإخوان، وأعرض القريب، وشمت العدو، وضعفت النفس، وأبطأ الفرج، فاثبت؛ لأن حسبك الله.

إذا داهمتك المصائب، ونازلتك الخطوب، وحفت بك المكاره، وأحاطت بك الكوارث، فاثبت؛ لأن حسبك الله، لا تلتفت إلى أحد من الناس، ولا تدع أحدا من البشر، ولا تتجه لكائن من كان غير الله؛ لأن حسبك الله.

إذا ألم بك مرض، وأرهقك دين، وحل بك فقر، أو عرضت لك حاجة فلا تحزن؛ لأن حسبك الله.

إذا أبطأ النصر، وتأخر الفتح، واشتد الكرب، وثقل الحمل، وادلهم الخطب فلا تحزن؛ لأن حسبك الله، أنت محفوظ لأنك بأعيننا، وأنت عبدنا المجتبى ونبينا المصطفى.

حسبك الله يا محمد، فهو الذي شرح لك صدرك، ووضع عنك وزرك، ورفع ذكرك، وأصلح أمرك، وأعلى قدرك، أغناك من الفقر، وهداك من الضلالة، أمنك من الخوف، أعزك بعد الذلة، أيدك بعد الضعف.

حسبك الله يا محمد، فهو الذي حفظك في الغار، ونصرك في بدر، وثبتك في أحد، وفتح لك مكة، وأعزك في كل موطن، وأعانك في كل موقف.

منقول

يتبع
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا

سلسلة شهر القرآن

لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا

الدكتور عائض القرني

هذه الكلمة الجميلة الشجاعة قالها - صلى الله عليه وسلم - وهو في الغار مع صاحبه أبي بكر الصديق وقد أحاط بهم الكفار، قالها قوية في حزم، صادقة في عزم، صارمة في جزم: « لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا »، فما دام الله معنا فلم الحزن، ولم الخوف ولم القلق؟ اسكن، اثبت، اهدأ، اطمئن؛ لأن الله معنا.

لا نغلب، لا نهزم، لا نضل، لا نضيع، لا نيأس، لا نقنط؛ لأن الله معنا، النصر حليفنا، الفرج رفيقنا، الفتح صاحبنا، الفوز غايتنا، الفلاح نهايتنا؛ لأن الله معنا.

لو وقفت الدنيا كل الدنيا في وجوهنا، لو حاربنا البشر كل البشر، ونازلنا كل من على وجه الأرض فلا تحزن، لأن الله معنا.

من أقوى منا قلبا، من أهدى منا نهجا، من أجل منا مبدأ، من أحسن منا مسيرة، من أرفع منا قدرا؟ لأن الله معنا.

ما أضعف عدونا، ما أذل خصمنا، ما أحقر من حاربنا، ما أجبن من قاتلنا! لأن الله معنا.

لن نقصد بشرا، لن نلتجئ إلى عبد، لن ندعو إنسانا، لن نخاف مخلوقا لأن الله معنا.

نحن أقوى عدة، وأمضى سلاحا، وأثبت جنابا، وأقوم نهجا؛ لأن الله معنا.

نحن الأكثرون الأكرمون الأعلون الأعزون المنصورون؛ لأن الله معنا.

يا أبا بكر، اهجر همك، وأرح غمك، واطرد حزنك، وأزل يأسك؛ لأن الله معنا.

يا أبا بكر، ارفع رأسك، وهدئ من روعك، وأرح قلبك؛ لأن الله معنا.

يا أبا بكر، أبشر بالفوز، وانتظر النصر، وترقب الفتح؛ لأن الله معنا.

غدا سوف تعلو رسالتنا، وتظهر دعوتنا، وتسمع كلمتنا؛ لأن الله معنا.

غدا سوف نسمع أهل الأرض روعة الأذان، وكلام الرحمن، ونغمة القرآن؛ لأن الله معنا.

غدا سوف نخرج الإنسانية، ونحرر البشرية من عبودية الوثنية؛ لأن الله معنا.

هذه كلمات قالها رسولنا - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر الصديق، وهما في الغار، وقد أحاط بهما الكفار من كل ناحية، وطوقهم الموت من كل مكان، وأغلقت الأبواب إلا بابا واحدا، وقطعت الحبال إلا حبلا واحدا، وعز الصديق والقريب، وغاب الصاحب والحبيب، وعجزت الأسرة والقبيلة، وبقي الواحد الأحد الفرد الصمد، حينها قالها عليه الصلاة والسلام: ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ).

منقول

يتبع
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ

سلسلة شهر القرآن

وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ

د. عائض القرني

والله إنك لعظيم الأخلاق، كريم السجايا، مهذب الطبع، نقي الفطرة، طيب الخصال، عظيم الخلال.

والله إنك جم الحياء، حي العاطفة، جميل السيرة، طاهر السريرة، نقي الضمير، عفيف الجيب، سليم الصدر.

والله إنك قمة الفضائل، ومنبع الجود ومطلع الخير، وغاية الإحسان، ونهاية ما يصبو إليه الإنسان، وذروة ما تتوق إليه الأنفس وتطمح إليه الأرواح.

(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) يظلمونك، يؤذونك فتغفر، يشتمونك فتحلم، يسبونك فتعفو، يجفونك فتصفح، تعطي من منعك، تصل من قطعك، تعفو عمن ظلمك.

(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) يحبك الملك والملوك، والصغير والكبير، والرجل والمرأة، والغني والفقير، والقريب والبعيد؛ لأنك ملكت القلوب بعطفك، وأسرت الأرواح بفضلك، وطوقت الأعناق بكرمك، وسبيت الأنفس بجودك، وكسبت الناس بعطفك.

(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ).. هذبك الوحي، وعلمك جبريل، وهداك ربك، وصاحبتك العناية، ورافقتك الرعاية، وحالفك التوفيق.

(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) البسمة على محياك، البِشر على طلعتك، النور على جبينك، الحب في قلبك، الجود في يدك، البركة فيك، والفوز معك.

من زار بابك لم تبرح جوارحه تروي أحاديث ما أوليت من منن (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) لا تكذب ولو أن السيف على رأسك، ولا تخون ولو حزنت الدنيا، ولا تغدر ولو أعطيت الملك؛ لأنك نبي معصوم، وإمام قدوة، وأسوة حسنة.

(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) صادق ولو قابلتك المنايا، شجاع ولو قاتلتك الأسود، جواد ولو سئلت كل ما تملك، فأنت المثال الراقي والرمز السامي، وأنت الصفوة المجتبى، والنبي المختار، والرسول المصطفى.

(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سبقت العالم ديانة وأمانة وصيانة ورزانة، وتفوقت على الكل علما وحلما وكرما وشجاعة وتضحية، وعلوت على الجميع صبرا وثباتا وعلما وعملا وصلاحا واستقامة.

(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) الطهر أنت، والصدق ما تقوله، والحق ما تدعو إليه، والعدل ما تحكم به، والهدى ما أنت عليه، لو كان الصلاح رجلا لكان في ثباتك، ولو كان البر إنسانا لكان في هيكلك، ولو أن الفضيلة بشر لحل فيك.

منقول

يتبع
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ

سلسلة شهر القرآن

مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ

الدكتور عائض القرني

لست مجنونا كما قال أعداؤك، لكن عندك دواء المجانين، فالمجنون الطائش السفيه التافه من خالفك وعصاك وحاربك وجفاك، والمخذول الأحمق من عصاك، والتائه المأفون من نادّك، والمغبون الخاسر من اختار سبيلا غير سبيلك.

( مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) وكيف يكون ذلك وأنت أكملهم عقلا، وأتمهم رشدا، وأسدهم رأيا، وأعظمهم حكمة؟ تهدي العقول، وتنير الطريق.

لست مجنونا لأنك على هدى من الله، وعلى نور من ربك، وعلى ثقة من منهجك، وعلى بينة من دينك، وعلى رشد من دعوتك.

صانك الله من الجنون، بل عندك كل العقل، وأكمل الرشد، وأتم الرأي، وأحسن البصيرة، فأنت الذي يهتدي بك العقلاء، ويستضيء بحكمتك الحكماء، ويقتدي بك الراشدون المهديون.

إذا نحن أولجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك هاديا كذب وافترى من وصفك بالجنون وقد ملأت الأرض حكمة، والدنيا رشدا، والعالم عدلا، فأين يوجد الرشد إلا عندك، وأين تكون الحكمة إلا لديك، وأين تحل البركة إلا معك؟

أنت أعقل العقلاء، وأفضل النبلاء، وأجل الحكماء.

كيف يكون مجنونا وقد قدم للبشرية أحسن تراث على وجه الأرض، وأهدى للعالم أجل تركة عرفها الناس، وأعطى الكون أبرك رسالة عرفها العقلاء.

أخوك عيسى دعا ميتا فقام له وأنت أحييت أجيالا من الرمم فإن القرآن هو معجزة محمد عليه الصلاة والسلام التي بعث بها، وهي معجزة دائمة باقية دوام الإسلام وبقاء الحق.

والقرآن أسمى وأجل من أن يمدحه بشر؛ لأنه كلام رب البشر، وأعلى وأعظم من أن يثني عليه مخلوق؛ لأنه تنزيل من الخالق، وإن أحسن الأوقات وأسعد اللحظات حين يعيش العبد مع آياته البينات تاليا متدبرا خاشعا.

فكيف تكون مجنونا كما وصفوك؟ بل إن الإعراض عنك وعن هديك ورسالتك هو الجنون بعينه.

لست بشاعر ولا بمجنون يضرب الأخماس بالأسداس، ويهيم في أودية الخيال، بل نبي معصوم، كل كلمة منك دين، وكل جملة منك سنة؛ لأنك جئت لإصلاح العالم، وليس لدغدغة العواطف وملاعبة المشاعر كما يفعل الشعراء، فليس عندك فراغ في العمر لنظم بنيات الأفكار، ولا لإطراب الجمهور. فالحق مقصدك، والإصلاح أمنيتك
( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ).

منقول

يتبع
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ

سلسلة شهر القرآن

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك

الدكتور عائض القرني

أد الرسالة كاملة كما سمعتها كاملة، بلغها تامة مثلما حملتها تامة، لا تنقص حرفا ولا تحذف كلمة، ولا تغفل جملة.

بلغ ما أنزل إليك فهي أمانة في عنقك سوف تسأل عنها، فبلغها بنصها وروحها ومضمونها.

بلغ ما أنزل إليك من الوحي العظيم، والهدي المستقيم، والشريعة المطهرة، فأنت مبلغ فحسب؛ لا تزد في الرسالة حرفا، لا تضف من عندك على المتن، لا تدخل شيئا في المضمون، لأنك مرسل فحسب، مبعوث ليس إلا، مكلف ببلاغ، مسؤول من مهمة، مثلما سمعت بلغ، ومثلما حملت فأد.

بلغ ما أنزل إليك، عرف من عرف وأنكر من أنكر، استجاب من استجاب وأعرض من أعرض، وأقبل من أقبل.

بلغ ما أنزل إليك، بلغ الكل، وادع الجميع، وانصح الكبراء والمستضعفين، السادة والعبيد، الإنس والجن، الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء، الكبار والصغار.

بلغ ما أنزل إليك، فلا ترهب الأعداء، ولا تخف الخصوم، ولا تخش الكفار، ولا يهولنك سيف مصلت، أو رمح مشرع، أو منية كالحة، أو موت عابس، أو جيش مدجج، أو حركة حامية.

بلغ ما أنزل إليك فلا يغرك مال، ولا يعجبك منصب، ولا يزدهك جاه، ولا تغرك دنيا، ولا يخدعك متاع، ولا يردك تحرج.

وشب طفل الهدى المحبوب متشحا * بالخير متزرا بالنور والنار

في كفه شعلة تهدي وفي دمه * عقيدة تتحدى كل جبار

وفي ملامحه وعد وفي يده * عزائم صاغها من قدرة الباري​

فهذا الإمام المعصوم صلى الله عليه وسلم معه النجاة، وسنته سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها هلك، وهو الذي يدور معه الحق حيثما دار، وكلامه حجة على كل متكلم من البشر من بعده، وليس لأحد من الناس حجة على كلامه، وكلنا راد ومردود عليه إلا هو صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. زكى الله سمعه وبصره وقلبه، ونفى عنه الضلال وحصنه من الغي، وسلمه من الهوى، وحماه من الزيغ، وصانه من الانحراف، وعصمه من الفتنة، فكل قلب لم يبصر نوره فهو قلب مغضوب عليه، وكل أرض لم تشرق عليها شمسه فهي أرض مشؤومة، وكل نفس لم ترحب بهداه فهي نفس ملعونة، فهو المعصوم من الخطأ، المبرأ من العيب، السليم من الحيف، النقي من الدنس، المنزه عن موارد التهم. على قوله توزن الأقوال، وعلى فعله تقاس الأفعال، وعلى حاله تعرض الأحوال.

منقول

يتبع
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

سلسلة شهر القرآن

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

الدكتور عائض القرني

«فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فلا تشرك معه في عبوديته أحدا، ولا تدعُ من دونه إلها، بل تصرف له عبادتك، وتخلص له طاعتك، وتوحد قصدك له ومسألتك ودعاءك. فإذا سألت فاسأل الله. وإذا استعنت فاستعن بالله، فلا يستحق العبادة إلا هو، ولا يكشف الضر غيره، ولا يجيب دعوة المضطر سواه.

«فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» هو أحق من شكر، وأعظم من ذكر، وأرأف من ملك، وأجود من أعطى، وأحلم من قدر، وأقوى من أخذ، وأجل من قُصد، وأكرم من ابتُغي، فلا إله يدعى سواه، ولا رب يطاع غيره، فالواجب أن يعبد وأن يوحد وأن يخاف وأن يطاع وأن يرهب وأن يخشى وأن يحب.

«فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» المتفرد بالجمال والكمال والجلال، خلق الخلق ليعبدوه، وأوجد الإنس والجن ليوحدوه، وأنشأ البرية ليطيعوه، فمن أطاعه فاز برضوانه، ومن أحبه نال قربه، ومن خافه أمن عذابه، ومن عظمه أكرمه، ومن عصاه أدبه، ومن حاربه خذله، يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويذل من كفر، له الحكم وإليه ترجعون.

«فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فأخلص له العبادة؛ لأنه لا يقبل الشرك، وفوض إليه الأمر؛ لأنه الكافي القوي، واسأله فهو الغني، وخف عذابه لأنه شديد، واحذر أخذه لأنه أليم، ولا تتعدَّ حدوده لأنه يغار، ولا تحارب أولياءه لأنه ينتقم، واستغفره فهو واسع المغفرة، واطمع في فضله لأنه كريم، ولذ بجنابه فهناك الأمن، وأدم ذكره لتنال محبته، والزم شكره لتحظى بالمزيد، وعظم شعائره لتفوز بولايته. وحارب أعداءه ليخلصك بنصره.

«فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» بلغ الرسالة كاملة ولا تخف أحدا، وكيف تخاف من أحد ونحن معك نحفظك ونمنعك ونحميك ونذب عنك، لن يقتلك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يطفئ نورك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يعطل مسيرتك بشر لأن الله يعصمك من الناس، وقل كلمتك صريحة شجاعة قوية، لأن الله يعصمك من الناس، اشرح دعوتك، وابسط رسالتك، وارفع صوتك، وأعلن منهجك، وما عليك؛ لأن الله يعصمك من الناس.

«فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» كل قوة في الأرض لن تستطيع الوصول إليك، كل جبروت في الدنيا لا يهزمك، كل طاغية في المعمورة لن يقهرك، لأن الله يعصمك من الناس. «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ».

منقول

يتبع
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ

سلسلة شهر القرآن

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ

د. عائض القرني

هذا عقد بين المسلم وربه، وميثاق بين العبد ومولاه، أن يصرف العبد كل عبادته لله - عز وجل - ولا يشرك معه غيره، وألا يستعين إلا بربه جل في علاه، فمن العباد المسألة والطلب، ومن الله العون والتأييد، وهذه الآية كما قال الله - عز وجل - في الحديث القدسي: «هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل». وهي ملخص دعوة الأنبياء وموجز رسالة الرسل عليهم السلام.

ومعاني القرآن مجموعة في هذه الآية، فالله أوجب حقه على الخلق، وهو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأوجب على نفسه لهم حقا إذا فعلوا ذلك، وهو ألا يعذبهم.

والعبادة التي يريدها الله من الخلق هي: فعل كل ما أوجب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والأفعال الظاهرة والخفية، واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، والاستعانة طلب العون من الله في كل أمر لا يستطيع فعله المخلوق ولا يقدر عليه إلا الخالق، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله».

«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» وثيقة مقدسة يعلنها المسلم في كل ركعة من صلاته فريضة كانت أو نافلة ليذكر نفسه دائما بهذا العهد العظيم، الذي من أجله خلق الإنسان، ومن أجله أرسلت الرسل ونزلت الكتب، وقامت سوق الجنة وسوق النار، ومد الصراط، ونصب الميزان، وبعث الخلق من قبورهم، وحصل ما في صدورهم، وعرضت عليهم صحفهم، وأقيم عليهم شاهد من أنفسهم.

«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» هي قضية الخلاف بين المسلمين والمشركين، وهي معاني لا إله إلا الله، ومن أجلها وقع القتال بين أولياء الله وأعدائه، وحصلت الحروب بين حزب الله، وحزب الشيطان، فما بعث الرسل - عليهم السلام - إلا من أجل أن يعبد الله وحده لا شريك له، وما سالت دماء الشهداء إلا ليوحد الله ويفرد بالعبادة ويختص بالتوجه دونما سواه، جل في علاه.

«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» سعادة أبدية ونجاة سرمدية بها يتم الصلاح وينال الفلاح وتسهل الأمور وتدفع الشرور، ولا ينال رضا الله ورحمته وعفوه ومغفرته وعونه وهدايته وتسديده إلا بإياك نعبد وإياك نستعين. ولا تحصل النعم ولا تدفع النقم ولا يحصن من المتالف ويسلم من الصوارف ويحفظ من الكوارث والفتن والمحن إلا بإياك نعبد وإياك نستعين، وهي عاصمة لمن قام بحقوقها من الزلل والتخبط العقدي والهوج الفكري والضلال العلمي والسفه الأخلاقي والانحطاط السلوكي والشطط العلمي؛ لأن في «إياك نعبد وإياك نستعين» عناية ربانية، ورعاية إلهية، وولاية إيمانية، وبركة القرآن.

منقول

يتبع
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطا

سلسلة شهر القرآن

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطا

الدكتور عائض القرني

أنتم الأمة الوسط، وأنتم وسط بين اليهود الذين قتلوا الأنبياء والنصارى الذين عبدوهم، إذ إنكم أطعتموهم واتبعتموهم، وأنتم وسط في الزمان، ما جئتم في أول الزمان فلا تجارب ولا تاريخ، وما جئتم في ذيل الدهر، بل سبقتكم أمم وجاءت بعدكم أجيال، فاعتبرتم بالسابقين، وأفدتم اللاحقين.

ووسط أنتم في المكان، فلستم في زوايا الأرض ولا في أطراف الدنيا، بل كنتم في قلب المعمورة، فدينكم شع من أم القرى لتوزعوا الهداية على الناس، وأنتم وسط في الديانة فلم تعبدوا أي شيء من حجر وشجر ومدر كما فعل المشركون، ولم ترفضوا العبودية جملة وتفصيلا كما فعلت بعض الأمم، بل عبدتم الواحد القهار، ووحدتم العزيز الغفار.

ووسط أنتم في المعيشة، فلم تفعلوا فعل اليهود في البذخ والإسراف والانهماك في اللذائذ وتصيد الشهوات، ولم تفعلوا فعل النصارى في الرهبانية والانقطاع والتبتل وعذاب النفس، بل أعطيتم الجسم حظه والروح حقها.

ووسط أنتم في الفنون فلم تفعلوا ما فعلت فارس، إذ كانت حياتهم هوايات وتسليات، ولا فعل الروم إذ جردوا حياتهم من كل ممتع بهيج، بل لكم الجمال المباح والسحر الحلال من الأقوال والأفعال، والنافع المفيد من مناهج الحياة.

وأنتم وسط في الأخلاق، فلم تفعلوا فعل الأمم العدوانية المتوحشة الذين بغوا وطغوا وفتكوا، ولم تنهجوا نهج من استسلم لخصمه وذل لعدوه وقال: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر»، بل عندكم صفح وحلم عمن يستحق، وتأديب وقصاص لمن يعتدي، والكل له قدر.

وأنتم وسط في باب العلم فلم تجعلوا العلم مقصودا لذاته كما فعل اليونان، ولم تهملوه وتضيعوه فعل الأمم البليدة التي غلب عليها الغباء؛ بل جعلتم العلم وسيلة إلى كل فضيلة، وطريقا إلى صلاح الدنيا والآخرة والفلاح في الدارين.

ووسط أنتم في العبادة فما أعرضتم عن النسك فعل الفجرة الجفاة، وما شققتم على نفوسكم وعذبتم أرواحكم فعل أهل الصوامع الغلاة؛ بل اقتصدتم في العبادة مع الحسن، واعتدلتم في النسك مع الجودة.

ووسط أنتم في التفكير فما همتم مع الخيال فعل الشعراء الذين هم في أودية الوهم هائمون، وما جمدتم جمود الفلاسفة الذين قتلوا العواطف وعطلوا المشاعر حتى جفت نفوسهم وقست قلوبهم، بل أنتم مع الحقيقة سائرون، فجمعتم بين القوة والرحمة، والواقعية والجمال، والنص والمعنى، فأنتم وسط بين طرفين، وحسنة بين سيئتين، ونجاة بين مهلكين، وقد وفق الله أهل السنة والجماعة ما بين قدرية يقولون: إن الأمر مستأنف ولم يسبق قضاء من الله. وبين الجبرية الذين قالوا: لا مشيئة للعبد وهو مجبور على كل فعل يفعله من طاعة ومعصية، فأهل السنة أثبتوا علم الله وقضاءه ومشيئته وأثبتوا للعبد مشيئة تحت مشيئة الله.

منقول

يتبع
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنا عَجَبا

سلسلة شهر القرآن

إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنا عَجَبا

الدكتور عائض القرني

يقول الجن لما سمعوا القرآن:
إنا سمعنا قرآنا عجبا.
عجيب!.. حتى الجن يتعجبون من القرآن، ومن الذي لا يعجب من القرآن؟! ومن هو الحي الناطق السميع البصير الذي لا يعجبه القرآن ويشجيه ويبكيه؟! ومن هو الذي له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ولا يتأثر بالقرآن؟! أما الإنس فقد عجبوا كل العجب وذهب بهم الإعجاب كل مذهب، وقال قائلهم: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وأما الجن فهم يصيحون صيحة المعترف:
«إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنا عَجَبا»
فهو العجب كله، والحسن أجمعه، في آياته، ففيها من التناسق والتناغم والروعة ما يفوق الوصف والعجب، في سوره، فلكل سورة مشهد وإيحاء ورسائل غير الأخرى، وعجيب في عرضه الذي يقتحم أسوار النفس، ويزلزل آفاق القلب، ويحتل مناطق التأثير، ويجتاح مستعمرات الضمير.

عجب لهذا القرآن!.. نعيده.. نكرره.. نشرحه.. نتدارسه.. نحفظه.. ثم يبقى غضا راقيا مشرقا جديدا، عجبا لهذا كأنه يسوقنا إلى الآخرة بجحافل من رعب! وكأنه يحجزنا عن الإثم والخطيئة بسياج من الهدى! وكأنه يبعثنا كل يوم من قبور الإهمال وأجداث النسيان! عجب لهذا القرآن كلما لغونا ولهونا وسهرنا نادانا من جديد: هلموا إلى الحق والجد والعمل! كلما ضعنا وتهنا وضللنا صاح بنا: هنا الطريق.. هنا الهدى.. هنا الفلاح! كلما أذنبنا وأخطأنا دعانا: أقبلوا على رب رحيم وملك كريم وجواد حليم! كلما فترنا وتكاسلنا وتراخينا هزنا: يا ناس، واصلوا، يا قوم عجلوا وأبشروا واجتهدوا! كلما غضبنا وحزنا وضاقت السبل أمامنا صب القرآن على قلوبنا سحب الرضوان والسكينة والأمن! صدق الجن:
«إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنا عَجَبا»
إنه يشبع الروح، ويروي غليل النفس، ويغسل أدران الضمير، إنه أحسن الحديث صدقا ومتاعا وفخامة وأصالة، إنه أحسن القصص تسلية وتعزية وأسوة، إنه موعظة تردع عن الزلل وتحمي من الانحراف وتعصم من الذنب، وصدق الجن:
«إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنا عَجَبا».

تسمع القصائد وتنصت إلى المحاضرات وتروعك الخطب وتشجيك المواعظ، ثم تسمع القرآن فكأنك ما سمعت شيئا، وما أعجبك شيء قبله، وما نهرك شيء، لأنه كتاب لا ريب فيه، يرشد من الحيرة، ويحفظ من الضلال، ويعصم من الزيغ، فالقرآن حياة من الهناء والسعادة، وعالم من الإبداع والجمال، وتاريخ من الأحداث والقضايا، وسجل من الشرف والرفعة، وديوان من الخلود والنبل، بل تاريخ أمة، وخطاب عالم، وكلام إله، ومستقبل أجيال، وقضية معجزة، هو حق يدفع باطلا، ونور يكشف ظلاما، وصدق ينهر كذبا، وهدي يحارب ضلالا، وعدل يطارد ظلما، وصدق الجن:
«إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنا عَجَبا».

منقول

يتبع

 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ

سلسلة شهر القرآن

كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ

د. عائض القرني

مدح الله نفسه بهذا الوصف المتضمن قدرته جل في علاه، وأنه لا يقع شيء في العالم إلا بإذنه، فهو كل يوم في شأن؛ يخفض ويرفع، يعطي ويمنع، يقبض ويبسط، يولي ويخلع، يضحك ويبكي، يميت ويحيي، يهدي ويضل، يعافي ويبتلي.

كل يوم هو في شأن؛ يعطي فقيرا، يهدي حائرا، يشفي مريضا، يرد غائبا، يرشد ضالا، يشبع جائعا، يسقي ظمآن.

كل يوم هو في شأن؛ يسحق طاغيا، يمزق باغيا، يكبت فاجرا، يهزم كافرا، يخذل عدوا، يرد معتديا، ينصر وليا، يحفظ صالحا، ينجد ملهوفا، يجيب داعيا، يحمي مظلوما، يعطي سائلا، يمنح نائلا، يجبر كسيرا، يعين مسكينا، يرحم ميتا، يعافي مصابا، يدحض باطلا، ينصر حقا.

كل يوم هو في شأن؛ ينزل الغيث، يسوق الغمام، يجري الريح، يسخر البحر، يزيد العابدين، يوفق الصالحين، يدل المجتهدين، ينصر المجاهدين، يؤمن الخائفين، يتوب على التائبين، يغفر للمستغفرين.

كل يوم هو شأن؛ يولج الليل في النهار، يرسل البرق يكاد يذهب بالأبصار، يجري السفن في البحار، يحوط المسافرين من الأخطار.

كل يوم هو في شأن؛ يكشف كربا، يزيل خطبا، يغفر ذنبا، يحل ويبرم، يقدم ويؤخر، يثيب الطائع، يحلم على المقصر، يتجاوز عن المسيء، يستر المذنب، يمهل العاصي.

كل يوم هو في شأن؛ يفلق الحب والنوى، يعلم ما في الأرحام، يكتب الآجال، يحصي الأعمال، ينزل الأرزاق، يفك القيود، يطلق الأسرى، يكلأ من في البر والبحر، يرعى المسافرين، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

كل يوم هو في شأن؛ يطلع على ما في السرائر، يعلم ما في الضمائر، يجيب المضطر، ينقذ من المخاطر، يعصم من المهالك، يهدي من الغي، يبصر من العمى، يرشد من الحيرة.

كل يوم هو في شأن؛ يعزل ولاة، يخلع ملوكا، يهلك دولا، يبيد شعوبا، يأخذ المتكبرين، يقصم المتجبرين.

وإن من ينظر في الكون نظرة المتبصر ويتفكر في المخلوقات وما يقع في الأرض من أعمال وحوادث يعجب من عظمة الملك الواحد الأحد وسعة اطلاعه وبالغ علمه، جل في علاه، فكل حركة معلومة، وكل لفظة محسوبة، وكل نقطة أو ورقة أو ثمرة محصية، عالم هائل من الحياة والموت، والغنى والفقر، والصلاح والفساد، والسلم والحرب، والهداية والغواية، والصحة والمرض، كل ذلك بإذن الملك الحق الذي لا تخفى عليه خافية من أعمال هذه الخليقة، فلا يلتبس عليه أمر، ولا تختلف عليه لغة، ولا يعزب عن علمه شيء، ولا تفوته حركة، ولا تند عن علمه كائنة، وقد وسع علمه كل شيء، وقد عم فضله وانتشر إحسانه.

إن العالم شركة صاخبة من البناء والنتاج والتزاوج والتولد والاتفاق والاختلاف والسلم والحرب، تصالح وتقاتل، تآلف وتباين، بيع وشراء، حل وترحال، يقظة ونوم، حياة وموت، لكن المذهل أن ذلك بعلم الأحد الصمد وبتقديره وتدبيره واطلاعه، جل في علاه! ملائكة تكتب وسجلات تحصي وأقلام تخط ودواوين محفوظة، والرقيب الحسيب على ذلك كله عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى عليه خافية.

منقول

يتبع
 
التعديل الأخير:
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ

سلسلة شهر القرآن

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ

الدكتور عائض القرني

هذا قول إخوان القردة والخنازير الأنذال، يقولون: يد الله مغلولة، أي بخيلة. «غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ». قاتلهم الله، كيف تكون يد الجواد الماجد مغلولة، وكل نعمة قديمة أو حديثة، ظاهرة أو باطنة، جليلة أو قليلة، منه وحده جل في علاه؟ «وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله»، كيف تكون يده مغلولة؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، وهو الذي صمدت إليه الكائنات، وسألته المخلوقات مع اختلاف اللغات، وتعدد اللهجات، بشتى الحاجات، فأعطى الجميع، ومنح الكل، وما نقصت خزائنه ولا انتهى فضله. يقول عز وجل: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر».

كيف تكون يده مغلولة وهو الذي يطعم كل مخلوق، ومن فضله يعيش كل حي؟ «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا»، يطعم الطير في الهواء، والسمك في الماء، والوحش في البيداء، والدود في الطين، والليث في العرين. «يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ».

عمّ فضله، وشمل نواله، وعظم كرمه، وظهر جوده، من جاد فمن جوده يجود، عاش أعداؤه من فيض عطائه، وتقلب عبيده في نعمائه.

كيف تكون يده مغلولة وقد طبق العالم إحسانه، وعم الكون امتنانه؟ ملأ الخزائن، وأشبع البطون، فبابه مفتوح، وجوده يغدو ويروح، وخيره ممنوح، يعطي قبل السؤال، ولا يغيض ما عنده النوال، لأنه ذو الجلال والجمال والكمال.

هل من رازق غيره؟ هل من معطٍ سواه؟ هل من متفضل إلا هو جل في علاه؟ وتأمل قوة الرد على فرية اليهود وجزالة اللفظ وإشراق المعنى وبراعة الحجة، فإنهم قالوا، لعنهم الله: «يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ»، فخصّوا يدا واحدة، فردّ عليهم بقوله: «غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ»، فردّ بالجمع. ثم قال: «بَلْ يَدَاهُ»، فذكر اليدين الاثنتين المباركتين، ثم وصفهما بأنهما مبسوطتان بالعطاء، ثم ذكر كيفية العطاء وحال هذا السخاء فقال: «يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ»، فتقدس اسمه ما أكرمه! وتبارك في علاه ما أحلمه! وعز جاهه ما أعلمه! وانظر إلى منهج القرآن كيف أورد الشبهة باقتضاب ثم رد عليها بإسهاب، وأطنب في تفنيدها ودحضها حتى شفى القلب بهذا البيان الناصع، والبرهان الساطع، بخلاف ضعاف المجادلين، فإنهم يتوسعون في عرض الشبهة، ثم يردون عليها ردا ضعيفا فتبقى آثارها في القلب شبها وشكوكا، فتبارك الله ما أحسن قيله.

وانظر إلى صدق المهيمن وكمال جبروته، فإنه أخبرنا بهذه المقولة الخاطئة الهابطة من هؤلاء الحقراء التافهين، وهي مقولة تتعرض لذاته المقدسة ومقامه العظيم، ومع ذلك ذكرها صريحة مثلما قالوها، قاتلهم الله. بخلاف البشر، فإنهم لضعفهم وعجزهم لا يذكرون ما يقال عنهم من شتم، وإن قالوا فباستحياء وخجل على مذهب «كاد المريب أن يقول خذوني»، لكن الله عز وجل لتفرده بكل وصف جميل لم يبالِ بهذا السقط من القول، والسخف من الحديث، بل ذكره ليدحضه، وأخبر به ليدفعه، وهو ما حدث في هذا الخطاب الباهر العجيب.

منقول

يتبع
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرا

سلسلة شهر القرآن

سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرا

الدكتور عائض القرني

هذا وعد من أصدق القائلين، وهي بشرى لعباده المؤمنين، أن سنته الماضية وحكمته القاضية، أن العسر بعده يسر، فلا يضيق الأمر ويشتد الكرب إلا ويتبعه يسر، فبشّر كل مكروب ومنكوب بفجر صادق من الفرج يصادر فلول الشدائد، وما أحسن هذه الآية سلوة للمعذبين بسياط الظالمين، وعزاء للمصابين، وبشرى لأهل البلاء. وهذه الآية هدية غالية لمن طرح في السجن، وغلت يداه، وكبلت رجلاه، ليعلم أن فرجه قريب، وخروجه وشيك إلى عالم الحرية والانطلاق، وهي تحفة ثمينة لمن أقعده المرض، وأضناه البلاء، أنه موعود بشفاء عاجل، وعافية قادمة، فبعد الجوع شبع، وإثر التعب راحة، وعقب السقم شفاء، وخاتمة الشدة رخاء، ونهاية الفقر غنى.. النهار يخلف الليل، والنور يطوي الظلام، والماء يزحف على الجدب.

إذا امتدت الصحراء فوراءها رياض خضراء، وإذا اشتد الحبل انقطع، إذا رأيت السحب فاعلم أن الغيث الهنيء في جوانحها، وإذا هالَك الظلام فتيقن أن الصباح مقبل لا محالة.

إن العسر بعده يسران لا يسر واحد، لتعلم أن مرارة المعاناة لها نهاية، وشظف العيش إلى انقطاع، وكبد الحياة إلى راحة.. لو أن الخوف دائم لتقطعت النفوس حسرة، ولكن بعده أمن وسكينة، ولو أن الحزن مستمر لزلزلت القلوب زلزالها ولكن يعقبه سرور وأنس، ولو أن اليأس مقيم لاسودت الحياة في العيون، لكن خلفه أمل.. فلا تيأس من روح الله ولا تقنط من رحمة الله.. لا تصارع الأوهام، وتقاتل الوساوس، بل انظر من بوابة الرجاء لترى العالم المشهود، والحضرة المأنوسة، والسعادة القادمة، ولترى العناية الربانية تغمرك واللطف الإلهي يحوطك. فاغسل همومك بنهر التوكل، «وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مؤْمِنِينَ»، واحذر من تصديق وعد الأفاك الأثيم والشيطان الرجيم؛ لأنه يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، ولكن صدق موعد أصدق القائلين: «وَاللَّهُ يَعِدُكُم مغْفِرَةً منْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

فبشّر آمالك بمستقبل زاهٍ وغد مشرق وفجر باهٍ جديد؛ لأنه سبحانه ما ابتلاك ليهلكك، ولا ليخزيك؛ بل أراد أن يذكرك بسوط من ألم، وأن يوقظك من غفلتك بوخزة من ندم، وينبهك من رقدتك بجرعة من سقم؛ لتتذكر بالمصيبة النعمة، وبالبلاء العافية، وبالمرض الصحة، وبالسجن الحرية، فهو لطيف في الحالين وحكيم في المسلكين، ولا تدري بالأصلح، ولا تعلم بالأحسن، بل هو الأعلم الأحكم الأحلم الأرحم، جلّ في علاه، فارض باختياره، فاختياره لك خير من اختيارك لنفسك، وعلمه بمصالحك أجلّ وأعظم من علمك؛ لأنك عبد جاهل فقير ضعيف، وهو عليم غني قوي ملك رحمن رحيم:

عسى فرج يكون عسى * نعلل نفسنا بعسى

فلا تجزع إذا قابلت * هما يقطع النفسا

فأقرب ما يكون المرء * من فرج إذا يئسا​

منقول

يتبع
 
التعديل الأخير:
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّح

سلسلة شهر القرآن

وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّح

الدكتور عائض القرني

الأقضية تقوم على أمرين، إما حكم وإما صلح، فالحكم قضية عادلة وحكم نافذ، وقد يترك في نفس أحد الخصمين أثرا، فإن الحق لا يرضي الطرفين كما قال الأول:

* إنّ نِصْفَ الناسِ أعداءٌ لمن - وَلِيَ الأحكامَ.. هذا إنْ عَدَلْ

* ولكن الصلح خير، فهو أحسن أثرا، وأسلم عاقبة، لأنه يبنى على كرم النفس، وسماحة الطبع، فهو يأتي عفوا بلا حكم صادر من أحد، بل من جودة السجية، وحسن الخلال، فالذي يسعى بالصلح مسدد مُعانٌ محبوب، لأنه يريد البناء والخير، ولهذا قال شعيب عليه السلام: «إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ».

عفا عمن ظلمه في عرضه، فالصلح خير على كل جهة أردت، لأنه لا يندم على الصلح أحد، إذ يعوض الله قابل الصلح سكينة وأمنا، وبرد عفوٍ ولذة كرم، يجدها في قلبه، لأن المُصالِح كريم، والكريم واسع البطان، رحب الباع، منشرح الصدر، بخلاف رافض الصلح فإنه يعاقب بحرج في صدره، وضيق في نفسه، جزاءً وفاقا لعمله.

واعتبر بهذا البخيل والجافي الغليظ واللحوح الشحيح، ففيه من جدب النفس، وقحط الروح، وضيق الخلق، ما يفوق الوصف مجازاة لفعله الشنيع.

وما أجمل هذا التعقيب الباهر الساطع: «وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ»، وهو تحذير للنفوس من هذا المرض الذي يصحبها، ويغلب عليها فلا تقبل صلاحا، ولا تعفو عن مظلمة، ولا تتنازل عن حق، ولا تعطي نوالا إلا من رحم الله، ولكن في قوله: «وَأُحْضِرَتِ» صورة حية لحضور شبح الجاثم القاتم، وكأنه ليل مكفهر، حضر بأسماله السوداء ووجهه العابس.

ثم ذكر الأنفس لأنها مصدر الخير والشر، والجود والبخل، فمن حدّث نفسه بالمعروف قَبِل الصلح وسعى إلى المسامحة، ومن بخلت نفسه وضنت ضيقت على عباد الله وسعت في استيفاء حقوقها بشراسة وعناد. وفي قوله: «الشُّحَّ» إشراق في العبارة، لأن الشح غاية البخل ومنتهاه، وهو أشمل من البخل الذي هو منع العطاء، وحبس التدفق، يزيد بترك العفو، ورفض المسامحة، والسعي في المطالبة والمعاتبة والمضاربة، حتى قال ابن تيمية: المؤمن الصادق لا يضارب ولا يعاقب ولا يطالب، وإنما يمنع الإصلاح قبولُ شح الأنفس الأمّارة، ولهذا حسن أن يزف في سياق الآية، فمن نجا من شح نفسه عاش صالحا مصلحا، فصار كالغمامة أينما حلت هلت، فهو جواد عند الخصومة، سهل عفو عند المنازعة، يسيرٌ عند الجدال، صفوح عند المعاتبة، بخلاف الشحيح، فهو بخيل بنواله، ثقيل في مطالبه، عنيد في خلافه، شرس في طباعه، وصدق الله: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

منقول

يتبع
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ

سلسلة شهر القرآن

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ

د. عائض القرني

الهماز اللماز إنسان ساقط في مجال الشرف، منحط من رتبة القيم، منسي في ديوان المثل السامية، لأنه هماز للأعراض، لماز لعباد الله، وهو يهمز بقوله، ويلمز بفعله، فعينه ويده تهمزان، ولسانه يلمز، ويل لهذا بالوعيد من عذاب شديد، من منال أكيد، ويل لهذا المتسلق على أكتاف البريئين، القارض لأعراض الصالحين.

إن هذا الشرير همه فقط اقتناص المعايب، وجمع المثالب، فهو يفرح بالزلة، وتسره السقطة، وتعجبه الغلطة، فهو يذكر السيئات في الناس، لكنه ينسى الحسنات، يستحضر الأخطاء غير أنه تغيب عنه الإصابات؛ لأن نفسه الأمارة مريضة:

«ومن يك ذا فم مريض * يجد مرا به الماء الزلالا»..

ولأن عين رشده بها رمد:

«قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد * وينكر الفم طعم الماء من سقم»..

لا يفرح بالفضائل التي تحملها القلوب الطاهرة؛ لأنه جحود حسود، لا يرتاح للصفات الجميلة والمعاني الجليلة في الناس؛ لأن فعله سيئ، وقلبه أسود، ولسانه مر:

«إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه * وصدَّق ما يعتاده من توهُّمِ»..

ويل لهذا الهمزة اللمزة من عذاب الله وغضبه، كيف يجور في حكمه؟.. فهو بالمرصاد لعباد الله، ينشر مساوئهم، يتفكه بمعايبهم، يفرح بزلاتهم، يسعد بعثراتهم، وهو يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ لأنه مخذول مهين، ويضيق ذرعا بالأوفياء النبلاء والصالحين الأخيار؛ لأنه مارد أثيم. إن سلامة القلب وعفة اللسان موهبة ربانية يغدقها الله على من يشاء من عباده، فترى صاحبها ستيرا عفيفا، طاهر السريرة، سليم الصدر، يثني على الجانب المشرق في حياة الناس، تعجبه الخلال الحميدة، تفرحه الخصال الجميلة، يحمل إخوانه على السلامة، يلتمس للعباد العذر، يشيد بالمكارم، ويهمل ما سوى ذلك، ليس عنده وقت لتشريح عباد الله على خشبة نقده، وما عنده فراغ لإحراق أوراق الصالحين بناره.

وإن من يتدبر هذه الآية ينتابه خوف مزعج من عواقب إرسال اللسان في الأعراض، واغتياب عباد الله، وتتبع عوراتهم، فإنها علامة الإفلاس، ونهاية الخذلان، وويل لمن هذا فعله، قاتله الله كيف نسي نفسه وتقويم اعوجاجه، وإصلاح ما فسد من أخلاقه، وبناء ذاته، وذهب - تبا له - يتفحص ما ستر الله من عيوب العباد، ويكشف المغطى من سجايا الناس؟.. فهو عدو للنجاح، حرب للفضيلة، هدم لصروح المكارم، وويل لكل همزة لمزة.

منقول

يتبع
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/مَا كَانَ حَدِيثا يُفْتَرَى

سلسلة شهر القرآن

مَا كَانَ حَدِيثا يُفْتَرَى

الدكتور عائض القرني

كتاب الله ليس حديثا يفترى، فما نظمه شاعر، ولا نفثه ساحر، ولا تفوه به كاهن، بل هو كلام الملك الحق المبين.

إن الأحاديث المفتراة متروكة لأساطين الأراجيف، ودهاقنة الزور، وأبطال الشائعات، وحملة الكذب، أما القرآن فهو الصدق كله، والحق أجمعه؛ لأن الله قاله، وجبريل حمله، ومحمدا أداه، تعالى الله وتقدس أن يكون كتابه مفترى، فهو أصدق القائلين، يقول الحق وهو يهدي سواء السبيل.

إن أهل الافتراء أصناف من البشر كتب الله عليهم الخذلان، منهم دجال مريب، يزرع الخرافات، وينشر الأكاذيب، ليصرف قلوب الناس إليه، ومنهم شاعر أفاك، يمدح بالباطل ويهجو الثوابت لينال الحظوة ويكسب المنزلة، ومنهم كاهن فاجر، يدعي علم الغيب، ويزعم معرفة المستقبل، ليروج بضاعته المزجاة، وكسبه الزائف على الخليقة.

أما هذا القرآن الذي طرق العالم، وهز القلوب وأذهل العقول، وأسكت الفصحاء، فشأن آخر، إنه فيض من الحقيقة، ونهر من النور، أنزله الحكيم الخبير تبيانا لكل شيء، فهو أحسن الحديث، أحسن القصص، وأجل المواعظ، وأصدق الكلام، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه نزل لهداية القلوب، وتطهير السرائر، وعمارة الضمائر، فهو معصوم من الفرية، محفوظ من الكذب، منزه عن الزور.

إن الوحي المقدس محفوظ عن نسج الخيال، وتصوير الوهم، فلا يدخله الشك، ولا يتطرق إليه الاحتمال، ولا يمازجه الهزل؛ لأنه يقين في نقله، صادق في خبره، عادل في حكمه، وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا.

إن على من أعرض عن القرآن واستبدل به أقوال البشر وخيالاتهم وأوهامهم، أن يتوب إلى ربه من هذا المسلك المشين، والمذهب البشع، لأنه استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فإذا لم تكن الحياة مع القرآن فمرحبا بالموت، وإذا لم يكن العيش مع هذا الوحي فأهلا بالمنية؛ لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال.

يكفي القرآن شرفا، أنه ليس بحديث يفترى، ويكفي أحاديث السمر وروايات البشر من حياة الفانين، أنها ترهات؛ لأنها وهم بلا صحة، وخيال بلا حقيقة، وظل بلا صورة، فكان جزاؤها الإهمال والضياع والخمول، وكان حق القرآن الخلود والبقاء والذيوع

«فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض».

منقول

يتبع
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ

سلسلة شهر القرآن

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ

الدكتور عائض القرني

أشغلكم تكاثركم بالأموال والأولاد والأشياء عن الاستعداد للقاء المحتوم واليوم الموعود، والالتهاء بالتكاثر عن المقاصد خذلان، والاشتغال بالوسائل عن المقاصد إفلاس، فالتكاثر يكون بجمع المال وتكديسه وتخزينه، فلا ينفق في الحقوق ولا تؤدى به الواجبات، فيكون الفقر الحاضر والشغل الدائم:

ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي صنع الفقر والتكاثر في الأولاد والاعتداد بهم بطرا ورئاء الناس دون أثرة من صلاح أو سعي لرشد، والتكاثر بالنعم ترفا وبذخا وإسرافا؛ لَهُوَ من أعظم العوائق عن الهداية والتزود بالصالحات، والتكاثر ضرب من السفه ومذهب من الرعونة يناسب عقول الصبيان وطموح الولدان، ومثله التكاثر بالعوامل بلا عمل، فتجتمع في الذهن بلا بصيرة، ويفنى في تحصيلها العمر بلا ثمرة، وتذوب في حفظها الأبدان بلا نفع، لأنها عطلت عن الامتثال، وفصلت عن الانتفاع بها، والتكاثر من الملهيات والمسليات والمغريات من شهوات ولذائذ وفنون وهوايات يجعل الحياة بهيمية ساقطة، والهمم سافلة، والعمر أضحوكة، والبقايا مهزلة:

من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام إن المسؤول الذي ألهاه التكاثر بالأوسمة والنياشين والألقاب لهو عابث يحفر لنفسه قبرا في عالم الخذلان والإحباط، وإن العالم الذي ألهاه التكاثر بجمع الغرائب، وحشد العجائب، والتطاول بمحصوله، والتباهي بمحفوظه، على حساب العمل لهو خاسر أشغله ذلك عن مرتبة الربانية، ودرجة الإمامة.

وإن الكاتب الذي ألهاه تكاثر نتاجه، وأشغله هذا السيلان، ونمو بريق الشهرة، وخدعه زخرف المديح لهو كاتب مخذول، إن من قدم الصورة على المضمون، والظاهر على النية والقصد، والدنيا عن الآخرة، والمخلوق على الخالق لهو عبد ضال سعيه وخائب منقلبه.

إن ركعة خاشعة من عابد صادق أجل من ألف رجعة لعبد ساه لاه عابث، إن قراءة آية بتدبر وتفهم خير من ختمة كاملة بلا حضور ولا تفكر، وإن مطالعة صفحة بإمعان أعظم من سرد مجلدات مع شرود وذهول، وإن الحسن أحسن من الكثرة والمداومة: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) وإن حوضا من ماء عذب أنفع من بحر ماؤه مالح، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.

منقول

يتبع
 
التعديل الأخير:
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ

سلسلة شهر القرآن

وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ

الدكتور عائض القرني

المنافقون يهتمون بالظاهر على حساب الباطن، أجسامهم ذاوية، وقلوبهم خاوية، ظاهر مغر، وباطن مخز، في العلن رجال وفي الخفاء خفافيش، ألسنة حالية ونفوس مريرة، فأول ما تشاهده منهم طلعات بهية، وهياكل قوية، وعضلات مفتولة، وسواعد مشدودة، شبع وسمن، ودعاوى عريضة، وتمدُّح أجوف، ولكنهم يحملون هما ساقطا، وعزائم منحطة ونيات خبيثة، ومرادات قبيحة، مرض ينخر في قلوبهم، وشك يعصف بنفوسهم، وخواء يعشعش في ضمائرهم، أما ألسنتهم فهي أسواق لبضاعة الكذب، ومتاحف للزور والبهتان، وأما قلوبهم فأطلال بالية أقام بها النفاق، وحل بها الكفر، وملأها الرجس.

إن المسألة ليست بالصور والهندام وجمال الأشكال وبهاء الهياكل، ولكن المسألة مسألة قلوب تبصر النور، ونفوس تفيض بالخير، وسجايا تشع بالفضيلة.

إن من يرتاب في أمر الله، ويشك في دينه، ويعرض عن عبادته، ويحارب رسله، ويعادي أولياءه، ويسخر من عباده لَهُو أولى الناس بالنبذ والإذلال والإهانة؛ لأنه خبيث النفس، خائن الضمير، ميت الإرادة.

إن هؤلاء الذين تعجبك أجسامهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، ولا يذكرون الله إلا قليلا، ولا ينفقون إلا وهم كارهون، فهم أضعف شيء عن الطاعات، وفعل الصالحات، وأداء الواجبات، ولكنهم أقوياء في اقتطاف الشهوات، وتصيد اللذائذ، وركوب المعاصي.

إن الله لا ينظر إلى صورنا ولا إلى أجسامنا، ولكنه ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، فلا يغرك جسم لا قلب فيه، وهيكل لا روح فيه، وجثمان ليس به حياة:

لا بأس بالقوم من طول ومن عِظم * جسم البغال وأحلام العصافير​

وعلينا النظر إلى الحقائق ومعادن الناس وأخلاقهم وصفاتهم:

خذ بحد السيف واترك نصله * واعتبر فضل الفتى دون الحلل​

إن الرجال لا يقومون بالثياب، وإن العظماء لا يقاسون بالأشبار، ولا يوزنون بالأرطال، ولكن قيمتهم عملهم الصالح، وقياسهم أخلاقهم الجميلة، ووزنهم تاريخهم المشرق.

إن شعرة في رأس عبد الله بن مسعود الصحابي خير من مليون رجل من أمثال عبد الله بن أبي بن سلول؛ المنافق السمين البدين البطين، وإن ظفر بلال بن رباح أفضل من جيش من أمثال أبي جهل الضخم الفخم المريد الرعديد، لأن المسألة مسألة إيمان وفقه وصلاح وتقوى لا لحم ولا عظم ولا شحم ولا دم.

منقول

يتبع
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ

سلسلة شهر القرآن

وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ

الدكتور عائض القرني

الصبح آية من آيات الله دالة على بديع صنعه وجميل خلقه، فالصبح له طلعة بهية ووجه مشرق يشع بالجلال والحسن، ومن أراد أن يعرف جمال الصبح فليتأمل قدومه بعد صلاة الفجر كيف يدبّ دبيبا كالبرء في الجسم وكالماء في العود، فإن الصبح يزحف بعد جحفل من الظلام فيطويه أمامه، فكأن الكون وجه تتبلج أساريره، وتشرق قسماته، وترتسم على محياه بسماته، وما أجمل الصبح، فيه يهب النسيم العليل، ويشع النور الهادئ، والضوء الدافئ، وتبدو الحياة، ويميس الزهر، ويندى الظل، وتتفتح الأزهار تفتُّح شفاه المحبين عن أسئلة حائرة، وتتفتق الأكمام تفتق عيون العاشقين عن أسرار دفينة.

في الصباح رجع الصدى، وقطر الندى، وحفيف الهواء، وتمتمة الماء، وتغريد الطيور، وسجع الحمام، وأنغام العندليب، في الصبح يرتحل الفلاح بمسحاته إلى الحقل، ويسوق البدوي أغنامه إلى المرعى، ويذهب الطالب إلى مدرسته، والطبيب إلى عبادته، والبائع إلى حانوته، فالصبح أذان معلم بالحياة، وإعلان بيوم جديد، وميلاد مجيد، لنهار آخر من الجد والعمل والعطاء والنماء.

ولكن أما دعاك هذا اللفظ الشائق في قوله تعالى: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)، أما وقفت معه وقفة إجلال للإبداع واحترام للبيان، كيف يتنفس الصبح؟ سؤال يجيب عنه من قرأ حروف القدرة على صفحات الكائنات.

والصبح يوم يتنفس كأنه محزون فقد أحبابه، فخرجت أنفاسه الحرى من أعماقه، أو كأنه مكبوت يشكو آلامه، فانبعثت من حشاياه آهاته، أو كأنه مظلوم صهر الظلم قلبه فانفجرت روحه بزفراته، أو كأنه مسجون كُبلت يداه وقُيدت قدماه، فعبر بلهيب توجعه عن معاناته.

وما أجمل أسلوب القرآن، ففي كل ذرة من اللفظ درة، ومن يدري؟! لعل الصبح تنفس بعد ليل طويل قاسٍ من الظلام والهجر والقطيعة، ولعله تنفس تنفُّس المسرور بلقاء أحبابه، السعيد برؤية أصحابه؛ لأن الصبح مقبل عن نهار جميل، وحياة دائبة، وحركة نشيطة من الجد والبذل والتضحية، والمقصود أن هذا الصبح كان مكظوم الأنفاس، مكبوت الحشى، ثم حانت لحظة الانطلاق فتنفس.

وأنا أدعو سلاطين البلاغة ودهاقنة البيان وأرباب الفصاحة أن يقفوا خاشعين أمام (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) ليذوقوا لذة الجمال، ومتعة الحسن، ليعلموا سر الإعجاز، في هذا الكتاب المعجز الخالد، وليدخلوا ديوان عظمة الخالق، ديوان قدرته ليروا جمال المقال، وبديع الأفعال، من ذي الجلال والإكرام.

منقول

يتبع
 
التعديل الأخير:
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ

سلسلة شهر القرآن

فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ

الدكتور عائض القرني​

لما أعرض أهل سبأ عن طاعة الله مزقهم كل ممزق، وقال: «فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ»، وفي هذه العبارة من قوة الأسر وروعة البيان ما يهز النفس، فكأنه حوّل هذه الأمة القوية إلى أحاديث فقط تدور في المجالس على ألسنة السمّار.

لك أن تعمم هذا المثل على كل أمة سادت ثم بادت، أما أصبحت أقوالا تدار في المجالس؟ أما ذهبت قوتها وسحق جبروتها، ومات ملوكها، ولم يبقَ إلا مجرد الخبر عنهم فحسب؟ أين الدول؟ أين الملوك؟! أين الجيوش؟! ذهبوا ولم يبقَ من ميراثهم درهم ولا دينار، وإن بقي حديث عنهم يتناقله الرواة وتلوكه الألسنة، ولكن أسلوب القرآن أرقى وأمتع، فإنه اكتفى بهذه العبارة التي يدهش من حسنها البلغاء، فلم يفصّل في هلاكهم وكيف دُمروا وماذا بقي من بيوتهم ومتاعهم، وإنما طوى الزمان والمكان، ثم أخبرنا أنه ما بقي منهم إلا الخبر عنهم، وإن حياة تنتهي إلى هذه الخاتمة لحقيق أن يزهد فيها، وأن يرغب عنها.

فبينما ترى الأمم دائبة في صنع وجودها ساعية في بناء حضارتها، إذا بها هباء منثور، ليس في الوجود منهم إلا كلمات تخبر عنهم، وهنا قف أمام قدرة القوي القهار وهو يأخذ أعداءه هذا الأخذ في لمحة الطرف، ثم لم يبقِ منهم باقية، ولم يترك لهم أثرا، ثم التفت إلى جمال عبارة القرآن وأسرها، وسرح الطرف في هذا الحسن لترى الإعجاز في الإيجاز، والقوة في الأسر، والمتعة في التأثير، وانظر إلى الواقع، واسأل نفسك: أين الحضارات التي ملأت الأرض؟ وأين الدول التي طبقت الدنيا؟ تعيش الدول ألف سنة ثم تنتهي فلا يبقى من آثارها إلا كلمات على شفاه السمّار، وجمل على ألسنة الركبان:

أَعِنْدَكُمْ خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ أَنْدَلُسٍ * فَقَدْ مَضَى بِحَدِيثِ القَوْمِ رُكْبَانُ.

اقرأ متن «فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ» على حضارة تدمر ودمشق وبغداد والزهراء والحمراء وقرطبة وغرناطة، فإذا هي قاع صفصف، أين التيجان والسلطان والهليمان؟ «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ». إن من يتدبر «فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ» يعلم هوان الخليقة على الله، وتفاهة مَن حادّ الله، وسخف مَن حاربه.

إنّ عدتهم وعتادهم وقوتهم لا تواجه من الله إلا بكلمة «كُنْ»، ليصبح الجميع أحاديث تتلى في النوادي، وقصصا تساق في المجامع، فلا قصورهم حمتهم، ولا جيوشهم منعتهم، ولا أموالهم شفعت لهم.

منقول

يتبع
 

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى