برنامج "التمساح" وتفاصيل الصفقة المحتملة
في مطلع عام 2022، تكشّفت معالم
برنامج سعودي سري للحصول على صواريخ باليستية جديدة من الصين يحمل الاسم الرمزي "التمساح" (Crocodile). ظهر هذا الاسم لأول مرة في تقرير لموقع
ذي إنترسبت الأمريكي، كُشف فيه أن الحكومة السعودية تخطط لاستيراد دفعة من الصواريخ الباليستية الصينية في موعد أقصاه نهاية مايو 2022 ضمن هذا البرنامج السري وأثار هذا التقرير ضجة في واشنطن، خاصة وأنه جاء متزامنًا مع توتر في العلاقات السعودية-الأمريكية على خلفية قضايا النفط وتقارب الرياض مع بكين.
بحسب المصادر الاستخباراتية الأمريكية التي نقلت عنها التقارير، لم يُفصح علنًا عن
نوع الصواريخ المشمولة في صفقة "التمساح". التزمت الرياض وبكين الصمت رسميًا، فيما اكتفت التسريبات بالقول إن
شحنة صواريخ باليستية ستتجه من الصين إلى المملكة في إطار تعاون defense سري يقلق واشنطن. وقد دفع هذا الغموض مدير وكالة الـCIA، وليام بيرنز، إلى القيام بزيارة عاجلة للرياض في أبريل 2022 للقاء ولي العهد محمد بن سلمان بشكل سري. خلال ذلك الاجتماع، الذي يُعتبر الأول من نوعه بين رئيس الـCIA والأمير محمد بن سلمان، حثّ بيرنز القيادة السعودية على عدم المضي قدمًا في شراء أسلحة صينية متطورة. كما ناقش مخاوف واشنطن من تقارب الرياض مع بكين (بما في ذلك فكرة بيع النفط باليوان الصيني) ومن انعكاس ذلك على النفوذ الأمريكي. لكن يبدو أن
القرار السعودي كان قد اتخذ ضمن استراتيجية أوسع لتنويع مصادر التسليح وتحقيق استقلالية استراتيجية أكبر، حتى لو أدى ذلك إلى امتعاض الحليف الأمريكي.
رغم ذلك، لا تزال
تفاصيل صفقة "التمساح" غامضة. فحتى اليوم لم تعلن الرياض أو بكين رسميًا عن أي تعاقد جديد على صواريخ باليستية. واكتفى تقرير
The Intercept الأصلي بالإشارة إلى
برنامج سري للصواريخ دون ذكر الأنواع. كذلك أشار تقرير لمعهد الدولية للدراسات الإستراتيجية (IISS) في 2025 إلى أنه من غير الواضح
إن كانت خطط الاستيراد ضمن برنامج "Crocodile" قد نُفذت بالفعل أم لا. كل ما يعرفه المراقبون هو أن السعودية ماضية في
تحديث وتوسيع قواتها الصاروخية بهدوء منذ أواخر العقد 2010s
أنواع الصواريخ الصينية المرجّحة في الصفقة
بالنظر إلى تاريخ تسلّح المملكة بصواريخ صينية وإلى الصور الجوية والتقارير الأخيرة، يمكن حصر
أبرز الصواريخ الباليستية الصينية المرشحة لتكون ضمن صفقة "التمساح" فيما يلي:
- الصاروخ Dongfeng-21 (DF-21): صاروخ باليستي متوسط المدى (MRBM) يعمل بالوقود الصلب ومتحرك على قاذفات متنقلة. يُقدر مداه بحوالي 1,700 كيلومتر، ما يضع كل أراضي إيران وإسرائيل ضمن نطاقه. يزن الصاروخ حوالي 15-20 طنًا، ويحمل رأسًا حربيًا (~600 كجم) تقليدي شديد الانفجار أو نووي تكتيكي. أهم ما يميّز DF-21 دقته العالية نسبيًا؛ إذ لا يتجاوز نصف قطر الخطأ المحتمل (CEP) له نحو 30 مترًا فقط، مقارنة بمئات الأمتار لصواريخ أقدم. كما يمنحه وقوده الصلب قابلية للإطلاق السريع خلال دقائق، بعكس صواريخ الوقود السائل التي تتطلب تجهيزًا مطولاً. كانت السعودية قد حصلت سرًا على هذا الصاروخ حوالي عام 2007 (بتنسيق غير معلن مع واشنطن لضمان عدم تزويده برؤوس نووية)، ويُعتقد أنه حلّ محل صواريخ DF-3 القديمة كقدرة ردع أكثر فعالية ودقة. يتيح DF-21 للسعودية ضرب أهداف في عمق الشرق الأوسط بسرعة فائقة (سرعة تحليقه تتجاوز 10 ماخ)، مما يجعل اعتراضه صعبًا على دفاعات الخصم. وجود هذا الصاروخ مؤكد ضمن الترسانة السعودية قبل "صفقة التمساح"، لذا من المحتمل أن تشمل الصفقة صواريخ أحدث وأبعد مدى من DF-21 لاستكمال منظومة الردع.
- الصاروخ Dongfeng-26 (DF-26): صاروخ باليستي متوسط-بعيد المدى (يصنف أحيانًا كصاروخ IRBM) وأكثر حداثة، يعتقد أنه أحد المرشحين بقوة ضمن الصفقة. يقدر مداه الأقصى بحوالي 3,000 إلى 4,000 كيلومتر، أي أنه قادر على الوصول إلى أهداف في كامل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب أوروبا انطلاقًا من السعودية. يعمل DF-26 بالوقود الصلب ومنصات إطلاق متحركة، ويتميز بقدرته على حمل رأس حربي ثقيل (~1200 كجم) سواء تقليدي شديد الانفجار أو رأس نووي استراتيجيarmscontrol.org. لدى الصين نسخ من هذا الصاروخ مخصصة أيضًا لضرب السفن (كحاملات الطائرات) عن طريق رؤوس حربية مناورة، لكن من غير المعروف إن كانت أي نسخة تصديرية ستتضمن هذه الخاصية. يملأ DF-26 الفجوة بين صواريخ DF-21 متوسطة المدى التي تمتلكها السعودية وصواريخ DF-3 القديمة (CSS-2) التي وصل مداها إلى 2700 كم. لذا من المنطقي أن تسعى الرياض للحصول على DF-26 لتعويض إحالة DF-3 إلى التقاعدwashingtoninstitute.org، مما يمنحها قدرة ضرب أبعد مدى وبحمولة أكبر من DF-21. ورغم عدم وجود تأكيد معلن، أشارت بعض التسريبات إلى احتمال تسلم المملكة دفعات من صواريخ Dongfeng أحدث منذ 2018 على شكل شحنات متتاليةarmscontrol.org – قد يكون DF-26 من بينها. يجدر بالذكر أن مدى DF-26 يتجاوز قيود اتفاقية MTCR بكثير (إذ يتخطى 300 كم وبحمولة تفوق 500 كجم)، ما يجعله نظامًا حساسًا من ناحية الانتشار. ومع ذلك، الصين ليست عضوًا رسميًا في الـMTCR وقد ألمحت تقارير إلى أنها صدّرت مثل هذه الصواريخ إلى الرياض ضمن ترتيبات سريةarmscontrol.orgarmscontrol.org.
- الصاروخ Dongfeng-31/31A (DF-31): وهو صاروخ باليستي عابر للقارات (ICBM) يعمل بالوقود الصلب، ويُعتبر من أحدث ما قد تفكر السعودية باقتنائه. يبلغ مدى DF-31 نحو 8,000 كيلومتر، ويمكن للنسخة المطوّرة DF-31A أن تصل إلى حوالي 11,000 كيلومتر. صُمم هذا الصاروخ لحمل رؤوس نووية حيث بمقدوره حمل رأس حربي نووي حراري بقدرة تقارب 1 ميغاطن أو ما يصل إلى ثلاثة رؤوس نووية صغيرة من نوع MIRV (كل منها بقوة 20-150 كيلوطن). ويمتاز DF-31 بكونه متحركًا (منصوب على شاحنات نقل ثقيلة) مما يزيد من بقائيته وقدرته على المناورة والاختفاء. طرح اسم هذا الصاروخ في سياق برنامج التمساح عبر تقارير غير مؤكدة أشارت إلى أن السعودية ربما سعت للحصول على أحدث الصواريخ الباليستية الصينية عابرة القارات. إن صح ذلك، فسيشكل نقلة هائلة في قدرات الرياض الصاروخية، إذ سيوفر لها إمكانية ضرب أهداف على مستوى عالمي وليس إقليمي فحسب. لكن عمليًا تبقى جدوى DF-31 التقليدية محدودة إذا لم تكن مزودة برؤوس غير تقليدية، نظرًا لضخامة الصاروخ وتكلفته مقابل حمولة تقليدية قد لا تحدث تأثيرًا استراتيجيًا كبيرًا. يرجح محللون أن أي توجه سعودي نحو صواريخ عابرة للقارات ينبع أساسًا من رغبة في امتلاك منصة إيصال نووية محتملة على المدى البعيد (كدولة "عتبة نووية")، أكثر منه لاستخدام تقليديcarnegieendowment.orgcarnegieendowment.org. ومما يعزز احتمال اهتمام الرياض بـDF-31 هو سابقة تعاونها الوثيق مع باكستان في المجال النووي؛ إذ تتواتر شائعات بأن السعودية قد تحصل على رؤوس نووية باكستانية في حال امتلكت منصات الإطلاق المناسبة كصاروخ عابر للقارات. على كل حال، لم تظهر دلائل علنية قاطعة على امتلاك السعودية DF-31 حتى الآن، لكن اسمه يظل متداولاً ضمن الترجيحات المتعلقة بصفقة "التمساح".
- صواريخ أخرى محتملة: بجانب ما سبق، هناك تكهنات أقل تداولاً بأن السعودية ربما تهتم أيضًا بصواريخ صينية أحدث مثل DF-17 (وهو صاروخ متوسط المدى مزوّد بمركبة انزلاقية فرط صوتية) أو تطوير نسخ محلية بالتعاون مع الصين. الـDF-17 يبلغ مداه حوالي 1800-2500 كم ويستطيع حمل رأس حربي ينزلق بسرعة فرط صوتية على ارتفاعات منخفضة، مما يجعله صعب الاعتراض. امتلاك مثل هذا السلاح المتطور سيمنح الرياض قدرات هجومية خارقة للدفاعات التقليدية. مع ذلك، لا معلومات موثوقة حتى الآن تربط DF-17 مباشرةً بالسعودية، وربما تكون الفكرة مجرد توقعات من بعض المحللين نظراً لتنامي الشراكة العسكرية الصينية-السعودية. كذلك من المحتمل أن تشمل الشراكة نقل تقنيات لأنظمة أقصر مدى لا تخضع لقيود MTCR (دون 300 كم) لتطوير منظومات محلية، لكن الأولوية السعودية الواضحة هي للصواريخ الاستراتيجية بعيدة المدى والتي لا يمكن الحصول عليها من الغرب
الاستراتيجية السعودية وراء الصفقة ودورها في الردع وتطوير الصناعة
دوافع الرياض الاستراتيجية: تأتي تحركات السعودية نحو تعزيز قدراتها الصاروخية – بما في ذلك صفقة "التمساح" – ضمن
رؤية شاملة لتعزيز الردع الإستراتيجي. فالمملكة تشعر بتهديد متصاعد من الترسانة الصاروخية الإيرانية المتنوعة (التي تشمل صواريخ قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى) ومن انتقال هذه الصواريخ إلى أيدي جماعات حليفة لطهران مثل الحوثيين وحزب الله خلال حرب اليمن، تلقت السعودية ضربات متكررة بصواريخ ومسيّرات أطلقها الحوثيون على عمق أراضيها، مما
كشف محدودية الاعتماد على سلاح الجو والدفاعات الجوية فقط في صد تلك الهجمات. أدركت الرياض أن امتلاكها قوة صاروخية رادعة بنفس الزخم سيحقق توازنًا مع خصومها؛ فالصواريخ الباليستية قادرة على الوصول إلى الخصم
حين يعجز سلاح الجو عن ذلك لأسباب تكتيكية أو سياسية. كما أن وجود ترسانة صاروخية
يعقّد حسابات العدو إذ يفرض عليه احتمال تلقي ضربات مكلفة ردًا على أي اعتداء.
من هذا المنطلق، يُنظر إلى صفقة الصواريخ الصينية كسعي سعودي إلى
ترسيخ مبدأ الردع ضد إيران بالدرجة الأولى. فطهران تمتلك برنامجًا صاروخيًا ضخماً وتنفق عليه منذ عقود، بل إنها استخدمت صواريخها مرارًا (مباشرة أو عبر وكلائها) لاستهداف مصالح سعودية وأمريكية في المنطقة
carnegieendowment.orgcarnegieendowment.org. بالتالي، امتلاك الرياض لصواريخ باليستية حديثة بعيدة المدى يهدف إلى جعل أي تفكير إيراني في مهاجمة السعودية مكلفًا وباهظ الثمن. وقد صرّح مسؤولون وخبراء أن
هذه الصواريخ السعودية ذات الرؤوس التقليدية تخدم كرادع إستراتيجي يمنع الخصوم من التصعيد، حتى وإن لم تُستخدم فعليًا. والملاحظ أن السعودية
لم تلجأ لإطلاق أي من صواريخها الباليستية في حرب اليمن أو غيرها من النزاعات الإقليمية حتى الآن، مما يشي بأن دورها
ردعي أكثر منه قتالي مباشر. فهي
ورقة قوة تخرج من الظل عند الأزمات الوجودية وليس في كل اشتباك محدود. هذا النهج مشابه لامتناع باكستان أو الهند عن استخدام الصواريخ الباليستية في حروب تقليدية إلا في حالة التهديد الاستراتيجي. إذ تحافظ السعودية على صواريخها كورقة أخيرة للردع ضد أي اعتداء إيراني كبير أو تهديد لأمنها القومي.
تحديات العلاقة مع الحلفاء: لا شك أن هذا التوجه السعودي يصطدم باعتبارات سياسية مع الحليف الأمريكي. فقد
ضغطت واشنطن مرارًا لكبح التعاون السعودي-الصيني في مجال الصواريخ ووصل الأمر إلى أن إدارة ترامب السابقة
حجبت معلومات عن الكونغرس بشأن تسارع البرنامج الصاروخي السعودي لتجنب مواجهة سياسية حولها
carnegieendowment.org. أما إدارة بايدن، فرغم وعودها باتخاذ نهج متشدد، إلا أنها سعت إلى إيجاد أرضية تفاهم مع الرياض لمنع انزلاقها الكامل نحو الصين. وفي هذا السياق يمكن فهم زيارة مدير CIA وطلبات واشنطن العلنية والضمنية بعدم شراء أسلحة صينية متطورة. لكن يبدو أن
الرياض باتت تعتمد سياسة توازن جديدة: فهي من جهة حريصة على استمرار الشراكة الأمنية مع الولايات المتحدة، ومن جهة أخرى
لن تتردد في التعاون مع قوى أخرى (كالصين) للحصول على ما تعتبره ضروريًا لأمنها القومي
reuters.com. وقد استخدمت السعودية بمهارة أوراق قوتها – كدورها في أسواق الطاقة – للحفاظ على هامش الحركة هذا دون أن تخسر علاقاتها مع أي طرف
reuters.comreuters.com. ويمكن القول إن صفقة الصواريخ مع الصين أصبحت
واقعًا ضمن ترتيبات الشرق الأوسط الجديدة، حيث تنتهج الدول الإقليمية سياسات أكثر استقلالية وتعددًا في الشراكات في ظل تنافس القوى العظمى على النفوذ في المنطقة
reuters.comreuters.com.
خلاصة: تمثل صفقة "التمساح" للصواريخ الباليستية بين السعودية والصين – إذا ما اكتملت تفاصيلها –
علامة فارقة في مسار تسلّح المملكة وبرنامجها الصاروخي. فهي امتداد لسابقاتها في الثمانينات وال2000s لكن بزخم تقني واستراتيجي أكبر، وتأتي في ظل تحولات جيواستراتيجية إقليمية (تصاعد تهديدات إيران الصاروخية) ودولية (احتدام المنافسة الأمريكية-الصينية). من منظور الرياض، توفر هذه الصفقة
تعزيزًا ضروريًا لقوة الردع السعودية وضمانًا لقدرتها على حماية أمنها في بيئة مضطربة
carnegieendowment.org. ومن منظور بكين، تعزز الشراكة الصاروخية نفوذ الصين "الناعم" في الخليج عبر بناء القدرات بدلًا من إرسال الجيوش، وتفتح سوقًا مهمة لصناعتها الدفاعية. أما واشنطن وحلفاؤها فيرون في ذلك تطورًا مقلقًا يقوض جهود منع الانتشار وربما يشعل
سباق تسلح إقليمي إذا شعرت أطراف أخرى بالتهديد
armscontrol.org. وفي المحصلة، تكشف صفقة "التمساح" كيف
توازن السعودية بين القوى العظمى لتحصيل مصالحها الأمنية، وكيف أن بناء قوة صاروخية محلية أصبح
ركنًا أساسيًا في استراتيجيتها الدفاعية الشاملة جنبًا إلى جنب مع سلاح الجو والتفوق التكنولوجي في المجالات الأخرى. إنها رسالة سعودية واضحة بأن
الردع الصاروخي بات عنصرًا أصيلًا في معادلة الأمن الخليجي،
اليوم وغدًا.