
"من الثمانينيات إلى 2030: بناء إمبراطورية الصواريخ السعودية"
في عمق الصحراء، حيث يذوب الأفق في وهج الشمس، وحيث تتردد في الرمال أصداء معارك الماضي، نشأت قوة جديدة لم يعرف لها الخصوم مثيلاً في المنطقة. إنها قوة الصواريخ الاستراتيجية الملكية السعودية RSSMF، السلاح الذي يظل ساكناً في مخابئه المحصنة، صامتاً في قواعده، لكنه حاضر دائماً في حسابات الأعداء، مهيباً كرعدٍ صامت ينتظر إشارة الانطلاق.
لقد كانت رؤية القيادة السعودية أن زمن الحروب الحديثة لا يقتصر على الدبابات والطائرات، بل على القدرة على الردع البعيد، القادر على تغيير مسار أي معركة قبل أن تبدأ.
وكما قال الأمير سلطان بن عبد العزيز – رحمه الله – عن هذه القوة:
"إنها قوة ردع لتحقيق السلام الذي يدعو إليه الإسلام."
الخلفية التاريخية
كانت الثمانينيات عقداً عاصفاً في الشرق الأوسط، حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران اشتعلت كعاصفة رملية تبتلع كل ما في طريقها. في تلك الفترة المليئة بالاضطرابات، وجدت المملكة العربية السعودية نفسها أمام تهديدات متشابكة، صواريخ سكود و الحسين والعباس العراقية التي طالت الأراضي الإيرانية وهددت حدود المملكة، الترسانة النووية الإسرائيلية الغامضة، والطموحات التوسعية الإيرانية. كان لا بد من حل استراتيجي يحمي المملكة ويحقق التوازن في معادلة الردع الإقليمي.
من هنا انطلق "مشروع الصقر"، الاسم الأول لبرنامج الصواريخ السعودي، الذي مثّل بذرة تأسيس قوة جديدة في المنطقة وفي رحلة سرية حملت ملامح الدراما السياسية، أوفدت القيادة السعودية الأمير بندر بن سلطان إلى بكين للتفاوض على صفقة تاريخية، انتهت بتوقيع الأمير خالد بن سلطان في عام 1986م على شراء صواريخ "رياح الشرق" (DF-3A) من الصين. كانت تلك الصفقة أول صفقة من نوعها في الشرق الأوسط، جعلت السعودية أول دولة في المنطقة تدخل الخدمة بصواريخ باليستية متوسطة المدى (MRBM)، خارج المظلة الغربية.
هذه الخطوة مثلت انقلاباً استراتيجياً بكل المقاييس؛ فبينما رفضت الولايات المتحدة بيع الرياض مثل هذه الأنظمة المتقدمة خشية اندلاع سباق تسلح، لجأت السعودية إلى الشرق البعيد، لتؤسس قوة الصواريخ الاستراتيجية رسمياً في عام 1986م كفرع خامس مستقل ضمن القوات المسلحة السعودية تحت إشراف وزارة الدفاع، قبل أن تأخذ اسمها الحالي عام 1987م.
ومنذ تلك اللحظة، وُصفت القوة بـ "الخدمة الصامتة"، حيث بُنيت قواعد محصنة تحت الأرض لإخفاء الصواريخ عن أعين الأقمار الصناعية، لتبقى ورقة ردع صامتة وحاضرة. وعندما اندلعت حرب الخليج الثانية عام 1990، أثبتت هذه القوة قيمتها الاستراتيجية في الردع ضد التهديدات العراقية، لتتحول مع مرور الزمن إلى ركيزة أساسية في عقيدة الدفاع السعودية، خصوصاً مع تصاعد التوترات مع إيران.
التعريف بالقوة وتنظيمها
قوة الصواريخ الاستراتيجية السعودية (Royal Saudi Strategic Missile Force) هي فرع مستقل من فروع القوات المسلحة السعودية، وتتبع مباشرة لوزارة الدفاع، وتُعد المسؤول الأول عن تشغيل وإدارة منظومات الصواريخ الباليستية.
❖ المقر الرئيسي: الرياض
❖ القائد الحالي للقوة: الفريق الركن جار الله العلويط
❖ المهام: تأمين الردع الاستراتيجي للمملكة عبر نشر وتشغيل الصواريخ الباليستية.
❖ عدد الأفراد: غير معلن رسميًا، التقديرات تشير إلى عدة آلاف من الضباط والفنيين والجنود
❖التدريب والتأهيل
• الضباط:
يتخرجون من كلية الملك عبد الله للدفاع الجوي في الطائف، حيث يتلقون برامج تعليمية وتدريبية متخصصة في القيادة والسيطرة والأنظمة الصاروخية.
• الأفراد:
يتم تدريبهم في مركز ومدرسة قوة الصواريخ الاستراتيجية بوادي الدواسر، حيث يتعلمون التشغيل والصيانة والإجراءات الفنية المرتبطة بالصواريخ.
دور قوة الصواريخ الاستراتيجية في العقيدة العسكرية السعودية
منذ تأسيسها وحتى اليوم، لم تُصمم قوة الصواريخ الاستراتيجية السعودية لتكون مجرد ترسانة ساكنة، بل لتكون جزءاً متكاملاً من العقيدة الدفاعية الشاملة للمملكة ويمكن تلخيص دورها في المحاور التالية:
المحور | التوضيح |
---|---|
1 - الردع الاستراتيجي | تمثل القوة الذراع طويلة المدى للمملكة، لردع أي تهديدات إقليمية أو بعيدة المدى تهدد العمق السعودي. |
2 - حماية السيادة الوطنية | ضمان عدم تمكن أي خصم من تهديد الأراضي السعودية دون مواجهة عواقب وخيمة. |
3 - تعزيز الاستقلالية الدفاعية | تقليل الاعتماد على المظلة النووية أو الدفاعية للحلفاء (مثل ) وبناء قدرة ردع وطنية مستقلة. |
4 - الاستجابة السريعة للأزمات | بفضل جاهزيتها العالية وسرعة إطلاقها، تمثل أداة فاعلة للرد الفوري حال وقوع عدوان واسع. |
5 - الرمزية الاستراتيجية والسياسية | تُظهر مكانة المملكة كقوة إقليمية كبرى وقادرة على حماية مصالحها الحيوية. |
6 - تكامل الأسلحة المشتركة | تعمل ضمن منظومة الدفاع الوطني مع القوات الجوية والدفاع الجوي لتحقيق مبدأ «الضربة المتكاملة». |
7 - السرية والتمويه العملياتي | تبني العقيدة على الحفاظ على الغموض حول مواقع وأنواع الصواريخ، لحرمان الخصم من استهدافها بشكل دقيق. |
القواعد الصاروخية المعلنة
تنتشر قوة الصواريخ الاستراتيجية في عدة مواقع سرية، لكن بعض القواعد جرى الإعلان عنها أو ظهرت في تقارير ودراسات مفتوحة المصدر. وتمثل هذه القواعد مواقع استراتيجية تم بناؤها بطرق هندسية خاصة لتحصينها تحت الأرض وحمايتها من الضربات الجوية، بما يضمن بقاء القدرة الصاروخية فاعلة حتى في أسوأ ظروف المواجهة.
القواعد الصاروخية المعلنة
اسم القاعدة | الموقع الجغرافي |
---|---|
قاعدة 511 | محافظة الحريق |
قاعدة 522 | محافظة السليل |
قاعدة 533 | رنية |
قاعدة 544 | الدوادمي |
قاعدة 566 | حائل |
قاعدة النبهانية | محافظة النبهانية |
قاعدة الإسناد والصيانة | الطائف |
أنواع الصواريخ العاملة في قوة الصواريخ الاستراتيجية
شهب على رأس العدو لا تُصد *** وصواعق من سمٍّ زعاف لا تُرد
بهذا البيت الشعري يمكن وصف ما تمتلكه المملكة من قوة ردع صاروخية.
إذ يتسم هذا القطاع بقدر كبير من الغموض والسرية، فلا يُعرف على وجه الدقة عدد الصواريخ أو تنوعها، إلا أن بعض الأنواع قد أُعلن عنها أو جرى تسريبها عبر تقارير متعددة، وهي تمثل الركيزة الأساسية في ترسانة قوة الصواريخ الاستراتيجية السعودية.
الصاروخ | المدى (كم) | وزن الرأس الحربي (كغ) | الطول / القطر / الوزن الكلي | نوع الوقود | الصورة |
---|---|---|---|---|---|
DF-3A (MRBM) | 2,800 – 4,000 | 2,500 | 24 م / 2.25 م / 64 طن | سائل | |
DF-21C (MRBM) | 1770 – 2,150 | 600 – 2,000 | 10.7 م / 1.4 م / 15 طن | صلب | |
يٌعرف بـ Missile X | غير معروف لكن يتوقع بين ( 1,500 - 2,000 ) | رأس MaRV (غير مؤكد) | حوالي 17 م / ≈ 1.35 - 1.5 م | صلب | |
يُعرف بـ Missile Y | غير معروف لكن يتوقع بين ( 1,000 - 1,500 ) | غير معروف لكن يتوقع بين ( 500 - 700 ) | حوالي 14 م / ≈ 1.25 م | صلب |
مشروع "التمساح" مع الصين
ضمن مسار التحديث والتطوير المستمر لقدرات قوة الصواريخ الاستراتيجية السعودية، برز ما عُرف إعلاميًا باسم "مشروع التمساح"، وهو مشروع تعاون عسكري - صاروخي بين المملكة والصين.
يهدف المشروع إلى تزويد القوة بأنواع متطورة وحديثة من الصواريخ الباليستية، أكثر دقة وأطول مدى من النماذج السابقة، بما يواكب متطلبات الردع الاستراتيجي للمملكة في العقود المقبلة.
وقد ارتبط المشروع بسرية عالية، وهو يمثل خطوة طبيعية في مسار سعي المملكة إلى تنويع مصادر تسليحها وضمان استقلالية قرارها الدفاعي، مع تعزيز قدراتها على امتلاك جيل أحدث من الصواريخ الباليستية القادرة على فرض معادلات ردع إقليمية ودولية.
صناعة الصواريخ الباليستية في المملكة
ضمن رؤية 2030، وضعت السعودية هدفاً استراتيجياً يتمثل في تحقيق الاكتفاء الذاتي في الصناعات الدفاعية، ومن أبرزها مجال الصواريخ الباليستية. ويُعد التعاون مع الصين حجر الأساس في هذا المشروع، سواء من حيث نقل التكنولوجيا أو بناء القدرات المحلية.
بدأت المؤشرات العلنية عام 2019 مع رصد صور أقمار صناعية لتوسعة قاعدة الدوادمي، حيث ظهر مصنع لإنتاج محركات صواريخ تعمل بالوقود الصلب، وهو ما اعتبر دليلاً على بداية برنامج إنتاجي محلي بمساعدة صينية.
في ديسمبر 2021، كشفت تقارير أمريكية – أبرزها CNN – أن السعودية أصبحت "تعمل بنشاط على تصنيع صواريخها الباليستية"، مع صور أقمار صناعية لموقع قرب الدوادمي يضم "حفرة حرق" (burn pit) للتخلص من بقايا الوقود الصلب، وهي علامة مؤكدة على إنتاج صواريخ صلبة الوقود. وأكد خبراء من مركز جيمس مارتن أن التكنولوجيا المستخدمة صينية الأصل، وربما مرتبطة بتصاميم معدلة من صواريخ DF-21.
بحلول 2022، أشارت تقارير متخصصة إلى أن المملكة دخلت فعلياً مرحلة الإنتاج المحلي لصواريخ صلبة الوقود، مع استثمارات بمليارات الدولارات، وتوسع في شراكة استراتيجية مع الصين. ورغم تحفظات واشنطن، أكدت بكين أن التعاون لا ينتهك القوانين الدولية، باعتباره جزءاً من "الشراكة الاستراتيجية الشاملة" بين البلدين.
وفي 2023، لمح وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير إلى هذا التعاون علناً بقوله إن "المملكة ستفعل كل ما يلزم لحماية شعبها"، في إشارة إلى حقها السيادي في تطوير قدراتها الباليستية.
أما في 2024–2025، فقد أظهرت صور أقمار صناعية جديدة توسعات كبيرة في البنية التحتية، منها منشأة تحت الأرض قرب النبهانية اكتمل معظمها بحلول مطلع 2024، إلى جانب تحديث قواعد أخرى مثل السليل والحريق. هذا التطور يؤكد أن البرنامج السعودي بلغ مرحلة النضج الصناعي، مع تركيز على صواريخ متوسطة المدى (1,500–3,000 كم)، دقيقة الإصابة وسريعة الإطلاق بفضل تكنولوجيا الوقود الصلب الصينية.
سجل إطلاق الصواريخ والمناورات المشتركة
رغم الطبيعة السرية التي تحيط بقدرات قوة الصواريخ الاستراتيجية السعودية، إلا أن مشاركتها في المناورات العسكرية الكبرى أظهرت جزءًا من قدراتها التشغيلية ومدى تكاملها مع باقي أفرع القوات المسلحة.
في عام 2009، وخلال إحدى المناورات التعبوية المشتركة مع قوات الدفاع الجوي، تم تنفيذ تجربة إطلاق واسعة النطاق شملت إطلاق 8 صواريخ باليستية دفعة واحدة. وقد تمكنت أنظمة الدفاع الجوي من اعتراض 7 منها بنجاح بواسطة منظومات (Patriot)، في استعراض واضح لمستوى التنسيق العالي بين القوة الصاروخية والدفاعات الجوية.
عكس هذا التمرين صورة حقيقية عن قدرة المملكة ليس فقط على تشغيل صواريخها الباليستية ضمن سيناريوهات الردع، بل أيضًا على إدماجها في تدريبات ميدانية عملية، مما يمنحها مرونة تشغيلية ويعزز منظومة الدفاع الشامل للمملكة.
التوتر مع الولايات المتحدة (1988)
بحسب مذكّرات السفير الأمريكي لدى الرياض هيوم هوران، فإن العلاقات بين السعودية وواشنطن دخلت مرحلة توتر شديد أواخر الثمانينات بعد رفض الولايات المتحدة تزويد المملكة بالصواريخ التي تطلبها وردًا على ذلك، قام الأمير بندر بن سلطان بترتيب صفقة مع الصين لشراء صواريخ باليستية (DF-3) وصلت بالفعل إلى المملكة عام 1987 في سرية تامة، وهو ما شكّل صدمة كبيرة للأمريكيين والإسرائيليين على حد سواء.
السفير الأمريكي أُمر بنقل مطالب واشنطن إلى الملك فهد بوقف تشغيل المنصات الصينية والسماح بتفتيش الصواريخ، لكن الملك رفض ذلك بشكل قاطع، مؤكداً أنها ليست نووية وأنه لن يسمح لأحد برؤيتها. وقد واجه السفير بغضب الملك فهد الذي انفجر في وجهه قائلاً إن التدخل الأمريكي مرفوض، قبل أن يقرر طرده من المملكة.
هذا الموقف السعودي الحازم، ورفض التفتيش الأمريكي، اعتُبر إعلانًا واضحًا بسيادة القرار العسكري للمملكة واستقلالها عن الضغوط الأمريكية، وانتهى الأمر برحيل السفير هوران عام 1988، ليصبح ذلك من أبرز محطات التوتر بين البلدين.
محاولة إسرائيل استهداف الصواريخ جنوب الرياض
في أواخر الثمانينيات، بعد وصول صواريخ "رياح الشرق" (DF-3A) إلى قواعد جنوب الرياض عام 1987، رأت إسرائيل في هذه الصواريخ تهديداً مباشراً لمستوطناتها ومدنها الرئيسية، مستذكرة ضربة أوسيراك العراقية عام 1981 خططت تل أبيب لعملية قصف سريعة باستخدام مقاتلات F-15 وF-16، مع اختراق جوي عبر الأراضي السعودية الشمالية، مستهدفة قاعدة السليل جنوب الرياض .
لكن الاستخبارات السعودية كانت سابقة لكل خطوة من خلال شبكة مراقبة متقدمة تشمل تحليل إشارات الرادار والاتصالات المشفرة ومصادر بشرية، رصدت الرياض تحركات المقاتلات الإسرائيلية في الشمال الغربي وبدأت التخطيط الدفاعي الاستباقي.
في قلب هذه الجهود، أمر الملك فهد ووزير الدفاع الأمير سلطان بتعزيز الرادارات، نشر مقاتلات F-15 سعودية مجهزة بصواريخ AIM-7، وتفعيل بطاريات الدفاع الجوي هوك على طول الحدود الشمالية ، مع تكثيف التدريب على سيناريوهات اعتراض سريعة لأي اختراق كما أُخفيت الصواريخ DF-3 في مرابض تحت الأرض، مع تجهيز فرق الصيانة والتشغيل لإطلاق سريع في حالة الهجوم.
في الوقت نفسه، عملت الدبلوماسية السعودية على إرسال رسائل تحذيرية إلى واشنطن، مما دفع الولايات المتحدة للضغط على تل أبيب لمنع أي تصعيد. أمام هذا الجدار الدفاعي واليقظة الاستخباراتية المحكمة، تراجعت إسرائيل عن تنفيذ خطتها، مكتفية بالمراقبة عن بعد، دون إطلاق أي صاروخ.
لقد أصبحت هذه الحادثة علامة فارقة، تُظهر كيف حوّلت السعودية الاستخبارات والقوات الجوية و الدفاع الجوي إلى سيف ردع حي، يحمي أراضيها ويبرز قوة الصواريخ الاستراتيجية كرمز للردع الذي أنقذ المملكة من كارثة محتملة، كل ذلك دون إطلاق رصاصة واحدة.
أخيراً
قد لخص الأمير خالد بن سلطان – أحد أبرز قادة القوة – حقيقة نشأتها بقوله:
"هذه القوة تم إنشاؤها بصمت فجاءت عملاقة، وتم تدريبها بخفية فانطلقت قدما، أذهل العالم نبؤها وأثار الرعب مولدها وتحقق الردع بوجودها."
إن قوة الصواريخ الاستراتيجية السعودية ليست مجرد سلاح في ترسانة المملكة، بل هي رمز سيادي واستراتيجي ورسالة ردع صامتة:
أن أي تهديد لأمن المملكة سيُقابل برد مزلزل، وأن أرض الحرمين الشريفين محمية بسيوف الماضي وصواريخ المستقبل.
- النهاية -