ثانيا: الهندسة والعمارة
مصر الفرعونية:
كانت الهندسة المعمارية في مصر الفرعونية مبهرة في دقتها وضخامتها ، إلا أن هذه العظمة كانت موجهة نحو غاية محددة ، بناء مقابر ضخمة و"فنادق للخلود" تليق بمكانة أبناء الآلهة من الفراعنة. لم تكن الأهرامات والمعابد مجرد أماكن للعبادة، بل كانت تجسيداً فنياً لفكرة الخلود ، وأداة لترسيخ السلطة الإلهية للحاكم ، وقد سخرت موارد الدولة والمجتمع بأكمله لإنجاز هذه المنشآت الرمزية ، ما أدى إلى تهميش احتياجات السكان العاديين ، حيث ظلت مساكنهم متواضعة وبسيطة ، دون أن تنشأ حضارة معمارية مدنية موازية تضاهي تلك الإنشاءات الجنائزية.
ورغم التقدم الهائل في التقنيات الهندسية ، خاصة في تشييد الأهرامات والمعابد الضخمة ، التي تعد من أعظم منجزات العمارة في العالم القديم ، فإن هذه المنشآت صممت أساساً لخدمة الطقوس الجنائزية وتخليد ذكرى الفراعنة ، فقد بنيت الأهرامات لتكون قبوراً عملاقة تحتوي أجساد الملوك المحنطة ، ومجهزة لضمان انتقالهم الآمن إلى العالم الآخر ، لذلك ، كانت الحسابات الهندسية دقيقة للغاية لتتماشى مع الاعتقادات الفلكية والدينية ، مثل توجيه الأهرامات نحو مواقع نجمية محددة.
مع ذلك ، لا يمكن إغفال بعض النماذج المعمارية المدنية التي ظهرت ، رغم محدوديتها ، فقد نشأت مدن مثل "دير المدينة"، التي خصصت لسكنى الحرفيين العاملين في وادي الملوك ، وتميزت بتنظيم واضح في توزيع البيوت والمرافق. كما أنشأ إخناتون مدينة "تل العمارنة" ، التي كشفت عن ملامح تخطيط حضري منظم ، من شوارع مستقيمة ومبان إدارية وسكنية ، لكن هذه النماذج بقيت استثناءات محدودة لم تغير من توجه الدولة ، التي واصلت استثمار مواردها الكبرى في العمارة ذات البعد الرمزي والجنائزي ، أكثر من تلك التي تخدم الاحتياجات اليومية لعامة السكان.
دوافع التطور:
كان دافع التطور الهندسي في مصر الفرعونية يتمثل بشكل رئيسي في الرغبة ببناء منشآت خالدة، تضمن للفرعون حياة أبدية بعد الموت ، وتحفظ مكانته الروحية ، مثل الأهرامات والمعابد الجنائزية.
الإنجازات:
تشييد الأهرامات العظيمة، لا سيما هرم خوفو في الجيزة (حوالي 2580 ق.م)، كأحد أبرز معالم العمارة القديمة.
بناء معابد ضخمة بأعلى معايير التوازن والدقة ، مثل معبد الكرنك ووادي الملوك.
تطوير أنظمة معمارية متقدمة، خاصة في استخدام الأعمدة والهندسة الرياضية الدقيقة.
الارتباط بالدين:
ارتبطت الهندسة المصرية ارتباطاً وثيقاً بالمعتقدات الدينية ، حيث خدمت العمارة طقوس البعث والخلود ، وعززت رمزية السلطة الروحية للفرعون ، إذ صممت المنشآت لتلبية متطلبات الجنائز والعالم الآخر.
بلاد الرافدين:
على النقيض من مصر، اتسمت الهندسة المعمارية في بلاد الرافدين بالتوازن بين الجانب الديني والمدني. فعلى الرغم من أن الزقورات كانت معابد دينية ضخمة ، إلا أنها لم تكن مخصصة كقبور ، بل بنيت كأبراج شامخة تعلو فوق المدن ، تجسد السعي للتقرب من الآلهة ، وتستخدم كمراكز دينية وتعليمية مفتوحة للجميع.
وقد شملت العمارة في بلاد الرافدين عناصر متعددة من الحياة المدنية ، إذ بنى البابليون مدناً بتخطيط واضح ، تميزت بوجود أسوار دفاعية ، وشبكات شوارع ، ومبان عامة ، إلى جانب أنظمة ري وقنوات لتحسين الزراعة ، مما ساهم في ازدهار الحضارة ومرونتها.
ما يميز النموذج المعماري في بلاد الرافدين هو أنه لم يسخر بالكامل لخدمة غرض فردي ديني أو جنائزي ، بل توزعت الجهود والموارد بين الوظائف الدينية والخدمية. فعلى الرغم من القدسية التي حملتها الزقورات ، إلا أنها لم تكن مخصصة لشخص معين ، بل كانت مؤسسات مركزية تؤدي وظائف دينية ، إدارية ، وتعليمية تخدم سكان المدينة ، على عكس العمارة المصرية التي خصصت لتخليد شخصية الفرعون وحده.
من الجدير بالذكر أيضاً ما كشفته الدراسات الأثرية من سمات مرونة وتجدد مستمر في عمارة بلاد الرافدين. فقد كانت المدن تهاجم وتهدم بفعل الحروب والصراعات المستمرة ، إلا أن السكان كانوا يعيدون بناءها مراراً. ويمكن ملاحظة ذلك في الطبقات المعمارية المتعاقبة التي تكشف عن بناء فوق بناء ، تعود إلى فترات مختلفة. هذا التراكم المعماري يدل على حيوية المجتمع ومثابرته على الاستمرار والنهضة رغم التحديات.
دوافع التطور:
جاء تطور الهندسة في بلاد الرافدين مدفوعاً بأهداف متعددة، منها ما هو ديني (كالزقورات)، ومنها ما هو مدني (مثل الأسوار، والقنوات، والمباني الخدمية).
الإنجازات:
بناء الزقورات، مثل زقورة أور (حوالي 2100 ق.م)، كمراكز دينية وتعليمية بارزة.
تطوير أنظمة ري متقدمة وقنوات للتحكم في المياه.
استخدام الطوب الطيني المجفف، وتطوير تصاميم معمارية وظيفية.
الارتباط بالدين:
على الرغم من الطابع الديني للزقورات ، إلا أن عمارتها لم تكن جنائزية ، بل خدمت المجتمع ككل، إلى جانب التركيز الأكبر على النهوض بالحياة المدنية من خلال مشاريع الري والحماية.
--------------------
المصادر التاريخية:
الأهرامات والمعابد المصرية
أوضح باحثون مثل مارك لينر وزاهي حواس أن الأهرامات كانت في جوهرها مقابر ضخمة للفرعون ، ولم تكن منشآت ذات وظيفة مدنية.
الزقورات في بلاد الرافدين
وفقا لدراسات هارييت كروفورد ، فقد كانت الزقورات مبان دينية خدمية ، تمثل مراكز للحياة الروحية والمدنية في المدينة.
كتاب "عمارة ما بين النهرين" لـ سيتون لويد
يعرض تصوراً للعمارة في بلاد الرافدين بوصفها عملية ومتعددة الأغراض ، تجمع بين الدين والإدارة.
العمارة كأداة للخلود في مصر
أشار باحثان في دراسة منشورة عام 2019 (أوان وخالد جميل، دور الجغرافيا في تشكيل شخصية الحضارات) إلى أن العمارة في مصر القديمة خصصت لتعزيز النظام السياسي والطقوسي ، أكثر من تلبية احتياجات المجتمع.
العمارة المدنية السومرية والتخطيط الحضري
تبرز موسوعة بريتانيكا من خلال بحث لـ هارييت كروفورد ، أن السومريين كانوا أول من وضع أسس المدن المخططة ، بما يشمل شوارع منظمة، قنوات مياه ، أسواق وزقورات، مما يؤكد الطابع المدني العملي لعمارتهم مقارنة بالنموذج الطقوسي في مصر.