بسم الله الرحمن الرحيم
لم تكن حرب الخوبة مجرد معركة حدودية عابرة، بل كانت أول إنذار مدوٍّ بأن نار الحرب في شمال اليمن لم تعد محصورة في صعدة، بل امتدت لتمس أطهر بقاع الأرض وحدودها الجنوبية. في خريف 2009، وبين جبال الدخان ووديان جازان، اختبرت المملكة العربية السعودية للمرة الأولى جدية التهديد الحوثي، لا من خلف الستار، بل وجهاً لوجه، على أرضها، وبدماء جنودها.
لأعوامٍ، كانت المملكة تتابع من بعيد سلسلة الحروب العبثية التي مزّقت محافظة صعدة اليمنية، وتراقب صعود الحوثيين من جماعة مذهبية صغيرة إلى ميليشيا مسلحة ذات طموحات إقليمية. لكن تلك المتابعة تحولت فجأة إلى مواجهة مباشرة حين عبر الحوثيون الحدود السعودية، وشنّوا هجومًا مسلحًا على قرى حدودية، أبرزها بلدة الخوبة، متحدّين بذلك أكبر قوة عربية في شبه الجزيرة.
كان الحدث مفاجئًا وصادمًا في آن واحد. لم يكن الحوثي قد تجرأ من قبل على المساس بأراضي المملكة، لكنه فعلها الآن... وبكل وقاحة. أما السعودية، فلم تكن لتسمح بمرور هذا العدوان دون رد، فجاء الرد سريعًا وحاسمًا في عملية عسكرية واسعة استخدمت فيها المملكة قوتها الجوية والبرية لتطهير أرضها من الغزاة.
لم تكن حرب الخوبة نهاية شيء، بل كانت بداية مرحلة جديدة. مرحلة اختلطت فيها الجغرافيا بالسياسة، وتحوّل فيها الحوثي من تمرد محلي إلى تهديد إقليمي، وبدأت المملكة تدرك أن الصراع في صعدة لم يعد شأنًا يمنيًا داخليًا، بل مسألة أمن قومي سعودي بامتياز.
في هذا الموضوع، نغوص في تفاصيل تلك الحرب المفصلية: من أين بدأت؟ ولماذا وصلت إلى حدود المملكة؟ كيف كان الرد السعودي؟ وما الذي غيّرته تلك المواجهة في شكل الصراع اليمني – الخليجي؟ وهل كانت حرب الخوبة مجرد شرارة لما سيأتي بعدها من نار؟
الملك عبدالله بن عبدالعزيز يزور جبهة القتال مع الحوثيين في جيزان بعد 4 أسابيع من المعارك، ديسمبر/ كانون الأول 2009
من صعدة إلى الخوبة… حين خرج التمرد عن حدوده
في قلب محافظة صعدة، شمال اليمن، كانت جذور الحرب تتغذى على خليط من التهميش السياسي، والاضطهاد الديني، والانقسام الجغرافي. منذ عام 2004، خاض الحوثيون – الذين ينتمون إلى الطائفة الزيدية – سلسلة من الصراعات المسلحة ضد الحكومة اليمنية، بدأت كمواجهات محلية صغيرة، ثم تصاعدت إلى خمس حروب دامية في أقل من خمس سنوات، كلها ضمن إقليم صعدة والمناطق المجاورة.
لكن في أغسطس 2009، اندلعت الحرب السادسة، وكانت مختلفة من حيث الشكل والنتائج. أطلقت الحكومة اليمنية عليها اسم "عملية الأرض المحروقة"، وشنّت هجومًا واسعًا ضد معاقل الحوثيين باستخدام الطيران والمدفعية، مع دعم غير مباشر من المملكة العربية السعودية.
في تلك المرحلة، بدأ الحوثيون يشعرون أن الحرب خرجت عن إطارها المحلي، وأن السعودية تتدخل ميدانيًا أو لوجستيًا لصالح الحكومة اليمنية، خصوصًا مع سماحها للطيران اليمني باستخدام مجالها الجوي، وفتح حدودها لإمدادات الجيش اليمني.
في بيان غاضب نُشر في أكتوبر 2009، قال عبدالملك الحوثي:
"نحن نعرف من أين تنطلق الطائرات، ونعرف من أين تأتي الإمدادات. من يفتح حدوده للحرب، فليتحمّل نتائجها."
في 3 نوفمبر 2009، أعلن الحوثيون أنهم تصدّوا لـ"هجوم قادم من الأراضي السعودية" وأطلقوا عمليتهم على الحدود، مهاجمين مواقع سعودية في بلدة الخوبة وجبل الدخان. لم يكن الأمر مجرد مناوشة، بل اجتياحًا حقيقيًا لجزء من أراضي المملكة.
ردّت السعودية بسرعة على الهجوم، لكن قبل أن تتحرك دباباتها أو تحلّق طائراتها، كانت الصدمة السياسية قد وقعت: لأول مرة منذ تأسيس المملكة، ميليشيا مسلحة تجتاز الحدود وتهاجم قواتها وتحتل أراضي داخل جازان.
أحد سكان الخوبة روى لاحقًا لمراسل صحيفة الشرق الأوسط:
"في الصباح، رأينا وجوهًا غريبة على الجبال، مدججة بالسلاح... كنا نظن أن الحرب بعيدة، لكنها وصلت إلى عتبة بيوتنا."
من جانبهم، زعم الحوثيون أنهم لا يعتدون، بل يلاحقون خصومهم داخل الأراضي السعودية. وقال متحدثهم في بيان رسمي:
"ليست حربًا على السعودية، بل دفاعٌ عن النفس ضد من اعتدى علينا انطلاقًا من أراضيها."
لكن بالنسبة للسعودية، كان هذا عدوانًا صريحًا لا يحتمل التأويل. وصف مسؤول سعودي رفيع حينها في تصريح مقتضب الوضع بأنه:
"اختبار غير مسبوق لصبر المملكة… وقد تجاوزوا الخط الأحمر."
ولم يطل الانتظار. أُطلقت صافرات الإنذار، وتحركت الآليات، وأعلنت المملكة بدء عملية تطهير الحدود.
المعركة عند السفوح: كيف اشتعلت الجبهة الجنوبية للمملكة
في صباح أحد أيام نوفمبر من عام 2009، وبينما كانت قرى محافظة الخوبة تنعم بهدوءها الريفي المعتاد، دوّت أصوات طلقات النار بشكل مفاجئ. لم تكن تلك الطلقات ناتجة عن مشاجرة حدودية بسيطة أو تهريب تقليدي كما اعتادت الحدود الجنوبية للمملكة، بل كانت بداية لاشتباكات مسلحة اتخذت طابعًا مختلفًا وخطيرًا. لقد كانت اللحظة التي اخترق فيها الحوثيون حدود المملكة العربية السعودية لأول مرة، في سابقة قلبت قواعد الاشتباك، وأعلنت بدء معركة لم تكن الرياض تتوقعها بذلك الشكل.
بمزيج من الجرأة والتخطيط، نفذت عناصر حوثية مسلحة تسللًا عبر التضاريس الجبلية الوعرة لمنطقة جبل دخان، الواقعة على الشريط الحدودي بين المملكة واليمن. ووفقًا للرواية الرسمية، بدأ الهجوم عندما اعتدت ميليشيات حوثية على دورية حرس حدود سعودية، وقتلت أحد الجنود، قبل أن تسيطر على بعض المواقع الحدودية.
السعودية، التي فوجئت بهذا التصعيد غير المسبوق، ردّت بسرعة. فجاء الإعلان عن عملية عسكرية سعودية واسعة النطاق تحت اسم "عملية تطهير الحدود". وبأمر من الملك عبد الله بن عبد العزيز، تم الدفع بوحدات من القوات البرية والجوية السعودية إلى منطقة جازان، مع إسناد من المدفعية والطيران الحربي.
"لن نسمح لأي طرف أن يعبث بأمننا أو يهدد حدودنا، وسنرد بكل حزم."
— الملك عبد الله بن عبد العزيز (تصريح في الأيام الأولى من العمليات)
تكتيك الأرض والنار
بدأت المواجهات تأخذ طابعًا تكتيكيًا متصاعدًا. اعتمد الحوثيون على حرب العصابات والتسلل الليلي، مستفيدين من معرفتهم الجيدة بالتضاريس الحدودية، والتشابه الثقافي والجغرافي بين بعض القبائل المتداخلة في المنطقة. كانوا يتحركون في مجموعات صغيرة، يختبئون في الكهوف وبين الصخور، ويشنّون هجمات خاطفة على المواقع السعودية، قبل أن ينسحبوا سريعًا.
في المقابل، كانت القوات السعودية تستخدم سلاح الجو والمدفعية الثقيلة لضرب مواقع الحوثيين وتطهير المناطق من أي تسلل. لعب الطيران الحربي، خصوصًا مقاتلات F-15 والطائرات العمودية الهجومية، دورًا محوريًا في قصف مواقع جبل دخان، وجبل الرميح، ووديان المعاميل والردحة.
ورغم الفارق في التسليح والتقنيات، تمكن الحوثيون من الصمود لأسابيع، مما عكس حجم الدعم الذي كانوا يتلقونه، سواء من الداخل اليمني أو من جهات خارجية. فخلال المعركة، ظهرت مؤشرات على استخدامهم لأسلحة متقدمة نسبيًا، مثل القذائف الحرارية والألغام المموّهة، وهو ما دفع بعض المحللين إلى الربط بين ما يحدث في الخوبة وما تصفه تقارير غربية بـ"الدعم الإيراني المستتر للحوثيين".
"لا يمكن لميليشيا محاصرة في صعدة أن تحافظ على زخم عسكري بهذا الشكل دون إمداد خارجي منظم."
— الخبير العسكري أنور عشقي، في تحليل على قناة العربية، ديسمبر 2009.
الأيام القاسية… وضباب الجبهة
استمرت العمليات لمدة تقارب ثلاثة أشهر. كانت الأيام الأولى حاسمة، حيث أعادت القوات السعودية تمركزها واستعادت السيطرة على المواقع المخترقة، وأجبرت الحوثيين على التراجع. لكن رغم هذا التقدم، لم تكن المعركة سهلة. فالتقارير الإعلامية آنذاك تحدثت عن استشهاد أكثر من 130 جنديًا سعوديًا، بينهم ضباط، إضافة إلى وقوع بعض الأسرى في قبضة الحوثيين.
أما في الجانب الحوثي، فقد أعلن متحدثهم الإعلامي مقتل العشرات من عناصرهم، لكنهم اعتبروا أن المعركة "أثبتت قدرتهم على إيذاء خصومهم في عمق أراضيهم"، وفق ما جاء في بيان لاحق على موقعهم الرسمي.
شهدت المعركة أيضًا قصفًا مكثفًا لمواقع الحوثيين داخل الأراضي اليمنية، وهو ما أثار جدلاً دبلوماسيًا في تلك الفترة، لا سيما بعد اتهامات وجهها الحوثيون للمملكة بانتهاك السيادة اليمنية. من جانبها، أكدت السعودية أن قصفها استهدف فقط المناطق التي انطلقت منها الهجمات العدائية.
وفي نهاية يناير 2010، أعلن الحوثيون انسحابهم من المناطق الحدودية، مشيرين إلى أنهم "حققوا أهدافهم من الرسالة"، بينما أعلنت السعودية نجاح عمليتها في تأمين الحدود وطرد العناصر المعتدية.
في مهب النيران: تفاصيل المعارك اليومية في حرب الخوبة 2009
في مطلع نوفمبر 2009، لم تكن الخوبة – تلك البلدة الصغيرة في جازان – تعلم أنها ستتحول إلى مركز لاشتباكات دموية، ومعركة حاسمة رسمت ملامح الحرب السعودية مع جماعة الحوثيين للمرة الأولى.
كانت الشرارة قد انطلقت في الأيام الأخيرة من أكتوبر، حين تسللت مجموعات حوثية عبر الحدود اليمنية – السعودية، مستغلة وعورة التضاريس وجبال الدخان والرميح، ونفذت هجومًا خاطفًا على نقاط تابعة لحرس الحدود السعودي. العملية لم تكن عشوائية، بل بدت مدروسة، استخدم فيها الحوثيون تكتيكات حرب العصابات، ما أدى إلى مقتل جندي سعودي وأسر آخر، وهو ما أشعل الغضب في الرياض.
يقول أحد شهود العيان من أهالي الخوبة في مقابلة لاحقة:
"كنا نسمع دوي القذائف في الليل، ونرى النيران تشتعل على قمم الجبال… كأن السماء قد فتحت أبواب جهنم."
نوفمبر: الضربة السعودية الأولى
في الخامس من نوفمبر، أطلقت السعودية رسميًا عملية عسكرية واسعة النطاق. بدأت الحملة بقصف مدفعي وجوي عنيف استهدف مواقع الحوثيين في جبال دخان ورازح والملاحيظ، مستخدمة طائرات الـF-15 والـTornado البريطانية الصنع، في واحدة من أكبر العمليات الجوية التي نفذتها القوات السعودية منذ تحرير الكويت.
في الوقت ذاته، دفعت المملكة بقوات برية ضخمة – قُدّرت بالآلاف – مدعومة بالدبابات والمدفعية الثقيلة، إلى مناطق المواجهة. تركز القتال في مناطق الخشل، الدود، الرميح، وجبل دخان، حيث حاول الحوثيون التمترس في الكهوف والمخابئ الجبلية.
ورغم تفوق السعودية الجوي والتسليحي، فإن الحوثيين أظهروا صمودًا غير متوقع، واستفادوا من التضاريس الصعبة لشن هجمات مضادة على شكل كمائن وعمليات قنص وعبوات ناسفة.
وفي تصريح نادر، قال أحد القادة العسكريين السعوديين لصحيفة الحياة حينها:
"نواجه عدواً يجيد التخفي، لا يرتدي زيًا نظاميًا، ويقاتل من خلف الصخور… لكننا سنجتثه من جذوره."
ديسمبر: المعارك تشتد… والمدنيون في مهب العاصفة
مع دخول ديسمبر، اتسعت رقعة الاشتباكات. حاول الحوثيون، مدفوعين بنشوة "المفاجأة التكتيكية" الأولى، شن عمليات تسلل جديدة باتجاه مواقع سعودية متقدمة، مستهدفين مركز القرن وقراوى والردحة.
في المقابل، كثفت السعودية طلعاتها الجوية، وبدأت في إخلاء القرى الحدودية بالكامل. ما يزيد عن 30 ألف مدني سعودي تم نقلهم إلى مراكز إيواء في جازان وأبو عريش. كانت الكارثة الإنسانية تتضخم، فيما وُضعت محافظة صعدة على الجانب اليمني تحت حصار خانق بسبب القصف.
قالت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها في ديسمبر 2009:
"المدنيون، سواء في الخوبة أو في مناطق الحوثيين، وجدوا أنفسهم عالقين بين نيران متبادلة لا ترحم، وقصف لا يميز بيتًا من مخبأ."
من الجانب الحوثي، بدأت تظهر بوادر دعم خارجي واضح. تم ضبط شحنات أسلحة حديثة، بعضها إيراني الصنع، وقيل إن الحوثيين استخدموا أجهزة اتصالات متقدمة وفخخوا مناطق بألغام حديثة، مما أثار شكوكًا حول دور إيران المباشر أو عبر وسطاء.
يناير: انكسار الجبهة الحوثية وتوقف العمليات
مع بداية يناير 2010، كانت القوات السعودية قد استعادت السيطرة على معظم الجبال والنقاط الاستراتيجية، بعد أكثر من 60 يومًا من القتال. تم تدمير أغلب المواقع الحوثية على الحدود، وأُعلن عن قتل ما يزيد عن 500 عنصر حوثي، وأسر العشرات.
ورغم أن الحوثيين أعلنوا "انسحابًا طوعيًا" من الأراضي السعودية، إلا أن المراقبين رأوا في ذلك اعترافًا بالهزيمة الميدانية، لا سيما بعد الخسائر الكبيرة التي تكبدها الطرفان، والتكلفة الإنسانية الباهظة.
وفي بيان رسمي بتاريخ 27 يناير 2010، قالت وزارة الدفاع السعودية:
"تم تطهير كامل الأراضي السعودية من العناصر المتسللة… ووجهنا رسالة حازمة: أمن المملكة خط أحمر."
ما بعد القذائف – الأبعاد السياسية والإنسانية والإعلامية
حين سُمع دويّ القذائف في الخوبة، لم يكن صوت الحرب محصورًا في صدى الجبال، بل امتدّ إلى العواصم، والفضائيات، والدوائر الدبلوماسية. لقد خلّفت حرب 2009 في جنوب السعودية ارتدادات تجاوزت ميدان المعركة، لتفتح أبوابًا كانت مغلقة في ملفات اليمن الإقليمي، والسياسة الأمنية للمملكة، والتغطية الإعلامية في زمن الصراع.
المشهد السياسي: رسائل نار وحدود
اندلاع الاشتباكات شكّل لحظة حرجة على المستوى السياسي، خصوصًا أن الرياض لم تكن تتوقع هجومًا مباشرًا على حدودها الجنوبية. جاء الرد السعودي مدوّيًا، لكنه كذلك محاطًا بحذر دبلوماسي، إذ كانت المملكة تدرك أن أي توسّع غير محسوب في المعركة قد يزجّ بها في مستنقع يشبه أفغانستان مصغّرة، لكن هذه المرة على حدودها.
في المقابل، حاول الحوثيون توظيف المعركة داخليًا باعتبارها "صمودًا في وجه العدوان الخارجي"، وخارجيًا لإرسال رسالة بأنهم أصبحوا لاعبًا لا يمكن تجاهله. وهو ما عبّر عنه زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي لاحقًا بقوله:
"لقد كنا في موقع الدفاع، لكننا أثبتنا أن الحدود ليست حائطًا صامتًا، بل يمكن أن تكون منصة لقول الحقيقة".
في هذا السياق، بدا أن إيران تتابع المشهد عن كثب، لا تشارك عسكريًا بشكل مباشر، ولكن تشير تقارير متعددة، منها تقرير مجموعة الأزمات الدولية في 2010، إلى وجود دعم لوجستي وتسليحي، وإن كان غير معترف به علنًا. وتحوّل الحوثي تدريجيًا من حركة داخلية مهمّشة إلى "ورقة إقليمية" في الصراع بين الرياض وطهران.
الكارثة الإنسانية: قرى خالية ونزوح صامت
في موازاة أصوات المدافع، كانت هناك قوافل من البشر تتجه شمالًا، باحثين عن مأوى. تشير التقديرات إلى أن أكثر من 240 قرية سعودية أُخليت من سكانها، في مشهد غير مسبوق منذ عقود. وقدرت أعداد النازحين داخل السعودية بحوالي 35 ألف شخص، بينما شرد الصراع عشرات الآلاف في شمال اليمن.
تصف إحدى السيدات من سكان الخوبة لحظة النزوح:
"لم نأخذ شيئًا معنا… فقط المفاتيح والصمت والخوف. كانت البيوت تُترك خلفنا كما يُترك الجسد في يد العاصفة".
ورغم جهود الإغاثة التي بذلتها السعودية عبر الهلال الأحمر والدفاع المدني، فإن تقارير صحفية آنذاك تحدثت عن ضعف التنسيق في الأيام الأولى من النزوح، وغياب الخطط المسبقة للتعامل مع نزوح جماعي في منطقة عسكرية حدودية.
الإعلام في قلب المعركة: بين الرصد والتوظيف
الإعلام الرسمي السعودي تعامل مع الحدث في بدايته بكثير من التحفّظ، حتى إن بعض الصحف لم تنقل أول قذائف الخوبة إلا بعد أيام. لكن مع تزايد الضغط، تحوّلت التغطية إلى حالة من "التعبئة"، فظهرت القصص البطولية، واللغة الوطنية، وتغيبّت التفاصيل المعقدة للمعركة.
في المقابل، كثّف الإعلام الإيراني والحوثي (الذي كان يعتمد على المنتديات والمواقع الإلكترونية آنذاك) روايته الخاصة، وركز على استهداف مواقع عسكرية سعودية كبرى، كما بثّ تسجيلات مصوّرة لهجمات متفرقة، بعضها مشكوك في توقيته أو موقعه.
أحد المحللين في مركز كارنيغي علّق لاحقًا على المشهد الإعلامي قائلاً:
"الحرب كانت اختبارًا للسعودية، ليس فقط في ساحة المعركة، بل في طريقة سرد القصة… الحوثيون فهموا سريعًا أن الكاميرا قد تكون بندقية".
الخاتمة والتحليل المستقبلي
حين هدأت طبول الحرب في الخوبة نهاية 2009، لم تكن المنطقة كما كانت قبلها. صحيح أن العمليات العسكرية توقفت رسميًا، لكن آثارها ظلت تتردد كأصداء في عمق المشهد الإقليمي، وتحديدًا في جغرافيا الصراع اليمني ـ السعودي، بل وفي مسار التمدد الإيراني نفسه في خاصرة الجزيرة العربية.
الحرب كانت قصيرة زمنيًا… لكنها ثقيلة في معناها ومفاعيلها. فقد كشفت حرب الخوبة عن جملة من الحقائق والتغيرات التي تجاوزت حدودها الميدانية:
أولًا، أثبتت السعودية أنها ليست مجرد حليف إقليمي يمتلك المال والنفوذ، بل أيضًا قادرة على خوض معارك حدودية معقدة والتعامل مع جماعات غير نظامية تستخدم التضاريس الصعبة وتكتيكات العصابات. الرد العسكري القوي كان رسالة مزدوجة: للحوثيين، وللإيرانيين من ورائهم.
ثانيًا، أظهرت المعركة هشاشة الوضع اليمني، إذ كان الحوثيون في ذلك الوقت لا يزالون يُعاملون كمجرد "جماعة متمردة"، قبل أن يتحولوا لاحقًا إلى قوة تفرض أمرًا واقعًا في صنعاء نفسها. ما حدث في الخوبة كان بروفة مصغرة لما سيشهده اليمن بعد 2014.
ثالثًا، كشفت الحرب عن ملامح مرحلة جديدة من التدخل السعودي في الملف اليمني، فقد أدركت الرياض أن السكوت عن التمدد الحوثي في صعدة قد يعني تهديدًا وجوديًا على المدى الطويل. لذلك، كانت الخوبة بداية تحوّل من "سياسة الاحتواء" إلى "سياسة الاشتباك الاستباقي".
على الجانب الآخر، استفاد الحوثيون من الحرب أيضًا، رغم خسائرهم البشرية والميدانية. فقد منحهم الاشتباك مع دولة بحجم السعودية شرعية "المقاومة" في خطابهم المحلي والدعائي، وأظهروا أنفسهم كقوة قادرة على مجابهة جيوش نظامية، ولو بشكل غير متكافئ. هذا الانطباع كان له أثر بالغ في صعودهم اللاحق سياسيًا وعسكريًا.
أما إيران، فقد راقبت المشهد بدقة. لم تكن طرفًا مباشرًا، لكنها استفادت استراتيجيًا من التجربة. فالحوثيون، الذين كانوا مجرد حليف ضعيف في الهامش الشمالي لليمن، بدؤوا يُثبتون قدمهم ويُرسّخون هويتهم كأداة محتملة في صراع النفوذ الخليجي.
ولعلّ أخطر ما كشفته حرب الخوبة هو الفراغ الجيوسياسي الذي كان يتشكل في اليمن. لقد كانت تلك الحرب أول إنذار حقيقي بأن الجنوب العربي على وشك الدخول في مرحلة اضطراب ممتد. لم يكن أحد يتوقع حينها أن تُصبح الحرب في اليمن لاحقًا واحدة من أطول وأعقد النزاعات في الشرق الأوسط الحديث.
واليوم، بعد مرور أكثر من عقد ونصف، يُنظر إلى حرب الخوبة باعتبارها علامة فاصلة في تاريخ العلاقة بين السعودية والحوثيين. كانت مجرد بداية… لكنها كانت بداية مشحونة بكل ما سيأتي لاحقًا: حرب المدن، السيطرة على صنعاء، تدخل التحالف، وأزمة إنسانية لم يشهد لها اليمن مثيلًا في تاريخه المعاصر.
لقد كانت الخوبة الشرارة. واليمن كله صار الحريق.