هذا الموضوع سيغطي حالة البلاد التونسية عامة و العسكرية خاصة من ما قبل الفتح الاسلامي و آخر ايام البيزنطيين في البلاد
الى حدود انهيار السلطنة الحفصية و تدخل الاسبان ثم العثمانيين في القرن السادس عشر
للأمانة لست كاتب الموضوع الاصلي و لكني ناقل له بتصرف و مجمع له عن مجموعة من المقالات من معهد التراث الوطني
و سيذيل كل جزء بالمصادر لمن يريد التوسع في الموضوع
الجزء الأول:
الوضع العسكري و السياسي في آخر أيام الوجود البيزنطي في افريقية
وصل الجيش البيزنطي سنة 533 إلى سواحل إفريقيا”لاسترجاعها” تحت سيطرة الدولة الرومانية الشرقية والمتعارف على تسميتها بالإمبراطورية البيزنطية. وقد كان السبب المعلن هو إعادة الشرعية السياسية إلى البلاد بعد الانقلاب الذي قام به احد أفراد العائلة الحاكمة، جيليمار ضد الملك هلديريك.
وقد جاء هذا التدخل العسكري نتيجة لرغبة الإمبراطور جستنيان في ترميم الإمبراطورية الرومانية وإعلاء مجد عرشه. وقد كانت الظروف سانحة للقيام بهذا المشروع العسكري منها:
– أولا: توقفت جبهات القتال على الحدود الشرقية للإمبراطورية بعد حرب طويلة ضد الفرس ، وخرج البيزنطيون منتصرين رغم ما لحق بهم من الخسائر المادية والبشرية.
– ثانيا: وصلت بعض المجموعات من الرومان والأفارقة المترومنين والذين اعتنقوا الدين المسيحي لنجدة الإمبراطور جستنيان ضد الحاكم الوندالي الجديد الذي كانت بعض هذه المجموعات تعاني من اضطهاده وظلمه مثل الارستقراطية المحلية التي كانت تشعر بالمضايقة الاجتماعية والمادية من طرف الحكام الوندال. وجمع المسيحيين الذين لا يدينون بالمذهب الآري الذي تدافع عنه الدولة الوندالية وكذلك شقّ من العائلة الوندالية التي لم تكن لترضى بخلع الملك هلديريك وحلول جيليمار محله.
ومهما كانت الأسباب المعلنة فإن الحملة العسكرية التي أمر الإمبراطور البيزنطي بتنفيذها جاءت تلبية لرغباته الخاصة، حتى كأنّها تبدو حملة جستنيان وحده. وقد صوّر المؤرخ البيزنطي وشاهد العيان بروكوب النقاشات التي دارت قبل انطلاق الحملة ومعارضة بعض القواد العسكريين لقرار الإمبراطور. ورغم أغلبية المواقف المعارضة فقد تم تنفيذها بحجة نجدة “المسيحيين المضطهدين” والرومان الخاضعين “للوندال البرابرة”.
جيش الحملة (533 م)
القيادة
اختار الإمبراطور البيزنطي أحد المقربين منه وهو الجنرال بليسار أو Belisarius أحد الضباط الذين قدَموا خدمات هامَة في الحرب ضدَ الفرس، و من الذين تميزوا بكفاءة عسكرية عالية خلال الحروب التي خاضتها الإمبراطورية ضد أعدائها في الشرق، وذلك رغم تقدّمه في السّن، ليكون قائدا عامَا، وقد كان معه كاتبه الخاص بروكوب القيصرية الذي يعود له الفضل في كتابة تاريخ الو ندال وتقديم صورة دقيقة عن الحملة البيزنطية على إفريقيا سنة 533.
كما تمّ تعيين الجنرال سولومون وهو أحد الخصيان من أصل أرميني قائدا مساعدا لبيليزار. وكان أيضا من قدماء الحرب ضد الفرس، وهو الذي سيؤول له حكم الولاية البيزنطية بعد السيطرة عليها.
وأسندت لمجموعة من الضباط الذين شارك اغلبهم في الحروب ضد الفرس وبرز بعضهم أثناء معركة دارا سنة 530 قيادات مختلفة لفرق متعددة من الجيش كانت على حسب رواية بروكوب على النحو التالي.
– الجيش النظامي وهو الجيش الذي لا يضم إلا المواطنين الأحرار من البيزنطيين وقد كان القواد الذين يشرفون على تسيير هذه الفرق:
قادة الخيالة والرماة: هم رفينوس و أيقان ، وهما من عائلة بليسار القائد العام للحملة. وكذلك برباتوس و بابَوس
ويعتبر جيش الخيالة الركيزة الأساسية للجيش البيزنطي وعموده الفقري، وهو أمر مرتبط بنوعية الحروب ووسائل النقل والتنقل في العصور القديمة والوسيطة.
قادة جيش المشاة:
يوحنا أيبدامن كقائد عام يساعده كل من تيودوروس و تيرانتيوس و زيدوس ومارقيانوس وسرابيس
قادة الحلفاء
وهم مجموعة من الضبَاط مثل القائد الأرميني دوروتايويس وقبريانس و فالايريانوس ومارتينوس وألتياس ويوحنا وماركلَوس وكيريلَوس و أيقانوهو من شعب الهون و فراس على رأس فرقة من الهيروليين وسنَيون وبلاس على رأس فرقة من المساجات
وقد عين على رأس الأسطول قائد واحد هو كالونيموس الاسكندري وقد اشتمل على500 قطعة وشحنت هذه السفن ب30000 من البحارة المصريين والأيونيين وهم الأغلبية ومن سكان قليقيليا كما ضمّت الحملة 92 سفينة كبيرة مجهزة للقتال البحري ولكنها لا تحتوي إلا على صف واحد من المجاديف وهي سفن مغطاة حتى لا يتعرض البحرية إلى سهم العدو وتسمى هذه السفن درومون
التركيبة العرقية
جنّدت الإمبراطورية البيزنطية لهذه الحملة جيشا مكونا من الجند النظامي أي من المواطنين الرومان ومن حلفاء الإمبراطورية من الهيروليين والمساجات والبرابرة والتراقيين والأرمن وغيرهم من الشعوب الجرمانية وحتى من القبائل العربية التي كانت منخرطة في خدمة الإمبراطورية البيزنطية. وليس من باب الصدفة أن نجد ضمن قواد الحملة أحد الضباط وهو زيد أو زيدوس وهو من الأسماء العربية الشائعة من ناحية ووجود نقائش مثل نقيشة نمارة ونصوص مثل نصوص أميان مارسولان وتيوفان. ولعل أهم ما يمكن ملاحظته هو تعدد الأجناس التي من صلبها تم تكوين الجيش الموفد إلى إفريقيا وهو ما يعكس أولا شساعة الإمبراطورية وتعدد مكوناتها العرقية والاثنية. وإن لم تكن هذه الجنسيات متساوية قي نظر القانون المدني فهي موحدة في إطار التنظيم العسكري، حيث تخضع الترقيات وتحمّل المسؤوليات القيادية إلى الكفاءة القتالية والقدرة على التسيير والإحاطة بالجند حتى يستطيع مجابهة العدو في أحسن الظروف. هذا بالإضافة إلى احترام قوانين الحرب. فقد نصت المؤلفات العسكرية التي كانت في كثير من الأحيان من تأليف الأباطرة أنفسهم على جملة من القيم والعقائد التي ترمي إلى استلطاف الشعوب العدوَة أكثر من إظهار الغلبة والتسلَط. وهو ما عبر عنه القائد بليسار بعدما أرسى أمام رأس قبودية على الساحل الشرقي لإفريقية ولاحظ تسارع بعض من جنده للسلب والنهب قائلا: » عندما حملتكم إلى هذه الأرض ليس لدي إلا أمل وحيد وهو إرجاع الأمل إلى الأفارقة وهم رومان منذ زمن بعيد، وهم يبغضون الوندال…أما الآن فبعصيانكم وتسلَطكم فقد جلبتم حقد الأفارقة وربَما دفعتموهم للتصالح مع الوندال ولا تنسوا أن الضحية تحقد جبّلَة على الغاصب مهما طال الزمن.. « .
ولعلّ أهم ما يميز الحضارة البيزنطية بصفة عامة هو التأليف في المجال العسكري. فاهتمت بالتّأليف في تقنيات القتال برا وبحرا وبمسائل التموين وبالخطط العسكرية وتوفير أكثر ما يمكن من الظروف لتحقيق الانتصار. كما اعتنت هذه المؤلفات بانتداب الجند وشروط الخدمة العسكرية وأخلاقيات هذه المهنة تجمع أغلب النصوص البيزنطية التي تعرضت لهذا الجانب على ضرورة تحلَي الجند بإنسانية في التعامل مع الشَعوب المغلوبة وهو ما ساعد إلى حدَ ما على تدعيم الهيمنة البيزنطية على شعوب مختلفة إلى حدود سنة 1453 ميلادي لأن الجندية ليست، من وجهة النظر البيزنطية، خدمة لحماية البلاد فقط وإنما لاسترجاع ما قد تفقده الإمبراطورية من الأراضي وتوفير ما يحتاجه السكان من المواد الضرورية في إطار ما تسميه النصوص البيزنطية “بالحرب العادلة”.
أنواع الجيوش
ينقسم الجيش البيزنطي إلى ثلاثة أنواع:
– جيش نظامي ملازم للحصون والقلاع والثكنات التي تسمى “أكرا” وهو جيش محترف يمكن أن يطلق عليه اسم جيش وطني لأنه يتكون من المواطنين الأحرار .
– جيش مأجور يطلق عليه اسم “الحلفاء” وهو جيش متعدد الجنسيات لا يربط بين أفراده – علاوة على القوانين العسكرية- إلا خدمة الدولة البيزنطية كلما دعت الحاجة إلى ذلك ويتقاضى مقابلا إجماليا حسب الحاجة إليه. وفي فترات السلم يسرَح أفراده سواء أقاموا بالبلاد أو غادروها. فهو عنصر قليل العدد في الفترات السابقة للقرن الحادي عشر، حيث ستزداد إليه الحاجة أمام تطورات عديدة لا يتّسع المجال لذكرها هنا.
– الجنود الفلاحون: وهو فصيل من الجيش البيزنطي يرتكز على ما تعطيه الدولة من الأراضي لبعض المزارعين بشروط منها ضرورة إحياء الأرض، فهي مصدر معيشته وكذلك مصدر تسلَحه وعتاده . فهؤلاء الجنود الفلاحون لا يتقاضون أجرا وإنما يحصلون على “إقطاع عسكري” يمكنهم من توفير حاجياتهم العائلية من ناحية وتجهيز أنفسهم بأدوات الحرب وضرورياتها من ناحية أخرى. وهذا التنظيم الموروث عن العهد الروماني والمتمثل في وجود جنود فلاحين على الحدود يسمون بالحدوديين ، سينتشر في كامل المجال البيزنطي. ويطلق على هؤلاء الجنود اسم الستراتيوت. وسيصبح هذا العنصر العسكري منذ بداية القرن السابع ميلادي المصدر الأصلي والركيزة الأساسية للجيش البيزنطي سواء في إفريقيا الشمالية أو في غيرها من أراضي الإمبراطورية، حتى سمَاه المؤرخ البلغاري جورج استروقرسكي “العمود الفقري” للجيش والدولة البيزنطيين.
– البحرية: تتمتع الدولة البيزنطية المترامية الأطراف بسواحل عديدة فيها من الإمكانيات الطبيعية ما يسمح بالإرساء العادي أو الإرساء الاضطراري. فإنّ الإمبراطورية البيزنطية، عندما استولت على منطقة إفريقيا الشمالية، كانت تسيطر بلا منازع على مختلف السواحل المتوسطية من جزر البليار إلى الإسكندرية ومن البحر الادرياتيكي إلى خليج سرت. وهي منطقة مهيأة منذ العهود القديمة لاحتضان السفن. وتلعب البحرية البيزنطية بالإضافة إلى الدور العسكري في إطار المعارك البحرية (مثل معركة ” ذات الصواري” في زمن معاوية بن أبي سفيان)، دور وسيلة النقل الضرورية بالدرجة الأولى فتسمح بربط مختلف أجزاء الإمبراطورية بعضها ببعض وتربطها بالعاصمة القسطنطينية مركز القرارات والأوامر.
جيش إفريقية البيزنطية
أدّت حملة بيليزار إلى إخضاع المنطقة للحكم البيزنطي. وقد ضمت المقاطعة في هذه الفترة مجالا شاسعا يمتد من طرابلس إلى طنجة. ورغم اتساع المجال (على الأقل في المستوى الظاهري) فقد ظلّ واقع الولاية البيزنطية واقعا محدودا، فهي ولاية تشتمل على مجال ضيق لا يتعدى في أغلب الحالات الشريط الساحلي إلا فيما سيصبح البلاد التونسية فيما بعد، حيث بلغ الحضور البيزنطي أعماق البلاد في اتجاه الغرب وفي اتجاه الجنوب الغربي.
وتحكمت في هذا المجال عاصمة المنطقة التقليدية قرطاج إلى حدود منتصف القرن السابع ثمّ انتقلت ولو لفترة زمنية محدودة، لا نعرف أسبابها، إلى سبيطلة.
وقد نظمت الدولة البيزنطية ولاية إفريقيا في إطار مقاطعة تجمع السواحل الليبية إلى حدود برقة وبعض المناطق من الجزائر والمغرب اليوم. وتضاف إليها السواحل الجنوبية الاسبانية وجزر البليار و صقلية و سردينيا. وذلك سعيا من الإمبراطور جستنيان إلى إعادة الاعتبار لبلاد ظلت لردح من الزمن من أهم الولايات الرومانية كما اعتبر استرجاعها استرجاعا لمجد روما على حدَ تعبير جستنيان.
ويحكم الولاية حاكم مدني برتبة عالية إلى الربع الأخير من القرن السادس ميلادي. ويشرف على القيادة العسكرية ضابط يحمل صفة قائد العسكر وقد ظلت عملية الفصل بين السلطتين العسكرية والمدنية إلى حدود سنة 580-585 ميلادي، حيث تغيرت سياسة الدولة وأصبحت الولاية الإفريقية خاضعة لحاكم عسكري هو الاقزرخس وهو حاكم يجمع بين السلطات المدنية والعسكرية والقضائية وغيرها.
كما قسمت إفريقية إلى ولايات عسكرية يحكم كل ولاية منها دوقس مستقر في عاصمة الإقليم مثل قرطاج وسوسة وتلابت وقفصة وطرابلس وغيرها من المدن العواصم في الجهات. والملاحظ أن النصوص والنقائش لا تبوح بكل ما يمكّن من معرفة التقسيم العسكري الحقيقي للولاية. فمثلا وجود مقر للدوق في تلابت وقفصة وهما مدينتان غير متباعدتين طرح إشكالا للمؤرخين فهل يعني ذلك وجود حاكمين عسكريين أم يعني وجود مقرين لحاكم واحد.
يبدو أنه قد تمّ في بداية السيطرة البيزنطية على المنطقة تركيز قيادات عسكرية في المدن الهامة مثل طرابلس وقسنطينة وقفصة بالتناوب مع تلابت وهدرماتوم [سوسة] ومدينة قيصرية[شرشال] بالجزائر اليوم.
وكان هؤلاء الضباط يخضعون تراتبيا إلى القائد العام لجيش الولاية طيلة القرن السادس وفي أواخره أصبح الدوق يأتمر بأوامر الاقزرخس الذي يجمع بين يديه السلطتين المدنية والعسكرية . وقد احتفظت لنا النصوص والنقائش ببعض أسماء الذين شغلوا خطة دوق على رأس بعض الحاميات ولو أننا لا نستطيع أن نجزم متى شغل هؤلاء خطتهم بما فيه الكفاية من الدقة مثل:
هيماريوس (545-546)
ماركانتيوس
يوحنا تروقليتا (539-544) الذي سيرتقي إلى رتبة وال بإفريقيا البيزنطية
ليونتيوس
بومبايريوس
كرسكانس
بيلاجيوس (544)
روفينوس سنة 547
كيسيل سنة 609
ولئن كان الجيش البيزنطي في بداية القرن السادس مكونا بالدرجة الأولى من الجنود الذين شاركوا في الحملات الأولى فقد بدأ عدد هؤلاء يتقلص بحكم مرافقة البعض منهم القائد بليسار عندما غادر البلاد إلى إيطاليا سنة 534 ومنهم من التحق به لمساعدته في حروب القوط. لذلك أصبح انتداب الجند من المحليين سواء من الرومان أو الأفارقة المترومنين أو المتعاطفين مع الحضور البيزنطي وذلك لأسباب عديدة منها ما هو مادي ومنها ما هو ديني إلى غير ذلك من الأسباب التي تحوّل سكان بلد ما إلى متعاطفين مع الغزاة. وقد تميز الحضور العسكري البيزنطي باعتماده على وحدات خفيفة من الخيالة تدعمها الحصون والقلاع المنتشرة في مختلف الجهات لمراقبة تحركات الأهالي و التصدي للثورات العديدة التي عرفها حكم البيزنطيين للبلاد.
ومهما يكن من أمر فقد لعب الجيش مختلف الأدوار في إفريقيا البيزنطية، إذ بعد إنهاء الحكم الوندالي والتمركز قي البلاد قام البيزنطيون بحملة تشييد وتعمير واسعة النطاق سواء بأمر مباشر من الإمبراطور أو بأمر من حاكم الولاية أو برغبة من الأهالي. وقد شملت حملة البناء والتشييد بالدرجة الأولى المجال العسكري. فسعى البيزنطيون، وبالاعتماد على الجيش، إلى ترميم ما تهدّم من الحصون والقلاع والأسوار مثلما هو الشأن في قرطاج إذ أمر الإمبراطور جستنيان قائد الحملة بترميم أسوار المدينة وبعض المعابد والكنائس التي كانت بداخلها والتي يبدو أنها تهدَمت لعدم صيانتها وإهمالها من طرف الوندال. ونظرا لعدم استقرار الأمن بالبلاد انتشرت الحصون في مختلف جهات الولاية، على سواحلها وفي دواخلها.
لقد جابه البيزنطيون إلى جانب بقايا الوندال سكان البلاد المحليين ممَن لم تؤثر فيهم سياسة الرومنة وممن لم يكن قابلا للإذعان للغازي الأجنبي. وهو ما تطلب من الولاة الذين تعاقبوا على المنطقة مجهودا دفاعيا كبيرا تشهد عليه المباني التي ما تزال قائمة في مختلف المناطق التي خضعت إلى الدولة البيزنطية في شمال إفريقيا، ويجسّمها بشكل واضح قصر لمسة بولاية القيروان اليوم, الذي كان يتحكم في ممر طبيعي هام بين مناطق التل الخصبة ومناطق السباسب شبه القاحلة. هذا بالإضافة إلى مختلف الحصون والأسوار التي ما تزال بقاياها بارزة للعيان مثل باجة وتبرسق وعين تنقة وسبيطلة وحيدرة و قفصة وقليبية وقصر القرشين بالوطن القبلي. كما يمكن أن نضيف إلى هذه الحصون بعض الإستحكامات الساحلية التي اندمجت في صلب العمارة الإسلامية في القرون اللاحقة، في حين اندثرت بعض المباني تحت تأثير عوامل الزمن وعمل الإنسان وتطور العمران وتنوع الأنشطة الاقتصادية التي ساهمت إلى حدَ كبير في تدمير بعض المعالم وتقويضها فلم تبق إلاَ أسماؤها.
وعلى العموم لم يستطع الجيش البيزنطي السيطرة على البلاد نظرا لغليانها المتواصل وذلك بالرغم من وجود جالية هامة متعاطفة مع الدولة البيزنطية لأسباب تاريخية بينما اندمجت الكثير من الفئات وخاصة النخب في صلب الحضارة الرومانية وترومن العديد من الناس وأصبحوا من حاملي صفة المواطنة الرومانية وهو ما يعني ارتباط مصالحهم بمصالح الدولة الرومانية وارتباط مصالح هذه بوجودهم. كما تعاطف البعض من سكان البلاد مع الحضور البيزنطي لأسباب دينية، إذ اعتنق كثير من الناس الديانة المسيحية وإن لم يكن نفس المذهب الرسمي الذي تذب عنه القسطنطينية، وهذا الاعتناق من شأنه أن يخلق شعورا بالمؤاخاة بين المسيحيين رغم اختلاف الأعراق والأصول.
ظلت مجموعات هامة من سكان البلاد ممن لم تذعن إلى سلطة الرومان ولم يرتض الخضوع للأجنبي من ناحية ونظرا للسياسة الجبائية الجائرة التي كانت تمارسها الدولة المركزية ضد سكان الولايات البعيدة ترتض من جهة أخرى تقاوم الحضور البيزنطي. وقد أدَى ذلك إلى تعدَد الثَورات وحرق المزارع حتَى أن الجيش البيزنطي لم يجد بدّا من الاقتراب من السكَان المحلَيين ولعلَ ذلك ساهم في تكوين تيَار من البيزنطيين ومن الأهالي يدعو إلى الانفصال عن الدَولة البيزنطية في إطار كيان مستقلَ. وهو ما حدث في أواخر النَصف الأول من القرن السادس، إذ أعلن البطريق جرجير، حاكم الولاية، انفصاله واستقلاله بالملك بإفريقيا الشمالية وهو انفصال يبدو ثابتا على الأقل منذ النصف الثاني لسنة 646 ميلادي.
أوضاع إفريقية عشية الفتح العربي الإسلامي:
لقد كان عدم الاستقرار الدائم داخل الولاية البيزنطية وبالتفاعل مع الأوضاع العامة للإمبراطورية، حافزا لأحد ولاَتها، البطريق جرجير، للانفصال عن الدولة المركزية، ضاربا النَقود باسمه وناقلا العاصمة من قرطاج إلى سبيطلة، خوفا من ردود الفعل المركزية البيزنطية أكثر منه استعدادا لمواجهة العرب، وقد يكون نتيجة للأمرين معا. ولم يكن هذا الأمر بخاف عن العرب المتمركزين بمصر.
كما أن المحاولة الانفصالية التي قام بها جرجير، ستكون بداية عصر خاصَ بإفريقية. فعلى إثر ذلك أصبحت هذه الولاية البيزنطية السابقة منطقة تعيش حالة من الاستقلال التي لن ترضي أباطرة القسطنطينية. وليس من باب المجازفة عندما نقول أن الفترة الممتدة ما بين النصف الثاني من سنة 646 ميلادي و698 ميلادي هي فترة إفريقية المستقلة.
ويمكن اعتبار الفترة الممتدة ما بين 646 و 698 م فترة مثلثة الصراع :
– سكَان إفريقية من روم و بربر و بربر مترومنين
– الإمبراطورية المركزية أي الإمبراطورية البيزنطية
– العرب الفاتحين
وقد أدت هذه الوضعية إلى صعوبة فتح المنطقة بل يمكن أن نذهب إلى أكثر من ذلك وهو أن الولاية فتحت بالتقاء طرفين أساسيين في المنطقة وهما العرب من جهة وسكَان إفريقية من جهة أخرى. إذ بالإضافة إلى استقلال المنطقة عن القسطنطينية منذ النصف الثاني لسنة 646م، برزت أطراف محلية تدعو إلى التعامل مع العرب وتسعى للاستنجاد بهم ضد أسياد الأمس، أي ضد الإمبراطورية البيزنطية، وهي حقبة مغيبة تماما من الدراسات الحديثة. فليس من المعقول أن يتواصل الحديث عن فتح إفريقية بطرد الروم منها وإنهاء وجود الدولة البيزنطية على يدي العرب، لأنّ الواقع التاريخي يجعلنا نتوقف عند هذه المسألة وهي مسألة التحقيب للفترة الفاصلة بين الوجود الرسمي البيزنطي والوجود الرسمي العربي الإسلامي. والنَصوص العربية والبيزنطية على حد السواء تحدثنا عن الانفصال الذي قام به جرجير عن السَلطة المركزية وضربه النقود باسمه.
يورد كل من تيوفان و نيسيفور -أو «نقفور» كما تسميه النَصوص العربية – « أن العرب قد قتلوا جرجير »، و يقول تيوفان « أنه في سنة 6138 من خلق العالم ( أي 1سبتمبر 646- 31 أوت 647 م) ثار الأفارقة تحت قيادة بطريقهم جرجير ضد السَلطة الإمبراطورية », ويبدو أنّ قتل الوالي المتمرد من طرف العرب بمثابة العقاب الذي سلطه الرب عليه. وهو ما جعل المكان الذي دارت فيه المعركة يحمل في وجدان الناس تسمية رمزية وهي “فحص عقوبة”؟ و إذا نظرنا في النَصوص العربية ومن أقدمها تقريبا نصّ ابن عبد الحكم، فنجده يقول: « فخرج عبد الله بن سعد إليها وكان مستقر سلطان إفريقية يومئذ بمدينة يقال لها قرطاجنة وكان عليها ملك يقال له جرجير كان هرقل قد استخلفه فخلع هرقل وضرب الدنانير على وجهه، وكان سلطانه ما بين اطرابلس وطنجة » وفي رواية أخرى لابن عبد الحكم « أن هرقل كان قد استخلف جرجير، فخلعه » .
ولم يتدخل العرب إلا في السنة الموالية للقضاء على سلطة جرجير وليس على سلطة الإمبراطورية. معنى ذلك أن العرب لم يتغلبوا على إمبراطور القسطنطينية، فهو قد فقد نفوذه وسلطانه على المنطقة قبل مجيء العرب، وإنما تغلبوا على ملك مستقل بشؤون البلاد رغم أنّه كان في بداية تركيز سلطانه. وإن لم يكن جرجير ملكا متمرَسا و متجذَرا في حكم المقاطعة، فهو قد بدا للعرب في هيئة الملك، ولعلَهم رأوه كذلك. وهذه النقطة تظل محل غموض ما لم نعثر على عملة تحمل اسم الملك جرجير وصورته أو ما تسميه النَصوص « بالدينار الجرجيري ».
وليس من باب البحث الجدي أن يظل المؤرخون، في تونس وغيرها، الذين يبحثون في تاريخ إفريقية ما بين العهدين البيزنطي والإسلامي، رهينة لما كتبه المؤرخ الفرنسي شارل ديل – وإن كان حجَة في مجال البيزنطيات- تحت تأثير الفكر الاستعماري الذي أراد إطالة الحضور الروماني / المسيحي لتبرير الاستعمار في المنطقة وتشريعه بالتاريخ. فكلَما طال زمن الحضور البيزنطي إلاَ وتقلَصت فترة الدولة العربية الإسلامية بمختلف سلالاتها واقترب الحضور البيزنطي من الحضور الفرنسي. وقد رأى شارل ديل أن الحضور الرسمي البيزنطي قد بدأ يضعف بعد مجيء العرب، والواقع أن هذا الحضور الرَسمي قد انتهى قبل مجيء العرب، فلا يمكن إذن الحديث عن ضعف سلطة ما لم تكن قد وجدت فعلا. فقد وقف سكَان إفريقية ما بين 646 و698 مواقف متباينة من الدولة البيزنطية المركزية التي نزع أغلب سكَان البلاد طاعتها.
ولا يختلف موقف شارل ديل في نهجه عن مواقف النَصوص العربية التي سعت إلى التأسيس لجذور مشرقية لسكَان إفريقية والمغرب، حتى بدت عملية الفتح للمنطقة والتوسع بها وكأنها عملية داخلية بين العرب وبني عمومتهم من البربر. وقد سار الباحثون المعاصرون على نفس النَهج دون محاولة إعادة النظر في النَصوص والتثبت من خلفيات الكتّاب وأهداف الرواة. فقد وقع الاكتفاء دائما بالإحالة على مؤلف شارل ديل دون العودة إلى مصادره والتثبت من قراءته للنص المعتمد سواء كان النص عربيا أو غير عربي.
يبدو جليا من خلال جملة المصادر التي تناولت مسألة الفتح ، أن هذه العملية قد تمت على مراحل- وهذا أمر مألوف وكتبه أكثر من مؤرخ معاصر- ولكن المسألة الأساسية هي هذه المرحلية، التي يكتنفها بعض الغموض. لذلك نرى أن هذه المراحل قد تمت على النحو التالي:
– مرحلة التطلع إلى قلب إفريقية وذلك بالتحرش بمناطقها الطرفية الجنوبية الشرقية. جاءت هذه المرحلة بعد فترة من التردد والرفض الذي أعلنه عمر بن الخطاب. فقد رفض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب التوغَل في إفريقية مقدَما جملة من الحجج الغامضة كقوله- على حد تعبير بعض النَصوص- «إفريقية، المفرقة، غادرة مغدور بها، لن أوجه إليها أحدا ما مقَلت عيني الماء». وكل ما نلاحظه من خلال المصادر أن موقف الخليفة الثاني كان موقفا واضحا، إذ لم يكن راغبا في فتح جبهة غربية وهو في عنف تقدمه نحو الشرق والشمال على حساب الفرس والروم. فإنّ إرسال جيش إلى إفريقية دون تمهيد المناطق التي مازالت حديثة عهد بالحضور العربي وقابلة للانتفاض عليه من حين لآخر من المغامرات التي لا تحمد عواقبها وينتج عنها ضياع كل شيء. ومن هذه المنطلقات يأتي رفضه لطلب معاوية بن أبي سفيان غزو قبرص ورفضه غزو إفريقية. لذلك لم يكن ممكنا مخالفة قرار عمر وتجاوز السياسة المركزية التي كانت لها أسبابها. ولم يتسن ترك موقف عمر إلا بعد وصول عثمان إلى سدة الخلافة فقد أحدث التغيير على رأس الدولة المركزية تغييرا واضحا في سياسة الدولة بصورة عامة، سواء في ما يتعلق بالشأن الداخلي المتعلق بتسيير الدولة الفتية أو بالشأن الخارجي المتعلق بالعلاقات مع الدول والكيانات المجاورة أو المتاخمة لمجال دولة المدينة.
فقد فتح عثمان باب الفتوحات من جديد في اتجاه مناطق لم يشملها الفتح فيما سبق مثل قبرص، وجرجان وإفريقية التي تعرضت لهجمات عسكرية في نفس السنة أي سنة 27هـ/ 647 م. ويبدو أن التوجه نحو إفريقية لم يكن قرارا مركزيا أو اختيارا من سلطة المدينة بقدر ما كان توجها خاصَا بوالي مصر، وإن لم يكن كذلك فبطلب منه و إلحاح. ولعلّ هذا الأخير كان يعتبر، وهو أمر معقول من الوجهة العسكرية البحتة، أنه لا يمكن الاستقرار في مصر إلا بعد الاستيلاء على عمقها الإستراتيجي، وهو بلاد المغرب كلها والتخلص من إمكانية حدود برية مع العدو البيزنطي أو الرومي، خاصَة وأن التجربة الشّامية قد بينت أنه بإمكان البيزنطيين أن يحاولوا افتكاك المبادرة لاسترجاع ما انتزعه العرب منهم بالتفاوض مع القوى المحلية. لذلك ولدرء مثل هذه المخاطر، طلب الوالي الإذن بالفتح وهو ما جعل الخليفة عثمان بن عفان، و بعد القيام بجملة من المشاورات، يوافق على القيام بما يمكن من العمليات العسكرية التي قد تسمح بفتح المنطقة وضمها للمجال العربي الإسلامي.
المصادر:
– النويري، نهاية الأرب، حسين نصار وعبد العزيز الأهواني، القاهرة 1983
– عبد الوهاب (ح.ح)، ورقات، I، تونس 1965
– المنصوري (م.ط)، “ملامح بعض الفئات الاجتماعية بأفريقية في العهد البيزنطي”، المغيّبون في تاريخ تونس الاجتماعي، تونس 1999
– Dargon (G), “Appivoix la guerre, Byzantins et Arabes, ennemis intimes”, in Byzantium at war, Athnes 1997
– Diehl (Ch), L’Afrique byzantine, Paris 1896
– Ostrogorky (G), Histoire de l’état byzantin, Paris 1986
– Pringle (D), The defences of byzantin Africa, Oxford 1981
– Procope, La guerre contre les vandales, tront, D. Roques, Paris 1980
– Shahid (I), Byzantium and the Arabs in the fourth century, Washington 1982
الى حدود انهيار السلطنة الحفصية و تدخل الاسبان ثم العثمانيين في القرن السادس عشر
للأمانة لست كاتب الموضوع الاصلي و لكني ناقل له بتصرف و مجمع له عن مجموعة من المقالات من معهد التراث الوطني
و سيذيل كل جزء بالمصادر لمن يريد التوسع في الموضوع
الجزء الأول:
الوضع العسكري و السياسي في آخر أيام الوجود البيزنطي في افريقية
وصل الجيش البيزنطي سنة 533 إلى سواحل إفريقيا”لاسترجاعها” تحت سيطرة الدولة الرومانية الشرقية والمتعارف على تسميتها بالإمبراطورية البيزنطية. وقد كان السبب المعلن هو إعادة الشرعية السياسية إلى البلاد بعد الانقلاب الذي قام به احد أفراد العائلة الحاكمة، جيليمار ضد الملك هلديريك.
وقد جاء هذا التدخل العسكري نتيجة لرغبة الإمبراطور جستنيان في ترميم الإمبراطورية الرومانية وإعلاء مجد عرشه. وقد كانت الظروف سانحة للقيام بهذا المشروع العسكري منها:
– أولا: توقفت جبهات القتال على الحدود الشرقية للإمبراطورية بعد حرب طويلة ضد الفرس ، وخرج البيزنطيون منتصرين رغم ما لحق بهم من الخسائر المادية والبشرية.
– ثانيا: وصلت بعض المجموعات من الرومان والأفارقة المترومنين والذين اعتنقوا الدين المسيحي لنجدة الإمبراطور جستنيان ضد الحاكم الوندالي الجديد الذي كانت بعض هذه المجموعات تعاني من اضطهاده وظلمه مثل الارستقراطية المحلية التي كانت تشعر بالمضايقة الاجتماعية والمادية من طرف الحكام الوندال. وجمع المسيحيين الذين لا يدينون بالمذهب الآري الذي تدافع عنه الدولة الوندالية وكذلك شقّ من العائلة الوندالية التي لم تكن لترضى بخلع الملك هلديريك وحلول جيليمار محله.
ومهما كانت الأسباب المعلنة فإن الحملة العسكرية التي أمر الإمبراطور البيزنطي بتنفيذها جاءت تلبية لرغباته الخاصة، حتى كأنّها تبدو حملة جستنيان وحده. وقد صوّر المؤرخ البيزنطي وشاهد العيان بروكوب النقاشات التي دارت قبل انطلاق الحملة ومعارضة بعض القواد العسكريين لقرار الإمبراطور. ورغم أغلبية المواقف المعارضة فقد تم تنفيذها بحجة نجدة “المسيحيين المضطهدين” والرومان الخاضعين “للوندال البرابرة”.
جيش الحملة (533 م)
القيادة
اختار الإمبراطور البيزنطي أحد المقربين منه وهو الجنرال بليسار أو Belisarius أحد الضباط الذين قدَموا خدمات هامَة في الحرب ضدَ الفرس، و من الذين تميزوا بكفاءة عسكرية عالية خلال الحروب التي خاضتها الإمبراطورية ضد أعدائها في الشرق، وذلك رغم تقدّمه في السّن، ليكون قائدا عامَا، وقد كان معه كاتبه الخاص بروكوب القيصرية الذي يعود له الفضل في كتابة تاريخ الو ندال وتقديم صورة دقيقة عن الحملة البيزنطية على إفريقيا سنة 533.
كما تمّ تعيين الجنرال سولومون وهو أحد الخصيان من أصل أرميني قائدا مساعدا لبيليزار. وكان أيضا من قدماء الحرب ضد الفرس، وهو الذي سيؤول له حكم الولاية البيزنطية بعد السيطرة عليها.
وأسندت لمجموعة من الضباط الذين شارك اغلبهم في الحروب ضد الفرس وبرز بعضهم أثناء معركة دارا سنة 530 قيادات مختلفة لفرق متعددة من الجيش كانت على حسب رواية بروكوب على النحو التالي.
– الجيش النظامي وهو الجيش الذي لا يضم إلا المواطنين الأحرار من البيزنطيين وقد كان القواد الذين يشرفون على تسيير هذه الفرق:
قادة الخيالة والرماة: هم رفينوس و أيقان ، وهما من عائلة بليسار القائد العام للحملة. وكذلك برباتوس و بابَوس
ويعتبر جيش الخيالة الركيزة الأساسية للجيش البيزنطي وعموده الفقري، وهو أمر مرتبط بنوعية الحروب ووسائل النقل والتنقل في العصور القديمة والوسيطة.
قادة جيش المشاة:
يوحنا أيبدامن كقائد عام يساعده كل من تيودوروس و تيرانتيوس و زيدوس ومارقيانوس وسرابيس
قادة الحلفاء
وهم مجموعة من الضبَاط مثل القائد الأرميني دوروتايويس وقبريانس و فالايريانوس ومارتينوس وألتياس ويوحنا وماركلَوس وكيريلَوس و أيقانوهو من شعب الهون و فراس على رأس فرقة من الهيروليين وسنَيون وبلاس على رأس فرقة من المساجات
وقد عين على رأس الأسطول قائد واحد هو كالونيموس الاسكندري وقد اشتمل على500 قطعة وشحنت هذه السفن ب30000 من البحارة المصريين والأيونيين وهم الأغلبية ومن سكان قليقيليا كما ضمّت الحملة 92 سفينة كبيرة مجهزة للقتال البحري ولكنها لا تحتوي إلا على صف واحد من المجاديف وهي سفن مغطاة حتى لا يتعرض البحرية إلى سهم العدو وتسمى هذه السفن درومون
التركيبة العرقية
جنّدت الإمبراطورية البيزنطية لهذه الحملة جيشا مكونا من الجند النظامي أي من المواطنين الرومان ومن حلفاء الإمبراطورية من الهيروليين والمساجات والبرابرة والتراقيين والأرمن وغيرهم من الشعوب الجرمانية وحتى من القبائل العربية التي كانت منخرطة في خدمة الإمبراطورية البيزنطية. وليس من باب الصدفة أن نجد ضمن قواد الحملة أحد الضباط وهو زيد أو زيدوس وهو من الأسماء العربية الشائعة من ناحية ووجود نقائش مثل نقيشة نمارة ونصوص مثل نصوص أميان مارسولان وتيوفان. ولعل أهم ما يمكن ملاحظته هو تعدد الأجناس التي من صلبها تم تكوين الجيش الموفد إلى إفريقيا وهو ما يعكس أولا شساعة الإمبراطورية وتعدد مكوناتها العرقية والاثنية. وإن لم تكن هذه الجنسيات متساوية قي نظر القانون المدني فهي موحدة في إطار التنظيم العسكري، حيث تخضع الترقيات وتحمّل المسؤوليات القيادية إلى الكفاءة القتالية والقدرة على التسيير والإحاطة بالجند حتى يستطيع مجابهة العدو في أحسن الظروف. هذا بالإضافة إلى احترام قوانين الحرب. فقد نصت المؤلفات العسكرية التي كانت في كثير من الأحيان من تأليف الأباطرة أنفسهم على جملة من القيم والعقائد التي ترمي إلى استلطاف الشعوب العدوَة أكثر من إظهار الغلبة والتسلَط. وهو ما عبر عنه القائد بليسار بعدما أرسى أمام رأس قبودية على الساحل الشرقي لإفريقية ولاحظ تسارع بعض من جنده للسلب والنهب قائلا: » عندما حملتكم إلى هذه الأرض ليس لدي إلا أمل وحيد وهو إرجاع الأمل إلى الأفارقة وهم رومان منذ زمن بعيد، وهم يبغضون الوندال…أما الآن فبعصيانكم وتسلَطكم فقد جلبتم حقد الأفارقة وربَما دفعتموهم للتصالح مع الوندال ولا تنسوا أن الضحية تحقد جبّلَة على الغاصب مهما طال الزمن.. « .
ولعلّ أهم ما يميز الحضارة البيزنطية بصفة عامة هو التأليف في المجال العسكري. فاهتمت بالتّأليف في تقنيات القتال برا وبحرا وبمسائل التموين وبالخطط العسكرية وتوفير أكثر ما يمكن من الظروف لتحقيق الانتصار. كما اعتنت هذه المؤلفات بانتداب الجند وشروط الخدمة العسكرية وأخلاقيات هذه المهنة تجمع أغلب النصوص البيزنطية التي تعرضت لهذا الجانب على ضرورة تحلَي الجند بإنسانية في التعامل مع الشَعوب المغلوبة وهو ما ساعد إلى حدَ ما على تدعيم الهيمنة البيزنطية على شعوب مختلفة إلى حدود سنة 1453 ميلادي لأن الجندية ليست، من وجهة النظر البيزنطية، خدمة لحماية البلاد فقط وإنما لاسترجاع ما قد تفقده الإمبراطورية من الأراضي وتوفير ما يحتاجه السكان من المواد الضرورية في إطار ما تسميه النصوص البيزنطية “بالحرب العادلة”.
أنواع الجيوش
ينقسم الجيش البيزنطي إلى ثلاثة أنواع:
– جيش نظامي ملازم للحصون والقلاع والثكنات التي تسمى “أكرا” وهو جيش محترف يمكن أن يطلق عليه اسم جيش وطني لأنه يتكون من المواطنين الأحرار .
– جيش مأجور يطلق عليه اسم “الحلفاء” وهو جيش متعدد الجنسيات لا يربط بين أفراده – علاوة على القوانين العسكرية- إلا خدمة الدولة البيزنطية كلما دعت الحاجة إلى ذلك ويتقاضى مقابلا إجماليا حسب الحاجة إليه. وفي فترات السلم يسرَح أفراده سواء أقاموا بالبلاد أو غادروها. فهو عنصر قليل العدد في الفترات السابقة للقرن الحادي عشر، حيث ستزداد إليه الحاجة أمام تطورات عديدة لا يتّسع المجال لذكرها هنا.
– الجنود الفلاحون: وهو فصيل من الجيش البيزنطي يرتكز على ما تعطيه الدولة من الأراضي لبعض المزارعين بشروط منها ضرورة إحياء الأرض، فهي مصدر معيشته وكذلك مصدر تسلَحه وعتاده . فهؤلاء الجنود الفلاحون لا يتقاضون أجرا وإنما يحصلون على “إقطاع عسكري” يمكنهم من توفير حاجياتهم العائلية من ناحية وتجهيز أنفسهم بأدوات الحرب وضرورياتها من ناحية أخرى. وهذا التنظيم الموروث عن العهد الروماني والمتمثل في وجود جنود فلاحين على الحدود يسمون بالحدوديين ، سينتشر في كامل المجال البيزنطي. ويطلق على هؤلاء الجنود اسم الستراتيوت. وسيصبح هذا العنصر العسكري منذ بداية القرن السابع ميلادي المصدر الأصلي والركيزة الأساسية للجيش البيزنطي سواء في إفريقيا الشمالية أو في غيرها من أراضي الإمبراطورية، حتى سمَاه المؤرخ البلغاري جورج استروقرسكي “العمود الفقري” للجيش والدولة البيزنطيين.
– البحرية: تتمتع الدولة البيزنطية المترامية الأطراف بسواحل عديدة فيها من الإمكانيات الطبيعية ما يسمح بالإرساء العادي أو الإرساء الاضطراري. فإنّ الإمبراطورية البيزنطية، عندما استولت على منطقة إفريقيا الشمالية، كانت تسيطر بلا منازع على مختلف السواحل المتوسطية من جزر البليار إلى الإسكندرية ومن البحر الادرياتيكي إلى خليج سرت. وهي منطقة مهيأة منذ العهود القديمة لاحتضان السفن. وتلعب البحرية البيزنطية بالإضافة إلى الدور العسكري في إطار المعارك البحرية (مثل معركة ” ذات الصواري” في زمن معاوية بن أبي سفيان)، دور وسيلة النقل الضرورية بالدرجة الأولى فتسمح بربط مختلف أجزاء الإمبراطورية بعضها ببعض وتربطها بالعاصمة القسطنطينية مركز القرارات والأوامر.
جيش إفريقية البيزنطية
أدّت حملة بيليزار إلى إخضاع المنطقة للحكم البيزنطي. وقد ضمت المقاطعة في هذه الفترة مجالا شاسعا يمتد من طرابلس إلى طنجة. ورغم اتساع المجال (على الأقل في المستوى الظاهري) فقد ظلّ واقع الولاية البيزنطية واقعا محدودا، فهي ولاية تشتمل على مجال ضيق لا يتعدى في أغلب الحالات الشريط الساحلي إلا فيما سيصبح البلاد التونسية فيما بعد، حيث بلغ الحضور البيزنطي أعماق البلاد في اتجاه الغرب وفي اتجاه الجنوب الغربي.
وتحكمت في هذا المجال عاصمة المنطقة التقليدية قرطاج إلى حدود منتصف القرن السابع ثمّ انتقلت ولو لفترة زمنية محدودة، لا نعرف أسبابها، إلى سبيطلة.
وقد نظمت الدولة البيزنطية ولاية إفريقيا في إطار مقاطعة تجمع السواحل الليبية إلى حدود برقة وبعض المناطق من الجزائر والمغرب اليوم. وتضاف إليها السواحل الجنوبية الاسبانية وجزر البليار و صقلية و سردينيا. وذلك سعيا من الإمبراطور جستنيان إلى إعادة الاعتبار لبلاد ظلت لردح من الزمن من أهم الولايات الرومانية كما اعتبر استرجاعها استرجاعا لمجد روما على حدَ تعبير جستنيان.
ويحكم الولاية حاكم مدني برتبة عالية إلى الربع الأخير من القرن السادس ميلادي. ويشرف على القيادة العسكرية ضابط يحمل صفة قائد العسكر وقد ظلت عملية الفصل بين السلطتين العسكرية والمدنية إلى حدود سنة 580-585 ميلادي، حيث تغيرت سياسة الدولة وأصبحت الولاية الإفريقية خاضعة لحاكم عسكري هو الاقزرخس وهو حاكم يجمع بين السلطات المدنية والعسكرية والقضائية وغيرها.
كما قسمت إفريقية إلى ولايات عسكرية يحكم كل ولاية منها دوقس مستقر في عاصمة الإقليم مثل قرطاج وسوسة وتلابت وقفصة وطرابلس وغيرها من المدن العواصم في الجهات. والملاحظ أن النصوص والنقائش لا تبوح بكل ما يمكّن من معرفة التقسيم العسكري الحقيقي للولاية. فمثلا وجود مقر للدوق في تلابت وقفصة وهما مدينتان غير متباعدتين طرح إشكالا للمؤرخين فهل يعني ذلك وجود حاكمين عسكريين أم يعني وجود مقرين لحاكم واحد.
يبدو أنه قد تمّ في بداية السيطرة البيزنطية على المنطقة تركيز قيادات عسكرية في المدن الهامة مثل طرابلس وقسنطينة وقفصة بالتناوب مع تلابت وهدرماتوم [سوسة] ومدينة قيصرية[شرشال] بالجزائر اليوم.
وكان هؤلاء الضباط يخضعون تراتبيا إلى القائد العام لجيش الولاية طيلة القرن السادس وفي أواخره أصبح الدوق يأتمر بأوامر الاقزرخس الذي يجمع بين يديه السلطتين المدنية والعسكرية . وقد احتفظت لنا النصوص والنقائش ببعض أسماء الذين شغلوا خطة دوق على رأس بعض الحاميات ولو أننا لا نستطيع أن نجزم متى شغل هؤلاء خطتهم بما فيه الكفاية من الدقة مثل:
هيماريوس (545-546)
ماركانتيوس
يوحنا تروقليتا (539-544) الذي سيرتقي إلى رتبة وال بإفريقيا البيزنطية
ليونتيوس
بومبايريوس
كرسكانس
بيلاجيوس (544)
روفينوس سنة 547
كيسيل سنة 609
ولئن كان الجيش البيزنطي في بداية القرن السادس مكونا بالدرجة الأولى من الجنود الذين شاركوا في الحملات الأولى فقد بدأ عدد هؤلاء يتقلص بحكم مرافقة البعض منهم القائد بليسار عندما غادر البلاد إلى إيطاليا سنة 534 ومنهم من التحق به لمساعدته في حروب القوط. لذلك أصبح انتداب الجند من المحليين سواء من الرومان أو الأفارقة المترومنين أو المتعاطفين مع الحضور البيزنطي وذلك لأسباب عديدة منها ما هو مادي ومنها ما هو ديني إلى غير ذلك من الأسباب التي تحوّل سكان بلد ما إلى متعاطفين مع الغزاة. وقد تميز الحضور العسكري البيزنطي باعتماده على وحدات خفيفة من الخيالة تدعمها الحصون والقلاع المنتشرة في مختلف الجهات لمراقبة تحركات الأهالي و التصدي للثورات العديدة التي عرفها حكم البيزنطيين للبلاد.
ومهما يكن من أمر فقد لعب الجيش مختلف الأدوار في إفريقيا البيزنطية، إذ بعد إنهاء الحكم الوندالي والتمركز قي البلاد قام البيزنطيون بحملة تشييد وتعمير واسعة النطاق سواء بأمر مباشر من الإمبراطور أو بأمر من حاكم الولاية أو برغبة من الأهالي. وقد شملت حملة البناء والتشييد بالدرجة الأولى المجال العسكري. فسعى البيزنطيون، وبالاعتماد على الجيش، إلى ترميم ما تهدّم من الحصون والقلاع والأسوار مثلما هو الشأن في قرطاج إذ أمر الإمبراطور جستنيان قائد الحملة بترميم أسوار المدينة وبعض المعابد والكنائس التي كانت بداخلها والتي يبدو أنها تهدَمت لعدم صيانتها وإهمالها من طرف الوندال. ونظرا لعدم استقرار الأمن بالبلاد انتشرت الحصون في مختلف جهات الولاية، على سواحلها وفي دواخلها.
لقد جابه البيزنطيون إلى جانب بقايا الوندال سكان البلاد المحليين ممَن لم تؤثر فيهم سياسة الرومنة وممن لم يكن قابلا للإذعان للغازي الأجنبي. وهو ما تطلب من الولاة الذين تعاقبوا على المنطقة مجهودا دفاعيا كبيرا تشهد عليه المباني التي ما تزال قائمة في مختلف المناطق التي خضعت إلى الدولة البيزنطية في شمال إفريقيا، ويجسّمها بشكل واضح قصر لمسة بولاية القيروان اليوم, الذي كان يتحكم في ممر طبيعي هام بين مناطق التل الخصبة ومناطق السباسب شبه القاحلة. هذا بالإضافة إلى مختلف الحصون والأسوار التي ما تزال بقاياها بارزة للعيان مثل باجة وتبرسق وعين تنقة وسبيطلة وحيدرة و قفصة وقليبية وقصر القرشين بالوطن القبلي. كما يمكن أن نضيف إلى هذه الحصون بعض الإستحكامات الساحلية التي اندمجت في صلب العمارة الإسلامية في القرون اللاحقة، في حين اندثرت بعض المباني تحت تأثير عوامل الزمن وعمل الإنسان وتطور العمران وتنوع الأنشطة الاقتصادية التي ساهمت إلى حدَ كبير في تدمير بعض المعالم وتقويضها فلم تبق إلاَ أسماؤها.
وعلى العموم لم يستطع الجيش البيزنطي السيطرة على البلاد نظرا لغليانها المتواصل وذلك بالرغم من وجود جالية هامة متعاطفة مع الدولة البيزنطية لأسباب تاريخية بينما اندمجت الكثير من الفئات وخاصة النخب في صلب الحضارة الرومانية وترومن العديد من الناس وأصبحوا من حاملي صفة المواطنة الرومانية وهو ما يعني ارتباط مصالحهم بمصالح الدولة الرومانية وارتباط مصالح هذه بوجودهم. كما تعاطف البعض من سكان البلاد مع الحضور البيزنطي لأسباب دينية، إذ اعتنق كثير من الناس الديانة المسيحية وإن لم يكن نفس المذهب الرسمي الذي تذب عنه القسطنطينية، وهذا الاعتناق من شأنه أن يخلق شعورا بالمؤاخاة بين المسيحيين رغم اختلاف الأعراق والأصول.
ظلت مجموعات هامة من سكان البلاد ممن لم تذعن إلى سلطة الرومان ولم يرتض الخضوع للأجنبي من ناحية ونظرا للسياسة الجبائية الجائرة التي كانت تمارسها الدولة المركزية ضد سكان الولايات البعيدة ترتض من جهة أخرى تقاوم الحضور البيزنطي. وقد أدَى ذلك إلى تعدَد الثَورات وحرق المزارع حتَى أن الجيش البيزنطي لم يجد بدّا من الاقتراب من السكَان المحلَيين ولعلَ ذلك ساهم في تكوين تيَار من البيزنطيين ومن الأهالي يدعو إلى الانفصال عن الدَولة البيزنطية في إطار كيان مستقلَ. وهو ما حدث في أواخر النَصف الأول من القرن السادس، إذ أعلن البطريق جرجير، حاكم الولاية، انفصاله واستقلاله بالملك بإفريقيا الشمالية وهو انفصال يبدو ثابتا على الأقل منذ النصف الثاني لسنة 646 ميلادي.
أوضاع إفريقية عشية الفتح العربي الإسلامي:
لقد كان عدم الاستقرار الدائم داخل الولاية البيزنطية وبالتفاعل مع الأوضاع العامة للإمبراطورية، حافزا لأحد ولاَتها، البطريق جرجير، للانفصال عن الدولة المركزية، ضاربا النَقود باسمه وناقلا العاصمة من قرطاج إلى سبيطلة، خوفا من ردود الفعل المركزية البيزنطية أكثر منه استعدادا لمواجهة العرب، وقد يكون نتيجة للأمرين معا. ولم يكن هذا الأمر بخاف عن العرب المتمركزين بمصر.
كما أن المحاولة الانفصالية التي قام بها جرجير، ستكون بداية عصر خاصَ بإفريقية. فعلى إثر ذلك أصبحت هذه الولاية البيزنطية السابقة منطقة تعيش حالة من الاستقلال التي لن ترضي أباطرة القسطنطينية. وليس من باب المجازفة عندما نقول أن الفترة الممتدة ما بين النصف الثاني من سنة 646 ميلادي و698 ميلادي هي فترة إفريقية المستقلة.
ويمكن اعتبار الفترة الممتدة ما بين 646 و 698 م فترة مثلثة الصراع :
– سكَان إفريقية من روم و بربر و بربر مترومنين
– الإمبراطورية المركزية أي الإمبراطورية البيزنطية
– العرب الفاتحين
وقد أدت هذه الوضعية إلى صعوبة فتح المنطقة بل يمكن أن نذهب إلى أكثر من ذلك وهو أن الولاية فتحت بالتقاء طرفين أساسيين في المنطقة وهما العرب من جهة وسكَان إفريقية من جهة أخرى. إذ بالإضافة إلى استقلال المنطقة عن القسطنطينية منذ النصف الثاني لسنة 646م، برزت أطراف محلية تدعو إلى التعامل مع العرب وتسعى للاستنجاد بهم ضد أسياد الأمس، أي ضد الإمبراطورية البيزنطية، وهي حقبة مغيبة تماما من الدراسات الحديثة. فليس من المعقول أن يتواصل الحديث عن فتح إفريقية بطرد الروم منها وإنهاء وجود الدولة البيزنطية على يدي العرب، لأنّ الواقع التاريخي يجعلنا نتوقف عند هذه المسألة وهي مسألة التحقيب للفترة الفاصلة بين الوجود الرسمي البيزنطي والوجود الرسمي العربي الإسلامي. والنَصوص العربية والبيزنطية على حد السواء تحدثنا عن الانفصال الذي قام به جرجير عن السَلطة المركزية وضربه النقود باسمه.
يورد كل من تيوفان و نيسيفور -أو «نقفور» كما تسميه النَصوص العربية – « أن العرب قد قتلوا جرجير »، و يقول تيوفان « أنه في سنة 6138 من خلق العالم ( أي 1سبتمبر 646- 31 أوت 647 م) ثار الأفارقة تحت قيادة بطريقهم جرجير ضد السَلطة الإمبراطورية », ويبدو أنّ قتل الوالي المتمرد من طرف العرب بمثابة العقاب الذي سلطه الرب عليه. وهو ما جعل المكان الذي دارت فيه المعركة يحمل في وجدان الناس تسمية رمزية وهي “فحص عقوبة”؟ و إذا نظرنا في النَصوص العربية ومن أقدمها تقريبا نصّ ابن عبد الحكم، فنجده يقول: « فخرج عبد الله بن سعد إليها وكان مستقر سلطان إفريقية يومئذ بمدينة يقال لها قرطاجنة وكان عليها ملك يقال له جرجير كان هرقل قد استخلفه فخلع هرقل وضرب الدنانير على وجهه، وكان سلطانه ما بين اطرابلس وطنجة » وفي رواية أخرى لابن عبد الحكم « أن هرقل كان قد استخلف جرجير، فخلعه » .
ولم يتدخل العرب إلا في السنة الموالية للقضاء على سلطة جرجير وليس على سلطة الإمبراطورية. معنى ذلك أن العرب لم يتغلبوا على إمبراطور القسطنطينية، فهو قد فقد نفوذه وسلطانه على المنطقة قبل مجيء العرب، وإنما تغلبوا على ملك مستقل بشؤون البلاد رغم أنّه كان في بداية تركيز سلطانه. وإن لم يكن جرجير ملكا متمرَسا و متجذَرا في حكم المقاطعة، فهو قد بدا للعرب في هيئة الملك، ولعلَهم رأوه كذلك. وهذه النقطة تظل محل غموض ما لم نعثر على عملة تحمل اسم الملك جرجير وصورته أو ما تسميه النَصوص « بالدينار الجرجيري ».
وليس من باب البحث الجدي أن يظل المؤرخون، في تونس وغيرها، الذين يبحثون في تاريخ إفريقية ما بين العهدين البيزنطي والإسلامي، رهينة لما كتبه المؤرخ الفرنسي شارل ديل – وإن كان حجَة في مجال البيزنطيات- تحت تأثير الفكر الاستعماري الذي أراد إطالة الحضور الروماني / المسيحي لتبرير الاستعمار في المنطقة وتشريعه بالتاريخ. فكلَما طال زمن الحضور البيزنطي إلاَ وتقلَصت فترة الدولة العربية الإسلامية بمختلف سلالاتها واقترب الحضور البيزنطي من الحضور الفرنسي. وقد رأى شارل ديل أن الحضور الرسمي البيزنطي قد بدأ يضعف بعد مجيء العرب، والواقع أن هذا الحضور الرَسمي قد انتهى قبل مجيء العرب، فلا يمكن إذن الحديث عن ضعف سلطة ما لم تكن قد وجدت فعلا. فقد وقف سكَان إفريقية ما بين 646 و698 مواقف متباينة من الدولة البيزنطية المركزية التي نزع أغلب سكَان البلاد طاعتها.
ولا يختلف موقف شارل ديل في نهجه عن مواقف النَصوص العربية التي سعت إلى التأسيس لجذور مشرقية لسكَان إفريقية والمغرب، حتى بدت عملية الفتح للمنطقة والتوسع بها وكأنها عملية داخلية بين العرب وبني عمومتهم من البربر. وقد سار الباحثون المعاصرون على نفس النَهج دون محاولة إعادة النظر في النَصوص والتثبت من خلفيات الكتّاب وأهداف الرواة. فقد وقع الاكتفاء دائما بالإحالة على مؤلف شارل ديل دون العودة إلى مصادره والتثبت من قراءته للنص المعتمد سواء كان النص عربيا أو غير عربي.
يبدو جليا من خلال جملة المصادر التي تناولت مسألة الفتح ، أن هذه العملية قد تمت على مراحل- وهذا أمر مألوف وكتبه أكثر من مؤرخ معاصر- ولكن المسألة الأساسية هي هذه المرحلية، التي يكتنفها بعض الغموض. لذلك نرى أن هذه المراحل قد تمت على النحو التالي:
– مرحلة التطلع إلى قلب إفريقية وذلك بالتحرش بمناطقها الطرفية الجنوبية الشرقية. جاءت هذه المرحلة بعد فترة من التردد والرفض الذي أعلنه عمر بن الخطاب. فقد رفض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب التوغَل في إفريقية مقدَما جملة من الحجج الغامضة كقوله- على حد تعبير بعض النَصوص- «إفريقية، المفرقة، غادرة مغدور بها، لن أوجه إليها أحدا ما مقَلت عيني الماء». وكل ما نلاحظه من خلال المصادر أن موقف الخليفة الثاني كان موقفا واضحا، إذ لم يكن راغبا في فتح جبهة غربية وهو في عنف تقدمه نحو الشرق والشمال على حساب الفرس والروم. فإنّ إرسال جيش إلى إفريقية دون تمهيد المناطق التي مازالت حديثة عهد بالحضور العربي وقابلة للانتفاض عليه من حين لآخر من المغامرات التي لا تحمد عواقبها وينتج عنها ضياع كل شيء. ومن هذه المنطلقات يأتي رفضه لطلب معاوية بن أبي سفيان غزو قبرص ورفضه غزو إفريقية. لذلك لم يكن ممكنا مخالفة قرار عمر وتجاوز السياسة المركزية التي كانت لها أسبابها. ولم يتسن ترك موقف عمر إلا بعد وصول عثمان إلى سدة الخلافة فقد أحدث التغيير على رأس الدولة المركزية تغييرا واضحا في سياسة الدولة بصورة عامة، سواء في ما يتعلق بالشأن الداخلي المتعلق بتسيير الدولة الفتية أو بالشأن الخارجي المتعلق بالعلاقات مع الدول والكيانات المجاورة أو المتاخمة لمجال دولة المدينة.
فقد فتح عثمان باب الفتوحات من جديد في اتجاه مناطق لم يشملها الفتح فيما سبق مثل قبرص، وجرجان وإفريقية التي تعرضت لهجمات عسكرية في نفس السنة أي سنة 27هـ/ 647 م. ويبدو أن التوجه نحو إفريقية لم يكن قرارا مركزيا أو اختيارا من سلطة المدينة بقدر ما كان توجها خاصَا بوالي مصر، وإن لم يكن كذلك فبطلب منه و إلحاح. ولعلّ هذا الأخير كان يعتبر، وهو أمر معقول من الوجهة العسكرية البحتة، أنه لا يمكن الاستقرار في مصر إلا بعد الاستيلاء على عمقها الإستراتيجي، وهو بلاد المغرب كلها والتخلص من إمكانية حدود برية مع العدو البيزنطي أو الرومي، خاصَة وأن التجربة الشّامية قد بينت أنه بإمكان البيزنطيين أن يحاولوا افتكاك المبادرة لاسترجاع ما انتزعه العرب منهم بالتفاوض مع القوى المحلية. لذلك ولدرء مثل هذه المخاطر، طلب الوالي الإذن بالفتح وهو ما جعل الخليفة عثمان بن عفان، و بعد القيام بجملة من المشاورات، يوافق على القيام بما يمكن من العمليات العسكرية التي قد تسمح بفتح المنطقة وضمها للمجال العربي الإسلامي.
المصادر:
– النويري، نهاية الأرب، حسين نصار وعبد العزيز الأهواني، القاهرة 1983
– عبد الوهاب (ح.ح)، ورقات، I، تونس 1965
– المنصوري (م.ط)، “ملامح بعض الفئات الاجتماعية بأفريقية في العهد البيزنطي”، المغيّبون في تاريخ تونس الاجتماعي، تونس 1999
– Dargon (G), “Appivoix la guerre, Byzantins et Arabes, ennemis intimes”, in Byzantium at war, Athnes 1997
– Diehl (Ch), L’Afrique byzantine, Paris 1896
– Ostrogorky (G), Histoire de l’état byzantin, Paris 1986
– Pringle (D), The defences of byzantin Africa, Oxford 1981
– Procope, La guerre contre les vandales, tront, D. Roques, Paris 1980
– Shahid (I), Byzantium and the Arabs in the fourth century, Washington 1982