الدعم و المجهود التونسي لإستقلال الجزائر، منذ اندلاع الثورة إلى قيام الدولة الجزائرية

Obergruppenführer Smith

طاقم الإدارة
مـراقــب عـــام
إنضم
23 أكتوبر 2017
المشاركات
3,726
التفاعل
21,334 290 0
الدولة
Tunisia
لقد استقبلت المناطق الحدودية التونسية - بما في ذلك مناطق الشمال الغربي - عددا هاما من اللاجئين الجزائريين إليها خلال ثورة التحرير الوطني، وأوتهم على مدى بعض السنين إلى حين انتهاء المواجهة بين الثوار والاستعمار والدخول في مفاوضات الاستقلال (1962)، ولأن موضوع الدعم والتنسيق العسكري بين التونسيين والثوار الجزائريين كان محل اهتمام عديد الدراسات بكثير من التفصيل فقد ارتأينا التركيز على الأشكال البسيطة - لكنها عميقة في مدلولها - للتضامن الشعبي مع اللاجئين أكانت بطريقة واعية أو تلقائية، والتي تعكس في مضمونها أبعادا ومعان جوهرية تمزج بين الجانب الأخلاقي القيمي والجانب الفلسفي والإنساني والحقوقي وقد اعتمدنا بالإضافة إلى عدد من المراجع الهامة. بعض الشهادات الحية لشهود عيان تونسيين وجزائريين عاصروا تلك الأحداث أو كانوا فاعلين فيها. فما هي إذن أشكال الدعم والتضامن الشعبي التي أبداها التونسيون تجاه الثوار واللاجئين الجزائريين خلال
تلك الفترة العصيبة؟
1- ظروف لجوء الجزائريين إلى تونس ومنطلقات الدعم التونسي لهذه القضية


أ- ظروف لجوء الجزائريين إلى تونس

لقد أتت أفواج اللاجئين الجزائريين إلى تونس بعد سنة 1954 على إثر تصاعد وتيرة المواجهات بين جيش التحرير الوطني الجزائري والمستعمر الفرنسي الذي سلك سياسة القمع والتنكيل لثني عزائم الثوار. فمن الناحية العسكرية. وعلى إثر تواتر عمليات استهداف الفرنسيين مدنيين وعسكريين من قبل الثوار عززت حكومة مونداس فرانس قواتها المسلحة بالجزائر إذ رفعت عددها في مارس 1955 من 56000 إلى 83400 جندي ثم لاحقا إلى 120000 جنديا . كما انخرط في عملية التنكيل هذه أيضا المعمرون الفرنسيون الذين شنوا في 20 و21 أوت 1955 هجوما كرد فعل تأديبي على عمليات عسكرية قام بها الجزائريون. راح ضحيته المئات من الجزائريين وخاصة المدنيين العزل . ورغم شتى أنواع التعذيب والتنكيل التي مارسها الفرنسيون تجاه المقاومين والمدنيين على حد سواء فإن هذه السياسة لم تنجح في القضاء على المقاومة المسلحة. هذه التطورات الخطيرة أجبرت جبهة التحرير الوطني الجزائري على تعديل خطتها الإستراتيجية في المقاومة.
فعلى إثر انعقاد مؤتمر صومام في 20 أوت 1956 وهو مؤتمر سري لجبهة التحرير).
شكل جيش التحرير هيئة أركان وحيدة عهد بها إلى كريم بلقاسم وتحولت القاعدة الشرقية للجيش بتونس إلى قاعدة مركزية يشن انطلاقا منها الغارات بصفة آمنة كما حدث سنة 1957 حين نشبت معارك عنيفة في الريف مع الجيش الجزائري.
وقد بلغ عدد الجنود الجزائريين على الحدود التونسية والمغربية 30.000 جندي وكان العدد المقدر لجيش التحرير في تونس في مارس 1957 في حدود 10000 جندي ثم وصل هذا العدد في أوت 1962 إلى 22100 جندي.
أما على الصعيد السياسي فاضطر زعماء لجنة التنسيق والتنفيذ» بعد اعتقال بن مهيدي وإعدامه إلى مغادرة مدينة الجزائر والالتجاء إلى تونس حيث حولوا تنظيمهم هذه المرة لصالح الوفد المقيم بالخارج (9) أعضاء منهم فرحات عباس) .

أما على مستوى المدنيين فتسببت سياسة التنكيل التي اتبعتها فرنسا تجاههم في حصول عمليات نزوح جماعي في صفوفهم منذ سنة 1955 باتجاه تونس. وهنا نتحدث عن قضية اللاجئين الجزائريين الذين تدفقوا بالألاف بين سنة 1956 و 1958 رغم أن عددهم بقي غير ثابت إذ يحصره البعض ما بين 75 و80 ألف لاجئ يتركزون في مناطق مختلفة بعضهم لا يملك شهادة إقامة ، ويرتفع العدد عند البعض الآخر إلى 120 ألف
لاجئ %50 منهم كانوا دون 15 سنة. فيما يرى آخرون أن العدد كان في حدود 130 ألف لاجى . بل وصل عند دارسين آخرين إلى 250.000. بينهم 40.000 يتيم (سنة 1957 أو حتى إلى 300.000 فردا ، ورغم هذا التباين في تحديد عدد اللاجئين لاختلاف المصادر وصعوبة ضبط العدد في ظرفية الثورة كظرفية تاريخية وسياسية مضطرية. فالثابت أن عددهم بتونس كان كبيرا بعد بالآلاف نسبة عالية منهم استقرت بغار الدماء التي اوت 83 ألف لاجئ في حين لم يتجاوز عدد سكانها 15 ألف نسمة. وقد انقسمت العائلات الجزائرية الوافدة إلى صنفين: عائلات تضم لاجئين فقط وعائلات أخرى تضم ضمنها ثوارا".

وبعيدا عن هذا التباين في تحديد العدد الجملي للاجئين - لاختلاف المصادر المعتمدة فإن العدد عموما كان هاما و طرح على الدولة المضيفة (تونس) تحديات سياسية وأمنية كبيرة.
ومن المناطق التي استقر بها هؤلاء اللاجئون المنطقة الحدودية بالشمال الغربي التونسي من طبرقة شمالا إلى الكاف جنوبا.
ويرجع استقرار هؤلاء في هذه المنطقة لعدة أسباب قبالإضافة إلى القرب الجغرافي حرصت تونس المستقلة على تركيز اللاجئين الجزائريين على الحدود خشية قيامهم بتحركات خطيرة داخل التراب التونسي بما يحول دون التحكم فيها والسيطرة عليها.

ب - منطلقات الدعم التونسي للقضية الجزائرية الدعم الرسمي وغير الرسمي

تجدر الإشارة إلى أن دعم الحكومة التونسية للقضية الجزائرية يندرج في واقع الأمر ضمن سياق أوسع وأعم وهو الدعم الدولي والعربي.
فتأخر مفاوضات الاستقلال بين الجزائر وفرنسا قد جلب للقضية الجزائرية تعاطف المجتمع الدولي إذ لم تمض سوى خمسة أشهر من اندلاع الثورة الجزائرية حتى بدأت هذه الثورة تحقق أولى الانتصارات الدبلوماسية من خلال الدعم الذي وجدته في مؤتمر باندونغ في 24 أفريل 1955.
كأول تجمع لمنظمة الدول الأفرو آسيوية.
فكل القوى المناهضة للاستعمار على اختلاف قناعاتها وخلفياتها وأهدافها الإيديولوجية ناصرت هذه القضية من ذلك مثلا أن الصين الشعبية كانت أهم دولة خارج الوطن العربي تقدم مساعدات مادية وعسكرية وسياسية للثوار الجزائريين.
وفي الفضاء العربي كان الدور الأساسي للدولة التونسية المستقلة وقد ترافقت هذه المساهمة المحورية مع دعم مصري بالغ الأهمية، تمثل في توفير منابر إعلامية مؤثرة، وتدريب الكوادر، وتأمين قنوات التسليح، حيث كانت القاهرة مركزاً نشطاً لقيادة الثورة الجزائرية في المنفى.
كما أسهمت المملكة المغربية بدور فعّال في احتضان عدد من الوحدات المقاتلة وتيسير حركة الدعم عبر حدودها الشرقية.
أما المملكة العربية السعودية، فقد اتخذ دعمها طابعاً سياسياً ومالياً بارزاً، إذ كانت من أوائل الدول التي اعترفت بالحكومة الجزائرية المؤقتة، وقدّمت دعماً مادياً مباشراً لجبهة التحرير، كما سخّرت نفوذها الديني والسياسي للدفاع عن القضية الجزائرية في المحافل العربية والإسلامية، وفي الأمم المتحدة

أما من الجانب التونسي ونظرا لعدة اعتبارت تاريخية وحضارية وجغراسياسية، فكان الدعم الحكومي هاما عسكريا وماديا وسياسيا .
وتجدر الإشارة إلى أن الدعم التونسي انطلق مع المقاومة اليوسفية ثم واصلته دولة الاستقلال فيما بعد خاصة على إثر الاعتداءات الفرنسية على التراب التونسي مثل أحداث ساقية سيدي يوسف (8) فيفري (1958) ورمادة 25 ماي 1958.
وقد كانت القناعة سائدة لدى القيادة التونسية بأن استقرار الوضع بتونس يبقى رهين الحسم في القضية الجزائرية، بمعنى حصول الشعب الجزائري على استقلاله.
هذا ما عبر عنه الحبيب بورقيبة في خطاب له في 16 أكتوبر 1958 حين اعتبر بأن «أمن تونس من أمن الجزائر وأن تواصل الحرب الجزائرية يهدد في العمق أمن تونس التي خرجت للتو من تحت الاستعمار وتستعد لخوض معركة إعادة البناء التي تتطلب حدا أدنى من الأمن والاستقرار.

لكن رغم الخطر الذي كان يهدد البلاد من حدودها الشرقية والغربية. ورغم معاقبة فرنسا لتونس على مساعدتها للجزائر فإن هذا الأمر لم يثن القيادة التونسية على قرارها دعم هذا الشعب الشقيق على التحرر تمهيدا لإقامة مشروع المغرب العربي الكبير». كما أنها كانت تستحث المواطنين على واجب الحذر والأهبة لحماية تونس وحدودها طالما ليس للبلاد جيش قوي قادر على حمايتها . وهكذا كانت الدبلوماسية التونسية تتأرجح بين البعد المغاربي وحماية النفس. كما وجدت هذه القضية مساندة كبيرة من طرف الشخصيات والجمعيات والمنظمات الوطنية التونسية مثل الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد العام لطلبة تونس واتخذ التضامن الشعبي أشكالا مختلفة من ذلك المساهمات المالية والعينية والقيام بمظاهرات ومسيرات مساندة. ولئن كانت هذه المساندة الرسمية وغير الرسمية ظرفية في عمومها فإن الدعم الذي لقيته هذه القضية من طرف سكان المناطق الحدودية بالشمال الغربي التونسي (كما ببقية المناطق الحدودية) كانت أشد وأعمق لأنهم في تماس مباشر ويومي مع اللاجئين وفي كل تفاصيل الحياة اليومية.


يتبع
 
لن ننسى وقوف الأشقاء التونسيين معنا إبان ثورتنا المجيدة
ولن ننسى حينما امتزجت دماء الأشقاء التونسيين والجزائريين في ساقية سيدي يوسف إذ كان ذلك أكبر دليل على ترابط الشعوب فيما بينها
 
البعد التاريخي لهجرة الجزائريين لتونس

كانت منطقة الشمال الغربي الحدودية في مقدمة المناطق التي احتضنت الثورة الجزائرية ثوارا ولاجئين. ولا غرابة في ذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار المعطى الجغرافي فهذه المنطقة هي في تماس مباشر مع الجزائر لا تفصلها عن حدودها سوى بعض الكيلومترات، وعملية التنقل بين الجهتين لا تأخذ زمنا طويلا ولا تتطلب جهدا كبيرا، فمن ناحية الثوار تعتبر هذه المناطق إستراتيجية بالنسبة إلى العمليات العسكرية التي ينفذونها ضد أهداف فرنسية في العمق الجزائري إلى هذا المعطى الجغرافي ينضاف أيضا معطى تاريخي لا يقل أهمية في تفسير احتضان أهالي وسكان المناطق الحدودية لثورة التحرير الجزائرية. وهذا يحيلنا على الحديث عن دور التركيبة السكانية للمنطقة. وهي تركيبة أفرزتها مراحل كثيرة من التحولات الديمغرافية عبر قرون بسبب الحركية السكانية التي اتسمت بها المناطق الحدودية لدواع طبيعية وسياسية وغيرها. وعلى هذا الأساس لم تكن الحدود بين تونس والجزائر تمثل بالنسبة إلى هؤلاء سوى حواجز إدارية هي في الأصل صنيعة الأنظمة السياسية المتعاقبة عبر التاريخ وتحديدا من فعل الاستعمار الفرنسي، بمعنى آخر لم تمنع هذه الحدود - والتي لم تكن ثابتة على مر العصور - من التواصل الكبير بين الشعبين بشريا كان من خلال التنقل والمصاهرة، أو اقتصاديا من خلال التبادل التجاري اليومي أو من خلال التنقل للأسواق الأسبوعية وبيع المنتوجات الفلاحية من ماشية أو محاصيل زراعية أو شراء مستلزمات حياتية مختلفة. ولهذا يمكن فهم الغياب شبه التام للسلطة المركزية في تونس في ضبط الحدود الغربية التي اقتصرت على ترسيم 1628 والذي شمل المناطق الشمالية الخصبة ولم يتجاوز وادي سراط الحد الفاصل بين الإيالتين . وتشير الدراسات أن منطقة المغرب قد شهدت حركية سكانية نشيطة على امتداد قرون لعدة أسباب. منها ما يتعلق بانتشار الطاعون ومنها ما يتصل بالضغوطات الاقتصادية والسياسية والأمنية وغيرها. وقد كان للعسف الاستعماري الفرنسي دور أساسي في هجرة عديد السكان إلى تونس خاصة من المناطق الحدودية الشرقية مثل قسنطينة وسوق أهراس وتبسة ووادي سوف ومناطق جنوبية أخرى. كما أن الاستعمار قام بتفكيك المجتمع القبلي الجزائري بشكل ممنهج ومهد الأوضاع للاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الأراضي . وبالإضافة إلى ذلك نشير إلى أن من بين القبائل الوافدة على البلاد في القرن 18 قبيلة زواوة التي تمركز بعضها بالمناطق الحدودية بالشمال الغربي ومن نتائج هذه الهجرة الوافدة المكثفة أن تكاثر عدد الجزائريين بالبلاد خاصة سنة 1914 إذ أصبحوا يمثلون طبقة واسعة في المجتمع مقارنة ببقية الجاليات المسلمة الأخرى. وقد بلغ عددهم 36 ألف سنة 1921 مقابل 20 ألف طرابلسية . و4 آلاف مغاربة ، ثم تطور العدد ليصل سنة 1937 إلى 40816 جزائري (وحسب إحصائيات القياد حوالي (18.218 تمركزوا بعين دراهم وباجة وسوق الإربعاء (جندوبة (حاليا) ومناطق أخرى، بل ويصل هذا العدد - باعتبار من أجبروا على مغادرة الجزائر دون تصريح من الادارة الفرنسية - إلى ما بين 75 و80 ألف . وقد مثل هؤلاء سنة 1946 ما يعادل 3/2 الجاليات المسلمة الأخرى بتونس.

وقد اندمج هؤلاء الجزائريون في المجتمع التونسي في مختلف المستويات نسبة كبيرة منهم (35.5 ) كانوا يشتغلون بالمهن الشاقة كالخبازة والجزارة والحدادة والخياطة. وهناك أيضا المزارعون والعمال اليوميون وأصحاب الأملاك والتجار. كما ظهرت كذلك فئة مثقفة درست بالمؤسسات التعليمية التونسية وخاصة منها جامع الزيتونة. ولعبت دورا كبيرا في التعريف بالقضية الجزائرية . ثم إن جزءا من هذه الجالية اختار الاستقرار بالمناطق الحدودية واندمج في المجتمع المحلي من خلال الأنشطة الاقتصادية على اختلافها، ومن خلال المصاهرة ولم ينس هؤلاء أصولهم بل كانوا في حركة دائمة ذهابا وإيابا إلى وطنهم الأم، وكانت تلك الأرضية الاجتماعية خلفية ملائمة بالنسبة إلى اللاجئين الجزائرين حين قدموا زمن ثورة التحرير بحيث استفادوا من نسيج العلاقات التي أقامها أسلافهم منذ استقرارهم بالمنطقة. بمعنى آخر لم يكونوا غرباء على المنطقة بما يمكن أن يكدر عليهم صفوهم ويزيد في تعميق أزمتهم ويعسر عليهم مهمتهم الوطنية. وهذا ما نلسمه من خلال مختلف أشكال التضامن التي أبداها التونسيون تجاه هؤلاء اللاجئين .

1- مختلف أشكال الدعم الشعبي

أ - الدعم الأمني والعسكري

لا نريد أن نتحدث عن الدعم العسكري للتونسي الرسمي منه أو غير الرسمي لثورة التحرير الجزائرية لأنه كان محور اهتمام عديد الدراسات. لكننا سنركز عن بعض المسائل البسيطة في تفاعل الناس مع الثوار في هذا المستوى. معلوم أن الثوار الجزائريين كانوا قد أحكموا تنظيمهم العسكري بشكل كبير جدا واجتهدوا على أن لا يتركوا ثغرة يمكن أن تضرب جهدهم وتنسف أحلامهم بالتحرر لذلك طبع تنظيمهم بكثير من السرية. وعلى هذا الأساس لم يكن ممكنا بالنسبة إلى عامة الناس من التونسيين أن ينخرط في هذا الجهد. فما بذل ظل من خارج المنظومة التنظيمية. هذا على الرغم من أن العديد من الشبان التونسيين شاركوا سنة 1955 في الحرب الجزائرية.

وتشير الدراسات إلى الولاية الثانية لجيش التحرير والتي تمتد على 120 كلم على الحدود. قد شكلت معبرا مثاليا لتمرير الأسلحة والتجهيزات العسكرية. ذلك أن 80% من هذه الأسلحة كانت تدخل عبر تونس . كما استغلت هذه الحدود أيضا في تنظيم تحركات الجنود إذ قامت وحدات الجيش بين سنتي 1954 و1956 بأكثر من 500 رحلة عن طريق هذا المعبر ومن مزايا القاعدة الشرقية التي يترأسها العقيد عمار المكلف بتنظيم الأسحلة داخل الولايات الأربعة أنها بعيدة عن مراقبة القوات الفرنسية الموجودة في الجنوب . وكانت مجموعات عسكرية للثوار ذات 200 إلى 300 نفر تتمركز على كامل الحدود التونسية من الشمال إلى الجنوب. وتبعد كل مجموعة عن الأخرى بضع كيلمترات ولدواع أمنية، لم تكن البزة العسكرية تحمل إشارات الرتب فبدأ جميعهم في عيون العامة من الناس من التونسيين سواسية لا فرق بين الجنود منهم والقادة .

ففي طبرقة مثلا تمركزت المجموعات العسكرية بالروايسية وبريرم وسيدي بدر وكان قائدهم يدعى «زروق». ومقر القيادة به غمد الزان» بالروايسية. وقد سلم لهم الشيخ علي بندقية وخراطيش وأعطوه وثيقة في ذلك. كان ذلك بدافع التضامن مع «الإخوة الجزائريين» لكن أيضا بدافع القرابة الدموية إذ أن كثيرا من أبناء تلك المنطقة كانوا قد استقروا منذ زمن بعيد بعديد المدن الجزائرية على غرار القالة والحجار، أما بعين دراهم فتمركزت هذه المجموعات بمنطقة أولاد سدرة وحمام بورقيبة . وغار الدماء. وفي أول احتكاك بهم كانت للتونسيين رغبة في رؤية الثوار والإطلاع على أحوالهم على اعتبار كونهم «غرباء» عن الوطن، لكن في مرحلة موالية نأى الناس بأنفسهم وتنظمت العلاقات بين الطرفين أكثر حين أدرك سكان المناطق الحدودية ما يمكن أن يلحقهم من خطر وأذى حين تردّ فرنسا الفعل على الثوار بالمنطقة وتطلق عليهم النار . .. من جهة أخرى. كانت الدولة التونسية تطلب من سكان المناطق الحدودية عدم مغادرة مناطقهم خشية أن يُحدث ذلك فراغا فتستغله فرنسا للتوغل في التراب التونسي بذريعة مطاردة الثوار الجزائريين. وهذا ما يمثل خطرا كبيرا على الأمن القومي للبلاد. في المقابل سعت الدولة إلى توفير كل مستلزمات الحياة بالنسبة إلى هؤلاء حتى يستقروا في أماكنهم .

أما من حيث المساهمة الفعلية في المجهود العسكري فقد تطوع عشرات الشبان التونسيين في بداية الأمر - منذ نهاية 1955 وبداية 1956 - في صفوف جيش التحرير في هذا السياق وضمن التنسيق العسكري التونسي والجزائري تشكلت فرقة الطيب الزلاق» بمنطقة منقار البطة Bec du canard ) بغار الدماء على غرار عدة فرق عسكرية أخرى مشتركة في مختلف المناطق الحدودية. وقد ضمت هذه الفرقة عناصر جزائرية وأخرى تونسية، والتي يبدو أنها تكونت في بداية الأمر من 17 جنديا خلال شهر فيفري 1956، ثم تكاثر عدد جنودها ليصل إلى حدود 110 مقاتل. وقد تركز نشاطها بصفة خاصة في منطقة سوق الأربعاء وبني خمير وسوق الخميس ووادي مليز، مستفيدة من تنسيق جهودها مع قادة منطقة سوق أهراس . وكانت فرنسا
حكم قبضتها على هذه المناطق الحدودية لما تمثله من خطر على العمليات العسكرية بالجزائرية لذلك أقامت سياجا شائكا على طول الحدود التونسية الجزائرية وزرعت الألغام تحته وأقامت الأضواء عليه حتى يتسنى لها تطويق الثوار الجزائريين ومنعهم من مغادرة الحدود أو اجتيازها انطلاقا من التراب التونسي، لكن كانت للثوار وسائلهم من ذلك استعمال المقص الحديدي لقطع الأسلاك ثم الانطلاق للقيام بعمليات عسكرية ضد الجيش الفرنسي .

كما اجتهد التونسيون في تقديم الدعم اللوجستي من خلال توفير بعض المعطيات الأمنية، فقد حصل أن قدم على أولاد سدرة يوما. وكان يوم مأتم رجل يبدو عليه أثر التعب والإرهاق يطلب من الناس الماء والغذاء على أساس أنه من الثوار. لكن الحس الأمني عند ا الأهالي كان عاليا بحيث كانت كل المؤشرات تدل على خلاف ذلك لمعرفتهم الجيدة بكثير من تفاصيل الحياة اليومية للثوار وطريقة تنظمهم حينها طلب أحد الشيوخ من الفتي (عبد الكريم) أن يعود إلى المنزل ويطلب من أمه إحضار رغيف خبز ففهم الفتى على أنها رسالة إلى الأمن ليخبر به فانتقل من توّه إلى الثكنة العسكرية التونسية بمركز مدينة طبرقة على بعد حوالي خمسة كيلمترات. لكن حينما تحرك الجيش كان الأمر قد فات إذ غادر الجاسوس» من اليد الحمراء المكان وتسلل في الجبال ولم يعثر له عن أثر رغم عمليات التمشيط التي وقعت بمساعدة الثوار الجزائريين . أما في منطقة حمام بورقيبة فكان الشيخ» يطلب من كل عائلة القيام بحراسة القرية ليلة على الحدود أين كانت الخيام منتشرة ببحيرة الزيتون من لاجئين قدموا من رمل السوق» بالجزائر. ولم يكن هؤلاء محملين بسلاح بل اقتصرت مهمتهم على التبليغ بما يدعو إلى الريبة .

ب - إيواء اللاجئين:

حين اشتد الاضطهاد الفرنسي لثورة التحرير فر العديد من الجزائريين إلى تونس كملاذ آمن وكان قدومهم على مرحلتين في البداية جاء الثوار بمفردهم وتمركزوا على التخوم في الجبال حتى يتيسر ضرب أهداف عسكرية فرنسية. لكن في مرحلة موالية خاصة عندما اشتد وطيس الحرب انطلاقا من سنة 1957 فرت آلاف العائلات ليحتضنهم التونسيون بصفة تلقائية . وتجدر الإشارة إلى أن التطورات السريعة والخطيرة على الساحة الجزائرية وما صاحب ذلك من هجرة أعداد هائلة من الناس حال دون إحكام الحكومة التونسية السيطرة على هذا الحدث الفجائي إذ لم يتسن لها في البداية حسن تنظيم عملية الاستقبال كما لم يتمكن التونسيون من حسن تدبير آليات التأطير والتواصل لاحتضان الوافدين وتوفير مستلزمات الإقامة وبعض ضروريات الحياة
الأساسية والبنية التحتية استقر هؤلاء اللاجئين بكثافة في مناطق محددة من أبرزها: بريرم والروايسية (بطبرقة). أولاد سدرة وبحيرة الزيتون (بعين دراهم). حليمة (فرنانة). قرب عين سلطان في السلسلة الجبلية الممتدة من الغرة إلى الفائجة (غار الدماء).

لكن هذه الضغوطات لم تمنع الأهالي من ردة فعل سريعة وإيجابية إذ تطوع العديد منهم في مختلف المناطق من طبرقة إلى الكاف مرورا بغار الدماء بتقديم الحد الأدنى من الضروريات سواء من حيث توفير الإقامة أو الإعاشة. وتشير بعض المصادر إلى أن أول من استقبل الثوار بهذه المنطقة كان قائدهم الشاذلي بن جديد كان يلقب أنذاك : ابسي حمد»).

ومن أبرز المبادرات الشعبية في هذا الاتجاه ما قام به أحمد بن عبد الله الرويسي بمنطقة الروايسية (طبرقة) الذي وفر لهؤلاء مسكنا هو عبارة عن كوخ فسيح جمع كل الثوار. وكان هؤلاء يلجؤون أيضا إلى الاختباء في كهوف موجودة بالمرتفعات الحدودية المجاورة هي عبارة عن مغاور حجرية صغيرة. أما بمنطقة أولاد سدرة بعين دراهم فأواهم رجل يدعى «العوادي» إذ منحهم كوخه الكبير الذي كان يقيم فيه هو وعائلته، وتنازل لهم بمنطقة سيدي عبد الله (عين دراهم) عبد الله : بن بلقاسم بن عبد الله السومري عن منزله «العصري» و هو عبارة عن منزل متكون من غرفتين بنينا بالقرميد الأحمر على نمط العمارة الأوربية وتحديدا الفرنسية. وقام ذات الشخص ببيع قرابة 50 رأس ماعز للثوار بأسعار رمزية لذبحها ومنح قطعة أرض لبعض العائلات الجزائرية حتى تقيم فيها أكواخا يستقرون بها وقد جلبت مواد إقامتها من الغابة المجاورة خصوصا أن الحكومة التونسية قد سمحت لهم بقطع الأشجار من الغابة وإقامة بيوتات . وأقام بعضهم مع التونسيين في بيوتهم".

وما يدل على نبل هذه الحركة أن المعاني المادية الريحية لم تكن بالنسبة إلى التونسيين غاية في حد ذاتها، وذلك بحكم خصوصية الظرف السياسي والإنساني لهؤلاء الوافدين فهؤلاء فوتوا مجانا في كثير من العقارات رغم أن الأراضي القابلة للاستغلال بهذه المرتفعات قليلة جدا بل وتعتبر أساس الدخل والثروة للأغلبية الساحقة من العائلات بهذه المنطقة الوعرة طبيعيا والمرتكز اقتصادها أساسا على فلاحة تقليدية معاشية مع غياب شبه تام للأنشطة الصناعية أو غيرها. ومن الواضح أيضا أن هؤلاء الجزائريين لم يكونوا يمثلون في نظر التونسيين سوقا لترويج بضاعتهم ومصدرا للتجارة ومراكمة الثورة، وهذا المعروف مازال يعترف به الجزائريون إلى حد الآن.

ولأن إقامة اللاجئين قد طالت لسنوات عديدة فقد انخرط هؤلاء مع التونسيين في تعاطي الأنشطة الزراعية. خاصة زراعة القمح والتبغ وتربية الماشية والتجارة. ففي منطقة «حليمة» الحدودية بفرنانة). استقرت حوالي 50 عائلة قرب عين توجد حذو المدرسة الابتدائية بجبل يفصل بين الدولتين يسكن على سفحه الشرقي تونسيون وعلى سفحه الغربي جزائريون وتستغل هذه العين منذ زمن من طرف كلا المجموعتين المتجاورتين سواء للشراب. وكذلك كفضاء بسيط للتبادل التجاري تقوم به النسوة عبر شحن «القلة» ببعض المواد التموينية الضرورية لكلا الفريقين (سكر وزيت دقيق...... واستمر الأمر على ذاك الحال لسنوات عديدة. كما كانت هذه المنطقة أيضا جسرا لتجارة الماشية (الأبقار والأغنام التي تباع وتشترى بـ «سوق الأحد» (فرنانة) الذي يعتبر من أكبر وأهم الأسواق التجارية بالجهة منذ زمن بعيد . وما يسر عملية الاندماج الاقتصادي هذه - بالإضافة إلى البعد المبدئي والإنساني للموقف التونسي- أن عديد الثوار لهم أقارب بالمناطق الحدودية التونسية بفعل عمليات المصاهرة التي تمت عبر الزمن بين عائلات من هذا القطر ومن ذاك. فجد محدثنا مثلا رابح بن إبراهيم بن هلال السالمي كان يتمتع قبل سنة 1881 بسلطة وجاه كبيرين سواء بالمناطق التونسية أو الجزائرية. فقد تزوج من أكثر من امرأة تونسية وله منهن أبناء وله ممتلكات وتزوج أيضا من جزائرية وأنجب منها أولادا هم الذين أصبحوا فيما بعد ثوارا، فلمحدثنا إذن ثلاثة أعمام يعيشون بالجزائر وتحديدا بأم الطبول). وهم: كاهية وعبد الرحمان وزواوي ميري. وقد تزوج الأول والثاني بتونسيتين فيما تزوج ثالثهما بجزائرية. وقد قدم هؤلاء زمن الثورة كلاجئين إلى تونس واستقروا بمنطقة بريرم بطبرقة. أما من النساء التونسيات المتزوجات بجزائريين قبل الثورة فالأمثلة عديدة من ذلك زهرة بنت الخذيري وشهلة بن بلقاسم (عين دراهم .

وكذا الأمر بالنسبة إلى مباركة بنت إبراهيم غفيري التي تزوجت المدعو شعيب (من الجزائر) في بدايات القرن الماضي. وأنجبت طرشون وخميس. وأنجب طرشون فاطمة التي قدمت إلى تونس زمن الثورة كلاجئة إلى أهلها واستقرت بمنطقة بريرم مع شلبية» عمة أبيها علما وأنها كانت تشتغل كممرضة بالجزائر . وكانت فاطمة حين إقامتها كلاجئة تصطحب معها بعض الفتيات التونسيات من المنطقة صباحا أو في منتصف النهار لتأخذ حصتها من المساعدة الغذائية ويأخذن معها تصيبهن. وهذه المساعدات كانت تصلهم من دول كثيرة خصوصا من مصر ودول المعسكر الشرقي وتشرف على توزيعها منظمات جزائرية أو دولية على غرار الهلال الأحمر. وقد استفاد عديد التونسيين الفقراء من الوجبات الغذائية الشهيّة» في عيونهم المتكونة من حليب ودرع بطريقة غير مباشرة حين كانوا يصطحبون الجزائريين إلى هذه المراكز فيصيبهم شيء مما أشقاءهم. من جهة أخرى كان الثوار غالبا ما يعطون الشبان التونسيين ما زاد عن حاجتهم من اللباس والأحذية .

كما سكن ببريرم رجل يدعى «السائح» وزوجته مريم وابنتيهما الساحلية» و«زكية». وهي أرملة ولها ابن. وكان هذا اللاجئ الجزائري الذي يقطن بجوار التونسيين داخل قريتهم. يمارس الفلاحة بمختلف أشكالها
من تربية الماشية والخضراً . كما أن الناس بغار الدماء منحوا أراضيهم للاجئين لزراعتها وكانت معهم مواشيهم

بمعنى آخر لم يكن هؤلاء الثوار يشعرون بالغربة والحال أنهم في بيوت أقاربهم الذين قدموا لهم كل أشكال الدعم. وهذه من أبرز الظروف التي ساعدت على اندماجهم صلب المجتمع المضيف في أجواء من التفاعل المستمر والاحترام المتبادل دون تمييز بين الفريقين حتى لا يكاد يفرق بين التونسي والجزائري . كما اندمج الأطفال الجزائريون مع فرنائهم بالمدرسة التونسية رغم أن ظروفهم المادية كانت صعبة للغاية خاصة في فصل الشتاء. فعلى سبيل المثال كان عدد التلاميذ الجزائيين بمدرسة شارع بورقيبة بطبرقة بين سنتي 1959 - 1960 في حدود 51 تلميذا (46) ذكورا و5 إناث). وبمدرسة شارع بورقيبة بفرنانة ستة تلاميذ ذكور (1958 - 1959) . هذه الخلفية الاجتماعية تنضاف في الواقع إلى معطيات أخرى ذات بعد قيمي وهووي لتفسر الدفء العلائقي الذي ميّز جانبا هاما من العلاقات بين التونسيين واللاجئين الجزائريين. ومن المؤشرات الدالة على ذلك انتشار عملية المصاهرة في هذه المناطق الحدودية بشكل لافت للانتباه. ففي منطقة أولاد سدرة بعين دراهم مثلا تم إحصاء ما لا يقل عن ثلاث عشرة حالة مصاهرة حصلت خلال فترة اللجوء ستة رجال تونسيين تزوجوا بجزائريات وسبعة تونسيات تزوجن بجزائريين

ج - الدعم المادي والإعاشة

تجدر الإشارة إلى أن قدوم الجزائريين إلى تونس كان على مرحلتين في البداية قدم الثوار فرادي للاحتماء بالمرتفعات وتنفيذ عملياتهم انطلاقا منها أما في مرحلة موالية فتدفقت على المنطقة آلاف العائلات بنسائها وأطفالها وشيوخها. ومما لا شك فيه أن استقبال العدد الهائل لهؤلاء كان يتطلب قدرا كبيرا من الجهد والتنظيم لتأمين الغذاء والملبس والإقامة وغيرها من الحاجيات الأساسية للاستقرار وقد كانت مستلزمات الحياة هذه تأتيهم من جهات مختلفة حكومية وغير حكومية: من طرف الحكومة التونسية التي قدمت لهم كل أشكال المساعدة والدعم. وكذا قامت عدة جمعيات ومنظمات وطنية تونسية بحملة تحسيسية لجمع التبرعات
لفائد ة هؤلاء اللاجئين مثل الهلال الأحمر التونسي الذي ازداد نشاطه منذ سنة 1957 عندما تبنى قضية المهاجرين محليا ودوليا وقد نظم عدة حملات تبرع وقام بتوزيعها عن طريق فروعه. أما المساعدات الدولية فبدأت تصل لهؤلاء منذ سنة 1957 .

لكن الجهد الرئيسي في هذا الاتجاه قام به جيش التحرير الجزائري الذي تكفل بتغطية مختلف الحاجات الحياتية لآلاف العائلات التي تدفقت على المناطق الحدودية سواء بتونس أو المغرب. وتكفل أيضا بتوزيعها موظفا بذلك مختلف مؤسساته البشرية والعسكرية والتموينية. وهذا الأمر مثل ضغطا ماديا إضافيا بالنسبة إلى جيش التحرير فعلاوة على الحاجة الملحة للدعم المالي لتمويل العمليات العسكرية فقد مثلت قضية اللاجئين - كإحدى إفرازات حرب التحرير - تحديا آخر ينضاف إلى بقية التحديات لهذا تحملت الثورة مسؤولياتها تجاه اللاجئين كجزء لا يتجزأ من الشعب الجزائري الذي عانى من ويلات الاستعمار. وقد دفعت هذه المستجدات الثورة الجزائرية إلى تعديل استراتيجية عملها لأن القدرات المالية البسيطة التي انطلقت بها لم تعد تفي بالحاجة لهذا التجأت جبهة التحرير إلى فرض ضريبة مالية على المواطنين الجزائريين كشكل من أشكال المقاومة (الجهاد بالمال). وقد مست الاشتراكات غالبيتهم. كما قامت بحملة واسعة لجمع المال من اليهود والنساء (الذهب) خاصة الأغنياء منهم والمعمرين طوعا أو كرها . أما ميدانيا فتم تخصيص فرق مجهزة بالعتاد الطبي والملابس والأغطية والخيام والطعام للسهر على استقبال وإيواء هؤلاء اللاجئين. كما نشط الهلال الأحمر الجزائري واتحاد المرأة الجزائرية في الخارج عن طريق الحملات الإعلامية بالدول الشقيقة والصديقة للجزائر للتعريف بمأساة المهجرين وجمع التبرعات والمساعدات الإنسانية والتكفل بتوزيعها وسهرت جبهة التحرير على تخصيص مدرسين ومدرسات للأطفال، أما القادرون على حمل السلاح من الشباب فتم تدريبهم وإعدادهم للثورة والالتحاق بصفوف جيش التحرير وهكذا مثل هؤلاء أحد روافد الثورة إذ زوّدوا جيش التحرير بالمئات من المقاتلين على الحدود الشرقية.

وكانت هناك لجان في مختلف مناطق الشمال الغربي تشرف على شؤون الثوار توفر لهم المؤونة واللباس والأسلحة حتى لم يكن ينقصهم شيء في هذا الإتجاه وتكفل كبار السن من اللاجئين والنساء بإحضار الطعام للثوار علما بأن السلطة التونسية وفرت لهم أحيانا مخابز تؤمن لهم الغذاء كما هو الحال بالنسبة إلى المخبزة التي أحدثتها بمدينة عين دراهم (هي اليوم
من مقر البلدية). أما طبرقة فتكفل الشاذلي بوشناق (من مواليد سنة 1916 بتوفير المؤونة للثوار بمنطقة أولاد سدرة.
وكان الثوار كلما احتاجوا للمؤونة تنقلوا ليلا إلى إحدى البيوتات التونسية يطلبون منها إحضار كمية كبيرة من الخبز سواء جلبوا معهم الدقيق أو اقتنوا من تلك العائلة كفايتهم لكن مع التعويض المادي لهذه العائلة. وحصل أن احتاج الثوار وهم في الجبال إلى الأكل فأمسكوا بماشية (أبقار) على ملك تونسيين دون علمهم ولا إذنهم فيذبحوها ثم عندما يتصل بهم صاحبها يعطوه ثمنها .
كما احتاج هؤلاء الثوار المرابطون بالجبال استئجار نساء تونسيات - مثل شريفة حرم وصيف بعين دراهم - لغسل ثيابهم. وكثيرا ما كان الأهالي يعثرون حين تنقلهم في الغابة للتحطيب أو لرعاية الماشية أو غيرها الأنشطة الجبلية. على مخلفات الثوار من خبز أو أدوات أكل أو غيرها تركوها بعد أن غيروا مكانهم في الصباح الباكر وفي حالات كثيرة حين كانت القوات الجوية الفرنسية تخترق المجال التونسي بحثا عن الثوار كان التونسيون رجالا ونساء يلوّحون بشارات بيضاء حين تنقلهم في الغابة خشية أن تصيبهم القوات الفرنسية بنيرانها. ولتلقي الأموال من الجزائر عمد اللاجئون إلى حيلة تتمثل في توظيف عناوين لتونسيين ترسل عبرها الحوالات النقدية قام بهذا الدور مثلا تاجر المواد الغذائية بطبرقة الذي تأتيه الأموال من أكثر من خمسين عنوانا.
ثم يذهب بنفسه إلى البريد لاستلام الحوالات ليسلمها لاحقا لأصحابها الذين غالبا ما يطلبون منه إبداع تلك الأموال عنده مقابل ما يقتنونه يوميا من حاجياتهم.
وأثر عن بعضهم أن الجزائري كان يقول للتاجر: إذا استشهدت فهنيئا لك ما بقي من المال .
وكان الثوار وهم في سيرهم إلى المواجهة أو المعركة يعطون الطعام وما تبقى من أموال لديهم لمن يعترضهم من الأطفال التونسيين قائلين لهم خذوا ذلك قد لا نعود إليكم ثانية»،
على أن مختلف أشكال الدعم هذه التي قدمها التونسيون لا تعني غياب بعض مظاهر التوتر التي شابت أحيانا العلاقات بين التونسيين والجزائريين بسبب ممارسات سرعان ما يتم تطويقها.

خاتمة:

إن المتأمل في كيفية التعاطي الشعبي في تونس مع قضية اللاجئين الجزائريين زمن ثورة التحرير، وما صاحب ذلك من تطورات كبيرة ليقف على جملة من الخلاصات الهامة تؤكد أن هذه العملية كانت ذات خصوصية مقارنة بعمليات لجوء أخرى تمت في مناطق عديدة من العالم وفي فترات زمنية مختلفة.
أولا، تفاعل التونسيين الإيجابي مع هؤلاء الجزائريين الوافدين من خلال تقديم مختلف أشكال الدعم المادي واللوجستي في حدود الممكن والمتاح. وهذا يعني أن الثورة الجزائرية قد وجدت في تونس حاضنة شعبية مهمة مثلت سندا حقيقيا لجهد المقاومة.
ثانيا، سهولة عملية الاندماج بين الفريقين.
وهذا راجع بدوره إلى جملة من العوامل التاريخية إذ أن التواصل بينهما لم يكن ظاهرة حديثة وهذا ما نزع عنها صفة الفرادة أو الغرابة، ويشر بالتالي عملية التواصل بين الناس. ثالثا، يمكن اعتبار هذه الظروف المقبولة عموما للاجئين دعما هاما لمعنويات الثوار الجزائريين ولأدائهم النضالي في سبيل التحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار، فكثيرة هي الأمثلة التي عمل فيها المستعمر على استعمال عائلات المناضلين أو المقاومين كورقة ضغط للابتزاز السياسي.
نضيف إلى ذلك أن هذه الواقعة التاريخية أسهمت في تعزيز علاقات التعايش بين سكان المناطق الحدودية في البلدين، من خلال استمرار أشكال التواصل الاجتماعي والتبادل التجاري (ولو في شكله البسيط) بعد سنة 1962.
 
أدعم بقوة فكرة دولة فيديرالية تجمع الجزائر وتونس ولم لا موريتانيا
واقبل كجزائري ان تكون مدينة تونس هي العاصمة
 
أدعم بقوة فكرة دولة فيديرالية تجمع الجزائر وتونس ولم لا موريتانيا
واقبل كجزائري ان تكون مدينة تونس هي العاصمة
في الكثير من الحقب التاريخية كانت تونس و الجزائر دولة واحدة سواء كان المركز السياسي في تونس مثل دولة قرطاج و الحفصيين أو في الجزائر مثل نوميديا و الزيريين
 
عودة
أعلى