تاريخ تونس العسكري من الفتح الاسلامي إلى الإسبان وما قبل الوجود العثماني

Obergruppenführer Smith

طاقم الإدارة
مـراقــب عـــام
إنضم
23 أكتوبر 2017
المشاركات
3,678
التفاعل
21,096 224 0
الدولة
Tunisia
هذا الموضوع سيغطي حالة البلاد التونسية عامة و العسكرية خاصة من ما قبل الفتح الاسلامي و آخر ايام البيزنطيين في البلاد
الى حدود انهيار السلطنة الحفصية و تدخل الاسبان ثم العثمانيين في القرن السادس عشر
للأمانة لست كاتب الموضوع الاصلي و لكني ناقل له بتصرف و مجمع له عن مجموعة من المقالات من معهد التراث الوطني
و سيذيل كل جزء بالمصادر لمن يريد التوسع في الموضوع
:بداية:

الجزء الأول:
الوضع العسكري و السياسي في آخر أيام الوجود البيزنطي في افريقية

وصل الجيش البيزنطي سنة 533 إلى سواحل إفريقيا”لاسترجاعها” تحت سيطرة الدولة الرومانية الشرقية والمتعارف على تسميتها بالإمبراطورية البيزنطية. وقد كان السبب المعلن هو إعادة الشرعية السياسية إلى البلاد بعد الانقلاب الذي قام به احد أفراد العائلة الحاكمة، جيليمار ضد الملك هلديريك.

وقد جاء هذا التدخل العسكري نتيجة لرغبة الإمبراطور جستنيان في ترميم الإمبراطورية الرومانية وإعلاء مجد عرشه. وقد كانت الظروف سانحة للقيام بهذا المشروع العسكري منها:

– أولا: توقفت جبهات القتال على الحدود الشرقية للإمبراطورية بعد حرب طويلة ضد الفرس ، وخرج البيزنطيون منتصرين رغم ما لحق بهم من الخسائر المادية والبشرية.

– ثانيا: وصلت بعض المجموعات من الرومان والأفارقة المترومنين والذين اعتنقوا الدين المسيحي لنجدة الإمبراطور جستنيان ضد الحاكم الوندالي الجديد الذي كانت بعض هذه المجموعات تعاني من اضطهاده وظلمه مثل الارستقراطية المحلية التي كانت تشعر بالمضايقة الاجتماعية والمادية من طرف الحكام الوندال. وجمع المسيحيين الذين لا يدينون بالمذهب الآري الذي تدافع عنه الدولة الوندالية وكذلك شقّ من العائلة الوندالية التي لم تكن لترضى بخلع الملك هلديريك وحلول جيليمار محله.

ومهما كانت الأسباب المعلنة فإن الحملة العسكرية التي أمر الإمبراطور البيزنطي بتنفيذها جاءت تلبية لرغباته الخاصة، حتى كأنّها تبدو حملة جستنيان وحده. وقد صوّر المؤرخ البيزنطي وشاهد العيان بروكوب النقاشات التي دارت قبل انطلاق الحملة ومعارضة بعض القواد العسكريين لقرار الإمبراطور. ورغم أغلبية المواقف المعارضة فقد تم تنفيذها بحجة نجدة “المسيحيين المضطهدين” والرومان الخاضعين “للوندال البرابرة”.
جيش الحملة (533 م)

القيادة


اختار الإمبراطور البيزنطي أحد المقربين منه وهو الجنرال بليسار أو Belisarius أحد الضباط الذين قدَموا خدمات هامَة في الحرب ضدَ الفرس، و من الذين تميزوا بكفاءة عسكرية عالية خلال الحروب التي خاضتها الإمبراطورية ضد أعدائها في الشرق، وذلك رغم تقدّمه في السّن، ليكون قائدا عامَا، وقد كان معه كاتبه الخاص بروكوب القيصرية الذي يعود له الفضل في كتابة تاريخ الو ندال وتقديم صورة دقيقة عن الحملة البيزنطية على إفريقيا سنة 533.

كما تمّ تعيين الجنرال سولومون وهو أحد الخصيان من أصل أرميني قائدا مساعدا لبيليزار. وكان أيضا من قدماء الحرب ضد الفرس، وهو الذي سيؤول له حكم الولاية البيزنطية بعد السيطرة عليها.

وأسندت لمجموعة من الضباط الذين شارك اغلبهم في الحروب ضد الفرس وبرز بعضهم أثناء معركة دارا سنة 530 قيادات مختلفة لفرق متعددة من الجيش كانت على حسب رواية بروكوب على النحو التالي.

– الجيش النظامي وهو الجيش الذي لا يضم إلا المواطنين الأحرار من البيزنطيين وقد كان القواد الذين يشرفون على تسيير هذه الفرق:

قادة الخيالة والرماة: هم رفينوس و أيقان ، وهما من عائلة بليسار القائد العام للحملة. وكذلك برباتوس و بابَوس
ويعتبر جيش الخيالة الركيزة الأساسية للجيش البيزنطي وعموده الفقري، وهو أمر مرتبط بنوعية الحروب ووسائل النقل والتنقل في العصور القديمة والوسيطة.

قادة جيش المشاة:
يوحنا أيبدامن كقائد عام يساعده كل من تيودوروس و تيرانتيوس و زيدوس ومارقيانوس وسرابيس

قادة الحلفاء

وهم مجموعة من الضبَاط مثل القائد الأرميني دوروتايويس وقبريانس و فالايريانوس ومارتينوس وألتياس ويوحنا وماركلَوس وكيريلَوس و أيقانوهو من شعب الهون و فراس على رأس فرقة من الهيروليين وسنَيون وبلاس على رأس فرقة من المساجات

وقد عين على رأس الأسطول قائد واحد هو كالونيموس الاسكندري وقد اشتمل على500 قطعة وشحنت هذه السفن ب30000 من البحارة المصريين والأيونيين وهم الأغلبية ومن سكان قليقيليا كما ضمّت الحملة 92 سفينة كبيرة مجهزة للقتال البحري ولكنها لا تحتوي إلا على صف واحد من المجاديف وهي سفن مغطاة حتى لا يتعرض البحرية إلى سهم العدو وتسمى هذه السفن درومون

التركيبة العرقية

جنّدت الإمبراطورية البيزنطية لهذه الحملة جيشا مكونا من الجند النظامي أي من المواطنين الرومان ومن حلفاء الإمبراطورية من الهيروليين والمساجات والبرابرة والتراقيين والأرمن وغيرهم من الشعوب الجرمانية وحتى من القبائل العربية التي كانت منخرطة في خدمة الإمبراطورية البيزنطية. وليس من باب الصدفة أن نجد ضمن قواد الحملة أحد الضباط وهو زيد أو زيدوس وهو من الأسماء العربية الشائعة من ناحية ووجود نقائش مثل نقيشة نمارة ونصوص مثل نصوص أميان مارسولان وتيوفان. ولعل أهم ما يمكن ملاحظته هو تعدد الأجناس التي من صلبها تم تكوين الجيش الموفد إلى إفريقيا وهو ما يعكس أولا شساعة الإمبراطورية وتعدد مكوناتها العرقية والاثنية. وإن لم تكن هذه الجنسيات متساوية قي نظر القانون المدني فهي موحدة في إطار التنظيم العسكري، حيث تخضع الترقيات وتحمّل المسؤوليات القيادية إلى الكفاءة القتالية والقدرة على التسيير والإحاطة بالجند حتى يستطيع مجابهة العدو في أحسن الظروف. هذا بالإضافة إلى احترام قوانين الحرب. فقد نصت المؤلفات العسكرية التي كانت في كثير من الأحيان من تأليف الأباطرة أنفسهم على جملة من القيم والعقائد التي ترمي إلى استلطاف الشعوب العدوَة أكثر من إظهار الغلبة والتسلَط. وهو ما عبر عنه القائد بليسار بعدما أرسى أمام رأس قبودية على الساحل الشرقي لإفريقية ولاحظ تسارع بعض من جنده للسلب والنهب قائلا: » عندما حملتكم إلى هذه الأرض ليس لدي إلا أمل وحيد وهو إرجاع الأمل إلى الأفارقة وهم رومان منذ زمن بعيد، وهم يبغضون الوندال…أما الآن فبعصيانكم وتسلَطكم فقد جلبتم حقد الأفارقة وربَما دفعتموهم للتصالح مع الوندال ولا تنسوا أن الضحية تحقد جبّلَة على الغاصب مهما طال الزمن.. « .

ولعلّ أهم ما يميز الحضارة البيزنطية بصفة عامة هو التأليف في المجال العسكري. فاهتمت بالتّأليف في تقنيات القتال برا وبحرا وبمسائل التموين وبالخطط العسكرية وتوفير أكثر ما يمكن من الظروف لتحقيق الانتصار. كما اعتنت هذه المؤلفات بانتداب الجند وشروط الخدمة العسكرية وأخلاقيات هذه المهنة تجمع أغلب النصوص البيزنطية التي تعرضت لهذا الجانب على ضرورة تحلَي الجند بإنسانية في التعامل مع الشَعوب المغلوبة وهو ما ساعد إلى حدَ ما على تدعيم الهيمنة البيزنطية على شعوب مختلفة إلى حدود سنة 1453 ميلادي لأن الجندية ليست، من وجهة النظر البيزنطية، خدمة لحماية البلاد فقط وإنما لاسترجاع ما قد تفقده الإمبراطورية من الأراضي وتوفير ما يحتاجه السكان من المواد الضرورية في إطار ما تسميه النصوص البيزنطية “بالحرب العادلة”.
أنواع الجيوش

ينقسم الجيش البيزنطي إلى ثلاثة أنواع:

– جيش نظامي ملازم للحصون والقلاع والثكنات التي تسمى “أكرا” وهو جيش محترف يمكن أن يطلق عليه اسم جيش وطني لأنه يتكون من المواطنين الأحرار .

– جيش مأجور يطلق عليه اسم “الحلفاء” وهو جيش متعدد الجنسيات لا يربط بين أفراده – علاوة على القوانين العسكرية- إلا خدمة الدولة البيزنطية كلما دعت الحاجة إلى ذلك ويتقاضى مقابلا إجماليا حسب الحاجة إليه. وفي فترات السلم يسرَح أفراده سواء أقاموا بالبلاد أو غادروها. فهو عنصر قليل العدد في الفترات السابقة للقرن الحادي عشر، حيث ستزداد إليه الحاجة أمام تطورات عديدة لا يتّسع المجال لذكرها هنا.

– الجنود الفلاحون: وهو فصيل من الجيش البيزنطي يرتكز على ما تعطيه الدولة من الأراضي لبعض المزارعين بشروط منها ضرورة إحياء الأرض، فهي مصدر معيشته وكذلك مصدر تسلَحه وعتاده . فهؤلاء الجنود الفلاحون لا يتقاضون أجرا وإنما يحصلون على “إقطاع عسكري” يمكنهم من توفير حاجياتهم العائلية من ناحية وتجهيز أنفسهم بأدوات الحرب وضرورياتها من ناحية أخرى. وهذا التنظيم الموروث عن العهد الروماني والمتمثل في وجود جنود فلاحين على الحدود يسمون بالحدوديين ، سينتشر في كامل المجال البيزنطي. ويطلق على هؤلاء الجنود اسم الستراتيوت. وسيصبح هذا العنصر العسكري منذ بداية القرن السابع ميلادي المصدر الأصلي والركيزة الأساسية للجيش البيزنطي سواء في إفريقيا الشمالية أو في غيرها من أراضي الإمبراطورية، حتى سمَاه المؤرخ البلغاري جورج استروقرسكي “العمود الفقري” للجيش والدولة البيزنطيين.

– البحرية: تتمتع الدولة البيزنطية المترامية الأطراف بسواحل عديدة فيها من الإمكانيات الطبيعية ما يسمح بالإرساء العادي أو الإرساء الاضطراري. فإنّ الإمبراطورية البيزنطية، عندما استولت على منطقة إفريقيا الشمالية، كانت تسيطر بلا منازع على مختلف السواحل المتوسطية من جزر البليار إلى الإسكندرية ومن البحر الادرياتيكي إلى خليج سرت. وهي منطقة مهيأة منذ العهود القديمة لاحتضان السفن. وتلعب البحرية البيزنطية بالإضافة إلى الدور العسكري في إطار المعارك البحرية (مثل معركة ” ذات الصواري” في زمن معاوية بن أبي سفيان)، دور وسيلة النقل الضرورية بالدرجة الأولى فتسمح بربط مختلف أجزاء الإمبراطورية بعضها ببعض وتربطها بالعاصمة القسطنطينية مركز القرارات والأوامر.



جيش إفريقية البيزنطية

أدّت حملة بيليزار إلى إخضاع المنطقة للحكم البيزنطي. وقد ضمت المقاطعة في هذه الفترة مجالا شاسعا يمتد من طرابلس إلى طنجة. ورغم اتساع المجال (على الأقل في المستوى الظاهري) فقد ظلّ واقع الولاية البيزنطية واقعا محدودا، فهي ولاية تشتمل على مجال ضيق لا يتعدى في أغلب الحالات الشريط الساحلي إلا فيما سيصبح البلاد التونسية فيما بعد، حيث بلغ الحضور البيزنطي أعماق البلاد في اتجاه الغرب وفي اتجاه الجنوب الغربي.

وتحكمت في هذا المجال عاصمة المنطقة التقليدية قرطاج إلى حدود منتصف القرن السابع ثمّ انتقلت ولو لفترة زمنية محدودة، لا نعرف أسبابها، إلى سبيطلة.

وقد نظمت الدولة البيزنطية ولاية إفريقيا في إطار مقاطعة تجمع السواحل الليبية إلى حدود برقة وبعض المناطق من الجزائر والمغرب اليوم. وتضاف إليها السواحل الجنوبية الاسبانية وجزر البليار و صقلية و سردينيا. وذلك سعيا من الإمبراطور جستنيان إلى إعادة الاعتبار لبلاد ظلت لردح من الزمن من أهم الولايات الرومانية كما اعتبر استرجاعها استرجاعا لمجد روما على حدَ تعبير جستنيان.

ويحكم الولاية حاكم مدني برتبة عالية إلى الربع الأخير من القرن السادس ميلادي. ويشرف على القيادة العسكرية ضابط يحمل صفة قائد العسكر وقد ظلت عملية الفصل بين السلطتين العسكرية والمدنية إلى حدود سنة 580-585 ميلادي، حيث تغيرت سياسة الدولة وأصبحت الولاية الإفريقية خاضعة لحاكم عسكري هو الاقزرخس وهو حاكم يجمع بين السلطات المدنية والعسكرية والقضائية وغيرها.

كما قسمت إفريقية إلى ولايات عسكرية يحكم كل ولاية منها دوقس مستقر في عاصمة الإقليم مثل قرطاج وسوسة وتلابت وقفصة وطرابلس وغيرها من المدن العواصم في الجهات. والملاحظ أن النصوص والنقائش لا تبوح بكل ما يمكّن من معرفة التقسيم العسكري الحقيقي للولاية. فمثلا وجود مقر للدوق في تلابت وقفصة وهما مدينتان غير متباعدتين طرح إشكالا للمؤرخين فهل يعني ذلك وجود حاكمين عسكريين أم يعني وجود مقرين لحاكم واحد.

يبدو أنه قد تمّ في بداية السيطرة البيزنطية على المنطقة تركيز قيادات عسكرية في المدن الهامة مثل طرابلس وقسنطينة وقفصة بالتناوب مع تلابت وهدرماتوم [سوسة] ومدينة قيصرية[شرشال] بالجزائر اليوم.
وكان هؤلاء الضباط يخضعون تراتبيا إلى القائد العام لجيش الولاية طيلة القرن السادس وفي أواخره أصبح الدوق يأتمر بأوامر الاقزرخس الذي يجمع بين يديه السلطتين المدنية والعسكرية . وقد احتفظت لنا النصوص والنقائش ببعض أسماء الذين شغلوا خطة دوق على رأس بعض الحاميات ولو أننا لا نستطيع أن نجزم متى شغل هؤلاء خطتهم بما فيه الكفاية من الدقة مثل:

هيماريوس (545-546)

ماركانتيوس

يوحنا تروقليتا (539-544) الذي سيرتقي إلى رتبة وال بإفريقيا البيزنطية

ليونتيوس

بومبايريوس

كرسكانس

بيلاجيوس (544)

روفينوس سنة 547

كيسيل سنة 609



ولئن كان الجيش البيزنطي في بداية القرن السادس مكونا بالدرجة الأولى من الجنود الذين شاركوا في الحملات الأولى فقد بدأ عدد هؤلاء يتقلص بحكم مرافقة البعض منهم القائد بليسار عندما غادر البلاد إلى إيطاليا سنة 534 ومنهم من التحق به لمساعدته في حروب القوط. لذلك أصبح انتداب الجند من المحليين سواء من الرومان أو الأفارقة المترومنين أو المتعاطفين مع الحضور البيزنطي وذلك لأسباب عديدة منها ما هو مادي ومنها ما هو ديني إلى غير ذلك من الأسباب التي تحوّل سكان بلد ما إلى متعاطفين مع الغزاة. وقد تميز الحضور العسكري البيزنطي باعتماده على وحدات خفيفة من الخيالة تدعمها الحصون والقلاع المنتشرة في مختلف الجهات لمراقبة تحركات الأهالي و التصدي للثورات العديدة التي عرفها حكم البيزنطيين للبلاد.

ومهما يكن من أمر فقد لعب الجيش مختلف الأدوار في إفريقيا البيزنطية، إذ بعد إنهاء الحكم الوندالي والتمركز قي البلاد قام البيزنطيون بحملة تشييد وتعمير واسعة النطاق سواء بأمر مباشر من الإمبراطور أو بأمر من حاكم الولاية أو برغبة من الأهالي. وقد شملت حملة البناء والتشييد بالدرجة الأولى المجال العسكري. فسعى البيزنطيون، وبالاعتماد على الجيش، إلى ترميم ما تهدّم من الحصون والقلاع والأسوار مثلما هو الشأن في قرطاج إذ أمر الإمبراطور جستنيان قائد الحملة بترميم أسوار المدينة وبعض المعابد والكنائس التي كانت بداخلها والتي يبدو أنها تهدَمت لعدم صيانتها وإهمالها من طرف الوندال. ونظرا لعدم استقرار الأمن بالبلاد انتشرت الحصون في مختلف جهات الولاية، على سواحلها وفي دواخلها.

لقد جابه البيزنطيون إلى جانب بقايا الوندال سكان البلاد المحليين ممَن لم تؤثر فيهم سياسة الرومنة وممن لم يكن قابلا للإذعان للغازي الأجنبي. وهو ما تطلب من الولاة الذين تعاقبوا على المنطقة مجهودا دفاعيا كبيرا تشهد عليه المباني التي ما تزال قائمة في مختلف المناطق التي خضعت إلى الدولة البيزنطية في شمال إفريقيا، ويجسّمها بشكل واضح قصر لمسة بولاية القيروان اليوم, الذي كان يتحكم في ممر طبيعي هام بين مناطق التل الخصبة ومناطق السباسب شبه القاحلة. هذا بالإضافة إلى مختلف الحصون والأسوار التي ما تزال بقاياها بارزة للعيان مثل باجة وتبرسق وعين تنقة وسبيطلة وحيدرة و قفصة وقليبية وقصر القرشين بالوطن القبلي. كما يمكن أن نضيف إلى هذه الحصون بعض الإستحكامات الساحلية التي اندمجت في صلب العمارة الإسلامية في القرون اللاحقة، في حين اندثرت بعض المباني تحت تأثير عوامل الزمن وعمل الإنسان وتطور العمران وتنوع الأنشطة الاقتصادية التي ساهمت إلى حدَ كبير في تدمير بعض المعالم وتقويضها فلم تبق إلاَ أسماؤها.

وعلى العموم لم يستطع الجيش البيزنطي السيطرة على البلاد نظرا لغليانها المتواصل وذلك بالرغم من وجود جالية هامة متعاطفة مع الدولة البيزنطية لأسباب تاريخية بينما اندمجت الكثير من الفئات وخاصة النخب في صلب الحضارة الرومانية وترومن العديد من الناس وأصبحوا من حاملي صفة المواطنة الرومانية وهو ما يعني ارتباط مصالحهم بمصالح الدولة الرومانية وارتباط مصالح هذه بوجودهم. كما تعاطف البعض من سكان البلاد مع الحضور البيزنطي لأسباب دينية، إذ اعتنق كثير من الناس الديانة المسيحية وإن لم يكن نفس المذهب الرسمي الذي تذب عنه القسطنطينية، وهذا الاعتناق من شأنه أن يخلق شعورا بالمؤاخاة بين المسيحيين رغم اختلاف الأعراق والأصول.

ظلت مجموعات هامة من سكان البلاد ممن لم تذعن إلى سلطة الرومان ولم يرتض الخضوع للأجنبي من ناحية ونظرا للسياسة الجبائية الجائرة التي كانت تمارسها الدولة المركزية ضد سكان الولايات البعيدة ترتض من جهة أخرى تقاوم الحضور البيزنطي. وقد أدَى ذلك إلى تعدَد الثَورات وحرق المزارع حتَى أن الجيش البيزنطي لم يجد بدّا من الاقتراب من السكَان المحلَيين ولعلَ ذلك ساهم في تكوين تيَار من البيزنطيين ومن الأهالي يدعو إلى الانفصال عن الدَولة البيزنطية في إطار كيان مستقلَ. وهو ما حدث في أواخر النَصف الأول من القرن السادس، إذ أعلن البطريق جرجير، حاكم الولاية، انفصاله واستقلاله بالملك بإفريقيا الشمالية وهو انفصال يبدو ثابتا على الأقل منذ النصف الثاني لسنة 646 ميلادي.



أوضاع إفريقية عشية الفتح العربي الإسلامي:

لقد كان عدم الاستقرار الدائم داخل الولاية البيزنطية وبالتفاعل مع الأوضاع العامة للإمبراطورية، حافزا لأحد ولاَتها، البطريق جرجير، للانفصال عن الدولة المركزية، ضاربا النَقود باسمه وناقلا العاصمة من قرطاج إلى سبيطلة، خوفا من ردود الفعل المركزية البيزنطية أكثر منه استعدادا لمواجهة العرب، وقد يكون نتيجة للأمرين معا. ولم يكن هذا الأمر بخاف عن العرب المتمركزين بمصر.

كما أن المحاولة الانفصالية التي قام بها جرجير، ستكون بداية عصر خاصَ بإفريقية. فعلى إثر ذلك أصبحت هذه الولاية البيزنطية السابقة منطقة تعيش حالة من الاستقلال التي لن ترضي أباطرة القسطنطينية. وليس من باب المجازفة عندما نقول أن الفترة الممتدة ما بين النصف الثاني من سنة 646 ميلادي و698 ميلادي هي فترة إفريقية المستقلة.

ويمكن اعتبار الفترة الممتدة ما بين 646 و 698 م فترة مثلثة الصراع :

– سكَان إفريقية من روم و بربر و بربر مترومنين

– الإمبراطورية المركزية أي الإمبراطورية البيزنطية

– العرب الفاتحين

وقد أدت هذه الوضعية إلى صعوبة فتح المنطقة بل يمكن أن نذهب إلى أكثر من ذلك وهو أن الولاية فتحت بالتقاء طرفين أساسيين في المنطقة وهما العرب من جهة وسكَان إفريقية من جهة أخرى. إذ بالإضافة إلى استقلال المنطقة عن القسطنطينية منذ النصف الثاني لسنة 646م، برزت أطراف محلية تدعو إلى التعامل مع العرب وتسعى للاستنجاد بهم ضد أسياد الأمس، أي ضد الإمبراطورية البيزنطية، وهي حقبة مغيبة تماما من الدراسات الحديثة. فليس من المعقول أن يتواصل الحديث عن فتح إفريقية بطرد الروم منها وإنهاء وجود الدولة البيزنطية على يدي العرب، لأنّ الواقع التاريخي يجعلنا نتوقف عند هذه المسألة وهي مسألة التحقيب للفترة الفاصلة بين الوجود الرسمي البيزنطي والوجود الرسمي العربي الإسلامي. والنَصوص العربية والبيزنطية على حد السواء تحدثنا عن الانفصال الذي قام به جرجير عن السَلطة المركزية وضربه النقود باسمه.

يورد كل من تيوفان و نيسيفور -أو «نقفور» كما تسميه النَصوص العربية – « أن العرب قد قتلوا جرجير »، و يقول تيوفان « أنه في سنة 6138 من خلق العالم ( أي 1سبتمبر 646- 31 أوت 647 م) ثار الأفارقة تحت قيادة بطريقهم جرجير ضد السَلطة الإمبراطورية », ويبدو أنّ قتل الوالي المتمرد من طرف العرب بمثابة العقاب الذي سلطه الرب عليه. وهو ما جعل المكان الذي دارت فيه المعركة يحمل في وجدان الناس تسمية رمزية وهي “فحص عقوبة”؟ و إذا نظرنا في النَصوص العربية ومن أقدمها تقريبا نصّ ابن عبد الحكم، فنجده يقول: « فخرج عبد الله بن سعد إليها وكان مستقر سلطان إفريقية يومئذ بمدينة يقال لها قرطاجنة وكان عليها ملك يقال له جرجير كان هرقل قد استخلفه فخلع هرقل وضرب الدنانير على وجهه، وكان سلطانه ما بين اطرابلس وطنجة » وفي رواية أخرى لابن عبد الحكم « أن هرقل كان قد استخلف جرجير، فخلعه » .

ولم يتدخل العرب إلا في السنة الموالية للقضاء على سلطة جرجير وليس على سلطة الإمبراطورية. معنى ذلك أن العرب لم يتغلبوا على إمبراطور القسطنطينية، فهو قد فقد نفوذه وسلطانه على المنطقة قبل مجيء العرب، وإنما تغلبوا على ملك مستقل بشؤون البلاد رغم أنّه كان في بداية تركيز سلطانه. وإن لم يكن جرجير ملكا متمرَسا و متجذَرا في حكم المقاطعة، فهو قد بدا للعرب في هيئة الملك، ولعلَهم رأوه كذلك. وهذه النقطة تظل محل غموض ما لم نعثر على عملة تحمل اسم الملك جرجير وصورته أو ما تسميه النَصوص « بالدينار الجرجيري ».

وليس من باب البحث الجدي أن يظل المؤرخون، في تونس وغيرها، الذين يبحثون في تاريخ إفريقية ما بين العهدين البيزنطي والإسلامي، رهينة لما كتبه المؤرخ الفرنسي شارل ديل – وإن كان حجَة في مجال البيزنطيات- تحت تأثير الفكر الاستعماري الذي أراد إطالة الحضور الروماني / المسيحي لتبرير الاستعمار في المنطقة وتشريعه بالتاريخ. فكلَما طال زمن الحضور البيزنطي إلاَ وتقلَصت فترة الدولة العربية الإسلامية بمختلف سلالاتها واقترب الحضور البيزنطي من الحضور الفرنسي. وقد رأى شارل ديل أن الحضور الرسمي البيزنطي قد بدأ يضعف بعد مجيء العرب، والواقع أن هذا الحضور الرَسمي قد انتهى قبل مجيء العرب، فلا يمكن إذن الحديث عن ضعف سلطة ما لم تكن قد وجدت فعلا. فقد وقف سكَان إفريقية ما بين 646 و698 مواقف متباينة من الدولة البيزنطية المركزية التي نزع أغلب سكَان البلاد طاعتها.



ولا يختلف موقف شارل ديل في نهجه عن مواقف النَصوص العربية التي سعت إلى التأسيس لجذور مشرقية لسكَان إفريقية والمغرب، حتى بدت عملية الفتح للمنطقة والتوسع بها وكأنها عملية داخلية بين العرب وبني عمومتهم من البربر. وقد سار الباحثون المعاصرون على نفس النَهج دون محاولة إعادة النظر في النَصوص والتثبت من خلفيات الكتّاب وأهداف الرواة. فقد وقع الاكتفاء دائما بالإحالة على مؤلف شارل ديل دون العودة إلى مصادره والتثبت من قراءته للنص المعتمد سواء كان النص عربيا أو غير عربي.



يبدو جليا من خلال جملة المصادر التي تناولت مسألة الفتح ، أن هذه العملية قد تمت على مراحل- وهذا أمر مألوف وكتبه أكثر من مؤرخ معاصر- ولكن المسألة الأساسية هي هذه المرحلية، التي يكتنفها بعض الغموض. لذلك نرى أن هذه المراحل قد تمت على النحو التالي:

– مرحلة التطلع إلى قلب إفريقية وذلك بالتحرش بمناطقها الطرفية الجنوبية الشرقية. جاءت هذه المرحلة بعد فترة من التردد والرفض الذي أعلنه عمر بن الخطاب. فقد رفض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب التوغَل في إفريقية مقدَما جملة من الحجج الغامضة كقوله- على حد تعبير بعض النَصوص- «إفريقية، المفرقة، غادرة مغدور بها، لن أوجه إليها أحدا ما مقَلت عيني الماء». وكل ما نلاحظه من خلال المصادر أن موقف الخليفة الثاني كان موقفا واضحا، إذ لم يكن راغبا في فتح جبهة غربية وهو في عنف تقدمه نحو الشرق والشمال على حساب الفرس والروم. فإنّ إرسال جيش إلى إفريقية دون تمهيد المناطق التي مازالت حديثة عهد بالحضور العربي وقابلة للانتفاض عليه من حين لآخر من المغامرات التي لا تحمد عواقبها وينتج عنها ضياع كل شيء. ومن هذه المنطلقات يأتي رفضه لطلب معاوية بن أبي سفيان غزو قبرص ورفضه غزو إفريقية. لذلك لم يكن ممكنا مخالفة قرار عمر وتجاوز السياسة المركزية التي كانت لها أسبابها. ولم يتسن ترك موقف عمر إلا بعد وصول عثمان إلى سدة الخلافة فقد أحدث التغيير على رأس الدولة المركزية تغييرا واضحا في سياسة الدولة بصورة عامة، سواء في ما يتعلق بالشأن الداخلي المتعلق بتسيير الدولة الفتية أو بالشأن الخارجي المتعلق بالعلاقات مع الدول والكيانات المجاورة أو المتاخمة لمجال دولة المدينة.

فقد فتح عثمان باب الفتوحات من جديد في اتجاه مناطق لم يشملها الفتح فيما سبق مثل قبرص، وجرجان وإفريقية التي تعرضت لهجمات عسكرية في نفس السنة أي سنة 27هـ/ 647 م. ويبدو أن التوجه نحو إفريقية لم يكن قرارا مركزيا أو اختيارا من سلطة المدينة بقدر ما كان توجها خاصَا بوالي مصر، وإن لم يكن كذلك فبطلب منه و إلحاح. ولعلّ هذا الأخير كان يعتبر، وهو أمر معقول من الوجهة العسكرية البحتة، أنه لا يمكن الاستقرار في مصر إلا بعد الاستيلاء على عمقها الإستراتيجي، وهو بلاد المغرب كلها والتخلص من إمكانية حدود برية مع العدو البيزنطي أو الرومي، خاصَة وأن التجربة الشّامية قد بينت أنه بإمكان البيزنطيين أن يحاولوا افتكاك المبادرة لاسترجاع ما انتزعه العرب منهم بالتفاوض مع القوى المحلية. لذلك ولدرء مثل هذه المخاطر، طلب الوالي الإذن بالفتح وهو ما جعل الخليفة عثمان بن عفان، و بعد القيام بجملة من المشاورات، يوافق على القيام بما يمكن من العمليات العسكرية التي قد تسمح بفتح المنطقة وضمها للمجال العربي الإسلامي.

المصادر:

– النويري، نهاية الأرب، حسين نصار وعبد العزيز الأهواني، القاهرة 1983
– عبد الوهاب (ح.ح)، ورقات، I، تونس 1965
– المنصوري (م.ط)، “ملامح بعض الفئات الاجتماعية بأفريقية في العهد البيزنطي”، المغيّبون في تاريخ تونس الاجتماعي، تونس 1999
– Dargon (G), “Appivoix la guerre, Byzantins et Arabes, ennemis intimes”, in Byzantium at war, Athnes 1997
– Diehl (Ch), L’Afrique byzantine, Paris 1896
– Ostrogorky (G), Histoire de l’état byzantin, Paris 1986
– Pringle (D), The defences of byzantin Africa, Oxford 1981
– Procope, La guerre contre les vandales, tront, D. Roques, Paris 1980
– Shahid (I), Byzantium and the Arabs in the fourth century, Washington 1982


 
الجزء الثاني:

فتح افريقية


لقد جاء قرار توجيه الجيش إلى إفريقية نتيجة لجملة من العوامل

– اقتناع الخليفة بجدوى مثل هذا العمل واعتباره «جزءا من استراتيجية محكمة… تندرج ضمن مخطط ضخم هدفه حماية الشام ومصر، و الإحاطة بالجانب البحري لبيزنطة والسيطرة على الحوض الغربي للبحر المتوسط» على حد تعبير المرحوم عمر السعيدي.

– استشارة الصحابة وذوي الرأي والمشورة لاستجلاء الأمور وكسب الدعم لسياسته، وهذا ما يستنتج من مختلف المواقف التي رأت إمكانية إرسال الجيوش إلى إفريقية وهو ما يفرض ما يمكن أن نسميه شبه إجماع حول هذه الاختيارات من كل الذين وقعت استشارتهم، واحد فقط امتنع وتشبث بموقف عمر بن الخطاب.

– قيام الخليفة بنفسه بتحريض الناس على الغزو وجعله عملا تطوعيا، ولكن لا يجب أن ننسى أن قائد الحملة، عبد الله بن سعد بن أبي سرح هو أخو الخليفة عثمان بن عفان من الرَضاعة، وهي من الأمور التي قد تدعم القائد في حملته، وتجمع النَاس من حوله.

– تقديم الخليفة دعما ماديا للحملة من ماله الخاصَ وليس من بيت مال المسلمين، وهو ما يشير إليه النويري بقوله « أعان عثمان الجيش بألف بعير من ماله، فحمل عليها ضعفاء الناس».

كانت هذه العوامل إيذانا بانطلاق الحملة الرسمية الأولى على إفريقية وهي الحملة المعروفة “بغزوة العبادلة السبعة ” لما اشتملت عليه ممن كان من الصحابة حاملا لاسم عبد الله: عبد الله بن سعد بن أبي سرح وهو أحد كتّاب وحي الرسول، وعبد الله بن الزبير، حفيد أبي بكر الصديق وهو الذي تنسب له النَصوص مقتل جرجير، وعبد الله بن عباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص، هذا إلى جانب الكثيرين من الناس ممن كانوا يحملون اسم عبد الله من غير الصحابة. وهو ما أضفى على الحملة قداسة كبيرة ظلت حاضرة في التراث العربي الإسلامي المتعلق بتاريخ الفتوحات في إفريقية. وقد سعى المؤرخون من أهل المغرب إلى استغلال هذه القداسة لإعطاء إفريقية موقعا متميزا في الوجدان الجماعي وفي التاريخ الإسلامي إذ تبرز من خلال نوعية الفاتحين الرمزية وقيمتهم أهمية المنطقة المفتوحة.

وقد ضمت الحملة حوالي 20 ألف مقاتل من بني هاشم وبني تميم و بني أسد وبني عامر وبني هذيل وجهينة ومزينة وغيرهم من بطون قبائل أخرى. وهي الحملة التي ستؤدي إلى تغيَر في المجال الجغرافي السياسي ليس لبلاد المغرب وحدها، وإنما خاصَة لمركز الخلافة، كما ستفتح الباب لمراحل أخرى مختلفة ولو أنَها ستكون طويلة الأمد. ومن أهمّها مرحلة المصادمة مع حاكم مستقل هو البطريق جرجير. ويبدو أنّ هذه المصادمة وقعت بعد مفاوضات بين الطرفين. إذ يورد الزبير بن بكَار نصا هاما حول ظروف المعركة. فقد نقل عن ابن عباس قوله «خرجت مع عبد الله بن أبى سرح في غزوة إفريقية، فلما دنا من جرجير-ملك الغرب-(هكذا) وهو رجل من الروم نصراني، وكان يذكر بعقل، قلت لعبد الله بن سعد: لو بعث له من يكلَمه، فبعثني وبعث عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وعبد الله بن ربيعة». ينقل المصدر ما دار من حديث بين الوفد التفاوضي وجرجير، وهو حديث يصور الجوّ المعنوي الذي ساد اللقاء بين الطرفين، فقد برز الوفد مرتفع المعنويات من ناحية، ومحتقرا للخصم من ناحية أخرى. و في النهاية فشل اللقاء بين الطرفين، ويحمل النصَ مسؤولية ذلك الفشل لجرجير الذي رفض الإذعان لطلبات العرب، ممَا أدَى إلى اختيار المواجهة من طرف الجانبين: من الجانب البيزنطي للدفاع عن سلطة لازالت في طور البناء ومن طرف العرب من أجل اقتحام الفضاء الإفريقي لنشر الدين وتوسيع رقعة الإسلام وما يترتب عن كل حملة عسكرية من عائدات مالية هامة في شكل غنائم وسبايا.

فكانت المصادمة التي دارت أحداثها في منطقة تسمى «فحص عقوبة » بالقرب من مدينة سبيطلة، وهي تسمية غريبة، كما لو أنها تمهد لعقاب رباني سلط على جرجير،إذ آلت المعركة إلى قتل جرجير وسبي ابنته واقتحام عاصمته سنة 27هـ/647م.

وقد أدت هذه المصادمة إلى عدة نتائج هامة على مختلف المستويات والأصعدة:

– انتصار العرب على البيزنطيين،

– الحصول على غنائم هامة تعكس إمكانيات المنطقة المادية والتي ترغّب أكثر فأكثر في التمادي في الفتح.

ولعلَ أهم النتائج هي حالة الانكسار المعنوي الذي أصاب سكَان البلاد وقد عبَر النويري عن هذه الحالة بالقول « أن هذه الواقعة قد أذلت من بقي من الروم، وأصابهم رعب شديد، فلجأوا إلى الحصون والقلاع ». وهو ما يسمح بالقول بأن معركة سبيطلة قد أثرت نفسيا في سكَان المنطقة، خاصَة وأن جزءا منهم قد اصطفَ وراء جرجير أثناء تمرّده عن الحكم المركزي في القسطنطينية ووقف النَاس معه ضد العرب كغزاة.

ولن تتوقف الحملات العربية الإسلامية على المنطقة طيلة نصف قرن من الزمن. وذلك راجع إلى انعدام قيادة محلية يمكن التفاوض معها وتعدّد الزعامات الذي أعاق تقدّم العرب للسيطرة على المنطقة. كما لا يجب أن نتناسى التركيبة القبلية للجيش العربي الإسلامي وهو عامل من العوامل التي أعاقت تقدم العرب.

تميزت الحياة العسكرية في هذه الفترة بنشاط مكثف تمثل بالدرجة الأولى في الحروب التي قام بها البيزنطيون في بداية القرن السادس على الجبهتين الشرقية والغربية للإمبراطورية . ولانجاز المشاريع السياسية احتاجت الإمبراطورية إلى الرجال من مختلف الأصول والأعراق، وصهرتهم في المجتمع عن طريق الحياة العسكرية. في حين كان الجيش العربي الإسلامي في الفترة اللاحقة جيشا قبليا موحدا من حيث العقيدة ولكنه منظم تنظيما يجعله غير متجانس.

وقد لعب الجيش البيزنطي قي بداية القرن السادس – كالجيش العربي الإسلاميّ في منتصف القرن السابع ميلادي – الدور الأساسي في تنفيذ القرار المركزي سواء في القسطنطينية أو في المدينة وسواء في المجال العسكري البحت أو في المجالات المدنية والعمرانية كإحياء الأراضي أو بناء الحصون وأسوار المدن.

تركيبة الجيش الإسلامي

توافدت على إفريقية منذ الفتوحات الأولى أعداد غفيرة من الجند ما انفكت تتزايد عبر الزمن. لذلك فإنّه يصعب فعلا حصر العدد الذي استقر بالمغرب لانعدام الإحصائيات الدقيقة للذين قدموا في مختلف الغزوات والذين خيروا المكوث بالبلاد المفتوحة وعدم العودة إلى أوطانهم، ومن الثابت أن عدد الوافدين كان بضع المئات من الآلاف. وقد أتت هذه الجيوش من أصقاع متعددة من الإمبراطورية الإسلامية كالجزيرة العربية ومصر والشام والعراق وبلاد فارس… فشكلت المقاتلة أو الجند العمود الفقري للحضور العربي الإسلامي ببلاد المغرب وانتشرت في مختلف أنحائه. على أن الغالبية استوطنت إفريقية التي كانت قصبة الحكم السياسي والعسكري للسلطة الإسلامية ببلاد المغرب. فعمّر الفاتحون جلّ المدن الكبرى مثل القيروان وتونس وسوسة وباجة والقصرين وقابس وقفصة والأربس (قرب الكاف) وطرابلس.كما أحكموا سيطرتهم على المناطق الإستراتيجية الحسّاسة التي كان لها دور أساسي في تثبيت قدم الدولة العربية الإسلامية. ومن بين هذه المناطق الهامة نذكر بلاد الزّاب بالمغرب الأوسط (الجزائر اليوم) وقد مثلت قلب بلاد البربر ونقطة وصل أساسية بين المغرب الأدنى (إفريقية) والمغرب الأقصى (المغرب وموريتانيا ). فيما خيرت جموع أخرى من العسكر استيطان الأرياف الخصبة كمناطق الشمال الغربي أو الشمال الشرقي بالبلاد التونسية.

منذ العهود الأولى للفتح أدمج المسلمون في جيوشهم عناصر عديدة من البربر. ويعتقد أن أول من أعطى للبربر مكانا في الجيش الإسلامي هو القائد العربي حسان بن النّعمان (حوالي سنة 700) الذي يعد الفاتح الحقيقي لبلاد المغرب وإفريقية حيث كان له شرف إخضاع قرطاج والقضاء نهائيا على الحضور البيزنطي والمقاومة البربرية الضارية التي قادتها الكاهنة. لم يتبع حسان سياسة التشفي من البربر بل على العكس من ذلك عمل على تأليف قلوبهم فأولى ابني الكاهنة مكانا يليق بهما وأدخلهما في العناصر القيادية لجيشه.

واستمرت سياسة استيعاب البربر مع موسى بن نصير. ولا أدل على ذلك من أن طارق بن زياد، فاتح الأندلس، كان بربري الأصل. كما أشارت المصادر العربية إلى وجود البربر في الجيش الإسلامي الذي أشرف على فتوحات السوس الأقصى أي جنوب المغرب الحالي وموريتانيا.

لكن العلاقة بين الجند العربي والعناصر البربرية لم تكن دائما حسنة أو سليمة، بل بلغت في كثير من الأحيان حدا من التوتر والصدام كاد يقوّض الأوضاع ويهدّد الحضور العربي بالمغرب. ويكفي أن نذكر هنا أن يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج بن يوسف الذي تولى ولاية افريقية في بداية القرن الثاني للهجرة عامل البربر معاملة تحقيرية فجعلهم حرسا خاصا له ووشّمهم بصفة مهينة وأجبرهم على الانتقال من مواطنهم لأسباب ضرائبية فتآمروا عليه وقتلوه. لكن هذه السياسة استمرت بعد ذلك. هذا ما يتبين من الرسالة التي أوردها الطبري والتي قدمها وفد من البربر للخليفة هشام بن عبد الملك (739)، وفيها تذمر وشكوى من سيرة عامل افريقية الذي عيب عليه الكثير من الممارسات السلبية كتقديم البربر في القتال وإقصائهم من الغنائم عند الحصول عليها، والتعدي على الماشية وإتلافها قصد الحصول على الفرو الناعم الذي يبعث لمركز الخلافة. لكن أهم مأخذ كان سبي الصبايا الجميلات وإرسالهن للمشرق ليكنّ من ملذات بلاط الخلفاء. فكانت جملة هذه الممارسات سببا في اعتناق البربر للمذهب الخارجي واندلاع ثورة البربر الكبرى سنة 740.

كان الجند عنصرا أساسيا ثابتا وقارا في سياسات الدولة العربية بالمغرب إذ أوكلت له بادئ الأمر مهمة فتح بلاد المغرب والأندلس، ثم كلف بمهمة فتح أغلب الجزر القريبة من افريقية كصقلية وسردانيا ومالطة وقوصرة . كما كلف بالدفاع عن الحضور العربي الإسلامي والتصدي للثورات البربرية التي قامت ضد سلطة الأمويين والعباسيين التي كانت تعتبر افريقية أرض غنيمة وسبي. وقد لاقت هذه السياسة معارضة الكثير من القادة والجند العرب الذين أصبح لهم شعور قوي بالانتماء إلى المغرب وعابوا على العرب المشارقة اتّباع هذا السلوك الذي يتعارض مع الإسلام ووضعية المجتمع المغربي المسلم. وقد وقع اختيار العمّال وقواد الجهات من الجند أنفسهم فكان الجيش أول نواة للإدارة الإسلامية بإفريقية.

لقد شكل الجند بإفريقية طبقة لها ثقل سياسي وعسكري واجتماعي. بيد أنها لم تكن طبقة متجانسة متآلفة في عناصرها وتكوينها بل على العكس من ذلك شهدت التباين والاختلاف فهي تتكون من عدة عناصر منها:

– العناصر العربية:

التي جاءت في الأصل من المشرق وكانت ترى أنها صاحبة الجاه والمرتبة الرفيعة وهي بالتالي حرّية بأن تلعب الدور الريادي وأن تتولى أهم المناصب في الدولة. هذه الفئة تسمى بـ ” الجند القديم”. وقد كان الكثير منها منضويا بصفة رسمية في الجيش ومسجلا في الدواوين ويتقاضى راتبا قارا يسمى “الرزق” أو “العطاء”. وقد قام العديد من أفرادها بثورات كانت ترمي إلى تعزيز نفوذها وتعميق امتيازاتها على حساب الجميع.

وقد تواصلت تحركات هذه الفئة في القرن التاسع فلم تكن تقبل بحكم الأغالبة التميميين بل تعتبره نوعا من الغصب لشرعيتها التاريخية. وتعد ثورة منصور الطنبذي، التي اندلعت إثر قيام زيادة الله بن الأغلب بقتل بعض رموز الجند العربي البارز في القصرين، أهم خطر فعلي هزّ أركان السلطة الأغلبية.



عقبة بن نافع مثالا:

يمثل عقبة بن نافع الفهري أحد أهم القادة العرب القادمين من المشرق ويعتبر نموذجا معبرا عن الفئة التي ينتمي إليها. ولد عقبة في السنة الحادية عشرة للهجرة في أسرة عربية عريقة من فهر التي تعد بطنا من بطون قريش. وقد ساهم والده في فتح مصر مع عمرو بن العاص وكان من كبار الجند بالفسطاط. لعقبة قرابة عائلية مع والي مصر عمرو بن العاص ويعتقد أن هذه القرابة وكفاءته الشخصية سهلتا عليه الارتقاء والبروز منذ صغر سنه.فلقد أوردت المصادر أنه شارك في فتح بعض المناطق الليبية وقد أبدى في مهمته تلك الكثير من الجد والحزم والشدة، فكان يعامل خصومه بقسوة حادة ويجبر البربر علىبيع أبنائهم لدفع ما عليهم من جزية. عيّن عقبة واليا على المغرب سنة 671 فقام بإنشاء القيروان، معلنا سياسة جديدة تعتمد الاستقرار النهائي وجعل مدينة القيروان معسكرا للمسلمين. فأنشأها بعيدة عن البحر مشرفة على المناطق البربرية في الجهة الغربية مطلة على شمال البلاد التونسية أين توجد عاصمة البيزنطيين قرطاج. وقد رغب في أن يضمن لمعسكره الديمومة فاختار له منطقة تتوفر فيها المياه والعشب في وسط سهل فيضي خصب.

عزل عقبة عن ولاية المغرب سنة 674 م ولكنه أقر من جديد عليها سنة 682 م فقام بفتوحاته الكبرى التي وصلت إلى المحيط الأطلسي والتي انتهت بقتله قرب بسكرة على يد جيش بربري قاده كسيلة.



– عرب إفريقية



تغيرت تركيبة الجيش العربي بمرور الزمن فظهرت فئة جديدة تعرف “بالعرب الأفارقة” وقد كان لهم شعور قوي وصريح بالانتماء إلى المغرب فكانوا يجاهرون برفض سياسة المشرق. وقد برزت بوادر الانشقاق بين الشّام أو المشرق وجيش إفريقية العربي منذ ولاية كلثوم بن عياض، حيث يخبرنا ابن عذاري أن الجيش القادم من الشام سنة 741 م طلب من أهل القيروان أن ” يفتحوا أبواب منازلهم حتى يعرفها أهل الشام” فغضب عرب إفريقية وهددوا بأن يحوّلوا أعنة خيلهم لمحاربتهم عوض محاربة البربر. ولا شك أن هذه الحادثة تندرج ضمن تحول واضح سوف يعبر عنه حفيد عقبة بن نافع عبد الرحمان بن حبيب في نصّ كتبه إلى الخليفة المنصور سنة 755 م يعلمه فيه ” أن إفريقية أسلمت وانقطع السبي منها” وهو ما أغضب الخليفة وولد فتنة كبرى كان لها تأثير سلبي على القيروان وإفريقية. ويمكن اعتبار إبراهيم بن الأغلب، مؤسس الإمارة الأغلبية، من الشخصيات الرمزية المنتمية إلى الجيل الثاني الذي كان واعيا بخصوصيات أهل المغرب واختلافهم عن المشرق الذي بقي في نظرهم الوطن الأم.



إبراهيم بن الأغلب مثالا:



ينتمي إبراهيم بن الأغلب إلى قبيلة بني تميم العربية وقد تقلّد والده الأغلب بن سالم بن عقال التميمي ولاية إفريقية سنة 766 م ولكنه قتل بعد مدة وجيزة من حكمه سنة 768 م من طرف قائد عربي آخر هو الحسن الكندي. انتقل أبناء الأغلب بن سالم إلى مصر وهناك تلقى إبراهيم بن الأغلب العلوم الدينية وتفقه فيها وحذق اللغة حذقا كبيرا. ولئن تنقصنا الكثير من المعلومات عن حياته بمصر إلا أنه أصبح من قادة الجند بها. ويورد البلاذري أنه تزعم انتفاضة دخل فيها بيت المال وأخذ أموالها، وتقول الكتابات المناصرة له أنه لم يستول إلا على ما كان يحق له شرعا. بعد هذه الحادثة انتقل إبراهيم بن الأغلب إلى بلاد الزاب ليحتمي بها من تتبعات الخلافة ووالي مصر. وبالزاب كوّن إبراهيم بن الأغلب جيشا وفيا له، كما استطاع أن يفرض شخصيته على سكان المنطقة وظلّ متربصا بالزاب مخيرا عدم التدخل في الشؤون الإفريقية المضطربة وفي سنة 798 م استغل إبراهيم بن الأغلب الفرصة ليعطي دفعا لعلاقته بالخلافة، فدخل إفريقية لنجدة الوالي المخلوع محمد بن المقاتل العكي، فأعاده لمنصبه رغم المناهضة التي كان يلقاها من أهل القيروان فكسب بذلك ثقة الخليفة. وفي سنة 800 قرّر الخليفة هارون الرشيد، بتأثير من والي إفريقية المتمرس هرثمة بن أعين، إسناده إمارة إفريقية وذلك قبل أن تكون السلطة وراثية في نسله مقابل مبلغ مالي يقدم للخلافة فنشأت أول إمارة مستقلة بإفريقية.



– العبيد والموالي



ضم الجيش كذلك بالإضافة إلى العناصر البربرية التي تطرقنا إليها سابقا العديد من العبيد والموالي الذين كانوا يقاتلون ملحقين بأسيادهم ولم يكن لهم عطاء إلا إذا ” ما أسلموا أو عتقوا”. وقد شكل الموالي الجزء الأساسي من الحرس الأميري الخاص ويكفي أن نذكر أن إبراهيم بن الأغلب كان له ما لا يقل عن خمسة ألف حارس عندما انتقل إلى معسكره الجديد بالعباسية وقد كان انتقل إليها ليبتعد عن خطر” جند العرب”. كما اشترى إبراهيم الثاني )874 م – 903 م( مائة ألف من عبيد السودان والصقالبة وألزمهم بابه وجعل عليهم “ميمونا وراشدا” وهما من أكبر مواليه.

لعب الموالي مع الأغالبة دورا هاما في الحياة السياسية والعسكرية وقد أشرفوا على الكثير من المؤسسات الحكومية مثل دار ضرب السكة، كما أشرفوا على تشديد المعالم الكبرى والحصون. وقد تقلد البعض منهم وظائف عسكرية. وتعتبر شخصية خلف الفتى شخصية مثالية في هذا الصدد إذ أصبح له مركزا هامّا نظرا لسهولة الاندماج والترقّي في المجتمع الأغلبي.



خلف مولى أمراء بني الأغلب مثالا:



لم تشر المصادر إلى تاريخ ميلاد خلف الذي لا نعرف عنه سوى الإسم الذي اشتهر به وهو “خلف” كما لا نعرف المكان الذي ولد فيه ولكن يعتقد أنه ينتمي إلى مجموعة الصقالبة الذين جلبتهم الدولة الأغلبية من أوروبا الشرقية لخدمتها بعد أن تعاظم خطر الجند العربي.بدأ ذكر خلف ” الفتى” أو ” المولى” منذ سنة 818 م مع زيادة الله بن الأغلب. وقد ذكرت المصادر أنه كان يصطحب الأمير في تنقلاته إلى حدود سنة 837 م كما خدم خلف الأمير محمد الأول. وقد تقلد في عهده خطة أساسية في الدولة وهي خطة صاحب ” دار الضرب” ولذلك نجد اسم خلف مسجلا على العملة من سنة 840 إلى سنة 850. بعد ذلك دخل في خدمة أبي إبراهيم أحمد من سنة 856 إلى سنة 863 ويذكر البكري أنه توفي في حصار مالطة سنة 868.

يعتبر خلف من أكبر الموالي البنائين في العصر الأغلبي إذ ينسب له بناء سور سوسة الأول كما ينسب له بناء القصبة ومنارتها التي لا تزال قائمة وتحمل اسمه. وقد مثل بناء قصبة سوسة تحولا جوهريا في نظام الدفاع الساحلي بإفريقية، كما بنى رباط قصر الطوب قرب سوسة والماجل المتصل به وقد يكون حسب بعض الدارسين هو الذي شيد فسقية الآغالبة بالقيروان.

لقد أكدت المصادر التاريخية أن نظام الانتدابات في الجيش كان معقدا، فبالإضافة إلى الجيش الرسمي المرسم في ديوان الجند، هنالك المتطوعة الذين يكثرون في فترة الأزمات والحروب. وغالبا ما يتم التطوع لمهمة معينة في وقت محدود، ولم يكن هذا الصنف يتقاضى أجرا. كما لجأت الدولة في بعض الأحيان للتجنيد الإجباري لعدد من الشبان الذين يلزمون بتأدية الخدمة العسكرية. وقد بلغ أسلوب التجنيد القصري حده في العصر الفاطمي ولكنه وجد منذ العصور السابقة. كما كان يسمح للجند المدوّن والمرابط بالتداول والتناوب في العمل فيمكن لشخص معين أن يأتي بمن يعوضه لأمد محدود.

ديوان الجند

نظم الجيش في مؤسسة كبرى تعرف ” بديوان الجند” وتطور نظام الديوان من التبسيط إلى التعقيد، فقد كان في البداية شبيها بالسجل الذي يدون فيه المقاتلة وتحدد فيه مقادير أرزاقهم ثمّ أصبح فيما بعد إدارة معقدة الدواليب تشرف على كل ما يتصل بالدفاع والحرب في فترة السلم وكذلك في فترات الحروب التي كانت كثيرة.

يتولى الأمير الإشراف بنفسه على” ديوان الجند” الذي كان مقره الأساسي القيروان قبل أن ينتقل إلى العباسية مثل أغلب الدواليب الإدارية للدولة. وكان الأمير يعول على أقربائه وأفراد عائلته والمقربين منه الذين ينتخب منهم عادة ” صاحب الديوان ” وهو المسؤول المباشر على متابعة أمر الديوان وتحيين معطياته سواء بتسجيل الملحقين الجدد بالخدمة العسكرية أو بشطب من مات أو غادر، وهو ما اصطلح عليه آنذاك ” بالحلق”. وقد كانت عمليات التسجيل في الديوان تتم بعد التحري ومعاينة المكتتب فيقع وصفه بدقة في السجل حتى لا يتم خلط بين الأشخاص.

كانت عمليات الشطب من الديوان تنجز في بعض الأحيان لمعاقبة شخص ولحرمانه من العطاء. فلقد قام زيادة الله الثالث في نهاية العهد الأغلبي بحرق الدواوين بعد أن تيقن من زوال حكمه، وقام الداعي الفاطمي عبد الله، مباشرة بعد أن استتب الأمر للفاطميين، بإنشاء ديوان لكتامة وألزم من سجل منهم فيه الخدمة العسكرية. وفي فترة لاحقة قام إسماعيل المنصور ” بإسقاط جماعة من الزمني ومن لم يرض بصحته”.) وقد تعني كلمة الزمني المرضى المزمنين أو أولئك الذين مر عليهم زمن طويل وهم مسجلون في الديوان ولم يكونوا من المباشرين الفعليين(.

ومن مهام ” صاحب الديوان” أنه يتولى أيضا صرف جرايات الجيش ومستحقاته. وكثيرا ما كان تأخيرها أو تعطيلها يحدث اضطرابات وثورات كما كان صاحب الديوان يستعين بالكتاب والقواد الصغار في هذه المهام.

كان العطاء يمنح في البداية إلى المقاتلين العرب دون تمييز وكان نصيب الراكب أكثر من نصيب الجندي الراجل. غير أن نظام العطاء تغير في العصر الأغلبي فلم يعد ” الرزق” يمنح إلا للجند الرسمي الذي يضم الموالي والحرس الخاص والجيش المباشر المدون في السجلات.

يستعين “صاحب الديوان” في مهمته بقواد منتشرين في الجهات يقومون بالشأن المباشر للعسكر في الأقاليم ويتولون نيابة الأمير في مقاطعهم وهو ما يعرف في الشرق ” بالعرفاء” ولكن المصادر المتعلقة بتاريخ إفريقية لم تشر إلى هذه الخطة. ويبدو أن المدن الهامة والثغور الكبرى كانت لها دواوينها التي يعين عليها الأمير من يديرها. وقد أوردت المصادر أن طبنة، وهي من أهم المناطق العسكرية بإفريقية الأغلبية، كان لها عامل إلى جانب قائد العسكر وصاحب الخبر وصاحب العطاء. ولا شك أن تجزئة المهام بهذا الشكل ضمان لسلطة الوالي.

يفيدنا اليعقوبي، وهو من كتاب القرن التاسع الميلادي، أن التنظيم الإداري المجالي لإفريقية كان متطورا يعتمد إدارة مزدوجة: مدنية وعسكرية في نفس الوقت. فلقد قسمت إفريقية إلى عدد من الولايات المدنية التي تعرف ” بالكور” وأقاليم عسكرية سميت ” بالأجناد”. ولا ريب أن هذا النظام الثنائي موروث من التجربة الإدارية البيزنطية المشرقية التي عرفت في القرن السابع ” الثيمات” وهي ” الأجناد” و ” الكور” وهي الولايات أو المقاطعات المدنية كما كانت تسمى بالإغريقية.

كان عدد ” الأجناد” بإفريقية الأغلبية أربعة أما عدد ” الكور” المدنية فكان أكبر بكثير ويكفي أن نذكر أن كور إفريقية وطرابلس وبلاد الزاب بلغ ما لا يقل عن عشرين كورة، (والقيروان كورة ثانية وباجة وجزيرة شريك وصطفورة وقمودة…) وقد يعني هذا اتساع مجال الإدارة العسكرية مقارنة بالإدارة المدنية. فكان لكل ” جند” مركزه وأقاليمه التابعة له. ونذكر من الأجناد:

1-جند تونس ويشمل جزيرة شريك (الوطن القبلي) وباجة وطبرقة وصطفورة(بنزرت)

2- جند القيروان ويشمل قمودة وقصطيلية وقفصة وقابس ونفزاوة.

3- جند طرابلس ويضم فزان وزويلة.

4-جند الزاب ويشمل طبنة وميلة وبغاية ونقاوس وبلزمة وستيف ومقرة.



المعالم العسكرية: الأربطة ودور الصناعة:

تغيرت الظرفية السياسية والعسكرية بالمغرب منذ القرن الثامن الميلادي بعد أن تمكن العرب المسلمون من بسط سيطرتهم على الحوض الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط. فكان لزاما على الدولة العربية أن تحصن سواحلها خشية من الهجمات البيزنطية على ممتلكاتها فأقام العرب على امتداد السّاحل وبحافز من الخليفة هارون الرشيد، سلسلة من الحصون والقلاع عرفت بالأربطة لحماية دولتهم من خطر المسيحيين. ولئن كان الكثير من القلاع موروثا عن الفترات السابقة إلا أن المجهود التعميري العربي في هذا الباب يعتبر فريدا من نوعه. والواقع أن نظام التحصين العربي بإفريقية يختلف عن ذاك الذي كان سائدا من قبل في العهد البيزنطي.

ففي هذه الفترة الأخيرة شيد البيزنطيون، بسرعة فائقة، العديد من الحصون والقلاع التي لا تزال قائمة ترى آثارها اليوم وقد أنجز جلها في المناطق الداخلية من البلاد التي كانت تعاني انتفاضات القبائل البدوية البربرية. أما العرب فقد اتجهت عنايتهم إلى السّواحل باعتبار أن الخطر الأساسي المتربص بهم هو الخطر المسيحي الذي كان ينطلق من الجزر القريبة من البلاد التونسية.

طوّع المسلمون العديد من المعالم والقلاع القديمة واستغلّوها منذ عصر الولاة الأوائل. ولعل أبلغ مثال على ذلك ماروي عن رباط رادس القريب من تونس. ولكنهم أنشأوا بدورهم الكثير من القلاع والحصون. وقد بلغت سياسة التحصين أوجها مع الأغالبة وبالتحديد في عهد أبي إبراهيم أحمد الذي يذكر ابن خلدون أنه أمر ببناء عشرة آلاف حصن من الحجارة مزودة بأبواب الحديد. ولإن كان هذا الرقم مبالغ فيه إلا أنه يعبر عن المجهود الجبار الذي بذل لحماية سواحل الإمارة من الخطر المسيحي. وقد بينت الاستكشافات الأثرية فعلا كثافة عدد الأربطة التي أقيمت على كامل امتداد ساحل إفريقية في كل المناطق تقريبا وفي جميع الأماكن الاستراتيجية الحساسة.

ارتبطت مؤسسة الرباط بالمذهب السني الذي انتشر بإفريقية، فكان العديد من علماء السنة يحثون على المرابطة في الحصون والتنقل بينها لتعميرها، بل سكن الكثير منهم الذين لهم تأثير مباشر في المجتمع، هذه الأربطة. ولا شك أن التقارب مع السنة هو الذي دفع بعبيد الله المهدي أن ينزع سلاح الحصون التي كانت على الساحل خوفا من خطرها على دولته الفتية. ويمكن أن نعتبر العهد الفاطمي الشيعي بداية التحول الوظيفي الذي عرفه الرباط إذ تقلص الدور الجهادي وانتشر التزهد والنسك.

ومع ذلك فلا يجب أن يتبادر إلى الذهن أن الأربطة كانت مثل الثكنات العسكرية. فلقد بين الأستاذ ناجي جلول أن أغلب الحصون كانت تمتلك حمى، أي أراضيا زراعية مخصصة لها من قبل المرابطين ذاتهم. وقد بلغت هذه الأحمية في بعض النواحي مساحات شاسعة من ذلك أن قصر زياد، قرب صفاقس، كان له حمى يشتمل على حوالي 17000 شجرة زيتون. كما أشارت كتب الفتاوى إلى قيام مرابطي قصر المنستير بصيد الأسماك واستعمال غرف الرباط كمخازن لبضائع التجار.

إلى جانب هذه الوظائف لابد أن نظيف دورا آخر لعبته قلاع الساحل وهو دور الفنادق التي تقام على الطريق والتي يؤمها المسافرون التجار وغيرهم أثناء سفرهم للراحة والتزود بالمياه والعدة.

أمّا من الناحية المعمارية فقد استقر تخطيط الأربطة على شكل يكاد يكون موحدا. ففي غالب الأحيان كان الرباط مربع الشكل متوسط الحجم، يتراوح قياس أضلعه ما بين 30 و40 م. وتحيط بسوره الخارجي أبراج دائرية، وعادة ما تخصص الجهة البحرية للمنارة التي تأخذ شكلا اسطوانيا.

يحتوي الرباط بصفة دائمة على مدخل واحد يكون على شكل سقيفة ممتدة يحيط بجانبيها غرف للعسس تعلوها قبة تأوي السقاطات والباب المنزلق وتفضي السقيفة إلى ساحة وسطى تحيط بها غرف المرابطين وبيوت الراحة والاستحمام والمخازن.

أما الطابق العلوي فإنه يشتمل على مسجد صغير يحتل دائما الجهة القبلية من المعلم كما يشتمل على عدد آخر من الغرف التي توزع على بقية الأجنحة.

تبيّن الأمثلة أن غرف المرابطين كانت بسيطة جدا، فهي صغيرة الحجم مابين 6 و8 أمتار مربعة، تحتوي على طاقة صغيرة يودع فيها المرابط متاعه، كما تزود بفتحة صغيرة تطل على الجهة البحرية التي يأتي منها الخطر.

هذا المثال العام والبسيط هو الذي يمكن أن يشاهد في جل أربطة البلاد التونسية، وهي البلاد العربية الإسلامية الوحيدة التي حافظت أحسن من غيرها على هذا الشكل من القلاع، فمن الأربطة التي نسجت على هذا التصميم نذكر الرباط الذي شيده والي إفريقية من قبل هارون الرشيد هرثمة بن أعين بالمنستير سنة 798م، كما نذكر رباط سوسة الذي وإن بني على أنقاض معلم روماني قديم، فقد شهد تحويرات جذرية في العصر الأغلبي وبالتحديد سنة 821 م حين قام مسرور خادم زيادة الله بإصلاحه وإضافة الطابق العلوي قبل فتح صقلية بست سنوات.

وعلى هذا المثال بني رباط لمطة قرب سوسة ورباط ابن الجعد بجزيرة الغدامسي بالمنستير ورباط دويد بنفس المدينة والأمثلة أكثر من أن تحصى. كما يعتقد أن قصبة مدينة سوسة كانت في بداية أمرها على هذا النمط رغم أنها زودت بمنارة فريدة اعتمدت شكل البرج المربع المتراكب الأجزاء على غرار مئذنة جامع القيروان. وقد استفادت قصبة سوسة بشكل واضح من ارتفاع التل الذي أقيمت عليه، ولذلك تسنى تشييدها بعيدا عن البحر، وهو ما لم يكن مألوفا من قبل، فقلصت القصبة المنسوبة لخلف دور الرباط الأول الذي يقع في المنطقة الساحلية من المدينة على مشارف الميناء ودار الصناعة.

كان الدور الأساسي للرباط حماية الساحل خاصة في المناطق التي يقل فيها السكان.أما المدن، التي يعتقد أنها كانت موضع التركيز السكاني الكبير، فقد كانت في غالب الأحيان مسورة. والواقع أن تحصين المدن من العادات القديمة في التمدن. وقد ورث العرب عند استقرارهم بإفريقية الكثير من المدن المسورة فحافظوا على أسوارها ودعموها. ويمكن أن نذكر على سبيل المثال كل من تونس وباجة والكاف وغيرها. ولكنهم سوروا كذلك المدن التي شيدوها. فلقد بني سور القيروان الأول في بداية العصر العباسي، من لبن وطين، حتى يتمكن العرب من التصدي للخطر البربري المحدق بهم. كما زودت مدينة العباسية أيضا بسور وخندق لحمايتها. وشيدت مدينة صفاقس في العهد الأغلبي سنة 848 م منذ البداية محمية بسور من حجارة وطوب. ونفس هذا الاختيار نراه في مدينة سوسة التي لا تزال إلى اليوم تحافظ على سورها الأغلبي مثلها مثل مدينة صفاقس.

لم يكن المجهود الحربي العربي يقتصر على حماية الساحل والمدن فقط بل كان يعتمد أيضا إنشاء قوة بحرية قادرة على مواجهة الخطر الأوروبي. ولذلك كان لا بد من تقوية الجيش البحري وتزويده بالسفن وتمكينه من موان آمنة.

المواني ودور صناعة السفن:

ورث العرب عن الفترات السابقة بنية تحتية كثيفة من المراسي والمواني المهيأة. ومن أشهر المواني القديمة التي وقع إعادة استخدامها نذكر بالخصوص مواني رادس وطبرقة وقليبية وميناء سوسة الذي طوره المسلمون واستخدموه في فتوحات جزيرة صقلية على وجه الخصوص. غير أن الحقبة الأولى شهدت بناء ميناء ودار لصناعة السفن بمدينة تونس. واختلفت المصادر العربية في صاحب هذا المشروع الضخم، فنسبه البعض إلى حسان والبعض الآخر إلى موسى بن نصير، إلا أن الجميع يثني عليه ويعتبروه من أهم المنشآت العربية بإفريقية. تم البناء باعتماد يد عاملة قبطية مسيحية جلبت من مصر، وهي بلاد لها تجربة متقدمة في صناعة السفن وإنشاء المواني بحكم تاريخها البحري العريق. ويقدم نص البكري، وهو من الكتاب الأندلسيين الذين يعتمد بمقالهم، أحسن وصف لميناء مدينة تونس التي كانت كما نعلم ثاني أهم مدينة إفريقية بعد القيروان وقد جاء في كتاب المسالك والممالك:” أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أخيه عبد العزيز وهو والي مصر أن يوجه إلى معسكر تونس ألف قبطي أهله وولده وأن يحملهم من مصر ويحسن عونهم حتى يصلوا إلى ترشيش وهي تونس. وكتب إلى ابن النعمان أن يبني لهم دار صناعة تكون قوة وعدة للمسلمين إلى آخر الدهر، وأن يجعل على البربر جر الخشب لإنشاء المراكب ليكون ذلك جريا عليهم إلى آخر الدهر وأن يصنع المركب بها ويجاهد الروم في البر والبحر وأن يغار على سواحل الروم فيشتغلوا عن القيروان… فوصل القبط إلى حسان وهو مقيم بتونس فأجرى البحر من مرسى رادس إلى دار الصناعة وجر البربر الخشب وجعل فيها المراكب الكثيرة وأمر القبط بعمارتها”.

هكذا إذن، بدأ العرب في خوض تجربة النهوض بجيش البحرية وقد نجحوا في ذلك فكونوا في القرون الموالية قوة تمكنت من كسر سيطرة الروم البيزنطيين على البحر المتوسط بل تجاوزوها وحققوا عديد الانتصارات خاصة مع الفاطميين الذين كانت لهم سياسة بحرية متطورة.



المصادر والمراجع

– ابن عذاري، البيان المغرب، في. كولان ولفى برونفنسال، بيروت 1983

– البكري، المسالك والممالك، في، فاليوفن وفيري، تونس 1992

– المالكي، رياض النفوس، في، البكوش، بيروت 1983

– ناجي جلّول، الرباطات البحرية بإفريقية في العصر الوسيط، تونس
1999​
 
الجزء الثالث

العهدان الفاطمي و الزيري:

الجيش الفاطمي:

كانت نواة هذا الجيش الأولى متكونة من أفراد قبائل كتامة التي اعتمد عليها أبو عبد الله الشيعي في تقويض الدولة الأغلبية. وقد لعب دورا أساسيا في إخماد الثورات الداخلية وتدعيم السياسة التوسعية للفواطم. وإلى جانب العساكر البرية والبحرية أحدث العبيديون منذ عهد المهدي نظام استخبارات عسكرية محكم يديره خبراء ديواني الكشف والبريد. وكانت قوصرة والمهدية أهم مراكز الحمام الزاجل الذي يؤمن المراسلات بين سفن الأسطول والقواعد العسكرية
.


العساكر البربرية – الصقلبيّة:

كان الجيش الفاطمي جيش أنصار إذ كان الكتاميون، أو “الأولياء” كما تنعتهم المصادر الشيعية، عموده الفقري والعنصر المتفوق داخله. ويذكر القاضي النعمان أن عسكر القائم كان يعدّ 70.000 مقاتل ينتمي 50000 منهم إلى هذا القبيل البربري.
وكان الروافض الأوائل في حاجة إلى عصبية يستندون عليها في توطيد أركان حكمهم فاعتمدوا منذ خلافة المهدي على بربر القبائل الصغرى وعهدوا لقبائل سكتان وجملة ولهيصة وملوسة ومطوسة بالقيادات الهامة وحبوها بأهم الإقطاعات وأعلى الرواتب. وبهذا حوّلوا هؤلاء البرابرة المغمورين من مزارعين إلى بناة إمبراطورية ضخمة. وقد تواصل هذا الدور القيادي إلى نهاية الفترة الإفريقية. وتذكرا المصادر أن جوهر توجه قبل حملة مصر إلى بلاد كتامة لحشد الجند والمتطوعة. وقد أكد ابن خلدون على دور الإيديولوجية الإسماعيلية في هذا التحول وأشاد بتماسك عصبية كتامة وخصالها القتالية الاستثنائية. وسطع نجم جيرانهم من البربر، خاصة صنهاجة وزواوة، لما أنهكت الحملات شرقا وغربا قوى كتائب كتامة وأبعدها فتح مصر عن أوطانها.

كان الصقالبة أيضا ” سيف الدولة” ومواليها وأنصار الساعة الأولى. وكانوا منذ خلافة المهدي يمثلون نخبة عسكرية محترفة متمرسة بأساليب القتال يعهد إليها بتأطير الكتائب إبان الغزوات والقيام بأعمال التقويض والهدم الشاقة أوقات الحصار. ومنهم كان الخليفة ينتقي حرسه الخاص وحاميته خلال المعارك، ويعود لقوادهم شرف حمل المظلة شارة الحكم ورمز الإمامة. ويقع جلب هؤلاء المقاتلين من بلاد البلقان ومنطقة الفولجا حيث يتولى جيرانهم من البلغار بيعهم ومن البندقية. وإلى جانب الصقالبة من الموالي نجد صقالبة من المماليك يحاربون على حدة بقيادة أحد أبناء جنسهم. وكانوا، مثل كتامة، تحدوهم روح العصبية والتضامن الجنسي لكن يمتازون عن البربر بانعزالهم داخل المجموعة الإفريقية وبأواصر الولاء المطلق التي تربطهم بشخص الخليفة وهو ما جعلهم يحتكرون أغلب القيادات منذ عهد المنصور.

سطع نجم العديد من الضباط الصقالبة مثل ميسور الذي تمكن من فك الحصار الذي ضربه صاحب الحمار على المهدية. وكبّده الحسن بن رشيق الريحاني أمام سوسة أولى هزائمه وكسب بشرى وقدام معركتي القيروان وباب سلم ومهّدا الطريق لانتصار صبرة. وأمّن قيصر ومظفر فيما بعد مناطق الزاب والأوراس فأسند لهما المنصور شؤون مقاطعات طرابلس وبغاية.

ويعتبر جوهر الصقلبي الكاتب أعظم قائد عسكري عرفه الفاطميون والمغرب العربي في العصر الوسيط. فقد لفتت إليه حنكته الأنظار منذ عهد المنصور وأصبح زمن خلافة المعز “وزيرا للجيش” ورمزا لنجاحاته الحربية فأنزله هذا الأخير منزلة خاصة وأمّره على أسياد كتامة وصنهاجة وبني حمدون. وقد حفظت لنا الحوليات الشيعية والسنية أخبار حملته المغربية الأولى التي دامت سنتين (958 – 960 م) حيث انطلق من رقادة على رأس جيش غفير فأجتاز المغرب الأوسط وقضى على فتنة يعلي اليفرني، ثم توجه إلى فاس ومنها إلى سجلماسة حيث أنهى تمرد ابن واسول وضرب عملة جديدة ومنها عاد إلى قاعدة الأدارسة فأمنها وترك على رأسها قائدا فاطميّا وبعث للمعز بجرار تحتوي على عدة أصناف من حيتان الأطلسي ثم قفل راجعا إلى صبرة (960 م) بعد أن مهّد الطريق أمام غزو الأندلس. وفي سنة 968 م قاد حملة ثانية مظفرة ضد بربر التافليلات وقبلها بثلاث سنوات بدأ في الإعداد لغزو مصر.

استغرق فتح مصر (969 م) مدة قياسية لا تتعدى أربعة أشهر ذلك أن جوهرا أمن لها باكرا كل مقومات النجاح، فقام بحشد 100.000 مقاتل وأعد 1000 صندوق من الذهب (24000000 دينار) وأمر عامل طرابلس بحفر الآبار وتشييد الإستراحات على طول الطريق الصحراوي الرابط بين الإسكندرية ورقادة.
ومن القاهرة وجه كتائب كتامة لفتح فلسطين وسورية(970 م).
ويمثل العبيد الزويليون السود المجموعة العرقية الثالثة وينسبون إلى زويلة قاعدة إقليم فزّان.
وكانوا يؤلفون داخل الجيش الفاطمي فيلقا خاصا من المشاة بقيادة واحد من أبناء جنسهم. وقد برزوا منذ خلافة المهدي وشاركت إحدى فرقهم في الحملة الأولى على مصر سنة 914 م حيث أبلت البلاء الحسن قبل أن ينكّل بها القائد العباسي مؤنس. وأشاد النعمان بجلد وصبر الزويليين الذين كانوا يشكلون في عهد المنصور عدّة فرق من المشاة الممتازة التي تتحمّل وطأ المصادمات مع خيالة العدو ويعهد إليها بأعمال الحصار الشاقة والخطرة مثل تسلق الأسوار وهدمها.

كان للعنصر العربي (أهل إفريقية) بعض الأهمية أيام المهدي والقائم، وقد شاركت أجناد برقة وطرابلس في الحملات المصرية الأولى وساهم جند ميلة في تأمين بلاد الزاب. وينتمي إلى هذه الأجناد بنو حنزير وبنو حمدون وكذلك العائلة الكلبية بصقلية التي كانت لها اليد العليا على شؤون البحرية الفاطمية. وقد تراجع دور العرب بداية من عهد المنصور لحساب الصقالبة وبني زيري.
وكان خلفاء المهدية يسهرون على تضامن عناصر هذا الجند ودرء التناقضات العرقية داخله. فبعد فتحه لدمشق قام القائد الكتامي جعفر بن فلح بإرسال البريد إلى صبرة فأرجعه المعز وأمره بمكاتبته عن طريق جوهر القائد الأعلى للحملة.

القيادة والعمليات الحربية:

كانت قيادة الجيش من مشمولات الخليفة وقد قام المنصور بملاحقة أبي يزيد. وكان غالبا ما يعهد بهذه المهمة لولي العهد أو لأحد قواد الصقالبة. وتتألف القيادة العليا من ثلاثة ضباط كبار: قائد الأعنّة (الخيالة)، قائد المشاة ومقدم الأسطول(متوكل البحر)، أما الوحدة الرئيسية فقد كانت (العرافة) على رأسها عريف.
وقد قسمّ الداعي عساكره منذ فترة إيكجان إلى سبعة أصابع (فيالق) تحت قيادة مقدم أو شيخ .
وذكر إبن عذاري أن الجيش الذي إحتل رقادة كان مؤلفا من من سبعة أصابع تعد 30.000 مقاتل. وقد تواصل العمل بهذا النظام في العهد الحفصي إذ أصبح رقم سبعة المقدّس لدى الشيعة السبعية طالع خير لدى كل شعوب المغرب. وكان الكتاميون في آن واحد جيش أنصار وجيشا محترفا موزعا على عدة أجناد يتمتعون، عدا الإقطاعات، بجراية شهرية (رزق، 500 إلى 1000 دينار)، يشرف على توزيعها ديوان الجند الذي يديره قائد من بني جلدتهم ويضمّ ثلاثة أقسام: قسم الأجناد، قسم الإقطاعات وقسم الرواتب.
وقبل كل حملة يتوجه ” قائد حاشد” إلى القبائل الصغرى(دار الهجرة) لتجنيد المقاتلين ثم يقع تجميعهم وتأطيرهم برقادة أو المهدية. وتزود كل كتيبة براية خاصة. وتكون راية المقدم وخيمته خلال الحملات التأديبية حمراء. كانت الفيالق تتقدم حسب نظام معين وبنسق ملائم للمشاة (حوالي 30 كلم في اليوم). متبوعة بأمتعتها المشتملة على خيامها وآلاتها الحربية (الأثقال) التي تحملها البغال والجمال ضمن كوكبة المؤخرة (الساقة). وعني الفواطم عناية خاصة بتأمين خطوط التموين التي غالبا ما كانت تحدد مصير المعارك. وكان الجنود يحملون معهم أيضا بعض المواد الغذائية الضرورية في مخالي الخيل أو الجراب (جبن، بصل، لحوم مقددة). وجهز جوهر قبل حملة مصر سروج الخيل بقرابيص بطنها من صفائح قصدير لخزن المياه.
وكانت الخيالة التي تعتبر أهم قوة خلال المعارك تغلب على الجيش الفاطمي ويتقاضى أفرادها ضعف جرايات المشاة. وقد اشتهر الكتاميون منذ القديم بحذقهم للفروسية إذ تعودوا منذ الصغر على القتال على صهوة جيادهم المتحركة والسريعة المجهزة بالسروج العالية والركب القصيرة. وكانوا خلافا لفرسان النصارى لا يترجلون لخوض المعارك مما يعطي لهذه الكتائب كثيرا من الحركية. ويتكون سلاح الفارس عادة من رمح للطعان وسيف للجلاد ودرقة. وذكر ابن أبي زيد القيرواني في النوادر والزيادات أن المطية ” كانت تكسى بالتجاذيف من جلود السباع للتهيب بها”. ولحمايتها من النيران تغطى بأكسية مبطنة باللبود المطلية بطلاء مصنوع من الصمغ والمغرة والبيض والخلّ.
وكانت كتائب المشاة المجهزة بالسيوف والرماح والدرقات تتحمل وطأة الالتحام مع فرسان العدو في ساحة الوغى. وتذكر رسائل جوذر أن الجيش الفاطمي كان يملك فرقا خاصة من القوّاسين وأخرى مختصة في القتال بواسطة القذافات والمجانيق والدبابات.

الخطة القتالية:

تحولت الحرب في العهد الفاطمي إلى حرب مواقع وأصبحت الخطة القتالية (تعبئة الزحف) تتمثل في جملة من العمليات المعقدة. يقوم القائد قبل كل شيء باختيار موقع معسكره في مكان محصن بحفير دفاعي يحميه الحسك الشائك المصنوع من الخشب والحديد ومنه يمكنه مراقبة العدو أو إخراجه من مكامنه.
وحشد جوهر جيوشه في موقع يحميه غربا وشرقا النيل وجبل المقطم حصنه بخنادق عميقة ومتتالية. وتعتمد العمليات التي توجه حركتها الخيالة على عادة الكر والفر كما يقع جر العدو إلى ميدان معين والقيام ببعض المناورات والتحركات الدائرية لأخذه من الخلف أو محاصرته.
ويقع تقسيم العساكر أثناء المعارك إلى خمسة أجنحة: الطليعة، القلب، الميمنة، الميسرة والساقة. وخلال حملة 315 هـ جعل القائم القلب مؤلفا من جملة والميسرة من أجانة وجند إفريقية والميمنة من ملوسة الساقة من لهيصة. وفي موقعة مقرة دعم المنصور قلبه بكتامة والصقالبة وجند برقة وأوكل قيادة الميمنة لجعفر بن علي وبشرى(لهيصة، جند المسيلة والصقالبة) في حين كانت الميمنة مؤلفة من جند الجزيرة(الوطن القبلي).
وتتكون الطليعة عادة من الفرسان ويكمن دورها في القيام بعمليات الكشف والمناوشة والمهمات البعيدة عن موقع القسم الأكبر من العسكر مثل تتبع الفارين. وتنطلق الخيالة من الميمنة ومن الميسرة للقيام بالهجمات المباغتة والمتكررة والإطباق على مشاة الخصم. أما الساقة فقد كانت تتألف غالبا من حشود الرجالة وكان دورها يتمثل في تأمين خطوط التموين وحماية مؤخرة الجيش لمنع عمليات المحاصرة. ويوجد وراء المقاتلين سد من الإبل يتخذ ملجأ للخيالة في كرهم وفرهم ويمنع المشاة من الفرار وقت الشدة. وعندما تنفذ قرب المياه تنحر هذه البهائم لإستغلال مخزون المياه الموجود داخل معدها. ويقاتل القائد عادة ضمن الصف الثاني أي القلب ويتكون هذا الجناح من محور من المشاة والفرسان وجنائب من الخيالة الصقلبية الممتازة التي يمكن لها أن تصمد وتحرز على الانتصار بعد هزيمة الأجنحة الأخرى. وكان قواد الفواطم يلجؤون في بعض الأحيان لتكتيك “الكراديس” الذي شاع استعماله منذ العصر الأموي ويحوّرون باستمرار خطتهم القتالية خلال عمليات الحصار التي تلعب فيها كتائب المشاة دور هامّا. كما كانوا يعمدون إلى قطع طرق التموين المعادية ويحيطون القلاع والمدن المحاصرة بالخنادق لمنع وصول الإمدادات وإحراق المزروعات وطمس الآبار، كل ذلك لإنهاك العدو قبل الشروع في دك الأسوار بواسطة المجانيق والعرّادات.

الأسلحة والآلات الحربية:

تؤكد سيرة جوذر أن أغلب الأسلحة المتداولة بإفريقية كانت تصنع بدور صناعة المهدية وسوسة وبلرم. وكانت تحفظ في خزائن خاصة مشيدة داخل القصور الفاطمية التي كانت تحتوي أيضا على مخازن للبنود والخيام والمؤونة يديرها أحد قواد الصقالبة. ورغم ندرة الوثائق المصورة فإن النصوص التاريخية والفقهية مثل مؤلفات القاضي النعمان والداعي إدريس وابن أبي زيد القيرواني تعج بالإشارات إلى عتاد العساكر واستعمالاته. كما ترك لنا مرضي بن علي بن مرضي الطرسوسي (ت. 583 هـ/ 1193 م) مؤلفا نظريا حول الأسلحة زمن صلاح الدين الأيوبي(تبصرة أرباب الألباب في كيفية النجاة في الحروب من الأسواء)، وهي أسلحة كان أغلبها متداولا بالمغرب ومصر في العصر الفاطمي.
وكانت الأسلحة الدفاعية من دروع وزرود معدنية وبيضات وغفارات معدنية كثيرة الانتشار وكان أهمها الترس وهو سلاح دفاعي يسمى في الغرب عادة بالدرقة يتخذ لحماية الجندي من النبال والرماح والسيوف. ويستعمل الفارس الترس المستطيل لأن حجمه يمكنه من وقاية الأجزاء العليا من الجسم في حين يحتمي المشاة وراء درقة مستديرة تسهل انزلاق الرمح إذا أصابها.
تدل تصاوير الحوانيت البروتوتاريخية أن التروس المعدنية كانت منتشرة بتونس منذ العهد البوني، وكان بعضها يصنع من خشب التين القابل للتمطط. على أن العهد الفاطمي شهد تطورا ملحوظا للدرقة اللمطية التي كان يحتمي بها المشاة والخيالة على حد السواء. وتتخذ من جلد اللمط وهو فصيلة من الأبقار الوحشية التي توجد مراعيها جنوب المغرب الأقصى. وذكر الأدريسي أن “لاشيء أبدع منها ولا أصلب منها ظهرا ولا أحسن منها صنعا وبها يقاتل أهل المغرب لحصانتها وخفة محملها.” وكانت هذه التروس تصنع بنول لمطة بالتافليلات وكذلك بالمهدية والقيروان حيث كان لقب الدراق (صانع الدرق) شائعا. وقد حفظت لنا جبّانة الجناح الأخضر بالقيروان قبرية ابن الدرّاق(ت. 399 ه). وكانت هذه المادة اللينة قابلة للزخرف والدرق تكسى بالزخارف الهندسية والنباتية. كما كانت تصدّر نحو أوروبا المسيحية حيث حافظت على تسميتها العربية (Daraga الفرنسية).
أمّا الدرع فهي رداء يقي مرتديه من ضربات السيوف وطعنات الرماح ورشقات السهام. وكان حلمها يقتصر في العهد الأغلبي على القوّاد. ولكن الجندي الكتامي العادي أصبح في العصر الفاطمي يكسي جسمه بالدروع ويغطي رأسه بالخوذات. وتتكون الدرع الكاملة من الجوشن والخوذة والغفارة والسيقان والأكتف، وتصنع بعض أجزائها من جلد اللمط. ويقي الجوشن الصدر والظهر وتغطي الغفارة من الزرد القلنسوة أو الخوذة المصنوعة من النحاس أو الحديد المثقوب.
أما الكزاغندة (ج. كزاغندات) فكانت تحشى بالحرير والقطن وتلبس فوق الزردية. ويستدل من أشعار ابن هانئ أن هذا الرداء كان يزوق بأبيات من القريض يكسى بالزخارف النباتية والحيوانية.
كان السيف والرمح أكثر الأسلحة الهجومية انتشارا ويعتبر السيف أشرف وأنبل أدوات القتال. ويمثل الحسام أو الصمصام سلاحا مستقيما، وقاطع غمده مصنوع من الخشب يحمله المشاة على الأكتاف ويضعه الفرسان تحت سيقانهم. وقد امتازت المهدية بجودة سيوفها المزخرفة ومنها المهند واليماني والإفريقي والدمشقي. وكان بعضها محدبا على شاكلة القلجوريات التركية.
وكانت الرماح أيضا سلاح المشاة والخيالة على حد السواء، وهي بدورها متنوعة ومتعددة الاستعمالات إذ نجد الرماح الطويلة والرقيقة والحراب القصيرة. ويتخذ أجودها من شجر الدردار الأسود الثقيل وتزود بأسنة من حديد، ويشكل المزراق رمحا طويلا وقصيرا ) لا يتجاوز طوله ثلاثة أذرع ( يمكن قذفه باتجاه العدو. وتكون الحرب والسمراء أطول وتصنع رماح القنا والقنطارية من شجر الزان أو من القصب المجلوب من الهند. وتمتاز السبربرات بأسنتها العراض، أما العترة(رمح صغير) فيلجأ إليه المشاة ساعة الالتحام مع العدو.
وكان الخنجر كثير التداول، يشد على الذراع الأيسر ويوثق بخيط وفقا لعادة بربرية قديمة.
وتذكر مصادر العصر عدة أنواع من الفؤوس، مثل الطبر واللتّ، ومن الدبابيس(الأعمدة) الحديدية ذات الرؤوس المضرسة المدورة أو المضلّعة الملبسة بالكميخت والتي ينتفع بها في قتال لابس البيضة. وكانت البلطة مخصصة لمشاة الحصار.
أمّا القوس المعروف منذ القديم فهو مخصّص للمشاة ويستعمل خاصة إبان الحصار. وتمتاز عدّة المقاتل الكتامي بنشابها البرنزي المزخرف وسهامها المعدنية المثلثة. كما شاع استعمال القذافة اليدوية التي تقذف الحصى. وكان الرماة الأفارقة يوجهون سهامهم ثم يحتمون وهم جاثون أو ممددون على الأرض وراء درقاتهم التي يديرونها فوق رؤوسهم، وبعد ذلك ينهضون ويهاجمون العدو.
خصّص ابن أبي زيد القيرواني في النوادر والزيادات فصلا في ” رمي العدو بالنار والمجانيق” محددا بعض الشروط الأخلاقية والإنسانية عند استخدامها. وترك لنا صاحب ” رسائل الهند ” بابا ” في النفط وكيفية استعماله والوقاية منه”.
ويستخدم المنجنيق عادة في مهاجمة الحصون والقلاع وينصب عندما يكون الجنود على مشارفها. وترمى بواسطة هذه الآلة القذائف الحجرية (أو الرخامية) الضخمة وقدور النفط والكرات الملتهبة الحارقة. وتذكر مصادرنا عدة أنواع من المجانيق(العربى، الفارسي، الرومي، الإفريقي)وتتألف كلها من عدة قوائم خشبية تتصل في أعلاها بعارضة بها ثقل عاكس يسمى الصندوق في حين تحمل الكفة المقذوف.
ومن آلات الحصار أيضا العرّاضة(العرادة) وقوس الزيار. وتستخدم الدبابة لولوج المدن والمعاقل بعد إنهاكها ودك أسوارها، وهي عبارة عن برج خشبي متحرك يحتوي على قفص وتابوت وقد كانت ضمن عدة جيوش المنصور وجوهر. ويلجأ مشاة الحصار للتغلب على الاستحكامات الحجرية إلى الأكباش والكلاليب الضخمة والمتفجرات. ويستعمل المدافعون على الأسوار المجانيق والستائر وهي جلود ولبود وزرابي تبلل بالماء والخل لإضعاف مفعول القذائف المعادية. وينصب الجيش المحاصر داخل المدن عوارض وحواجز خشبية لمنع خيالة الغزاة من التنقل عبر الدروب.
عرفت الأسلحة النارية تطورا منقطع النظير في العهد الفاطمي وكانت أغلب قطع الأسطول مجهزة بالنار الإغريقية .
ويعتمد هذا السلاح الفتاك على النفط وهو مزيج من الكبريت والكلس والراتنجات في شكل سائل يضاف إليه ملح البارود وهو معدن كانت توفره مناجم الجم وقفصة. وكان لقب القيار (صانع الأسلحة النارية) شائعا بإفريقية وحفظت لنا كتب المناقب ذكرى أبو العباس بن القيار (ت. 903 م). ويرمى النفط بواسطة القدور أو قارورة النفط ) وهي أنبوب معدني يستعمل عن طريق ضغط الهواء في المؤخرة. كما شاع استعمال الرمّانات النارية (قنبل متفجرة من الفخار).

البحرية الفاطمية:

كان الفواطم بدون منازع أكثر دول الإسلام اهتماما بشؤون البحر. وبلغت بحريتهم درجة هائلة من القوة والتقدم وساهمت بصفة فعالة في انجاح سياستهم التوسعية وتحقيق أطماعهم الترابية. وقد حرص المهدي منذ اعتلائه عرش رقادة على تطوير الأسطول الذي ورثه عن أسلافه الأغالبة فأحدث دور صناعة جديدة بالمهدية وقصر زياد. ومنذ هذه الفترة تميز العبيديون بسياسة عسكرية تعتمد الدعم البحري للحملات البرية وغلب هذا الطابع على القوات التي هاجمت مصر سنة 920 م كما ساهمت عمائر صقلية في حملة جوهر سنة 969 م.
وتابع الفاطميون من بعد المهدي سياسته البحرية وأحدثوا دور صناعة جديدة بالخالصة (بلرم وطبرقة وقليبية ومرسى الخرز). وفرض أسطولهم في عهد القائم سيطرة مطلقة على المتوسط وأصبح يهاجم باستمرار سواحل قلورية. وفي سنة 935 م تمكن من إحراق أهم قطع الأسطول البيزنطي في عرض البحر التيريني. وبعد سلسلة من الحملات المظفرة توصل الحسن بن علي الكلبي إلى فرض الحماية الفاطمية على قلورية وإجبار مبعوث القسطنطينية على التوجه إلى صبرة لإبرام الهدنة. وفي سنة 961 م سقطت تاورمينا في يد الفاطميين وأصبحت تدعى المعزية.
كانت المهدية أهم قواعد أسطول إفريقية ومركز إقامة أميراله(متولي البحر / رئيس البحر) وبها يوجد ديوان العمائر (ديوان الجهاد) وكان أفراد العائلة الكلبية يتوارثون قيادة أسطول صقلية. وترك لنا القاضي النعمان وابن الطوير وصفا دقيقا لمراسم الغزو فبعد إكتمال تجهيز المراكب يتوجه الخليفة إلى دار البحر ويجلس في منظرتها لوداع الأسطول وتوزيع العطايا ثم تقلع المراكب وفق تشكيلة معينة يوجه حركتها الفانوس.
تعددت قطع الأسطول الفاطمي التي وصفها أحسن وصف ابن هانئ ومعاصره الأيادي التونسي. ويمكن تصنيفها إلى سفن طويلة تستعمل القلوع والمجاذيف ومراكب مدوّرة تعتمد بصفة كلية على الرياح. وينتمي إلى الصنف الأول الشواني والحراقات والشلنديات والمسطحات والحربيات والعشاريات في حين يتألف الصنف الثاني خاصة من الطرائد والبطسات والجفنات.
ويعتبر الشيني أهم سفينة حربية. وكان يشكّل العمود الفقري للأسطول العبيدي. وتختلف أحجام هذا المركب الذي يسمى أيضا غراب (لأنه يطلى بالقار أسود) حسب عدد مجاذيفه، أجلّه يجره مائة وثمانون مجذافا ويحمل 200 مقاتل، أما الشيني العادي فقد كان مزودا بمائة وأربعين مجذافا وبثلاث صواري. ويمتاز هذا المركب بأبراجه التي تستخدم للدفاع والهجوم كما يحتوي على آلات النفط وعلى أهراء لخزن المؤونة وصهاريج للماء. ويوجد في مقدمته لجام من الحديد محدد الرأس كالسنان لنطح مراكب العدو واغراقها، ومن خصائصه أيضا أنه مزود بجسر من الخشب يهبط على الشواني المعادية ويمر على ظهره الجند للقتال بالأساليب البرية. وكانت المسطح تتسع لأكثر من 500 مقاتل. وكانت هذه القلعة العائمة والبطيئة تستعمل خلال المواجهات البحرية الكبرى. وتلي الشيني في الأهمية الحرّاقة أو الحربية التي يجرها مائة مجذاف وتستخدم لسرعتها الفائقة للرمي بالنفط. وكانت الحراقات الصغرى (10 مجاذف) والعشاريات (20 مجذافا) من لواحق الألواح الكبرى وزوارق الإنقاذ.
تشكل البطسة أو البطشة سفينة عظيمة الحجم عديدة القلوع أكثر من أربعين( تتسع لأكثر من سبعمائة مقاتل تستخدم لنقل الأزواد والميرة وتشحن بها آلات الحرب وأدوات الحصار. وإلى هذا الصنف تنتمي القرقور ) والجفن
. أما الغيطاني والعجزي فقد كانا مخصّصّين لحمل الجنود. وكانت الطريدة (سفينة برسم الخيل ) أكثر من أربعين وتفتح من الخلف حتي يتيسر للدواب أن تصعد على ظهرها أو تنزل منها إلى اليابسة.

قاعدة المهدية:

تقع المهدية على الساحل الشرقي لإفريقية فوق شبه جزيرة صخرية تشرف على أهم معابر المتوسط إذ تسيطر على طريق المساحلة الرابطة بين الأندلس ومصر وطريق أعالي البحار )طريق الجزر(. وقد أثبتت ثورة صاحب الحمار )934 – 946 م ( حسن اختيار المهدية وسداد رأيه لم يكن عليه إلا أن يغلق البرزخ الضيق )175 م ( الفاصل بين البر وشبه الجزيرة ليجعل من هذه الهضبة ملجأ آمنا وحصنا منيعا لدولة شيعية شاءت الأقدار أن تنشأ في محيط يغلب عليه المذهب السني.
استلهم جدّ الروافض عمران مدينته من تخطيط بغداد فجعلها مؤلفة من مدينة سلطانية )المهدية ( مخصصة للخليفة وعائلته وحاشيته ومدينة شعبية )زويلة( لسكنى العامة. وكانت المهدية مدينة ذات طابع عسكري وقلعة ضخمة لا تتصل بالعالم الخارجي إلا بواسطة باب وحيد وحصن موحّد محميّ بالأسوار المنيعة التي تساير الحدود الطبيعية للموقع، مستفيدة من محيطها البحري لتكوين مرسى داخلي يفتح لها بواسطة الأساطيل منفذا استراتيجيا للتموين في ظروف الحصار الطويل. ونظرا لهذه الطبيعة فقد كانت المؤسسات البحرية تهيمن على المشهد الحضري.
وتمتد المدينة على مجال جغرافي لا يتعدى طوله 1450 م يربط باب الفتوح )في الغرب( بالميناء مرورا بالجامع الأعظم. وقد شيد هذا المعلم، تماما مثل دار البحر التي تجاوره، على أرض ردمت من البحر. وغير بعيد عن الميناء، توجد شرقيّ قصر عبيد الله المهدي دار الصناعة.
وقد أثنى الجغرافيون العرب والرحالة الأوروبيون على استحكامات المهدية واعتبروها أمنع مدن المغرب. وتتألف التحصينات البرية )الغربية( التي تحمي المضيق من ثلاثة أسوار يتخللها فصيلان. وكشفت الحفريات عن جزء من السور الرئيسي المشيد بواسطة الحجارة ويبلغ سمكه ستة أمتار في حين يتعدى ارتفاعه خمسة عشر مترا. وتتمثل استحكاماته في مجموعة من الأبراج المربعة في حين تكتنف الأركان البحرية أبراجا مثمنة. وتحمي السور الرئيسي ستارة أمامية يدعمها خندق تمر فيه مياه البحر ويفصل هذا الحفير مصلى العيدين عن تحصينات زويلة.
ويعتبر باب الفتوح الذي أطلق عليه الأهالي تسمية ” السقيفة الكحلاء ” من أشهر المعالم الإسلامية. ويتكون المعلم من برج ضخم شديد الارتفاع )18 م( يتوسطه مدخل يؤدي إلى سقيفة عميقة )دهليز( بطول 33 م وعرض 05 أمتار تصل السور الرئيسي بالسور الثالث الداخلي. وكان البرج يشكل قبل إصلاحات العهد العثماني بناية مربعة تعلوها قاعة ضخمة )منظرة( مغطاة بواسطة قبة تضفي مسحة من القدسية على الخليفة الذي كان يعبر هذا المدخل قبل التوجه إلى ساحة القتال. ويشكل الدهليز محورا عسكريا وتجاريا مقسما بسبعة عقود ساندة ومزودا بأبواب مصنوعة من صفائح حديدية لا خشب فيها ومزينة بأسود من البرنز.

العهد الزيري: (975 – 1160 م)

حافظ أمراء صنهاجة الأوائل على ولائهم للقاهرة ولكن تطوّر نفوذ علماء المالكية في منتصف القرن الحادي عشر دفع بالمعز بن باديس إلى التنكّر للمذهب الإسماعيلي مما جر على البلاد ويلات الهجرة الهلالية. وتدافع الأعراب نحو إفريقية في فترة تميزت باستفحال الأزمة الاقتصادية وتواتر المجاعات. وأدى هذا الوضع إلى تصدّع الصرح الذي بناه الفواطم وبروز عدة دويلات ضعيفة ومتصارعة مثل إمارات بني الورد وبني الرند.
مما جعل النورمان يغتنمون هذا الوضع لاحتلال طرابلس وقليبية وجربة والمهدية عاصمة الإمارة الصنهاجية (1148 م). واستمرّ الحكم المسيحي إلى سنة 1160 م إلى أن استردّ عبد المؤمن بن علي هذه القواعد وألحق إفريقية بالممتلكات الموحدية.
أنهكت حروب المنصور الجيش الصنهاجي وقطعه أحداث الإمارة الحمادية عن قواعده مما دفع بالمعز إلى الاعتماد على خليط من العناصر البربرية والعربية والإفريقية (العبيد السود) المتناحرة. وأدت هذه ” الفوضى العرقية ” إلى هزيمة حيدران التي انتصر فيها 3000 فارس هلالي على جيش قوامه 60000 جندي.
كما أدت ندرة الخشب إلى تراجع البحرية فكان أسطول تميم بن المعز لا يتعدى سنة 1078 أربعة عشر غرابا.
وقد لاحظ ابن خلدون بمرارة هذا التقهقر وعزا ذلك لضعف الدولة.
وتواصل هذا الوضع في العصر الحفصي ولذا أقر علماء إفريقية إزالة كل حصن ” يلي بلاد العدو”.
لقد لعبت الجغرافيا دورا أساسيا في صياغة نمط دفاعي إفريقي، ذلك أن مناعة هذه المنطقة الواقعة على مشارف مضيق صقلية كانت دائما رهينة تأمين الجبهة الشمالية – الشرقية والتخوم الجبلية والصحراوية الجنوبية – الغربية. وقد اضطلعت الخلافة الفاطمية بهذه المهمة على أحسن وجه مما جعل البلاد تشهد فترات قوة وازدهار مكنتها من تحويل المتوسط إلى بحيرة إسلامية. على أن اختلال هذه الجبهات في آخر العصر الزيري أدى إلى انتشار الفوضى الداخلية وإلى تدخل الأعراب في شؤون الدولة. كما أن تدهور البحرية جعل البلاد معرضة لهجمات القراصنة المسيحيين علاوة على استيلاء الممالك النصرانية على جزر المتوسط.


المصادر :
– ابن أبي زيد القيرواني، النوادر والزيادات، تحقيق محمد ….، بيروت 1999.
– ابن حماد، أخبار ملوك بني عبيد، تحقيق تهامي نقرة، تونس 1987.
– ابن حمديس، الديوان، تحقيق إحسان عباس، بيروت 1960.
– ابن خلدون، كتاب العبر، بيروت 1968.
– ابن الطوير، نزهة المقلتين، تحقيق أيمن فؤاد السيد، شتوتغارت 1992.
– ابن هانئ، الديوان، تحقيق محمد اليعلاوي، بيروت 1994.
– الجوذري، سيرة الأستاذ جوذر، تحقيق محمد كامل حسين، القاهرة، د.ت.
– الداعي ادريس، عيون الأخبار، تحقيق محمد اليعلاوي ، بيروت 1985.
– الزردكاشي، الأنيق في المجانيق، تحقيق إحسان هندي، حلب 1985.
– القاضي النعمان، افتتاح الدعوة، تحقيق وداد القاضي، بيروت 1970.
المجالس والمسايرات، تحقيق الحبيب الفقيه، ابراهيم شبوح ومحمد اليعلاوي، تونس 1978.
– الطرسوسي، تبصرة أرباب الألباب في كيفية النجاة في الحروب من الأسواء، حققه ونشره ك. كاهن تحت عنوان: “Un traité d’armurie composé pour SaladinB.E.O.XII,1948
– بن عبد الله (عبد الفتاح)، الأسلحة ببلاد المغرب الوسيط، ش. ك. ب. كلية الأداب منوبة،2005.
– خماس ( علاء الدين)، فن الحرب عند العرب، بغداد 1999.
– زكار (سهيل)، المدفعية عند العرب، بيروت 1983.
– فؤاد السيد( أيمن)، الدولة الفاطمية بمصر، القاهرة 2000.
– Dachraoui (F), Le califat fâtimide au Maghreb, Tunis 1972.
– Djelloul (N), Les fortifications ottomanes des côtes tunisiennes , Zaghouan 1995.
– Hill (P.R), art. “Mandjanik “, E.I, VI, pp. 389 – 390.
– Idris (P.R), La Berberie orientale sous les Zirides, Paris 1962.
 
الجزء الرابع:

العهدان الموحدي و الحفصي

حافظت إفريقيّة على حدود تقريبية منذ العهد الرّوماني، إذ ضمّت إلى جانب البلاد التونسيّة بلاد بجاية وقسنطينة والزّاب غربا والبلاد الطرابلسية شرقا. ومثلما كان الأمر في العهد الزيري والحمادي، فقد قسّمت إلى بلاد غربية وأخرى شرقيّة ، تتطابق حدودها تقريبا مع البلاد التونسية . وعلى غرار الدّول السّابقة ، انبثقت بهذه البلاد دولة مهيكلة بذات المجال، ذات مؤسسات متطوّرة نسبيا وتقاليد في الحكم ، مستفيدة بصفة خاصة من تجارب الأندلسيين المهاجرين الذين بدأوا يفدون على البلاد زمن حكم أبي زكريا. ومن الجليّ أنّ هذه الدّولة القائمة استطاعت أن توفق بين الارث الافريقي القديم وخصوصيّات الحكم الموحدي المستند إلى التّنظيم القبلي

الجيش الموحّدي

1 ـ النظام العسكري :

لئن تكوّن الجيش في الحقبة الأولى من أفراد القبائل التي يقع تعبئتها ، دون أن يكون نظاميّا ، فإن الدولة الموحّدية خصّصت ديوانا للجيش سجّل فيه أسماء الجند. وقد بلغ عددهم بمرّاكش في مرحلة أولى عشرة آلاف . أمّا أثناء المعارك ، فقد كانت أعدادهم كبيرة ، إذ قيل أنّ العدد بلغ ستين ألف خيمة أثناء فتح بجاية ، علما بأن الخيمة تتسع لعشرة جنود . وكان عددهم أثناء فتح المهديّة خمسة وسبعين ألف فارس وخمسمائة ألف من الرجّالة ، حسب كتاب الحلل الموشية في الأخبار المراكشية ، فيما ذكر ابن الأثير مائة ألف مقاتل ومثلهم من الأتباع . أما التقديرات الخاصة بجيش عبد المؤمن عند غزو الأندلس، فقد تراوحت بين 200000 مقاتل ونصف مليون، فيما جمعت معركة العقاب سنة 609 هـ / 1212م 600000 جنديّ. ووصل إفريقية صحبة يعقوب المنصور عشرون ألفا.

تمثّل القبيلة الوحدة العسكريّة المعتمدة في الجيش الموحّدي.وقد قسّمت كل وحدة على فرق من عشرة جنود ، يوجد على رأسها مزوار. وتتدرّج القيادة من قيادة الوحدة ذات الصبغة القبليّة إلى قيادة الولاية التي يتولى أمرها الوالي إلى القيادة العامّة ، ويتولاها الخليفة ، أو من ينوبه من أبنائه أو أشياخ الموحّدين. وقد كان الخليفة على رأس الحملات العسكريّة في اتجاه الأندلس أو إفريقّية .

تميّز الجيش الموّحدي بتعدّد عناصره ، وتنقسم إلى العناصر التّالية :

ـ قبائل الموحّدين :
مثّلت العنصر الأساسي، وهي هرغة ومصمودة وجنفيسة وهنتاتة وقبائل تينملل وكومية و هسكورة وصنهاجة .

ـ القبائل المغاربيّة الأخرى :
انضمّت الى الجيش بعد فتح مراكش قبائل زناتة ومسّوفة و ما أطلق عليهم ” عبيد المخزن ” من القبائل المرابطية التي أضحت في خدمة المصامدة

ـ الأندلسيون :
لمّا تمكّن عبد المؤمن من بسط نفوذه على الأندلس ، أضحى العنصر الأندلسي مكوّنا من مكوّنات جيشه ، وقد ذكر حضوره خصوصا أثناء الحملات في الواجهة الأندلسّية .

ـ العرب الهلاليون :
بدأ التحاقهم بالجيش الموحدي بعد قدوم عبد المؤمن إلى إفريقيّة في سنة الأخماس الذي استنفرهم، مستعملا في ذلك الخطاب الشّعري والسّياسي . وقد أصبحوا يمثّلون نسبة هامّة في الجيش الموّحدي ، سواء في المغرب الأقصى أو إفريقّية .

ـ الأغزاز :
وهم من الأتراك الذين دخلوا إفريقّية ، ابتداء من حملة قراقوش ، وتمكّن يعقوب المنصور أثناء حملته على قفصة من أسرهم ومن تكوين فرقة منهم ضمّها إلى جيشه

ـ الرّوم العلوج :
لئن كان استخدامهم لأوّل مرّة يرجع إلى العصر المرابطي، فإن الخليفة الثاني أبو يعقوب يوسف قد استكثر منهم ، وكذلك فعل ورثته ، لتثبيت حكمهم أو انتزاع السلطة من طرف ما

ـ السّودان :
كانوا ركنا أساسيّا لعديد الجيوش المغربية كوّنوا فرقة خاصة بهم في الجيش الموحّدي ، و اتّخذهم الخلفاء حرسا لهم

أمّا في خصوص عدّة الجيش ، فقد تكفّلت الدّولة بكسوة العساكر من المرتزقة والحشود ،والمتمثّلة في عمائم وغفائر وبرانس وأكسية .وكانت الراية التي اتخذها الموحّدون ثم الحفصيون بيضاء . وقد تنوعّت الأسلحة ، تدريجيّا : فبعد أن اقتصرت على الرماح والدرق ، أقحمت بعد فتح مراكش القسي والنبال. واشتهرت لديهم السّيوف الهندية والدّرق اللمطية ( المصنوعة من جلد حيوان اللمط) والرّماح الطّوال والدروع والبيضات . وقد اتخذوا في حصارهم للمدن والأسوار( مثال فاس ومكناسة والمرية والمهدية ) عدّة آلات وحفروا حولها الخنادق ، واستعملوا شتى الطرق تيسيرا لدخولها .فكانوا يدكون الحصون بالأبراج والمنجنيق ، ويجرّون الدبّابات ذات الطوابق ويتسلقون أسوارها بالسلالم ويقذفونها بالكرات الحديدية الملتهبة . كما استعملوا الأكباش والعرادات .ويراقب القائد العمليات من برج يطلق عليه اسم المرقبة أو الديدبان . وقد أصلح عبد المؤمن أسوار المدن مثل المهديّة ، لكن تعرضّت أسوار المدن الخارجة عن سلطتهم مثل فاس وقفصة إلى الهدم .

ويقع الالتجاء إلى المذهبية الموحّدية لتذكية الروح القتاليّة للجند ، كما يستعمل الشعر والوعظ بالنسبة الى القبائل العربيّة . ومن المعروف أن جند إفريقّية كان يدعى للمشاركة في حروب الأندلس ، أما العكس فلم يكن واردا . ورغم أن المصامدة سعوا إلى توفير المؤن للجيش ، فإن النقص في وجودها قد أدى إلى هزيمة العقاب النكراء أمام القشتاليين. وكان لتمهيد المسالك و حفر الآبار الأثر الكبير على سير العمليّات العسكريّة ، التي يقع الإعلام ببدئها ، وذلك بضرب الطبول ورفع البنود.
أما الخطط الحربيّة المتبعة ، فقد اعتمدت في الغالب على المباغتة وتحرك الجيش سرّا واتباع طرق غير معهودة في السّير . كما اعتمد المصامدة الحيل الحربيّة ، من نصب الكمائن و اصطناع الفرار واستدراج العدو واستخدام العيون والجواسيس . وكانت طليعة الجيش تقوم بالهجوم الأول الممهّد . وينتظم الجيش المحارب في شكل مربع ، إذ يصطف الرّجال بالقنا الطوال ووراءهم أصحاب الّدروق والحراب ، ويليهم أصحاب المخالي المحملة بالحجارة ثم الرماة، ويتوسط المربّع الخيل، فيما يجلس الخليفة في قبة حمراء وراء الجيش .

أما الاسطول، فإنّه لم يظهر للوجود الا بعد فتح مراكش سنة 541هـ /1146م، عندما شرع عبد المؤمن في التفكير في غزو الاندلس وسائر البلاد المغربيّة . و تمّ استخدام دور الصناعة الساّبقة مثل طنجة وسبتة وبادس والمهديّة وتونس ووهران وهنين وعنابة وقادس والمريّة . كما أنشأوا دورا جديدة بسلا وإشبيلية . وقد اشاد ابن خلدون بعدّة هذا الأسطول في عهد يوسف بن عبد المؤمن وبلغ عدد السّفن الجاهزة لغزو الأندلس في عهد عبد المؤمن مائتين .أما الأسطول المعدّ لفتح ميورقة ، فقد كان 300 جفن . و تعدّدت أنواع هذه السّفن ،فذكر الشّيني المجهّز بأبراج للدفاع و الطريدة والغراب والشختورة والحرّاقة، ومنها يقذف بالمنجنيقات التي ترمى بالنفط المشتعل . وقد بلغ تطوّر الاسطول الموحدي تطوّرا كبيرا ، حتى أن صلاح الدين الأيوبي طلب من المنصور غلق مضيق جبل طارق أمام البحريّة الغربيّة المتجهة من هناك الى المشرق و أسطولا للتصدّي للصليبيين. لكن هذا الاسطول بدأ يضعف مع هزيمة العقاب ، وما نجم عنها من خروج سبتة وبجاية وتونس عن سلطته .

2 ـ المعارك الكبرى

شكّلت اتّحادية مصمودة القبليّة عصب الدّولة الموحديّة التي فرضت سيطرتها على كامل بلاد المغرب، فيما مثّل المذهب الموحدي الذي أنشأه محمد بن تومرت الدّعوة لهذه الحركة . وقد قامت ، كغيرها من الدّول الوسيطية، على أسس اقتصاديّة، مرتبطة بالتّجارة والغزو والجباية . على أن هزيمة حربيّة كبرى قد تفلّ في عضد هذه الدّول وهو ما حصل بالنّسبة إلى الموحّدين، إثر موقعة العقاب سنة 609 هـ/ 1212 م

تمكّن عبد المؤمن بن علي من تأمين البلاد وتهدين القبائل البدويّة ،وذلك بنقلها قسرا من إفريقية الى المغرب الأقصى و تشريكها في حرب الأندلس . وقد حصل ذلك إثر الحملة العسكرية التي قادته من مراكش إلى المهديّة ، فسيطر في مرحلة أولى على بجاية وقلعة بني حماد ، وتقدّم نحو الشّرق حتى لامس خطّ الانتشار البدوي . ولئن رفضت هذه القبائل عرض نورمان صقليّة في مؤازرتها ، فإنّها تحالفت فيما بينها للتصدّي لعبد المؤمن ، فتجمّع بناحية باجة أكثر من ستين ألف من فرسانهم ، برئاسة محرز بن زياد الرّياحي ، صاحب المعلّقة ، لتدارس الوضع . غير أّنّ المصامدة تمكنوا من استدراج الأعراب إلى ناحية سطيف حيث دارت معركة انتهت بهزيمة البدو وفرارهم وذلك سنة 547 هـ / 1153 م. واستعمل عبد المؤمن سياسة الترغيب والتّرهيب مع قبائل بني سليم ورياح ، وذلك للتصدّي للقشتاليين بالأندلس وترحيلهم من إفريقيّة ، فطلب منهم تعبئة عشرة آلاف .

على أن بسط الموحّدين نفوذهم على إفريقية التونسية لم يتحقّق إلا إبّان معركة القرن التي دارت شمال غربي القيروان مع ثمانين ألف من فرسان البدو المتجمّعين في هذا الموضع الا ستراتيجي الذي شهد سنة 124 هـ / 740 م معركة فاصلة بين الخوارج وأهل إفريقيّة، وذلك إثر تحرير مدينة المهدية وسائر السواحل من الاحتلال النّورماني . واتبع المصامدة نفس الخطة المعتمدة في موقعة سطيف ، والمتمثّلة في المباغتة والمداهمة على حين غرّة وقطع الطريق الصّحراوي الذي يستعمله البدو عند الانسحاب . ولمّا أضحت القبائل محاصرة من التل ومن الصحراء أدخل الارتباك على صفوفها ، فاختار بعض القواد الفرار فيما ثبت محرز بن زياد الرّياحي إلى أن قتل.

ثم تابع عبد المؤمن حملته الى أن وصل إلى قفصة، فحاصرأسوارها المنيعة بالأبراج الخشبيّة ودكّها بالمنجنيق . وانتهت المعركة باستئصال شأفة القبيل الرّياحي ووصول أعيان الاثبج و زغبة خاضعين . وهكذا نجح عبد المؤمن في تأمين البلاد و تهدين القبائل البدويّة المحاربة ، متوخّيا معها سياسة النّقل القسري الى المغرب الأقصى والأندلس ، إذ حمل ألفا من كل بطن من بطونها .
و سار الخليفة الثاني أبو يعقوب يوسف على منوال سياسة أبيه في ترحيل العرب الى الغرب . وبعد أن اتّخذ علي بن غانية بلاد الجريد نقطة ارتكاز لمداهمة البلاد التلية ، عجّل الخليفة يعقوب المنصور بالتحوّل لإفريقيّة . وحصلت بين الطرفين معركة وطا عمرة، شمال قفصة ، في شهر ربيع الأوّل عام 583 هـ / ماي 1187 م ، وقد انهزم فيها الجيش الموحّدي مما أجبر الخليفة على قيادة المعركة الثّانية بنفسه، في 10 شعبان سنة 583هـ / 1187 م ، فاسترجع قابس والجريد ونقل قسرا القبائل الهلاليّة الى بلاد الهبط بالمغرب الأقصى .

لكن خطر القبائل البدويّة تواصل فيما بعد مما حدا بالخليفة محمد الناصر بالقيام بحملة ثالثة في اتجاه إفريقيّة ، وكانت موقعة تاجرا بجبل دمّر ( بمنطقة تطاوين) في ربيع الأوّل سنة 602 هـ / أكتوبر 1205 م منعرجا هاما في حركة بني غانية التي بدأت في الأفول .

ــ تحرير إفريقّية من الاحتلال النورماني:

تمكّن النورمان في فترة وجيزة من بسط سيطرتهم على شريط ساحلي ممتدّ بين طرابلس والوطن القبلي .وكانت الحملة التي قادها جورج الأنطاكي على المهديّة سنة 543هـ / 1147 م أهم مرحلة في تاريخ هذا الغزو ، إذ جهّز 250 شيني أقلعت وعلى متنها عدد كبير من المحاربين والسلاح والقوت ، مستعملة الاشرعة والمقاذيف. وقد قام الحمام الزاجل بدور في الاتّصال ، ووقع الالتجاء إلى الحيل والمغالطة في الإعلام . ونظرا إلى أن الحصار كان برا وبحرا ، فإن المدينة المعروفة بحصانة أسوارها لم تتمكن من الصمود طويلا. ولمّا دخلها النورمان ، أمّنوا أهل المدينة ،الذين عادوا إليها بعد خروجهم منها ، لكن المقاومة التي قادها البدو استمرّت ، فيما التجأ الأمير الزّيري الحسن بن علي إلى القوّة المغاربيّة النّاشئة ، الموحّدين .

حلّ عبد المؤمن بن علي بالمد ينة المحتلة في 12 رجب 554هـ / 30 جويلية 1159 م ، قادما من تونس التي استولى عليها . فنزل بزويلة التي أخلاها النورمان ، وتعزّز جيشه بالتحاق صنهاجة والهلالية وسكّان البلاد . فأحكم الحصار بحرا وبرّا حول النورمان المتواجدين داخلها ، وعددهم ثلاثة آلاف، مستعملا في ذلك العدّة الثقيلة من أبراج ودبابات و عرادات ومجانيق . ولمّا كانت المعارك بين الطرفين تدور يوميّا دون تأثير على المدينة ذات الاسوار المنيعة ، بادر عبد المؤمن ببناء سور غرب المهدية ، لحماية جنده ومنع فرسان العدوّ من الخروج . وتيقّن أن استسلامها يحتاج إلى حصار طويل . وكاد الأمر يصبح مستحيلا ، عندما قدم في شهر شعبان 554هـ / 1159 م 150 شيني من صقليّة لفك الحصار الذي ضربه ابن ميمون قائد الاسطول المكوّن من 70 سفينة على النّورمان . غير أن البحريّة الموحدية منعت الشواني الصقلية من الإرساء وصدّتها ، فلاذت بالفرار . وإزاء هذا الوضع واستفحال المجاعة ، لم يجد المحاصرون بدّا من الاستسلام والرّضوخ لشروط الموحّدين في الخروج من البلاد إلى صقليّة على متن مراكب موحّدية ، غرقت من جراء زوبعة شتوية. أما عبد المؤمن فإنّه دخل المهديّة محرّرا وذلك بعد 12 سنة من الاحتلال .

ـ المعارك الأخيرة واستفحال الأزمة :

تعدّدت مظاهر هذه الأزمة على إثر وفاة الخليفة يعقوب المنصور ( 595هـ / 1195م) ، وتولّي ابنه محمّد النّاصر السّلطة . فقد ظلّت حركة بني غانية تقضّ مضجع الموحدين منذ قيامها سنة 580هـ / 1184 م ، وذلك طيلة نصف قرن . ومن جهة ثانية تحرّك الجيش عديد المرّات في اتّجاه الأندلس لايقاف الضّغط القشتالي المتواصل ، وهو ما يعني مجابهة مصاريف باهضة ، ناهيك أن حملة الناصر إلى إفريقيّة بلغت نحو 120 حملا ذهبا ممّا انعكس سلبا على المجتمع المغربي الذي أثقل كاهله بالجبايات ، إذ فرض الناصر ، حسب ابن أبي زرع ، “على كل قبيلة من قبائل المغرب حصّة خيلا ورجالا “. وبدا هذا العجز المالي واضحا أثناء معركة العقاب، لما تأخّرت أرزاق الأجناد مدة شهرين، فاستاؤوا لذلك . وبصرف النّظر عن دور القيادات الماسكة بزمام الادارة والجيش في سرعة نسق الانهيار،فإنّ التطوّر الذي عرفته الممالك النصرانية وتفوّقها التدريجي يعد عاملا أساسيا للهزيمة .

ومثّلت خلافة المأمون حلقة أخرى من هذا التداعي، إذ أن تخليه عن فكرة المهدي المعصوم سنة 624هـ / 1227م واضطهاده لشيوخ الموحدين قد فتح الباب واسعا للانفصال الحفصي باسم الشّرعية المذهبيّة . ففضلا عن ظهور بني مرين على مسرح الأحداث منذ سنة 610هـ / 1213م ، فإنّ أبو زكريا الحفصي قد رفض الاعتراف بالخليفة الجديد ، وذلك في خطوة أولى قبل إعلانه الإمارة. وفي ذات الوقت استبد يغمراسن بن زيان بتلمسان معتمدا على عصبيّة زناتة ودون اللجوء إلى دعوة مذهبيّة ما .

ـ المؤسّسة العسكريّة في العهد الحفصي ( 625-982هـ / 1228-1574م)
بنو حفص بإفريقية وتأسيس أبي زكريا للإمارة المستقلة :

لما قدم الخليفة النّاصر إلى إفريقيّة لوضع حدّ لحركة بني غانية الميورقيين ، اقتنع أن البلاد في حاجة إلى وال قوي ومتمتّع بسلطات واسعة لمواصلة حركته ضد البدو ، فعيّن على رأسها أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر الانتي . وقد أظهر هذا الأخير قدرة فائقة في مواجهة بني غانية وحلفائهم من الهلاليّة في أكثر من معركة ( في واد شبرو سنة 604هـ / 1208م ، ثم جبل نفوسة سنة 606هـ / 10-1209م) والتّغلّب عليهم. وعند وفاة عبد الواحد في فاتح محرّم 618 هـ/ 25 فيفري 1221م ، لم يتمكّن ابنه أبو زيد عبد الرحمان من البقاء في الحكم أكثر من ثلاثة أشهر، وخلفه ابن عمّه أبو اسحاق ابراهيم بن اسماعيل بن أبي حفص كنائب عن الوالي السيّد أبي العلاء ادريس بن يوسف حفيد عبد المؤمن

انشغل الوالي الجديد بمطاردة ابن غانية ، معتمدا في ذلك على ابنه أبي زيد عبد الرحمان الذي خلفه بعد وفاته سنة 621 هـ / 1224م . غير أن استبداده عجّل بخروجه من الحكم ، فعيّن الخليفة العادل ( 621-624هـ/ 1224-1227م) من جديد أحد أبناء أبي محمد عبد الله المكنى بعبو سنة 623هـ / 1226 . لكن هذا الأخير عزل لأنّه رفض الاعتراف بالخليفة الجديد المأمون الذي ولى مكانه عامل قابس أخاه أبي زكريا يحيى

تمكن هذا الشاب الذي حكم اشبيلية من قبل من دخول مدينة تونس في أواخر رجب 625هـ / 1228م ، واستطاع في ظرف وجيز تهدين البلاد ووضع حد لحركة بني غانية وذلك قبل أن يضم إلى إمارته البلاد الغربية ويعلن استقلاليته عن مراكش. ومنذ سنة 627هـ / 1229 م نزع اعترافه بالخليفة المأمون مقتصرا بذكر المهدي في الخطبة . وقد اتخذ من قصبة تونس التي شيد بها مسجدًا جامعا من النمط الموحدي، مقرا للسلطة . ولم يعلن استقلاليته إلا سنة 634 هـ / 36-1237م على إثر عجز الموحدين عن التصدّي للقشتاليين الذين سيطروا على قرطبة . وبالتالي فكر أبو زكريا في إزالة الحاجز الذي حال بينه وبين الموحّدين بمراكش والمتمثّل في ظهور إمارة يغمراسن بن زيان الزناتية بتلمسان، معتمدا في ذلك على أنصاره من الزناتيين ، وهم بنو توجين وبنو منديل . وهكذا دفع بجيش عدده 64 ألف فارس للاستيلاء على تلمسان .لكن فرار فارس زناتة يغمراسن إلى الجبال قد جعل السيّطرة على المدينة المحاصرة أمرا مستعصيا و أجبر الأمير الحفصي على التّفاوض. وتزامن ذلك مع موت الخليفة الرشيد في جمادى 640هـ / ديسمبر 1242 م ، فأتته البيعة من عديد المدن الأندلسيّة ، ومن طنجة والقصر الكبير وسبتة و بني مرين . غير أن هذا الاعتراف لم يفلح في إعادة بناء وحدة المغرب، إذ اكتفى الحفصيون بحدود إفريقية التقليديّة التي لا تتجاوز بجاية وبلاد الزاب.

ـ الجيش الحفصي :

يعدّ ديوان الجند من بين الدواوين الأساسية في المخزن الحفصي ، إلى جانب ديوان الكتابة وديوان الاشغال ( المالية). ويهتم بمسك قائمات المنخرطين القارين في الجيش وبتوزيع الأرزاق والعطاءات عليهم ، وإسناد الإقطاعات إلى كبار الجند ، بيد أنه لا يسعى إلى قيادة الجيوش وتنظيم عمليات المحلّة العسكريّة .
أمّا الجيش الحفصي ، فقد كان السّلطان هو قائده الأعلى ، و وزير الحرب هو المسئول المباشر عنه، ويعضده في ذلك كتاب وموظفون يسهرون على أزمّة الجند . ولئن ندرت الاشارات إلى رتب الجيش ، فإن رتبة القائد التي تولاها في الغالب العلوج قد تكرّرت المرّات العديدة ، كما ذكرت خطة قائد الأعنّة ( الفرسان) وقائد البحر أو الأسطول أو صاحب البحر . أمّا الرّتب السفلى ، فهي محرّك السّاقة أو الأجناد الذي يسهر على حسن سير الجيش ، والعريف. ويتلقّى الجيش تدريبا منتظما، فهو يشارك في الاستعراض العسكري في الميدان أثناء الأعياد، ويخرج في صفوف منتظمة للمحلّة لجمع الضرائب وتأمين المناطق. وعادة ما تتجمع العساكر قبل الحركة قرب سبخة سيجوم أو المحمّديّة، علما بأنّ الحملات تندر في فصل الشتاء .

وقد مثّل الموحّدون النواة الأصلية المكونة له وانتظم حسب الانتماء القبلي، وكان على رأس كل قبيلة مزوار، وقد بلغ عددهم مائة وعشرين زمن المستنصر. و منح شيوخ الموحدين الاقطاعات ، وذلك فضلا عن الراتب السنوي (البركة ) الذي يتقاضونه. وانضاف إلى هذه النواة الأعراب الذين اشتهروا بفروسيتهم، والأندلسيون الذين كوّنوا فرقا للرماة المهرة في عهد المستنصر ، والفرنج المرتزقة الوافدون من شبه الجزيرة الإيبيريّة وايطاليا ، وقد حافظوا على ديانتهم، والعلوج وهم من المماليك المحرّرين، و كان على رأسهم قائد ، وقد شكلوا حرس السلطان ونذروا أنفسهم لخدمته، وتضمّ هذهّ الفرقة حوالي ألفي فارس ، والغزّ الأتراك الذين كانوا حرسا لأبي زكريا ، والسودان وهم أقليّة في خدمة السّلطان ، إلى جانب عبيد المخزن المحيطين به في تنقّلاته .أما المتطوّعون ، فإن أعدادهم تتضخّم كلّما داهم البلاد خطر من شمال المتوسّط

وتذكر بعض المصادر أن سبعين مزورًا من جملة المائة والعشرين ، وأربعة آلاف من الفرسان ،انضموّا إلى معارضة خفيّة للسلطان الشابّ المستنصر، قادها عمّاه ، وقد واجهها الأمير بدهاء، فعمل على تأجيل المواجهة ، حتّى تسنّى له تكوين جيش مواز للموحدين مؤلّف من ثلاث فرق ، عدد كل واحدة منها ألفان: الأولى تركيّة ويرأسها مظفّر من علوج والده ، والثانية أوروبيّة وعلى رأسها ظافر ، والثالثة سودانية ويقودها مصباح الطويل . وعندما تمكّن السّلطان من حسم النـّزاع لصالحه ، أعاد بناء الجيش ، جاعلاً الفرق المكوّنة من الأقليات تتصدّر الهرم على حساب شيوخ الموحّدين وشيوخ البدو . وبعد أن خبّأ الأسلحة في المخازن، وزّع الرّواتب عوضًا عن الاقطاعات من قسط الأموال التي كانت تحت تصرّفه ( 8 / 3 ) ، وخصّص المبلغ المتبقـّى ( 8 / 5 ) من مداخيل الدّولة لتجهيز الأسطول البحري

بلغ عدد الجيوش في الفترات الحرجة ستين ألفًا، مثلما حصل سنة 1390 ، عند تعرّض المهديةّ للغزو البحري، فيما لم يتجاوز العشرة آلاف في ما عدا ذلك من الفترات . بل إنّ العدد انحدر الى أقلّ من ذلك أثناء فترات الضعف ( نهاية السابع هـ ومطلع الثامن هـ ) .ومثّل الجيش القارّ في المدن الكبرى ، مثل تونس وبجاية وقسنطينة ، والمسمّى الجند أو الحشم ، النوّاة الأساسيّة، وكان في سائر البلاد مجموعات صغيرة

وانقسم الجيش الى مشاة وفرسان ، وكانت قيمة الفروسيّة في ذلك العصر كبيرة ، وقد تميّز الفارس الإفريقي الحامل للباس خفيف و المحميّ بالدرق اللمطيّة والممتشق لسيفه، بسرعة حركته وخفة مناورته . أما المشاة ، فقد كانوا محتمين بدروعهم ورماة للسّهام والنبال ، خصوصا أثناء حصار المدن . كان رمي المنجنيق يساعد على السّيطرة على المدينة ، ثمّ يقع الالتجاء إلى الخناجر والسّكاكين عند التحام المعركة.

وعرف الجيش الحفصي بسرعة تنقّلاته وهجوماته المباغتة،وباعتماد خطّة الكرّ والفرّ التّقليديّة. ويتوسّط المشاة الصفّ وينتظم الفرسان في الميمنة والميسرة . وتتعرّض المدن ذات المناعة الطبيعيّة ، مثل المهديّة وبجاية وقسنطينة ، إلى حصار طويل ، يقترن بالتدمير والحرق وقطع الشّجر .وعادة ما تتدخّل البحريّة لدعم الحصار البرّي، مثل حصار تونس سنة 1317 م.على أن دورها ظل محدودا طيلة هذه الحقبة ، إذا ما استثنينا أهم معركة بحريّة سنة 1428

ـ حركات الغزو و القرصنة الأوروبيّة ومقاومتها :

ـ الحرب الصليبية الثامنة :

قاد لويس التاسع حملة إلى تونس سنة 668هـ / 1270م ، وذلك بعد أن شارك في حملة سابقة في اتجاه المشرق لاسترجاع القدس سنة 666 هـ / 1267م . ولاشك أن موقع تونس الاستراتيجي كبوّابة افريقيا الشمالية ، ومنطلق للاستيلاء على مصر والشام ، ومكانتها الاقتصادية كسوق تجارية، يعتبر سببا أساسيا لهذه الحملة ، التي أذكت روحها الذهنيّة الصليبية . ومثلما حصل سنة 1535م ، من قبل شارل الخامس ، اختار ملك صقلية شارل دنجو ( 1267-1270م) كاقلياري بسردانيا لتعبئة جنوده . وفي 18 جويلية وصلت الحملة بقيادة لويس التاسع إلى قرطاجنة، ولم تتعرض في البداية لتصدّ . ولم يلتحق به أخوه شارل دنجو الا عند وفاة لويس في 25 أوت ، على إثر وباء اندلع في المعسكر، من جراء الحرارة وتكدّس الناس ورداءة الغذاء

أما عن تنظيم المقاومة ، فإن عدم توغل الصليبيين في البلاد ساعد السّلطان على تلقّي المدد من الأوطان ، حتى اجتمعت أعداد وفيرة ، قادمة من قبائل زناتة وبني توجين ومن بجاية ، أما سلطان مصر ، بيبرس ، فقد شرع بدوره في تجهيز العدة لارسال المدد .وقد أدّى تدفق المقاتلة إلى تعبئة سواحل رادس بالمرابطين والمتطوّعين ، وذكر من بينهم ألفين من الرّماة الأندلسيين . وكان للمقاومة الشعبية التي اتخذت من قرية أريانة منطلقا لها دور هام في حرب الاستنزاف. أما المعارك المحدودة بين الجيشين النظاميين ، فإنّها لم تسفر عن ترجيح الكفة لصالح طرف دون غيره . وقد انتهت بالتفاوض وبعقد اتفاقية بين الجانبين تنص على دفع الحفصيين إتاوة قدرها 210 أوقية ذهبا.وهكـــذا تخلصت إفريقية من خطرالغزو،لكن الحملة انتهت لصالح الصليبيين

ـ الهيمنة القطلونية :

لئن تحولت مدينة تونس إلى محور تمفصل للتجارة المتوسطية وإلى قاعدة بحرية هامة تميّزت بإبرام معاهدات تجارية مع البندقية سنة 629هـ / 1231م ، وبيشا سنة 632 هـ / 1234 م وجنوة سنة 634 هـ / 1236م ، فإنّ الوضع قد ازداد سوءا في عهد أبي إسحاق إبراهيم ( 679-681هـ / 1280-128م) الذي تميّز بالاستبداد والتبعيّة ، إذ فتح الأبواب على مصراعيها للتغلغل القطلوني ، ولقيام حركة ابن أبي عمارة سنة ( 681-683هـ / 1282-1284 م) . وقد تميّزت الحقبة الممتدة بين نهاية القرن السابع هـ وأواسط الثامن هـ ببداية ظهور التوسّع المريني من جهة وهيمنة مملكة الأراقون على التجارة الافريقية وازدياد عمليات القرصنة التي تقوم بها بحريتها من جهة أخرى .
وفي سنة 683هـ / 1284 م ، استطاع الأسطول القطلوني المبحر من صقلية التي أصبحت وكرا للقراصنة ، بقيادة روجي دي لوريا السيطرة على جزيرة جربة وأسر عدد من أهلها ، فيما تمكــن أهل الساحل من التصدّي للهجوم القطلوني المزمع الذي شنّه على المهدية . وبعد سنة من هذا التاريخ ، أبرم أبو حفص عمر مع القطلونيين والصقليين معاهدة بانيسار التي منحت امتيازات عديدة لهم ، أهمها : دفع السلطان جباية سنوية لملك الاراقون ، و إقامة فنادق لتجار قطلونيا ، وتعيين قائد للعلوج بمدينة تونس. لقد شهدت هذه الهيمنة تراجعا في عهد أبي يحيى أبي بكر ( 718-747هـ / 1311- 1346 م) ، وانتهت بجلاء الأراقون من جربة ، كما أنّ السلطة تأثرت بالهزّات السابقة.

ـ حملة أبي الحسن المريني على تونس (748-750هـ/ 1347-1349م)

استطاع أبو الحسن المريني أن يحرز انتصارًا محدودا على القشتاليين في معركة الجزيرة الخضراء سنة 744هـ / 1344م، بعد الهزيمة النكراء الحاصلة بطريف سنة 741 هـ / 1344 م. غير أن السّلطان صرف نظره عن الأندلس منذ تلك الحقبة ، وبحث عن انتصار سهل نسبيا في المغربين الأوسط والأدنى.
وفعلا تمكّن من بسط نفوذه على كامل بلاد المغرب ، فسيطر على مدينة تونس بعد أن أزاح الحفصيين من الحكم ، ثم حاول تضييق الخناق على القبائل البدوية ، وسحب الاقطاعات منها . لكن هذه القبائل استطاعت أن تتصدّى له وتهزمه بموقعة القيروان في مطلع سنة 749 هـ / 1348 م. وما أن علمت العامة بمدينة تونس بهزيمة أبي الحسن بالقيروان حتى بدأ التململ يدبّ في صفوفها، واتخذت الآلة لحصار القصبة واستعدت لذلك . وفي سنة 750هـ / 1349 م ، عمّت الانتفاضة مدن افريقية وبواديها ضد أبي الحسن الذي أجبر على مغادرة البلاد.

ثمّ حاول أبو عنان بن أبي الحسن المريني إعادة الكرّة للسيطرة على إفريقية، وتمكّن من الاستيلاء على تلمسان و بجاية ، وبعدها وصل إلى قسنطينة التي استسلمت في شهر رمضان سنة 758هـ / أوت 1357 م . وبعد بضعة أشهر ، استطاع أن يطوق مدينة تونس بحرا وبرا ويستولي عليها ، فيما احتمى ابن تافراجين بالمهديّة ممّا أثار ضده موجة من الاضطرابات ، قادتها خاصة قبائل رياح التي جاءته في البدء طائعة . وانتهت هذه المدة القصيرة برحيله على وجه السرعة إلى فاس

ـ القرصنة وحركات المقاومة البحريّة : (772- 897هـ / 1370- 1492م):

لمّا عجز الجند عن التصدّي لحركات القرصنة الأوروبيّة ،برزت حركة مقاومة شعبيّة ، تجلّت بوضوح ببجاية سنة 792هـ / 1390م . وقال ابن خلدون في هذا الصدد :”فتنبّهت عزائم كثير من المسلمين بسواحل إفريقّية لغزو بلادهم ، وشرع في ذلك أهل بجاية منذ ثلاثين سنة ، فيجمع النفراء والطائفة من غزاة البحر يصنعون الأسطول ويتخيّرون له الأبطال الرّجال ، ثم يركبونه إلى سواحل الفرنجة وجزائرهم على حين غفلة ، فيختطفون ما قدروا عليه ويصادمون ما يلقون من أساطيل الكفرة ، فيظفرون بها غالبا ويعودون بالغنائم وسبي الأسرى حتى امتلأت سواحل الثّغور الغربيّة من بجاية بأسراهم تضجّ طرق البلد بصخب السّلاسل والأغلال عندما ينتشرون في حاجاتهم ويغالون في فداهم بما يتعذّر أو يكاد ” .
وقد تعرّضت جزيرة جربة إلى غزو النصارى سنة 790هـ / 1388م . وبعد سنتين من هذا التاريخ حاصر الجنويون مدينة المهدية برا وبحرا، ورموا أسوارها بكرات النّفط ، لكن مناعتها ومقاومة الأهالي للإنزال حالتا دون السيطرة عليها. وقد كان للبحريّة دور فاعل في ذلك في فترة حكم أبي فارس عبد العزيز(796-837هـ / 1394-1434م)، وقد أعيد فيها بناء الجيش البرّي، الذي أشاد بخصاله الطبيب المغازلي عصرذاك. ولعل ما يفسّر نجاح السلطان في ذلك ما شهدته تلك الحقبة من تطور تقني ، تمثل أساسا في استعمال المخزن للبارود على نطاق واسع ضد الغزاة والقراصنة الأجانب والأعراب ، فقد استطاعت محلته على غير المألوف اقتحام البلاد المستعصية بالجريد ووارجلان وصولا إلى توات، محكما بذلك السيطرة على كامل المجال .وكان يمدّ أهل الأندلس بالبارود لدعم تصدّيهم للغزو القشتالي ، وهو ما يعني أن هذه التقنية التي استخدمها بنو مرين منذ سنة 1274م، ثمّ أثناء محاصرة أبي الحسن للجزيرة الخضراء سنة 744هـ / 1344م، أصبحت شائعة في إفريقية ، التي يوجد فيها منجم للرصاص.
ولئن أولى عناية لبعض الحصون البحرية ، بناء وترميما، مثل رفراف والحمامات وقصر ابن الجعد ورباط المنستير والبرج الكبير بجربة، وليس من المستبعد أن يكون ذلك في علاقة مع التطوّرات التقنية المتمثلة في استعمال المدفعيّة . والثابت أنّ ازدياد القرصنة في المتوسط وتطوّر الأسطول البحري للمدن التجارية، وخصوصا بجنوة وبيشا والبندقية وبرشلونة ، قد مثّلا دواعي قوية لتدعيم هذه التحصينات ولإعادة بناء البحرية التونسية التي تمكنت من إحراز بعض الانتصارات بصقلية ومن دعم الأندلسيين في محنتهم . لكن هذه الاصلاحات عجزت عن الخروج من المستنقع ، وذلك بعد أن ترسّخت الرأسمالية التجارية والحرفية بالغرب الأوروبي وتطورت التقنيات البحرية والصناعية بها ، حتّى أضحى البحر المتوسط تحت سيطرة الملاحة الأوروبية بعد أن كان من قبل بحيرة عربية .
ظلت العلاقات مع الدول الغربية متوتّرة ، وتابعت البحرية الافريقية التصدّي للتوسّع القطلوني في المتوسط، والقيام بعمليات القطع البحري. فمنذ سنة 1397م هاجم الحفصيون مدينة Torreblanca بصقليّة ونهبوها مما أدى إلى إرسال ملك قطلونية والأراقون حملة ضد ميناء تدلس الواقع في بلاد الزيانيين ، وتبعتها بعد سنتين حملة ثانية ضد عنابة ، لكنها ردت خائبة نتيجة مقاومة المدينة لها . وفي سنة 1403م أبرم القطلانيون معاهدة صلح مع أبي فارس، أصبح بمقتضاها للصقليين حقوق على جزيرة جربة ، في حين منحت للحفصيين حقوق على جزيرة قوصرة . على أن هذا العقد لم يمنع من مهاجمة القرصان بيرو نينيو سواحل المغرب وخصوصا مدينة تونس سنة 1404م .
وقد تمكن أبو فارس عبد العزيزمن إتمام ما أنجزه والده أبو العباس أحمد ، فأعاد كلاّ من جربة وطرابلس إلى حضيرة إفريقية . ثمّ تابع توسعه في اتجاه مدينة الجزائر التي دخلها سنة 813هـ / 1411م ، وفي سنة 827هـ / 1423م سيطر على مدينة تلمسان ، وبهذا بلغ الحد الذي بلغه مؤسس السلطنة أبو زكريا من قبل . جاء في الزركشي : “ولحقته بيعة فاس ثم بيعة صاحب الأندلس فصارت البلاد الافريقية والمغرب الاقصى والأوسط كلّها تحت نظره وفي ملكه” . ويبدو أن عدول أبي فارس عن مواصلة حملته في اتجاه فاس تفسر بانشغاله بأمر الخطر القطلوني، وذلك بعد أن تولّى الفنصو الخامس الحكم سنة 1416م ، فوسع دائرة سيطرته على المتوسط ، التي بلغت نابولي إلى جانب صقلية ، وأصبح يهدّد السواحل الجنوبية للمتوسط . ففي سنة 827هـ / 1423 م ، جاء رسول من قطلونية إلى سلطان تونس ، ولما علم أنه كان محاصرا لتلمسان ، أخبر ملكه بذلك ، فجهز الفنصو في الحين حملة إلى جزيرة قرقنة فيها خمسون جفنا . ويبدو أن الهدف الأساسي كان جزيرة جربة ، لكن عودة السلطان إلى تونس أثنت الغزاة عن مواصلة طريقهم ، فعجّلوا بالرحيل عن الجزيرة ، حاملين معهم غنائمهم .
و لم تمر خمس سنوات (سنة 832هـ/ 1429م) حتى جهز أبو فارس حملة لمعاقبة جزيرة مالطة التي كانت منطلقا لمهاجمة السواحل الافريقية ، وقادها مملوكه القائد رضوان ، فخرّبت غاباتها ثم عادت . وردا على ذلك ، انطلقت من قطلونيّة 130 سفينة سنة 835هـ / 23 ماي سنة 1432 م ، وبعد مرورها بميورقة –سردانية-صقلية- مالطة ، وصلت شواطئ جربة في أواسط شهر أوت ، وتمكنت من دخولها ومن قطع القنطرة الرابطة بين الجزيرة والبر . على أن محاصرة جيش السلطان للجزيرة قد أدى إلى انسحاب الغزاة في أواسط شهر سبتمبر .
ونتج عن هذه الاعمال أنّ البحرية الافريقية استعادت قوّتها نسبيا ، إذ اهتم السلطان بالحصون الساحلية ترميما وإنشاء ، وبالاسطول البحري الذي تمكن من الانتقال من الخطة الدفاعية إلى مهاجمة الجزر البحرية القريبة .
أما فترة حكم أبي عمرو عثمان(839-893هـ / 1435-1488م) ، فقد بدأت بإلقاء القبض على قائد العلوج نبيل ، وذلك بعد أن اتسع نفوذ العلوج الذين استولوا على معظم الولايات والأوطان واستبدوا بالحكم ، وأضحوا قوة فاعلة. على أن نكبة القائد نبيل ومصادرة أمواله سنة 857هـ لم تغيّرا من سياسة أبي عمرو عثمان بل إنّه ازداد اعتماد على العلوج، وفي المقابل أصبح أكثر حذرا من إسداء المناصب للأسرة الحفصية .
ولئن كان إرسال أبي فارس البارود والمؤونة لأهل غرناطة لم يغير كثيرا من موازين القوى في شبه الجزيرة الإيبيرية وذلك بعد أن تمكن البرتغال والاسبان من السيطرة على التجارة والملاحة في المحيط الأطلنتي ، فإن استعمال هذه الأسلحة النارية في الداخل قد أدى إلى بسط الحفصيين نفوذهم على كامل البلاد ونجاحهم مؤقتا على الأقل في إعادة بناء الدولة والسيطرة على القبائل البدوية النابذة وعلى بلاد الواحات ، وذلك بعد أن عجز السيف عن مقارعة نيران البارود وهو ما يسّر إعادة تنظيم الاقتصاد وإزالة عديد المجابي والمغارم، وبناء البحرية. ومما ساعد على هذه النهضة الأخيرة ازياد هجرة الأندلسيين قبيل سقوط غرناطة سنة 897 هـ / 1492م إلى إفريقيّة

– مرحلة الانهيار والهيمنة الأسبانية :

لم تكن هذه التطورات العسكريّة قادرة على إيقاف السقوط في المستنقع .ففد وافق سقوط غرناطة وعجز المغاربة عن التصدّي للتوسع القشتالي والقطلوني بداية تدهور الأوضاع العامة بالسلطنة الحفصية وتفكّكها ، ذلك أن الضغط الاسباني المتواصل على بلاد المغرب أضعف المخزن وأدى إلى بروز بنًى متفككة ، وإلى تنشيط الدور القبلي والطرق الصوفية والزوايا بإفريقية ، وإلى تفعيل دور الشرفاء بالمغرب الأقصى.
وقد مثلت وفاة ولي العهد محمد المسعود المعروف باستقامته، في شعبان 893هـ / 1488م ، حدثا بارزا في المملكة، فبدأ الصراع على السلطة داخل الأسرة الحفصيّة . وانتهت بحكم السلطان أبي عبد الله محمد بن الحسن بن محمد المسعود (899-932هـ / 1494-1525م ) . ولئن اعتبره ابن أبي دينار فطنا وذكيا وفصيحا ومحبّا للخير وأهله ، فإن الخط البياني الاقتصادي والاجتماعي ظل في تراجع طيلة مدّة حكمه وشرع الاسبان في التسرّب إلى البلاد بعد سقوط غرناطة ،و بسطوا نفوذهم على بجاية ثم طرابس سنة 1510م . وفضّل أهل الجزائر الاستنجاد بالقائد التركي عرّوج عوضا عن التوجه إلى بني حفص وذلك لمواجهة الهيمنة الاسبانية . وبينما استعاد العثمانيون بونة وبجاية من يد الاسبان سنة 1522م، تمكّنت مقاومة السكان بجزيرة جربة من صدّ الاسبان إلى حين سنة 1526م .
لقد نجم عن عجز البحرية الافريقية على مواجهة الهيمنة الأجنبية تداعيات داخلية تمثلت في ازدياد الاضطرابات القبلية . ومثلت هذه الحقبة النهاية الفعلية للفترة الحفصية، والانعطاف نحو مستنقع دام أكثر من نصف قرن . وعلى إثر وفاة هذا السلطان ، تولى إبنه الحسن الحكم ، فأظهر في بداية أمره الاستقامة ، وأزال المكوس . غير أن ذلك لم يدم طويلا حتى تفاقمت الأزمة ، وقامت الثورات في كل مكان، أهمها حركة الشيخ عرفة بن نعمون الشابي الصوفية.
وخلال هذه الفترة المتميزة بالتفكّك، تمكّن خيرالدين بربروس من الاستيلاء على مدينة تونس سنة 1534م . وهو ما أدّى بالسلطان حسن إلى طلب النجدة من الاسبان للتخلص من العثمانيين . وهكذا فتحت الحرب الدائرة بين القوتين سنة 1535م الباب واسعا للتسرّب الأجنبي والهيمنة على البلاد . وقد انتهت في الأول لصالح الاسبان الذين دخلوا مدينة تونس وعاثوا فيها فسادا . وعلى حد قول ابن أبي دينار ، أسر فيها ثلث سكان المدينة ومات ثلث آخر وهرب الثلث الباقي ، وكان كل ثلث يعد ستين ألفَا . وقد مثّل هذا الحادث منعطفا تاريخيا هاما ، وضع حدا للحقبة السابقة التي تميزت بالاستقلاليّة .
وفي 25 جويلية من نفس السنة فرض الملك شارل الخامس على الحسن معاهدة مخزية تضمّنت عدة بنود أهمها : تحرير الرقيق النصارى بالمملكة وحماية الكنائس والديانة المسيحية وتسليم أغلب القلاع الساحلية للاسبان لطرد خيرالدين بربروس منها، وتحصين ميناء حلق الوادي ومنح صلوحيات واسعة للقنصل الاسباني للبت في المسائل التجارية والتصدي للغزو البحري المعادي للاسبان. وابتداء من تلك الحقبة تواصل التوتر بين الاسبان والعثمانيين، كي ينفجر الصراع على أشده من جديد بعد نحو أربعين سنة، وانتهى هذه المرة بتغييرالغزاة ، إذ عوض العثمانيون الاسبان .
لا شكّ أن جيش إفريقية كان بريّا أكثر منه بحريّا . وقد أضحت البحرية في موقع الضعف ابتداء من القرن الرابع عشر ، مما ساعد على ازدياد عمليات القرصنة والقطع في مياهها .أما الجيش البري ، فقد تنوّعت تركيبته وأصوله وظلّت أهدافه ضبابية، إذ كثيرا ما وجّه أعنّة فرسانه صوب القرى والمدن القبائل ، ممّا ترجم عن عمق المعضلة في أواخر العهد الحفصي ، وعن التداعيات السياسية والاضطرابات الاجتماعية التي تعزى إلى عوامل خارجية وأخرى داخلية ، إذ انتظمت وقتذاك مبادلات اقتصادية غير متكافئة بين الغرب الأوروبي وبلاد المغرب، تمثلت في هيمنة البحرية الأوروبية على الملاحة في البحر المتوسط وفي تصدير مدن المغرب المواد الأولية من صوف وجلود وذهب وملح مقابل استيرادها مصنوعات جنوة والبندقيّة وبرشلونة.


تم بحمد الله

قائمة المصادر والمراجع :

الأبيّ (محمّد) ـ إكمال إكمال المعلم ، القاهرة 1910 .
ـ ابن عبد الباسط ـ الرّوض الباسط ، مخطوط الفاتيكان ، 729 .
– البرزلي ( أبو القاسم) – جامع مسائل الأحكام ، مخ 4851 ـ 5371 ـ 5372 ـ 5429 ـ 5430
– ابن الدباغ (أبو زيد عبد الرحمان) – الأسرار الجلية في المناقب الدهمانية ، مخ 17944 .
– ابن راشد القفصي (محمد)- الفائق في معرفة الأحكام والوثائق ،مخ 6150ـ 6151 ـ 6152 ـ 6153 ـ 6154 ـ 6117 .
ابن الأبار ( أبو عبد الله محمد) – الحلة السيراء، تحقيق حسين مؤنس ، دار المعارف ، الطبعة الثانية ،
1985 .
– ابن الأثير (أبو الحسن علي) – الكامل في التاريخ ، دار الفكر ، بيروت 1978 .
– التجاني (عبد الله) – الرحلة ، الدار العربية للكتاب ، ليبيا ـ تونس ، 1981 .
– ابن خلدون ( عبد الرحمان) – كتاب العبر ، 7 أجزاء ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت 1983 .
– ابن أبي زرع (علي) – الأنيس المطرب بروض القرطاس في تاريخ المغرب ومدينة فاس، الرباط ( در المنصور) 1972 .
– الزركشي ( أبو عبد الله محمد) – تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية ، تحقيق محمد ماضور ، تونس 1966 .
– ابن الشماع (أبو عبد الله محمد) – الأدلة البينة النورانية في مفاخر الدولة الحفصية ، تحقيق الطاهر المعموري ، تونس 1984 .
– ابن عذاري- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، الجزء الموحدي، تحقيق الكتاني وزنيبر وابن تاويت وزمامة، الدار البيضاء 1985 .
ابن قنفد (أ[و العباس أحمد) – الفارسيّة ، تحقيق محمد الشاذلي النيفر وعبد المجيد التركي، تونس 1968 .
ابن ناجي (أبو الفضل أبو القاسم ) – معالم الايمان في معرفة أهل القيروان ، 4 أجزاء ، تونس 1990 .
الوزّان (الحسن) – وصف إفريقيا ، تحقيق محمد الأخضر ومحمد حجّي ، الرباط 1982 .
المراجـــع :
– الجابري (محمد عابد) – العصبية والدولة ، الرباط ، 1982 .
– حسن (محمد)- الجغرافية التّاريخية لإفريقيّة في العصر الوسيط ، بيروت 2003 .
– حسن (محمد)- المدينة والبادية بافريقية في العهد الحفصي . جزءان تونس 1999 .
– الطالبي (محمد)- دراسات في تاريخ افريقية وحضارتها، تونس 1982 .
– Alarcon, Documentos Arabes del Archivo de la corona de Aragon, Madrid , 1940 .
– Brunschvig. R, La Berbérie Orientale sous les Hafsides, 2T, Alger-Paris 1940.

– Dhina , A., Le royaume Abdelouadide à l’époque dAbu Hammou Moussa et
dAbou Tachfin
, Alger, s.d.
– Dufourcq, LEspagne Catalane et le Maghreb au XIII et XIVeme s. Paris1966.
– Djelloul, N . , Les fortifications côtières ottomanes de la Régence de Tunis, Zaghouan,1995 .
– Kably, M., Societé, pouvoir et religion au Maroc à la fin du moyen-âge, Paris 1986.
– G.Marçais, Les Arabes en Berbérie du XI au XIV eme s., Constantine- Paris 1913 .
 
عودة
أعلى