الدكتور عاطف معتمد يواصل دوره التثقيفى التنويرى الوطنى، باثارة النقاش الجاد حول أثيوبيا و السعى لمعرفتها. والمعرفة الصحية العميقة هى اساس أى قدرة فعلية على التعامل مع الطرف الآخر بصرف النظر عن طبيعة هذا التعامل. هنا يتجاوب الدكتور عمرعبد الفتاح الأستاذ فى الدراسات الأفريقية و المتخصص فى اللغة الأمهرية و آدابها مع دعوة الدكتور عاطف، و يحدثنا عن تقلب علاقة الأثيوبيين بالنيل الأزرق.
قراءة ممتعة:
______
النهر الخالد / النهر الخائن !
قبل يومين كتبت مناقشا ما إذا كان بعض الأشقاء في إثيوبيا يؤمنون بفكرة "النهر الخائن" في وصف النيل الأزرق، وقد استبعدت هذاالوصف معتمدا على أن زيارتي القصيرة لإثيوبيا لم تكشف ذلك، لكن بعض السادة المعلقين حاول أن يصحح لي المعلومة مؤكدا على وجودهذه الفكرة وأنهم قد اطلعوا عليها.
وللتأكد من السؤال بشكل علمي لجأت إلى مرجع خبير في ثقافة وآداب إثيوبيا فاستشرت صديقي وزميلي العزيز د. عمر عبد الفتاح،الأستاذ بكلية الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة وهو متخصص في اللغة الأمهرية وآدابها. وقد جاء رده كريما وافيا أضعه كاملا بينأيديكم مع تحرير طفيف.
*****
صديقي العزيز د. عاطف:
ما ذهب إليه بعض السادة المعلقين بوجود قصائد إثيوبية تصف النهر بالخائن فيه شيء كبير من الصحة، لكن ذلك يجب أن يفسر على مرحلتين:
المرحلة الأولى حتى نهاية سبعينيات القرن العشرين، وفيها تناول شعراء إثيوبيا "النيل" أو አባይ Abbay كما نتناوله نحن في مصروالسودان حين نتغنى بأنه نهر الحضارة، الفارق الوحيد هو التأكيد على أن النيل الأزرق الذي ينبع من إثيوبيا هو واهب حضارة مصر. ومن أشهر الأمثلة قصيدة الشاعر الشهير "تسجاي جبرا مدهن" في عام 1971، وفيها يقول:
يا نيل يا نعمة للعالمين،
يا ملهم الفلاسفة الأولين.
يا بشارة الشعوب السوداء،
يا دم إثيوبيا يا جد الكوشيين.
أنت واهب حضارة العالم،
من نبع بحيرة تانا حتى الكرنك،
ترسل كل ما في ضرعك،
إلى رع إله الشمس وبتاح إله النجوم،
نابعاً من شمس صباح الإنسان الأول،
ومولودًا من صلب الكوشيين.
يا نيل.. يا فخر أرض كوش
أيها النيل الأسود
أنت منبع الإنسان الأسود
أنت فجر حضارة الشعب الحامي
أما المرحلة الثانية فتمثل آخر ثلاثة أو أربعة عقود، مع بزوغ اتجاه شعري محبط ومستاء وحانق على النيل لأنه لا يقدم الكثير من أجل إثيوبيا وأهلها، ودائما ما يغادرهم غاضبًا ومندفعًا ليخدم الجيران غير مبال بأهله وأبناء منبعه.
وفي آخر عشرين سنة مع التخطيط العملي لبناء سد النهضة زادت وتيرة هذه الأشعار. ولنضرب مثلا بأحد الشعراء الذي صور امرأة عجوزغاضبة (إثيوبيا) تحاور شابا جامحا (النيل الأزرق):
- هل ترى ما فعلت؟
ها أنت سلبتني كنزي، وتركتني عارية !
- أماه، دعيني أتحدث معكِ، استمعي إليَّ
أريد أن أخبركِ الحقيقة.
-كفى، لست في حاجة لحديثك.
- أماه ..ماذا جنيتُ في حقك؟
- ألا تدري جريرتك!؟ ألم تساعد أعدائي، وتخليت عن حلفائي؟
لقد ولدت من رحمي لكنك لم تكن يوما بارًا بي.
تستمر هذه "التيمة" في الاستياء من النيل، بل وتتصاعد وتصبح الاتهامات مباشرة بالخيانة وصريحة حين يقول الشاعر تادلا جدلاTadele Gedle :
ها هو أباي يختفي بعيدًا عن الأنظار
تاركًا خلفه أبناء الوطن،
بعد أن سلب كل محاصيلنا من وسط الحقول
أخذ حبوب "الطف" والقمح والشعير والميليت،
أخذ البازلاء والفاصوليا والحمص
أخذ البرتقال والمانجو والليمون من حديقتنا
ليمنحها للمصريين.
وفي قصيدة أخرى يخاطب الشاعر هايلو جبرا يوحنس النيل معاتبا له فيقول:
يا نيل، أيها البخيل، لو كنت تبصر !
فلتنظر إلينا، كم نحن منهكون نكاد نحترق عطشًا
انظر للأرض التي تصرخ ألمًا،
وتتوسل من أجل كرمك
تستجدي رحمتك، تستجدي نقطة ماء
عندما تخرج صرخات أرضك وهي تبوح بويلاتها
من حلقها الجاف
ماذا دهاك ؟
هل بك صممٌ؟ ألا تسمع الأنين؟
وفي ظل هذا السيل من اللوم والاستياء والتخوين لا يستطيع أباي "النيل" أن يقف صامتًا، بل ينتفض ليدافع عن نفسه من خلال قصيدة "ردالنيل"، التي نظمها الشاعر جيتاتشو ووليو Getachew Wolliyou عام 2009، والتي يتقمص فيها شخصية النيل ويرد على كل ما يوجه لهمن اتهامات فيقول:
كفى...توقفوا عن إهانتي، ولا يلعنني أحد دون سبب
لماذا لا تبنون سدًا؟ لماذا لا تمدون أيديكم إلى خيراتي
لا تنتظروا أن أكون أنا صانع مجدكم،
أو أكون مهندس المياه ومنبع خزينتكم
فأنا لا يمكنني أن أعاند الطبيعة،
وأصعد لأعلى،
ولكنني أريدكم أن تعلموا أنني أُكافيء العاملين،
أنا جاهز كي أساعدكم،
فقط إذا قررتم أنتم العمل والبناء.