بداية أحيي الأستاذ كاهن حرب على طرحه المفيد، وأحيي جميع الأخوة المتداخلين، المؤيدين والمعارضين لطرح الأستاذ كاهن،
حاولت كثيراً أن أمسك نفسي بعدم المشاركة نظراً لانشغالي في هذه الفترة ولذلك قلت مشاركاتي في المنتدى، لكن لم أستطع أن أمسك نفسي، لأن الموضوع ليس فقط جميل وطرحه مفيد وإنما أيضاً أخذني إلى ذكريات جميلة، ذكريات أيام الدراسة في الجامعة، حيث كان من ضمن المقرارات الدراسية عدد من المواد التي لها صلة بهذا الموضوع، مثل مقرر Political Economy الذي كان يسلط الضوء على السياسة الاقتصادية في عدد من الدول ومن بينها مصر وبالتحديد Egyptian Political Economy during Nasser's Era السياسة الاقتصادية في عهد عبدالناصر ومن ثم سياسة التحرير الاقتصادي وبرنامج "الانفتاح" في عهد السادات، ومقرر آخر كان عن Comparative Politics و Comparative Political Economy مثل مقارنة السياسة الاقتصادية بين مصر وكوريا الجنوبية في فترة الستينيات، وبطبيعة الحال كان مطلوب منا (نحن الطلبة والطالبات) أن نقدم ورقة بحثية لهذه المقرارات الدراسية، وشاركت بورقتين بحثيتين واحدة عن السياسة الاقتصادية في عهد عبدالناصر ومن ثم برنامج الانفتاح للسادات، والثانية عن مقارنة في الاقتصاد السياسي بين مصر وكوريا الجنوبية، ولذلك موضوع الأستاذ كاهن حرب رجع لي ذكريات جميلة جداً، ولابد أن أشارك فيه، فأرجوا أن تكون مشاركتي خفيفة ومفيدة.
مما لاشك فيه أن الأستاذ كاهن يتحدث عن اقتصاد مصر في عهد عبدالناصر، والموضوع يندرج من ضمن الـ Political Economy، واللافت للنظر أن الأستاذ كاهن ذكر في إحدى نقاطه عن أن "مصر في عهد عبدالناصر كانت أقوى من كوريا الجنوبية وبشهادة البنك الدولي"، وهذه النقطة تتطلب بحث بحد ذاته للحديث عنها، لتبيان أوجه الشبه والاختلاف بين كوريا الجنوبية في عهد الجنرال بارك تشونغ هي Park Chung Hee ومصر في عهد عبدالناصر،
بالرغم من أن لكل عهد له سلبياته وإيجابياته إلا أن الأستاذ كاهن حرب قام بتسليط الضوء على جانب واحد، وأغفل عن حسن نية الجانب الآخر، والذي أعتقد بأنه هو جانب مهم ينبغي تسليط الضوء عليه. على سبيل المثال الأستاذ كاهن حرب أخفق في الحديث عن "الخطط الخمسية" في عهد عبدالناصر، وهل كانت هذه الخطط ناجحة أم فاشلة؟!، وبجانب نقاط أخرى لم يسلط الضوء عليها،
وسأحاول في مشاركتي أن أدرج بعض هذه النقاط، ومنها:
_ كان الاقتصاد المصري في عهد الرئيس جمال عبد الناصر اقتصاد اشتراكي قومي، و خلال الأعوام 1960 و 1972 كان لدى مصر نموذج اشتراكي مخطط مركزياً للتنمية، وتم تثبيط الاستثمار الخاص بعد تأميم عبد الناصر لجميع وسائل الإنتاج الصناعية الرئيسية بين عامي 1961 و 1963،
- خلال العقد من 1960 إلى 1972 اقترضت مصر بكثافة لتمويل تدخلها في الحرب الأهلية اليمنية ولمكافحة العدوان الإسرائيلي، على سبيل المثال اقترضت حوالي 2.3 مليار دولار من الاتحاد السوفيتي، ومن الجماعة الاقتصادية الأوروبية European Economic Community، والولايات المتحدة.
- كانت المشكلة الرئيسية التي تواجه الاقتصاد المصري في ذلك الوقت هي نقص العمالة الماهرة، فقد هاجر الكثير من العمال المصريين المهرة إلى الخارج للحصول على فرص أفضل، وكانت القوة العاملة دون القدرة بسبب ندرة المدارس والجامعات التقنية، وبحلول عامي 1968 و 1969 كان غالبية المهاجرين قد حصلوا على تعليم عالٍ، ومصر مثال على "هجرة الأدمغة".
- وكانت القوى العاملة غير الماهرة أيضا في وضع غير مؤات، وكان الانتقال من الريف إلى المدينة بالنسبة للكثيرين أمراً صعباً، وغالبية العمال غير المهرة كانوا أميين، ويعانون من سوء المعيشة والتدني الصحي وسوء التغذية، واضطروا إلى التكيّف مع روتين المصنع بدلاً من الزراعة.
- وبسبب ما وردناه عن القوة العاملة، فهذا لم يساعد في تسييس الإدارة في ذلك الوقت، وكان يتم تمرير المناصب على أساس الولاء وليس الجدارة.
- في عام 1961 صدر قانون جديد بحيث يتم انتخاب اثنين من كل سبعة أعضاء في مجلس الإدارة من قبل عمال بأجر، وفي عام 1963 تم تعديل هذا الأمر بحيث يجب انتخاب أربعة من أصل تسعة. بالتأكيد كان لهذا تأثير سلبي كبير على الكفاءة، لأن في غالب الأحيان لم يكن الممثلون المنتخبون تكنوقراط، ولم يكونوا مؤهلين لشغل هذه المناصب.
- المخططون الحكوميون المصريون في عهد عبدالناصر، وضعوا خططاً مدتها خمس سنوات، كشكل من أشكال استبدال الواردات لزيادة الإنتاجية ومستويات المعيشة. كانت الخطة الخمسية الأولى توقعت فائضاً قدره 40 مليون دولار في ميزان التجارة لعام 1965، في حين أن في الواقع كان هناك عجز قدره 200 مليون دولار.
- تم تنفيذ إصلاحات شعبية لتعزيز صورة النظام في أعين الجماهير، بين عامي 1960 و 1965 زادت إنتاجية العمل بنسبة 9٪، في حين زاد متوسط الأجور بنسبة 2 ٪.
- بحلول عام 1965 كانت إنتاجية العمل فقط 90% مما كانت عليه في عام 1960 الـ 9%، بسبب أن التنظيم الحكومي جعل من المستحيل تقريباً فصل العمال، وكان لذلك تأثير سلبي على إنتاجية العمل.
- الطبيعة المركزية للحكومة كان القصد منها بأن هناك عدداً من المشاريع المخططة التي صُممت للاستفادة من البنية التحتية والرفاهية، وزارة التخطيط ووزارة الصناعة استعانوا بملاحظات غير ناضجة وغير دقيقة أدت إلى توقعات مفرطة في التفاؤل، حيث تم إنشاء مصانع في المناطق التي لا يمكن تزويدها بالسلع الخام، وتم تجاهل صناعة النسيج من قبل المخططين الحكوميين الذين فشلوا في رؤية الإمكانات الواعدة في هذه الصناعة، ولم يضعوا في اعتبارهم أن مصر كانت واحدة من أكبر منتجي القطن في العالم.
- كانت الخطة الخمسية الأولى متفائلة في التوقع بالمدخرات المستقبلية، حيث كان من المفترض بحلول عام 1965 أن يرتفع مستوى الادخار الوطني من 11٪ إلى 21%، وهو ما لم يحدث.
- معظم الاقتصادات النامية لديها الميل الهامشي للاستهلاك كبير (أو الميل الحدي للاستهلاك MPC)، والناس يميلون إلى تخزين أي شيء لديهم، وبالنسبة لمصر كان للسياسات الحكومية التوسعية في ذلك الوقت تأثير كبير على الاستثمار الخاص، وزيادة الميل الهامشي للاستهلاك، خلال تلك الفترة الزمنية ازداد الميل الهامشي للاستهلاك من 85.7% إلى 90.8%، وهذا يعني أن الميل الهامشي للحفظ انخفض (أو الميل الهامشي لانقاذ أو الميل الهامشي للادخار MPS)، وبلغ الإنفاق الحكومي كنسبة مئوية من إجمالي الاستهلاك 18.2٪ في عام 1960 وارتفع إلى 27٪ في عام 1970.
- بصرف النظر عن انخفاض الميل الهامشي للادخار، فإن الإنفاق الحكومي في الاقتصاد المتخلف له آثار جانبية أخرى. الاستهلاك المحلي للسلع المصنعة محليا يقلل من عدد السلع المتاحة للتصدير، مما يحد من توافر احتياطيات النقد الأجنبي، وهذا يعني أن الندرة في الاحتياطيات الأجنبية من الصعب دفع ثمن الواردات، وفي حالة مصر فإن ذلك يجعل السلع الإنتاجية اللازمة للتصنيع أكثر تكلفة. ومن الآثار الجانبية السلبية الأخرى الزيادة في التضخم الناجم عن الإنفاق الحكومي، مما زاد من تفاقم ميزان المدفوعات في البلاد.
- كان الدافع المهم للخطة الخمسية الأولى هو زيادة الصادرات، وتنوع السلع. وبالرغم من أن مصر كانت في ذلك الوقت لا تزال تعتمد اعتماداً كبيراً على صادراتها من القطن، إلا أن بين عامي 1960 و 1972 فشلت في زيادة صادراتها من القطن بسبب المنافسة الشرسة من السودان وبسبب دودة القطن التي دمرت المحاصيل. ومع ذلك، كان تنوع الصادرات متنوعاً مما يدل على حقيقة أن القطن كنسبة مئوية من الصادرات انخفض من 70.3٪ إلى 45.4٪ بين عامي 1960 و 1970. وبسبب السياسات الحكومية التي أبقت على الطلب على بعض المنتجات مرتفعة بسبب إعانات الغذاء، اضطرت مصر إلى الاعتماد بشدة على القروض الأجنبية لتمويل وارداتها.
- كان صناع السياسة يقومون بالترويج للصادرات من خلال دعم الصادرات وفرض الضرائب على الوارادات. كان التمييز ضد السلع الفاخرة لصالح السلع الانتاجية طريقة أخرى للمساعدة في تحسين ميزان التجارة، الذي سجل عجزاً منذ عام 1954. وبدلاً من التداول بالعملة، كانت الاتفاقيات الثنائية بين مصر والاتحاد السوفيتي تماثل ترتيبات المقايضة (((يعني مثل إيران حالياً مع الصين ترسل لها شحنات من النفط وتستلم منها السلع الصينية))). على سبيل المثال مصر تقوم بتصدير المواد الخام مثل الأرز والقطن والفوسفات ومن ثم تستورد من هذه البلدان السلع تامة الصنع، وفي حالة أرادت أن تشتري الأغذية من الدول ذات الاقتصادات الغربية ستحتاج إلى العملة الأجنبية التي لم تحصل عليها في ترتيبات المقايضة التي أجرتها مع الاتحاد السوفيتي، لذلك كان على مصر الاقتراض لتمويل الفجوة التجارية.
- على الرغم من أن مصر كانت تتمتع بتوازن إيجابي مع دول الكتلة الشرقية، إلا أن توازنها السلبي مع الغرب أثر تماماً على أي فوائد ملحوظة للترتيبات المصرية مع الاتحاد السوفيتي. كان هذا هو السبب الرئيسي لمعضلة الميزان التجاري في مصر، فكما ذكرنا بأن الاتفاقيات الثنائية بين مصر والاتحاد السوفيتي كانت أشبه بترتيبات المقايضة ولم تكن تحصل على العملة الأجنبية لتستورد من الدول ذات الاقتصادات الغربية.
- بحلول عام 1962 كانت مصر تدفع تعويضات للحكومة السودانية عن الآثار السلبية للسد العالي على السودان، وتعويضات للمساهمين في قناة السويس المؤممة. هذه المدفوعات إلى جانب فشل محصول القطن عام 1961 أجبرت مصر على اللجوء إلى صندوق النقد الدولي طلباً للمساعدة. وفي اتفاقية صندوق النقد الدولي ينبغي على مصر تخفيض قيمة عملتها في مقابل قرض قيمته 20 مليون جنيه مصري من الصندق.
- لم تحصل على الفوائد الإيجابية المفترضة من جراء تخفيض قيمة العملة بسبب الإنفاق الحكومي الكبير، وبسبب الإنفاق العسكري الناتج عن حرب اليمن.
- وفي عام 1966 نشأت أزمة أخرى وذهبت مصر مرة أخرى إلى صندوق النقد الدولي للحصول على الائتمان، ومرة أخرى أوصى صندوق النقد الدولي بتخفيض آخر لقيمة العملة بنسبة 40٪، وتخفيض الإعانات، وزيادة الضرائب المحلية. ثم دخلت مصر في حرب الأيام الستة عام 1967 مما جعلت المشاكل الاقتصادية أسوأ، فالخسارة في الإيرادات الناتجة عن غزو إسرائيل لحقول النفط في شبه جزيرة سيناء، وإغلاق قناة السويس، والانخفاض الحاد في السياحة زاد من نزيف الجرح الاقتصادي لمصر.
المراجع:
1 - دراسة بحثية للخبير الاقتصادي ناظم عبد الله، بعنوان: Egypt's Absorptive Capacity During 1960–1972،
وناظم عبدالله كان يعمل لدى الأمم المتحدة في منصب كبير الاقتصاديين بلجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، حالياً لا أعرف إن كان مايزال في عمله بالأمم المتحدة، لربما أحيل على التقاعد.
الدراسة نشرت في عام 1984 في دورية International Journal of Middle East Studies لجامعة كامبردج.
للحصول على الدراسة من موقع Cambridge University Press على هذا الرابط: https://www.cambridge.org/core/jour...ing-19601972/E249D6653C298AAE15D89B15C039EEA9
2 - دراسة أخرى للخبير الاقتصادي ناظم عبدالله نشر في عام 1982، بعنوان: The Role of Foreign Capital in Egypt's Economic Development: 1960–1972، على الرابط التالي:
The Role of Foreign Capital in Egypt's Economic Development: 1960–1972 - Volume 14 Issue 1
www.cambridge.org
3 - كتاب للمؤلفين: برنت هانسن و كريم نشاشيبي، نشر في عام 1975 بعنوان: Foreign Trade Regimes and Economic Development: Egypt،
تجدونه على هذا الرابط: https://www.nber.org/books/hans75-1
4 - كتاب للمؤلف جون واتربري، نشر في عام 1985، بعنوان: The "Soft State" and the Open Door: Egypt's Experience with Economic Liberalization, 1974-1984
** ملاحظة: بالنسبة لمقارنة السياسة الاقتصادية بين مصر وكوريا الجنوبية سأحاول إن سنحت لي الفرصة أن أدرجها في مشاركة ثانية، سأحاول قدر الإمكان إذا استطعت، وإذا لم أتمكن فالعذر والسموحة.
مرحبا أختي العزيزة
@عبير البحرين
كل الملاحظات التي طرحتها أختي العزيزة قد تناولت الموضوع من وجهة نظر 'الرأسمالية' للإقتصاد الاشتراكي في مصر،
فهو نقد متركز على 'الآليات' التي من خلالها يُدار الإنتاج والعمل،
نحن نحتاج إلى تناول الموضوع من منطلق حيادي،
ينظر للنتائج على مستوى التقدم وليس الآليات المطبقة،
لا من وجهة نظر اشتراكية ولا رأسمالية،
وهذا مايتبعه البنك الدولي في تقاريره،
فهو لايتطرق للآليات فكل بلد حر في اتخاذ أي نظام يتناسب مع مصالحه وظروفه،
سواء اتبع آليات رأسمالية أو اشتراكية،
أو خليط من الاثنين كما تفعل بعض الدول الأوروبية،
فلا يمكن للباحث أن يدرس اقتصاد مصر آنذاك
من وجهة نظر الرأسماليين،
ولا من وجهة نظر الإشتراكيين أيضا،
الدراسة يجب أن تكون محايدة في مصادرها ونظرتها وليست منحازة،
هناك بضعة كتب درست الاقتصاد المصري من وجهة نظر اشتراكية،
منها كتاب باتريك اوبريان،
لكنني لم أعتمد عليه أبدا ولم أنظر فيه،
لأن الأمانة العلمية تقتضي ذلك،
وتصنيف المصادر هو أساس أي بحث علمي متجرد
كما تعرفين
شرفني مرورك على الموضوع ?