هذا مقال للكاتب المصري خالد البري والمقال يستحق القراءة فعلا
موضوع تيران وصنافير يتميز بعلو الأصوات ولكن قلة المتوفر من حجج وأدلة. هنا أختبر ما توافر لدي، لكي أصل إلى رأي مبني على معلومات. وأقدم لمن يريد وجهة نظر منطقية
بداية يجب التأكيد على أني لست خبيرا في الحدود الدولية والحدود البحرية، بل ولست خبيرا في الجغرافيا. وبالتالي فهذا المقال لا يسعى لإقامة “الحجة” بل يسعى إلى تقييم ما أتيح أمامي في إطار الجدل المصري الداخلي بخصوص جزيرتي تيران وصنافير.
أولا: الشق القانوني
جريدة البداية جمعت في تحقيق واحد الحجج والوثائق المتاحة والتي تثبت – من وجهة نظر الزملاء هناك – ملكية مصر للجزر، من الناحية القانونية. عنوان التحقيق يظهر في الصورة أدناه
١- نتوقع إذن أن هذا التحقيق الصحفي يقدم للرأي العام تلخيصا بأهم الحجج التي تثبت ملكية الجزيرتين لمصر. وقد بدأ بالفعل بتقديم وجهة نظره، بعنوان جانبي: “١٩٠٦ الجزيرتان مصريتان رسميا.” ما ورد تحت هذا العنوان مرفق في الصورة أدناه
كل الحجج التي تمت الإشارة إليها في تلك الفقرة لا غبار عليها، ولا يكاد يتحداها ولا يشكك فيها أحد. لكن فيها مشكلة واحدة. أنها خارج الموضوع. لأنها جميعا تعود إلى الفترة السابقة لقيام الدولة السعودية. وتخلط بين ولاية الحجاز، وبين الدولة السعودية، خلطا لا يستقيم. فولاية الحجاز لا تساوي الدولة السعودية. هذا معروف لكل شخص على اطلاع بأبجديات التاريخ الحديث. تماما كما أن “متصرفية جبل لبنان” لا تساوي الدولة اللبنانية. بل الدولة اللبنانية حين قامت عام ١٩٤٣ كانت حدودها مختلفة. ولا يصح استخدام التواريخ السابقة في نزاع حدودي بنيها وبين سورية مثلا.
٢- الوثائق المشار إليها إذن ليست هي الحكم في ملكية تيران وصنافير. لكن الجريدة تقدم حجة أخرى مرفقة أيضا في الصورة أدناه، وهي تعتمد على مصدر مجهول، “يقسم بالله” أنه اطلع على خرائط تثبت ملكية مصر قبل أن يصدر قرار بالتحفظ عليها، وهو يقول كما هو موضح، أن التي تحفظت على الخرائط “جهة سيادية” لم يسمها. ثم يشير إلى أن الرئيس عبد الفتاح السيسي استدعى رئيس الهيئة المهندس مدحت كمال لبحث الجزيرتين لكنه لا يعلم تفاصيل اللقاء:
هنا أيضا لا نستطيع الاعتداد بهذا دون أن نطلع على الوثيقة.
٣- لكن الجريدة تقدم صورة فوتوغرافية عبارة عن وثيقة مرسلة من “وزارة الحربية والبحرية – بحرية جلالة الملك” وهي عبارة عن مذكرة مرفوعة لوزير الحربية بشأن تموين القوات الموجودة بمنطقة “طابا وجزر فرعون وتيران وصنافير”، مرفقة أدناه.
يلاحظ في البند رقم “١” من الوثيقة المرفقة أن أن مرسل المذكرة يقر بأن طلب رياسة الإمدادات والتموين في ١٤ نوفمبر سنة ١٩٤٩، كان قاصرا على تموين قوات سلاح الحدود الملكي في منطقة “طابا” فقط.
ثم يقول ما نصه “حيث إن احتلال جزر فرعون وتيران وصنافير لم يكن قد تم بعد ..”
أي أنه طبقا لهذه الوثيقة فإن حرس الحدود الملكي يقر بأن جزر تيران وصنافير لم تكن مدرجة على جدول التموين حتى الموعد المشار إليه، لأنها لم تكن قد “احتلت” بالقوات المصرية حتى ذلك التاريخ.
وأنا لا أدري ما السبب الذي جعل الزملاء يقدمون هذا على أنه وثيقة تثبت ملكية مصر للجزيرتين. فالحيازة من بعد ١٩٤٩ يقرها الجميع. وما تفعله الوثيقة هنا هو إثبات أن القوات المصرية لم تكن موجودة قبل هذا التاريخ.
٤- يتوافق هذا مع خطاب مرسل من الحكومة المصرية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في ٢٨ يناير سنة ١٩٥٠، يعلمها بالوضع الجديد في الجزيرتين.
نص الخطاب بالإنجليزية وترجمته بالعربية مرفق أدناه. وهو من ضمن وثائق الخارجية الإسرائيلية. سأكتفي بترجمة البند ١ لأنه هو الذي يهمنا
“أخذا في الاعتبار بعض المناوشات التي حدثت مؤخرا من جانب السلطات الإسرائيلية بخصوص جزيرتي تيران وصنافير في البحر الأحمر، عند مدخل خليج العقبة، فإن الحكومة المصرية، وبتنسيق كامل مع الحكومة السعودية، أعطت أوامرها باحتلال هاتين الجزيرتين. هذا الاحتلال صار الآن حقيقة واقعة” انتهت الترجمة.
حسب هذه الخطاب الرسمي يظهر أن مصر سيطرت (كلمة احتلال هنا تعني تواجد عسكري) على الجزيرتين بالاتفاق مع الحكومة السعودية (لماذا تنسق مع الحكومة السعودية إن كانت الجزيرتان مصريتين وضمن الحدود المصرية؟). وأن هذا تم في تاريخ حديث سابق لـ ٢٨ يناير ١٩٥٠.
٥- في المصادر الأكاديمية، اطلعت على بحث تابع لوحدة أبحاث الحدود الدولية في جامعة دورام Durham University
البحث يعود إلى سنة ٢٠٠١، في وقت سابق لأي تجاذب سياسي علني حول الجزيرتين. والجزيرتان ورادتان كغيرهما من الكيانات البحرية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. الفقرة الخاصة بهما مرفقة أدناه.
للاطلاع على نسخة كاملة من البحث (بي دي إف) يمكن استخدام الرابط التالي
https://www.dur.ac.uk/ibru/publications/view/?id=241
ترسيم الحدود البحرية الذي قدمته مصر عام ١٩٩٠ يشمل تقريبا كل الساحل والجزر القريبة منه في البحر المتوسط والبحر الأحمر. لكنه يستثني هاتين الجزيرتين (انظر الرسم رقم ٤)……… لم تشهد الجزيرتان أو المنطقة القريبة منهما أي حوادث بين مصر والمملكة العربية السعودية في الأعوام الأخيرة. ربما لدى مصر والمملكة السعودية اتفاقات ثنائية تسمح للقوات المصرية بالتواجد في الجزيرتين، لكن هذه الاتفاقات لم يعلن عنها.
الرسم رقم ٤ المشار إليه في الترجمة
٦- يستقيم كل ما سبق مع الرواية التالية
بعد حرب ١٩٤٨، تخوفت مصر من محاولات إسرائيل السيطرة على مضيق تيران من خلال سيطرتها على الجزيرتين. المضيق يمثل أهمية خاصة بالنسبة لإسرائيل. كونه المعبر المائي الوحيد إلى ميناء “إيلات”.
عبرت مصر عن تخوفها هذا لحكومة المملكة العربية السعودية التي تفهمته. وبالتالي، بالتنسيق معها، سيطرت مصر على الجزيرتين. وقد أثبتت السنوات اللاحقة صحة وجهة النظر الخاصة بأهمية هاتين الجزيرتين الاستراتيجية في المواجهة مع إسرائيل.
احتلت إسرائيل الجزيرتين مرتين. مرة عام ١٩٥٦، وجلت عنها عام ١٩٥٧ لتستبدل بقواتها قوات دولية. وتلك رحلت بدورها عن الجزيرة، وسيطرت القوات المصرية عليها قبيل حرب ١٩٦٧، حين قررت إغلاق مضيق تيران. ووقعت الحرب في ٥ يونيو. فاحتلتها إسرائيل مرة أخرى. ثم استعادتها مصر بموجب عملية السلام.
طالبت مصر السعودية بعدم إثارة موضوع الجزيرتين حتى يتم الجلاء عن كامل الأراضي المصرية. لكن مصر لم تنكر ملكية السعودية للجزيرتين. في الواقع، لقد أشارت جريدة البداية إلى هذه الحقيقة. وذلك من خلال نشر نص خطاب أرسلته الخارجية المصرية إلى رئيس الوزراء عاطف صدقي عام ١٩٩٠. بإمكانكم قراءة الاقتباس الذي أوردته الجريدة المعارضة. كما يمكنكم في نفس الصورة الاطلاع على فحوى القرار رقم ٢٧ لسنة ١٩٩٠ الذي أصدره الرئيس محمد حسني مبارك. والذي، حسب الجريدة، خلا من أي إشارة للجزيرتين، أو لملكية مصر لهما. ثم تورد الجريدة أن هذا ما أكدته دراسة أعدها مكتب المحيطات والشؤون البيئية في وزارة الخارجية الأمريكية عام ١٩٩٤.
لاحظوا أنني حتى الآن، وباستثناء نص الخطاب المرسل إلى الولايات المتحدة بتاريخ ٢٨ يناير ١٩٥٠، والبحث الأكاديمي، اعتمدت بشكل كامل على الوثائق، والروايات التاريخية، التي أوردتها جريدة البداية على اعتبار أنها تعزز حجة ملكية مصر للجزيرتين. لا أدري هل انتبه الزملاء في الجريدة إلى الملاحظات التي أوردتها بشأنها أم لا. لأن الوثائق – في الحقيقة – لا تثبت ذلك. إلا في ما يخص فترة الإمبراطورية العثمانية، وما يسبق قيام الدولة السعودية. أما ما بعد ذلك فالمتوفر – والذي عرضته الجريدة في تحقيقها – يثبت اعترافا مصريا بملكية السعودية للجزيرتين. وآخر هذه المراسلات كان في ٢٠١٠، بعد مرسوم ملكي من الملك عبد الله، يتضمن جزيرتي تيران وصنافير داخل الحدود البحرية للمملكة. جريدة البداية نفسها تذكر هذه الواقعة أيضا.
ثانيا: الشق السياسي الدولي
ما استعرضته أعلاه هو ما توفر لي كمواطن مصري، ليس خبيرا، اطلع على المتاح للرأي العام والمتاح من مراسلات دولية. وكون قناعته بناء عليه. هذه القناعة لخصتها في النقطة ٦. وبناء عليه يبقى أمام مصرأن تختار خيارها السياسي.
أول الخيارات هو الاحتفاظ بالجزر تمسكا بالحيازة. هذا الخيار يعني الاستعداد لتحمل كلفته السياسية والتي تتمثل في إحداث شقاق في التحالف المصري السعودي. وهو من وجهة نظري خيار سيئ للأسباب التالية:
١- إعارة الجزر للسيادة المصرية تم نتيجة تفهم من المملكة السعودية لحاجة مصر الاستراتيجية والعسكرية إلى هذه الجزر. وهي حاجة لم تعد موجودة بعد معاهدة السلام. التزام مصر بإعادتها هو التصرف الطبيعي حفاظا على حسن الجوار، وعلى الالتزام بالمواثيق التي تقدمها الحكومة المصرية.
٢- التمسك بالجزر يعني إحداث شقاق في التحالف المصري السعودي، أو على الأقل ثغرة في هذا التحالف نحن في غنى عنها في الظرف الإقليمي الحالي. مصر تحتاج إلى السعودية كظهير إقليمي يساعدها في تحقيق متطلبات الأمن القومي المصري الواقعية، وأهدافه الحالية. كتأمين الحدود الغربية وتحقيق الاستقرار في ليبيا. والدعم السعودي مهم جدا لتحقيق هذا الغرض.
٣- تحتاج مصر إلى السعودية أيضا لتحقيق استقرار اقتصادي يهم مصر أكثر، بالنظر إلى تضاؤل الأهمية الاستراتيجية للجزر كما أوضحت أعلاه. وتحتاج مصر أيضا إلى وضع أسس لترسيم الحدود تتفق مع التزاماتها، ويسمح بمشاريع اقتصادية في التنقيب عن المعادن والوقود.
الاستهانة بعواقب إحداث ثغرات في التحالف المصري السعودي الإماراتي يعبر عن مشكلة في التقدير السياسي. بعض الفئات المعروفة باستهانتها بالأمن القومي المصري وزعزعة الاستقرار تسعى في هذا الاتجاه. هنا لا أقول إن كل من يعترض على “إعادة الجزر” ينتمي إلى هذه الفئات. إنما أقول إن فئات بعينها معروفة أيديولوجيا باستهانتها بفكرة “التراب الوطني” تذكرت الآن التراب الوطني بمبالغة مثيرة للريبة.
لكل هذه الأسباب يبقى الخيار الأفضل بالنسبة لي هو التسوية السياسية. على ما يتفق عليه الطرفان. سواء من خلال التفاوض المباشر أو من خلال المحكمة الدولية. خيار المحكمة الدولية قد يساهم في إخراج الموضوع سياسيا بصورة تحفظ ماء الوجه. لكنه يتسبب في إطالة أمده. وبالنظر إلى المراسلات الصادرة من الحكومة المصرية يبدو أن الموضوع سيكون محسوما.
يبقى هنا خيار التسوية السياسية المباشرة هو الخيار الأفضل حال نجح المسؤولون المصريون في التغلب على الآثار السلبية للأداء العشوائي الذي طرح به موضوع الجزيرتين، وطرحه على الرأي العام بطريقة تؤدي إلى تفهمه له.
هذا ينقلنا إلى القسم الأخير من هذا المقال
ثالثا: الشق السياسي الداخلي
كان حريا بموضوع الجزر أن يكون مثالا على حسن إدارة العلاقات بين دولتين إقليمتين كبيرتين هما السعودية ومصر. فرغم كل المراسلات في موضع الجزيرتين لم تخرج هذه المراسلات إلى العلن، ولم تتحول أبدا إلى أزمة. وعبرت كما أشرت سابقا عن تفهم كامل للظروف السياسية الدولية والداخلية. لدرجة أن معظمنا لم يكن يعلم بأي “نزاع” حول الجزر حتى أثير الموضوع العام الماضي.
فماذا حدث؟
أدير الموضوع في الداخل المصري بصورة عشوائية، صورته إعلاميا وكأنه ثمن لمشاريع اقتصادية. بالتعبير المصري كأنه “بيع للأرض”. وتلقفت هذا جهات إعلامية، ومجموعات نشطة على وسائل التواصل الاجتماعي، وحولته إلى ملاسنة.
ساعد على هذا ما حدث من تجاوز للمؤسسات في الإعلان عن اتفاق ترسيم الحدود. ثم التخبط في شرح القضية للرأي العام. وهذه قضية سياسية داخلية مستحقة لمساءلة المسؤولين عنها في مؤسستي الرئاسة والحكومة. لكن لا ينبغي لهذا أن يستخدم في إحداث شقاق مع المملكة العربية السعودية، الحليف الأقرب جغرافيا، والأثقل إقليميا.
https://thearabicpost.com/2017/06/12/مواطن-مش-خبير-يبحث-في-تيران-وصنافير/