تحولات الحروب في العصر الحديث: دروس من حربي روسيا وأوكرانيا وإسرائيل وايران
شهد العالم خلال السنوات القليلة الماضية تحولًا جذريًا في طبيعة الحروب، لا سيما من خلال الصراع الروسي-الأوكراني، والمواجهة المتصاعدة بين إسرائيل وإيران، سواء بشكل مباشر أو عبر وكلائهما في المنطقة. هذه الحروب كشفت عن مزيج فريد من الأساليب الحديثة المدعومة بالتكنولوجيا المتطورة، والتكتيكات القديمة التي عادت للظهور رغم الاعتقاد بانتهاء عصرها.
هنا تحليل لأبرز التغيرات التكتيكية والتقنية التي أظهرتها هذه النزاعات، والتي من المحتمل أن تعيد تشكيل وجه الحروب في المستقبل.
أولاً: تكتيكات جديدة تعيد رسم المشهد العسكري
1. هيمنة الطائرات المسيّرة (الدرونز)
استخدام الطائرات بدون طيار في الحربين كان تحولًا استراتيجيًا هائلًا. في أوكرانيا، لجأت القوات الأوكرانية إلى استخدام درونات تجارية بسيطة لأغراض الاستطلاع والاستهداف، فيما استخدمت روسيا درونات هجومية وانتحارية مثل "شاهد" الإيرانية الصنع. أما في إسرائيل، فكان الدفاع الجوي في مواجهة سيل من المسيّرات والصواريخ القادمة من إيران وحلفائها.
النتيجة: من يمتلك التفوق في سلاح الدرونز، يمتلك عينًا في السماء وسلاحًا بيد دقيقة.
2. الذكاء الاصطناعي في ميدان المعركة
أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من ساحة القتال، سواء في توجيه الذخائر، تحليل صور الأقمار الصناعية، أو دعم اتخاذ القرار من خلال أنظمة تحليل البيانات الفورية.
النتيجة: سيتحول دور القادة الميدانيين إلى "مشرفين على الخوارزميات"، أكثر من كونهم صناع قرار منفردين.
3. حرب الاستنزاف والإعلام
الطابع الإعلامي للحرب أصبح بنفس أهمية الجانب الميداني. في أوكرانيا، لعبت شبكات التواصل دورًا في توجيه الرأي العام العالمي، بينما في الحرب بين إسرائيل ووكلاء إيران، كانت الكاميرات جزءًا من المعركة. التضليل، صناعة الرواية، وحرب الصور باتت جزءًا من العمليات القتالية.
النتيجة: من يفوز بالرواية الإعلامية، قد يكسب المعركة قبل أن تبدأ.
ثانيًا: تقنيات غيّرت قواعد اللعبة
4. صواريخ دقيقة بعيدة المدى منخفضة التكلفة
الصواريخ لم تعد حكرًا على القوى الكبرى. إيران أظهرت قدرة على إطلاق صواريخ بعيدة المدى ذات دقة معقولة بتكلفة بسيطة نسبيًا، وهو ما هدد أمن إسرائيل رغم تفوقها العسكري.
النتيجة: تكلفة الهجوم انخفضت بشكل كبير، بينما تكلفة الدفاع لا تزال مرتفعة، ما يعيد صياغة موازين القوى.
5. أنظمة دفاع جوي متعددة الطبقات
إسرائيل قدمت نموذجًا فريدًا في الدفاع الجوي، يجمع بين "القبة الحديدية" لاعتراض القذائف قصيرة المدى، و"مقلاع داوود" و"باتريوت" للصواريخ البالستية والطائرات. هذا التنوع كان ضروريًا أمام تهديدات متعددة الأشكال.
النتيجة: الدفاع الجوي المستقبلي لم يعد خيارًا، بل ضرورة تتطلب استثمارات ضخمة وتكاملًا تقنيًا.
6. عودة الحروب التقليدية في بيئة حديثة
على الرغم من التقدم التكنولوجي، شهدنا عودة لأساليب قتالية تقليدية: الخنادق في أوكرانيا، حرب المدن والأنفاق في غزة. أثبتت تلك الأساليب فعاليتها في بيئات معينة، خاصة ضد جيوش نظامية تعتمد على التقنية.
النتيجة: الحروب المستقبلية ستكون هجينة: تكنولوجيا متقدمة مدمجة مع تكتيكات تعود لقرون.
ثالثًا: تغيّر المفاهيم العسكرية
7. تفوق جوي لا يكفي
لم تتمكن روسيا من فرض سيطرة جوية كاملة رغم امتلاكها لطيران متفوق، ولم تتمكن إسرائيل من تحييد تهديد المسيّرات رغم امتلاكها لـF-35. هذا يكشف أن السيادة الجوية، رغم أهميتها، لا تحسم المعركة وحدها.
النتيجة: التكامل بين الأرض والجو والفضاء السيبراني بات عنصرًا حاسمًا.
8. الجميع أصبح يملك أدوات التجسس
صور الأقمار الصناعية أصبحت متاحة تجاريًا، وتحليلات الفيديو تتم بالذكاء الاصطناعي، ما جعل أي هاتف ذكي أداة استخباراتية محتملة، سواء في أيدي المدنيين أو العسكريين.
النتيجة: الخصوصية في الحروب انتهت، وكل طرف يمكن رصده وتتبعه باستمرار.
خلاصة: مستقبل الحروب
المجال
التحول الحاسم
الأسلحة
الطائرات المسيّرة، الصواريخ الدقيقة، الذكاء الصناعي
الدفاع
أنظمة اعتراض ذكية، تشويش إلكتروني
القيادة
تحوّل نحو القيادة الآلية والتحليل الفوري
الإعلام
الرواية الإعلامية أداة أساسية في المعركة
الاستخبارات
الأقمار الصناعية والذكاء المفتوح للجميع
الخلاصة
لقد ولّى زمن الحروب التي تُحسم بالدبابات وحدها أو الطائرات فقط. الحروب الحديثة هجينة، معقدة، وتدور على الأرض كما في السماء، وفي الإعلام كما في ميادين القتال. ما تعلمناه من أوكرانيا وإسرائيل ليس فقط كيف تُشنّ الحروب، بل كيف يُعاد تعريفها بالكامل.
في السنوات المقبلة، لن يقاس النصر بعدد الدبابات أو القتلى، بل بقدرة الجيوش على التكيّف، السرعة في الرد، والسيطرة على ساحة المعركة بكل أبعادها: الأرض، الجو، الفضاء، والوعي العام