ملحمه فتح عموريه

mody100

عضو مميز
إنضم
13 فبراير 2009
المشاركات
4,404
التفاعل
10,420 0 0

لم تكن واقعة عمورية، تلك التى قال فيها أبو تمام (السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ ..) لم تكن سوى درسٍ عظيمٍ جاوز زمان الأحداث، ليلتقينا فى يومنا هذا، حين الوقوف على العبر والعظات .. تلك الملحمة العظيمة التى دارت رحاها، بين الخلافة العباسية والإمبراطورية البيزنطية في رمضان من عام ٢٢٣ هـ الموافق لأغسطس آب من عام 838 م . فكانت معركةً من أهم معارك العرب مع الروم البيزنطيين .. وتلك قصتها :


سادت حالة من الفوضى والاضطراب أرجاء الخلافة العباسية، جراء ظهور حركة ـ بابك الخرمى ـ الداعية للزندقة والفجور، وكادت تلك الحركة ـ الخرمية ـ في أخريات عهد المأمون ( 813 - 833 م ) بقيادة بابك الخرمى، أن تسقط الخلافة الإسلامية العباسية . فلم تفلح حملات المأمون العسكرية فى القضاء عليها، بل ازدادت شوكتها وعظم خطرها، وتوفى المأمون دون إحراز نصر علي أنصار بابك الخرمى وحركته ، فلما تولى الخليفة المعتصم بالله ( 833 م – 842 م ) نجح فى إخمادها .. فاستنجد بابك الخرمى بإمبراطور الروم البيزنطيين، توفيل بن ميخائيل (829 م -842 م ) وأغراه بالدخول على الخلافة العباسية، التى أنهكتها الحرب معه، فقاله له : «"إنَّ المعتصم لم يُبْقِ على بابه أحدٌ، فإنْ أردت الخروج إليه فليس في وجهك أحدٌ يمنعك"» واستجاب ملك الروم توفيل بن ميخائيل لاستغاثة بابك، وجهَّز جيشًا قُوامه يربو على المائة ألف مقاتل ، وضم إليه أشتات الخرمية، ممن مزَّق شملهم المعتصم بالله، وكانوا أكثر من أربع عشرة ألف جندي بقائدهم .. وبدأ زحف الجيش البيزنطى صوب أطراف الخلافة العباسية، يباغت المدن الآمنة والقرى التى فى طريقه .. فانقض على ثغري ملطية (في تركيا حاليًا) و زبطرة ، ونالت مدينة ملطيَّة الحظ الأوفر فى الدمار ، وأعمل القتل فى أهلها ، وأسر ألف امرأة مسلمة، وقام بتقطيع آذان الأسرى وأنوفهم وسمل أعينهم، واستنجد الضحايا بالمعتصم خليفة المسلمين، فثار وغضب غضباً شديداً ، وأعد العدة للمنازلة .. واستنفر جيشه استعدادا للحرب، وجمع قواده و سألهم : «"أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية ، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام ، وهي أمنع حصون الروم البيزنطيين ؛ وهي أشرف عندهم من القسطنطينية"» وقد كانت بالفعل عمورية من أهم مدن الإمبراطورية البيزنطية وهي في غرب آسيا الصغرى ( الأناضول حديثًا ) .. لكن يبقى من لهم الكلمة العليا فى بلاط الخلافة فى ذاك الزمان .. إنهم قُراء الطالع والمنجمون، فما تتحرك الحرب إلا بعد قراءتهم للطوالع، ومراقبتهم الشمس والقمر والنجوم والمذنبات وأقواس قزح .. فقال المنجمون كلمتهم : أن المعتصم وجيشه لن يستطيعوا فتح عمورية، وخوَّفوا من الاتجاه نحو عمورية، وتحدثوا عن أحداث جسام ستتمخض عنها الأيام .. ولا يأبه الخليفة المعتصم بنبوءتهم، ويضرب صفحاً عنها .

وتحرك المعتصم صوب عمورية في جحافل كثيرة عديدة، وقد تجهز جهازاً لم يتجهز مثله خليفة قبله من السلاح والعدد والآلة وحياض الأدم والبغال والروايا والقرب وآلات الحديد والنفط، وقد كان إصرار المعتصم للنصر قويا، إذ سار مع قواده في خطة محكمة، بدأت من أنقرة على مسيرة ثلاث مراحل ، فهرب أهل أنقرة وعظماؤها، ونزل بها المعتصم وقواده وعلى رأسهم (أشناس وأفشين) فأقاموا بها، ثم تابع المسير إلى عمورية، والعساكر والقواد تتبعه وتمهد له، حتى توافق العساكر بعمورية وضرب عليها حصارا، وتحصن أهل عمورية وراء أسوارها. إلا أن المعتصم نصب المجانيق ..
وكان أول من بدأ بالحرب القائد (أشناس) 6 رمضان ٢٢٣ هـ الموافق 1 أغسطس 838 م وأتى فى اليوم الثانى دور القائد (أفشين) وأصحابه. فأجادوا الحرب وضيقوا الخناق وأكثروا الرمي ، فلما كان اليوم الثالث، وكثرت الجراحات في الروم، ووهى عزمهم، قرر صاحب عمورية أن يستسلم هو وأصحابه إلى المعتصم، بعد حصار دام 11 يوما لمدينتهم، وخسائر فادحة تكبدوها، فطلبوا الأمان على أرواحهم فكان لهم ذلك .. وأمر المعتصم بإحراق عتاد وعدة الحرب الثقيلة لدى الروم البيزنطيين، فاشتعلت النيران بضراوة فى تلك المخازن الضخمة، التى حوت المجانيق والدبابات وآلات الحرب، كي لا يتقوى بها البيزنطيون مرة أخرى ..
وكان ذاك هو الفتح الكبير... ليسقط بالنصر المبين نبوءات المنجمين، أولئك الذين خوَّفوا الناس من دهياء مظلمة ماحقة، إن خرج المعتصم إلى عموريه، وأن حملته ستبوء بالخراب، إن هي خرجت في هذا التوقيت.. ولكن المعتصم بهمته وإيمانه ونقاء عقيدته، لم يلتفت لتلك الأراجيف والخزعبلات، ساعة أقسم أن لا يعود إلا بالفتح والنصر المبين.. وكان له ما أراد ..
ويأتى شاعر البلاط العباسى أبو تمام ، وقد أثارت تلك الواقعة قريحته الشعرية ، لينظم أروع أبيات الحماسة فى الشعر العربى ، إلى الحد الذى أبرز فيه أم المعانى، حين ولوج النصر من أعسر أبوابه .. لمَّا يصرع الحسم فى الميدان نبوءات المنهزمين المثبطين للهمم والعزائم، المبشرين الناس بالضياع والخراب، إذا ما أقدموا على العوالى من الأمجاد .. يأتى أبو تمام ليكرس ثقافة النصر برائعته الخالدة :
السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ ...... في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ
= أي أن النصر العظيم الذي ظفر به العرب في عمورية يشهد بأن السيف أصدق من كتب المنجمين فحده القاطع يفصل بين الحقيقة والخرافة .
بيضُ الصَّفائحِ لاَ سودُ الصَّحائفِ في .... مُتُونِهنَّ جلاءُ الشَّك والريَبِ
بياض السيف بدد ظلام الشك الذي ألقوه على النفوس من خلال ما قرأوه في أوراقهم وكتبهم السود التي تنقل كما يقولون عن الشهب والنجوم ، فما يكون لظلام الشك الذي يتسلل من هذه الصحف أن يثبت أمام لمعان السيوف وبياضه.


والعِلْمُ في شُهُبِ الأَرْمَاحِ لاَمِعَةً .. بَيْنَ الخَمِيسَيْنِ لافي السَّبْعَةِ الشُّهُبِ
= العلم بنتائج الحروب يُلتمس من أسنة الرماح بلمعانها، في المعركة، بين الخميسين : أى الجيشين المتقاتلين، لا في الشهب السبعة التي أعتمد عليها المنجمون .


أَيْنَ الروايَةُ بَلْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَا ... صَاغُوه مِنْ زُخْرُفٍ فيها ومنْ كَذِبِ
= يسخر الشاعر ويستهزأ من المنجمين ويقول، أين روايتكم عن كتبكم؟ بل أين تلك النجوم التي افتريتم عليها، ونسبتم إليها ما أذعتموه من أكاذيب قدمتموها في عبارات منمقة خدَّاعة لتخلعوا بدل القوة،
يَا يَوْمَ وَقْعَةِ عَمُّوريَّةَ انْصَرَفَتْ ........ منكَ المُنى حُفَّلاً معسولةً الحلبِ
= أيها اليوم العظيم ما أروعك فقد تحققت آمال العرب الحافلة بالسعادة فيك وتركت في النفوس أثراً حسناً وذلك لأن الجيش الإسلامي رجع منصوراً محققاً أمانيه ( شبه الأماني بضروع الناقة المملوءة باللبن الحلو الطعم ).
أبقيْتَ جدَّ بني الإسلامِ في صعدٍ .... والمُشْرِكينَ ودَارَ الشرْكِ في صَبَبِ
= وكانت النتيجة أن استمر حظ المسلمين في الارتفاع والانتصار بينما أصاب دار الشرك الانحدار والحزن بسبب الهزيمة التي حلّت بهم
لقد تركتَ أميرَ المؤمنينَ بها .... للنَّارِ يوماً ذليلَ الصَّخرِ والخشبِ
= يا أمير المؤمنين المعتصم كان يومك في عمورية يوماً شديداً على عدوك، وكانت نارك التي أوقدوها العرب لإحراق البلد شديدة حتى أحرقت وأذلت الصخور بعد أن أحترق الخشب .
غادرتَ فيها بهيمَ اللَّيلِ وهوَ ضُحىً ..... يَشُلُّهُ وَسْطَهَا صُبْحٌ مِنَ اللَّهَبِ
= وكان ضوء النار يبدد ويطرد الظلام في عموريه المحترقة حتى كأن الصبح كان يطلع فيها في ذلك الحين .
حتَّى كأنَّ جلابيبَ الدُّجى رغبتْ .... عَنْ لَوْنِهَا وكَأَنَّ الشَّمْسَ لَم تَغِبِ
= وكأن ثياب الليل كرهت لونها الأسود، أو كأن الشمس مازالت مشرقة تنير سماء المدينة .


ضوءٌ منَ النَّارِ والظَّلماءُ عاكفةٌ .... وظُلمةٌ منَ دخان في ضُحىً شحبِ
= وكأن ضوء النار المتوهج في الليل، الضحى الذي شحب من كثافة ما ثار من دخان الحرائق .
تَدْبيرُ مُعْتَصِمٍ بِاللَّهِ مُنْتَقِمِ ..... للهِ مرتقبٍ في الله مُرتغبِ
= لقد أحرز هذا النصر الخليفة المعتصم بالله والمنتقم لله ( غزا أرض الروم لأنهم نكثوا عهد الله بالسلام ) وهو مرتقب في الله ( عمل ما عمل وهو حريص على ألا يخالف أوامر الله في شيء ) وهو مرتغب في الله ( راغب في هذه الحرب في ما يرضي الله وفي ما يقربه إلى الله )..
وإلى العودة للاستمتاع بنص القصيدة الرائعة، بعدما أجلينا أهم أبيات القصيدة تفسيرا ، إذ يتمحور في تلك الأبيات تمام عظمة نظم إبى تمام، فارس شعر الحماسة والفخر .. فأليها :
السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ ............. في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ
بيضُ الصَّفائحِ لاَ سودُ الصَّحائفِ في ............ مُتُونِهنَّ جلاءُ الشَّك والريَبِ
والعِلْمُ في شُهُبِ الأَرْمَاحِ لاَمِعَةً .. بَيْنَ الخَمِيسَيْنِ لافي السَّبْعَةِ الشُّهُبِ
أَيْنَ الروايَةُ بَلْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَا ............ صَاغُوه مِنْ زُخْرُفٍ فيها ومنْ كَذِبِ
تخرُّصاً وأحاديثاً ملفَّقةً ........................... لَيْسَتْ بِنَبْعٍ إِذَا عُدَّتْ ولاغَرَبِ
عجائباً زعموا الأيَّامَ مُجْفلةً ................. عَنْهُنَّ في صَفَرِ الأَصْفَار أَوْ رَجَبِ
وخَوَّفُوا الناسَ مِنْ دَهْيَاءَ مُظْلِمَةٍ .......... إذا بدا الكوكبُ الغربيُّ ذو الذَّنبِ
وصيَّروا الأبرجَ العُلْيا مُرتَّبةً ....................... مَا كَانَ مُنْقَلِباً أَوْ غيْرَ مُنْقَلِبِ
فَتْحُ الفُتوحِ تَعَالَى أَنْ يُحيطَ بِهِ .......... نَظْمٌ مِن الشعْرِ أَوْ نَثْرٌ مِنَ الخُطَبِ
فتحٌ تفتَّحُ أبوابُ السَّماءِ لهُ ................. وتبرزُ الأرضُ في أثوابها القُشُبِ
يَا يَوْمَ وَقْعَةِ عَمُّوريَّةَ انْصَرَفَتْ ............ منكَ المُنى حُفَّلاً معسولةً الحلبِ
أبقيْتَ جدَّ بني الإسلامِ في صعدٍ .... والمُشْرِكينَ ودَارَ الشرْكِ في صَبَبِ
أُمٌّ لَهُمْ لَوْ رَجَوْا أَن تُفْتَدى جَعَلُوا .................... فداءها كلَّ أمٍّ منهمُ وأبِ
وبرْزةِ الوجهِ قدْ أعيتْ رياضتُهَا ........ كِسْرَى وصدَّتْ صُدُوداً عَنْ أَبِي كَرِبِ
بِكْرٌ فَما افْتَرَعَتْهَا كَفُّ حَادِثَةٍ ....................... ولا ترقَّتْ إليها همَّةُ النُّوبِ
مِنْ عَهْدِ إِسْكَنْدَرٍ أَوْ قَبل ذَلِكَ قَدْ .. شابتْ نواصي اللَّيالي وهيَ لمْ تشبِ
حَتَّى إذَا مَخَّضَ اللَّهُ السنين لَهَا ........ مَخْضَ البِخِيلَةِ كانَتْ زُبْدَةَ الحِقَبِ
أتتهُمُ الكُربةُ السَّوداءُ سادرةً ............... منها وكان اسمها فرَّاجةَ الكُربِ
جرى لها الفالُ برحاً يومَ أنقرةِ ....... إذْ غودرتْ وحشةً الساحاتِ والرِّحبِ
لمَّا رَأَتْ أُخْتَها بِالأَمْسِ قَدْ خَرِبَتْ ....... كَانَ الْخَرَابُ لَهَا أَعْدَى من الجَرَبِ
كمْ بينَ حِيطانها من فارسٍ بطلٍ ........ قاني الذّوائب من آني دمٍ سربِ
بسُنَّة ِ السَّيفِ والخطيَّ منْ دمه ....... لاسُنَّةِ الدين وَالإِسْلاَمِ مُخْتَضِبِ
لقد تركتَ أميرَ المؤمنينَ بها ............... للنَّارِ يوماً ذليلَ الصَّخرِ والخشبِ
غادرتَ فيها بهيمَ اللَّيلِ وهوَ ضُحىً ....... يَشُلُّهُ وَسْطَهَا صُبْحٌ مِنَ اللَّهَبِ
حتَّى كأنَّ جلابيبَ الدُّجى رغبتْ ....... عَنْ لَوْنِهَا وكَأَنَّ الشَّمْسَ لَم تَغِبِ
ضوءٌ منَ النَّارِ والظَّلماءُ عاكفةٌ ....... وظُلمةٌ منَ دخان في ضُحىً شحبِ
تصرَّحَ الدَّهرُ تصريحَ الغمامِ لها ............ عنْ يومِ هيجاءَ منها طاهرٍ جُنُبِ
وحُسْنُ مُنْقَلَبٍ تَبْقى عَوَاقِبُهُ ............ جاءتْ بشاشتهُ منْ سوءٍ منقلبِ
لوْ يعلمُ الكفرُ كمْ منْ أعصرٍ كمنتْ ....... لَهُ العَواقِبُ بَيْنَ السُّمْرِ والقُضُبِ
تَدْبيرُ مُعْتَصِمٍ بِاللَّهِ مُنْتَقِمِ ......................... للهِ مرتقبٍ في الله مُرتغبِ
 
عودة
أعلى