مدنية في قول الأكثرين. وقال الضحاك: مكية. وقال الكلبي: هي مكية ومدنية. وهي ثماني عشرة آية. وعن ابن عباس أن سورة التغابن نزلت بمكة؛ إلا آيات من آخرها نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فأنزل الله عز وجل{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم}التغابن: 14] إلى آخر السورة. وعن عبدالله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا وفي تشابيك رأسه مكتوب خمس آيات من فاتحة سورة التغابن .
الآية رقم ( 1 )
{يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير}
تقدم في غير موضع.
الآية رقم ( 2 )
{هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير}
قال ابن عباس: إن الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمنا وكافرا. وروى أبو سعيد الخدري قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم عشية فذكر شيئا مما يكون فقال: (يولد الناس على طبقات شتى. يولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت مؤمنا. ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت كافرا. ويولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت كافرا. ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت مؤمنا). وقال ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خلق الله فرعون في بطن أمه كافرا وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا). وفي الصحيح من حديث ابن مسعود: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). "خرجه البخاري والترمذي وليس فيه ذكر الباع."
" "صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار. وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة). قال علماؤنا: والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم؛ فيجري ما علم وأراد وحكم. فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال، وقد يريده إلى وقت معلوم. وكذلك الكفر. وقيل في الكلام محذوف: فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق؛ فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه؛ قاله الحسن. وقال غيره: لا حذف فيه؛ لأن المقصود ذكر الطرفين. وقال جماعة من أهل العلم: إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا. قالوا: وتمام الكلام {هو الذي خلقكم}. ثم وصفهم فقال{فمنكم كافر ومنكم مؤمن} كقوله تعالى{والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه}النور: 45] الآية. قالوا: فالله خلقهم؛ والمشي فعلهم. واختاره الحسين بن الفضل، قال: لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله {فمنكم كافر ومنكم مؤمن}. واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) الحديث. وقد مضى في الروم مستوفى. قال الضحاك: فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر كافر في العلانية كعمار وذويه. وقال عطاء بن أبي رباج: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب؛ يعني في شأن الأنواء. وقال الزجاج - وهو أحسن الأقوال، والذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة - : إن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب؛ مع أن الله خالق الكفر. وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب؛ مع أن الله خالق الإيمان. والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه؛ لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه. ولا يجوز أن يوجد من كل واحد منهما غير الذي قدر عليه وعلمه منه؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز، ووجود خلاف المعلوم جعل، ولا يليقان بالله تعالى. وفي هذا سلامة من الجبر والقدر؛ كما قال الشاعر:
يا ناظرا في الدين ما الأمر لا قدرٌ صحَّ ولا جبْر
وقال سيلان: قدم أعرابي البصرة فقيل له: ما تقول في القدر؟ فقال: أمر تغالت فيه الظنون، واختلف فيه المختلفون؛ فالواجب أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه.
قوله تعالى{خلق السماوات والأرض بالحق} تقدم في غير موضع؛ أي خلقها حقا يقينا لا ريب فيه. وقيل: الباء بمعنى اللام أي خلقها للحق وهو أن يجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. {وصوركم فأحسن صوركم} يعني آدم عليه السلام، خلقه بيده كرامة، له؛ قاله مقاتل. الثاني: جميع الخلائق. وقد مضى معنى التصوير، وأنه التخطيط والتشكيل. فإن قيل: كيف أحسن صورهم؟ قيل له: جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه صورة بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور. ومن حسن صورته أنه خلق منتصبا غير منكب؛ كما قال عز وجل{لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}التين: 4] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. {وإليه المصير} أي المرجع؛ فيجازي كلا بعمله.
الآية رقم ( 4 )
{يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور}
تقدم في غير موضع. فهو عالم الغيب والشهادة، لا يخفى عليه شيء.
الآية رقم ( 5 )
{ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم}
قوله تعالى{ألم يأتكم} الخطاب لقريش أي ألم يأتكم خبر كفار الأمم الماضية. {فذاقوا وبال أمرهم} أي عوقبوا. {ولهم} في الآخرة {عذاب أليم} أي موجع. وقد تقدم.
الآية رقم ( 6 )
{ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد}
قوله تعالى{ذلك} أي هذا العذاب لهم بكفرهم بالرسل تأتيهم {بالبينات} أي بالدلائل الواضحة. {فقالوا أبشر يهدوننا} أنكروا أن يكون الرسول من البشر. وارتفع {أبشر} على الابتداء. وقيل: بإضمار فعل، والجمع على معنى بشر؛ ولهذا قال{يهدوننا} ولم يقل يهدينا. وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع فيكون اسما للجنس؛ وواحده إنسان لا واحد له من لفظه. وقد يأتي الجمع بمعنى الواحد؛ نحو قوله تعالى{ما هذا بشرا}يوسف: 31]. {فكفروا وتولوا} أي بهذا القول؛ إذ قالوه استصغارا ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده. وقيل: كفروا بالرسل وتولوا عن البرهان وأعرضوا عن الإيمان والموعظة. {واستغنى الله} أي بسلطانه عن طاعة عباده؛ قاله مقاتل. وقيل: استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه لهم من البيان، عن زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية.
الآية رقم ( 7 )
{زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير}
قوله تعالى{زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا} أي ظنوا. الزعم هو القول بالظن. وقال شريح: لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا. قيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي مع خباب حسب ما تقدم بيانه في آخر سورة مريم ، ثم عمت كل كافر. {قل} يا محمد {بلى وربي لتبعثن} أي لتخرجن من قبوركم أحياء. {ثم لتنبؤن} لتخبرن. {بما عملتم} أي بأعمالكم. {وذلك على الله يسير} إذ الإعادة أسهل من الابتداء.
الآية رقم ( 8 )
{فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير}
قوله تعالى{فآمنوا بالله ورسوله} أمرهم بالإيمان بعد أن عرفهم قيام الساعة. {والنور الذي أنزلنا} وهو القرآن، وهو نور يهتدي به من ظلمة الضلال. {والله بما تعملون خبير}.
الآية رقم ( 9 )
{يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}
قوله تعالى{يوم يجمعكم ليوم الجمع} العامل في {يوم} {لتنبؤن} أو {خبير} لما فيه من معنى الوعد؛ كأنه قال: والله يعاقبكم يوم يجمعكم. أو بإضمار اذكر. والغبن: النقص. يقال: غبنه غبنا إذا أخذ الشيء منه بدون قيمته. وقراءة العامة {يجمعكم} بالياء؛ لقوله تعالى{والله بما تعلمون خبير} فاخبر. ولذكر اسم الله أولا. وقرأ نصر وابن أبي إسحاق والجحدري ويعقوب وسلام {نجمعكم} بالنون؛ اعتبارا بقوله{والنور الذي أنزلنا}. ويوم الجمع يوم يجمع الله الأولين والآخرين والإنس والجن وأهل السماء وأهل الأرض. وقيل: هو يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله. وقيل: لأنه يجمع فيه بين الظالم والمظلوم. وقيل: لأنه يجمع فيه بين كل نبي وأمته. وقيل: لأنه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي. {ذلك يوم التغابن} أي يوم القيامة. قال:
وما أرتجي بالعيش في دار فرقة ألا إنما الراحات يوم التغابن
وسمى يوم القيامة يوم التغابن؛ لأنه غبن فيه أهل الجنة أهل النار. أي أن أهل الجنة أخذوا الجنة، وأخذ أهل النار النار على طريق المبادلة؛ فوقع الغبن لأجل مبادلتهم الخير بالشر، والجيد بالرديء، والنعيم بالعذاب. يقال: غبنت فلانا إذا بايعته أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة لك. وكذا أهل الجنة وأهل النار؛ على ما يأتي بيانه. ويقال: غبنت الثوب وخبنته إذا طال عن مقدارك فخطت منه شيئا؛ فهو نقصان أيضا. والمغابن: ما انثنى من الخلق نحو الإبطين والفخذين. قال المفسرون: فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة. ويظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام. قال الزجاج: ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة من كان دون منزلته.
فإن قيل: فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها. قيل له: هو تمثيل الغبن في الشراء والبيع؛ كما قال تعالى{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}البقرة: 16]. ولما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا، وذكر أيضا أنهم غبنوا؛ وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة. وهذا نوع مبادلة اتساعا ومجازا. وقد فرق الله سبحانه وتعالى الخلق فريقين: فريقا للجنة وفريقا للنار. ومنازل الكل موضوعة في الجنة والنار. فقد يسبق الخذلان على العبد - كما بيناه في هذه السورة وغيرها - فيكون من أهل النار، فيحصل الموفق على منزل المخذول ومنزل الموفق في النار للمخذول؛ فكأنه وقع التبادل فحصل التغابن. والأمثال موضوعة للبيان في حكم اللغة والقرآن. وذلك كله مجموع من نشر الآثار وقد جاءت مفرقة في هذا الكتاب. وقد يخبر عن هذا التبادل بالوراثة كما بيناه في {قد أفلح المؤمنون}المؤمنون: 1] والله اعلم. وقد يقع التغابن في غير ذلك اليوم على ما يأتي بيانه بعد؛ ولكنه أراد التغابن الذي لا جبران لنهايته. وقال الحسن وقتادة: بلغنا أن التغابن في ثلاثة أصناف: رجل علم علما فعلمه وضيعه هو ولم يعمل به فشقي به، وعمل به من تعلمه منه فنجا به. ورجل اكتسب مالا من وجوه يسأل عنها وشح عليه، وفرط في طاعة ربه بسببه،، ولم يعمل فيه خيرا، وتركه لوارث لا حساب عليه فيه؛ فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه. ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد، وعمل السيد بمعصية وبه فشقي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى يقيم الرجل والمرأة يوم القيامة بين يديه فيقول الله تعالى لهما قولا فما أنتما بقائلين فيقول الرجل يا رب أوجبت نفقتها علي فتعسفتها من حلال وحرام وهؤلاء الخصوم يطلبون ذلك ولم يبق لي ما أوفي به فتقول المرأة يا رب وما عسى أن أقول اكتسبه حراما وأكلته حلالا وعصاك في مرضاتي ولم أرض له بذلك فبعدا له وسحقا فيقول الله تعالى قد صدقت فيؤمر به إلى النار ويؤمر بها إلى الجنة فتطلع عليه من طبقات الجنة وتقول له غبناك غبناك سعدنا بما شقيت أنت به) فذلك يوم التغابن.
قال ابن العربي: استدل علماؤنا بقوله تعالى{ذلك يوم التغابن} على أنه لا يجوز الغبن في المعاملة الدنيوية؛ لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة فقال{ذلك يوم التغابن} وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا؛ فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث. واختاره البغداديون واحتجوا عليه بوجوه: منها قوله صلى الله عليه وسلم لحبان بن منقذ: (إذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا). وهذا فيه نظر طويل بيناه في مسائل الخلاف. نكتته أن الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع في حكم الدين؛ إذ هو من باب الخداع المحرم شرعا في كل ملة، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه لأحد، فمضى في البيوع؛ إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدا؛ لأنه لا يخلو منه، حتى إذا كان كثيرا أمكن الاحتراز منه فوجب الرد به. والفرق بين القليل والكثير أصل في الشريعة معلوم، فقدر علماؤنا الثلث لهذا الحد؛ إذ رأوه في الوصية وغيرها. ويكون معنى الآية على هذا: ذلك يوم التغابن الجائز مطلقا من غير تفصيل. أو ذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبدا؛ لأن تغابن الدنيا يستدرك بوجهين: إما برد في بعض الأحوال، وإما بربح في بيع آخر وسلعة أخرى. فأما من خسر الجنة فلا درك له أبدا. وقد قال بعض علماء الصوفية: إن اله كتب الغبن على الخلق أجمعين، فلا يلقى أحد ربه إلا مغبونا، لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب. وفي الأثر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يلقى الله أحد إلا نادما إن كان مسيئا أن لم يحسن، وإن كان محسنا أن لم يزدد).
قوله تعالى{ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته وندخله جنات} قرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما، والباقون بالياء.
الآية رقم ( 10 )
{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير}
قوله تعالى{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} يعني القرآن {أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير} لما ذكر ما للمؤمنين ذكر ما للكافرين؛ كما تقدم في غير موضع.
الآية رقم ( 11 )
{ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم}
قوله تعالى{ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله} أي بإرادته وقضائه. وقال الفراء: يريد إلا بأمر الله. وقيل: إلا بعلم الله. وقيل: سبب نزولها إن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله عن المصائب في الدنيا؛ فبين الله تعالى أن ما أصاب من مصيبة في نفس أو مال أو قول أو فعل، يقتضي هما أو يوجب عقابا عاجلا أو آجلا فبعلم الله وقضائه.
قوله تعالى{ومن يؤمن بالله} أي يصدق ويعلم أنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله. {يهد قلبه} للصبر والرضا. وقيل: يثبته على الإيمان. وقال أبو عثمان الجيزي: من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة. وقيل{ومن يؤمن بالله يهد قلبه} عند المصيبة فيقول{إنا لله وإنا إليه راجعون}البقرة: 156]؛ قاله ابن جبير. وقال ابن عباس: هو أن يجعل الله في قلبه اليقين ليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. وقال الكلبي: هو إذا أبتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر. وقيل: يهد طبه إلى نيل الثواب في الجنة. وقراءة العامة {يهد} بفتح الياء وكسر الدال؛ لذكر اسم الله أولا. وقرأ السلمي وقتادة {يهد قلبه} بضم الياء وفتح الدال على الفعل المجهول ورفع الباء؛ لأنه اسم فعل لم يسم فاعله.
وقرأ طلحة بن مصرف والأعرج {نهد} بنون على التعظيم {قلبه} بالنصب. وقرأ عكرمة {يهدأ قلبه} بهمزة ساكنة ورفع الباء، أي يسكن ويطمئن. وقرأ مثله مالك بن دينار، إلا أنه لين الهمزة. {والله بكل شيء عليم} لا يخفى عليه تسليم من انقاد وسلم لأمره، ولا كراهة من كرهه.
الآية رقم ( 12 : 13 )
{وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين، الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون}
أي هونوا على أنفسكم المصائب، واشتغلوا بطاعة الله، واعملوا بكتابه، وأطيعوا الرسول في العمل بسنته؛ فإن توليتم عن الطاعة فليس على الرسول إلا التبليغ.
الآية رقم ( 14 )
{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}
قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي؛ شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده؛ فنزلت. ذكره النحاس. وحكاه الطبري عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة التغابن كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم} نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق فيقيم؛ فنزلت{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم} الآية كلها بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي. وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة. و"روى الترمذي عن ابن عباس" - وسأله رجل عن هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروه} - قال: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم؛ فأنزل الله تعالى{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} الآية. هذا حديث حسن صحيح.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا يبين وجه العداوة؛ فان العدو لم يكن عدوا لذاته وإنما كان عدوا بفعله. فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدوا، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان فقال له أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له أتهاجر وتترك مالك وأهلك فخالفه فهاجر ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل، فحق على الله أن يدخله الجنة). وقعود الشيطان يكون بوجهين: أحدهما: يكون بالوسوسة. والثاني: بأن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب؛ قال الله تعالى{وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم}فصلت: 25]. وفي حكمة عيسى عليه السلام: من اتخذ أهلا ومالا وولدا كان للدنيا عبدا. وفي صحيح الحديث بيان أدنى من ذلك في حال العبد؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد القطيفة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش). ولا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم، ولا همة أخس من همة ترتفع بثوب جديد.
كما أن الرجل يكون له ولده وزوجه عدوا كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدوا بهذا المعنى بعينه. وعموم قوله{من أزواجكم} يدخل فيه الذكر والأنثى لدخولهما في كل آية. والله اعلم.
قوله تعالى{فاحذروهم} معناه على أنفسكم. والحذر على النفس يكون بوجهين: إما لضرر في البدن، وإما لضرر في الدين. وضرر البدن يتعلق بالدنيا، وضرر الدين يتعلق بالآخرة. فحذر الله سبحانه العبد من ذلك وأنذره به. {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} "روى الطبري عن عكرمة" في قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} قال: كان الرجل يريد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له أهله: أين تذهب وتدعنا؟ قال: فإذا أسلم وفقه قال: لأرجعن إلى الذين كانوا ينهون عن هذا الأمر، فلأفعلن ولأفعلن؛ قال: فأنزل الله عز وجل{وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}. وقال مجاهد في قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} قال: ما عادوهم في الدنيا ولكن حملتهم مودتهم على أن أخذوا لهم الحرام فاعطوه إياهم. والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد. وخصوص السبب لا يمنع عموم الحكم.
الآية رقم ( 15 )
{إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم}
قوله تعالى{إنما أموالكم وأولادكم فتنة} أي بلاء واختبار يحملكم على كسب المحرم ومنع حق الله تعالى فلا تطيعوهم في معصية الله. وفي الحديث: (يؤتى برجل يوم القيامة فيقال أكل عياله حسناته). وعن بعض السلف: العيال سوس الطاعات. وقال القتيبي{فتنة} أي إغرام؛ يقال: فتن الرجل بالمرأة أي شغف بها. وقيل{فتنة} محنة. ومنه قول الشاعر:
لقد فتن الناس في دينهم وخلَّى ابن عفان شرا طويلا
وقال ابن مسعود: لا يقولن أحدكم اللهم اعصمني من الفتنة؛ فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة؛ ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن. وقال الحسن في قوله تعالى{إن من أزواجكم}: أدخل {من} للتبعيض؛ لأن كلهم ليسوا بأعداء. ولم يذكر {من} في قوله تعالى{إنما أموالكم وأولادكم فتنة} لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما. "روى الترمذي وغيره عن عبدالله بن بريدة" عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب؛ فجاء الحسن والحسين - عليهما السلام - وعليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران؛ فنزل صلى الله عليه وسلم فحملهما بين يديه، ثم قال: (صدق الله عز وجل إنما أموالكم وأولادكم فتنة. نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما) ثم أخذ في خطبته. {والله عنده أجر عظيم} يعني الجنة، فهي الغاية، ولا أجر أعظم منها في قول المفسرين. وفي الصحيحين واللفظ للبخاري - عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا). ولا شك في أن الرضا غاية الآمال. وأنشد الصوفية في تحقيق ذلك:
امتحن الله به خلقه فالنار والجنة في قبضته
فهجره أعظم من ناره ووصله أطيب من جنته
الآية رقم ( 16 : 17 )
{فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون، إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم}
قوله تعالى{فاتقوا الله ما استطعتم} ذهب جماعة من أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى{اتقوا الله حق تقاته}آل عمران: 102] منهم قتادة والربيع بن أنس والسدي وابن زيد. ذكر الطبري: وحدثني يونس بن عبدالأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته}آل عمران: 102] قال: جاء أمر شديد، قالوا: ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه؟ فلما عرف الله أنه قد اشتد ذلك عليهم نسخها عنهم وجاء بهذه الآية الأخرى فقال{اتقوا الله ما استطعتم}. وقيل: هي محكمة لا نسخ فيها. وقال ابن عباس: قوله تعالى{اتقوا الله حق تقاته}آل عمران: 102] إنها لم تنسخ، ولكن حق تقاته أن يجاهد لله حق جهاده، ولا يأخذه في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وقد تقدم.
فإن قيل: فإذا كانت هذه الآية محكمة غير منسوخة فما وجه قوله في سورة التغابن{فاتقوا الله ما استطعتم} وكيف يجوز اجتماع الأمر باتقاء الله حق تقاته، والأمر باتقائه ما استطعنا. والأمر باتقائه حق تقاته إيجاب القرآن بغير خصوص ولا وصل بشرط، والأمر باتقائه ما استطعنا أمر باتقائه موصولا بشرط. قيل له: قوله{فاتقوا الله ما استطعتم} بمعزل مما دل عليه قوله تعالى{اتقوا الله حق تقاته}آل عمران: 102] وإنما عنى بقوله{فاتقوا الله ما استطعتم} فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعل فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم، وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام؛ فتتركوا الهجرة ما استطعتم؛ بمعنى وأنتم للهجرة مستطيعين. وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها بقوله تعالى{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} إلى قوله {فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم}النساء: 97]. فأخبر أنه قد عفا عمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا بالإقامة في دار الشرك؛ فكذلك معنى قوله{فاتقوا الله ما استطعتم} في الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أن تتركوها بفتنة أموالكم وأولادكم. ومما يدل على صحة هذا أن قوله{فاتقوا الله ما استطعتم} عقيب قوله{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم}.
ولا خلاف بين السلف من أهل العلم بتأويل القرآن أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك؛ حسب ما تقدم. وهذا كله اختيار الطبري. وقيل{فاتقوا الله ما استطعتم} فيما تطوع به من نافلة أو صدقة؛ فإنه لما نزل قوله تعالى{اتقوا الله حق تقاته}آل عمران: 102] اشتد على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم، فأنزل الله تعالى تخفيفا عنهم{فاتقوا الله ما استطعتم} فنسخت الأولى؛ قاله ابن جبير. قال الماوردي: ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل أن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها؛ لأنه لا يستطيع اتقاءها.
قوله تعالى{واسمعوا وأطيعوا} أي اسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون به وتنهون عنه. وقال مقاتل: اسمعوا أي اصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله؛ وهو الأصل في السماع. {وأطيعوا} لرسوله فيما أمركم أو نهاكم. وقال قتادة: عليهما بويع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة. وقيل{واسمعوا} أي اقبلوا ما تسمعون؛ وعبر عنه بالسماع لأنه فائدته.
قلت: وقد تغلغل في هذه الآية الحجاج حين تلاها وقصرها على عبدالملك بن مروان فقال{فاتقوا الله ما استطعم واسمعوا وأطيعوا} هي لعبدالملك بن مروان أمين الله وخليفته، ليس فيها مثنوية، والله لو أمرت رجلا أن يخرج ن باب المسجد فخرج من غيره لحل لي دمه. وكذب في تأويلها بل هي للنبي صلى الله عليه وسلم أولا ثم لأولي الأمر من بعده. دليله {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}النساء: 59].
قوله تعالى{وأنفقوا} قيل: هو الزكاة؛ قاله ابن عباس. وقيل: هو النفقة في النفل. وقال الضحاك: هو النفقة في الجهاد. وقال الحسن: هو نفقة الرجل لنفسه. قال ابن العربي: وإنما أوقع قائل هذا قوله{لأنفسكم} وخفي عليه أن نفقة النفل والفرض في الصدقة هي نفقة الرجل على نفسه؛ قال الله تعالى{إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها}. [الإسراء: 7]. وكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه. والصحيح أنها عامة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: عندي دينار؟ قال: (أنفقه على نفسك) قال: عندي آخر؟ قال: (أنفقه على عيالك) قال: عندي آخر؟ قال: (أنفقه على ولدك) قال: عندي آخر؟ قال: (تصدق به) فبدأ بالنفس والأهل والولد وجعل الصدقة بعد ذلك. وهو الأصل في الشرع.
قوله تعالى{خيرا لأنفسكم} {خيرا} نصب بفعل مضمر عند سيبويه؛ دل عليه {وأنفقوا} كأنه قال: ايتوا في الإنفاق خيرا لأنفسكم، أو قدموا خيرا لأنفسكم من أموالكم. وهو عند الكسائي والقراء نعت لمصدر محذوف؛ أي أنفقوا إنفاقا خيرا لأنفسكم. وهو عند أبي عبيدة خبر كان مضمرة؛ أي يكن خيرا لكم. ومن جعل الخير المال فهو منصوب بـ {أنفقوا}. {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} تقدم الكلام فيه. وكذا {إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم} تقدم الكلام فيه. {ويغفر لكم والله شكور حليم} تقدم معنى الشكر في البقرة . والحليم: الذي لا يعجل.
الآية رقم ( 18 )
{عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم}
قوله تعالى{عالم الغيب والشهادة} أي ما غاب وحضر. وهو {العزيز} أي الغالب القاهر. فهو من صفات الأفعال، ومنه قوله عز وجل{تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم}الجاثية: 2]. أي من الله القاهر المحكم خالق الأشياء. وقال الخطابي: وقد يكون بمعنى نفاسة القدر، يقال منه: عز يعز بكسر العين فيتناول معنى العزيز على هذا أنه لا يعادل شيء وأنه لا مثل له. والله اعلم. {الحكيم} في تدبير خلقه. وقال ابن الأنباري{الحكيم} هو المحكم لخلق الأشياء، صرف عن مفعل إلى فعيل، ومنه قوله عز وجل{الر تلك آيات الكتاب الحكيم}يونس: 1] معناه المحكم، فصرف عن مفعل إلى فعيل. والله اعلم.
مدنية في قول الجميع. وهي إحدى عشرة آية، أو اثنتا عشرة آية.
الآية رقم ( 1 )
{يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}
قوله تعالى{يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، خوطب بلفظ الجماعة تعظيما وتفخيما. وفي سنن ابن ماجة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها. وروى قتادة عن أنس قال: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى عليه{يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}. وقيل له: راجعها فإنها قوامة صوامة، وهي من أزواجك في الجنة. ذكره الماوردي والقشيري والثعلبي. زاد القشيري: ونزل في خروجها إلى أهلها قوله تعالى{لا تخرجوهن، من بيوتهن}. وقال الكلبي: سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة، لما أسر إليها حديثا فأظهرته لعائشة فطلقها تطليقة، فنزلت الآية. وقال السدي: نزلت في عبدالله بن عمر، طلق امرأته حائضا تطليقة واحدة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض ثم تطهر، فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها. فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء. وقد قيل: أن رجالا فعلوا مثل ما فعل عبدالله بن عمر، منهم عبدالله بن عمرو بن العاص، وعمرو بن سعد بن العاص، وعتبة بن غزوان، فنزلت الآية فيهم. قال ابن العربي: وهذا كله وإن لم يكن صحيحا فالقول الأول أمثل. والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ. وقد قيل: إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. وغاير بين اللفظين من حاضر وغائب وذلك لغة فصيحة، كما قال{حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة}يونس: 22]. تقديره: يا أيها النبي قل لهم إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن. وهذا هو قولهم،: إن الخطاب له وحده والمعنى له وللمؤمنين. وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقول{يا أيها النبي}. فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعا له قال{يا أيها الرسول}.
قلت: ويدل على صحة هذا القول نزول العدة في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية. ففي كتاب أبي داود عنها أنها طلقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للمطلقة عدة، فأنزل الله تعالى حين طلقت أسماء بالعدة للطلاق، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق. وقيل: المراد به نداء النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما، ثم ابتدأ فقال{إذا طلقتم النساء}؛ كقوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام}المائدة: 90] الآية. فذكر المؤمنين على معنى تقديمهم وتكريمهم؛ ثم افتتح فقال{إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام} الآية.
روى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق). وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش). وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله عز وجل لا يحب الذواقين ولا الذواقات). وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق). أسند جميعه الثعلبي رحمه الله في كتابه. و"روى الدارقطني "قال: حدثنا أبو العباس محمد بن موسى بن علي الدولابي ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا الحسن بن عرفة قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق ولا خلق الله شيئا على وجه الأرض أبغض من الطلاق. فإذا قال الرجل لمملوكه أنت حر إن شاء الله فهو حر ولا استئناء له وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق عليه). حدثنا محمد بن موسى بن علي قال: حدثنا حميد بن الربيع قال حدثنا يزيد بن هارون حدثنا إسماعيل بن عياش بإسناده نحوه. قال حميد: قال لي يزيد بن هارون: وأي حديث لو كان حميد بن مالك معروفا؟ قلت: هو جدي. قال يزيد: سررتني سررتني! الآن صار حديثا. حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن سنين حدثنا عمر بن إبراهيم بن خالد حدثنا حميد بن مالك اللخمي حدثنا مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق فمن طلق واستثنى فله ثنياه). قال ابن المنذر: اختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق؛ فقالت طائفة: ذلك جائز. وروينا هذا القول عن طاوس. وبه قال حماد الكوفي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. ولا يجوز الاستثناء في الطلاق في قول مالك والأوزاعي. وهذا قول قتادة في الطلاق خاصة. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول.
"روى الدارقطني من حديث عبدالرزاق" أخبرني عمي وهب بن نافع قال سمعت عكرمة يحدث عن ابن عباس يقول: الطلاق على أربعة وجوه: وجهان حلالان ووجهان حرامان؛ فأما الحلال فأن يطلقها طاهرا عن غير جماع وأن يطلقها حاملا مستبينا حملها. وأما الحرام فأن يطلقها وهي حائض، أو يطلقها حين يجامعها، لا تدري أشتمل الرحم على ولد أم لا.
قوله تعالى{فطلقوهن لعدتهن} في كتاب أبي داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية أنها طلقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن للمطلقة عدة، فأنزل الله سبحانه حين طلقت أسماء بالعدة للطلاق؛ فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق. وقد تقدم. قوله تعالى{لعدتهن} يقتضي أنهن اللاتي دخل بهن من الأزواج؛ لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها}الأحزاب: 49].
من طلق في طهر لم يجامع فيه نفذ طلاقه وأصاب السنة. وإن طلقها حائضا نفذ طلاقه وأخطأ السنة. وقال سعيد بن المسيب في أخرى: لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة. وإليه ذهبت الشيعة. وفي الصحيحين - واللفظ للدارقطني - عن عبدالله بن عمر قال: طلقت امرأتي وهي حائض؛ فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضتها قبل أن يمسها فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله). وكان عبدالله بن عمر طلقها تطليقة، فحسبت من طلاقها وراجعها عبدالله بن عمر كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. في رواية عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هي واحدة). وهذا نص. وهو يرد على الشيعة قولهم.
عن عبدالله بن مسعود قال: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر تطليقة؛ فإذا كان آخر ذلك فتلك العدة التي أمر الله تعالى بها. رواه الدارقطني عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله. قال علماؤنا: طلاق السنة ما جمع شروطا سبعة: وهو أن يطلقها واحدة، وهي ممن تحيض، طاهرا، لم يمسها في ذلك الطهر، ولا تقدمه طلاق في حيض، ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه، وخلا عن العوض. وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمر المتقدم. وقال الشافعي: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر خاصة، ولو طلقها ثلاثا في طهر لم يكن بدعة. وقال أبو حنيفة: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر طلقة. وقال الشعبي: يجوز أن يطلقها في طهر جامعها فيه. فعلماؤنا قالوا: يطلقها واحدة في طهر لم يمس فيه، ولا تبعه طلاق في عدة، ولا يكون الظهر تاليا لحيض وقع فيه الطلاق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق. فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء). وتعلق الإمام الشافعي بظاهر قوله تعالى{فطلقوهن لعدتهن} وهذا عام في كل طلاق كان واحدة أو اثنتين أو أكثر. وإنما راعى الله سبحانه الزمان في هذه الآية ولم يعتبر العدد. وكذلك حديث ابن عمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الوقت لا العدد. قال ابن العربي وهذه غفلة عن الحديث الصحيح؛ فإنه قال: (مرة فليراجعها) وهذا يدفع الثلاث. وفي الحديث أنه قال: أرأيت لو طلقها ثلاثا؟ قال حرمت عليك وبانت منك بمعصية. وقال أبو حنيفة: ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحدة سواء. وهو مذهب الشافعي لولا قوله بعد ذلك لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا . وهذا يبطل دخول الثلاث تحت الآية. وكذلك قال أكثر العلماء؛ وهو بديع لهم. وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية كما قالوا، ولكن الحديث فسرها كما قلنا. وأما قول الشعبي: إنه يجوز طلاق في طهر جامعها فيه، فيرده حديث ابن عمر بنصه ومعناه. أما نصه فقد قدمناه، وأما معناه فلأنه إذا منع من طلاق الحائض لعدم الاعتداد به، فالطهر المجامع فيه أولى بالمنع؛ لأنه يسقط الاعتداد به مخافة شغل الرحم وبالحيض التالي له.
قلت: وقد احتج الشافعي في طلاق الثلاث بكلمة واحدة بما رواه الدارقطني عن سلمة بن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبيه أن عبدالرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية وهي أم أبي سلمة ثلاث تطليقات في كلمة واحدة؛ فلم يبلغنا أن أحدا من أصحابه عاب ذلك. قال: وحدثنا سلمة بن أبي سلمة عن أبيه أن حفص بن المغيرة طلق امرأته فاطمة بنت قيس على عهد رسول اله صلى الله عليه وسلم ثلاث تطليقات في كلمة؛ فأبانها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عاب ذلك عليه. واحتج أيضا بحديث عويمر العجلاني لما لاعن قال: يا رسول الله، هي طالق ثلاث. فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وقد انفصل علماؤنا عن هذا أحسن انفصال. بيانه في غير هذا الموضع. وقد ذكرناه في كتاب لمقتبس من شرح موطأ مالك بن أنس وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين أن من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلاث لم يقع؛ فشبهوه بمن وكل بطلاق السنة فخالف.
قال الجرجاني: اللام في قوله تعالى{لعدتهن} بمعنى في؛ كقوله تعالى{هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر}الحشر: 2]. أي في أول الحشر. فقوله{لعدتهن} أي في عدتهن؛ أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن. وحصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع وفي الطهر مأذون فيه. ففيه دليل على أن القرء هو الطهر. وقد مضى القول فيه في البقرة فإن قيل: معنى {فطلقوهن لعدتهن} أي في قبل عدتهن، أو لقبل عدتهن. وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال ابن عمر في صحيح مسلم وغيره. فقيل العدة آخر الطهر حتى يكون القرء الحيض، قيل له: هذا هو الدليل الواضح لمالك ومن قال بقوله؛ على أن الأقراء هي الأطهار. ولو كان كما قال الحنفي ومن تبعه لوجب أن يقال: إن من طلق في أول الطهر لا يكون مطلقا لقبل الحيض؛ لأن الحيض لم يقبل بعد. وأيضا إقبال الحيض يكون بدخول الحيض، وبانقضاء الطهر لا يتحقق إقبال الحيض. ولو كان إقبال الشيء إدبار ضده لكان الصائم مفطرا قبل مغيب الشمس؛ إذ الليل يكون مقبلا في إدبار النهار قبل انقضاء النهار. ثم إذا طلق في آخر الطهر فبقية الطهر قرء، ولأن بعض القرء يسمى قرءا لقوله تعالى{الحج أشهر معلومات}البقرة: 197] يعني شوالا وذا القعدة وبعض ذي الحجة؛ لقوله تعالى{فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه}البقرة: 203] وهو ينفر في بعض اليوم الثاني. وقد مضى هذا كله في البقرة مستوفى.
قوله تعالى{وأحصوا العدة} يعني في المدخول بها؛ لأن غير المدخول بها لا عدة عليها، وله أن يراجعها فيما دون الثلاث قبل انقضاء العدة، ويكون بعدها كأحد الخطاب. ولا تحل له في الثلاث إلا بعد زوج. قوله تعالى{وأحصوا العدة} معناه احفظوها؛ أي احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق، حتى إذا انفصل المشروط منه وهو الثلاثة قروء في قوله تعالى{والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}البقرة: 228] حلت للأزواج. وهذا يدل على أن العدة هي الأطهار وليست بالحيض. ويؤكده ويفسره قراءة النبي صلى الله عليه وسلم {لقبل عدتهن} وقبل الشيء بعضه لغة وحقيقة، بخلاف استقباله فإنه يكون غيره.
من المخاطب بأمر الإحصاء؟ وفيه ثلاث أقوال: أحدها: أنهم الأزواج. الثاني: أنهم الزوجات. الثالث: أنهم المسلمون. ابن العربي{والصحيح أن المخاطب بهذا اللفظ الأزواج؛ لأن الضمائر كلها من {طلقتم} و{أحصوا} و{لا تخرجوا} على نظام واحد يرجع إلى الأزواج، ولكن الزوجات داخلة فيه بالإلحاق بالزوج؛ لأن الزوج يحصي ليراجع، وينفق أو يقطع، وليسكن أو يخرج وليلحق نسبه أو يقطع. وهذه كلها أمور مشتركة بينه وبين المرأة، وتنفرد المرأة دونه بغير ذلك. وكذلك الحاكم يفتقر إلى الإحصاء للعدة للفتوى عليها، وفصل الخصومة عند المنازعة فيها. وهذه فوائد الإحصاء المأمور به.
قوله تعالى{واتقوا الله ربكم} أي لا تعصوه. {لا تخرجوهن من بيوتهن} أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة، ولا يجوز لها الخروج أيضا لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة. والرجعية والمبتوتة في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل. وهذا معنى إضافة البيوت إليهن؛ كقوله تعالى{واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة}الأحزاب: 34]، وقوله تعالى{وقرن في بيوتكن}الأحزاب: 33] فهو إضافة إسكان وليس إضافة تمليك. وقوله{لا تخرجوهن} يقتضي أن يكون حقا في الأزواج. ويقتضي قوله{ولا يخرجن} أنه حق على الزوجات. وفي صحيح الحديث عن جابر بن عبدالله قال: طلقت خالتي فأرادت أن تجد نخلها فزجرها رجل أن تخرج؛ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (بلى فجدي نخلك فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا)."خرجه مسلم" ففي هدا الحديث دليل لمالك والشافعي وابن حنبل والليث على قولهم: أن المعتدة تخرج بالنهار في حوائجها، وإنما تلزم منزلها بالليل. وسواء عند مالك كانت رجعية أو بائنة. وقال الشافعي في الرجعية: لا تخرج ليلا ولا نهارا، وإنما تخرج نهارا المبتوتة. وقال أبو حنيفة: ذلك في المتوفي عنها زوجها، وأما المطلقة فلا تخرج لا ليلا ولا نهارا. والحديث يرد عليه.
وفي الصحيحين أن أبا حفص بن عمرو خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطلقة كانت بقيت من طلاقها، وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة؛ فقالا لها: والله مالك من نفقة إلا أن تكوني حاملا. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له قولهما. فقال: (لا نفقة لك)، فاستأذنته في الانتقال فأذن لها؛ فقالت: أين يا رسول الله؟ فقال: (إلى ابن أم مكتوم)، وكان أعمى تضع ثيابها عنده ولا يراها. فلما مضت عدتها أنكحها النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد. فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث، فحدثته. فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها. فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان: فبيني وبينكم القرآن، قال الله عز وجل{لا تخرجوهن من بيوتهن} الآية، قالت: هذا لمن كانت له رجعة؛ فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ فكيف تقولون: لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا، فعلام تحبسونها؟ لفظ مسلم. فبين أن الآية في تحريم الإخراج والخروج إنما هو في الرجعية. وكذلك استدلت فاطمة بأن الآية التي تليها إنما تضمنت النهي عن خروج المطلقة الرجعية؛ لأنها بصدد أن يحدث لمطلقها رأي في أرتجاعها ما دامت في عدتها؛ فكأنها تحت تصرف الزوج في كل وقت. وأما البائن فليس له شيء من ذلك؛ فيجوز لها أن تخرج إذا دعتها إلى ذلك حاجة، أو خافت عورة منزلها؛ كما أباح لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وفي مسلم - قالت فاطمة يا رسول الله، زوجي طلقني ثلاثا وأخاف أن يقتحم علي. قال: فأمرها فتحولت.
وفي البخاري عن عائشة أنها كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها؛ فلذلك أرخص النبي صلى الله عليه وسلم لها. وهذا كله يرد على الكوفي قول. وفي حديث فاطمة: أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت من طلاقها؛ فهو حجة لمالك وحجة على الشافعي. وهو أصح من حديث سلمة بن أبي سلمة عن أبيه أن حفص بن المغيرة طلق امرأته ثلاث تطليقات في كلمة؛ على ما تقدم.
قوله تعالى{إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} قال ابن عباس وابن عمر والحسن والشعبي ومجاهد: هو الزنى؛ فتخرج ويقام عليها الحد. وعن ابن عباس أيضا والشافعي: أنه البذاء على أحمائها؛ فيحل لهم إخراجها. وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال في فاطمة: تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها عليه السلام أن تنتقل. وفي كتاب أبي داود قال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس، إنها كانت لسنة فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى. قال عكرمة: في مصحف أبي {إلا أن يفحشن عليكم}. ويقوي هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روي أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس: اتقي الله فإنك تعلمين لم أخرجت؟ وعن ابن عباس أيضا: الفاحشة كل معصية كالزنى والسرقة والبذاء على الأهل. وهو اختيار الطبري. وعن ابن عمر أيضا والسدي: الفاحشة خروجها من بيتها في العدة. وتقدير الآية: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن بغير حق؛ أي لو خرجت كانت عاصية. وقال قتادة: الفاحشة النشوز، وذلك أن يطلقها على النشوز فتتحول عن بيته. قال ابن العربي: أما من قال إنه الخروج للزنى؛ فلا وجه له؛ لأن ذلك الخروج هو خروج القتل والإعدام: وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام. وأما من قال: إنه البذاء؛ فهو مفسر في حديث فاطمة بنت قيس. وأما من قال: إنه كل معصية؛ فوهم لأن الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الإخراج ولا الخروج. وأما من قال: إنه الخروج بغير حق؛ فهو صحيح. وتقدير الكلام: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعا إلا أن يخرجن تعديا.
قوله تعالى{وتلك حدود الله} أي هذه الأحكام التي بينها أحكام الله على العباد، وقد منع التجاوز عنها فمن تجاوز فقد ظلم نفسه وأوردها مورد الهلاك. {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} الأمر الذي يحدثه الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه؛ فيراجعها. وقال جميع المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة. ومعنى القول: التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث؛ فإنه إذا طلق أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع، فلا يجد عند الرجعة سبيلا. وقال مقاتل{بعد ذلك} أي بعد طلقة أو طلقتين {أمرا} أي المراجعة من غير خلاف.
الآية رقم ( 2 : 3 )
{فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا}
قوله تعالى{فإذا بلغن أجلهن} أي قاربن انقضاء العدة؛ كقوله تعالى{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن}البقرة: 231] أي قربن من انقضاء الأجل. {فأمسكوهن بمعروف} يعني المراجعة بالمعروف؛ أي بالرغبة من غير قصد المضارة في الرجعة تطويلا لعدتها. كما تقدم في البقرة . {أو فارقوهن بمعروف} أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن. وفي قوله تعالى{فإذا بلغن أجلهن} ما يوجب أن يكون القول قول المرأة في انقضاء العدة إذا أدعت ذلك، على ما بيناه في سورة البقرة عند قوله تعالى{ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن}البقرة: 228] الآية.
قوله تعالى{وأشهدوا} أمر بالإشهاد على الطلاق. وقيل: على الرجعة. والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. فإن راجع من غير إشهاد ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء. وقيل: المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعا. وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة؛ كقوله تعالى{وأشهدوا إذا تبايعتم}البقرة: 282]. وعند الشافعي واجب في الرجعة، مندوب إليه في الفرقة. وفائدة الإشهاد ألا يقع بينهما التجاحد، وإلا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث.
الإشهاد عند أكثر العلماء على الرجعة ندب. وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرجعة، وتكلم بالرجعة يريد به الرجعة فهو مراجع عند مالك، وإن لم يرد بذلك الرجعة فليس بمراجع. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قبل أو باشر أو لامس بشهوة فهو رجعة. وقالوا: والنظر إلى الفرج رجعة. وقال الشافعي وأبو ثور: إذا تكلم بالرجعة فهو رجعة. وقد قيل: وطؤه مراجعة على كل حال، نواها أو لم ينوها. وروي ذلك عن طائفة من أصحاب مالك. وإليه ذهب الليث. وكان مالك يقول: إذا وطئ ولم ينو الرجعة فهو وطء فاسد؛ ولا يعود لوطئها حتى يستبرئها من مائه الفاسد، وله الرجعة في بقية العدة الأولى، وليس له رجعة في هذا الاستبراء.
أوجب الإشهاد في الرجعة أحمد بن حنبل في أحد قوليه، والشافعي كذلك لظاهر الأمر. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الآخر: إن الرجعة لا تفتقر إلى القبول، فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق، وخصوصا حل الظهار بالكفارة. قال ابن العربي: وركب أصحاب الشافعي على وجوب الإشهاد في الرجعة أنه لا يصح أن يقول: كنت راجعت أمس وأنا أشهد اليوم على الإقرار بالرجعة، ومن شرط الرجعة الإشهاد فلا تصح دونه. وهذا فاسد مبني على أن الإشهاد في الرجعة تعبد. ونحن لا نسلم فيها ولا في النكاح بأن نقول: إنه موضع للتوثق، وذلك موجود في الإقرار كما هو موجود في الإنشاء.
من ادعى بعد انقضاء العدة أنه راجع امرأته في العدة، فإن صدقته جاز وإن أنكرت حلفت، فإن أقام بينة أنه ارتجعها في العدة ولم تعلم بذلك لم يضره جهلها بذلك، وكانت زوجته، وإن كانت قد تزوجت ولم يدخل بها ثم أقام الأول البينة على رجعتها فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما: أن الأول أحق بها. والأخرى: أن الثاني أحق بها. فإن كان الثاني قد دخل بها فلا سبيل للأول إليها.
قوله تعالى{ذوي عدل منكم} قال الحسن: من المسلمين. وعن قتادة: من أحراركم. وذلك يوجب اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث؛ لأن {ذوي} مذكر. ولذلك قال علماؤنا: لا مدخل للنساء فيما عدا الأموال. وقد مضى ذلك في سورة البقرة . {وأقيموا الشهادة لله} أي تقربا إلى الله في إقامة الشهادة على وجهها، إذا مست الحاجة إليها من غير تبديل ولا تغيير. وقد مضى في سورة البقرة معناه عند قوله تعالى{وأقوم للشهادة}البقرة: 282]. {ذلكم يوعظ به} أي يرضى به. {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر} فأما غير المؤمن فلا ينتفع بهذه المواعظ.
قوله تعالى{ومن يتق الله يجعل له مخرجا} عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عمن طلق ثلاثا أو ألفا هل له من مخرج؟ فتلاها. وقال ابن عباس والشعبي والضحاك: هذا في الطلاق خاصة؛ أي من طلق كما أمره الله يكن له مخرج في الرجعة في العدة، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة. وعن ابن عباس أيضا {يجعل له مخرجا} ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة. وقيل: المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه؛ قاله علي بن صالح. وقال الكلبي{ومن يق الله} بالصبر عند المصيبة. {يجعل له مخرجا} من النار إلى الجنة. وقال الحسن: مخرجا مما نهى الله عنه. وقال أبو العالية: مخرجا من كل شدة. الربيع بن خيثم{يجعل له مخرجا} من كل شيء ضاق على الناس. الحسين بن الفضل{ومن يتق الله} في أداء الفرائض، {يجعل له مخرجا} من العقوبة. {ويرزقه} الثواب {من حيث لا يحتسب} أي يبارك له فيما آتاه. وقال سهل بن عبدالله{ومن يتق الله} في أتباع السنة {يجعل له مخرجا} من عقوبة أهل البدع، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب. وقيل{ومن يتق الله} في الرزق بقطع العلائق يجعل له مخرجا بالكفاية. وقال عمر بن عثمان الصدفي{ومن يتق الله} فيقف عند حدوده ويجتنب معاصيه يخرجه من الحرام إلى الحلال، ومن الضيق إلى السعة، ومن النار إلى الجنة. {ويرزقه من حيث لا يحتسب} من حيث لا يرجو. وقال ابن عيينة: هو البركة في الرزق. وقال أبو سعيد الخدري: ومن يبرأ من حوله وقوته بالرجوع إلى الله يجعل له مخرجا مما كلفه بالمعونة له. وتأول ابن مسعود ومسروق الآية على العموم. وقال أبو ذر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنى لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم - ثم تلا - {ومن يق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب}). فما زال يكررها ويعيدها.
وقال ابن عباس: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب} قال: (مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة). وقال أكثر المفسرين فيما ذكر الثعلبي: إنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي. روي الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن ابني أسره العدو وجزعت الأم. وعن جابر بن عبدالله: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنا له يسمى سالما، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الفاقة وقال: إن العدو أسر ابني وجزعت الأم، فما تأمرني؟ فقال عليه السلام: (أتق الله وأصبر وآمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله). فعاد إلى بيته وقال لامرأته: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني وإياك أن نستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله. فقالت: نعم ما أمرنا به. فجعلا يقولان؛ فغفل العدو عن ابنه، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه؛ وهي أربعة آلاف شاة. فنزلت الآية، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأغنام له. في رواية: أنه جاء وقد أصاب إبلا من العدو وكان فقيرا. قال الكلبي: أصاب خمسين بعيرا. وفي رواية: فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم، ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه. وقال مقاتل: أصاب غنما ومتاعا فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني؟ قال: (نعم). ونزلت{ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب}. فروي الحسن عن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤونة ورزقه من حيث لا يحتسب. ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها). وقال الزجاج: أي إذا اتقى وآثر الحلال والتصبر على أهله، فتح الله عليه إن كان ذا ضيقة ورزقه من حيث لا يحتسب. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب).
قوله تعالى{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} أي من فوض إليه أمره كفاه ما أهمه. وقيل: أي من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه، فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية. ولم يرد الدنيا؛ لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل. {إن الله بالغ أمره} قال مسروق: أي قاض أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه؛ إلا أن من توكل عليه فيكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا. وقراءة العامة {بالغ} منونا. {أمره} نصبا. وقرأ عاصم {بالغ أمره} بالإضافة وحذف التنوين استخفافا. وقرأ المفضل {بالغا أمره} على أن قوله{قد جعل الله} خبر {إن} و{بالغا} حال. وقرأ داود بن أبي هند {بالغ أمره} بالتنوين ورفع الراء. قال الفراء: أي أمره بالغ. وقيل{أمره} مرتفع {ببالغ} والمفعول محذوف؛ والتقدير: بالغ أمره ما أراد. {قد جعل الله لكل شيء قدرا} أي لكل شيء من الشدة والرخاء أجلا ينتهي إليه. وقيل تقديرا. وقال السدي: هو قدر الحيض في الأجل والعدة. وقال عبدالله بن رافع: لما نزل قوله تعالى{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فنحن إذا توكلنا عليه نرسل ما كان لنا ولا نحفظه؛ فنزلت{إن الله بالغ أمره} فيكم وعليكم. وقال الربيع بن خيثم: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله{ومن يؤمن بالله يهد قلبه}التغابن: 11]. {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}الطلاق: 3]. {إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم}التغابن: 17]. {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}آل عمران: 101]. {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}البقرة: 186].
الآية رقم ( 4 : 5 )
{واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا، ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا}
قوله تعالى{واللائي يئسن من المحيض من نسائكم} لما بين أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الأقراء، عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم وقال أبو عثمان عمر بن سالم: لما نزلت عدة النساء في سورة البقرة في المطلقة والمتوفى عنها زوجها قال أبي بن كعب: يا رسول الله، إن ناسا يقولون قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء: الصغار وذوات الحمل، فنزلت{واللائي يئسن} الآية. وقال مقاتل: لما ذكر قوله تعالى{والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}البقرة: 228] قال خلاد بن النعمان: يا رسول الله، فما عدة التي لم تحض، وعدة التي انقطع حيضها، وعدة الحبلى؟ فنزلت{واللائي يئسن من المحيض من نسائكم} يعني قعدن عن المحيض. وقيل: إن معاذ بن جبل سأل عن عدة الكبيرة التي يئست؛ فنزلت الآية. والله أعلم. وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة.
قوله تعالى{إن ارتبتم} أي شككتم، وقيل تيقنتم. وهو من الأضداد؛ يكون شكا ويقينا كالظن. واختيار الطبري أن يكون المعنى: إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن. وقال الزجاج: إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها. القشيري: وفي هذا نظر؛ لأنا إذا شككنا هل بلغت سن اليأس لم نقل عدتها ثلاثة أشهر. والمعتبر في سن اليأس في قول؛ أقصى عادة امرأة في العالم، وفي قوله: غالب نساء عشيرة المرأة. وقال مجاهد: قوله {إن ارتبتم} للمخاطبين؛ يعني إن لم تعلموا كم عدة اليائسة والتي لم تحض فالعدة هذه. وقيل: المعنى إن ارتبتم أن الدم الذي يظهر منها من أجل كبر أو من الحيض المعهود أو من الاستحاضة فالعدة ثلاثة أشهر. وقال عكرمة وقتادة: من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض؛ تحيض في أول الشهر مرارا وفي الأشهر مرة. وقيل: إنه متصل بأول السورة. والمعنى: لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة. وهو أصح ما قيل فيه.
المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ نفسها من ريبتها ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الريبة. وقد قيل في المرتابة التي ترفعها حيضتها وهي لا تدري ما ترفعها: إنها تنتظر سنة من يوم طلقها زوجها؛ منها تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة. فإن طلقها فحاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع عنها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر، ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضتها ثم حلت للأزواج. وهذا قاله الشافعي بالعراق. فعلى قياس هذا القول تقيم الحرة المتوفى عنها زوجها المستبرأة بعد التسعة أشهر أربعة أشهر وعشرا، والأمة شهرين وخمس ليال بعد التسعة الأشهر. وروي عن الشافعي أيضا أن أقراءها على ما كانت حتى تبلغ سن اليائسات. وهو قول النخعي والثوري وغيرهما، وحكاه أبو عبيد عن أهل العراق.
فإن كانت المرأة شابة استؤني بها هل هي حامل أم لا؛ فإن استبان حملها فإن أجلها وضعه. وإن لم يستبن فقال مالك: عدة التي ارتفع حيضها وهي شابة سنة. وبه قال أحمد وإسحاق ورووه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره. وأهل العراق يرون أن عدتها ثلاث حيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها، وإن مكثت عشرين سنة، إلا أن تبلغ من الكبر مبلغا تيأس فيه من الحيض فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر. قال الثعلبي: وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء. وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه. قال الكيا. وهو الحق؛ لأن الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر؛ والمرتابة ليست آيسة.
وأما من تأخر حيضها لمرض؛ فقال مالك وابن القاسم وعبدالله بن أصبغ: تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة. وقال أشهب: هي كالمرضع بعد الفطام بالحيض أو بالسنة. وقد طلق حبان بن منقذ. امرأته وهي ترضع؛ فمكثت سنة لا تحيض لأجل الرضاع، ثم مرض حبان فخاف أن ترثه فخاصمها إلى عثمان وعنده علي وزيد، فقالا: نرى أن ترثه؛ لأنها ليست من القواعد ولا من الصغار؛ فمات حبان فورثته واعتدت عدة الوفاة.
ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها، تسعة أشهر ثم ثلاثة؛ على ما ذكرناه. فتحل ما لم ترتب بحمل؛ فإن أرتابت بحمل أقامت أربعة أعوام، أو خمسة، أو سبعة؛ على اختلاف الروايات عن علمائنا. ومشهورها خمسة أعوام؛ فإن تجاوزتها حلت. وقال أشهب: لا تحل أبدا حتى تنقطع عنها الريبة. قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ لأنه إذا جاز أن يبقى الولد في بطنها خمسة أعوام جاز أن يبقى عشرة وأكثر من ذلك. وقد روي عن مالك مثله.
وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة ففيها ثلاثة أقوال: قال ابن المسيب: تعتد سنة. وهو قول الليث. قال الليث: عدة المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت مستحاضة سنه. وهو مشهور قول علمائنا؛ سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها، وميزت ذلك أو لم تميزه، عدتها في ذلك كله عند مالك في تحصيل مذهبه سنة؛ منها تسعة أشهر استبراء وثلاثة عدة. وقال الشافعي في أحد أقواله: عدتها ثلاثة أشهر. وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين من القرويين. ابن العربي: وهو الصحيح عندي. وقال أبو عمر: المستحاضة إذا كان دمها ينفصل فعلمت إقبال حيضتها أو إدبارها أعتدت ثلاثة قروء. وهذا أصح في النظر، وأثبت في القياس والأثر.
قوله تعالى{واللائي لم يحضن} يعني الصغيرة فعدتهن ثلاثة أشهر؛ فأضمر الخبر. وإنما كانت عدتها بالأشهر لعدم الأقراء فيها عادة، والأحكام إنما أجراها الله تعالى على العادات؛ فهي تعتد بالأشهر. فإذا رأت الدم في زمن احتماله عند النساء أنتقلت إلى الدم لوجود الأصل، وإذا وجد الأصل لم يبق للبدل حكم؛ كما أن المسنة إذا اعتدت بالدم ثم ارتفع عادت إلى الأشهر. وهذا إجماع.
قوله تعالى{وأولات الأحمال أجلهن} وضع الحمل، وإن كان ظاهرا في المطلقة لأنه عليها عطف وإليها رجع عقب الكلام؛ فإنه في المتوفى عنها زوجها كذلك؛ لعموم الآية وحديث سبعة. وقد مضى في البقرة القول فيه مستوفى.
إذا وضعت المرأة ما وضعت من علقة أو مضغة حلت. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا تحل إلا بما يكون ولدا. وقد مضى القول فيه في سورة البقرة وسورة الرعد والحمد لله.
قوله تعالى{ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} قال الضحاك: أي من يتقه في طلاق السنة يجعل له من أمره يسرا في الرجعة. مقاتل: ومن يتق الله في أجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعة. {ذلك أمر الله} أي الذي ذكر من الأحكام أمر الله أنزله إليكم وبينه لكم. {ومن يتق الله} أي يعمل بطاعته. {يكفر عنه سيئاته} من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة. {ويعظم له أجرا} أي في الآخرة.
الآية رقم ( 6 )
{أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى}
قوله تعالى{أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} قال أشهب عن مالك: يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل؛ لقوله تعالى{أسكنوهن}. فلو كان معها ما قال أسكنوهن. وقال ابن نافع: قال مالك في قول الله تعالى{أسكنوهن من حيث سكنتم} يعني المطلقات اللائي بن من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن وليست حاملا، فلها السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة، لأنها بائن منه، لا يتوارثان ولا رجعة له عليها. وإن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن حتى تنقضي عدتها. أما من لم تبن منهن فإنهن نساؤهم يتوارثون، ولا يخرجن إلا أن يأذن لهن أزواجهن ماكن في عدتهن، ولم يؤمروا بالسكنى لهن لأن ذلك لازم لأزواجهن مع نفقتهن وكسوتهن، حوامل كن أو غير حوامل. وإنما أمر الله بالسكنى للائي بن من أزواجهن مع نفقتهن، قال الله تعالى{وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} فجعل عز وجل للحوامل اللائي قد بن من أزواجهن السكنى والنفقة. قال ابن العربي: وبسط ذلك وتحقيقه أن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها. وهي مسألة عظيمة فد مهدنا سبلها قرآنا وسنة ومعنى في مسائل الخلاف. وهذا مأخذها من القرآن.
قلت: اختلف العلماء في المطلقة ثلاثا على ثلاثة أقوال، فمذهب مالك والشافعي: أن لها السكنى ولا نفقة لها. ومذهب أبي حنيفة وأصحابه: أن لها السكنى والنفقة. ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور: أن لا نفقة لها ولا سكنى، على حديث فاطمة بنت قيس، قالت: دخلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أخو زوجي فقلت: إن زوجي طلقني وإن هذا يزعم أن ليس لي سكنى ولا نفقة؟ قال: (بل لك السكنى ولك النفقة). قال: إن زوجها طلقها ثلاثا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما السكنى والنفقة على من له عليها الرجعة). فلما قدمت الكوفة طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك، وإن أصحاب عبدالله يقولون: إن لها السكنى والنفقة."خرجه الدارقطني."ولفظ مسلم عنها: أنه طلقها زوجها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أنفق عليها نفقة دون، فلما رأت ذلك قالت: والله لأعلمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان لى نفقة أخذت الذي يصلحني وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ شيئا. قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لا نفقة لك ولا سكنى). "ذكر الدارقطني عن الأسود"قال: قال عمر لما بلغه قول فاطمة بنت قيس: لا نجيز في المسلمين قول امرأة. وكان يجعل للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة. وعن الشعبي قال: لقيني الأسود بن يزيد فقال. يا شعبي، أتق الله وأرجع عن حديث فاطمة بنت قيس؛ فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة. قلت: لا أرجع عن شيء حدثتني به فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: ما أحسن هذا. وقد قال قتادة وابن أبي ليلى: لا سكنى إلا للرجعية؛ لقوله تعالى{لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}الطلاق: 1]، وقوله تعالى{اسكنوهن} راجع إلى ما قبله، وهي المطلقة الرجعية. والله أعلم. ولأن السكنى تابعة للنفقة وجارية مجراها؛ فلما لم تجب للمبتوتة نفقة لم يجب لها سكنى. وحجة أبي حنيفة أن للمبتوتة النفقة قوله تعالى{ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} وترك النفقة من أكبر الأضرار. وفي إنكار عمر على فاطمة قولها ما يبين هذا، ولأنها معتدة تستحق السكنى عن طلاق فكانت لها النفقة كالرجعية، ولأنها محبوسة عليه لحقه فاستحقت النفقة كالزوجة. ودليل مالك قوله تعالى{وإن كن أولات حمل} الآية. على ما تقدم بيانه. وقد قيل: إن الله تعالى ذكر المطلقة الرجعية وأحكامها أول الآية إلى قوله{ذوي عدل منكم}الطلاق: 2] ثم ذكر بعد ذلك حكما يعم المطلقات كلهن من تعديد الأشهر وغير ذلك. وهو عام في كل مطلقة؛ فرجع ما بعد ذلك من الأحكام إلى كل مطلقة.
قوله تعالى{من وُجدكم} أي من سعتكم؛ يقال وجدت في المال أجد وجدا ووجدا ووجدا وجدة. والوجد: الغنى والمقدرة. وقراءة العامة بضم الواو. وقرأ الأعرج والزهري بفتحها، ويعقوب بكسرها. وكلها لغات فيها. {ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} قال مجاهد: في المسكن. مقاتل: في النفقة؛ وهو قول أبي حنيفة. وعن أبي الضحى: هو أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ثم طلقها.
قوله تعالى{وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} لا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة ثلاثا أو أقل منهن حتى تضع حملها. فأما الحامل المتوفى عنها زوجها فقال علي وابن عمر وابن مسعود وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى وسفيان والضحاك: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع. وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبدالله ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: لا ينفق عليها إلا من نصيبها. وقد مضى في البقرة بيانه.
قوله تعالى{فإن أرضعن لكم} - يعني المطلقات - أولادكم منهن فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهن. وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبن. ويجوز عند الشافعي. وتقدم القول في الرضاع في البقرة و النساء مستوفى ولله الحمد.
قوله تعالى{وأتمروا بينكم بمعروف} هو خطاب للأزواج والزوجات؛ أي وليقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل. والجميل منها إرضاع الولد من غير أجرة. والجميل منه توفير الأجرة عليها للإرضاع. وقيل: ائتمروا في رضاع الولد فيما بينكم بمعروف حتى لا يلحق الولد إضرار. وقيل: هو الكسوة والدثار. وقيل: معناه لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده.
قوله تعالى{وإن تعاسرتم} أي في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الأم رضاعها وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها؛ وليستأجر مرضعة غير أمه. وقيل: معناه وإن تضايقتم وتشاكستم فليسترضع لولده غيرها؛ وهو خبر في معنى الأمر. وقال الضحاك: إن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم يقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر. وقد اختلف العلماء فيمن يجب عليه رضاع الولد على ثلاثة أقوال: قال علماؤنا: رضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية؛ إلا لشرفها وموضعها فعلى الأب رضاعه يومئذ في ماله. الثاني: قال أبو حنيفة: لا يجب على الأم بحال. الثالث: يجب عليها في كل حال.
فإن طلقها فلا يلزمها رضاعه إلا أن يكون غير قابل ثدي غيرها فيلزمها حينئذ الإرضاع. فإن اختلفا في الأجر فإن دعت إلى أجر مثلها وامتنع الأب إلا تبرعا فالأم أولى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعا. وإن دعا الأب إلى أجر المثل وامتنعت الأم لتطلب شططا فالأب أولى به. فإن أعسر الأب بأجرتها أخذت جبرا برضاع ولدها.
الآية رقم ( 7 )
{لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا}
قوله تعالى{لينفق} أي لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه حتى يوسع عليهما إذا كان موسعا عليه. ومن كان فقيرا فعلى قدر ذلك. فتقدر النفقة بحسب الحالة من المنفق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى حياة العادة؛ فينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفق، عليه ثم ينظر إلى حالة المنفق، فإن احتملت الحالة أمضاها عليه، فإن اقتصرت حالته على حاجة المنفق عليه ردها إلى قدر احتماله. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه وأصحابه: النفقة مقدرة محددة، ولا اجتهاد لحاكم ولا لمفت فيها. وتقديرها هو بحال الزوج وحده من يسره وعسره، ولا يعتبر بحالها وكفايتها. قالوا: فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس. فإن كان الزوج موسرا لزمه مدان، وإن كان متوسطا فمد ونصف، وإن كان معسرا فمد. واستدلوا بقوله تعالى{لينفق ذو سعة من سعته} الآية. فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر دونها؛ ولأن الاعتبار بكفايتها لا سبيل إلى علمه للحاكم ولا لغيره؛ فيؤدي إلى الخصومة؛ لأن الزوج يدعي أنها تلتمس فوق كفايتها، وهي تزعم أن الذي تطلب قدر كفايتها؛ فجعلناها مقدرة قطعا للخصومة. والأصل في هذا عندهم قوله تعالى{لينفق ذو سعة من سعته} - كما ذكرنا - وقوله{على الموسع قدره وعلى المقتر قدره}البقرة: 236]. والجواب أن هذه الآية لا تعطي أكثر من فرق بين نفقة الغني والفقير، وإنها تختلف بعسر الزوج ويسره. وهذا مسلم. فأما إنه لا اعتبار بحال الزوجة على وجهه فليس فيه، وقد قال الله تعالى{وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}البقرة: 233] وذلك يقتضي تعلق المعروف في حقهما؛ لأنه لم يخص في ذلك واحدا منهما. وليس من المعروف أن يكون كفاية الغنية مثل نفقة الفقيرة؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف). فأحالها على الكفاية حين علم السعة من حال أبي سفيان الواجب عليه بطلبها، ولم يقل لها لا اعتبار بكفايتك وأن الواجب لك شيء مقدر، بل ردها إلى ما يعلمه من قدر كفايتها ولم يعلقه بمقدار معلوم. ثم ما ذكروه من التحديد يحتاج إلى توقيف؛ والآية لا تقتضيه.
روي أن عمر رضي الله عنه فرض للمنفوس مائة درهم، وفرض له عثمان خمسين درهما. ابن العربي وأحتمل أن يكون هذا الاختلاف بحسب اختلاف السنين أو بحسب حال القدر في التسعير لثمن القوت والملبس، وقد روي محمد بن هلال المزني قال: حدثني أبي وجدتي أنها كانت ترد على عثمان ففقدها فقال لأهله: ما لي لا أرى فلانة؟ فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين، ولدت الليلة؛ فبعث إليها بخمسين درهما وشقيقة سبلانية. ثم قال: هذا عطاء ابنك وهذه كسوته، فإذا مرت له سنة رفعناه إلى مائة. وقد أتي علي رضي الله عنه بمنبوذ ففرض له مائة. قال ابن العربي: (هذا الفرض قبل الفطام مما اختلف فيه العلماء؛ فمنهم من رآه مستحبا لأنه داخل في حكم الآية، ومنهم من رآه واجبا لما تجدد من حاجته وعرض من مؤنته؛ وبه أقول. ولكن يختلف قدره بحاله عند الولادة وبحاله عند الفطام. وقد روي سفيان بن وهب أن عمر أخذ المد بيد والقسط بيد فقال: إني فرضت لكل نفس مسلمة في كل شهر مدي حنطة وقسطي خل وقسطي زيت. زاد غيره: وقال إنا قد أجرينا لكم أعطياتكم وأرزاقكم في كل شهر، فمن انتقصها فعل الله به كذا وكذا؛ فدعا عليه. قال أبو الدرداء: كم سنة راشدة مهدية قد سنها عمر رضي الله عنه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم! والمد والقسط كيلان شاميان في الطعام والإدام؛ وقد درسا بعرف آخر. فأما المد فدرس إلى الكيلجة. وأما القسط فدرس إلى الكيل، ولكن التقدير فيه عندنا ربعان في الطعام وثمنان في الإدام. وأما الكسوة فبقدر العادة قميص وسراويل وجبة في الشتاء وكساء وإزار وحصير. وهذا الأصل، ويتزيد بحسب الأحوال والعادة .
هذه الآية أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد دون الأم؛ خلافا لمحمد بن المواز يقول: إنها على الأبوين على قدر الميراث. ابن العربي: ولعل محمدا أراد أنها على الأم عند عدم الأب. وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم (تقول لك المرأة أنفق علي وإلا فطلقني ويقول لك العبد أنفق علي واستعملني ويقول لك ولدك أنفق علي إلى من تكلني) فقد تعاضد القرآن والسنة وتواردا في شرعة واحدة.
قوله تعالى{لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} أي لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني. {سيجعل الله بعد عسر يسرا} أي بعد الضيق غنى، وبعد الشدة سعة.
الآية رقم ( 8 : 11 )
{وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا، فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا، أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا، رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا}
قوله تعالى{وكأين من قرية} لما ذكر الأحكام ذكر وحذر مخالفة الأمر، وذكر عتو قوم وحلول العذاب بهم. وقد مضى القول في {كأين} في آل عمران والحمد لله. {عتت عن أمر ربها ورسله} أي عصت؛ يعني القرية والمراد أهلها. {فحاسبناها حسابا شديدا} أي جازيناها بالعذاب في الدنيا {وعذبناها عذابا نكرا} في الآخرة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ فعذبناها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف والمسخ وسائر المصائب، وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا. والنكر: المنكر. وقرئ مخففا ومثقلا؛ وقد مضى في سور الكهف . {فذاقت وبال أمرها} أي عاقبة كفرها {وكان عاقبة أمرها خسرا} أي هلاكا في الدنيا بما ذكرنا، والآخرة بجهنم. وجيء بلفظ الماضي كقوله تعالى{ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار}الأعراف: 44] ونحو ذلك؛ لأن المنتظر من وعد الله ووعيده ملقى في الحقيقة؛ وما هو كائن فكأن قد. {أعد الله لهم عذابا شديدا} بين ذلك الخسر وأنه عذاب جهنم في الآخرة. {فاتقوا الله يا أولي الألباب} أي العقول. {الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا} بدل من {أولي الألباب} أو نعت لهم؛ أي يا أولي الألباب الذين آمنتم بالله اتقوا الله الذي أنزل عليكم القرآن؛ أي خافوه واعملوا بطاعته وانتهوا عن معاصيه. وقد تقدم.
قوله تعالى{رسولا} قال الزجاج: إنزال الذكر دليل على إضمار أرسل؛ أي أنزل إليكم قرآنا وأرسل رسولا. وقيل: إن المعنى قد أنزل الله إليكم صاحب ذكر رسولا؛ {فرسولا} نعت للذكر على تقدير حذف المضاف. وقيل: إن رسولا معمول للذكر لأنه مصدر؛ والتقدير: قد أنزل الله إليكم أن ذكر رسولا. ويكون ذكره الرسول قوله{محمد رسول الله}الفتح: 29]. ويجوز أن يكون {رسولا} بدل من ذكر، على أن يكون {رسولا} بمعنى رسالة، أو على أن يكون على بابه ويكون محمولا على المعنى، كأنه قال: قد أظهر الله لكم ذكرا رسولا، فيكون من باب بدل الشيء من الشيء وهو هو. ويجوز أن ينتصب {رسولا} على الإغراء كأنه قال: اتبعوا رسولا. وقيل: الذكر هنا الشرف، نحو قوله تعالى{لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم}الأنبياء: 10]، وقوله تعالى{وإنه لذكر لك ولقومك}الزخرف: 44]، ثم بين هذا الشرف، فقال{رسولا}. والأكثر على أن المراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الكلبي: هو جبريل، فيكونان جميعا منزلين. {يتلو عليكم آيات الله} نعت لرسول. و{آيات الله} القرآن. {مبينات} قراءة العامة بفتح الياء؛ أي بينها الله. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسرها، أي يبين لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام. والأولى قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لقوله تعالى{قد بينا لكم الآيات}الحديد: 17].
قوله تعالى{ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي من سبق له ذلك في علم الله. {من الظلمات} أي من الكفر. {إلى النور} الهدى والإيمان. قال ابن عباس: نزلت في مؤمني أهل الكتاب. وأضاف الإخراج إلى الرسول لأن الإيمان يحصل منه بطاعته. {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا} قرأ نافع وابن عامر بالنون، والباقون بالياء. {قد أحسن الله له رزقا} أي وسع الله له في الجنات.
الآية رقم ( 12 )
{الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما}
قوله تعالى{الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن} دل على كمال قدرته وأنه يقدر على البعث والمحاسبة. ولا خلاف في السموات أنها سبع بعضها فوق بعض؛ دل على ذلك حديث الإسراء وغيره. ثم قال{ومن الأرض مثلهن} يعني سبعا. واختلف فيهن على قولين: أحدهما: وهو قول الجمهور - أنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والسماء، وفي كل أرض سكان من خلق الله. وقال الضحاك{ومن الأرض مثلهن} أي سبعا من الأرضين، ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات. والأول أصح؛ لأن الأخبار دالة عليه في الترمذي والنسائي وغيرهما. وقد مضى ذلك مبينا في البقرة . وقد خرج أبو نعيم قال: حدثنا محمد بن علي بن حبيش قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق السراج، ح وحدثنا أبو محمد بن حبان قال: حدثنا عبدالله بن محمد بن ناجية قال: حدثنا سويد بن سعيد قال حدثنا حفص بن ميسرة عن موسى بن عقبة عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه أن كعبا حلف له بالذي فلق البحر لموسى أن صهيبا حدثه أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: (اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما أذرين إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها). قال أبو نعيم: هذا حديث ثابت من حديث موسى بن عقبة تفرد به عن عطاء. روي عنه ابن أبي الزناد وغيره.
وفي صحيح مسلم عن سعيد بن زيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ شبرا من الأرض ظلما فأنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين) ومثله حديث عائشة، وأبين منهما حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة). قال الماوردي: وعلى أنها سبع أرضين بعضها فوق بعض تختص دعوة أهل الإسلام بأهل الأرض العليا، ولا تلزم من في غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز. وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان: أحدهما - أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها. وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة. والقول الثاني: أنهم لا يشاهدون السماء، وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يستمدونه. وهذا قول من جعل الأرض كالكرة. وفي الآية قول ثالث حكاه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها سبع أرضين منبسطة؛ ليس: بعضها فوق بعض، تفرق بينها البحار وتظل جميعهم السماء. فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل الأرض وصول إلى أرض أخرى اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى احتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام عند إمكان الوصول إليهم؛ لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه، واحتمل ألا تلزمهم دعوة الإسلام لأنها لو لزمتهم لكان النص بها وأردا، ولكان صلى الله عليه وسلم بها مأمورا. والله أعلم ما استأثر بعلمه، وصواب ما أشتبه على خلقه. ثم قال{يتنزل الأمر بينهن} قال مجاهد: يتنزل الأمر من السموات السبع إلى الأرضين السبع. وقال الحسن: بين كل سماءين أرض وأمر. والأمر هنا الوحي؛ في قول مقاتل وغيره. وعليه فيكون قوله{بينهن} إشارة إلى بين هذه الأرض العليا التي، هي أدناها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. وقيل: الأمر القضاء والقدر. وهو قول الأكثرين. فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى{بينهن} إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. وقيل{يتنزل الأمر }بينهن{ بحياة بعض وموت بعض وغنى قوم وفقر قوم. وقيل: هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره؛ فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها؛ فينقلهم من حال إلى حال. قال ابن كيسان: وهذا على مجال اللغة وأتساعها؛ كما يقال للموت: أمر الله؛ وللريح والسحاب ونحوها. {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير} يعني أن من قدر على هذا الملك العظيم فهو على ما بينهما من خلقه أقدر، ومن العفو والانتقام أمكن؛ وإن استوى كل ذلك، في مقدوره ومكنته. {وأن الله قد أحاط بكل شيء علما} فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته. ونصب {علما} على المصدر المؤكد؛ لأن {أحاط} بمعنى علم. وقيل: بمعنى وأن الله أحاط إحاطة علما.
مدنية في قول الجميع، وهي اثنتا عشرة آية. وتسمى سورة النبي .
الآية رقم ( 1 )
{يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم}
قوله تعالى{يا أيها النبي لم تحرمُ ما أحل الله لك}" ثبت في صحيح مسلم عن عائشة" رضي لله عنها أن النبي صلى الله عليه
وسلم، كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا، قالت فتواطأت أنا وحفصة أن
أيتنا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك رح
مغافير! أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك. فقال: (بل شربت
عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له). فنزل{لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله - إن تتوبا: (لعائشة وحفصة)، {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا}التحريم 30] لقوله: (بل شربت عسلا). وعنها أيضا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، فكان إذا صلي العصر دار على نسائه فيدنو منهن، فدخل على حفصة فأحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة. فقلت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لسودة وقلت: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك لا. فقولي له: ما هذه الريح؟ - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح - فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل. فقولي له: جرست نحله العُرْفُط. وسأقول ذلك له، وقوليه أنت يا صفية. فلما دخل على سودة - قالت: تقول سودة والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت لي، وإنه لعلى الباب، فرقا منك. فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: (لا) قالت: فما هذه الريح؟ قال: (سقتني حفصة شربة عسل) قال: جرست نحله العرفط. فلما دخل علي قلت له مثل ذلك. ثم دخل على صفة فقالت بمثل ذلك. فلما دخل على حفصة قال: يا رسول الله، ألا أسقك منه. قال (لا حاجة لي به) قالت: تقول سودة سبحان الله! والله لقد حرمناه. قالت: قلت لها اسكتي. ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة. وفي الأولى زينب. وروي ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة. وقد قيل: إنما هي أم سلمة، رواه أسباط عن السدي. وقاله عطاء بن أبي مسلم. ابن العربي: وهذا كله جهل أو تصور بغير علم. فقال باقي نسائه حسدا وغيرة لمن شرب ذلك عندها: إنا لنجد منك ريح المغافير. والمغافير: بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة، فيها حلاوة. واحدها مغفور، وجرست: أكلت. والعرفط: نبت له ريح كريح الخمر. وكان عليه السلام يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة أو يجدها، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك. فهذا قول.
وقول آخر - أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها لأجل أزواجه، قاله ابن عباس وعكرمة. والمرأة أم شريك. وقول ثالث - إن التي حرم مارية القبطية، وكان قد أهداها له المقوقس ملك الإسكندرية. قال ابن إسحاق: هي من كورة أنصنا من بلد يقال له حفن فواقعها في بيت حفصة. روي الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها - وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها - فقالت له: تدخلها بيتي! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها: (لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها) قالت حفصة: وكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟ فحلف لها ألا يقربها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تذكريه لأحد). فذكرته لعائشة، فآلى لا يدخل على نسائه شهرا، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة، فأنزل الله عز وجل {لم تحرم ما أحل الله لك} الآية.
أصح هذه الأقوال أولها. وأضعفها أوسطها. قال ابن العربي{أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صلى الله عليه وسلم للموهوبة ليس تحريما لها، لأن من رد ما وهب له لم يحرم عليه، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل. وأما من روي أنه حرم مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى، لكنه لم يدون في الصحيح. وروي مرسلا. وقد روي ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم فقال: (أنت علي حرام والله لا آتينك). فأنزل الله عز وجل في ذلك{يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} وروي مثله ابن القاسم عنه. وروي أشهب عن مالك قال: راجعت عمر امرأة من الأنصار في شيء فاقشعر من ذلك وقال: ما كان النساء هكذا! قال: بلى، وقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه. فأخذ ثوبه فخرج إلى حفصة فقال لها: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، ولو أعلم أنك تكره ما فعلت. فلما بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجر نساءه قال: رغم أنف حفصة. وإنما الصحيح أنه كان في العسل وأنه شربه عند زينب، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه، فجرى ما جرى فحلف ألا يشربه وأسر ذلك. ونزلت الآية في الجميع.
قوله تعالى{لم تحرم} إن كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم ولم يحلف فليس ذلك بيمين عندنا. ولا يحرم قول الرجل{هذا علي حرام} شيئا حاشا الزوجة. وقال أبو حنيفة: إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس، وكانت يمينا توجب الكفارة. وقال زفر: هو يمين في الكل حتى في الحركة والكون. وعول المخالف على أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم العسل فلزمته الكفارة. وقد قال الله تعالى{قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}التحريم: 2] فسماه يمينا. ودليلنا قول الله تعالى{يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا}المائدة: 87]، وقوله تعالى{قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون}يونس: 59]. فذم الله المحرم للحلال ولم يوجب عليه كفارة. قال الزجاج: ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله. ولم يجعل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه. فمن قال لزوجته أو أمته: أنت علي حرام؛ ولم ينو طلاقا ولا ظهارا فهذا اللفظ يوجب كفارة اليمين. ولو خاطب بهذا اللفظ جمعا من الزوجات والإماء فعليه كفارة واحدة. ولو حرم على نفسه طعاما أو شيئا آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك. وتجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة.
واختلف العلماء في الرجل يقول لزوجته أنت علي حرام على ثمانية عشر قولا: أحدها: لا شيء عليه. وبه قال الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ. وهو عندهم كتحريم الماء والطعام؛ قال الله تعالى{يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم}المائدة: 87] والزوجة من الطيبات ومما أحل الله. وقال تعالى{ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام}النحل: 116]. وما لم يحرمه الله فليس لأحد أن يحرمه، ولا أن يصير بتحريمه حراما. ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله هو علي حرام. وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه وهو قوله: (والله لا أقربها بعد اليوم) فقيل له: لم تحرم ما أحل الله لك؛ أي لم تمتنع منه بسبب اليمين. يعني أقدم عليه وكفر.
ثانيها: أنها يمين يكفرها؛ قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - والأوزاعي؛ وهو مقتضى الآية. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: إذا حرم الرجل عليه امرأته فإنما هي يمين يكفرها. وقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة؛ يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حرم جاريته فقال الله تعالى{لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله تعالى - قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} فكفر عن يمينه وصير الحرام يمينا. خرجه الدارقطني.
ثالثها: أنها تجب فيها كفارة وليست بيمين؛ قاله ابن مسعود وابن عباس أيضا في إحدى روايتيه، والشافعي في أحد قوليه، وفي هذا القول نظر. والآية ترده على ما يأتي.
رابعها: هي ظهار؛ ففيها كفارة الظهار، قال عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق.
خامسها: أنه إن نوى الظهار وهو ينوي أنها محرمة كتحريم ظهر أمه كان ظهارا. وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين. وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين، قاله الشافعي.
سادسها: أنها طلقة رجعية، قاله عمر بن الخطاب والزهري وعبدالعزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون. وسابعها: أنها طلقة بائنة، قاله حماد بن أبي سليمان وزيد بن ثابت. ورواه ابن خويز منداد عن مالك.
ثامنها: أنها ثلات تطليقات، قال علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت أيضا وأبو هريرة.
تاسعها: هي في المدخول بها ثلاث، وينوي في غير المدخول بها، قاله الحسن وعلي بن زيد والحكم. وهو مشهور مذهب مالك.
عاشرها: هي ثلاث؛ ولا ينوي بحال ولا في محل وإن لم يدخل؛ قاله عبدالملك في المبسوط، وبه قال ابن أبي ليلى.
حادي عشرها: هي في التي لم يدخل بها واحدة، وفي التي دخل بها ثلاث؛ قاله أبو مصعب ومحمد بن عبدالحكم.
ثاني عشرها: أنه إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى. فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا. فإن نوى ثنتين فواحدة. فإن لم ينو شيئا كانت يمينا وكان الرجل موليا من امرأته؛ قاله أبو حنيفة وأصحابه. وبمثله قال زفر؛ إلا أنه قال: إذا نوى اثنتين ألزمناه.
ثالث عشرها: أنه لا تنفعه نية الظهار وإنما يكون طلاقا؛ قاله ابن القاسم.
رابع عشرها: قال يحيى بن عمر: يكون طلاقا؛ فإن أرتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار.
خامس عشرها: إن نوى الطلاق فما أراد من أعداده. وإن نوى واحدة فهي رجعية. وهو قول الشافعي رضي الله عنه. وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين.
سادس عشرها: إن نوى ثلاثا فثلاثا، وإن واحدة فواحدة. وإن نوى يمينا فهي يمين. وإن لم ينو شيئا فلا شيء عليه. وهو قول سفيان. وبمثله قال الأوزاعي وأبو ثور؛ إلا أنهما قالا: إن لم ينو شيئا فهي واحدة.
سابع عشرها: له نيته ولا يكون أقل من واحدة؛ قاله ابن شهاب. وإن لم ينو شيئا لم يكن شيء؛ قال ابن العربي. ورأيت لسعيد بن جبير وهو:
الثامن عشر: أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهارا. ولست أعلم لها وجها ولا يبعد في المقالات عندي.
قلت: قد ذكره الدارقطني في سننه عن ابن عباس فقال: حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا روح قال: حدثنا سفيان الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراما. فقال: كذبت! ليست عليك بحرام؛ ثم تلا {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} عليك أغلظ الكفارات: عتق رقبة. وقد قال جماعة من أهل التفسير: إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة، وعاد إلى مارية صلى الله عليه وسلم؛ قاله زيد بن أسلم وغيره.
قال علماؤنا: سبب الاختلاف في هذا الباب أنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نص ولا ظاهر صحيح يعتمد عليه في هذه المسألة، فتجاذبها العلماء لذلك. فمن تمسك بالبراءة الأصلية فقال: لا حكم، فلا يلزم بها شيء. وأما من قال إنها يمين؛ فقال: سماها الله يمينا. وأما من قال: تجب فيها كفارة وليست بيمين؛ فبناه على أحد أمرين: أحدهما: أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفارة فيها وإن لم تكن يمينا. والثاني: أن معنى اليمين عنده التحريم، فوقعت الكفارة على المعنى. وأما من قال: إنها طلقة رجعية؛ فإنه حمل اللفظ على أقل وجوهه، والرجعية محرمة الوطء كذلك؛ فيحمل اللفظ عليه. وهذا يلزم مالكا، لقوله: إن الرجعية محرمة الوطء. وكذلك وجه من قال: إنها ثلاث، فحمله على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث. وأما من قال: إنه ظهار، فلأنه أقل درجات التحريم، فإنه تحريم لا يرفع النكاح. وأما من قال: إنه طلقة بائنة، فعول على أن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة، وأن الطلاق البائن يحرمها. وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن جعله طلاقا، فلما ارتجعها احتاط بأن يلزمه الكفارة. ابن العربي{وهذا لا يصح، لأنه جمع بين المتضادين، فإنه لا يجتمع ظهار وطلاق في معنى لفظ واحد، فلا وجه للاحتياط فيما لا يصح اجتماعه في الدليل. وأما من قال: إنه ينوى في التي لم يدخل بها، فلأن الواحدة تبينها وتحرمها شرعا إجماعا. وكذلك قال من لم يحكم باعتبار نيته: إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع، فيكفي أخذا بالأقل المتفق عليه. وأما من قال: إنه ثلاث فيهما، فلأنه أخذ بالحكم الأعظم، فإنه لو صرح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها نفوذها في التي دخل بها. ومن الواجب أن يكون المعنى مثله وهو التحريم . والله أعلم. وهذا كله في الزوجة. وأما في الأمة فلا يلزم فيها شيء من ذلك، إلا أنه ينوي به العتق عند مالك. وذهب عامة العلماء إلى أن عليه كفارة يمين. ابن العربي. والصحيح أنها طلقة واحدة، لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله وهو الواحدة إلا أن يعدده. كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر، مثل أن يقول أنت علي حرام إلا بعد زوج، فهذا نص على المراد.
قلت: أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة لما خلا النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها بجاريته؛ ذكره الثعلبي. وعلى هذا فكأنه قال: لا يحرم عليك ما حرمته على نفسك ولكن عليك كفارة يمين، وإن كان في تحريم العسل والجارية أيضا. فكأنه قال: لم يحرم عليك ما حرمته، ولكن ضممت إلى التحريم يمينا فكفر عن اليمين. وهذا صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ثم حلف، كما ذكره الدارقطني. وذكر البخاري معناه في قصة العسل عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عند زينب بنت جحش عسلا ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل: أكلت مغافير؟ إني لأجد منك ريح مغافير! قال: (لا ولكن شربت عسلا ولن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا). يبتغي مرضات أزواجه. فيعني بقوله: (ولن أعود له على جهة التحريم. وبقوله: (حلفت) أي بالله، بدليل أن الله تعالى أنزل عليه عند ذلك معاتبته على ذلك، وحوالته على كفارة اليمين بقوله تعالى{يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} يعني العسل المحرم بقوله: (لن أعود له). {تبتغي مرضات أزواجك} أي تفعل ذلك طلبا لرضاهن. {والله غفور رحيم} غفور لما أوجب المعاتبة، رحيم برفع المؤاخذة. وقد قيل: إن ذلك كان ذنبا من الصغائر. والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة.
الآية رقم ( 2 )
{قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم}
قوله تعالى{قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} تحليل اليمين كفارتها. أي إذا أحببتم استباحة المحلوف عليه، وهو قوله تعالى في سورة المائدة {فكفارته إطعام عشرة مساكين}المائدة: 89]. ويتحصل من هذا أن من حرم شيئا من المأكول والمشروب لم يحرم عليه عندنا، لأن الكفارة لليمين لا للتحريم على ما بيناه. وأبو حنيفة يراه يمينا في كل شيء، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه، فإذا حرم طعاما فقد حلف على أكله، أو أمة فعلى وطئها، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن. وكذلك إن نوى ثنتين أو ثلاثا. وإن قال: نويت الكذب دين فيما بينه وبين الله تعالى. ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء. وإن قال: كل حلال عليه حرام؛ فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى. ولا يراه الشافعي يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن. وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده، على ما تقدم بيانه. فإن حلف إلا يأكله حنث ويبر بالكفارة.
فإن حرم أمته أو زوجته فكفارة يمين، كما في صحيح مسلم عن ابن عباس قال: إذا حرم الرجل عليه امرأته، فهي يمين يكفرها. وقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كفر عن يمينه. وعن الحسن: لم يكفر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة. والأول أصح، وأن المراد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن الأمة تقتدي به في ذلك. وقد قدمنا عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام كفر بعتق رقبة. وعن مقاتل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية. والله أعلم. وقيل: أي قد فرض الله لكم تحليل ملك اليمين، فبين في قوله تعالى{ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له}الأحزاب: 38] أي فيما شرعه له في النساء المحللات. أي حلل لكم ملك الأيمان، فلم تحرم مارية على نفسك مع تحليل الله إياها لك. وقيل: تحلة اليمين الاستثناء، أي فرض الله لكم الاستثناء المخرج عن اليمين. ثم عند قوم يجوز الاستثناء من الأيمان متى شاء وإن تحلل مدة. وعند المعظم لا يجوز إلا متصلا، فكأنه قال: استثن بعد هذا فيما تحلف عليه. وتحلة اليمين تحليلها بالكفارة، والأصل تحللة، فأدغمت. وتفعلة من مصادر فعل؛ كالتسمية والتوصية. فالتحلة تحليل اليمين. فكأن اليمين عقد والكفارة حل. وقيل: التحلة الكفارة؛ أي إنها تحل للجالف ما حرم على نفسه؛ أي إذا كفر صار كمن لم يحلف. {والله مولاكم} وليكم وناصركم بإزالة الحظر فيما تحرمونه على أنفسكم، وبالترخيص لكم في تحليل أيمانكم بالكفارة، وبالثواب على ما تخرجونه في الكفارة.
الآية رقم ( 3 )
{وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير}
قوله تعالى{وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا} أي واذكر إذ أسر النبي إلى حفصة حديثا{ يعني تحريم مارية على نفسه واستكتامه إياها ذلك. وقال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي؛ وقال ابن عباس. قال: أسر أمر الخلافة بعده إلى حفصة فذكرته حفصة. روي الدارقطني في سننه عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى{وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا} قال: اطلعت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم مع أم إبراهيم فقال: (لا تخبري عائشة) وقال لها (إن أباك وأباها سيملكان أو سيليان بعدي فلا تخبري عائشة) قال: فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة فأظهره الله عليه، فعرف بعضه وأعرض عن بعض. قال أعرض عن قوله: (إن أباك وأباها يكونان بعدي). كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينشر ذلك في الناس. {فلما نبأت به} أي أخبرت به عائشة لمصافاة كانت بينهما، وكانتا متظاهرتين على نساء النبي صلى الله عليه وسلم. {وأظهره الله عليه} أي أطلعه الله على أنها قد نبأت به. وقرأ طلحة بن مصرف {فلما أنبأت} وهما لغتان: أنبأ ونبأ. {عرف بعضه وأعرض عن بعض} عرف حفصة بعض ما أوحي إليه من أنها أخبرت عائشة بما نهاها عن أن تخبرها، وأعرض عن بعض تكرما؛ قاله السدي. وقال الحسن: ما استقصى كريم قط، قال الله تعالى {عرف بعضه وأعرض عن بعض}. وقال مقاتل: يعني أخبرها ببعض ما قالت لعائشة، وهو حديث أم ولده ولم يخبرها ببعض وهو قول حفصة لعائشة: إن أبا بكر وعمر سيملكان بعده. وقراءة العامة {عرف} مشددا، ومعناه ما ذكرناه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، يدل عليه قوله تعالى{وأعرض عن بعض} أي لم يعرفها إياه. ولو كانت مخففة لقال في ضده وأنكر بعضا. وقرأ علي وطلحة بن مصرف وأبو عبدالرحمن السلمي والحسن وقتادة والكلبي والكسائي والأعمش عن أبي بكر {عرف} مخففة. قال عطاء: كان أبو عبدالرحمن السلمي إذا قرأ عليه الرجل {عرف} مشددة حصبه بالحجارة. قال الفراء: وتأويل قوله عز وجل{عرف بعضه} بالتخفيف، أي غضب فيه وجازى عليه؛ وهو كقولك لمن أساء إليك: لأعرفن لك ما فعلت، أي لأجازينك عليه. وجازاها النبي صلى الله عليه وسلم بأن طلقها طلقة واحدة. فقال عمر: لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك. فأمره جبريل بمراجعتها وشفع فيها. واعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا، وقعد في مشربة مارية أم إبراهيم حتى نزلت آية التحريم على ما تقدم. وقيل: هم بطلاقها حتى قال له جبريل: (لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة) فلم يطلقها. {فلما نبأها به} أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه. {قالت من أنبأك هذا} يا رسول الله عني. فظنت أن عائشة أخبرته، فقال عليه السلام{قال نبأني العليم الخبير} أي الذي لا يخفى عليه شيء. و{هذا} سد مسد مفعولي {أنبأ}. و{نبأ} الأول تعدى إلى مفعول، و{نبأ} الثاني تعدى إلى مفعول واحد، لأن نبأ وأنبأ إذا لم يدخلا على المبتدأ والخبر جاز أن يكتفى فيهما بمفعول واحد وبمفعولين، فإذا دخلا على الابتداء والخبر تعدى كل واحد منهما إلى ثلاثة مفعولين. ولم يجز الاقتصار على الاثنين دون الثالث، لأن الثالث هو خبر المبتدأ في الأصل فلا يقتصر دونه، كما لا يقتصر على المبتدأ دون الخبر.
الآية رقم ( 4 )
{إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير}
قوله تعالى{إن تتوبا إلى الله} يعني حفصة وعائشة، حثهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. {فقد صغت قلوبكما} أي زاغت ومالت عن الحق. وهو أنهما أحبتا ما كره النبي صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسل، وكان عليه السلام يحب العسل والنساء. قال ابن زيد: مالت قلوبهما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده، فسرهما ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: فقد مالت قلوبكما إلى التوابة. وقال{فقد صغت قلوبكما} ولم يقل: فقد صغى قلباكما، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين، من اثنين جمعوهما، لأنه لا يشكل. وقد مضى هذا المعنى في المائدة في قوله تعالى{فاقطعوا أيديهما}المائدة: 38]. وقيل: كلما ثبتت الإضافة فيه مع التثنية فلفظ الجمع أليق به، لأنه أمكن وأخف. وليس قوله{فقد صغت قلوبكما} جزاء للشرط، لأن هذا الصغو كان سابقا، فجواب الشرط محذوف للعلم به. أي إن تتوبا كان خيرا لكما، إذ قد صغت قلوبكما.
قوله تعالى{وإن تظاهرا عليه} أي تتظاهرا وتتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمعصية والإيذاء. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجا فخرجت معه، فلما رجع فكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت حتى فرع، ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة. قال فقلت له: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه، فإن كنت أعلمه أخبرتك... وذكر الحديث. {فإن الله هو مولاه} أي وليه وناصره، فلا يضره ذلك التظاهر منهما. {وجبريل وصالح المؤمنين} قال عكرمة وسعيد بن جبير: أبو بكر وعمر، لأنهما أبوا عائشة وحفصة، وقد كانا عونا له عليهما. وقيل: صالح المؤمنين علي رضي الله عنه. وقيل: خيار المؤمنين. وصالح: اسم جنس كقوله تعالى{والعصر. إن الإنسان لفي خسر}العصر: 2]، قاله الطبري. وقيل{صالح المؤمنين} هم الأنبياء، قال العلاء بن زيادة وقتادة وسفيان. وقال ابن زيد: هم الملائكة. السدي: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل{صالح المؤمنين} ليس لفظ الواحد وإنما هو صالحو المؤمنين: فأضاف الصالحين إلى المؤمنين، وكتب بغير واو على اللفظ لأن لفظ الواحد والجمع واحد فيه. كما جاءت أشياء في المصحف متنوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه قال دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه - وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب - فقال عمر: فقلت لأعلمن ذلك اليوم، قال فدخلت على عائشة فقلت: يا ابنة أبي بكر، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطاب! عليك بعيبتك! قال فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم! والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك، ولولا أنا لطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكت أشد البكاء، فقلت لها: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خزانته في المشربة. فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا على أسكفة المشربة مدل رجليه على نقير من خشب، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر. فناديت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم قلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم رفعت صوتي فقلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقها لأضربن عنقها، ورفعت صوتي فأومأ إلي أن اِرْقَه؛ فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره؛ وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، ومثلها قرظا في ناحية الغرفة؛ وإذا أفيق معلق - قال - فابتدرت عيناي. قال: (ما يبكيك يا ابن الخطاب)؟ قلت يا نبي الله، ومالي لا أبكى وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته، وهذه خزانتك! فقال: (يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا) قلت: بلى. قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله، ما يشق عليك من شأن النساء؛ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلما تكلمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله عز وجل يصدق قولي الذي أقول ونزلت هذه الآية، آية التخيير{عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن}التحريم: 5]. {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير}.
وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله، أطلقتهن؟ قال: (لا). قلت: يا رسول الله، إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: (نعم إن شئت). فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه، وحتى كشر فضحك، وكان من أحسن الناس ثغرا. ثم نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ونزلت؛ فنزلت أتشبث بالجذع، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده. فقلت: يا رسول الله، إنما كنت في الغرفة تسعا وعشرين. قال: (إن الشهر يكون تسعا وعشرين) فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه. ونزلت هذه الآية{وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}النساء: 83]. فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر؛ وأنزل الله آية التخيير.
قوله تعالى{وجبريل} فيه لغات تقدمت في سورة البقرة . ويجوز أن يكون معطوفا على {مولاه} والمعنى: الله وليه وجبريل وليه؛ فلا يوقف على {مولاه} ويوقف على {جبريل} ويكون {وصالح المؤمنين} مبتدأ {والملائكة} معطوفا عليه. و{ظهير} خبرا؛ وهو بمعنى الجمع. وصالح المؤمنين أبو بكر؛ قاله المسيب بن شريك. وقال سعيد بن جبير: عمر. وقال عكرمة: أبو بكر وعمر. وروي شقيق عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى{فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} قال: إن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر. وقيل: هو علي. عن أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ({وصالح المؤمنين} علي بن أبي طالب). وقيل غير هذا مما تقدم القول فيه. ويجوز أن يكون {وجبريل} مبتدأ وما بعده معطوفا عليه. والخبر (ظهيروهو بمعنى الجمع أيضا. فيوقف على هذا على {مولاه}. ويجوز أن يكون {جبريل وصالح المؤمنين} معطوفا على {مولاه} فيوقف على {المؤمنين} ويكون {والملائكة بعد ذلك ظهير} ابتداء وخبرا. ومعنى {ظهير} أعوان. وهو بمعنى ظهراء؛ كقوله تعالى{وحسن أولئك رفيقا}النساء: 69]. وقال أبو علي: قد جاء فعيل للكثرة كقوله تعالى{ولا يسأل حميم حميما. يبصرونهم}المعارج:11]. وقيل: كان التظاهر منهما في التحكم على النبي صلي اله عليه وسلم في النفقة، ولهذا آلى منهن شهرا واعتزلهن. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا - قال - فقال لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (هن حولي كما ترى يسألنني النفقة). فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها؛ كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده! فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده. ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين. ثم نزلت عليه هذه الآية{يا أيها النبي قل لأزواجك} حتى بلغ {للمحسنات منكن أجرا عظيما}الأحزاب: 28] الحديث. وقد ذكراه في سورة الأحزاب .
الآية رقم ( 5 )
{عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا}
قوله تعالى{عسى ربه إن طلقكن} قد تقدم في الصحيح أن هذه الآية نزلت على لسان عمر رضي الله عنه. ثم قيل: كل {عسى} في القرآن واجب؛ إلا هذا. وقيل: هو واجب ولكن الله عز وجل علقه بشرط وهو التطليق ولم يطلقهن. {أن يبدله أزواجا خيرا منكن} لأنكن لو كنتن خيرا منهن ما طلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال معناه السدي. وقيل: هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلي الله عليه وسلم، لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الدنيا نساء خيرا منهن. وقرئ {أن يبدله} بالتشديد والتخفيف. والتبديل والإبدال بمعنى، كالتنزيل والإنزال. والله كان عالما بأنه كان لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته، على أنه إن طلقهن أبدله خيرا منهن تخويفا لهن. وهو كقوله تعالى{وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم}محمد: 38]. وهو إخبار عن القدرة وتخويف لهم، لا أن في الوجود من هو خير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى{مسلمات} يعني مخلصات، قاله سعيد بن جبير. وقيل: معناه مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله. {مؤمنات} مصدقات بما أمرن به ونهين عنه. {قانتات} مطيعات. والقنوت: الطاعة. وقد تقدم. {تائبات} أي من ذنوبهن؛ قاله السدي. وقيل: راجحات إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات لمحاب أنفسهن. {عابدات} أي كثيرات العبادة لله تعالى. وقال ابن عباس: كل عبادة في القرآن فهو التوحيد. {سائحات} صائبات؛ قال ابن عباس والحسن وابن جبير. وقال زيد بن أسلم وابنه عبدالرحمن ويمان: مهاجرات. قال زيد: وليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة. والسياحة الجولان في الأرض. وقال الفراء والقتبي وغيرهما: سمي الصائم سائحا لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام. وقيل: ذاهبات في طاعة الله عز وجل؛ من ساح الماء إذا ذهب. وقد مضى في سورة التوبة والحمد لله. {ثيبات وأبكارا} أي منهن ثيب ومنهن بكر. وقيل: إنما سميت الثيب ثيبا لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها، أو إلى غيره إن فارقها. وقيل: لأنها ثابت إلى بيت أبويها. وهذا أصح؛ لأنه ليس كل ثيب تعود إلى زوج. وأما البكر فهي العذراء؛ سميت بكرا لأنها على أول حالتها التي خلقت بها. وقال الكلبي: أراد بالثيب مثل آسية امرأة فرعون، وبالبكر مثل مريم بنة عمران.
قلت: وهذا إنما يمشي على قول من قال: إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيرا منهن. والله أعلم.
الآية رقم ( 6 )
{يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}
قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا} فيه مسألة واحدة وهي الأمر بوقاية الإنسان نفسه وأهله النار. قال الضحاك: معناه قوا أنفسكم، وأهلوكم فليقوا أنفسهم نارا. وروي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوا أنفسكم وأمروا أهليكم بالذكر والدعاء حتى يقيهم الله بكم. وقال علي رضي الله عنه وقتادة ومجاهد: قوا أنفسكم بأفعالكم وقوا أهليكم بوصيتكم. ابن العربي: وهو الصحيح، والفقه الذي يعطيه العطف الذي يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في معنى الفعل؛ كقوله:
علفتها تبنا وماء باردا
وكقوله:
ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة، ويصلح أهله إصلاح الراعي للرعية. ففي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم). وعن هذا عبر الحسن في هذه الآية بقوله: يأمرهم وينهاهم. وقال بعض العلماء لما قال{قوا أنفسكم} دخل فيه الأولاد؛ لأن الولد بعض منه. كما دخل في قوله تعالى{ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم}النور: 61] فلم يفردوا بالذكر إفراد سائر القرابات. فيعلمه الحلال والحرام، ويجنبه المعاصي والآثام، إلى غير ذلك من الأحكام. وقال عليه السلام: (حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويعلمه الكتابة ويزوجه إذا بلغ). وقال عليه السلام: (ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن). وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع). "خرجه جماعة من أهل الحديث. وهذا لفظ أبي داود". وخرج أيضا عن سمرة بن جندب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فأضربوه عليها). وكذلك يخبر أهله بوقت الصلاة ووجوب الصيام ووجوب الفطر إذا وجب؛ مستندا في ذلك إلى رؤية الهلال.
وقد "روى مسلم" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوتر يقول: (قومي فأوتري يا عائشة). وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله امرأ قام من الليل فصلى فأيقظ أهله فإن لم تقم رش وجهها بالماء. رحم الله امرأة قامت من الليل تصلى وأيقظت زوجها فإذا لم يقم رشت على وجهه من الماء). ومنه قوله صلي الله عليه وسلم: (أيقظوا صواحب الحجر). ويدخل هذا في عموم قوله تعالى{وتعاونوا على البر والتقوى}المائدة: 2]. وذكر القشيري أن عمر رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية: يا رسول الله، نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا؟. فقال: (تنهونهم عما نهاكم الله وتأمرونهم بما أمر الله). وقال مقاتل: ذلك حق عليه في نفسه وولده وأهله وعبيده وإمائه. قال الكيا: فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير، وما لا يستغنى عنه من الأدب. وهو قوله تعالى{وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها}طه: 132]. ونحو قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم{وأنذر عشيرتك الأقربين}. [الشعراء: 214]. وفي الحديث: (مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع).
قوله تعالى{وقودها الناس والحجارة} تقدم في سورة البقرة . {عليها ملائكة غلاظ شداد} يعني الملائكة الزبانية غلاط القلوب لا يرحمون إذا استرحموا خلقوا من الغضب، وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني آدم أكل الطعام والشراب. {شداد} أي شداد الأبدان. وقيل: غلاظ الأقوال شداد الأفعال. وقيل غلاظ في أخذهم أهل النار شداد عليهم. يقال: فلان شديد على فلان؛ أي قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب. وقيل: أراد بالغلاظ ضخامة أجسامهم، وبالشدة القوة. قال ابن عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم. وذكر ابن وهب قال: وحدثنا عبدالرحمن بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خزنة جهنم: (ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب).
قوله تعالى{لا يعصون الله ما أمرهم} أي لا يخالفونه في أمره من زيادة أو نقصان. {ويفعلون ما يؤمرون} أي في وقته، فلا يؤخرونه ولا يقدمونه. وقيل أي لذتهم في أمتثال أمر الله؛ كما أن سرور أهل الجنة في الكون في الجنة؛ ذكره بعض المعتزلة. وعندهم أنه يستحيل التكيف غدا. ولا يخفى معتقد أهل الحق في أن الله يكلف العبد اليوم وغدا، ولا ينكر التكليف في حق الملائكة. ولله أن يفعل ما يشاء.
الآية رقم ( 7 )
{يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون}
قوله تعالى{يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم} فإن عذركم لا ينفع. وهذا النهي لتحقيق اليأس. {إنما تجزون ما كنتم تعملون} في الدنيا. ونظيره{فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون}الروم: 57]. وقد تقدم.
الآية رقم ( 8 )
{يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير}
قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله} أمر بالتوبة وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وكل الأزمان. وقد تقدم بيانها والقول فيها في النساء وغيرها. {توبة نصوحا} اختلفت عبارة العلماء وأرباب القلوب في التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولا؛ فقيل: هي التي لا عودة بعدها كما لا يعود اللبن إلى الضرع؛ وروي عن عمر وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم. ورفعه معاذ إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: النصوح الصادقة الناصحة. وقيل الخالصة؛ يقال: نصح أي أخلص له القول. وقال الحسن: النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره. وقيل: هي التي لا يثق بقبولها ويكون على وجل منها. وقيل: هي التي لا يحتاج معها إلى توبة.
وقال الكلبي: التوبة النصوح الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع عن الذنب، والاطمئنان على أنه لا يعود. وقال سعيد بن جبير: هي التوبة المقبولة؛ ولا تقبل ما لم يكن فيها ثلاثة شروط: خوف ألا تقبل، ورجاء أن تقبل، وإدمان الطاعات. وقال سعيد بن المسيب: توبة تنصحون بها أنفسكم. وقال القرظي: يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، وإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيء الخلان. وقال سفيان الثوري: علامة التوبة النصوح أربعة: القلة والعلة والذلة والغربة. وقال الفضيل بن عياض: هو أن يكون الذنب بين عينيه، فلا يزال كأنه ينظر إليه. ونحوه عن ابن السماك: أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك وتستعد لمنتظرك. وقال أبو بكر الوراق: هو أن تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتضيق عليك نفسك؛ كالثلاثة الذين خلفوا. وقال أبو بكر الواسطي: هي توبة لا لفقد عوض؛ لأن من أذنب في الدنيا لرفاهية نفسه ثم تاب طلبا لرفاهيتها في الآخرة؛ فتوبته على حفظ نفسه لا لله. وقال أبو بكر الدقاق المصري: التوبة النصوح هي رد المظالم، واستحلال الخصوم، وإدمان الطاعات. وقال رويم: هو أن تكون لله وجها بلا قفا، كما كنت له عند المعصية قفا بلا وجه. وقال ذو النون: علامة التوبة النصوح ثلاث: قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام. وقال شقيق: هو أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا ينفك من الندامة؛ لينجو من آفاتها بالسلامة. وقال سري السقطي: لا تصلح التوبة النصوح إلا بنصيحة النفس والمؤمنين؛ لأن من صحب توبته أحب أن يكون الناس مثله. وقال الجنيد: التوبة النصوح هو أن ينسى الذنب فلا يذكره أبدا؛ لأن من صحت توبته صار محبا لله، ومن أحب الله نسي ما دون الله. وقال ذو الأذنين: هو أن يكون لصاحبها دمع مسفوح، وقلب عن المعاصي جموح. وقال فتح الموصلي: علامتها ثلاث: مخالفة الهوى، وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظمأ. وقال سهل بن عبدالله التستري: هي التوبة لأهل السنة والجماعة؛ لأن المبتدع لا توبة له؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (حجب الله على كل صاحب بدعة أن يتوب). وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه.
وأصل التوبة النصوح من الخلوص؛ يقال: هذا عسل ناصح إذا خلص من الشمع. وقيل: هي مأخوذة من النصاحة وهي الخياطة. وفي أخذها منها وجهان: أحدهما: لأنها توبة قد أحكمت طاعته وأوثقتها كما يحكم الخياط الثوب بخياطته ويوثقه. والثاني: لأنها قد جمعت بينه وبين أولياء الله وألصقته بهم؛ كما يجمع الخياط الثوب ويلصق بعضه ببعض. وقراءة العامة {نصوحا} بفتح النون، على نعت التوبة، مثل امرأة صبور، أي توبة بالغة في النصح. وقرأ الحسن وخارجة وأبو بكر عن عاصم بالضم؛ وتأويله على هذه القراءة: توبة نصح لأنفسكم. وقيل: يجوز أن يكون {نصوحا}، جمع نصح، وإن يكون مصدرا، يقال: نصح نصاحة ونصوحا. وقد يتفق فعالة وفعول في المصادر، نحو الذهاب والذهوب. وقال المبرد: أراد توبة ذات نصح، يقال: نصحت نصحا ونصاحة ونصوحا.
في الأشياء التي يتاب منها وكيف التوبة منها. قال العلماء: الذنب الذي تكون منه التوبة لا يخلو، إما أن يكون حقا لله أو للآدميين. فإن كان حقا لله كترك صلاة فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها. وهكذا إن كان ترك صوم أو تفريطا في الزكاة. وإن كان ذلك قتل نفس بغير حق فأن يمكن من القصاص إن كان عليه وكان مطلوبا به. وإن كان قذفا يوجب الحد فيبذل ظهره للجلد إن كان مطلوبا به. فإن عفي عنه كفاه الندم والعزم على ترك العود بالإخلاص. وكذلك إن عفي عنه في القتل بمال فعليه أن يؤديه إن كان واجدا له، قال الله تعالى{فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}البقرة: 178]. وإن كان ذلك حدا من حدود الله كائنا ما كان فإنه إذا تاب إلى الله تعالى بالندم الصحيح سقط عنه. وقد نص الله تعالى على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم. وفي ذلك دليل على أنها لا تسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم؛ حسب ما تقدم بيانه. وكذلك الشراب والسراق والزناة إذا أصلحوا وتابوا وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم. وإن رفعوا إليه فقالوا: تبنا، لم يتركوا، وهم في هذه الحالة كالمحاربين إذا غلبوا. هذا مذهب الشافعي. فإن كان الذنب من مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه - عينا كان أو غيره - إن كان قادرا عليه، فإن لم يكن قادرا فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه. وإن كان أضر بواحد من المسلمين وذلك الواحد لا يشعر به أو لا يدري من أين أتى، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له، فإذا عفا عنه فقد سقط الذنب عنه. وإن أرسل من يسأل ذلك له، فعفا ذلك المظلوم عن ظالمه - عرفه بعينه أو لم يعرفه - فذلك صحيح. وإن أساء رجل إلى رجل بأن فزعه بغير حق، أو غمه أو لطمه، أو صفعه بغير حق، أو ضربه بسوط فآلمه، ثم جاءه مستعفيا نادما على ما كان منه، عازما على ألا يعود، فلم يزل يتذلل له حتى طابت نفسه فعفا عنه، سقط عنه ذلك الذنب. وهكذا إن كان شانه بشتم لا حد فيه.
قوله تعالى{عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم} {عسى} من الله واجبة. وهو معنى قوله عليه السلام: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له). و{أن} في موضع رفع اسم عسى.
قوله تعالى{ويدخلكم} معطوف على {يكفر}. وقرأ ابن أبي عبلة {ويدخلكم} مجزوما عطفا على محل عسى أن يكفر. كأنه قيل: توبوا يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار. {يوم لا يخزي الله النبي} العامل في {يوم}{يدخلكم} أو فعل مضمر. ومعنى {يخزي} هنا يعذب، أي لا يعذبه ولا يعذب الذين آمنوا معه. {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} تقدم في سورة الحديد . {يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير} قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين؛ حسب ما تقدم بيانه في سورة الحديد .
الآية رقم ( 9 )
{يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير}
قوله تعالى{يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} فيه مسألة واحدة: وهو التشديد في دين الله. فأمره أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله. والمنافقين بالغلظة وإقامة الحجة؛ وأن يعرفهم أحوالهم في الآخرة، وأنهم لا نور لهم يجوزون به الصراط مع المؤمنين. وقال الحسن: أي جاهدهم بإقامة الحدود عليهم؛ فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود. وكانت الحدود تقام عليهم. {ومأواهم جهنم} يرجع إلى الصنفين. {وبئس المصير} أي المرجع.
الآية رقم ( 10 )
{ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين}
ضرب الله تعالى هذا المثل تنبيها على أنه لا يغني أحد في الآخرة عن قريب ولا نسيب إذا فرق بينهما الدين. وكان اسم امرأة نوح والهة، واسم امرأة لوط والعة؛ قاله مقاتل. وقال الضحاك عن عائشة رضي الله عنها: إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح واغلة واسم امرأة لوط والهة. {فخانتاهما} قال عكرمة والضحاك. بالكفر. وقال سليمان بن رقية والضحاك: بالكفر. وقال سليمان بن رقية عن ابن عباس: كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون. وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه. وعنه: ما بغت امرأه نبي قط. وهذا إجماع من المفسرين فيما ذكر القشيري. إنما كانت خيانتهما في الدين وكانتا مشركتين. وقيل: كانتا منافقتين. وقيل: خيانتهما النميمة إذا أوحى الله إليهما شيئا أفشتاه إلى المشركين؛ قاله الضحاك. وقيل: كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف؛ لما كانوا عليه من إتيان الرجال. {فلم يغنيا عنهما من الله شيئا} أي لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما - لما عصتا - شيئا من عذاب الله؛ تنبيها بذلك على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة. ويقال: إن كفار مكة استهزؤوا وقالوا: إن محمدا صلي الله عليه وسلم يشفع لنا؛ فبين الله تعالى أن شفاعته لا تنفع كفار مكة وإن كانوا أقرباء، كما لا تنفع شفاعة نوح لامرأته وشفاعة لوط لامرأته، مع قربهما لهما لكفرهما. وقيل لهما{وقيل ادخلا النار مع الداخلين} في الآخرة؛ كما يقال لكفار مكة وغيرهم. ثم قيل: يجوز أن تكون {امرأة نوح} بدلا من قوله{مثلا} على تقدير حذف المضاف؛ أي ضرب الله مثلا مثل امرأة نوح. ويجوز أن يكونا مفعولين.
الآية رقم ( 11 )
{وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين}
قوله تعالى{وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون} واسمها آسية بنت مزاحم. قال يحيى بن سلام: قوله {ضرب الله مثلا للذين كفروا} مثل ضربه الله يحذر به عائشة وحفصة في المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ضرب لهما مثلا بامرأة فرعون ومريم بنة عمران؛ ترغيبا في التمسك بالطاعة والثبات على الدين. وقيل: هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة؛ أي لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون حين صبرت على أذى فرعون. وكانت آسية آمنت بموسى. وقيل: هي عمة موسى آمنت به. قال أبو العالية: اطلع فرعون على إيمان امرأته فخرج على الملأ فقال لهم: ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟ فأثنوا عليها. فقال لهم: إنها تعبد ربا غيري. فقالوا له: أقتلها. فأوتد لها أوتادا وشد يديها ورجليها فقالت{رب ابن لي عندك بيتا في الجنة} ووافق ذلك حضور فرعون، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة. فقال فرعون: ألا تعجبون من جنونها! إنا نعذبها وهي تضحك؛ فقبض روحها. وقال سلمان الفارسي فيما روى عنه عثمان النهدي: كانت تعذب بالشمس، فإذا أذاها حر الشمس أظلتها الملائكة بأجنحتها. وقيل: سمر يديها ورجليها في الشمس ووضع على ظهرها رحى؛ فأطلعها الله. حتى رأت مكانها في الجنة. وقيل: لما قالت{رب ابن لي عندك بيتا في الجنة} أريت بيتها في الجنة يبنى. وقيل: إنه من درة؛ عن الحسن. ولما قالت{ونجني} نجاها الله أكرم نجاة، فرفعها إلى الجنة، فهي تأكل وتشرب وتتنعم. {من فرعون وعمله} تعني بالعمل الكفر. وقيل: من عمله من عذابه وظلمه وشماتته. وقال ابن عباس: الجماع. {ونجني من القوم الظالمين} قال الكلبي: أهل مصر. مقاتل: القبط. قال الحسن وابن كيسان: نجاها الله أكرم نجاة، ورفعها إلى الجنة؛ فهي فيها تأكل وتشرب.
الآية رقم ( 12 )
{ومريم بنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين}
قوله تعالى{ومريم بنة عمران} أي واذكر مريم. وقيل: هو معطوف على امرأة فرعون. والمعنى: وضرب الله مثلا لمريم ابنت عمران وصبرها على أذى اليهود. {التي أحصنت فرجها} أي عن الفواحش. وقال المفسرون: إنه أراد بالفرج هنا الجيب لأنه قال{فنفخنا فيه من روحنا} وجبريل عليه السلام إنما نفخ في جيبها ولم ينفخ في فرجها. وهي في قراءة أبي {فنفخنا في جيبها من روحنا}. وكل خرق في الثوب يسمى جيبا؛ ومنه قوله تعالى{وما لها من فروج}ق: 6]. ويحتمل أن تكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها. ومعنى {فنفخنا} أرسلنا جبريل فنفخ في جيبها {من روحنا} أي روحا من أرواحنا وهي روح عيسى. وقد مضى في آخر سورة النساء بيانه مستوفى والحمد لله. {وصدقت بكلمات ربها} قراءة العامة {وصدقت} بالتشديد. وقرأ حميد والأموي {وصدقت} بالتخفيف. {بكلمات ربها} قول جبريل لها{إنما أنا رسول ربك}مريم: 19] الآية. وقال مقاتل: يعني بالكلمات عيسى وأنه نبي وعيسى كلمة الله. وقد تقدم. وقرأ الحسن وأبو العالية
قوله تعالى{وكتبه} وقرأ أبو عمرو وحفص عن
عاصم {وكتبه} جمعا. وعن أبي رجاء {وكتبه} مخفف التاء. والباقون
{بكتابه} على التوحيد. والكتاب يراد به الجنس؛ فيكون في معنى كل كتاب أنزل
الله تعالى. {وكانت من القانتين} أي من المطيعين. وقيل: من المصلين بين
المغرب والعشاء. وإنما لم يقل من القانتات؛ لأنه أراد وكانت من القوم القانتين.
ويجوز أن يرجع هذا إلى أهل بيتها؛ فإنهم كانوا مطيعين لله. وعن معاذ بن جبل رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة وهي تجود بنفسها{أتكرهين ما قد
نزل بك ولقد جعل الله في الكره خيرا فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهن مني السلام مريم
بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكليمة أو قال حكيمة بنة عمران أخت موسى بن عمران).
فقالت: بالرفاء والبنين يا رسول الله. وروى قتادة عن أنس عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: (حسبك من نساء العالمين أربع مريم بنة عمران وخديجة بنت خويلد
وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون بنت مزاحم). وقد مضى في آل عمران الكلام في
مكية في قول الجميع. وتسمى الواقية والمنجية. وهي ثلاثون آية.
"روى الترمذي عن ابن عباس" قال: ضرب رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر). قال: حديث حسن غريب. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وددت أن {تبارك الذي بيده الملك} في قلب كل مؤمن) ذكره الثعلبي. وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى أخرجته من النار يوم القيامة وأدخلته الجنة وهي سورة تبارك )."خرجه الترمذي بمعناه، وقال فيه: حديث حسن."وقال ابن مسعود: إذا وضع الميت في قبره فيؤتى من قبل رجليه، فيقال: ليس لكم عليه سبيل، فإنه كان يقوم بسوره الملك على قدميه. ثم يؤتى من قبل رأسه، فيقول لسانه: ليس لكم عليه سبيل، إنه كان يقرأ بي سورة الملك ثم قال: هي المانعة من عذاب الله، وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب. وروي أن من قرأها كل ليلة لم يضره الفتان.
الآية رقم ( 1 )
{تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير}
قوله تعالى{تبارك} تفاعل من البركة وقد تقدم. وقال الحسن: تقدس. وقيل دام. فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه. {الذي بيده الملك} أي ملك السموات والأرض في الدنيا والآخرة. وقال ابن عباس: بيده الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع. وقال محمد بن إسحاق: له ملك النبوة التي أعز بها من اتبعه وذل بها من خالفه. {وهو على كل شيء قدير} من إنعام وانتقام.
الآية رقم ( 2 )
{الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور}
قوله تعالى{الذي خلق الموت والحياة} قيل: المعنى خلقكم للموت والحياة؛ يعني للموت في الدنيا والحياة في الآخرة وقدم الوت على الحياة؛ لأن الموت إلى القهر أقرب؛ كما قدم البنات على البنين فقال{يهب لمن يشاء إناثا}الشورى: 49]. وقيل: قدمه لأنه أقدم؛ لأن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنطفة والتراب ونحوه. وقال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تعالى أذل بني آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء). وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه الفقر والمرض والموت وإنه مع ذلك لو ثاب).
قدم الموت على الحياة، لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه؛ فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم قال العلماء: الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة ببنهما، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار. والحياة عكس ذلك. وحكي عن ابن عباس والكلبي ومقاتل: أن الموت والحياة جسمان، فجعل الموت في هيئة كبش لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء - وهي التي كان جبريل والأنبياء عليهم السلام يركبونها - خطوتها مد البصر، فوق الحمار ودون البغل، لا تمر بشيء يجد ريحها إلا حيي، ولا تطأ على شيء إلا حيي. وهي التي أخذ السامري من أثرها فألقاه على العجل فحيي. حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس. والماوردي معناه عن مقاتل والكلبي.
قلت: وفي التنزيل {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم}، [السجدة: 11]، {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة}الأنفال: 50] ثم {توفته رسلنا}الأنعام: 61]، ثم قال{الله يتوفى الأنفس حين موتها}الزمر: 42]. فالوسائط ملائكة مكرمون صلوات الله عليهم. وهو سبحانه المميت على الحقيقة، وإنما يمثل الموت بالكبش في الآخرة ويذبح على الصراط؛ حسب ما ورد به الخبر الصحيح. وما ذكر عن ابن عباس يحتاج إلى خبر صحيح يقطع العذر. والله أعلم. وعن مقاتل أيضا: خلق الموت؛ يعني النطفة والعلقة والمضغة، وخلق الحياة؛ يعني خلق إنسانا ونفخ فيه الروح فصار إنسانا.
قلت: وهذا قول حسن؛ يدل عليه قوله تعالى {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} وتقدم الكلام فيه في سورة الكهف . وقال السدي في قوله تعالى{الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} أي أكثركم للموت ذكرا وأحسن استعدادا، ومنه أشد خوفا وحذرا. وقال ابن عمر: تلا النبي صلى الله عليه وسلم {تبارك الذي بيده الملك - حتى بلغ - أيكم أحسن عملا} فقال: (أورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله). وقيل: معنى {ليبلوكم} ليعاملكم معاملة المختبر؛ أي ليبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره، وبالحياة ليبين شكره. وقيل: خلق الله الموت للبعث والجزاء، وخلق الحياة للابتلاء. فاللام في {ليبلوكم} تتعلق بخلق الحياة لا بخلق الموت؛ ذكره الزجاج. وقال الفراء والزجاج أيضا: لم تقع البلوى على {أي} لأن فيما بين البلوى و{أي} إضمار فعل؛ كما تقول: بلوتكم لأنظر أيكم أطوع. ومثله قوله تعالى{سلهم أيهم بذلك زعيم}القلم: 40] أي سلهم ثم انظر أيهم. {فأيكم} رفع بالابتداء و{أحسن} خبره. والمعنى: ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملا. {وهو العزيز} في أنتقامه ممن عصاه. {الغفور} لمن تاب.
الآية رقم ( 3 )
{الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور}
قوله تعالى{الذي خلق سبع سماوات طباقا} أي بعضها فوق بعض. والملتزق منها أطرافها؛ كذا روي عن ابن عباس. و{طباقا} نعت {لسبع} فهو وصف بالمصدر. وقيل: مصدر بمعنى المطابقة؛ أي خلق سبع سموات وطبقها تطبيقا أو مطابقة. أو على طوبقت طباقا. وقال سيبويه: نصب {طباقا} لأنه مفعول ثان.
قلت: فيكون {خلق} بمعنى جعل وصير. وطباق جمع طبق؛ مثل جمل وجمال. وقيل: جمع طبقة. وقال أبان بن تغلب: سمعت بعض الأعراب يذم رجلا فقال: شره طباق، وخيره غير باق. ويجوز في غير القرآن سبع سموات طباق؛ بالخفض على النعت لسموات. ونظيره {وسبع سنبلات خضر}يوسف: 46].
قوله تعالى{ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} قراءة حمزة والكسائي {من تفوت} بغير ألف مشددة. وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه. الباقون {من تفاوت} بألف. وهما لغتان مثل التعاهد والتعهد، والتحمل والتحامل، والتظهر والتظاهر، وتصاغر وتصغر، وتضاعف وتضعف، وتباعد وتبعد؛ كله بمعنى. واختار أبو عبيد {من تفوت} واحتج بحديث عبدالرحمن بن أبي بكر{أمثلي يتفوت عليه في بناته}! النحاس: وهذا أمر مردود على أبي عبيد، لأن يتفوت يفتات: بهم. {وتفاوت} في الآية أشبه. كما يقال تباين يقال: تفاوت الأمر إذا تباين وتباعد؛ أي فات بضعها بعضا. ألا ترى أن قبله قوله تعالى{الذي خلق سبع سموات طباقا}. والمعنى: ما ترى في خلق الرحمن من اعوجاج ولا تناقض ولا تباين - بل هي مستقيمة مستوية دالة على خالقها - وإن اختلفت صوره وصفاته. وقيل: المراد بذلك السموات خاصة؛ أي ما ترى في خلق السموات من عيب. وأصله من الفوت، وهو أن يفوت شيء شيئا فيقع الخلل لقلة استوائها؛ يدل عليه قول ابن عباس رضي الله عنه: من تفرق. وقال أبو عبيدة: يقال: تفوت الشيء أي فات. ثم أمر بأن ينظروا في خلقه ليعتبروا به فيتفكروا في قدرته: فقال{فارجع البصر هل ترى من فطور} أي أردد طرفك إلى السماء. ويقال: قلب البصر في السماء. ويقال: اجهد بالنظر إلى السماء. والمعنى متقارب. وإنما قال{فأرجع} بالفاء وليس قبله فعل مذكور؛ لأنه قال{ما ترى}. والمعنى أنظر ثم أرجع البصر هل ترى من فطور؛ قاله قتادة. والفطور: الشقوق، عن مجاهد والضحاك. وقال قتادة: من خلل. السدي: من خروق. ابن عباس: من وهن. وأصله من التفطر والانفطار وهو الانشقاق. قال الشاعر:
بنى لكم بلا عمد سماء وزينها فما فيها فطور
وقال آخر:
شققت القلب ثم ذررت فيه هواك فليم فالتأم الفطور
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ولا سكر ولم يبلغ سرور
الآية رقم ( 4 )
{ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير}
قوله تعالى{ثم ارجع البصر كرتين} {كرتين} في موضع المصدر؛ لأن معناه رجعتين، أي مرة بعد أخرى. وإنما أمر بالنظر مرتين لأن الإنسان إذا نظر في الشيء مرة لا يرى عيبه ما لم ينظر إليه مرة أخرى. فأخبر تعالى أنه وإن نظر في السماء مرتين لا يرى فيها عيبا بل يتحير بالنظر إليها؛ فذلك قوله تعالى{ينقلب إليك البصر خاسئا} أي خاشعا صاغرا متباعدا عن أن يرى شيئا من ذلك. يقال: خسأت الكلب أي أبعدته وطردته. وخسأ الكلب بنفسه، يتعدى ولا يتعدى. وانخسأ الكلب أيضا. وخسأ بصره خسأ وخسوءا أي سدر، ومنه قوله تعالى{ينقلب إليك البصر خاسئا} وقال ابن عباس: الخاسئ الذي لم ير ما يهوى. {وهو حسير} أي قد بلغ الغاية في الإعياء. فهو بمعنى فاعل؛ من الحسور الذي هو الإعياء. ويجوز أن يكون مفعولا من حسره بعد الشيء، وهو معنى قول ابن عباس. ومنه قول الشاعر:
من مد طرفا إلى ما فوق غايته ارتد خسان منه الطرف قد حسرا
يقال: قد حسر بصره يحسر حسورا، أي كل وانقطع نظره من طول مدى وما أشبه ذلك، فهو حسير ومحسور أيضا. قال:
نظرت إليها بالمحصب من منى فعاد إلي الطرف وهو حسير
وقال آخر يصف ناقة:
فشطرها نظر العينين محسور
نصب {شطرها} على الظرف، أي نحوها. وقال آخر:
والخيل شعث ما تزال جيادها حسرى تغادر بالطريق سخالها
وقيل: إنه النادم. ومنه قول الشاعر:
ما أنا اليوم على شيء خلايا بنة القين تولى بحسر
المراد {بكرتين} ها هنا التكثير. والدليل على ذلك{ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير} وذلك دليل على كثرة النظر.
الآية رقم ( 5 : 6 )
{ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير، وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير}
قوله تعالى{ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} جمع مصباح وهو السراج. وتسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها. {وجعلناها رجوما للشياطين} أي جعلنا شهبها؛ فحذف المضاف. دليلة {إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب}الصافات: 10]. وعلى هذا فالمصابيح لا تزول ولا يرجم بها. وقيل: إن الضمير راجع إلى المصابيح على أن الرجم من أنفس الكواكب، ولا يسقط الكوكب نفسه إنما ينفصل منه شيء يرجم به من غير أن ينقص ضوءه ولا صورته. قال أبو علي جوابا لمن قال: كيف تكون زينة وهي رجوم لا تبقى. قال المهدوي: وهذا على أن يكون الاستراق من موضع الكواكب. والتقدير الأول على أن يكون الاستراق من الهوى الذي هو دون موضع الكواكب. القشيري: وأمثل من قول أبي علي أن نقول: هي زينة قبل أن يرجم بها الشياطين. والرجوم جمع رجم؛ وهو مصدر سمي به ما يرجم به. قال قتادة: خلق الله تعالى النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها في البر والبحر والأوقات. فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به، وتعدى وظلم. وقال محمد بن كعب: والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم، ولكنهم يتخذون الكهانة سبيلا ويتخذون النجوم علة. {وأعتدنا لهم عذاب السعير} أي أعتدنا للشياطين أشد الحريق؛ يقال: سعرت النار فهي مسعورة وسعير؛ مثل مقتولة وقتيل. {وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير}.
الآية رقم ( 7 )
{إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور}
قوله تعالى{إذا ألقوا فيها} يعني الكفار. {سمعوا لها شهيقا} أي صوتا. قال ابن عباس: الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها؛ تشهق إليهم شهقة البغلة للشعير، ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. وقيل: الشهيق من الكفار عند إلقائهم في النار قاله عطاء. والشهيق في الصدر، والزفير في الحلق. وقد مضى في سورة هود . {وهي تفور} أي تغلي؛ ومنه قول حسان:
تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر القوم حامية تفور
قال مجاهد: تفور بهم كما يفور الحب القليل في الماء الكثير. وقال ابن عباس: تغلي بهم على المرجل؛ وهذا من شدة لهب النار من شدة الغضب؛ كما تقول فلان يفور غيظا.
الآية رقم ( 8 : 11 )
{تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير، قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير، وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير، فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير}
قوله تعالى{تكاد تميز من الغيظ} يعني تتقطع وينفصل بعضها من بعض؛ قاله سعيد بن جبير. وقال ابن عباس والضحاك وابن زيد: تتفرق. {من الغيظ} من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى. وقيل{من الغيظ} من الغليان. وأصل {تميز} تتميز. {كلما ألقي فيها فوج} أي جماعة من الكفار. {سألهم خزنتها} على جهة التوبيخ والتقريع {ألم يأتكم نذير} أي رسول في الدنيا ينذركم هذا اليوم حتى تحذروا.
قوله تعالى{قالوا بلى قد جاءنا نذير} أنذرنا وخوفنا. {فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء} أي على ألسنتكم. {إن أنتم} يا معشر الرسل. {إلا في ضلال كبير} اعترفوا بتكذيب الرسل، ثم اعترفوا بجهلهم فقالوا وهم في النار{لو كنا نسمع} من النذر - يعني الرسل - ما جاؤوا به {أو نعقل} عنهم. قال ابن عباس: لو كنا نسمع الهدى أو نعقله، أو لو كنا نسمع سماع من يعي ويفكر، أو نعقل عقل من يميز وينظر. ودل هذا على أن الكافر لم يعط من العقل شيئا. وقد مضى في الطور بيانه والحمد لله. {ما كنا في أصحاب السعير} يعني ما كنا من أهل النار. وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال{لقد ندم الفاجر يوم القيامة قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فقال الله تعالى{فاعترفوا بذنبهم} أي بتكذيبهم الرسل. والذنب ها هنا بمعنى الجمع؛ لأن فيه معنى الفعل. يقال: خرج عطاء الناس أي أعطيتهم. {فسحقا لأصحاب السعير} أي فبعدا لهم من رحمة الله. وقال سعيد بن جبير وأبو صالح: هو واد في جهنم يقال له السحق. وقرأ الكسائي وأبو جعفر {فسحقا} بضم الحاء، ورويت عن علي. الباقون بإسكانها، وهما لغتان مثل السحت والرعب. الزجاج: وهو منصوب على المصدر؛ أي أسحقهم الله سحقا؛ أي باعدهم بعدا. قال امرؤ القيس:
يجول بأطراف البلاد مغربا وتسحقه ريح الصبا كل مسحق
وقال أبو علي: القياس إسحاقا؛ فجاء المصدر على الحذف؛ كما قيل:
وإن أهلك فذلك كان قدري
أي تقديري. وقيل: إن قوله تعالى{إن أنتم إلا في ضلال كبير} من قول خزنة جهنم لأهلها.
الآية رقم ( 12 )
{إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير}
قوله تعالى{إن الذين يخشون ربهم بالغيب} نظيره{من خشي الرحمن بالغيب}ق: 33] وقد مضى الكلام فيه. أي يخافون الله ويخافون عذابه الذي هو بالغيب؛ وهو عذاب يوم القيامة. {لهم مغفرة} لذنوبهم {وأجر كبير} وهو الجنة.
الآية رقم ( 13 : 14 )
{وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}
قوله تعالى{وأسروا قولكم أو اجهروا به} اللفظ لفظ الأمر والمراد به الخبر؛ يعني إن أخفيتم كلامكم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أو جهرتم به {فإنه عليم بذات الصدور} يعني بما في القلوب من الخير والشر. ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل عليه السلام؛ فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كي لا يسمع رب محمد؛ فنزلت{وأسروا قولكم أو أجهروا به}. يعني: أسروا قولكم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل في سائر الأقوال. أو أجهروا به؛ أعلنوه. {إنه عليم بذات الصدور} ذات الصدور ما فيها؛ كما يسمى ولد المرأة وهو جنين {ذا بطنها}. ثم قال{ألا يعلم من خلق} يعني ألا يعلم السر من خلق السر. يقول أنا خلقت السر في القلب أفلا أكون عالما بما في قلوب العباد. وقال أهل المعاني: إن شئت جعلت {من} اسما للخالق جل وعز؛ ويكون المعنى: ألا يعلم الخالق خلقه. وإن شئت جعلته اسما للمخلوق، والمعنى: ألا يعلم الله من خلق. ولا بد أن يكون الخالق عالما بما خلقه وما يخلقه. قال ابن المسيب: بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير وقد عصفت الريح فوقع في نفس الرجل: أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق؟ فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: من أسماء صفات الذات ما هو للعلم؛ منها {العليم} ومعناه تعميم جميع المعلومات. ومنها {الخبير} ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون. ومنها {الحكيم} ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف. ومنها {الشهيد} ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر ومعناه أن لا يغيب عنه شيء، ومنها الحافظ ويختص بأنه لا ينسى. ومنها {المحصي} ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم؛ مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الأوراق؛ فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة. وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق! وقد قال{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.
الآية رقم ( 15 )
{هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور}
قوله تعالى{هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا} أي سهلة تستقرون عليها. والذلول المنقاد الذي يذل لك والمصدر الذل وهو اللين والانقياد. أي لم يجعل الأرض بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة والغلظة. وقيل: أي ثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها؛ ولو كانت تتكفأ متماثلة لما كانت منقادة لنا. وقيل: أشار إلى التمكن من الزرع والغرس وشق العيون والأنهار وحفر الآبار. {فامشوا في مناكبها} هو أمر إباحة، وفيه إظهار الأمتنان. وقيل: هو خبر بلفظ الأمر؛ أي لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها وآكامها وجبالها. وقال ابن عباس وقتادة وبشير بن كعب{في مناكبها} في جبالها. وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها: إن أخبرتني ما مناكب الأرض فأنت حرة؟ فقالت: مناكبها جبالها. فصارت حرة، فأراد أن يتزوجها فسأل أبا الدرداء فقال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. مجاهد: في أطرافها. وعنه أيضا: في طرقها وفجاجها. وقاله السدي والحسن. وقال الكلبي: في جوانبها. ومنكبا الرجل: جانباه. وأصل المنكب الجانب؛ ومنه منكب الرجل. والريح النكباء. وتنكب فلان عن فلان. يقول: أمشوا حيث أردتم فقد جعلتها لكم ذلولا لا تمتنع. وحكى قتادة عن أبي الجلد: أن الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ؛ فللسودان أثنا عشر ألف، وللروم ثمانية آلاف، وللفرس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف. {وكلوا من رزقه} أي مما أحله لكم؛ قاله الحسن. وقيل: مما أتيته لكم. {وإليه النشور} المرجع. وقيل: معناه أن الذي خلق السماء لا تفاوت فيها، والأرض ذلولا قادر على أن ينشركم.
الآية رقم ( 16 )
{أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور}
قوله تعالى{أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} قال ابن عباس: أأمنتم عذاب من في السماء إن عصيتموه. وقيل: تقديره أأمنتم من في السماء قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته. وخص السماء وإن عم ملكه تنبيها على أن الإله الذي تنفذ قدرته في السماء لا من يعظمونه في الأرض. وقيل: هو إشارة إلى الملائكة. وقيل: إلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب.
قلت: ويحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون. {فإذا هي تمور} أي تذهب وتجيء. والمور: الاضطراب بالذهاب والمجيء. قال الشاعر:
رمين فأقصدن القلوب ولن ترى دما مائرا إلا جرى في الحيازم
جمع حيزوم وهو وسط الصدر. وإذا خسف بإنسان دارت به الأرض فهو المور. وقال المحققون: أمنتم من فوق السماء؛ كقول{فسيحوا في الأرض}التوبة: 2] أي فوقها لا بالمماسة والتحيز لكن بالقهر والتدبير. وقيل: معناه أمنتم من على السماء؛ كقوله تعالى{ولأصلبنكم في جذوع النخل}طه: 71] أي عليها. ومعناه أنه مديرها ومالكها؛ كما يقال: فلان على العراق والحجاز؛ أي وإليها وأميرها. والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة، مشيرة إلى العلو؛ لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل معاند. والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت. ووصفه بالعلو والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام. وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء لأن السماء مهبط الوحي، ومنزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، وإليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته؛ كما جعل الله الكعبة قبلة للدعاء والصلاة، ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان. ولا مكان له ولا زمان. وهو الآن على ما عليه كان. وقرأ قنبل عن ابن كثير {النشور وامنتم} بقلب الهمزة الأولى واوا وتخفيف الثانية. وقرأ الكوفيون والبصريون وأهل الشام سوى أبي عمرو وهشام بالتخفيف في الهمزتين، وخفف الباقون. وقد تقدم جميعه.
الآية رقم ( 17 )
{أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير}
قوله تعالى{أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا} أي حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل. وقيل: ريح فيها حجارة وحصباء. وقيل: سحاب فيه حجارة. {فستعلمون كيف نذير} أي إنذاري. وقيل: النذير بمعنى المنذر. يعني محمدا صلي الله عليه وسلم فستعلمون صدقه وعاقبة تكذيبكم.
الآية رقم ( 18 )
{ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير}
قوله تعالى{ولقد كذب الذين من قبلهم} يعني كفار الأمم؛ كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وأصحاب الرس وقوم فرعون {فكيف كان نكير} أي إنكاري وقد تقدم. وأثبت ورش الياء في {نذيري، ونكيري} في الوصل. وأثبتها يعقوب في الحالين. وحذف الباقون اتباعا للمصحف.
الآية رقم ( 19 )
{أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير}
قوله تعالى{أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات} أي كما ذلل الأرض للآدمي ذلل الهواء للطيور. و{صافات} أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها؛ لأنهن إذا بسطنها صففن قوائمها صفا. {ويقبضن} أي يضربن بها جنوبهن. قال أبو جعفر النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحيه: صاف، وإذا ضمهما فأصابا جنبه: قابض؛ لأنه يقبضهما. قال أبو خراش: يبادر جنح الليل فهو موائل يحث الجناح بالتبسط والقبض وقيل: ويقبض أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران. وهو معطوف على {صافات} عطف المضارع على اسم الفاعل؛ كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر: بات يعشيها بعضب باتر يقصد في أسوقها وجائر {ما يمسكهن} أي ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عز وجل. {إنه بكل شيء بصير}.
الآية رقم ( 20 )
{أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور}
قوله تعالى{أمن هذا الذي هو جند لكم} قال ابن عباس: حزب ومنعة لكم. {ينصركم من دون الرحمن} فيدفع عنكم ما أراد بكم إن عصيتموه. ولفظ الجند يوحد؛ ولهذا قال{هذا الذي هو جند لكم} وهو استفهام إنكار؛ أي لا جند لكم يدفع عنكم عذاب الله {من دون الرحمن} أي من سوى الرحمن. {إن الكافرون إلا في غرور} من الشياطين؛ تغرهم بأن لا عذاب ولا حساب.
الآية رقم ( 21 )
{أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور}
قوله تعالى{أمن هذا الذي يرزقكم} أي يعطيكم منافع الدنيا. وقيل المطر من آلهتكم. {إن أمسك رزقه} يعني الله تعالى رزقه. {بل لجوا} أي تمادوا وأصروا. {في عتو} طغيان {ونفور} عن الحق.
الآية رقم ( 22 )
{أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم}
قوله تعالى{أفمن يمشي مكبا على وجهه} ضرب الله مثلا للمؤمن والكافر {مكبا} أي منكسا رأسه لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله؛ فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه. كمن يمشي سويا معتدلا ناظرا ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله. قال ابن عباس: هذا في الدنيا؛ ويجوز أن يريد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف؛ فلا يزال ينكب على وجهه. وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المهتدى له. وقال قتادة: هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا فحشره الله يوم القيامة على وجهه. وقال ابن عباس والكلبي: عنى بالذي يمشى مكبا على وجهه أبا جهل، وبالذي يمشي سويا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل أبو بكر. وقيل حمزة. وقيل عمار ابن ياسر؛ قاله عكرمة. وقيل: هو عام في الكافر والمؤمن؛ أي أن الكافر لا يدري أعلى حق هو أم على باطل. أي أهذا الكافر أهدى أو المسلم الذي يمشي سويا معتدلا يبصر للطريق وهو {على صراط مستقيم} وهو الإسلام. ويقال: أكب الرجل على وجهه؛ فيما لا يتعدى بالألف. فإذا تعدى قيل: كبه الله لوجهه؛ بغير ألف.
الآية رقم ( 23 )
{قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون}
قوله تعالى{قل هو الذي أنشأكم} أمر نبيه أن يعرفهم قبح شركهم مع اعترافهم بأن الله خلقهم. {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} يعني القلوب {قليلا ما تشكرون} أي لا تشكرون هذه النعم، ولا توحدون الله تعالى. تقول: قلما أفعل كذا؛ أي لا أفعله.
الآية رقم ( 24 : 25 )
{قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين}
قوله تعالى{قل هو الذي ذرأكم في الأرض} أي خلقكم في الأرض؛ قال ابن عباس. وقيل: نشركم فيها وفرقكم على ظهرها؛ قاله ابن شجرة. {وإليه تحشرون} حتى يجازي كلا بعمله. {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} أي متى يوم القيامة ومتى هذا العذاب الذي تعدوننا به وهذا استهزاء منهم. وقد تقدم.
الآية رقم ( 26 )
{قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين}
قوله تعالى{قل إنما العلم عند الله} أي قل لهم يا محمد علم وقت قيام الساعة عند الله فلا يعلمه غيره. نظيره{قل إنما علمها عند ربي}الأعراف: 187] الآية. {وإنما أنا نذير مبين} أي مخوف ومعلم لكم.
الآية رقم ( 27 )
{فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون}
قوله تعالى{فلما رأوه زلفة} مصدر بمعنى مزدلفا أي قريبا؛ قال مجاهد. الحسن عيانا. وأكثر المفسرين على أن المعنى: فلما رأوه يعني العذاب، وهو عذاب الآخرة. وقال مجاهد: يعني عذاب بدر. وقيل: أي رأوا ما وعدوا من الحشر قريبا منهم. ودل عليه {تحشرون}. وقال ابن عباس: لما رأوا عملهم السيئ قريبا. {سيئت وجوه الذين كفروا} أي فعل بها السوء. وقال الزجاج: تبين فيها السوء أي ساءهم ذلك العذاب وظهر على وجوههم سمة تدل على كفرهم؛ كقوله تعالى{يوم تبيض وجوه وتسود وجوه}آل عمران: 106]. وقرأ نافع وابن محيصن وابن عامر والكسائي {سئت} بإشمام الضم. وكسر الباقون بغير إشمام طلبا للخفة. ومن ضم لاحظ الأصل. {وقيل هذا الذي كنتم به تدعون} قال الفراء{تدعون} تفتعلون من الدعاء وهو قول أكثر العلماء أي تتمنون وتسألون. وقال ابن عباس: تكذبون؛ وتأويله: هذا الذي كنتم من أجله تدعون الأباطيل والأحاديث؛ قاله الزجاج. وقراءة العامة {تدعون} بالتشديد، وتأويله ما ذكرناه. وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق والضحاك ويعقوب {تدعون} مخففة. قال قتادة: هو قولهم {ربنا عجل لنا قطنا}ص: 16]. وقال الضحاك: هو قولهم {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء}الأنفال: 32] الآية. وقال أبو العباس{تدعون} تستعجلون؛ يقال: دعوت بكذا إذا طلبته؛ وادعيت افتعلت منه. النحاس{تدعون وتدعون} بمعنى واحد؛ كما يقال: قدر وأقتدر، وعدى واعتدى؛ إلا أن في {أفتعل} معنى شيء بعد شيء، و{فعل} يقع على القليل والكثير.
الآية رقم ( 28 )
{قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم}
قوله تعالى{قل أرأيتم إن أهلكني الله} أي قل لهم يا محمد - يريد مشركي مكة، وكانوا يتمنون موت محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى{أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون}الطور: 30] - أرأيتم إن متنا أو رحمنا فأخرت آجالنا فمن يجيركم من عذاب الله؛ فلا حاجة بكم إلى التربص بنا ولا إلى استعجال قيام الساعة. وأسكن الياء في {أهلكني} ابن محيصن والمسيبي وشيبة والأعمش وحمزة. وفتحها الباقون. وكلهم فتح الياء في {ومن معي} إلا أهل الكوفة فإنهم سكنوها. وفتحها حفص كالجماعة.
الآية رقم ( 29 )
{قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين}
قوله تعالى{قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون} قرأ الكسائي بالياء على الخبر؛ ورواه عن علي. الباقون بالتاء على الخطاب. وهو تهديد لهم. ويقال: لم أخر مفعول {آمنا} وقدم مفعول {توكلنا} فيقال: لوقوع {آمنا} تعريضا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم. كأنه قيل: آمنا ولم نكفر كما كفرتم. ثم قال {وعليه توكلنا} خصوصا لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم؛ قاله الزمخشري.
الآية رقم ( 30 )
{قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين}
قوله تعالى{قل أرأيتم} يا معشر قريش {إن أصبح ماؤكم غورا} أي غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الدلاء. وكان ماؤهم من بئرين: بئر زمزم وبئر ميمون. {فمن يأتيكم بماء معين} أي جار؛ قاله قتادة والضحاك. فلا بد لهم من أن يقولوا لا يأتينا به إلا الله؛ فقل لهم لم تشركون به من لا يقدر على أن يأتيكم. يقال: غار الماء يغور غورا؛ أي نضب. والغور: الغائر؛ وصف بالمصدر للمبالغة؛ كما تقول: رجل عدل ورضا. وقد مضى في سورة الكهف ومضى القول في المعنى في سورة المؤمنون والحمد لله. وعن ابن عباس{بماء معين} أي ظاهر تراه العيون؛ فهو مفعول. وقيل: هو من معن الماء أي كثر؛ فهو على هذا فعيل. وعن ابن عباس أيضا: أن المعنى فمن يأتيكم بماء عذب. والله أعلم.
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: من أولها إلى قوله تعالى{سنسمه على الخرطوم}القلم: 16] مكي. ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى{أكبر لو كانوا يعلمون}القلم: 33] مدني. ومن بعد ذلك إلى قوله{يكتبون}القلم: 47] مكي. ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى{من الصالحين}القلم: 50] مدني، وما بقي مكي؛ قاله الماوردي.
الآية رقم ( 1 : 3 )
{ن والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنون، وإن لك لأجرا غير ممنون}
قوله تعالى{ن والقلم} أدغم النون الثانية في هجائها في الواو أبو بكر والمفضل وهبيرة وورش وابن محيصن وابن عامر والكسائي ويعقوب. والباقون بالإظهار. وقرأ عيسى بن عمر بفتحها؛ كأنه أضمر فعلا. وقرأ ابن عباس ونصر وابن أبي إسحاق بكسرها على إضمار حرف، القسم. وقرأ هارون ومحمد بن السميقع بضمها على البناء. واختلف في تأويله؛ فروى معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ن لوح من نور). وروى ثابت البناني أن {ن} الدواة. وقاله الحسن وقتادة. وروى الوليد بن مسلم قال: حدثنا مالك بن أنس عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة وذلك قوله تعالى{ن والقلم} ثم قال له اكتب قال: وما أكتب قال: ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة - قال - ثم ختم فم القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة. ثم خلق العقل فقال الجبار ما خلقت خلقا أعجب إلي منك وعزتي وجلالي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت) قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته). وعن مجاهد قال{ن} الحوت الذي تحت الأرض السابعة. قال{والقلم} الذي كتب به الذكر. وكذا قال مقاتل ومرة الهمداني وعطاء الخراساني والسدي والكلبي: إن النون هو الحوت الذي عليه الأرضون. وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء فخلق منه السماء، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، وإن الجبال لتفخر على الأرض. ثم قرأ ابن عباس {ن والقلم} الآية. وقال الكلبي ومقاتل: اسمه البهموت. قال الراجز:
مالي أراكم كلكم سكوتا والله ربي خلق البهموتا
وقال أبو اليقظان والواقدي: ليوثا. وقال كعب: لوثوثا. وقال: بلهموثا. وقال كعب: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرضون فوسوس في قلبه، وقال: أتدري ما على ظهرك يا لوثوثا من الدواب والشجر والأرضين وغيرها، لو لفظتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع؛ فهم ليوثا أن يفعل ذلك، فبعث الله إليه دابة فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه، فضج الحوت إلى الله عز وجل منها فأذن الله لها فخرجت. قال كعب: فوالله إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت. وقال الضحاك عن ابن عباس: إن {ن} آخر حروف من حروف الرحمن. قال: الر، وحم، ون؛ الرحمن تعالى متقطعة. وقال ابن زيد: هو قسم أقسم تعالى به. وقال ابن كيسان: هو فاتحة السورة. وقيل: اسم السورة. وقال عطاء وأبو العالية: هو أفتتاح اسمه نصير ونور وناصر. وقال محمد بن كعب: أقسم الله تعالى بنصره للمؤمنين؛ وهو حق. بيانه قوله تعالى{وكان حقا علينا نصر المؤمنين}الروم: 47] وقال جعفر الصادق: هو نهر من أنهار الجنة يقال له نون. وقيل: هو المعروف من حروف المعجم، لأنه لو كان غير ذلك لكان معربا؛ وهو اختيار القشيري أبو نصر عبدالرحيم في تفسيره. قال: لأن {ن} حرف لم يعرب، فلو كان كلمة تامة أعرب كما أعرب القلم، فهو إذا حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور. وعلى هذا قيل: هو اسم السورة، أي هذه السورة {ن}. ثم قال{والقلم} أقسم بالقلم لما فيه من البيان كاللسان؛ وهو واقع على كل قلم مما يكتب به من في السماء ومن في الأرض؛ ومنه قول أبي الفتح البستي:
إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم وعدوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب عزا ورفعة مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
وللشعراء في تفضيل القلم على السيف أبيات كثيرة؛ ما ذكرناه أعلاها. وقال ابن عباس: هذا قسم بالقلم الذي خلقه الله؛ فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة. قال: وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض. ويقال. خلق الله القلم ثم نظر إليه فأنشق نصفين؛ فقال: أجر؛ فقال: يا رب بم أجري؟ قال بما هو كائن إلى يوم القيامة؛ فجرى على اللوح المحفوظ. وقال الوليد بن عبادة بن الصامت: أوصاني أبي عند موته فقال: يا بني، اتق الله، وأعلم أنك لن تتقي ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده، والقدر خيره وشره، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له أكتب فقال يا رب وما أكتب فقال أكتب القدر فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد) وقال ابن عباس: أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما هو كائن؛ فكتب فيما كتب {تبت يدا أبي لهب}المسد: 1]. وقال قتادة: القلم نعمة من الله تعالى على عباده. قال غيره: فخلق الله القلم الأول فكتب ما يكون في الذكر ووضعه عنده فوق عرشه، ثم خلق القلم الثاني ليكتب به في الأرض؛ على ما يأتي بيانه في سورة {اقرأ باسم ربك}العلق: 1].
قوله تعالى{وما يسطرون} أي وما يكتبون. يريد الملائكة يكتبون أعمال بني آدم؛ قاله ابن عباس: وقيل: وما يكتبون أي الناس ويتفاهمون به. وقال ابن عباس: ومعنى {وما يسطرون} وما يعلمون. و{ما} موصولة أو مصدرية؛ أي ومسطوراتهم أو وسطرهم، ويراد به كل من يسطر أو الحفظة؛ على الخلاف. {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} هذا جواب القسم وهو نفي، وكان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إنه مجنون، به شيطان. وهو قولهم{يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون}الحجر: 6] فأنزل الله تعالى ردا عليهم وتكذيبا لقولهم {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} أي برحمة ربك. والنعمة ها هنا الرحمة. ويحتمل ثانيا - أن النعمة ها هنا قسم؛ وتقديره: ما أنت ونعمة ربك بمجنون؛ لأن الواو والباء من حروف القسم. وقيل هو كما تقول: ما أنت بمجنون، والحمد لله. وقيل: معناه ما أنت بمجنون، والنعمة لربك؛ كقولهم: سبحانك اللهم وبحمدك؛ أي والحمد لله. ومنه قول لبيد:
وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي وفارقني جار بأربد نافع
أي وهو أربد. وقال النابغة:
لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم طفحت عليك بناتق مذكار
أي هو ناتق. والباء في {بنعمة ربك} متعلقة {بمجنون} منفيا؛ كما يتعلق بغافل مثبتا. كما في قولك: أنت بنعمة ربك غافل. ومحله النصب على الحال؛ كأنه قال: ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك. {وإن لك لأجرا} أي ثوابا على ما تحملت من أثقال النبوة. {غير ممنون} أي غير مقطوع ولا منقوص؛ يقال: مننت الحبل إذا قطعته. وحبل منين إذا كان غير متين. قال الشاعر:
غُبْسا كواسب لا يُمَنّ طعامها
أي لا يقطع. وقال مجاهد{غير ممنون} محسوب. الحسن{غير ممنون} غير مكدر بالمن. الضحاك: أجرا بغير عمل. وقيل: غير مقدر وهو التفضل؛ لأن الجزاء مقدر والتفضل غير مقدر؛ ذكره الماوردي، وهو معنى قول مجاهد.
الآية رقم ( 4 )
{وإنك لعلى خلق عظيم}
قوله تعالى{وإنك لعلى خلق عظيم} قال ابن عباس ومجاهد: على خلق، على دين عظيم من الأديان، ليس دين أحب إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه. وفي صحيح مسلم عن عائشة: أن خلقه كان القرآن. وقال علي رضي الله عنه وعطية: هو أدب القرآن. وقيل: هو رفقه بأمته وإكرامه إياهم. وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه مما نهى الله عنه. وقيل: أي إنك على طبع كريم. الماوردي: وهو الظاهر. وحقيقة الخلق في اللغة: هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب يسمى خلقا؛ لأنه يصير كالخلقة فيه. وأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخيم (بالكسر): السجية والطبيعة، لا واحد له من لفظه. وخيم: اسم جبل. فيكون الخلق الطبع المتكلف. والخيم الطبع الغريزي. وقد أوضح الأعشى ذلك في شعره فقال:
وإذا ذو الفضول ضن على المولى وعادت لخيمها الأخلاق
أي رجعت الأخلاق إلى طبائعها.
قلت: ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم أصح الأقوال. وسئلت أيضا عن خلقه عليه السلام؛ فقرأت {قد أفلح المؤمنون}المؤمنون: 1] إلى عشر آيات، وقالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، ولذلك قال الله تعالى {وإنك لعلى خلق عظيم}. ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر. وقال الجنيد: سمي خلقه عظيما لأنه لم تكن له همة سوى الله تعالى. وقيل سمي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه؛ يدل عليه قوله عليه السلام: (إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق). وقيل: لأنه أمتثل تأديب الله تعالى إياه بقوله تعالى{خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}الأعراف: 199]. وقد روي عنه عليه السلام أنه قال: (أدبني ربي تأديبا حسنا إذ قال{خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}الأعراف: 199] فلما قبلت ذلك منه قال{إنك لعلى خلق عظيم}.
"روى الترمذي عن أبي ذر" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن). قال حديث حسن صحيح. وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء). قال: حديث حسن صحيح. وعنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم). قال: حديث غريب من هذا الوجه. وعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: (تقوى الله وحسن الخلق). وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: (الفم والفرج) قال: هذا حديث صحيح غريب. وعن عبدالله بن المبارك أنه وصف حسن الخلق فقال: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى. وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا - قال - وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون). قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: (المتكبرون). قال: وفي الباب عن أبي هريرة وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
الآية رقم ( 5 : 7 )
{فستبصر ويبصرون، بأيكم المفتون، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}
قوله تعالى{فستبصر ويبصرون} قال ابن عباس: معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة. وقيل: فسترى ويرون يوم القيامة حين يتبين الحق والباطل. {بأيكم المفتون} الباء زائدة؛ أي فستبصر ويبصرون أيكم المفتون. أي الذي فتن بالجنون؛ كقوله تعالى{تنبت بالدهن}المؤمنون: 20] و{يشرب بها عباد الله}الإنسان: 6]. وهذا قول قتادة وأبي عبيد والأخفش. وقال الراجز: نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج وقيل: الباء ليست بزائدة؛ والمعنى{بأيكم المفتون} أي الفتنة. وهو مصدر على وزن المفعول، ويكون معناه الفتون؛ كما قالوا: ما لفلان مجلود ولا معقول؛ أي عقل ولا جلادة. وقاله الحسن والضحاك وابن عباس. وقال الراعي:
حتى إذا لم يتركوا لعظامه لحما ولا لفؤاده معقولا
أي عقلا. وقيل في الكلام تقدير حذف مضاف؛ والمعنى: بأيكم فتنة المفتون. وقال الفراء: الباء بمعنى في؛ أي فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون؛ أبالفرقة التي أنت فيها من المؤمنين أم بالفرقة الأخرى. والمفتون: المجنون الذي فتنه الشيطان. وقيل: المفتون المعذب. من قول العرب: فتنت الذهب بالنار إذا حميته. ومنه قوله تعالى{يوم هم على النار يفتنون}الذاريات: 13] أي يعذبون.
ومعظم السورة نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي جهل. وقيل: المفتون هو الشيطان؛ لأنه مفتون في دينه. وكانوا يقولون: إن به شيطانا، وعنوا بالمجنون هذا؛ فقال الله تعالى: فسيعلمون غدا بأيهم المجنون؛ أي الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل. {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} أي إن الله هو العالم بمن حاد عن دينه. {وهو أعلم بالمهتدين} أي الذين هم على الهدى فيجازي كلا غدا بعمله.
الآية رقم ( 8 )
{فلا تطع المكذبين}
نهاه عن ممايلة المشركين؛ وكانوا يدعونه إلى أن يكف عنهم ليكفوا عنه، فبين الله تعالى أن ممايلتهم كفر. وقال تعالى{ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا}الإسراء: 74]. وقيل: أي فلا تطع المكذبين فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث. نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه.
الاية رقم ( 9 )
{ودوا لو تدهن فيدهنون}
قال ابن عباس وعطية والضحاك والسدي: ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم. وعن ابن عباس أيضا: ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك. وقال الفراء والكلبي: لو تلين فيلينون لك. والادهان: التليين لمن لا ينبغي له التليين؛ قاله الفراء. وقال مجاهد: المعنى ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك. وقال الربيع بن أنس: ودوا لو تكذب فيكذبون. وقال قتادة: ودوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك. الحسن: ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم. وعنه أيضا: ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم. زيد بن أسلم: لو تنافق وترائي فينافقون ويراؤون. وقيل: ودوا لو تضعف فيضعفون؛ قال أبو جعفر. وقيل: ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم؛ قاله القتبي. وعنه: طلبوا منه أن يعبد ألهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة. فهذه آثنا عشر قولا. ابن العربي: ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوال كلها دعاوى على اللغة والمعنى. أمثلها قولهم: ودوا لو تكذب فيكذبون، ودوا لو تكفر فيكفرون.
قلت: كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى؛ فإن الادهان: اللين والمصانعة. وقيل: مجاملة العدو ممايلته. وقيل: المقاربة في الكلام والتليين في القول. قال الشاعر:
لبعض الغشم أحزم في أمور تنوبك من مداهنة العدو
وقال المفضل: النفاق وترك المناصحة. فهي على هذا الوجه مذمومة، وعلى الوجه الأول غير مذمومة، وكل شيء منها لم يكن. قال المبرد: يقال أدهن في دينه وداهن في أمره؛ أي خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر. وقال قوم: داهنت بمعنى واريت، وأدهنت بمعنى غششت؛ قال الجوهري. وقال{فيدهنون} فساقه على العطف، ولو جاء به جواب النهي لقال فيدهنوا. وإنما أراد: إن تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك؛ عطفا لا جزاء عليه ولا مكافأة، وإنما هو تمثيل وتنظير.
الاية رقم ( 10 : 13 )
{ولا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم}
يعني الأخنس بن شريق؛ في قول الشعبي والسدي وابن إسحاق. وقيل: الأسود بن عبد يغوث، أو عبدالرحمن بن الأسود؛ قاله مجاهد. وقيل: الوليد بن المغيرة، عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مالا وحلف أن يعطيه إن رجع عن دينه؛ قال مقاتل. وقال ابن عباس: هو أبو جهل بن هشام. والحلاف: الكثير الحلف. والمهين: الضعيف القلب؛ عن مجاهد. ابن عباس: الكذاب. والكذاب مهين. وقيل: المكثار في الشر؛ قاله الحسن وقتادة. وقال الكلبي: المهين الفاجر العاجز. وقيل: معناه الحقير عند الله. وقال ابن شجرة: إنه الذليل. الرماني: المهين الوضيع لإكثاره من القبيح. وهو فعيل من المهانة بمعنى القلة. وهي هنا القلة في الرأي والتمييز. أو هو فعيل بمعنى مفعل؛ والمعنى مهان. {هماز} قال ابن زيد: الهماز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم. واللماز باللسان. وقال الحسن: هو الذي يهمز ناحية في المجلس؛ كقوله تعالى{همزة}. [الهمزة: 1]. وقيل: الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم. واللماز الذي يذكرهم في مغيبهم؛ قاله أبو العالية وعطاء بن أبي رباح والحسن أيضا. وقال مقاتل ضد هذا الكلام: إن الهمزة الذي يغتاب بالغيبة. واللمزة الذي يغتاب في الوجه. وقال مرة: هما سواء. وهو القتات الطعان للمرء إذا غاب. ونحوه عن ابن عباس وقتادة. قال الشاعر:
تدلي بود إذا لاقيتني كذبا وإن أغب فأنت الهامز اللمزة
{مشاء بنميم} أي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم. يقال: نم ينم نما ونميما ونميمة؛ أي يمشي ويسعى بالفساد. وفي صحيح مسلم عن حذيفة أنه بلغه أن رجلا ينم الحديث، فقال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة نمام). وقال الشاعر:
ومولى كبيت النمل لا خير عنده لمولاه إلا سعيه بنميم
قال الفراء: هما لغتان. وقيل: النميم جمع نميمة. {مناع للخير} أي للمال أن ينفق في وجوهه. وقال ابن عباس: يمنع عن الإسلام ولده وعشيرته. وقال الحسن: يقول لهم من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا. {معتد} أي على الناس في الظلم متجاوز للحد، صاحب باطل. {أثيم} أي ذي إثم، ومعناه أثوم، فهو فعيل بمعنى فعول. {عتل بعد ذلك زنيم} العتل الجافي الشديد في كفره. وقال الكلبي والفراء: هو الشديد الخصومة بالباطل. وقيل: إنه الذي يعتل الناس فيجرهم إلى حبس أو عذاب. مأخوذ من العتل وهو الجر؛ ومنه قوله تعالى{خذوه فاعتلوه}الدخان: 47]. وفي الصحاح: وعتلت الرجل أعتله وأعتله إذا جذبته جذبا عنيفا. ورجل معتل (بالكسر). وقال يصف فرسا:
نفرعه فرعا ولسنا نعتله
قال ابن السكيت: عتله وعتنه، باللام والنون جميعا. والعتل الغليظ الجافي. والعتل أيضا: الرمح الغليظ. ورجل عتل بالكسر بين العتل؛ أي سريع إلى الشر. ويقال: لا أنعتل معك؛ أي لا أبرح مكاني. وقال عبيد بن عمير: العتل الأكول الشروب القوي الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة؛ يدفع الملك من أولئك في جهنم بالدفعة الواحدة سبعين ألفا. وقال علي بن أبي طالب والحسن: العتل الفاحش السيئ الخلق. وقال معمر: هو الفاحش اللئيم. قال الشاعر:
بعُتُلّ من الرجال زنيم غير ذي نجدة وغير كريم
وفي صحيح مسلم عن حارثة بن وهب سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بأهل الجنة - قالوا بلى قال - كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار - قالوا بلى قال - كل عتل جواظ مستكبر). وفي رواية عنه (كل جواظ زنيم متكبر). الجواظ: قيل هو الجموع المنوع. وقيل الكثير اللحم المختال في مشيته. وذكر الماوردي عن شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم، ورواه ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا العتل الزنيم). فقال رجل: ما الجواظ وما الجعظري وما العتل الزنيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجواظ الذي جمع ومنع. والجعظري الغليظ. والعتل الزنيم الشديد الخلق الرحيب الجوف المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام الظلوم للناس). وذكره الثعلبي عن شداد بن أوس: (لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا عتل زنيم) سمعتهن من النبي صلى الله عليه وسلم قلت: وما الجواظ؟ قال: الجماع المناع. قلت: وما الجعظري؟ قال: الفظ الغليظ. قلت: وما العتل الزنيم؟ قال: الرحيب الجوف الوثير الخلق الأكول الشروب الغشوم الظلوم.
قلت: فهذا التفسير من النبي صلى الله عليه وسلم في العتل قد أربى على أقوال المفسرين. ووقع في كتاب أبي داود في تفسير الجواظ أنه الفظ الغليظ. ذكره من حديث حارثة بن وهب الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري) قال: والجواظ الفظ الغليظ. ففيه تفسيران مرفوعان حسب ما ذكرناه أولا. وقد قيل: إنه الجافي القلب. وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى{عتل بعد ذلك زنيم} قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تبكي السماء من رجل أصح الله جسمه ورحب جوفه وأعطاه من الدنيا بعضا فكان للناس ظلوما فذلك العتل الزنيم. وتبكي السماء من الشيخ الزاني ما تكاد الأرض تقله). والزنيم الملصق بالقوم الدعي؛ عن ابن عباس وغيره. قال الشاعر: زنيم تداعاه الرجال زيادة كما زيد في عرض الأديم الأكارع وعن ابن عباس أيضا: أنه رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة. وروى عنه ابن جبير. أنه الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال عكرمة: هو اللئيم الذي يعرف بلؤمه كما تعرف الشاة بزنمتها. وقيل: إنه الذي يعرف بالأبنة. وهو مروي عن ابن عباس أيضا. وعنه أنه الظلوم. فهذه ستة أقوال. وقال مجاهد: زنيم كانت له ستة أصابع في يده، في كل إبهام له إصبع زائدة. وعنه أيضا وسعيد بن المسيب وعكرمة: هو ولد الزنى الملحق في النسب بالقوم. وكان الوليد دعيا في قريش ليس من سنخهم؛ ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده. قال الشاعر:
زنيم ليس يعرف من أبوه بغي الأم ذو حسب لئيم
وقال حسان:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
قلت: وهذا هو القول الأول بعينه. وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه الذي لا أصل له؛ والمعنى واحد. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة ولد زنى ولا ولده ولا ولد ولده). وقال عبدالله بن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أولاد الزنى يحشرون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير). وقالت ميمونة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنى فإذا فشا فيهم ولد الزنى أوشك أن يعمهم الله بعقاب). وقال عكرمة: إذا كثر ولد الزنى قحط المطر.
قلت: أما الحديث الأول والثاني فما أظن لهما سندا يصح، وأما حديث ميمونة وما قاله عكرمة ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول: (لا إله إلا الله. ويل للعرب من شر قد اقترب. فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها. قالت فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث)"خرجه البخاري."وكثرة الخبث ظهور الزنى وأولاد الزنى؛ كذا فسره العلماء. وقول عكرمة {قحط المطر} تبيين لما يكون به الهلاك. وهذا يحتاج إلى توقيف، وهو أعلم من أين قاله. ومعظم المفسرين على أن هذا نزل في الوليد بن المغيرة، وكان يطعم أهل منى حيسا ثلاثة أيام، وينادي ألا لا يوقدن أحد تحت برمة، ألا لا يدخنن أحد بكراع، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة. وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفا وأكثر. ولا يعطي المسكين درهما واحدا فقيل{مناع للخير}. وفيه نزل{وويل للمشركين. الذين لا يؤتون الزكاة}فصلت: 6]. وقال محمد بن إسحاق: نزلت في الأخنس بن شريق، لأنه حليف ملحق في بني زهرة، فلذلك سمي زنيما. وقال ابن عباس: في هذه الآية نعت، فلم يعرف حتى قتل فعرف، وكان له زنمة في عنقه معلقة يعرف بها. وقال مُرَّة الهمداني: إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة.
الاية رقم ( 14 : 15 )
{أن كان ذا مال وبنين، إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين}
قوله تعالى{أن كان ذا مال وبنين} قرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو حيوة والمغيرة والأعرج {آن كان} بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام. وقرأ المفضل وأبو بكر وحمزة {أأن كان} بهمزتين محققتين. وقرأ الباقون بهمزة واحدة على الخبر؛ فمن قرأ بهمزة مطولة أو بهمزتين محققتين فهو استفهام والمراد به التوبيخ، ويحسن له أن يقف على {زنيم}، ويبتدئ {أن كان{ على معنى ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه. ويجوز أن يكون التقدير: ألأن كان ذا مال وبنين يقول إذا تتلى عليه آياتنا: أساطير الأولين ويجوز أن يكون التقدير: ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر. ودل عليه ما تقدم من الكلام فصار كالمذكور بعد الاستفهام. ومن قرأ {أن كان} بغير استفهام فهو مفعول من أجله والعامل فيه فعل مضمر، والتقدير: يكفر لأن كان ذا مال وبنين. ودل على هذا الفعل{إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} ولا يعمل في {أن}{تتلى} ولا {قال} لأن ما بعد {إذا} لا يعمل فيما قبلها؛ لأن {إذا} تضاف إلى الجمل التي بعدها، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف. و{قال} جواب الجزاء ولا يعمل فيما قبل الجزاء؛ إذا حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط فيصير مقدما مؤخرا في حال. ويجوز أن يكون المعنى لا تطعه لأن كان ذا يسار وعدد. قال ابن الأنباري: ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على {زنيم} لأن المعنى لأن كان وبأن كان، {فأن} متعلقة بما قبلها. قال غيره: يجوز أن يتعلق بقوله{مشاء بنميم} والتقدير يمشي بنميم لأن كان ذا مال وبنين. وأجاز أبو علي أن يتعلق {بعتل}. وأساطير الأولين: أباطيلهم وترهاتهم وخرافاتهم. وقد تقدم.
الاية رقم ( 16 )
{سنسمه على الخرطوم}
قوله تعالى{سنسمه} قال ابن عباس: معنى {سنسمه} سنخطمه بالسيف. قال: وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف؛ فلم يزل مخطوما إلى أن مات. وقال قتادة: سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها؛ يقال: وسمته وسما وسمة إذا أثرت فيه بسمة وكي. وقد قال تعالى{يوم تبيض وجوه وتسود وجوه}آل عمران: 106] فهذه علامة ظاهرة. وقال تعالى{ونحشر المجرمين يومئذ زرقا}طه: 102] وهذه علامة أخرى ظاهرة. فأفادت هذه الآية علامة ثالثة وهي الوسم على الأنف بالنار؛ وهذا كقوله تعالى{يعرف المجرمون بسيماهم}الرحمن: 41] قاله الكلبي وغيره. وقال أبو العالية ومجاهد{سنسمه على الخرطوم} أي على أنفه، ونسود وجهه في الآخرة فيعرف بسواد وجهه. والخرطوم: الأنف من الإنسان. ومن السباع: موضع الشفة. وخراطيم القوم: ساداتهم. قال الفراء: وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه في معنى الوجه؛ لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل. وقال الطبري: نبين أمره تبيانا واضحا حتى يعرفوه فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم. وقيل: المعنى سنلحق به عارا وسبة حتى يكون كمن وسم على أنفه. قال القتبي: تقول العرب للرجل يسب سبة سوء قبيحة باقية: قد وسم ميسم سوء؛ أي الصق به عار لا يفارقه؛ كما أن السمة لا يمحى أثرها. قال جرير:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
أراد به الهجاء. قال: وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة. ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه؛ فألحقه به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة؛ كالوسم على الخرطوم. وقيل: هو ما ابتلاه الله به في الدنيا في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار؛ قاله ابن بحر. واستشهد بقول الأعشى:
فدعها وما يغنيك وأعمد لغيرها بشعرك وأعلب أنف من أنت واسم
وقال النضر بن شميل: المعنى سنحده على شرب الخمر، والخرطوم: الخمر، وجمعه خراطيم، قال الشاعر:
تظل يومك في لهو وفي طرب وأنت بالليل شرَّاب الخراطيم
قال الراجز:
صهباء خرطوما عقارا قرقفا
وقال آخر:
أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا
قال ابن العربي كان الوسم في الوجه لذي المعصية قديما عند الناس، حتى أنه روي - كما تقدم - أن اليهود لما أهملوا رجم الزاني اعتاضوا منه بالضرب وتحميم الوجه؛ وهذا وضع باطل. ومن الوسم الصحيح في الوجه: ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور، علامة على قبح المعصية وتشديدا لمن يتعاطاها لغيره ممن يرجى تجنبه بما يرجى من عقوبة شاهد الزور وشهرته؛ فقد كان عزيزا بقول الحق وقد صار مهينا بالمعصية. وأعظم الإهانة إهانة الوجه. وكذلك كانت الاستهانة به في طاعة الله سببا لخيرة الأبد والتحريم له على النار؛ فإن الله تعالى قد حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود؛ حسب ما ثبت في الصحيح.
الاية رقم ( 17 : 19 )
{إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون}
قوله تعالى{إنا بلوناهم} يريد أهل مكة. والابتلاء الاختبار. والمعنى أعطيناهم أموالا ليشكروا لا ليبطروا؛ فلما بطروا وعادوا محمدا صلي الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أهل الجنة المعروف خبرها عندهم. وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من صنعاء - ويقال بفرسخين - وكانت لرجل يؤدي حق الله تعالى منها؛ فلما مات صارت إلى ولده، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها؛ فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها. قال الكلبي: كان بينهم وبين صنعاء فرسخان؛ ابتلاهم الله بأن أحرق جنتهم. وقيل: هي جنة بضوران، وضوران على فرسخ من صنعاء، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى عليه السلام بيسير - وكانوا بخلاء - فكانوا يجدون التمر ليلا من أجل المساكين، وكانوا أرادوا حصاد زرعها وقالوا: لا يدخلها اليوم عليكم مسكين، فغدوا عليها فإذا هي قد اقتلعت من أصلها فأصبحت كالصريم؛ أي كالليل. ويقال أيضا للنهار صريم. فإن كان أراد الليل فلا سواد موضعها. وكأنهم وجدوا موضعها حمأة. وإن كان أراد بالصريم النهار فلذهاب الشجر والزرع ونقاء الأرض منه. وكان الطائف الذي طاف عليها جبريل عليه السلام فاقتلعها. فيقال: إنه طاف بها حول البيت ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم؛ ولذلك سميت الطائف. وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الشجر والأعناب والماء غيرها. وقال البكري في المعجم: سميت الطائف لأن رجلا من الصدف يقال له الدمون، بنى حائطا وقال: قد بنيت لكم طائفا حول بلدكم؛ فسميت الطائف. والله أعلم.
قال بعض العلماء: على من حصد زرعا أو جد ثمرة أن يواسي منها من حضره؛ وذلك معنى قوله{وآتوا حقه يوم حصاده}الأنعام: 141] وأنه غير الزكاة على ما تقدم في الأنعام بيانه. وقال بعضهم: وعليه ترك ما أخطأه الحاصدون. وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم من هذا. وروي أنه نهي عن الحصاد بالليل. فقيل: إنه لما ينقطع عن المساكين في ذلك من الرفق. وتأول من قال هذا الآية التي في سورة ن والقلم . قيل: إنما نهي عن ذلك خشية الحيات وهوام الأرض.
قلت: الأول أصح؛ والثاني حسن. وإنما قلنا الأول أصح لأن العقوبة كانت بسبب، ما أرادوه من منع المساكين كما ذكر الله تعالى. روى أسباط عن السدي قال: كان قوم باليمن وكان أبوهم رجلا صالحا، وكان إذا بلغ ثماره أتاه المساكين فما يمنعهم من دخولها وأن يأكلوا منها ويتزودوا؛ فلما مات قال بنوه بعضهم لبعض: علام نعطي أموالنا هؤلاء المساكين! تعالوا فلندلج فنصر منها قبل أن يعلم المساكين؛ ولم يستثنوا؛ فانطلقوا وبعضهم يقول لبعض خفتا: لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين؛ فذلك قوله تعالى{إذ أقسموا} يعني حلفوا فيما بينهم {ليصر منها مصبحين} يعني لنجذنها وقت الصبح قبل أن تخرج المساكين؛ ولا يستثنون؛ يعني لم يقولوا إن شاء الله. وقال ابن عباس: كانت تلك الجنة دون صنعاء بفرسخين، غرسها رجل من أهل الصلاح وكان له ثلاثة بنين، وكان للمساكين كل ما تعداه المنجل فلم يجذه من الكرم، فإذا طرح على البساط فكل شيء سقط عن البساط فهو أيضا للمساكين، فإذا حصدوا زرعهم فكل شيء تعداه المنجل فهو للمساكين، فإذا درسوا كان لهم كل شيء انتثر؛ فكان أبوهم يتصدق منها على المساكين، وكان يعيش في ذلك في حياة أبيهم اليتامى والأرامل والمساكين، فلما مات أبوهم فعلوا ما ذكر الله عنهم. فقالوا: قل المال وكثر العيال؛ فتحالفوا بينهم ليغدون غدوة قبل خروج الناس ثم ليصر منها ولا تعرف المساكين. وهو قوله{إذ أقسموا} أي حلفوا {ليصر منها} ليقطعن ثمر نخيلهم إذا أصبحوا بسدفة من الليل لئلا ينتبه المساكين لهم. والصرم القطع. يقال: صرم العذق عن النخلة. وأصرم النخل أي حان وقت صرامه. مثل أركب المهر وأحصد الزرع، أي حان ركوبه وحصاده.
قوله تعالى{ولا يستثنون} أي ولم يقولوا إن شاء الله. وقال مجاهد: كان حرثهم عنبا ولم يقولوا إن شاء الله. وقال أبو صالح: كان استثناؤهم قولهم سبحان الله ربنا. وقيل: معنى {ولا يستثنون} أي لا يستثنون حق المساكين؛ قاله عكرمة. فجاؤوها ليلا فرأوا الجنة مسودة قد طاف عليها طائف من ربك وهم نائمون. قيل: الطائف جبريل عليه السلام؛ على ما تقدم ذكره. وقال ابن عباس: أمر من ربك. وقال قتادة: عذاب من ربك. ابن جريج: عتق من نار خرج من وادي جهنم. والطائف لا يكون إلا بالليل؛ قاله الفراء.
قلت: في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان؛ لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم. ونظير هذه الآية قوله تعالى{ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}الحج: 25]." وفي الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه). وقد مضى مبينا في سورة آل عمران عند قوله تعالى{ولم يصروا على ما فعلوا}آل عمران: 135].
الاية رقم (20 : 22 )
{فأصبحت كالصريم، فتنادوا مصبحين، أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين}
قوله تعالى{فأصبحت كالصريم} أي كالليل المظلم؛ عن ابن عباس والفراء وغيرهما. قال الشاعر:
تطاول ليلك الجون البهيم فما ينجاب عن صبح صريم
أي احترقت فصارت كالليل الأسود. وعن ابن عباس أيضا: كالرماد الأسود. قال: الصريم الرماد الأسود بلغة خزيمة. الثوري: كالزرع المحصود. فالصريم بمعنى المصروم أي المقطوع ما فيه. وقال الحسن: صرم عنها الخير أي قطع؛ فالصريم مفعول أيضا. وقال المؤرج: أي كالرملة أنصرمت من معظم الرمل. يقال: صريمة وصرائم؛ فالرملة لا تنبت شيئا ينتفع به. وقال الأخفش: أي كالصبح أنصرم من الليل. وقال المبرد: أي كالنهار؛ فلا شيء فيها. قال شمر: الصريم الليل والصريم النهار؛ أي ينصرم هذا عن ذاك وذاك عن هذا. وقيل: سمي الليل صريما لأنه يقطع بظلمته عن التصرف؛ ولهذا يكون فعيل بمعنى فاعل. قال القشيري: وفي هذا نظر؛ لأن النهار يسمى صريما ولا يقطع عن تصرف. {فتنادوا مصبحين} ينادي بعضهم بعضا ليقطعن ثمر نخيلهم إذا أصبحوا بسدفة من الليل لئلا ينتبه المساكين {أن اغدوا على حرثكم} عازمين على الصرام والجداد. قال قتادة: حاصدين زرعكم. وقال الكلبي: ما كان في جنتهم من زرع ولا نخيل. فتحالفوا بينهم ليغدون غدوة قبل خروج الناس ثم ليصرمنها ولا تعرف المساكين.
الاية رقم ( 23 : 25 )
{ فانطلقوا وهم يتخافتون، أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين، وغدوا على حرد قادرين}
قوله تعالى{فانطلقوا وهم يتخافتون} أي يتسارون؛ أي يخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد؛ قاله عطاء وقتادة. وهو من خفت يخفت إذا سكن ولم يبين. كما قال دريد بن الصمة:
وإني لم أهلك سلالا ولم أمت خفاتا وكلا ظنه بي عودي
وقيل: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم. وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصرام. {وغدوا على حرد قادرين} أي على قصد وقدرة في أنفسهم ويظنون أنهم تمكنوا من مرادهم. قال معناه ابن عباس وغيره. والحرد القصد. حرَد يحرِد بالكسر حردا قصد. تقول: حردْتُ حردَك؛ أي قصدت قصدك. ومنه قول الراجز:
أقبل سيل جاء من عند الله يحرد حرد الجنة المُغِلَّة
أنشده النحاس:
قد جاء سيل جاء من أمر الله يحرد حرد الجنة المغلة
قال البرد: المغلة ذات الغلة. وقال غيره: المِغلة التي يجري الماء في غللها أي في أصولها. ومنه تغللت بالغالية. ومنه تغليت، أبدل من اللام ياء. ومن قال تغلفت فمعناه عنده جعلتها غلافا. وقال قتادة ومجاهد{على حرد} أي على جد. الحسن: على حاجة وفاقة. وقال أبو عبيدة والقتيبي: على حرد على منع؛ من قولهم حاردت الإبل حرادا أي قلت ألبانها. والحرود من النوق القليلة الدر. وحاردت السنة قل مطرها وخيرها. وقال السدي وسفيان{على حرد} على غضب. والحرد الغضب. قال أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي: وهو مخفف؛ وأنشد شعراً:
إذا جياد الخيل جاءت تردي مملوءة من غضب وحرد
وقال ابن السكيت: وقد يحرك؛ تقول منه: حرد بالكسر حردا، فهو حارد وحردان. ومنه قيل: أسد حارد، وليوث حوارد. وقيل{على حرد} على انفراد. يقال: حرد يحرد حرودا؛ أي تنحى عن قومه ونزل منفردا ولم يخالطهم. وقال أبو زيد: رجل حريد من قوم حرداء. وقد حرد يحرد حرودا؛ إذا ترك قومه وتحول عنهم. وكوكب حريد؛ أي معتزل عن الكواكب. قال الأصمعي: رجل حريد؛ أي فريد وحيد. قال والمنحرد المنفرد في لغة هذيل. وأنشد لأبي ذؤيب:
كأنه كوكب في الجو منحرد
ورواه أبو عمرو بالجيم، وفسره: منفرد. قال: وهو سهيل. وقال الأزهري: حرد اسم قريتهم. السدي: اسم جنتهم؛ وفيه لغتان: حرد وحرد. وقرأ العامة بالإسكان. وقرأ أبو العالية وابن السميقع بالفتح؛ وهما لغتان. ومعنى {قادرين} قد قدروا أموهم وبنوا عليه؛ قاله الفراء. وقال قتادة: قادرين على جنتهم عند أنفسهم. وقال الشعبي{قادرين} يعني على المساكين. وقيل: معناه من الوجود؛ أي منعوا وهم واجدون.
الاية رقم ( 26 : 27 )
{فلما رأوها قالوا إنا لضالون، بل نحن محرومون}
قوله تعالى{فلما رأوها قالوا إنا لضالون} أي لما رأوها محترقة لا شيء فيها قد صارت كالليل الأسود ينظرون إليها كالرماد، أنكروها وشكوا فيها. وقال بعضهم لبعض{إنا لضالون} أي ضللنا الطريق إلى جنتنا؛ قاله قتادة. وقيل: أي إنا لضالون عن الصواب في غدونا وعلى نية منع المساكين؛ فلذلك عوقبنا. {بل نحن محرومون} أي حرمنا جنتنا بما صنعنا. روى أسباط عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والمعاصي إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا كان هيء له - ثم تلا - {فطاف عليها طائف من ربك}القلم: 19]) الآيتين.
الاية رقم ( 28 : 32 )
{قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون، قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين، فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين، عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون}
قوله تعالى{قال أوسطهم} أي أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم. {ألم أقل لكم لولا تسبحون} أي هلا تستثنون. وكان استثناؤهم تسبيحا؛ قال مجاهد وغيره. وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه. قال أبو صالح: كان استثناؤهم سبحان الله. فقال لهم: هلا تسبحون الله؛ أي تقولون سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. قال النحاس: أصل التسبيح التنزيه لله عز وجل؛ فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء الله؛ لأن المعنى تنزيه الله عز وجل أن يكون شيء إلا بمشيئته. وقيل: هلا تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم؛ فإن أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك وذكرهم انتقامه من المجرمين {قالوا سبحان ربنا} اعترفوا بالمعصية ونزهوا الله عن أن يكون ظالما فيما فعل. قال ابن عباس في قولهم{سبحان ربنا} أي نستغفر الله من ذنبنا. {إنا كنا ظالمين} لأنفسنا في منعنا المساكين. {فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون} أي يلوم هذا هذا في القسم ومنع المساكين، ويقول: بل أنت أشرت علينا بهذا. {قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين} أي عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء. وقال ابن كيسان: طغينا نعم الله فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل. {عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها} تعاقدوا وقالوا: إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنعت آباؤنا؛ فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها، وأمر جبريل أن يقتلع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بزغر من أرض الشام، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها. وقال ابن مسعود: إن القوم أخلصوا وعرف الله منهم صدقهم فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منها عنقودا واحدا. وقال اليماني أبو خالد: دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم. وقال الحسن: قول أهل الجنة {إنا إلى ربنا راغبون} لا أدري إيمانا كان ذلك منهم أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة؛ فيوقف في كونهم مؤمنين. وسئل قتادة عن أصحاب الجنة: أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعبا. والمعظم يقولون: إنهم تابوا وأخلصوا؛ حكاه القشيري. وقراءة العامة {يبدلنا} بالتخفيف. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو بالتشديد، وهما لغتان. وقيل: التبديل تغيير الشيء أو تغيير حاله وعين الشيء قائم. والإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه. وقد مضى في سورة النساء القول في هذا.
الاية رقم ( 33 )
{كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}
قوله تعالى{كذلك العذاب} أي عذاب الدنيا وهلاك الأموال؛ عن ابن زيد. وقيل: إن هذا وعظ لأهل مكة بالرجوع إلى الله لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، أي كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا {ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} وقال ابن عباس: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر وحلفوا ليقتلن محمدا صلي الله عليه وسلم وأصحابه، وليرجعن إلى مكة حتى يطوفوا بالبيت ويشربوا الخمر، وتضرب القينات على رؤوسهم؛ فأخلف الله ظنهم وأسروا وقتلوا وانهزموا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرام فخابوا. ثم قيل: إن الحق الذي منعه أهل الجنة المساكين يحتمل أنه كان واجبا عليهم، ويحتمل أنه كان تطوعا؛ والأول أظهر، والله أعلم. وقيل: السورة مكية؛ فبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحط، وعلى قتال بدر.
الاية رقم ( 34 : 39 )
{إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم، أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون، أم لكم كتاب فيه تدرسون، إن لكم فيه لما تخيرون، أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون}
قوله تعالى{إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم} تقدم القول فيه؛ أي إن للمتقين في الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا. وكان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها؛ فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المؤمنين قالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا. فقال{أفنجعل المسلمين كالمجرمين} أي كالكفار. وقال ابن عباس وغيره: قالت كفار مكة: إنا نعطى في الآخرة خيرا مما تعطون؛ فنزلت {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} ثم وبخهم فقال{ما لكم كيف تحكمون} هذا الحكم الأعوج؛ كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم أن لكم من الخير ما للمسلمين. {أم لكم كتاب فيه تدرسون} أي لكم كتاب تجدون فيه المطيع كالعاصي. {إن لكم فيه لما تخيرون} تختارون وتشتهون. والمعنى: أن لكم بالفتح ولكنه كسر لدخول اللام؛ تقول علمت أنك عاقل بالفتح، وعلمت إنك لعاقل بالكسر. فالعامل في {إن لكم فيه لما تخيرون} {تدرسون} في المعنى. ومنعت اللام من فتح {إن}. وقيل: تم الكلام عند قوله{تدرسون} ثم ابتدأ فقال{إن لكم قيه لما تخيرون} أي إن لكم في هذا الكتاب إذا ما تخيرون؛ أي ليس لكم ذلك. والكناية في {فيه} الأولى والثانية راجعة إلى الكتاب.
قوله تعالى{أم لكم أيمان علينا} أي عهود ومواثيق. {بالغة إلى يوم القيامة} مؤكدة. والبالغة المؤكدة بالله تعالى. أي أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة. {إن لكم لما تحكمون} كسرت {إن} لدخول اللام في الخبر. وهي من صلة {إيمان}، والموضع النصب ولكن كسرت لأجل اللام؛ تقول: حلفت إن لك لكذا. وقيل: تم الكلام عند قوله{إلى يوم القيامة} ثم قال{إن لكم لما تحكمون} إذا؛ أي ليس الأمر كذلك. وقرأ ابن هرمز {أين لكم فيه لما تخيرون} {أين لكم لما تحكمون}؛ بالاستفهام فيهما جميعا. وقرأ الحسن البصري {بالغة} بالنصب على الحال؛ إما من الضمير في {لكم} لأنه خبر عن {إيمان} ففيه ضمير منه. وإما من الضمير في {علينا} إن قدرت {علينا} وصفا للإيمان لا متعلقا بنفس الإيمان؛ لأن فيه ضميرا منه، كما يكون إذا كان خبرا عنه. ويجوز أن يكون حالا من {إيمان} وإن كانت نكرة، كما أجازوا نصب {حقا} على الحال من {متاع} في قوله تعالى{متاع بالمعروف حقا على المتقين}البقرة: 241]. وقرأ العامة {بالغة} بالرفع نعت لـ {أيمان}.
الاية رقم ( 40 : 41 )
{سلهم أيهم بذلك زعيم، أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين}
قوله تعالى{سلهم أيهم بذلك زعيم} أي سل يا محمد هؤلاء المتقولين علي: أيهم كفيل بما تقدم ذكره. وهو أن لهم من الخير ما للمسلمين. والزعيم: الكفيل والضمين؛ قال ابن عباس وقتادة. وقال ابن كيسان: الزعيم هنا القائم بالحجة والدعوى. وقال الحسن: الزعيم الرسول. {أم لهم شركاء} أي ألهمزه والميم صلة. {شركاء} أي شهداء. {فليأتوا بشركائهم} يشهدون على ما زعموا. {إن كانوا صادقين} في دعواهم. وقيل: أي فليأتوا بشركائهم إن أمكنهم؛ فهو أمر معناه التعجيز.
الاية رقم ( 42 : 43 )
{يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون}
قوله تعالى{يوم يكشف عن ساق} يجوز أن يكون العامل في {يوم} {فليأتوا} أي فليأتوا بشركائهم يوم يكشف عن ساق ليشفع الشركاء لهم. ويجوز أن ينتصب بإضمار فعل، أي اذكر يوم يكشف عن ساق؛ فيوقف على {صادقين} ولا يوقف عليه على التقدير الأول. وقرئ {يوم نكشف} بالنون. {وقرأ} ابن عباس {يوم تكشف عن ساق} بتاء مسمى الفاعل؛ أي تكشف الشدة أو القيامة. عن ساقها؛ كقولهم: شمرت الحرب عن ساقها. قال الشاعر:
فتى الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقال الراجز:
قد كشفت عن ساقها فشدوا وجدت الحرب بكم فجدوا
وقال آخر:
عجبت من نفسي ومن إشفاقها ومن طراد الطير عن أرزاقها
في سَنة قد كشفت عن ساقها حمراء تبري اللحم عن عراقها
وقال آخر: كشفت لهم عن ساقها وبدا من الشر الصراح وعن ابن عباس أيضا والحسن وأبي العالية {تكشف} بتاء غير مسمى الفاعل. وهذه القراءة راجعة إلى معنى {يكشف} وكأنه قال: يوم تكشف القيامة عن شدة. وقرئ {يوم تكشف} بالتاء المضمومة وكسر الشين؛ من أكشف إذا دخل في الكشف. ومنه: أكشف الرجل فهو مكشف؛ إذا انقلبت شفته العليا. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا أسامة بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى{يوم يكشف عن ساق} قال: عن كرب وشدة. أخبرنا ابن جريج عن مجاهد قال: شدة الأمر وجده. وقال مجاهد: قال ابن عباس هي أشد ساعة في يوم القيامة. وقال أبو عبيدة: إذا اشتد الحرب والأمر قيل: كشف الأمر عن ساقه. والأصل فيه أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه؛ فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة. وقيل: ساق الشيء أصله الذي به قوامه؛ كساق الشجرة وساق الإنسان. أي يوم يكشف عن أصل الأمر فتظهر حقائق الأمور وأصلها. وقيل: يكشف عن ساق جهنم. وقيل: عن ساق العرش. وقيل: يريد وقت أقتراب الأجل وضعف البدن؛ أي يكشف المريض عن ساقه ليبصر ضعفه، ويدعوه المؤذن إلى الصلاة فلا يمكنه أن يقوم ويخرج. فأما ما روي أن الله يكشف عن ساقه فإنه عز وجل يتعالى عن الأعضاء والتبعيض وأن يكشف ويتغطى. ومعناه أن يكشف عن العظيم من أمره. وقيل: يكشف عن نوره عز وجل.
وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى{عن ساق} قال: (يكشف عن نور عظيم يخرون له سجدا). وقال أبو الليث السمرقندي في تفسيره: حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا ابن منيع قال حدثنا هدبة قال حدثنا حماد ابن سلمة عن عدي بن زيد عن عمارة القرشي عن أبي بردة عن أبي موسى قال حدثني أبي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويبقى أهل التوحيد فيقال لهم ما تنتظرون وقد ذهب الناس فيقولون إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا ولم نره - قال - وتعرفونه إذا رأيتموه فيقولون نعم فيقال فكيف تعرفونه ولم تروه قالوا إنه لا شبيه له فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون له سجدا وتبقى أقوام ظهورهم مثل صياصي البقر فينظرون إلى الله تعالى فيريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى{يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} فيقول الله تعالى عبادي أرفعوا رؤوسكم فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلا من اليهود والنصارى في النار). قال أبو بردة: فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبدالعزيز فقال: الله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث؟ فحلف له ثلاثة أيمان؛ فقال عمر: ما سمعت في أهل التوحيد حديثا هو أحب إلي من هذا. وقال قيس بن السكن: حدث عبدالله بن مسعود عند عمر بن الخطاب فقال: إذا كان يوم القيامة قام الناس لرب العالمين أربعين عاما شاخصة أبصارهم إلى السماء، حفاة عراة يلجمهم العرق، فلا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم أربعين عاما، ثم ينادي مناد: أيها الناس، أليس عدلا من ربكم الذي خلقكم وصوركم وأماتكم وأحياكم ثم عبدتم غيره أن يولي كل قوم ما تولوا؟ قالوا: نعم. قال: فيرفع لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله فيتبعونها حتى تقذفهم في النار، فيبقى المسلمون والمنافقون فيقال لهم: ألا تذهبون قد ذهب الناس؟ فيقولون حتى يأتينا ربنا؛ فيقال لهم: أو تعرفونه؟ فيقولون: إن اعترف لنا عرفناه. قال فعند ذلك يكشف عن ساق ويتجلى لهم فيخر من كان يعبده مخلصا ساجدا، ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأن في ظهورهم السفافيد، فيذهب بهم إلى النار، ويدخل هؤلاء الجنة؛ فذلك قوله تعالى{ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون}.
قوله تعالى{خاشعة أبصارهم} أي ذليلة متواضعة؛ ونصبها على الحال. {ترهقهم ذلة} وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ووجوههم أشد بياضا من الثلج. وتسود وجوه المنافقين والكافرين حتى ترجع أشد سوادا من القار.
قلت: معنى حديث أبي موسى وابن مسعود ثابت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وغيره.
{وقد كانوا يدعون إلى السجود} أي في الدنيا. {وهم سالمون} معافون أصحاء. قال إبراهيم التيمي: أي يدعون بالأذان والإقامة فيأبونه. وقال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون. وقال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات. وقيل: أي بالتكليف الموجه عليهم في الشرع؛ والمعنى متقارب. وقد مضى في سورة البقرة الكلام في وجوب صلاة الجماعة. وكان الربيع بن خيثم قد فلج وكان يهادى بين الرجلين إلى المسجد؛ فقيل: يا أبا يزيد، لو صليت في بيتك لكانت لك رخصة. فقال: من سمع حي على الفلاح فليجب ولو حبوا. وقيل لسعيد بن المسيب: إن طارقا يريد قتلك فتغيب. فقال: أبحيث لا يقدر الله علي؟ فقيل له: اجلس في بيتك. فقال: أسمع حي على الفلاح، فلا أجيب!
الاية رقم ( 44 : 45 )
{فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأملي لهم إن كيدي متين}
قوله تعالى{فذرني} أي دعني. {ومن يكذب} {من} مفعول معه أو معطوف على ضمير المتكلم. {بهذا الحديث} يعني القرآن؛ قاله السدي. وقيل: يوم القيامة. وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي فأنا أجازيهم وأنتقم منهم. {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} معناه سنأخذهم على غفلة وهم لا يعرفون؛ فعذبوا يوم بدر. وقال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر. وقال الحسن: كم مستدرج بالإحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرور بالستر عليه. وقال أبو روق: أي كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار. وقال ابن عباس: سنمكر بهم. وقيل: هو أن نأخذهم قليلا ولا نباغتهم. وفي حديث (أن رجلا من بني إسرائيل قال يا رب كم أعصيك وأنت لا تعاقبني - قال - فأوحى الله إلى نبي زمانهم أن قل له كم من عقوبة لي عليك وأنت لا تشعر. إن جمود عينيك وقساوة قلبك استدراج مني وعقوبة لو عقلت). والاستدراج: ترك المعاجلة. وأصله النقل من حال إلى حال كالتدرج. ومنه قيل درجة؛ وهي منزلة بعد منزلة. واستدرج فلان فلانا؛ أي استخرج ما عنده قليلا. ويقال: درجه إلى كذا واستدرجه بمعنى؛ أي أدناه منه على التدريج فتدرج هو.
قوله تعالى{وأملي لهم} أي أمهلهم وأطيل لهم المدة. والملاوة: المدة من الدهر. وأملى الله له أي أطال له. والملوان: الليل والنهار. وقيل{وأملي لهم} أي لا أعاجلهم بالموت؛ والمعنى واحد. وقد مضى في الأعراف بيان هذا. {إن كيدي متين} أي إن عذابي لقوي شديد فلا يفوتني أحد.
الاية رقم ( 46 )
{أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون}
عاد الكلام إلى ما تقدم من قوله تعالى{أم لهم شركاء}القلم: 41]. أي أم تلتمس منهم ثوابا على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله؟ فهم من غرامة ذلك مثقلون لما يشق عليهم من بذل المال؛ أي ليس عليهم كلفة، بل يستولون بمتابعتك على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم.
الاية رقم ( 47 )
{أم عندهم الغيب فهم يكتبون}
قوله تعالى{أم عندهم الغيب} أي علم ما غاب عنهم. {فهم يكتبون} وقيل: أينزل عليهم الوحي بهذا الذي يقولون. وعن ابن عباس: الغيب هنا اللوح المحفوظ فهم يكتبون مما فيه يخاصمونك به، ويكتبون أنهم أفضل منكم، وأنهم لا يعاقبون. وقيل{يكتبون} يحكمون لأنفسهم بما يريدون.
الاية رقم ( 48 )
{فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم}
قوله تعالى{فاصبر لحكم ربك} أي لقضاء ربك. والحكم هنا القضاء. وقيل: فأصبر على ما حكم به عليك ربك من تبليغ الرسالة. وقال ابن بحر: فأصبر لنصر ربك. قال قتادة: أي لا تعجل ولا تغاضب فلا بد من نصرك. وقيل: إنه منسوخ بآية السيف. {ولا تكن كصاحب الحوت} يعني يونس عليه السلام. أي لا تكن مثله في الغضب والضجر والعجلة. وقال قتادة: إن الله تعالى يعزي نبيه صلي الله عليه وسلم ويأمره بالصبر ولا يعجل كما عجل صاحب الحوت؛ وقد مضى خبره في سورة يونس، والأنبياء، والصافات والفرق بين إضافة ذي وصاحب في سورة يونس فلا معنى للإعادة. {إذ نادى} أي حين دعا في بطن الحوت فقال{لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}الأنبياء: 87]. {وهو مكظوم} أي مملوء غما. وقيل: كربا. الأول قول ابن عباس ومجاهد. والثاني قول عطاء وأبي مالك. قال الماوردي: والفرق بينهما أن الغم في القلب، والكرب في الأنفاس. وقيل: مكظوم محبوس. والكظم الحبس؛ ومنه قولهم: فلان كظم غيظه، أي حبس غضبه؛ قال ابن بحر. وقيل: إنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس؛ قاله المبرد. وقد مضى هذا وغيره في يوسف .
الاية رقم ( 49 : 50 )
{لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم، فاجتباه ربه فجعله من الصالحين}
قوله تعالى{لولا أن تداركه نعمة من ربه} قراءة العامة {تداركه}. وقرأ ابن هرمز والحسن {تداركه} بتشديد الدال؛ وهو مضارع أدغمت التاء منه في الدال. وهو على تقدير حكاية الحال؛ كأنه قال: لولا أن كان يقال فيه تتداركه نعمة. ابن عباس وابن مسعود{تداركته} وهو خلاف المرسوم. و{تداركه} فعل ماض مذكر حمل على معنى النعمة؛ لأن تأنيث النعمة غير حقيقي. و{تداركته} على لفظها. واختلف في معنى النعمة هنا؛ فقيل النبوة؛ قال الضحاك. وقيل عبادته إلتي سلفت؛ قاله ابن جبير. وقيل: نداؤه {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}الأنبياء: 87]؛ قاله ابن زيد. وقيل: نعمة الله عليه إخراجه من بطن الحوت؛ قال ابن بحر. وقيل: أي رحمة من ربه؛ فرحمه وتاب عليه. {لنبذ بالعراء وهو مذموم} أي لنبذ مذموما ولكنه نبذ سقيما غير مذموم. ومعنى {مذموم} في قول ابن عباس: مليم. قال بكر بن عبدالله: مذنب. وقيل{مذموم} مبعد من كل، خير. والعراء: الأرض الواسعة الفضاء التي ليس فيها جبل ولا شجر يستر. وقيل: ولولا فضل الله عليه لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، ثم نبذ بعراء القيامة مذموما. يدل عليه قوله تعالى{فلولا أنه كان من المسبحين. للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}الصافات: 143]. {فاجتباه ربه} أي اصطفاه واختاره. {فجعله من الصالحين} قال ابن عباس: رد الله إليه الوحي، وشفعه في نفسه وفي قومه، وقبل توبته، وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون.
الاية رقم ( 51 )
{وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون}
قوله تعالى{وإن يكاد الذين كفروا} {إن} هي المخففة من الثقيلة. {ليزلقونك} أي يعتانونك. {بأبصارهم} أخبر بشدة عداوتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأرادوا أن يصيبوه بالعين فنظر إليه قوم من قريش وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حججه. وقيل: كانت العين في بني أسد، حتى إن البقرة السمينة أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول: يا جارية، خذي المكتل والدرهم فأتينا بلحم هذه الناقة، فما تبرح حتى تقع للموت فتنحر. وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئا يومين أو ثلاثة، ثم يرفع جانب الخباء فتمر به الإبل أو الغنم فيقول: لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فما تذهب إلا قليلا حتى تسقط منها طائفة هالكة. فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعين فأجابهم؛ فلما مر النبي صلى الله عليه ويلم أنشد:
قد كان قومك يحسبونك سيدا وإخال أنك سيد معيون
فعصم الله نبيه صلي الله عليه وسلم ونزلت{وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك}. وذكر نحوه الماوردي. وأن العرب كانت إذا أراد أحدهم أن يصيب أحدا - يعني في نفسه وماله - تجوع ثلاثة أيام، ثم يتعرض لنفسه وماله فيقول: تالله ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكثر منه ولا أحسن؛ فيصيبه بعينه فيهلك هو ومال؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال القشيري: وفي هذا نظر؛ لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغض؛ ولهذا قال{ويقولون إنه لمجنون} أي ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن.
قلت: أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرنا، وأن مرادهم بالنظر إليه قتله. ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك. وقرأ ابن عباس وابن مسعود والأعمش وأبو وائل ومجاهد {ليزلقونك} أي ليهلكونك. وهذه قراءة على التفسير، من زهقت نفسه وأزهقها. وقرأ أهل المدينة {ليزلقونك} بفتح الياء. وضمها الباقون؛ وهما لغتان بمعنى؛ يقال: زلقه يزلقه وأزلقه يزلقه إزلاقا إذا نحاه وأبعده. وزلق رأسه يزلقه زلقا إذا حلقه. وكذلك أزلقه وزلقه تزليقا. ورجل زلق وزملق - مثال هدبد - وزمالق وزملق - بتشديد الميم - وهو الذي ينزل قبل أن يجامع؛ حكاه الجوهري وغيره. فمعنى الكلمة إذا التنحية والإزالة؛ وذلك لا يكون في حق النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهلاكه وموته. قال الهروي: أراد ليعتانونك بعيونهم فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه عداوة لك. وقال ابن عباس: ينفذونك بأبصارهم؛ يقال: زلق السهم وزهق إذا نفذ؛ وهو قول مجاهد. أي ينفذونك من شدة نظرهم. وقال الكلبي: يصرعونك. وعنه أيضا والسدي وسعيد بن جبير: يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة. وقال العوفي: يرمونك. وقال المؤرج: يزيلونك. وقال النضر بن شميل والأخفش: يفتنونك. وقال عبدالعزيز بن يحيى: ينظرون إليك نظرا شزرا بتحديق شديد. وقال ابن زيد: ليمسونك. وقال جعفر الصادق: ليأكلونك. وقال الحسن وابن كيسان: ليقتلونك. وهذا كما يقال: صرعني بطرفه، وقتلني بعينه. قال الشاعر:
يتفارضون إذا التقوا في مجلس نظرا يزل مواطئ الأقدام
وقيل: المعنى أنهم ينظرون إليك بالعداوة حتى كادوا يسقطونك. وهذا كله راجع إلى ما ذكرنا، وأن المعنى الجامع: يصيبونك بالعين. والله أعلم.
الاية رقم ( 52 )
{وما هو إلا ذكر للعالمين}
أي وما القرآن إلا ذكر للعالمين. وقيل: أي وما محمد إلا ذكر للعالمين يتذكرون به. وقيل: معناه شرف؛ أي القرآن. كما قال تعالى{وإنه لذكر لك ولقومك}الزخرف: 44] والنبي صلى الله عليه وسلم شرف للعالمين أيضا. شرفوا باتباعه والإيمان به صلى الله عليه وسلم.
روى أبو الزاهرية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ إحدى عشرة آية من سورة الحاقة أجير من فتنة الدجال. ومن قرأها كانت له نورا يوم القيامة من فوق رأسه إلى قدمه).
الآية رقم (1 : 3)
{الحاقة، ما الحاقة، وما أدراك ما الحاقة}
قوله تعالى{الحاقة. ما الحاقة} يريد القيامة؛ سميت بذلك لأن الأمور تُحَقّ فيها؛ قاله الطبري. كأنه جعلها من باب {ليل نائم}. وقيل: سميت حاقة لأنها تكون من غير شك. وقيل: سميت بذلك لأنها أحقت لأقوام الجنة، وأحقت لأقوام النار. وقيل: سميت بذلك لأن فيها يصير كل إنسان حقيقا بجزاء عمله. وقال الأزهري: يقال حاققته فحققته أحقه؛ أي غالبته فغلبته. فالقيامة حاقة لأنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل؛ أي كل مخاصم. وفي الصحاح: وحاقه أي خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق؛ فإذا غلبه قيل حقه. ويقال للرجل إذا خاصم في صغار الأشياء: إنه لنزق الحقاق. ويقال: مال فيه حق ولا حقاق؛ أي خصومة. والتحاق التخاصم. والاحتقاق: الاختصام. والحاقة والحقة والحق ثلاث لغات بمعنى. وقال الكسائي والمورج: الحاقة يوم الحق. وتقول العرب: لما عرف الحقة مني هرب. والحاقة الأولى رفع بالابتداء، والخبر المبتدأ الثاني وخبره وهو {ما الحاقة} لأن معناها ما هي. واللفظ استفهام، معناه التعظيم والتفخيم لشأنها؛ كما تقول: زيد ما زيد على التعظيم لشأنه. {وما أدراك ما الحاقة} استفهام أيضا؛ أي أي شيء أعلمك ما ذلك اليوم. والنبي صلى الله عليه وسلم كان عالما بالقيامة ولكن بالصفة فقيل تفخيما لشأنها: وما أدراك ما هي؛ كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها. وقال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شيء في القرآن {وما أدراك} فقد أدراه إياه وعلمه. وكل شيء قال{وما يدريك} فهو مما لم يعلمه. وقال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه{وما أدراك} فأنه أخبر به، وكل شيء قال فيه{وما يدريك} فإنه لم يخبر به.
الآية رقم (4)
{كذبت ثمود وعاد بالقارعة}
ذكر من كذب بالقيامة. والقارعة القيامة؛ سميت بذلك لأنها تقرع الناس بأهوالها. يقال: أصابتهم قوارع الدهر؛ أي أهواله وشدائده. ونعوذ بالله من قوارع فلان ولواذعه وقوارص لسانه؛ جمع قارصة وهي الكلمة المؤذية. وقوارع القرآن: الآيات التي يقرؤها الإنسان إذا فزع من الجن أو الإنس، نحو آية الكرسي؛ كأنها تقرع الشيطان. وقيل: القارعة مأخوذة من القرعة في رفع قوم وحط آخرين؛ قاله المبرد. وقيل: عنى بالقارعة العذاب الذي نزل بهم في الدنيا؛ وكان نبيهم يخوفهم بذلك فيكذبونه. وثمود قوم صالح؛ وكانت منازلهم بالحجر فيما بين الشام والحجاز. قال محمد بن إسحاق: وهو وادي القرى؛ وكانوا عربا. وأما عاد فقوم هود؛ وكانت منازلهم بالأحقاف. والأحقاف: الرمل بين عمان إلى حضر موت واليمن كله؛ وكانوا عربا ذوي خلق وبسطة؛ ذكره محمد بن إسحاق. وقد تقدم.
الآية رقم (5)
{فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية}
فيه إضمار؛ أي بالفعلة الطاغية. وقال قتادة: أي بالصيحة الطاغية؛ أي المجاوزة للحد؛ أي لحد الصيحات من الهول. كما قال{إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر}القمر: 31]. والطغيان: مجاوزة الحد؛ ومنه{إنا لما طغى الماء}الحاقة: 11] أي جاوز الحد. وقال الكلبي: بالطاغية بالصاعقة. وقال مجاهد: بالذنوب. وقال الحسن: بالطغيان؛ فهي مصدر كالكاذبة والعاقبة والعافية. أي أهلكوا بطغيانهم وكفرهم. وقيل: إن الطاغية عاقر الناقة؛ قاله ابن زيد. أي أهلكوا بما أقدم عليه طاغيتهم من عقر الناقة، وكان واحدا، وإنما هلك الجميع لأنهم رضوا بفعله ومالؤوه. وقيل له طاغية كما يقال: فلان راوية الشعر، وداهية وعلامة ونسابة.
الآية رقم (6 : 7)
{وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية}
قوله تعالى{وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر} أي باردة تحرق ببردها كإحراق النار؛ مأخوذ من الصر وهو البرد؛ قال الضحاك. وقيل: إنها الشديدة الصوت. وقال مجاهد: الشديدة السموم. {عاتية} أي عتت على خزانها فلم تطعهم، ولم يطيقوها من شدة هبوبا؛ غضبت لغضب الله. وقيل: عتت على عاد فقهرتهم. روى سفيان الثوري عن موسى بن المسيب عن شهر بن حوشب عن بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أرسل الله من نسمة من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من ماء إلا بمكيال إلا يوم عاد ويوم نوح فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه. سبيل - ثم قرأ - {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} والريح لما كان يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل - ثم قرأ - {بريح صرصر عاتية}). {سخرها عليهم} أي أرسلها وسلطها عليهم. والتسخير: استعمال الشيء بالاقتدار. {سبع ليال وثمانية أيام حسوما} أي متتابعة لا تفر ولا تنقطع؛ عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. قال الفراء: الحسوم التباع، من حسم الداء إذا كوي صاحبه، لأنه يكوى بالمكواة ثم يتابع ذلك عليه. قال عبدالعزيز بن زرارة الكلابي:
ففرق بين بينهم زمان تتابع فيه أعوام حسوم
وقال المبرد: هو من قولك حسمت الشيء إذا قطعته وفصلته عن غيره. وقيل: الحسم الاستئصال. ويقال للسيف حسام؛ لأنه يحسم العدو عما يريده من بلوغ عداوته. وقال الشاعر:
حسام إذا قمت معتضدا به كفى العود منه البدء ليس بمعضد
والمعنى أنها حسمتهم، أي قطعتهم وأذهبتهم. فهي القاطعة بعذاب الاستئصال. قال ابن زيد: حسمتهم فلم تبق منهم أحدا. وعنه أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوعبتها. لأنها بدأت طلوع الشمس من أول يوم وانقطعت غروب الشمس من آخر يوم. وقال الليث: الحسوم الشؤم. ويقال: هذه ليالي الحسوم، أي تحسم الخير عن أهلها، وقال في الصحاح. وقال عكرمة والربيع بن أنس: مشائيم، دليله قوله تعالى{في أيام نحسات}فصلت: 16]. عطية العوفي{حسوما} أي حسمت الخير عن أهلها. واختلف في أولها، فقيل: غداة يوم الأحد، قاله السدي. وقيل: غداة يوم الجمعة، قال الربيع بن أنس. وقيل: غداة يوم الأربعاء، قاله يحيى بن سلام ووهب بن منبه. قال وهب: وهذه الأيام هي التي تسميها العرب أيام العجوز، ذات برد وريح شديدة، وكان أولها يوم الأربعاء وأخرها يوم الأربعاء؛ ونسبت إلى العجوز لأن عجوزا من عاد دخلت سربا فتبعتها الريح فقتلتها في اليوم الثامن. وقيل: سميت أيام العجوز لأنها وقعت في عجز الشتاء. وهي في آذار من أشهر السريانيين. ولها أسام مشهورة، وفيها يقول الشاعر وهو ابن أحمر:
كُسِع الشتاء بسبعة غبرِ أيام شهلتنا من الشهر
فإذا انقضت أيامها ومضت صِنٌّ وصَنَّبْـر مع الوبر
وبآمر وأخيه مؤتمر ومعَلِّل وبمطفئ الجمر
ذهب الشتاء موليا عجلا وأتتك واقدة من النجْر
و{حسوما} نصب على الحال. وقيل على المصدر. قال الزجاج: أي تحسمهم حسوما أي تفنيهم، وهو مصدر مؤكد. ويجوز أن يكون مفعولا له؛ أي سخرها عليهم هذه المدة للاستئصال؛ أي لقطعهم واستئصالهم. ويجوز أن يكون جمع حاسم. وقرأ السدي {حسوما} بالفتح، حالا من الريح؛ أي سخرها عليهم مستأصلة.
قوله تعالى{فترى القوم فيها} أي في تلك الليالي والأيام. {صرعى} جمع صريع؛ يعني موتى. وقيل{فيها} أي في الريح. {كأنهم أعجاز} أي أصول. {نخل خاوية} أي بالية؛ قاله أبو الطفيل. وقيل: خالية الأجواف لا شيء فيها. والنخل يذكر ويؤنث. وقد قال تعالى في موضع آخر{كأنهم أعجاز نخل منقعر}القمر: 20] فيحتمل أنهم شبهوا بالنخل التي صرعت من أصلها، وهو إخبار عن عظم أجسامهم. ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع؛ أي إن الريح قد قطعتهم حتى صاروا كأصول النخل خاوية أي الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخلة الخاوية الجوف. وقال ابن شجرة: كانت الريح تدخل في أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم، فصاروا كالنخل الخاوية. وقال يحيى بن سلام؛ إنما قال {خاوية} لأن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية. ويحتمل أن يكون المعنى كأنهم أعجاز نخل خاوية عن أصولها من البقاع؛ كما قال تعالى{فتلك بيوتهم خاوية}النمل: 52] أي خربة لا سكان فيها. ويحتمل الخاوية بمعنى البالية كما ذكرنا؛ لأنها إذا بليت خلت أجوافها. فشبهوا بعد أن هلكوا بالنخل الخاوية.
الآية رقم (8)
{فهل ترى لهم من باقية}
أي من فرقة باقية أو نفس باقية. وقيل: من بقية. وقيل: من بقاء. فاعلة بمعنى المصدر؛ نحو العاقبة والعافية. ويجوز أن يكون أسما؛ أي هل تجد لهم أحدا باقيا. وقال ابن جريج: كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا، فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر ذلك قوله عز وجل{فهل ترى لهم من باقية}، وقوله عز وجل{فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم}الأحقاف: 25].
الآية رقم (9)
{وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة}
قوله تعالى{وجاء فرعون ومن قبله} قرأ أبو عمرو والكسائي {ومن قبله} بكسر القاف وفتح الباء؛ أي ومن معه وتبعه من جنوده. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتبارا بقراءة عبدالله وأبي {ومن معه}. وقرأ أبو موسى الأشعري {ومن تلقاءه}. الباقون {قبله} بفتح القاف وسكون الباء؛ أي ومن تقدمه من القرون الخالية والأمم الماضية. {والمؤتفكات} أي أهل قرى لوط. وقراءة العامة بالألف. وقرأ الحسن والجحدري {والمؤتفكة} على التوحيد. قال قتادة: إنما سميت قرى قوم لوط {مؤتفكات} لأنها ائتفكت بهم، أي انقلبت. وذكر الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: خمس قريات: صبعة وصعرة وعمرة ودوما وسدوم؛ وهي القرية العظمى. {بالخاطئة} أي بالفعلة الخاطئة وهي المعصية والكفر. وقال مجاهد: بالخطايا التي كانوا يفعلونها. وقال الجرجاني: أي بالخطأ العظيم؛ فالخاطئة مصدر.
الآية رقم (10)
{فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية}
قوله تعالى{فعصوا رسول ربهم} قال الكلبي: هو موسى. وقيل: هو لوط لأنه أقرب. وقيل: عنى موسى ولوطا عليهما السلام؛ كما قال تعالى{فقولا إنا رسول رب العالمين}الشعراء: 16]. وقيل{رسول} بمعنى رسالة. وقد يعبر عن الرسالة بالرسول؛ قال الشاعر:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول
{فأخذهم أخذة رابية} أي عالية زائدة على الأخذات وعلى عذاب الأمم. ومنه الربا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطى. يقال: ربا الشيء يربو أي زاد وتضاعف. وقال مجاهد: شديدة. كأنه أراد زائدة في الشدة.
الآية رقم (11 : 12)
{إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية، لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية}
قوله تعالى{إنا لما طغى الماء} أي ارتفع وعلا. وقال علي رضي الله عنه: طغى على خزانه من الملائكة غضبا لربه فلم يقدروا على حبسه. قال قتادة: زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعا. وقال ابن عباس: طغى الماء زمن نوح على خزانه فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج. وليس من الماء قطرة تنزل قبله ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم. وقد مضى هذا مرفوعا أول السورة. والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حل بهم من العذاب: زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول. ثم من عليهم بأن جعلهم ذرية من نجا من الغرق بقوله{حملناكم} أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم. {في الجارية} أي في السفن الجارية. والمحمول في الجارية نوح وأولاده، وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك.
قوله تعالى{لنجعلها لكم تذكرة} يعني سفينة نوح عليه الصلاة والسلام. جعلها الله تذكرة وعظة لهذه الأمة حتى أدركها أوائلهم؛ في قول قتادة. قال ابن جريج: كانت ألواحها على الجودي. والمعنى: أبقيت لكم تلك الخشبات حتى تذكروا ما حل بقوم نوح، وإنجاء الله آباءكم؛ وكم من سفينة هلكت وصارت ترابا ولم يبق منها شيء. وقيل: لنجعل تلك الفعلة من إغراق قوم نوح وإنجاء من آمن معه موعظة لكم؛ ولهذا قال الله تعالى{وتعيها أذن واعية} أي تحفظها وتسمعها أذن حافظة لما جاء من عند الله. والسفينة لا توصف بهذا. قال الزجاج: ويقال وعيت كذا أي حفظته في نفسي، أعيه وعيا. ووعيت العلم، ووعيت ما قلت؛ كله بمعنى. وأوعيت المتاع في الوعاء. قال الزجاج: يقال لكل ما حفظته في غير نفسك{أوعيته} بالألف، ولما حفظته في نفسك {وعيته} بغير ألف. وقرأ طلحة وحميد والأعرج {وتعيها} بإسكان العين؛ تشبيها بقول{أرنا}البقرة: 128]. واختلف فيها عن عاصم وابن كثير. الباقون بكسر العين؛ ونظير قوله تعالى{وتعيها أذن واعية}، {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب}ق: 37]. وقال قتادة: الأذن الواعية أذن عقلت عن الله تعالى، وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عز وجل. وروى مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية: (سألت ربي أن يجعلها أذن علي). قال مكحول: فكان علي رضي الله عنه يقول ما سمعت من رسول صلي الله عليه وسلم شيئا قط فنسيته إلا وحفظته. ذكره الماوردي. وعن الحسن نحوه ذكره الثعلبي قال: لما نزلت {وتعيها أذن واعية} قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سألت ربي أن يجعلها أذنك يا علي) قال علي: فوالله ما نسيت شيئا بعد، وما كان لي أن أنسى. وقال أبو برزة الأسلمي قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: (يا علي إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعي وحقٌّ على الله أن تَعِيَ).
الآية رقم (13)
{فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة}
قال ابن عباس: هي النفخة الأولى لقيام الساعة، فلم يبق أحد إلا مات. وجاز تذكير {نفخ} لأن تأنيث النفخة غير حقيقي. وقيل: إن هذه النفخة هي الأخيرة. وقال{نفخة واحدة} أي لا تثنى. قال الأخفش: ووقع الفعل على النفخة إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع فقيل: نفخة. ويجوز {نفخة} نصبا على المصدر. وبها قرأ أبو السمال. أو يقال: اقتصر على الإخبار عن الفعل كما تقول: ضرب ضربا. وقال الزجاج{في الصور} يقوم مقام ما لم يسم فاعله.
الآية رقم (14)
{وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة}
قوله تعالى{وحملت الأرض والجبال} قراءة العامة بتخفيف الميم؛ أي رفعت من أماكنها. {فدكتا} أي فتتا وكسرتا. {دكة واحدة} لا يجوز في {دكة} إلا النصب لارتفاع الضمير في {دكتا}. وقال الفراء: لم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة، والأرض كالجملة الواحدة. ومثله{أن السموات والأرض كانتا رتقا}الأنبياء: 30] ولم يقل كن. وهذا الدك كالزلزلة؛ كما قال تعالى{إذا زلزلت الأرض زلزالها}الزلزلة: 1]. وقيل{دكتا} أي بسطتا بسطة واحدة؛ ومنه أندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره. وقد مضى في سورة الأعراف القول فيه. وقرأ عبدالحميد عن ابن عامر {وحملت الأرض والجبال} بالتشديد على إسناد الفعل إلى المفعول الثاني. كانه في الأصل وحملت قدرتنا أو ملكا من ملائكتنا الأرض والجبال؛ ثم أسند الفعل إلى المفعول الثاني فبني له. ولو جيء بالمفعول الأول لأسند الفعل إليه؛ فكأنه قال: وحملت قدرتنا الأرض. وقد يجوز بناؤه للثاني على وجه القلب فيقال: حُمِّلَت الأرضُ الملَك؛ كقولك: أُلبِس زيدٌ الجبة، وأُلبِست الجبةُ زيداً.
الآية رقم (15 : 17)
{فيومئذ وقعت الواقعة، وانشقت السماء فهي يومئذ واهية، والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}
قوله تعالى{فيومئذ وقعت الواقعة} أي قامت القيامة. {وانشقت السماء} أي أنصدعت وتفطرت. وقيل: تنشق لنزول ما فيها من الملائكة؛ دليله قوله تعالى{ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا}الفرقان: 25] وقد تقدم. {فهي يومئذ واهية} أي ضعيفة. يقال: وهي البناء يهي وهيا فهو واه إذا ضعف جدا. ويقال: كلام واه؛ أي ضعيف. فقيل: إنها تصير بعد صلابتها بمنزلة الصوف في الوهي ويكون ذلك لنزول الملائكة كما ذكرنا. وقيل: لهول يوم القيامة. وقيل{واهية} أي متخرقة؛ قال ابن شجرة. مأخوذ من قولهم: وهى السقاء إذا تخرق. ومن أمثالهم:
خل سبيل من وهى سقاؤه ومن أهريق بالفلاة ماؤه
أي من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه. {والملك} يعني الملائكة؛ اسم للجنس. {على أرجائها} أي على أطرافها حين تنشق؛ لأن السماء مكانهم؛ عن ابن عباس. الماوردي: ولعله قول مجاهد وقتادة. وحكاه الثعلبي عن الضحاك، قال: على أطرافها مما لم ينشق منها. يريد أن السماء مكان الملائكة فإذا انشقت صاروا في أطرافها. وقال سعيد بن جبير: المعنى والملك على حافات الدنيا؛ أي ينزلون إلى الأرض ويحرسون أطرافها. وقيل: إذا صارت السماء قطعا تقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها. وقيل: إن الناس إذا رأوا جهنم هالتهم؛ فيندوا كما تند الإبل، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا رأوا ملائكة فيرجعون من حيث جاؤوا. وقيل{على أرجائها} ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السوق إليها، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة. وهذا كله راجع إلى معنى قول ابن جبير. ويدل عليه{ونزل الملائكة تنزيلا}الفرقان: 25] وقوله تعالى{يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض}الرحمن: 33] على ما بيناه هناك. والأرجاء النواحي والأقطار بلغة هذيل، واحدها رجا مقصور، وتثنيته رجوان؛ مثل عصا وعصوان. قال الشاعر:
فلا يرمى بي الرجوان أني أقل القوم من يغني مكاني
ويقال ذلك لحرف البئر والقبر.
قوله تعالى{ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} قال ابن عباس: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله. وقال ابن زيد: هم ثمانية أملاك. وعن الحسن: الله أعلم كم هم، ثمانية أم ثمانية آلاف. وعن النبي صلى الله عليه وسلم (أن حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله تعالى بأربعة آخرين فكانوا ثمانية). ذكره الثعلبي. وخرجه الماوردي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحمله اليوم أربعة وهم يوم القيامة ثمانية). وقال العباس بن عبدالملك: هم ثمانية أملاك على صورة الأوعال. ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث (إن لكل ملك منهم أربعة أوجه وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس). ولما أنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قول أمية بن أبي الصلت:
رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى وليث مرصد
والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتورد
ليست بطالعة لهم في رسلها إلا معذبة وإلا تجلد
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق). وفي الخبر (أن فوق السماء السابعة ثمانية أو عال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهن العرش). ذكره القشيري"وخرجه الترمذي من حديث العباس ابن عبدالمطلب."وقد مضى في سورة البقرة بكماله. وذكر نحوه الثعلبي ولفظه. وفي حديث مرفوع (أن حملة العرش ثمانية أملاك على صورة الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاما للطائر المسرع). وفي تفسير الكلبي: ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة. وعنه: ثمانية أجزاء من عشرة أجزاء من الملائكة. ثم ذكر عدة الملائكة بما يطول ذكره. حكى الأول عنه الثعلبي والثاني القشيري. وقال الماوردي عن ابن عباس: ثمانية أجزاء من تسعة وهم الكروبيون. والمعنى ينزل بالعرش. ثم إضافة العرش إلى الله تعالى كإضافة البيت، وليس البيت للسكنى، فكذلك العرش. ومعنى{فوقهم} أي فوق رؤوسهم. قال السدي: العرش تحمله الملائكة الحملة فوقهم ولا يحمل حملة العرش إلا الله. وقيل{فوقهم} أي إن حملة العرش فوق الملائكة الذين في السماء على أرجائها. وقيل{فوقهم} أي فوق أهل القيامة.
الآية رقم (18)
{يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}
قوله تعالى{يومئذ تعرضون} أي، على الله؛ دليله{وعرضوا على ربك صفا} وليس ذلك عرضا يعلم به ما لم يكن عالما به، بل معناه الحساب وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة. وروى الحسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله). "خرجه الترمذي" قال: ولا يصح من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة. {لا تخفى منكم خافية} أي هو عالم بكل شي من أعمالكم. {فخافية} على هذا بمعنى خفية، كانوا يخفونها من أعمالهم؛ قاله ابن شجرة. وقيل: لا يخفى عليه إنسان؛ أي لا يبقى إنسان لا يحاسب. وقال عبدالله بن عمرو بن العاص: لا يخفى المؤمن من الكافر ولا البر من الفاجر. وقيل: لا تستتر منكم عورة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس حفاة عراة). وقرأ الكوفيون إلا عاصما {لا يخفى} بالياء؛ لأن تأنيث الخافية غير حقيقي؛ نحو قوله تعالى{وأخذ الذين ظلموا الصيحة}هود: 67] واختاره أبو عبيد؛ لأنه قد حال بين الفعل وبين الاسم المؤنث الجار والمجرور. الباقون بالتاء. واختاره أبو حاتم لتأنيث الخافية.
الآية رقم (19 : 27)
{فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه، إني ظننت أني ملاق حسابيه، فهو في عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية، وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه، ولم أدر ما حسابيه، يا ليتها كانت القاضية}
قوله تعالى{فأما من أوتي كتابه بيمينه} إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة. وقال ابن عباس: أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس. قيل له: فأين أبو بكر؟ فقال هيهات هيهات! زفته الملائكة إلى الجنة. ذكره الثعلبي. وقد ذكرناه مرفوعا من حديث زيد بن ثابت بلفظه ومعناه في كتاب التذكرة{. والحمد لله. {فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه} أي يقول ذلك ثقة بالإسلام وسرورا بنجاته؛ لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرح، والشمال من دلائل الغم. قال الشاعر:
أبيني أفي يمنى يديك جعلتني فأفرح أم صيرتني في شمالك
ومعنى{هاؤم} تعالوا؛ قاله ابن زيد. وقال مقاتل: هلم. وقيل: أي خذوا؛ ومنه الخبر في الربا (إلا هاء وهاء) أي يقول كل واحد لصاحبه: خذ. قال ابن السكيت والكسائي: العرب تقول هاء يا رجل اقرأ، وللاثنين هاؤما يا رجلان، وهاؤم يا رجال، وللمرة هاء بكسر الهمزة وهاؤما وهاؤمن. والأصل هاكم فأبدلت الهمزة من الكاف؛ قال القتيبي. وقيل: إن {هاؤم} كلمة وضعت لإجابة الداعي عند النشاط والفرح. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداه أعرابي بصوت عال فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم {هاؤم} يطول صوته. {وكتابيه} منصوب بـ {هاؤم} عند الكوفيين. وعند البصريين بـ {اقرؤوا} لأنه أقرب العاملين. والأصل {كتابي} فأدخلت الهاء لتبين فتحة الياء، وكان الهاء للوقف، وكذلك في أخواته{حسابيه}، وماليه، وسلطانيه{ وفي القارعة {ماهيه}. وقراءة العامة بالهاء فيهن في الوقف والوصل معا؛ لأنهن وقعن في المصحف بالهاء فلا تترك. واختار أبو عبيد أن يتعمد الوقف عليها ليوافق اللغة في إلحاق الهاء في السكت ويوافق الخط. وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد ويعقوب بحذف الهاء في الوصل وإثباتها في الوقف فيهن جمع. ووافقهم حمزة في {ماليه وسلطانيه}، و{ماهيه} في القارعة. وجملة هذه الحروف سبعة. واختار أبو حاتم قراءة يعقوب ومن معه إتباعا للغة. ومن قرأهن في الوصل بالهاء فهو على نية الوقف.
قوله تعالى{إني ظننت} أي أيقنت وعلمت، عن ابن عباس وغيره. وقيل: أي إني ظننت أن يؤاخذني الله بسيئاتي عذبني فقد تفضل علي بعفوه ولم يؤاخذني بها. قال الضحاك: كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين. ومن الكافر فهو شك. وقال مجاهد: ظن الآخرة يقين، وظن الدنيا شك. وقال الحسن في هذ الآية: إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل وإن المنافق أساء الظن بربه فأساء العمل. {أني ملاق حسابي} أي في الآخرة ولم أنكر البعث؛ يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب، لأنه تيقن أن الله يحاسبه فعمل للآخرة. {فهو في عيشة راضية} أي في عيش يرضاه لا مكروه فيه. وقال أبو عبيدة والفراء{راضية} أي مرضية؛ كقولك: ماء دافق؛ أي مدفوق. وقيل: ذات رضا؛ أي يرضى بها صاحبها. مثل لابن وتامر؛ أي صاحب اللبن والتمر. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنهم يعيشون فلا يموتون أبدا ويصحون فلا يمرضون أبدا وينعمون فلا يرون بؤسا أبدا ويشبون فلا يهرمون أبدا). {في جنة عالية} أي عظيمة في النفوس. {قطوفها دانية} أي قريبة التناول، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع على ما يأتي بيانه في سورة الإنسان . والقطوف جمع قطف بكسر القاف وهو ما يقطف من الثمار. والقطف بالفتح المصدر. والقطاف بالفتح والكسر وقت القطف. {كلوا واشربوا} أي يقال لهم ذلك. {هنيئا} لا تكدير فيه ولا تنغيص. {بما أسلفتم} قدمتم من الأعمال الصالحة. {في الأيام الخالية} أي في الدنيا. وقال{كلوا} بعد قوله{فهو في عيشة راضية} لقوله{فأما من أوتي} و{من} يتضمن معنى الجمع.
وذكر الضحاك أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبدالله بن عبد الأسد المخزومي؛ وقاله مقاتل. والآية التي تليها في أخيه الأسود بن عبد الأسد؛ في قول ابن عباس والضحاك أيضا؛ قال الثعلبي. ويكون هذا الرجل وأخوه سبب نزول هذه الآيات. ويعم المعنى جميع أهل الشقاوة وأهل السعادة؛ يدل عليه قوله تعالى{كلوا وأشربوا}. وقد قيل: إن المراد بذلك كل من كان متبوعا في الخير والشر. فإذا كان الرجل رأسا في الخير، يدعو إليه ويأمر به ويكثر تبعه عليه، دعي باسمه واسم أبيه فيتقدم حتى إذا دنا أخرج له كتاب أبيض بخط أبيض، في باطنه السيئات وفي ظاهره الحسنات فيبدأ بالسيئات فيقرأها فيشفق ويصفر وجهه ويتغير لونه فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه {هذه سيئاتك وقد غفرت لك} فيفرح عند ذلك فرحا شديدا، ثم يقلب كتابه فيقرأ حسناته فلا يزداد إلا فرحا؛ حتى إذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه {هذه حسناتك قد ضوعفت لك فيبيض وجهه ويؤتى بتاج فيوضع على رأسه، ويكسى حلتين، ويحلى كل مفصل منه ويطول ستين ذراعا وهي قامة آدم عليه السلام؛ ويقال له: انطلق إلى أصحابك فأخبرهم وبشرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا. فإذا أدبر قال: هاؤم اقرؤوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه. قال الله تعالى{فهو في عيشة راضية} أي مرضية قد رضيها {في جنة عالية} في السماء {قطوفها} ثمارها وعناقيدها. {دانية} أدنيت منهم. فيقول لأصحابه: هل تعرفوني؟ فيقولون: قد غمرتك كرامة، من أنت؟ فيقول: أنا فلان بن فلان أبشر كل رجل منكم بمثل هذا. {كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية} أي قدمتم في أيام الدنيا. وإذا كان الرجل رأسا في الشر، يدعو إليه ويأمر به فيكثر تبعه عليه، نودي باسمه واسم أبيه فيتقدم إلى حسابه، فيخرج له كتاب أسود بخط أسود في باطنه الحسنات وفي ظاهره السيئات، فيبدأ بالحسنات فيقرأها ويظن أنه سينجو، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه {هذه حسناتك وقد ردت عليك} فيسود وجهه ويعلوه الحزن ويقنط من الخير، ثم يقلب كتابه فيقرأ سيئاته فلا يزداد إلا حزنا، ولا يزداد وجهه إلا سوادا، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه هذه سيئاتك وقد ضوعفت عليك أي يضاعف عليه العذاب. ليس المعنى أنه يزاد عليه ما لم يعمل - قال - فيعظم للنار وتزرق عيناه ويسود وجهه، ويكسى سرابيل القطران ويقال له: انطلق إلى أصحابك وأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا؛ ينطلق وهو يقول{يا ليتني لم أوت كتابيه. ولم أدر ما حسابيه. يا ليتها كانت القاضية} يتمنى الموت.
الآية رقم (28 : 34)
{ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه، خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه، إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين}
قوله تعالى{هلك عني سلطانيه} تفسير ابن عباس: هلكت عنه حجتي. وهو قول مجاهد وعكرمة والسدي والضحاك. وقال ابن زيد: يعني سلطانيه في الدنيا الذي هو الملك. وكان هذا الرجل مطاعا في أصحابه؛ قال الله تعالى {خذوه فغلوه} قيل: يبتدره مائة ألف ملك ثم تجمع يده إلى عنقه وهو قوله عز وجل{فغلوه} أي شدوه بالأغلال {ثم الجحيم صلوه} أي اجعلوه يصلى الجحيم {ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا} الله أعلم بأي ذراع، قاله الحسن. وقال ابن عباس: سبعون ذراعا بذراع الملك. وقال نوف: كل ذراع سبعون باعا، وكل باع أبعد ما بينك وبين مكة. وكان في رحبة الكوفة. وقال مقاتل: لو أن حلقة منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص. وقال كعب: إن حلقة من السلسلة التي قال الله تعالى ذرعها سبعون ذراعا - أن حلقة منها - مثل جميع حديد الدنيا. {فاسلكوه} قال سفيان: بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج من فيه. وقاله مقاتل. والمعنى ثم أسلكوا فيه سلسلة. وقيل: تدخل عنقه فيها ثم يجربها. وجاء في الخبر: أنها تدخل من دبره وتخرج من منخريه. وفي خبر آخر: تدخل من فيه وتخرج من دبره، فينادي أصحابه هل تعرفوني؟ فيقولون لا، ولكن قد نرى ما بك من الخزي فمن أنت؟ فينادي أصحابه أنا فلان بن فلان، لكل إنسان منكم مثل هذا.
قلت: وهذا التفسير أصح ما قيل في هذه الآية، يدل عليه قوله تعالى{يوم ندعو كل أناس بإمامهم}الإسراء: 71]. وفي الباب حديث أبي هريرة بمعناه خرجه الترمذي. وقد ذكرناه في سورة الإسراء فتأمله هناك. {إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين} أي على الإطعام، كما يوضع العطاء موضع الإعطاء. قال الشاعر:
أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا
أراد بعد إعطائك. فبين أنه عذب على ترك الإطعام وعلى الأم بالبخل، كما عذب بسبب الكفر. والحض: التحريض والحث. وأصل {طعام} أن يكون منصوبا بالمصدر المقدر. والطعام عبارة عن العين، وأضيف للمسكين للملابسة التي بينهما. ومن أعمل الطعام كما يعمل الإطعام فموضع المسكين نصب. والتقدير على إطعام المطعم المسكين؛ فحذف الفاعل وأضيف المصدر إلى المفعول.
الآية رقم (35 : 37)
{فليس له اليوم هاهنا حميم، ولا طعام إلا من غسلين، لا يأكله إلا الخاطئون}
قوله تعالى{فليس له اليوم هاهنا حميم} خبر {ليس} قوله{له} ولا يكون الخبر قوله{ها هنا} لأن المعنى يصير: ليس ها هنا طعام إلا من غسلين، ولا يصح ذلك؛ لأن ثم طعاما غيره. و{ها هنا} متعلق بما في {له} من معنى الفعل. والحميم ها هنا القريب. أي ليس له قريب يرق له ويدفع عنه. وهو مأخوذ من الحميم وهو الماء الحار؛ كأنه الصديق الذي يرق ويحترق قلبه له. والغسلين فعلين من الغسل؛ فكأنه ينغسل من أبدانهم، وهو صديد أهل النار السائل من جروحهم وفروجهم؛ عن ابن عباس. وقال الضحاك والربيع بن أنس: هو شجر يأكله أهل النار. والغسل بالكسر
: ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره. الأخفش: ومنه الغسلين، وهو ما أنغسل من لحوم أهل النار ودمائهم. وزيد فيه الياء والنون كما زيد في عفرين. وقال قتادة: هو شر الطعام وأبشعه. ابن زيد: لا يعلم ما هو ولا الزقوم. وقال في موضع آخر{ليس لهم طعام إلا من ضريع}الغاشية: 6] يجوز أن يكون الضريع من الغسلين. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ والمعنى فليس له اليوم ها هنا حميم إلا من غسلين. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ والمعنى فليس له اليوم ها هنا حميم إلا من غسلين؛ ويكون الماء الحار. {ولا طعام} أي وليس لهم طعام ينتفعون به. {لا يأكله إلا الخاطئون} أي المذنبون. وقال ابن عباس: يعني المشركين. وقرئ {الخاطيون} بإبدال الهمزة ياء، و{الخاطون} بطرحها. وعن ابن عباس: ما الخاطون كلنا نخطو. وروى أبو الأسود الدؤلي: ما الخاطون؟ إنما هو الخاطئون. ما الصابون إنما هو الصابئون. ويجوز أن يراد الذي يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله عز وجل.
الآية رقم (38 : 40)
{فلا أقسم بما تبصرون، وما لا تبصرون، إنه لقول رسول كريم}
قوله تعالى{فلا أقسم بما تبصرون. وما لا تبصرون} المعنى أقسم بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون. و{لا} صلة. وقيل: هو رد لكلام سبق؛ أي ليس الأمر كما يقوله المشركون. وقال مقاتل: سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمدا ساحر. وقال أبو جهل: شاعر. وقال عقبة: كاهن؛ فقال الله عز وجل{فلا أقسم} أي أقسم. وقيل{لا} ها هنا نفي للقسم، أي لا يحتاج في هذا إلى قسم لوضوح الحق في ذلك، وعلى هذا فجوابه كجواب القسم. {إنه} يعني القرآن {لقول رسول كريم} يريد جبريل، قاله الحسن والكلبي ومقاتل. دليله{إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش}التكوير:20]. وقال الكلبي أيضا والقتبي: الرسول ها هنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لقوله}وما هو بقول شاعر{ وليس القرآن قول الرسول صلي الله عليه وسلم، إنما هو من قول الله عز وجل ونسب القول إلى الرسول لأنه تاليه ومبلغه والعامل به، كقولنا: هذا قول مالك.
الآية رقم (41 : 42)
{وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون}
قوله تعالى{وما هو بقول شاعر} لأنه مباين لصنوف الشعر كلها. {ولا بقول كاهن} لأنه ورد بسب الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئا على من يسبهم. و{ما} زائدة في قوله{قليلا ما تؤمنون}، {قليلا ما تتذكرون}؛ والمعنى: قليلا تؤمنون وقليلا تذكرون. وذلك القليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا: الله. ولا يجوز أن تكون {ما} مع الفعل مصدرا وتنصب {قليلا} بما بعد {ما}، لما فيه من تقديم الصلة على الموصول؛ لأن ما عمل فيه المصدر من صلة المصدر. وقرأ ابن محيصن وابن كثير وابن عامر ويعقوب {ما يؤمنون}، و{يذكرون} بالياء. الباقون بالتاء لأن الخطاب قبله وبعده. أما قبله فقوله{تبصرون} وأما بعده{فما منكم} الآية.
الآية رقم (43)
{تنزيل من رب العالمين}
قوله تعالى{تنزيل} أي هو تنزيل. {من رب العالمين} وهو عطف على قوله{إنه لقول رسول كريم}الحاقة: 40]، أي إنه لقوله رسول كريم، وهو تنزيل من رب العالمين.
الآية رقم (44 : 46)
{ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين}
قوله تعالى{ولو تقول علينا بعض الأقاويل} {تقول} أي تكلف وأتى بقول من قبل نفسه. وقرئ {ولو تقول} على البناء للمفعول. {لأخذنا منه باليمين} أي بالقوة والقدرة، أي لأخذناه بالقوة. و{من} صلة زائدة. وعبر عن القوة والقدرة باليمين لأن قوة كل شيء في ميامنه، قاله القتبي. وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد. ومنه قول الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة. عرابة اسم رجل من الأنصار من الأوس. وقال آخر:
ولما رأيت الشمس أشرق نورها تناولت منها حاجتي بيميني
وقال السدي والحكم{باليمين} بالحق. قال:
تلقاها عرابة باليمين
أي بالاستحقاق. وقال الحسن: لقطعنا يده اليمين. وقيل: المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف؛ قاله نفطويه. وقال أبو جعفر الطبري: إن هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب. كما يقول السلطان لمن يريد هوانه: خذوا يديه. أي لأمرنا بالأخذ بيده وبالغنا في عقابه. {ثم لقطعنا منه الوتين} يعني نياط القلب؛ أي لأهلكناه. وهو عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه؛ قال ابن عباس وأكثر الناس. قال: إذا بلغتني وحملت رحلي عرابة فأشرقي بدم الوتين وقال مجاهد: هو حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع؛ فإذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه. والموتون الذي قطع وتينه. وقال محمد بن كعب: إنه القلب ومراقه وما يليه. قال الكلبي: إنه عرق بين العلباء والحلقوم. والعلباء: عصب العنق. وهما علباوان بينهما ينبت العرق. وقال عكرمة: إن الوتين إذا قطع لا إن جاع عرف، ولا إن شبع عرف.
الآية رقم (47 : 48)
{فما منكم من أحد عنه حاجزين، وإنه لتذكرة للمتقين}
قوله تعالى{فما منكم من أحد عنه حاجزين} {ما} نفي و{أحد} في معنى الجمع، فلذلك نعته بالجمع؛ أي فما منكم قوم يحجزون عنه كقوله تعالى{لا نفرق بين أحد من رسله}البقرة: 285] هذا جمع، لأن {بين} لا تقع إلا على اثنين فما زاد. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تحل الغنائم لأحد سود الرؤوس قبلكم). لفظه واحد ومعناه الجمع. و{من} زائدة. والحجز: المنع. و{حاجزين} يجوز أن يكون صفة لأحد على المعنى كما ذكرنا؛ فيكون في موضع جر. والخبر {منكم}. ويجوز أن يكون منصوبا على أنه خبر و{منكم} ملغى، ويكون متعلقا {بحاجزين}. ولا يمنع الفصل به من انتصاب الخبر في هذا؛ كما لم يمتنع الفصل به في {إن فيك زيدا راغب}. {وإنه} يعني القرآن {لتذكرة للمتقين} أي للخائفين الذين يخشون الله. ونظيره{فيه هدى للمتقين}البقرة: 2] على ما بيناه أول سورة البقرة. وقيل: المراد محمد صلى الله عليه وسلم، أي هو تذكرة ورحمة ونجاة.
الآية رقم (49 : 52)
{وإنا لنعلم أن منكم مكذبين، وإنه لحسرة على الكافرين، وإنه لحق اليقين، فسبح باسم ربك العظيم}
قوله تعالى{وإنا لنعلم أن منكم مكذبين} قال الربيع: بالقرآن. {وإنه لحسرة} يعني التكذيب. والحسرة: الندامة. وقيل: أي وإن القرآن لحسرة على الكافرين يوم القيامة إذا رأوا ثواب من آمن به. وقيل: هي حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحديهم أن يأتوا بسورة مثله. {وإنه لحق اليقين} يعني أن القرآن العظيم تنزيل من الله عزو جل؛ فهو لحق اليقين. وقيل: أي حقا يقينا ليكونن ذلك حسرة عليهم يوم القيامة. فعلى هذا {وإنه لحسرة} أي لتحسر؛ فهو مصدر بمعنى التحسر، فيجوز تذكيره. وقال ابن عباس: إنما هو كقولك: لعين اليقين ومحض اليقين. ولو كان اليقين نعتا لم يجز أن يضاف إليه؛ كما لا تقول: هذا رجل الظريف. وقيل: أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين. {فسبح باسم ربك العظيم} أي فصل لربك؛ قال ابن عباس. وقيل: أي نزه الله عن السوء والنقائص.
{إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم}
قوله تعالى{إنا أرسلنا نوحا إلى قومه} قد مضى القول في الأعراف أن نوحا عليه السلام أول رسول أرسل. ورواه قتادة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول رسول أرسل نوح وأرسل إلى جميع أهل الأرض). فلذلك لما كفروا أغرق الله أهل الأرض جميعا. وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس بن يرد بن مهلايل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام. قال وهب: كلهم مؤمنون. أرسل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس: ابن أربعين سنة. وقال عبدالله بن شداد: بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة. وقد مضى في سورة
العنكبوت القول فيه. والحمد لله. {أن أنذر قومك} أي بأن أنذر قومك؛ فموضع {أن} نصب بإسقاط الخافض. وقيل: موضعها جر لقوة خدمتها مع {أن}. ويجوز {أن} بمعنى المفسرة فلا يكون لها موضع من الإعراب؛ لأن في الإرسال معنى الأمر، فلا حاجة إلى إضمار الباء. وقراءة عبدالله {انذر قومك} بغير {أن{ بمعنى قلنا له أنذر قومك. وقد تقدم معنى الإنذار في أول البقرة . {من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} النار في الآخرة. وقال الكلبي: هو ما نزل عليهم من الطوفان. وقيل: أي أنذرهم العذاب الأليم على الجملة إن لم يؤمنوا. فكان يدعو قومه وينذرهم فلا يرى منهم مجيبا؛ وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه فيقول (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). وقد مضى هذا مستوفى في سورة العنكبوت والحمد لله.
الآية رقم (2 : 4)
{قال يا قوم إني لكم نذير مبين، أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون، يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون}
قوله تعالى{قال ياقوم إني لكم نذير} أي مخوف. {مبين} أي مظهر لكم بلسانكم الذي تعرفونه. {أن اعبدوا الله واتقوه} و{أن} المفسرة على ما تقدم في {أن أنذر}. {اعبدوا} أي وحدوا. واتقوا: خافوا. {وأطيعون} أي فيما آمركم به، فإني رسول الله إليكم. {يغفر لكم من ذنوبكم} جزم {يغفر} بجواب الأمر. و{من} صلة زائدة. ومعنى الكلام يغفر لكم ذنوبكم، قاله السدي. وقيل: لا يصح كونها زائدة؛ لأن {من} لا تزاد في الواجب، وإنما هي هنا للتبعيض، وهو بعض الذنوب، وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين. وقيل: هي لبيان الجنس. وفيه بعد، إذ لم يتقدم جنس يليق به. وقال زيد بن أسلم: المعنى يخرجكم من ذنوبكم. ابن شجرة: المعنى يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها {ويؤخركم إلى أجل مسمى} قال ابن عباس: أي ينسئ في أعماركم. ومعناه أن الله تعالى كان قضى قبل خلقهم أنهم إن آمنوا بارك في أعمارهم، وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب. وقال مقاتل: يؤخركم إلى منتهى آجالكم في عافية؛ فلا يعاقبكم بالقحط وغيره. فالمعنى على هذا يؤخركم من العقوبات (الشدائد إلى آجالكم. وقال: الزجاج أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير موتة المستأصلين بالعذاب. وعلى هذا قيل{أجل مسمى} عندكم تعرفونه، لا يميتكم غرقا ولا حرقا ولا قتلا؛ ذكره الفراء. وعلى القول الأول {أجل مسمى} عند الله. {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر} أي إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب. وأضاف الأجل إليه سبحانه لأنه الذي أثبته. وقد يضاف إلى القوم، كقوله تعالى{فإذا جاء أجلهم}النحل: 61] لأنه مضروب لهم. {لو} بمعنى {إن} أي إن كنتم تعلمون. وقال الحسن: معناه لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل الله إذا جاءكم لم يؤخر.
الآية رقم (5 : 6)
{قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا}
قوله تعالى{قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا} أي سرا وجهرا. وقيل: أي واصلت الدعاء. {فلم يزدهم دعائي إلا فرارا} أي تباعدا من الإيمان. وقراءة العامة بفتح الياء من {دعائي} وأسكنها الكوفيون ويعقوب والدوري عن أبي عمرو.
الآية رقم (7)
{وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا}
قوله تعالى{وإني كلما دعوتهم} أي إلى سبب المغفرة، وهي الإيمان بك والطاعة لك. {جعلوا أصابعهم في آذانهم} لئلا يسمعوا دعائي {واستغشوا ثيابهم} أي غطوا بها وجوههم لئلا يروه. وقال ابن عباس: جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامه. فاستغشاء الثياب إذا زيادة في سد الآذان حتى لا يسمعوا، أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت أو ليعرفوه إعراضهم عنه. وقيل: هو كناية عن العداوة. يقال: لبس لي فلان ثياب العداوة. {وأصروا} أي على الكفر فلم يتوبوا. {واستكبروا} عن قبول الحق؛ لأنهم قالوا{أنؤمن لك واتبعك الأرذلون}الشعراء: 111]. {استكبارا} تفخيم.
الآية رقم (8 : 9)
{ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا}
قوله تعالى{ثم إني دعوتهم جهارا} أي مظهرا لهم الدعوة. وهو منصوب {بدعوتهم} نصب المصدر؛ لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار، فنصب به نصب القرفصاء بقعد؛ لكونها أحد أنواع القعود، أو لأنه أراد {بدعوتهم} جاهرتهم. ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا؛ أي دعاء جهارا؛ أي مجاهرا به. ويكون مصدرا في موضع الحال؛ أي دعوتهم مجاهرا لهم بالدعوة. {ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا} أي لم أبق مجهودا. وقال مجاهد: معنى أعلنت: صحت، {وأسررت لهم إسرارا}. بالدعاء عن بعضهم من بعض. وقيل{أسررت لهم} أتيتهم في منازلهم. وكل هذا من نوح عليه السلام مبالغة في الدعاء لهم، وتلطف في الاستدعاء. وفتح الياء من {إني أعلنت لهم} الحرميون وأبو عمرو. وأسكن الباقون.
الآية رقم (10 : 12)
{فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا}
قوله تعالى{فقلت استغفروا ربكم} أي سلوه المغفرة من ذنوبكم السالفة بإخلاص الإيمان. {إنه كان غفارا} وهذا منه ترغيب في التوبة. وقد روى حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الاستغفار ممحاة للذنوب). وقال الفضيل: يقول العبد أستغفر الله؛ وتفسيرها أقلني. {يرسل السماء عليكم مدرارا} أي يرسل ماء السماء؛ ففيه إضمار. وقيل: السماء المطر؛ أي يرسل المطر. قال الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
و{مدرارا} ذا غيث كثير. وجزم {يرسل} جوابا للأمر. وقال مقاتل: لما كذبوا نوحا زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة؛ فهلكت مواشيهم وزروعهم، فصاروا إلى نوح عليه السلام واستغاثوا به. فقال {استغفروا ربكم إنه كان غفارا} أي لم يزل كذلك لمن أناب إليه. ثم قال ترغيبا في الإيمان{يرسل السماء عليكم مدرارا. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لهم جنات ويجعل لكم أنهارا}. قال قتادة: علم نبي الله صلي الله عليه وسلم أنهم أهل حرص على الدنيا فقال: (هلموا إلى طاعة الله فإن في طاعة الله درك الدنيا والآخرة).
في هذه الآية والتي في هود دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار. قال الشعبي: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر؛ ثم قرأ{استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا}. وقال الأوزاعي: خرج الناس يستسقون، فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: اللهم إنا سمعناك تقول{ما على المحسنين من سبيل} التوبة: 91] وقد أقررنا بالإساءة، فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا؟! اللهم اغفر لنا وأرحمنا واسقنا! فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا. وقال ابن صبيح: شكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له: استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله. وقال له آخر. ادع الله أن يرزقني ولدا؛ فقال له: استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه؛ فقال له: استغفر الله. فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من عندي شيئا؛ إن الله تعالى يقول في سورة نوح {استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا}. وقد مضى في سورة آل عمران كيفية الاستغفار، وإن ذلك يكون عن إخلاص وإقلاع من الذنوب. وهو الأصل في الإجابة.
الآية رقم (13 : 14)
{ما لكم لا ترجون لله وقارا، وقد خلقكم أطوارا}
قيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف؛ أي مالكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أحدكم بالعقوبة. أي أي عذر لكم في ترك الخوف من الله. وقال سعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح: ما لكم لا ترجون لله ثوابا ولا تخافون له عقابا. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: مالكم لا تخشون لله عقابا وترجون منه ثوابا. وقال الوالبي والعوفي عنه: مالكم لا تعلمون لله عظمة. وقال ابن عباس أيضا ومجاهد: مالكم لا ترون لله عظمة. وعن مجاهد والضحاك: مالكم لا تبالون لله عظمة. قال قطرب: هذه لغة حجازية. وهذيل وخزاعة ومضر يقولون: لم أرج: لم أبال. والوقار: العظمة. والتوقير: التعظيم. وقال قتادة: مالكم لا ترجون لله عاقبة؛ كأن المعنى مالكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان. وقال ابن كيسان: مالكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيرا. وقال ابن زيد: مالكم لا تؤدون لله طاعة. وقال الحسن: مالكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة. وقيل: مالكم لا توحدون الله؛ لأن من عظمه فقد وحده. وقيل: إن الوقار الثبات لله عز وجل؛ ومنه قوله تعالى{وقرن في بيوتكن}الأحزاب: 33] أي اثبتن. ومعناه مالكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى وأنه إلهكم لا إله لكم سواه؛ قال ابن بحر. ثم دلهم على ذلك فقال{وقد خلقكم أطوارا} أي جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده. قال ابن عباس{أطوارا} يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة؛ أي طورا بعد طور إلى تمام الخلق، كما ذكر في سورة المؤمنون . والطور في اللغة: المرة؛ أي من فعل هذا وقدر عليه فهو أحق أن تعظموه. وقيل{أطوارا} صبيانا، ثم شبابا، ثم شيوخا وضعفاء، ثم أقوياء. وقيل: أطوارا أي أنواعا: صحيحا وسقيما، وبصيرا وضريرا، وغنيا وفقيرا. وقيل: إن {أطوارا} أختلافهم في الأخلاق والأفعال.
الآية رقم ( 15 : 16)
{ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا، وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا}
قوله تعالى{ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا} ذكر لهم دليلا آخر؛ أي ألم تعلموا أن الذي قدر على هذا، فهو الذي يجب أن يعبد ومعنى {طباقا} بعضها فوق بعض، كل سماء مطبقة على الأخرى كالقباب؛ قاله ابن عباس والسدي. وقال الحسن: خلق الله سبع سموات طباقا على سبع أرضين، بين كل أرض وأرض، وسماء وسماء خلق وأمر. وقوله{ألم تروا} على جهة الإخبار لا المعاينة؛ كما تقول: ألم ترني كيف صنعت بفلان كذا. و{طباقا} نصب على أنه مصدر؛ أي مطابقة طباقا. أو حال بمعنى ذات طباق؛ فحذف ذات وأقام طباقا مقامه. {وجعل القمر فيهن نورا} أي في سماء الدنيا؛ كما يقال: أتاني بنو تميم وأتيت بني تميم والمراد بعضهم؛ قاله الأخفش. قال ابن كيسان: إذا كان في إحداهن فهو فيهن. وقال قطرب{فيهن} بمعنى معهن؛ وقاله الكلبي. أي خلق الشمس والقمر مع خلق السموات والأرض. وقال جلة أهل اللغة في قول امرئ القيس:
وهل ينعمن من كان أخر عهده ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال
{في} بمعنى مع. النحاس: وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية فقال: جواب النحويين أنه إذا جعله في إحداهن فقد جعله فيهن؛ كما تقول: أعطني الثياب المعلمة وإن كنت إنما أعلمت أحدها. وجواب آخر: أنه يروى أن وجه القمر إلى السماء، وإذا كان إلى داخلها فهو متصل بالسموات، ومعنى {نورا} أي لأهل الأرض؛ قاله السدي. وقال عطاء: نورا لأهل السماء والأرض. وقال ابن عباس وابن عمر: وجهه يضيء لأهل الأرض وظهره يضيء لأهل السماء. {وجعل الشمس سراجا} يعني مصباحا لأهل الأرض ليتوصلوا إلى التصرف لمعايشهم. وفي إضاءتها لأهل السماء القولان الأولان حكاه الماوردي. وحكى القشيري عن ابن عباس أن الشمس وجهها في السموات وقفاها في الأرض. وقيل: على العكس. وقيل لعبدالله بن عمر: ما بال الشمس تقلينا أحيانا وتبرد علينا أحيانا؟ فقال: إنها في الصيف في السماء الرابعة، وفي الشتاء في السماء السابعة عند عرش الرحمن؛ ولو كانت في السماء الدنيا لما قام لها شيء.
الآية رقم (17 : 18)
{والله أنبتكم من الأرض نباتا، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا}
يعني آدم عليه السلام خلقه من أديم الأرض كلها؛ قاله ابن جريج. وقد مضى في سورة الأنعام والبقرة بيان ذلك. وقال خالد بن معدان: خلق الإنسان من طين؛ فإنما تلين القلوب في الشتاء. و{نباتا} مصدر على غير المصدر؛ لأن مصدره أنبت إنباتا، فجعل الاسم الذي هو النبات في موضع المصدر. وقد مضى بيانه في سورة آل عمران وغيرها. وقيل: هو مصدر محمول على المعنى؛ لأن معنى{أنبتكم} جعلكم تنبتون نباتا؛ قال الخليل والزجاج. وقيل: أي أنبت لكم من الأرض النبات. {فنباتا} على هذا نصب على المصدر الصريح. والأول أظهر. وقال ابن جريج: أنبتهم في الأرض بالكبر بعد الصغر وبالطول بعد القصر. {ثم يعيدكم فيها} أي عند موتكم بالدفن. {ويخرجكم إخراجا} بالنشور للبعث يوم القيامة.
الآية رقم (19 : 20)
{والله جعل لكم الأرض بساطا، لتسلكوا منها سبلا فجاجا}
قوله تعالى{والله جعل لكم الأرض بساطا} أي مبسوطة. {لتسلكوا منها سبلا فجاجا} السبل: الطرق. والفجاج جمع فج، وهو الطريق الواسعة؛ قاله الفراء. وقيل: الفج المسلك بين الجبلين. وقد مضى في سورتي الأنبياء والحج .
الآية رقم (21)
{قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا}
شكاهم إلى الله تعالى، وأنهم عصوه ولم يتبعوه فيما أمرهم به من الإيمان. وقال أهل التفسير: لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما داعيا لهم وهم على كفرهم وعصيانهم. قال ابن عباس: رجا نوح عليه السلام الأبناء بعد الآباء؛ فيأتي بهم الولد بعد الولد حتى بلغوا سبع قرون، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم، وعاش بعد الطوفان ستين عاما حتى كثر الناس وفشوا. قال الحسن: كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين؛ حكاه الماوردي. {واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا} يعني كبراءهم وأغنياءهم الذين لم يزدهم كفرهم وأموالهم وأولادهم إلا ضلالا في الدنيا وهلاكا في الآخرة. وقرأ أهل المدنية والشام وعاصم {وولده} بفتح الواو واللام. الباقون {ولده} بضم الواو وسكون اللام وهي لغة في الولد. ويجوز أن يكون جمعا للولد، كالفلك فإنه واحد وجمع. وقد تقدم.
الآية رقم (22)
{ومكروا مكرا كبارا}
أي كبيرا عظيما. يقال: كبير وكبار وكبار، مثل عجيب وعجاب وعجاب بمعنى، ومثله طويل وطوال وطوال. يقال: رجل حسن وحسان، وجميل وجمال، وقراء للقارئ، ووضاء للوضيء. وأنشد ابن السكيت:
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي بالحسن قلب المسلم القُرّاء
وقال آخر:
والمرء يلحقه بفتيان الندى خلق الكريم وليس بالوضاء
وقال المبرد{كبارا} بالتشديد للمبالغة. وقرأ ابن محيصن وحميد ومجاهد {كبارا} بالتخفيف. واختلف في مكرهم ما هو؟ فقيل: تحريشهم سفلتهم على قتل نوح. وقيل: هو تعزيرهم الناس بما أوتوا من الدنيا والولد؛ حتى قالت الضعفة: لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النعم. وقال الكلبي: هو ما جحلوه لله من الصاحبة والولد. وقيل: مكرهم كفرهم. وقال مقاتل: هو قول كبرائهم لأتباعهم{لا تذرن ألهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا}.
الآية رقم (23 : 24)
{وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا، وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا}
قال ابن عباس وغيره: هي أصنام وصور، كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب وهذا قول الجمهور. وقيل: إنها للعرب لم يعبدها غيرهم. وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم؛ فلذلك خصوها بالذكر بعد قوله تعالى{لا تذرن آلهتكم}. ويكون معنى الكلام كما قال قوم نوح لأتباعهم{لا تذرن ألهتكم} قالت العرب لأولادهم وقومهم: لا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا؛ ثم عاد بالذكر بعد ذلك إلى قوم نوح عليه السلام. وعلى القول الأول، الكلام كله منسوق في قوم نوح. وقال عروة بن الزبير وغيره: اشتكى آدم عليه السلام وعنده بنوه: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر. وكان ود أكبرهم وأبرهم به. قال محمد بن كعب: كان لآدم عليه السلام خمس بنين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر؛ وكانوا عبادا فمات واحد منهم فحزنوا عليه؛ فقال الشيطان: أنا أصور لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه. قالوا: أفعل. فصوره في المسجد من صفر ورصاص. ثم مات آخر، فصوره حتى ماتوا كلهم فصورهم. وتنقصت الأشياء كما تتنقص اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين. فقال لهم الشيطان: مالكم لا تعبدون شيئا؟ قالوا: وما نعبد؟ قال: آلهتكم وآلهة آبائكم، ألا ترون في مصلاكم. فعبدوها من دون الله؛ حتى بعث الله نوحا فقالوا: {لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا} الآية. وقال محمد بن كعب أيضا ومحمد بن قيس: بل كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم تبع يقتدون بهم، فلما ماتوا زين لهم إبليس أن يصوروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم، وليتسلوا بالنظر إليها؛ فصورهم. فلما ماتوا هم وجاء آخرون قالوا: ليت شعرنا هذه الصور ما كان آباؤنا يصنعون بها؟ فجاءهم الشيطان فقال: كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر. فعبدوها فابتدئ عبادة الأوثان من ذلك الوقت.
قلت: وبهذا المعنى فسر ما جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة تسمى مارية، فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). وذكر الثعلبي عن ابن عباس قال: هذه الأصنام أسماء رجال صالحين من قوم نوح؛ فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم تذكروهم بها؛ ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت من دون الله. وذكر أيضا عن ابن عباس: أن نوحا عليه السلام، كان يحرس جسد آدم عليه السلام على جبل بالهند، فيمنع الكافرين أن يطوفوا بقبره؛ فقال لهم الشيطان: إن هؤلاء يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم، وإنما هو جسد، وأنا أصور لكم مثله تطوفون به؛ فصور لهم هذه الأصنام الخمسة وحملهم على عبادتها. فلما كان أيام الطوفان دفنها الطين والتراب والماء؛ فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب. قال الماوردي: فأما ود فهو أول صنم معبود، سمي ودا لودهم له؛ وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل؛ في قول ابن عباس وعطاء ومقاتل. وفيه يقول شاعرهم:
حياك ود فإنا لا يحل لنا لهو النساء وإن الدين قد عزما
وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر؛ في قولهم.
وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجوف من سبأ؛ في قول قتادة. وقال المهدوي. لمراد ثم لغطفان. الثعلبي: وأخذت أعلى وأنعم - وهما من طيء - وأهل جرش من مذحج يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا. ثم إن بني ناجية أرادوا نزعه من أعلى وأنعم، ففروا به إلى الحصين أخي بن الحارث بن كعب من خزاعة. وقال أبو عثمان النهدي: رأيت يغوث وكان من رصاص، وكانوا يحملونه على جمل أحرد، ويسيرون معه ولا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك، فإذا برك نزلوا وقالوا: قد رضي لكم المنزل؛ فيضربون عليه بناء ينزلون حوله.
وأما يعوق فكان لهمدان ببلخع؛ في قول عكرمة وقتادة وعطاء. ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: وأما يعوق فكان لكهلان من سبأ، ثم توارثه بنوه؛ الأكبر فالأكبر حتى صار إلى همدان. وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني:
يريش الله في الدنيا ويبري ولا يبري يعوق ولا يريش
وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير؛ في قول قتادة، ونحوه عن مقاتل. وقال الواقدي: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير؛ فالله أعلم. وقرأ نافع {ولا تذرن ودا} بضم الواو. وفتحها الباقون. قال الليث: ود بفتح الواو صنم كان لقوم نوح. وود بالضم صنم لقريش؛ وبه سمي عمرو بن ود. وفي الصحاح: والود بالفتح الوتد في لغة أهل، نجد؛ كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال. والود في قول امرئ القيس:
تظهر الود إذا ما أشجذت وتواريه إذا ما تعتكر
قال ابن دريد: هو اسم جبل: وود صنم كان لقوم نوح عليه السلام ثم صار لكلب وكان بدومة الجندل؛ ومنه سموه عبد ود وقال{لا تذرن آلهتكم} ثم قال{ولا تذرون ودا ولا سواعا} الآية. خصها بالذكر؛ لقوله تعالى{وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح}الأحزاب: 7]. {وقد أضلوا كثيرا} هذا من قول نوح؛ أي أضل كبراؤهم كثيرا من أتباعهم؛ فهو عطف على قوله{ومكروا مكرا كبارا}. وقيل: إن الأصنام {أضلوا كثيرا} أي ضل بسببها كثير؛ نظيره قول إبراهيم{رب إنهن أضللن كثيرا من الناس}إبراهيم: 36] فأجرى عليهم وصف ما يعقل؛ لاعتقاد الكفار فيهم ذلك. {ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} أي عذابا؛ قاله ابن بحر. واستشهد بقوله تعالى{إن المجرمين في ضلال وسعر}القمر: 47]. وقيل إلا خسرانا. وقيل إلا فتنة بالمال والولد. وهو محتمل.
الآية رقم (25)
{مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا}
قوله تعالى{مما خطيئاتهم أغرقوا} {ما} صلة مؤكدة؛ والمعنى من خطاياهم وقال الفراء: المعنى من أجل خطاياهم؛ فأدت {ما} هذا المعنى. قال: و{ما} تدل على المجازاة. وقراءة أبي عمرو {خطاياهم} على جمع التكسير؛ الواحدة خطية. وكان الأصل في الجمع خطائي على فعائل؛ فلما اجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء، لأن قبلها كسرة ثم استثقلت والجمع ثقيل، وهو معتل مع ذلك؛ فقلبت الياء ألفا ثم قلبت الهمزة الأولى ياء لخفائها بين الألفين. الباقون {خطيئاتهم} على جمع السلامة. قال أبو عمرو: قوم كفروا ألف سنة فلم يكن لهم إلا خطيات؛ يريد أن الخطايا أكثر من الخطيات. وقال قوم: خطايا وخطيات واحد؛ جمعان مستعملان في الكثرة والقلة؛ واستدلوا بقوله تعالى{ما نفدت كلمات الله}لقمان: 27] وقال الشاعر:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وقرئ {خطيئاتهم} و{خطياتهم} بقلب الهمزة ياء وإدغامها. وعن الجحدري وعمرو بن عبيد والأعمش وأبي حيوة وأشهب العقيلي {خطيئتهم} على التوحيد، والمراد الشرك. {فأدخلوا نارا} أي بعد إغراقهم. قال القشيري: وهذا يدل على عذاب القبر. ومنكروه يقولون: صاروا مستحقين دخول النار، أو عرض عليهم أماكنهم من النار؛ كما قال تعالى{النار يعرضون عليها غدوا وعشيا}غافر: 46]. وقيل: أشاروا إلى ما في الخبر من قوله: (البحر نار في نار). وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى{أغرقوا فأدخلوا نارا} قال: يعني عذبوا بالنار في الدنيا مع الغرق في الدنيا في حالة واحدة؛ كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب. ذكره الثعلبي قال: أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال أنشدني أبو بكر بن الأنباري:
الخلق مجتمع طورا ومفترق والحادثات فنون ذات أطوار
لا تعجبن لأضداد إن اجتمعت فالله يجمع بين الماء والنار
{فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا} أي من يدفع عنهم العذاب.
الآية رقم (26 : 27)
{وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا}
قوله تعالى{وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين} دعا عليهم حين يئس من أتباعهم إياه. وقال قتادة: دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه{أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن}هود: 36] فأجاب الله دعوته وأغرق أمته؛ وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم منزل الكتاب سريع الحساب وهازم الأحزاب أهزمهم وزلزلهم). وقيل: سبب دعائه أن رجلا من قومه حمل ولدا صغيرا على كتفه فمر بنوح فقال: (احذر هذا فإنه يضلك). فقال: يا أبت أنزلني؛ فأنزله فرماه فشجه؛ فحينئذ غضب ودعا عليهم. وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد: إنما قال هذا حينما أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم. وأعقم أرحام النساء وأصلاب الرجال قبل العذاب بسبعين سنة. وقيل: بأربعين. قال قتادة: ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب. وقال الحسن وأبو العالية: لو أهلك الله أطفالهم معهم كان عذابا من الله لهم وعدلا فيهم؛ ولكن الله أهلك أطفالهم وذريتهم بغير عذاب، ثم أهلكهم بالعذاب؛ بدليل قوله تعالى{وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم}الفرقان: 37].
قال ابن العربي{دعا نوح على الكافرين أجمعين، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين وألب عليهم. وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة، فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه؛ لأن مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة. وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء عتبة وشيبة وأصحابهما؛ لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم. والله أعلم .
قلت: قد مضت هذه المسألة مجودة في سورة البقرة والحمد لله. الثالثة: قال ابن العربي إن قيل لم جعل نوح دعوته على قومه سببا لتوقفه عن طلب الشفاعة للخلق من الله في الآخرة؟ قلنا قال الناس في ذلك وجهان: أحدهما: أن تلك الدعوة نشأت عن غضب وقسوة؛ والشفاعة تكون عن رضا ورقة، فخاف أن يعاتب ويقال: دعوت على الكفار بالأمس وتشفع لهم اليوم. الثاني: أنه دعا غضبا بغير نص ولا إذن صريح في ذلك؛ فخاف الدرك فيه يوم القيامة؛ كما قال موسى عليه السلام: (إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها). قال: وبهذا أقول .
قلت: وإن كان لم يؤمر بالدعاء نصا فقد قيل له{أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن}هود: 36]. فأعلم عواقبهم فدعا عليهم بالهلاك؛ كما دعا نبينا صلي الله عليه وسلم على شيبة وعتبة ونظرائهم فقال: (اللهم عليك بهم) لما أعلم عواقبهم؛ وعلى هذا يكون فيه معنى الأم بالدعاء. والله أعلم.
قوله تعالى{ديارا} أي من يسكن الديار؛ قاله السدي. وأصله ديوار على فيعال من دار يدور؛ فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى. مثل القيام؛ أصله قيوام. ولو كان فعالا لكان دوارا. وقال القتبي: أصله من الدار؛ أي نازل بالدار. يقال: ما بالدار ديار؛ أي أحد. وقيل: الديار صاحب الدار.
الآية رقم (28)
{رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا}
قوله تعالى{رب اغفر لي ولوالدي} دعا لنفسه ولوالديه وكانا مؤمنين. وهما: لمك بن متوشلخ وشمخى بنت أنوش؛ ذكره القشيري والثعلبي. وحكى الماوردي في اسم أمه منجل. وقال سعيد بن جبير: أراد بوالديه أباه وجده. وقرأ سعيد بن جبير {لوالدي} بكسر الدال على الواحد. قال الكلبي: كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمنون. وقال ابن عباس: لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما السلام. {ولمن دخل بيتي مؤمنا} أي مسجدي ومصلاي مصليا صدقا بالله. وكان إنما يدخل بيوت الأنبياء من آمن منهم فجعل المسجد سببا للدعاء بالغفرة. وقد قال النبي. صلي الله عليه وسلم: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلي فيه ما لم يحدث فيه تقول اللهم اغفر له اللهم أرحمه) الحديث. وقد تقدم. وهذا قول ابن عباس{بيتي} مسجدي؛ حكاه الثعلبي وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أيضا: أي ولمن دخل ديني؛ فالبيت بمعنى الدين؛ حكاه القشيري وقاله جويبر. وعن ابن عباس أيضا: يعني صديقي الداخل إلى منزلي؛ حكاه الماوردي. وقيل: أراد داري. وقيل سفينتي. {وللمؤمنين والمؤمنات} عامة إلى يوم القيامة؛ قال الضحاك. وقال الكلبي: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: من قومه؛ والأول أظهر. {ولا تزد الظالمين} أي الكافرين. {إلا تبارا} إلا هلاكا؛ فهي عامة في كل كافر ومشرك. وقيل: أراد مشركي قومه. والتبار: الهلاك. وقيل: الخسران؛ حكاهما السدي. ومنه قوله تعالى{إن هؤلاء متبر ما هم فيه}الأعراف: 139]. وقيل: التبار الدمار؛ والمعنى واحد. والله أعلم بذلك. وهو الموفق للصواب.
{قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا، وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا}
قوله تعالى{قل أوحي إلي} أي قل يا محمد لأمتك: أوحى الله إلي على لسان جبريل {أنه استمع} إلي {نفر من الجن} وما كان عليه السلام عالما به قبل أن أوحى إليه. هكذا قال ابن عباس وغيره على ما يأتي. وقرأ ابن أبي عبلة {أحِي} على الأصل؛ يقال أوحى إليه ووحى، فقلبت الواو همزة، ومنه قوله تعالى{وإذا الرسل أقتت}المرسلات: 11] وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة. وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإسادة وإدعاء أخيه ونحوه.
واختلف هل رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فظاهر القرآن يدل على أنه لم يرهم؛ لقوله تعالى{استمع}، وقوله تعالى{وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن}الأحقاف: 29]. وفي صحيح مسلم والترمذي عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم؛ فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب! قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر؛ فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا{إنا سمعنا قرآنا عجبا. يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا} فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم{قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن}: "رواه الترمذي عن ابن عباس" قال: قول الجن لقومهم{لما قام عبدالله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يصلون بصلاته فيسجدون بسجوده قال: تعجبوا من طواعية أصحابه له، قالوا لقومهم{لما قام عبدالله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا}الجن: 19]. قال: هذا حديث حسن صحيح؛ ففي هذا الحديث دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن ولكنهم حضروه، وسمعوا قراءته. وفيه دليل على أن الجن كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر بسبب الشياطين لما رموا بالشهب. وكان المرميون بالشهب من الجن أيضا.
وقيل لهم شياطين كما قال{شياطين الإنس والجن}الأنعام: 112] فإن الشيطان كل متمرد وخارج عن طاعة الله. وفي الترمذي عن ابن عباس قال: كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون إلى الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فيها، فيكون باطلا. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: ما هذا الأمر إلا من أمر قد حدث في الأرض! فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بين جبلين - أراه قال بمكة - فأتوه فأخبروه فقال: هذا الحديث الذي حدث في الأرض. قال: هذا حديث حسن صحيح. فدل هذا الحديث على أن الجن رموا كما رميت الشياطين. وفي رواية السدي: أنهم لما رموا أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم فقال: ايتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوه فشم فقال: صاحبكم بمكة. فبعث نفرا من الجن، قيل: كانوا سبعة. وقيل: تسعة منهم زوبعة. وروى عاصم عن زر: أنهم كانوا سبعة نفر؛ ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين. وحكى جويبر عن الضحاك: أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين قرية باليمن غير التي بالعراق. وقيل: إن الجن الذين أتوا مكة جن نصيبين، والذين أتوه بنخلة جن نينوى. وقد مضى بيان هذا في سورة الأحقاف. قال عكرمة: والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم{اقرأ باسم ربك}العلق: 1] وقد مضى في سورة الأحقاف التعريف باسم النفر من الجن، فلا معنى لإعادة ذلك.
وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن ليلة الجن وهو أثبت؛ روى عامر الشعبي قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا استطير أو اغتيل، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبح إذا هو يجيء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله! فقدناك وطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم؛ فقال: (أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن) فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة، فقال: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم الجن) قال ابن العربي: وابن مسعود أعرف من ابن عباس؛ لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة. وقد قيل: إن الجن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعتين: إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود، والثانية بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس. قال البيهقي: الذي حكاه عبدالله بن عباس إنما هو في أول ما سمعت الجن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبدالله بن مسعود قال البيهقي: والأحاديث الصحاح تدل على أن ابن مسعود لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وإنما سار معه حين انطلق به وبغيره يريه آثار الجن وآثار نيرانهم. قال: وقد روي من غير وجه أنه كان معه ليلتئذ، وقد مضى هذا المعنى في سورة الأحقاف والحمد لله. روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي؟) فسكتوا، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، ثم قال عبدالله بن مسعود: أنا أذهب معك يا رسول الله، فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دب فخط علي خطا فقال: (لا تجاوزه) ثم مضى إلى الحجون فانحدر عليه أمثال الحجل يحدرون الحجارة بأقدامهم، يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها، حتى غشوه فلا أراه، فقمت فأومى إلي بيده أن أجلس، فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم، فلما انفتل إلي قال: (أردت أن تأتيني)؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: (ما كان ذلك لك، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر).
قال عكرمة: وكانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل. وفي رواية: انطلق بي عليه السلام حتى إذا جئنا المسجد الذي عند حائط عوف خط لي خطا، فأتاه نفر منهم فقال أصحابنا كأنهم رجال الزط وكأن وجوههم المكاكي، فقالوا: ما أنت؟ قال: (أنا نبي الله) قالوا: فمن يشهد لك على ذلك؟ قال: (هذه الشجرة) فقال: (يا شجرة) فجاءت تجر عروقها، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه، فقال: (على ماذا تشهدين) قالت: أشهد أنك رسول الله. فرجعت كما جاءت تجر بعروقها الحجارة، لها قعاقع حتى عادت كما كانت.
ثم روى أنه عليه السلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ فقال: (هل من وضوء) قال: لا، إلا أن معي إداوة فيها نبيذ. فقال: (هل هو إلا تمر وماء) فتوضأ منه.
قد مضى الكلام في الماء في سورة الحجر وما يستنجى به في سورة براءة فلا معنى للإعادة.
واختلف أهل العلم، في أصل الجن؛ فروى إسماعيل عن الحسن البصري: أن الجن ولد إبليس، والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب. فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس: أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين، وهم يؤمنون؛ ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. واختلفوا في دخول مؤمني الجن الجنة، على حسب الاختلاف في أصلهم. فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال: يدخلون الجنة بإيمانهم. ومن قال: إنهم من ذرية إبليس فلهم فيه قولان: أحدهما: وهو قول الحسن يدخلونها. الثاني: وهو رواية مجاهد لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار. حكاه الماوردي. وقد مضى في سورة الرحمن عند قوله تعالى{لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان}الرحمن: 56] بيان أنهم يدخلونها.
قال البيهقي في روايته: وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة فقال: (لكم كل عظم) دليل على أنهم يأكلون ويطعمون. وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن، وقالوا: إنهم بسائط، ولا يصح طعامهم؛ اجتراء على الله وافتراء، والقرآن والسنة ترد عليهم، وليس في المخلوقات بسيط مركب مزدوج، إنما الواحد الواحد سبحانه، وغيره مركب وليس بواحد كيفما تصرف حاله. وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة. وأكثر ما يتصورون لنا في صور الحيات؛ ففي الموطأ: أن رجلا حديث عهد بعرس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار أن يرجع إلى أهله... الحديث، وفيه: فإذا حية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها. وذكر الحديث. "في الصحيح"أنه عليه السلام قال: (إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليها ثلاثا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر). وقال: (اذهبوا فادفنوا صاحبكم) وقد مضى هذا المعنى في سورة البقرة وبيان التحريج عليهن. وقد ذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة؛ لقوله في الصحيح: (إن بالمدينة جنا قد أسلموا). وهذا لفظ مختص بها فيختص بحكمها. قلنا: هذا يدل على أن غيرها من البيوت مثلها؛ لأنه لم يعلل بحرمة المدينة، فيكون ذلك الحكم مخصوصا بها، وإنما علل بالإسلام، وذلك عام في غيرها، ألا ترى قوله في الحديث مخبرا عن الجن الذي لقي: وكانوا من جن الجزيرة؛ وهذا بين يعضده قوله: ونهى عن عوامر البيوت وهذا عام. وقد مضى في سورة البقرة القول في هذا فلا معنى للإعادة.
قوله تعالى{فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا} أي في فصاحة كلامه. وقيل: عجبا في بلاغة مواعظه. وقيل: عجبا في عظم بركته. وقيل: قرآنا عزيزا لا يوجد مثله. وقيل: يعنون عظيما. {يهدي إلى الرشد} أي إلى مراشد الأمور. وقيل: إلى معرفة الله تعالى؛ و{يهدي} في موضع الصفة أي هاديا. {فآمنا به} أي فاهتدينا به وصدقنا أنه من عند الله {ولن نشرك بربنا أحدا} أي لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه؛ لأنه الذي كان بعثهم ليأتوه بالخبر، ثم رمي الجن بالشهب. وقيل لا نتخذ مع الله إلها آخر؛ لأنه المتفرد بالربوبية. وفي هذا تعجيب المؤمنين بذهاب مشركي قريش عما أدركته الجن بتدبرها القرآن. وقوله تعالى{استمع نفر من الجن} أي استمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعلموا أن ما يقرؤه كلام الله. ولم يذكر المستمع إليه لدلالة الحال عليه. والنفر الرهط؛ قال الخليل: ما بين ثلاثة إلى عشرة. وقرأ عيسى الثقفي {يهدي إلى الرشد} بفتح الراء والشين.
قوله تعالى{وأنه تعالى جد ربنا} كان علقمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف وحفص والسلمي ينصبون {أن} في جميع السورة في اثني عشر موضعا، وهو{أنه تعالى جد ربنا}، {وأنه كان يقول}، {وأنا ظننا}، {وأنه كان رجال}، {وأنهم ظنوا}، {وأنا لمسنا السماء}، {وأنا كنا نقعد}، {وأنا لا ندري}، {وأنا منا الصالحون}، {وأنا ظننا أن نعجز الله في الأرض}، {وأنا لما سمعنا الهدى}، {وأنا منا المسلمون} عطفا على قوله{أنه استمع نفر}، {وأنه استمع} لا يجوز فيه إلا الفتح؛ لأنها في موضع اسم فاعل {أوحي} فما بعده معطوف عليه. وقيل: هو محمول على الهاء في {آمنا به}، أي و{بأنه تعالى جد ربنا} وجاز ذلك وهو مضمر مجرور لكثرة حرف الجار مع {أن}. وقيل: المعنى أي وصدقنا أنه جد ربنا. وقرأ الباقون كلها بالكسر وهو الصواب، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم عطفا على قوله{فقالوا إنا سمعنا} لأنه كله من كلام الجن. وأما أبو جعفر وشيبة فإنهما فتحا ثلاثة مواضع؛ وهي قوله تعالى{وأنه تعالى جد ربا}، {وأنه كان يقول}، {وأنه كان رجال}، قالا: لأنه من الوحي، وكسرا ما بقي؛ لأنه من كلام الجن. وأما قوله تعالى{وأنه لما قام عبدالله}الجن: 19]. فكلهم فتحوا إلا نافعا وشيبة وزر بن حبيش وأبا بكر والمفضل عن عاصم، فإنهم كسروا لا غير. ولا خلاف في فتح همزة {أنه استمع نفر من الجن}، {وأن لو استقاموا} {وأن المساجد لله}، {وأن قد أبلغوا}. وكذلك لا خلاف في كسر ما بعد القول؛ نحو قوله تعالى{فقالوا إنا سمعنا} و{قل إنما أدعوا ربي}الجن: 20] و{قل إن أدري}الجن: 25]. و{قل إني لا أملك}الجن: 21]. وكذلك لا خلاف في كسر ما كان بعد فاء الجزاء؛ نحو قوله تعالى{فإن له نار جهنم}الجن: 23] و{فإنه يسلك من بين يديه}الجن: 27]. لأنه موضع ابتداء.
قوله تعالى{وأنه تعالى جد ربنا} الجد في اللغة: العظمة والجلال؛ ومنه قول أنس: كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا؛ أي عظم وجل. فمعنى{جد ربنا} أي عظمته وجلاله؛ قال عكرمة ومجاهد وقتادة. وعن مجاهد أيضا: ذكره. وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمة أيضا: غناه. ومنه قيل للحظ جد، ورجل مجدود أي محظوظ؛ وفي الحديث: [ولا ينفع ذا الجد منك الجد] قال أبو عبيدة والخليل: أي ذا الغنى، منك الغنى، إنما تنفعه الطاعة. وقال ابن عباس: قدرته. الضحاك: فعله. وقال القرظي والضحاك أيضا: آلاؤه ونعمه على خلقه. وقال أبو عبيدة والأخفش ملكه وسلطانه. وقال السدي: أمره. وقال سعيد بن جبير{وأنه تعالى جد ربنا} أي تعالى ربنا. وقيل: إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أب الأب، ويكون هذا من قول الجن. وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع: ليس لله تعالى جد، وإنما قالته الجن للجهالة، فلم يؤاخذوا به. وقال القشيري: ويجوز إطلاق لفظ الجد في حق الله تعالى؛ إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن، غير أنه لفظ موهم، فتجنبه أولى. وقراءة عكرمة {جد} بكسر الجيم: على ضد الهزل. وكذلك قرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع. ويروى عن ابن السميقع أيضا وأبي الأشهب {جدا ربنا}، وهو الجدوى والمنفعة. وقرأ عكرمة أيضا {جد} بالتنوين {ربنا} بالرفع على أنه مرفوع، {بتعالى}، و{جدا} منصوب على التمييز. وعن عكرمة أيضا {جد} بالتنوين والرفع {ربنا} بالرفع على تقدير: تعالى جد جد ربنا؛ فجد الثاني بدل من الأول وحذف وأقيم المضاف إليه مقامه. ومعنى الآية: وأنه تعالى جلال ربنا أن يتخذ صاحبة وولدا للاستئناس بهما والحاجة إليهما، والرب يتعالى عن الأنداد والنظراء.
الآية رقم (4 : 7)
{وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا، وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا، وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا، وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا}
قوله تعالى{وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا} الهاء في {أنه} للأمر أو الحديث، وفي {كان} اسمها، وما بعدها الخبر. ويجوز أن تكون {كان} زائدة. والسفيه هنا إبليس في قول مجاهد وابن جريج وقتادة. ورواه أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المشركون من الجن: قال قتادة: عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس. والشطط والاشتطاط: الغلو في الكفر. وقال أبو مالك: هو الجور. الكلبي: هو الكذب. وأصله العبد فيعبر به عن الجور لبعده عن العدل، وعن الكذب لبعده عن الصدق؛ قال الشاعر:
بأيه حال حكموا فيك فاشتطوا وما ذاك إلا حيث يممك الوخط
قوله تعالى{وأنا ظننا} أي حسبنا {أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا}، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولدا، حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق.
وقرأ يعقوب والجحدري وابن أبي إسحاق {أن لن تقول}. وقيل: انقطع الإخبار عن الجن ها هنا فقال الله تعالى{وأنه كان رجال من الأنس} فمن فتح وجعله من قول الجن ردها إلى قوله{أنه استمع}الجن: 1]، ومن كسر جعلها مبتدأ من قول الله تعالى. والمراد به ما كانوا يفعلونه من قول الرجل إذا نزل بواد: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه؛ فيبيت في جواره حتى يصبح؛ قال الحسن وابن زيد وغيرهما. قال مقاتل: كان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم. وقال كردم بن أبي السائب: خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملا من الغنم، فقال الراعي: يا عامر الوادي، [أنا] جارك. فنادى مناد يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد. وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة{وأنه كان رجال من الإنس. يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا} أي زاد الجن الإنس {رهقا} أي خطيئة وإثما؛ قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. والرهق: الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم؛ ورجل رهق إذا كان كذلك؛ ومنه قوله تعالى{وترهقهم ذلة}يونس: 27] وقال الأعشى:
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقا
يعني إثما. وأضيفت الزيادة إلى الجن إذ كانوا سببا لها. وقال مجاهد أيضا{فزادوهم} أي إن الإنس زادوا الجن طغيانا بهذا التعوذ، حتى قالت الجن: سدنا الإنس والجن. وقال قتادة أيضا وأبو العالية والربيع وابن زيد: ازداد الإنس بهذا فرقا وخوفا من الجن. وقال سعيد بن جبير: كفرا. ولا خفاء أن الاستعاذة بالجن دون الاستعاذة بالله كفر وشرك. وقيل: لا يطلق لفظ الرجال على الجن؛ فالمعنى: وأنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس، وكان الرجل من الإنس يقول مثلا: أعوذ بحذيفة بن بدر من جن هذا الوادي. قال القشيري: وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجال على الجن.
قوله تعالى{وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا} هذا من قول الله تعالى للإنس أي وأن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم. الكلبي: المعنى: ظنت الجن كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه يقيم به الحجة عليهم. وكل هذا توكيد للحجة على قريش؛ أي إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد، فأنتم أحق بذلك.
الآية رقم (8 : 10)
{وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا، وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا}
قوله تعالى{وأنا لمسنا السماء} هذا من قول الجن؛ أي طلبنا خبرها كما جرت عادتنا {فوجدناها} قد {ملئت حرسا شديدا} أي حفظة، يعني الملائكة. والحرس: جمع حارس {وشهبا} جمع شهاب، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراق السمع. وقد مضى القول فيه في سورة الحجر والصافات . و{وجد} يجوز أن يقدر متعديا إلى مفعولين، فالأول الهاء والألف، و{ملئت} في موضع المفعول الثاني. ويجوز أن يتعدى إلى مفعول واحد ويكون {ملئت} في موضع الحال على إضمار قد. و{حرسا} نصب على المفعول الثاني {بملئت}. و{شديدا} من نعت الحرس، أي ملئت ملائكة شدادا. ووحد الشديد على لفظ الحرس؛ وهو كما يقال: السلف الصالح بمعنى الصالحين، وجمع السلف أسلاف وجمع الحرس أحراس؛ قال:
تجاوزت أحراسا وأهوال معشر
ويجوز أن يكون {حرسا} مصدرا على معنى حرست حراسة شديدة.
قوله تعالى{وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} {منها} أي من السماء، و{مقاعد}: مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء؛ يعني أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يلقوها إلى الكهنة على ما تقدم بيانه، فحرسها الله تعالى حين بعث رسوله بالشهب المحرقة، فقالت الجن حينئذ{فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} يعني بالشهاب: الكوكب المحرق؛ وقد تقدم بيان ذلك. ويقال: لم يكن انقضاض الكواكب إلا بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهو آية من آياته. واختلف السلف هل كانت الشياطين تقذف قبل المبعث، أو كان ذلك أمرا حدث لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال الكلبي وقال قوم: لم تكن تحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه: خمسمائة عام، وإنما كان من أجل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها، وحرست بالملائكة والشهب.
قلت: ورواه عطية العوفي عن ابن عباس؛ ذكره البيهقي. وقال عبدالله بن عمر: لما كان اليوم الذي نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشياطين، ورموا بالشهب، وقال عبدالملك بن سابور: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست السماء، ورميت الشياطين بالشهب، ومنعت عن الدنو من السماء. وقال نافع بن جبير: كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب. ونحوه عن أبي بن كعب قال: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمي بها. وقيل: كان ذلك قبل المبعث، وإنما زادت بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنذارا بحاله؛ وهو معنى قوله تعالى{ملئت} أي زيد في حرسها؛ وقال أوس بن حجر وهو جاهلي:
فانقض كالدري يتبعه نقع يثور تخاله طنبا
وهذا قول الأكثرين. وقد أنكر الجاحظ هذا البيت وقال: كل شعر روي فيه فهو مصنوع، وأن الرمي لم يكن قبل المبعث. والقول بالرمي أصح؛ لقوله تعالى{فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا}. وهذا إخبار عن الجن، أنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت منها ومنهم؛ ولما روي عن ابن عباس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم؛ فقال: [ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية]؟ قالوا: كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا سبحانه وتعالى إذا قضى أمرا في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء، حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه، فتتخطف الجن فيرمون فما جاؤوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه]. وهذا يدل على أن الرجم كان قبل المبعث. وروى الزهري نحوه عن علي بن الحسين عن علي بن أبي طالب عن ابن عباس. وفي آخره قيل للزهري: أكان يرمى في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أفرأيت قوله سبحانه{وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم. ونحوه قال القتبي. قال ابن قتيبة: كان ولكن اشتدت الحراسة بعد المبعث؛ وكانوا من قبل يسترقون ويرمون في بعض الأحوال، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعت من ذلك أصلا. وقد تقدم بيان هذا في سورة الصافات عند قوله{ويقذفون من كل جانب. دحورا ولهم عذاب واصب}الصافات: 8 - 9] قال الحافظ: فلو قال قائل: كيف تتعرض الجن لإحراق نفسها بسبب استماع خبر، بعد أن صار ذلك معلوما لهم؟ فالجواب: أن الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة، كما ينسي إبليس في كل وقت أنه لا يسلم، وأن الله تعالى قال له{وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين }الحجر: 35] ولولا هذا لما تحقق التكليف. والرصد: قيل من الملائكة؛ أي ورصدا من الملائكة.
والرصد: الحافظ للشيء والجمع أرصاد، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعا كالحرس، والواحد: راصد. وقيل: الرصد هو الشهاب، أي شهابا قد أرصد له، ليرجم به؛ فهو فعل بمعنى مفعول كالخبط والنفض.
قوله تعالى{وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض} أي هذا الحرس الذي حرست بهم السماء {أم أراد بهم ربهم رشدا} أي خيرا. قال ابن زيد. قال إبليس لا ندري، هل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذابا أو يرسل إليهم رسولا. وقيل: هو من قول الجن فيما بينهم قبل أن يسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم. أي لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بإرسال محمد إليهم، فإنهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا؛ فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان؛ وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي. وقيل: لا؛ بل هذا قول قالوه لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين؛ أي لما آمنوا أشفقوا ألا يؤمن كثير من أهل الأرض فقالوا: إنا لا ندري أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون؟
الآية رقم (11 : 12)
{وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا، وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا}
قوله تعالى{وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك} هذا من قول الجن، أي قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون ومنا الكافرون. وقيل{ومنا دون ذلك} أي ومن دون الصالحين في الصلاح، وهو أشبه من حمله على الإيمان والشرك. {كنا طرائق قددا} أي فرقا شتى؛ قال السدي. الضحاك: أديانا مختلفة. قتادة: أهواء متباينة؛ ومنه قول الشاعر:
القابض الباسط الهادي بطاعته في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد
والمعنى: أي لم يكن كل الجن كفارا بل كانوا مختلفين: منهم كفار، ومنهم مؤمنون صلحاء، ومنهم مؤمنون غير صلحاء. وقال المسيب: كنا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس. وقال السدي في قوله تعالى{طرائق قددا} قال: في الجن مثلكم قدرية، ومرجئة، وخوارج، ورافضة، وشيعة، وسنية. وقال قوم: أي وإنا بعد استماع القرآن مختلفون: منا المؤمنون ومنا الكافرون. أي ومنا الصالحون ومنا مؤمنون لم يتناهوا في الصلاح. والأول أحسن؛ لأنه كان في الجن من آمن بموسى وعيسى، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا{إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه}الأحقاف: 30] وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الإيمان. وأيضا لا فائدة في قولهم: نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر. والطرائق: جمع الطريقة وهي مذهب الرجل، أي كنا فرقا مختلفة. ويقال: القوم طرائق أي على مذاهب شتى. والقدد: نحو من الطرائق وهو توكيد لها، واحدها: قدة. يقال: لكل طريق قدة، وأصلها من قد السيور، وهو قطعها؛ قال لبيد يرثي أخاه أربد:
لم تبلغ العين كل نهمتها ليلة تمسي الجياد كالقدد
وقال آخر:
ولقد قلت وزيد حاسر يوم ولت خيل عمرو قددا
والقد بالكسر: سير يقد من جلد غير مدبوغ؛ ويقال: ماله قد ولا قحف؛ فالقد: إناء من جلد، والقحف: من خشب.
قوله تعالى{وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض} الظن هنا بمعنى العلم واليقين، وهو خلاف الظن في قوله تعالى{وأنا ظننا أن لن تقول}الجن: 5]، {وأنهم ظنوا}الجن: 7] أي علمنا بالاستدلال والتفكر في آيات الله، أنا في قبضته وسلطانه، لن نفوته بهرب ولا غيره. و{هربا} مصدر في موضع الحال أي هاربين.
الآية رقم (13 : 15)
{وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا، وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا، وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا}
قوله تعالى{وأنا لما سمعنا الهدى} يعني القرآن {آمنا به} وبالله، وصدقنا محمدا صلى الله عليه وسلم على رسالته. وكان صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الإنس والجن. قال الحسن: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن، ولم يبعث الله تعالى قط رسولا من الجن، ولا من أهل البادية، ولا من النساء؛ وذلك قوله تعالى{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى}يوسف: 109] وقد تقدم هذا المعنى. وفي الصحيح: [وبعثت إلى الأحمر والأسود] أي الإنس والجن.
قوله تعالى{فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا} قال ابن عباس: لا يخاف أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته؛ لأن البخس النقصان
والرهق: العدوان وغشيان المحارم؛ قال الأعشى:
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقا
الوامق: المحب؛ وقد وَمِقَه يمِقه بالكسر أي أحبه، فهو وامق. وهذا قول حكاه الله تعالى عن الجن؛ لقوة إيمانهم وصحة إسلامهم. وقراءة العامة {فلا يخاف} رفعا على تقدير فإنه لا يخاف. وقرأ الأعمش ويحيى وإبراهيم {فلا يخف} جزما على جواب الشرط وإلغاء الفاء.
قوله تعالى{وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون} أي وأنا بعد استماع القرآن مختلفون، فمنا من أسلم ومنا من كفر. والقاسط: الجائر، لأنه عادل عن الحق، والمقسط: العادل؛ لأنه عادل إلى الحق؛ يقال: قسط: أي جار، وأقسط: إذا عدل؛ قال الشاعر:
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة عمرا وهم قسطوا على النعمان
{فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا} أي قصدوا طريق الحق وتوخوه ومنه تحرى القبلة {وأما القاسطون} أي الجائرون عن طريق الحق والإيمان {فكانوا لجهنم حطبا
أي وقودا. وقوله{فكانوا} أي في علم الله تعالى.
الآية رقم (16 : 17)
{وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا، لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا}
قوله تعالى{وأن لو استقاموا على الطريقة} هذا من قول الله تعالى. أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق. وهذا محمول على الوحي؛ أي أوحى إلي أن لو استقاموا. ذكر ابن بحر: كل ما في هذه السورة من {إن} المكسورة المثقلة فهي حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن، فرجعوا إلى قومهم منذرين، وكل ما فيها من أن المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن الأنباري: ومن كسر الحروف وفتح {وأن لو استقاموا} أضمر يمينا تاما، تأويلها: والله أن لو استقاموا على الطريقة؛ كما يقال في الكلام: والله أن قمت لقمت، ووالله لو قمت قمت؛ قال الشاعر:
أما والله أن لو كنت حرا وما بالحر أنت ولا العتيق
ومن فتح ما قبل المخففة نسقها - أعني الخفيفة - على {أوحي إلي أنه}، {وأن لو استقاموا} أو على {آمنا به} وبأن لو استقاموا. ويجوز لمن كسر الحروف كلها إلى {أن} المخففة، أن يعطف المخففة على {أوحي إلي} أو على {آمنا به}، ويستغني عن إضمار اليمين. وقراءة العامة بكسر الواو من {لو} لالتقاء الساكنين، وقرأ ابن وثاب والأعمش بضم الواو. و{ماء غدقا} أي واسعا كثيرا، وكانوا قد حبس عنهم المطر سبع سنين؛ يقال: غدقت العين تغدق، فهي غدقة، إذا كثر ماؤها. وقيل: المراد الخلق كلهم أي {لو استقاموا على الطريقة} طريقة الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين {لأسقيناهم ماء غدقا} أي كثيرا {لنفتنهم فيه} أي لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم. وقال عمر في هذه الآية: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة. فمعنى {لأسقيناهم} لوسعنا عليهم في الدنيا؛ وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلا؛ لأن الخير والرزق كله بالمطر يكون، فأقيم مقامه؛ كقوله تعالى{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}الأعراف: 96] وقوله تعالى{ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}المائدة: 66] أي بالمطر. والله أعلم. وقال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة ومقاتل وعطية وعبيد بن عمير والحسن: كان والله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشي، ففتنوا بها، فوثبوا على إمامهم فقتلوه. يعني عثمان بن عفان.
وقال الكلبي وغيره{وأن لو استقاموا على الطريقة} التي هم عليها من الكفر فكانوا كلهم كفارا لوسعنا أرزاقهم مكرا بهم واستدراجا لهم، حتى يفتتنوا بها، فنعذبهم بها في الدنيا والآخرة. وهذا قول قال الربيع بن أنس وزيد بن أسلم وابنه والكلبي والثمالي ويمان بن رباب وابن كيسان وأبو مجلز؛ واستدلوا بقوله تعالى{فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء}الأنعام: 44] الآية. وقوله تعالى{ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة}الزخرف: 33] الآية؛ والأول أشبه؛ لأن الطريقة معرفة بالألف واللام، فالأوجب أن تكون طريقته طريقة الهدى؛ ولأن الاستقامة لا تكون إلا مع الهدى.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا) قالوا: وما زهرة الدنيا؟ قال: (بركات الأرض) وذكر الحديث. وقال عليه السلام: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم).
قوله تعالى{ومن يعرض عن ذكر ربه} يعني القرآن؛ قال ابن زيد. وفي إعراضه عنه وجهان: أحدهما عن القبول، إن قيل إنها في أهل الكفر. الثاني عن العمل، إن قيل إنها في المؤمنين. وقيل{ومن يعرض عن ذكر ربه} أي لم يشكر نعمه {يسلكه عذابا صعدا} قرأ الكوفيون وعياش عن أبي عمرو {يسلكه} بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لذكر اسم الله أولا فقال{ومن يعرض عن ذكر ربه}. الباقون {نسلكه} بالنون. وروي عن مسلم بن جندب ضم النون وكسر اللام. وكذلك قرأ طلحة والأعرج وهما لغتان، سلكه وأسلكه بمعنى؛ أي ندخله. {عذابا صعدا} أي شاقا شديدا. قال ابن عباس: هو جبل، في جهنم. أبو سعيد الخدري: كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت. وعن ابن عباس: أن المعنى مشقة من العذاب. وذلك معلوم في اللغة أن الصعد: المشقة، تقول: تصعدني الأمر: إذا شق عليك؛ ومنه قول عمر: ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح، أي ما شق علي. وعذاب صعد أي شديد.
والصعد: مصدر صعد؛ يقال: صعد صعدا وصعودا، فوصف به العذاب؛ لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. وقال أبو عبيدة: الصعد مصدر؛ أي عذابا ذا صعد، والمشي في الصعود يشق. والصعود: العقبة الكؤود. وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها؛ فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم. وقال الكلبي: يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلا في النار من صخرة ملساء، يجذب من أمامه بسلاسل، ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها، ولا يبلغ في أربعين سنة. فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف أيضا صعودها، فذلك دأبه أبدا، وهو قوله تعالى{سأرهقه صعودا}المدثر: 17].
">الآية رقم (18)">
الآية رقم (18)
{وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا}
قوله تعالى{وأن المساجد لله} {أن} بالفتح، قيل: هو مردود إلى قوله تعالى{قل أوحي إلي}الجن: 1] أي قل أوحي إلي أن المساجد لله. وقال الخليل: أي ولأن المساجد لله. والمراد البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة. وقال سعيد بن جبير: قالت الجن كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت{وأن المساجد لله} أي بنيت لذكر الله وطاعته. وقال الحسن: أراد بها كل البقاع؛ لأن الأرض كلها مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (أينما كنتم فصلوا فأينما صليتم فهو مسجد)"وفي الصحيح" (وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا).
وقال سعيد بن المسيب وطلق بن حبيب: أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد، وهي القدمان والركبتان واليدان والوجه؛ يقول: هذه الأعضاء أنعم الله بها عليك، فلا تسجد لغيره بها، فتجحد نعمة الله. قال عطاء: مساجدك: أعضاؤك التي أمرت أن تسجد عليها لا تذللها لغير خالقها. وفي الصحيح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين). وقال العباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب). وقيل: المساجد هي الصلوات؛ أي لأن السجود لله. قاله الحسن أيضا. فإن جعلت المساجد المواضع فواحدها مسجد بكسر الجيم، ويقال بالفتح؛ حكاه الفراء. وإن جعلتها الأعضاء فواحدها مسجد بفتح الجيم. وقيل: هو جمع مسجد وهو السجود، يقال: سجدت سجودا ومسجدا، كما تقول: ضربت في الأرض ضربا ومضربا بالفتح: إذا سرت في ابتغاء الرزق. وقال ابن عباس: المساجد هنا مكة التي هي القبلة وسميت مكة المساجد؛ لأن كل أحد يسجد إليها. والقول الأول أظهر هذه الأقوال إن شاء الله، وهو مروى عن ابن عباس رحمه الله.
قوله تعالى{لله} إضافة تشريف وتكريم، ثم خص بالذكر منها البيت العتيق فقال{وطهر بيتي}الحج: 26]. وقال عليه السلام: (لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد) الحديث خرجه الأئمة. وقد مضى الكلام فيه. وقال عليه السلام: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام). قال ابن العربي: وقد روى من طريق لا بأس بها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، فإن صلاة فيه خير من مائة صلاة في مسجدي هذا) ولو صح هذا لكان نصا.
قلت: هو صحيح بنقل العدل عن العدل حسب ما بيناه في سورة إبراهيم .
المساجد وإن كانت لله ملكا وتشريفا فإنها قد تنسب إلى غيره تعريفا؛ فيقال: مسجد فلان. وفي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق. وتكون هذه الإضافة بحكم المحلية كأنها في قبلتهم، وقد تكون بتحبيسهم، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك.
مع أن المساجد لله لا يذكر فيها إلا الله فإنه تجوز القسمة فيها للأموال. ويجوز وضع الصدقات فيها على رسم الاشتراك بين المساكين وكل من جاء أكل. ويجوز حبس الغريم فيها، وربط الأسير والنوم فيها، وسكنى المريض فيها، وفتح الباب للجار إليها، وإنشاد الشعر فيها إذا عري عن الباطل. وقد مضى هذا كله مبينا في سورة التوبة . و النور وغيرهما.
قوله تعالى{فلا تدعوا مع الله أحدا} هذا توبيخ للمشركين في دعائهم مع الله غيره في المسجد الحرام. وقال مجاهد: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها. يقول: فلا تشركوا فيها صنما وغيره مما يعبد. وقيل: المعنى أفردوا المساجد لذكر الله، ولا تتخذوها هزوا ومتجرا ومجلسا، ولا طرقا، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيبا. وفي الصحيح: [من نشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا] وقد مضى في سورة النور ما فيه كفاية من أحكام المساجد والحمد لله.
روى الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا دخل المسجد قدم رجله اليمنى. وقال: [{وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} اللهم أنا عبدك وزائرك وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار] فإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى؛ وقال: [اللهم صب علي الخير صبا ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبدا ولا تجعل معيشتي كدا، واجعل لي في الأرض جدا] أي غنى.
الآية رقم (19 : 21)
{وأنه لما قام عبدالله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا، قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا، قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا}
قوله تعالى{وأنه لما قام عبدالله يدعوه} يجوز الفتح؛ أي أوحى الله إليه أنه. ويجوز الكسر على الاستئناف. و{عبد الله} هنا محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن، حسب ما تقدم أول السورة. {يدعوه} أي يعبده. وقال ابن جريج{يدعوه} أي قام إليهم داعيا إلى الله تعالى. {كادوا يكونون عليه لبدا} قال الزبير بن العوام: هم الجن حين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم. أي كاد يركب بعضهم بعضا ازدحاما ويسقطون، حرصا على سماع القرآن. وقيل: كادوا يركبونه حرصا؛ قال الضحاك. ابن عباس: رغبة في سماع الذكر. وروى برد عن مكحول: أن الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة وكانوا سبعين ألفا، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر. وعن ابن عباس أيضا: إن هذا من قول الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود. وقيل: المعنى كاد المشركون يركبون بعضهم بعضا، حردا على النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن وقتادة وابن زيد: يعني {لما قام عبد الله} محمد بالدعوة تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، وأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره. واختار الطبري أن يكون المعنى: كادت العرب يجتمعون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به. وقال مجاهد: قوله {لبدا} جماعات وهو من تلبد الشيء على الشيء أي تجمع؛ ومنه اللبد الذي يفرش لتراكم صوفه، وكل شيء ألصقته إلصاقا شديدا فقد لبدته، وجمع اللبدة لبد مثل قربة وقرب. ويقال للشعر الذي على ظهر الأسد لبدة وجمعها لبد؛ قال زهير:
لدى أسد شاكي السلاح مقذف له لِبَد أظفاره لم تقلَّم
ويقال للجراد الكثير: لبد وفيه أربع لغات وقراءات؛ فتح الباء وكسر اللام، وهي قراءة العامة. وضم اللام وفتح الباء، وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وهشام عن أهل الشام، واحدتها لبدة. وبضم اللام والباء، وهي قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميقع وأبي الأشهب العقيلي والجحدري واحدها لبد مثل سقف وسقف ورهن ورهن. وبضم اللام وشد الباء وفتحها، وهي قراءة الحسن وأبي العالية والأعرج والجحدري أيضا واحدها لابد؛ مثل راكع وركع، وساجد وسجد. وقيل: اللبد بضم اللام وفتح الباء الشيء الدائم؛ ومنه قيل لنسر لقمان لبد لدوامه وبقائه؛ قال النابغة:
أخنى عليها الذي أخنى على لبد
القشيري: وقرئ {لبدا} بضم اللام والباء، وهو جمع لبيد، وهو الجولق الصغير. وفي الصحاح: [وقوله تعالى] {أهلكت مالا لبدا} أي جما.
ويقال أيضا: الناس لبد أي مجتمعون، واللبد أيضا الذي لا يسافر ولا يبرح [منزله]. قال الشاعر:
من امرئ ذي سماح لا تزال له بزلاء يعيا بها الجثامة اللبد
ويروى: اللبد. قال أبو عبيد: وهو أشبه.
والبزلاء: الرأي الجيد. وفلان نهاض ببزلاء: إذا كان ممن يقوم بالأمور العظام؛ قال الشاعر:
إني إذا شغلت قوما فروجهم رحب المسالك نهاض ببزلاء
ولبد: آخر نسور لقمان، وهو ينصرف؛ لأنه ليس بمعدول. وتزعم العرب أن لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم يستسقي لها، فلما أهلكوا خير لقمان بين بقاء سبع بعرات سمر، من أظب عفر، في جبل وعر، لا يمسها القطر؛ أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر، فاختار النسور، وكان آخر نسوره يسمى لبدا، وقد ذكرته الشعراء؛ قال النابغة:
أضحت خلاء وأمسى أهلها احتملوا أخنى عليها الذي أخنى على لبد
واللبيد: الجوالق الصغير؛ يقال: ألبدت القربة جعلتها في لبيد. ولبيد: اسم شاعر من بني عامر.
قوله تعالى{قال إنما أدعو ربي} أي قال صلى الله عليه وسلم{إنما أدعو ربي} {ولا أشرك به أحدا{ وكذا قرأ أكثر القراء }قال{ على الخبر. وقرأ حمزة وعاصم {قل} على الأمر. وسبب نزولها أن كفار قريش قالوا له: إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك؛ فنزلت. {قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا} أي لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق لكم خيرا. وقيل{لا أملك لكم ضرا} أي كفرا {ولا رشدا} أي هدى؛ أي إنما علي التبليغ. وقيل: الضر: العذاب، والرشد النعيم. وهو الأول بعينه. وقيل: الضر الموت، والرشد الحياة.
الآية رقم (22 : 25)
{قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا، إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا، حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا، قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا}
قوله تعالى{قل إني لن يجيرني من الله أحد} أي لا يدفع عذابه عني أحد إن استحفظته؛ وهذا لأنهم قالوا أترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك. وروى أبو الجوزاء عن ابن مسعود قال: انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون فخط علي خطا، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه، فقال سيد لهم يقال له وردان: أنا أزجلهم عنك؛ فقال: (إني لن يجيرني من الله أحد) ذكره الماوردي. قال: ويحتمل معنيين أحدهما لن يجيرني مع إجارة الله لي أحد. الثاني لن يجيرني مما قدره الله تعالى علي أحد. {ولن أجد من دونه ملتحدا} أي ملتجأ ألجأ إليه؛ قال قتادة. وعنه: نصيرا ومولى. السدي: حرزا. الكلبي: مدخلا في الأرض مثل السرب. وقيل: وليا ولا مولى. وقيل: مذهبا ولا مسلكا. حكاه ابن شجرة، والمعنى واحد؛ ومنه قول الشاعر:
يا لهف نفسي ولهفي غير مجدية عني وما من قضاء الله ملتحد
قوله تعالى{إلا بلاغا من الله ورسالاته} فإن فيه الأمان والنجاة؛ قال الحسن.
وقال قتادة{إلا بلاغا من الله} فذلك الذي أملكه بتوفيق الله، فأما الكفر والإيمان فلا أملكهما. فعلى هذا يكون مردودا إلى قوله تعالى{قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا} أي لا أملك لكم إلا أن أبلغكم. وقيل: هو استثناء ومنقطع من قوله{لا أملك لكم ضرا ولا رشدا} أي إلا أن أبلغكم أي لكن أبلغكم ما أرسلت به؛ قاله الفراء. وقال الزجاج: هو منصوب على البدل من قوله{ملتحدا} أي {ولن أجد من دونه ملتحدا} إلا أن أبلغ ما يأتيني من الله ورسالاته؛ أي ومن رسالاته التي أمرني بتبليغها. أو إلا أن أبلغ عن الله وأعمل برسالته، فآخذ نفسي بما أمر به غيري.
وقيل هو مصدر، و{لا} بمعنى لم، و{إن} للشرط. والمعنى لن أجد من دونه ملتحدا: أي إن لم أبلغ رسالات ربي بلاغا.
قوله تعالى{ومن يعص الله ورسوله} في التوحيد والعبادة. {فإن له نار جهنم} كسرت إن؛ لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء وقد تقدم. {خالدين فيها} نصب على الحال، وجمع {خالدين} لأن المعنى لكل من فعل ذلك، فوحد أولا للفظ {من} ثم جمع للمعنى. وقوله {أبدا} دليل على أن العصيان هنا هو الشرك. وقيل: هو المعاصي غير الشرك، ويكون معنى {خالدين فيها أبدا} إلا أن أعفو أو تلحقهم شفاعة، ولا محالة إذا خرجوا من الدنيا على الإيمان يلحقهم العفو. وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة النساء وغيرها.
قوله تعالى{حتى إذا رأوا ما يوعدون} {حتى} هنا مبتدأ، أي {حتى إذا رأوا ما يوعدون} من عذاب الآخرة، أو ما يوعدون من عذاب الدنيا، وهو القتل ببدر {فسيعلمون} حينئذ {من أضعف ناصرا} أهم أم المؤمنون. {وأقل عددا} معطوف. {قل إن أدري أقريب ما توعدون} يعني قيام الساعة. وقيل: عذاب الدنيا؛ أي لا أدري {فإن} بمعنى {ما} أو {لا}؛ أي لا يعرف وقت نزول العذاب ووقت قيام الساعة إلا الله؛ فهو غيب لا أعلم منه إلا ما يعرفنيه الله. و{ما} في قوله{ما يوعدون}: يجوز [أن يكون مع الفعل مصدرا، ويجوز] أن تكون بمعنى الذي ويقدر حرف العائد. {أم يجعل له ربي أمدا} أي غاية وأجلا. وقرأ العامة بإسكان الياء من ربي. وقرأ الحرميان وأبو عمرو بالفتح.
الآية رقم (26 : 27)
{عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا}
قوله تعالى{عالم الغيب} {عالم} رفعا نعتا لقوله{ربي}. وقيل: أي هو {عالم الغيب} والغيب ما غاب عن العباد. وقد تقدم بيانه. {فلا يظهر على غيبه أحدا. إلا من ارتضى من رسول} فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه؛ لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات؛ وفي التنزيل{وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم}آل عمران: 49]. وقال ابن جبير{رإلا من ارتضى من رسول} هو جبريل عليه السلام. وفيه بعد، والأولى أن يكون المعنى: أي لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى أي اصطفى للنبوة، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه: ليكون ذلك دالا على نبوته.
قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم. وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان على اختلاف أحوالهم، وتباين رتبهم، فيهم الملك والسوقة، والعالم والجاهل، والغني والفقير، والكبير والصغير، مع اختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم؛ فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة؟ فإن قال المنجم قبحه الله: إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه المخصوص به، فلا فائدة أبدا في عمل المواليد، ولا دلالة فيها على شقي ولا سعيد، ولم يبق إلا معاندة القرآن العظيم. وفيه استحلال دمه على هذا التنجيم، ولقد أحسن الشاعر حيث قال:
حكم المنجم أن طالعَ مولدي يقضي علي بمِيتة الغَرِق
قل للمنجم صَبحة الطوفان هل ولد الجميع بكوكب الغرق
وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج: أتلقاهم والقمر في العقرب؟ فقال رضي الله عنه: فأين قمرهم؟ وكان ذلك في آخر الشهر. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من المبالغة في الرد على من يقول بالتنجيم، والإفحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم. وقال له مسافر بن عوف: يا أمير المؤمنين! لا تسر في هذه الساعة وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار. فقال له علي رضي الله عنه: ولم؟ قال: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت. فقال علي رضي الله عنه: ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم، ولا لنا من بعده - من كلام طويل يحتج فيه بآيات من التنزيل - فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ندا أو ضدا، اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك. ثم قال للمتكلم: نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها. ثم أقبل على الناس فقال: يا إيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر؛ وإنما المنجم كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها، ولقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في الصحيح لمسلم. ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال قائل سار في الساعة التي أمر بها المنجم، ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده، فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان - ثم قال: يا أيها الناس! توكلوا على الله وثقوا به؛ فإنه يكفي ممن سواه.
قوله تعالى{فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا} يعني ملائكة يحفظونه عن أن يقرب منه شيطان؛ فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة. قال الضحاك: ما بعث الله نبيا إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن أن يتشبهوا بصورة الملك، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا: هذا شيطان فاحذره. وإن جاءه الملك قالوا: هذا رسول ربك. وقال ابن عباس وابن زيد{رصدا} أي حفظة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من أمامه وورائه من الجن والشياطين. قال قتادة وسعيد بن المسيب: هم أربعة من الملائكة حفظة.
وقال الفراء: المراد جبريل؛ كان إذا نزل بالرسالة نزلت معه ملائكة يحفظونه من أن تستمع الجن الوحي، فيلقوه إلى كهنتهم، فيسبقوا الرسول. وقال السدي{رصدا} أي حفظة يحفظون الوحي، فما جاء من عند الله قالوا: إنه من عند الله، وما ألقاه الشيطان قالوا: إنه من الشيطان. و{رصدا} نصب على المفعول. وفي الصحاح: والرصد القوم يرصدون كالحرس، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث وربما قالوا أرصادا. والراصد للشيء الراقب له؛ يقال: رصده يرصده رصدا ورصدا. والترصد الترقب والمرصد موضع الرصد.
الآية رقم (28)
{ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا}
قوله تعالى{ليعلم} قال قتادة ومقاتل: أي ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة. وفيه حذف يتعلق به اللام؛ أي أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ بالحق والصدق. وقيل: ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه؛ قال ابن جبير. قال: ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة عليهم السلام. وقيل: ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم. وقيل: ليعلم الرسول أي رسول كان أن الرسل سواه بلغوا. وقيل: أي ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق أصحابه. وقال ابن قتيبة: أي ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما نزل عليهم ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم. وقال مجاهد: ليعلم من كذب الرسل أن المرسلين قد بلغوا رسالات ربهم. وقراءة الجماعة {ليعلم} بفتح الياء وتأويله ما ذكرناه. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد ويعقوب بضم الياء أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا. وقال الزجاج: أي ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته بفتح الياء؛ كقوله تعالى{ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}آل عمران: 142] المعنى ليعلم الله ذلك علم مشاهدة كما علمه غيبا. {وأحاط بما لديهم} أي أحاط علمه بما عندهم، أي بما عند الرسل وما عند الملائكة. وقال ابن جبير: المعنى: ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط علمه بما لديهم، فيبلغوا رسالاته. {وأحصى كل شيء عددا} أي أحاط بعدد كل شيء وعرفه وعلمه فلم يخف عليه منه شيء. و{عددا} نصب على الحال، أي أحصى كل شيء في حال العدد، وإن شئت على المصدر، أي أحصى وعد كل شيء عددا، فيكون مصدر الفعل المحذوف. فهو سبحانه المحصي المحيط العالم الحافظ لكل شيء وقد بينا جميعه في الكتاب الأسنى، في شرح أسماء الله الحسنى. والحمد لله وحده
(مكية) وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها{واصبر على ما يقولون}المزمل: 10] والتي تليها؛ ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: قوله تعالى{إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى}المزمل: 20] إلى آخر السورة؛ فإنه نزل بالمدينة.
الآية رقم (1 : 4)
{يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا}
قوله تعالى{يا أيها المزمل} قال الأخفش سعيد{المزمل} أصله المتزمل؛ فأدغمت التاء في الزاي وكذلك المدثر . وقرأ أبي بن كعب على الأصل المتزمل و المتدثر وسعيد المزمل . وفي أصل المزمل قولان: أحدهما أنه المحتمل؛ يقال: زمل الشيء إذا حمله، ومنه الزاملة؛ لأنها تحمل القماش. الثاني أن المزمل هو المتلفف؛ يقال: تزمل وتدثر بثوبه إذا تغطى. وزمل غيره إذا غطاه، وكل شيء لفف فقد زمل ودثر؛ قال امرؤ القيس:
كبير أناس في بجاد مزمل
قوله تعالى{يا أيها المزمل} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه ثلاثة أقوال: الأول قول عكرمة{يا أيها المزمل} بالنبوة والملتزم للرسالة. وعنه أيضا: يا أيها الذي زمل هذا الأمر أي حمله ثم فتر، وكان يقرأ{يا أيها المزمَّل} بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها على حذف المفعول، وكذلك المدثر والمعنى المزمل نفسه والمدثر نفسه، أو الذي زمله غيره. الثاني{يا أيها المزمل} بالقرآن، قاله ابن عباس. الثالث المزمل بثيابه، قال قتادة وغيره. قال النخعي: كان متزملا بقطيفة. عائشة: بمرط طوله أربعة عشر ذراعا، نصفه علي وأنا نائمة، ونصفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، والله ما كان خزا ولا قزا ولا مرعزاء ولا إبريسما ولا صوفا، كان سداه شعرا، ولحمته وبرا، ذكره الثعلبي.
قلت: وهذا القول من عائشة يدل على أن السورة مدنية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبن بها إلا في المدينة. وما ذكر من أنها مكية لا يصح. والله أعلم.
وقال الضحاك: تزمل بثيابه لمنامه. وقيل: بلغه من المشركين سوء قول فيه، فاشتد عليه فتزمل في ثيابه وتدثر، فنزلت{يا أيها المزمل}المزمل: 1] و{يا أيها المدثر}المدثر: 1]. وقيل: كان هذا في ابتداء ما أوحى إليه، فإنه لما سمع قول الملك ونظر إليه أخذته الرعدة فأتى أهله فقال: (زملوني دثروني) روي معناه عن ابن عباس. وقالت الحكماء: إنما خاطبه بالمزمل والمدثر في أول الأمر؛ لأنه لم يكن بعد ادثر شيئا من تبليغ الرسالة. قال ابن العربي: واختلف في تأويل{يا أيها المزمل} فمنهم من حمله على حقيقته، قيل له: يا من تلفف في ثيابه أو في قطيفته قم؛ قال إبراهيم وقتادة. ومنهم من حمله على المجاز، كأنه قيل له: يا من تزمل بالنبوة؛ قاله عكرمة. وإنما يسوغ هذا التفسير لو كانت الميم مفتوحة مشددة بصيغة المفعول الذي لم يسم فاعله، وأما وهو بلفظ الفاعل فهو باطل.
قلت: وقد بينا أنها على حذف المفعول: وقد قرئ بها، فهي صحيحة المعنى. قال: وأما من قال إنه زمل القرآن فهو صحيح في المجاز، لكنه قد قدمنا أنه لا يحتاج إليه.
قال السهيلي: ليس المزمل باسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف به كما ذهب إليه بعض الناس وعدوه في أسمائه عليه السلام، وإنما المزمل اسم مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب، وكذلك المدثر. وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان: إحداهما الملاطفة؛ فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين غاضب فاطمة رضي الله عنهما، فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب فقال له: (قم يا أبا تراب) إشعارا له أنه غير عاتب عليه، وملاطفة له. وكذلك قوله عليه السلام لحذيفة: (قم يا نومان) وكان نائما ملاطفة له، وإشعارا لترك العتب والتأنيب. فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم{يا أيها المزمل قم} فيه تأنيس وملاطفة؛ ليستشعر أنه غير عاتب عليه. والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه؛ لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة.
قوله تعالى{قم الليل} قراءة العامة بكسر الميم لالتقاء الساكنين. وقرأ أبو السمال بضم الميم إتباعا لضمة القاف. وحكى الفتح لخفته. قال عثمان بن جني: الغرض بهذه الحركة التبليغ بها هربا من التقاء الساكنين، فبأي حركة تحركت فقد وقع الغرض. وهو من الأفعال القاصرة غير المتعدية إلى مفعول، فأما ظرف الزمان والمكان فسائغ فيه، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة؛ لا تقول: قمت الدار حتى تقول قمت وسط الدار وخارج الدار. وقد قيل: إن {قم} هنا معناه صل؛ عبر به عنه واستعير له حتى صار عرفا بكثرة الاستعمال.
{الليل} حد الليل: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقد تقدم بيانه في سورة البقرة . واختلف: هل كان قيامه فرضا وحتما، أو كان ندبا وحضا؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان حتما وفرضا؛ وذلك أن الندب والحض لا يقع على بعض الليل دون بعض؛ لأن قيامه ليس مخصوصا به وقتا دون وقت. وأيضا فقد جاء التوقيت بذلك عن عائشة وغيرها على ما يأتي. واختلف أيضا: هل كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء، أو عليه وعلى أمته؟ ثلاثة أقوال: الأول: قول سعيد بن جبير لتوجه الخطاب إليه خاصة. الثاني: قول ابن عباس، قال: كان قيام الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله. الثالث: قول عائشة وابن عباس أيضا وهو الصحيح؛ كما في صحيح مسلم عن زرارة بن أوفى أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل الله... الحديث، وفيه: فقلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ألست تقرأ{يا أيها المزمل} قلت: بلى! قالت فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا، وأمسك الله عز وجل خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء، حتى أنزل الله عز وجل في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة. وذكر الحديث. وذكر وكيع ويعلى قالا: حدثنا مسعر عن سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس يقول لما أنزل أول {يا أيها المزمل}المزمل: 1] كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها، وكان بين أولها وآخرها نحو من سنة. وقال سعيد بن جبير: مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل، فنزل بعد عشر سنين{إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل}المزمل: 20] فخفف الله عنهم.
قوله تعالى{إلا قليلا} استثناء من الليل، أي صل الليل كله إلا يسيرا منه؛ لأن قيام جميعه على الدوام غير ممكن، فاستثنى منه القليل لراحة الجسد. والقليل من الشيء ما دون النصف؛ فحكي عن وهب بن منبه أنه قال: القليل ما دون المعشار والسدس. وقال الكلبي ومقاتل: الثلث. {نصفه أو انقص منه قليلا} فكان ذلك تخفيفا إذ لم يكن زمان القيام محدودا، فقام الناس حتى ورمت أقدامهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى{علم أن لن تحصوه}المزمل: 20]. وقال الأخفش{نصفه} أي أو نصفه؛ يقال: أعطه درهما درهمين ثلاثة: يريد: أو درهمين أو ثلاثة. وقال الزجاج{نصفه} بدل من الليل و{إلا قليلا} استثناء من النصف. والضمير في {منه} و{عليه} للنصف. المعنى: قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد عليه قليلا إلى الثلثين؛ فكأنه قال: قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه. وقيل: إن {نصفه} بدل من قوله{قليلا} وكان مخيرا بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه، وبين الناقص منه، وبين قيام الزائد عليه؛ كأن تقدير الكلام: قم الليل إلا نصفه، أو أقل من نصفه، أو أكثر من نصفه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول، فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر). ونحوه عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعا وهو يدل على ترغيب قيام ثلثي الليل."وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة"قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مضى شطر الليل - أو ثلثاه - ينزل الله...) الحديث. رواه من طريقين عن أبي هريرة هكذا على الشك. وقد جاء في كتاب النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يمهل حتى يمضى شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديا يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى؟) صححه أبو محمد عبدالحق؛ فبين هذا الحديث مع صحته معنى النزول، وأن ذلك يكون عند نصف الليل."خرج ابن ماجة من حديث ابن شهاب" عن أبي سلمة وأبي عبدالله الأغر، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة فيقول من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر). فكانوا يستحبون صلاة آخر الليل على أوله. قال علماؤنا: وبهذا الترتيب انتظم الحديث والقرآن، فإنهما يبصران من مشكاة واحدة. وفي الموطأ وغيره من حديث ابن عباس: بت عند خالتي ميمونة حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إلى شن معلق فتوضأ وضوءا خفيفا. وذكر الحديث.
اختلف العلماء في الناسخ للأمر بقيام الليل؛ فعن ابن عباس وعائشة أن الناسخ للأمر بقيام الليل قوله تعالى{إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل}المزمل: 20] إلى آخر السورة. وقيل قوله تعالى{علم أن لن تحصوه}المزمل: 20].
وعن ابن عباس أيضا: هو منسوخ بقوله تعالى{علم أن سيكون منكم مرضى}المزمل: 20]. وعن عائشة أيضا والشافعي ومقاتل وابن كيسان: هو منسوخ بالصلوات الخمس. وقيل الناسخ لذلك قوله تعالى{فاقرؤوا ما تيسر منه}المزمل: 20]. قال أبو عبدالرحمن السلمي: لما نزلت{يا أيها المزمل} قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، ثم نزل قوله تعالى{فاقرؤوا ما تيسر منه}المزمل: 20].
قال بعض العلماء: وهو فرض نسخ به فرض، كان على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لفضله؛ كما قال تعالى{ومن الليل فتهجد به نافلة لك}الإسراء: 79].
قلت: القول الأول يعم جميع هذه الأقوال، وقد قال تعالى{وأقيموا الصلاة}المزمل: 20] فدخل فيها قول من قال إن الناسخ الصلوات الخمس. وقد ذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو على قدر حلب شاة. وعن الحسن أيضا أنه قال في هذه الآية: الحمد لله تطوع بعد الفريضة. وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لما جاء في قيامه من الترغيب والفضل في القرآن والسنة.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أجعل للنبي صلى الله عليه وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل، فتسامع الناس به، فلما رأى جماعتهم كره ذلك، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فدخل البيت كالمغضب، فجعلوا يتنحنحون ويتفلون فخرج إليهم فقال: (أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب، حتى تملوا من العمل، وإن خير العمل أدومه وإن قل). فنزلت{يا أيها المزمل} فكتب عليهم، فأنزل بمنزلة الفريضة، حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل فيتعلق به، فمكثوا ثمانية أشهر، فرحمهم الله وأنزل{إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل}المزمل: 20] فردهم الله إلى الفريضة، ووضع عنهم قيام الليل إلا ما تطوعوا به.
قلت: حديث عائشة هذا ذكره الثعلبي، ومعناه ثابت في الصحيح إلى قوله: (وإن قل) وباقيه يدل على أن قوله تعالى{يا أيها المزمل} نزل بالمدينة وأنهم مكثوا ثمانية أشهر يقومون. وقد تقدم عنها في صحيح مسلم: حولا. وحكى الماوردي عنها قولا ثالثا وهو ستة عشر شهرا، لم يذكر غيره عنها. وذكر عن ابن عباس أنه كان بين أول المزمل وآخرها سنة؛ قال: فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضا عليه. وفي نسخة عنه قولان: أحدهما: أنه كان فرضه عليه إلى أن قبضه الله تعالى. الثاني: أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته. وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان: أحدهما: المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين، يريد قول ابن عباس حولا، وقول عائشة ستة عشر شهرا. الثاني: أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ زيادة في التكليف، ليميزه بفعل الرسالة؛ قاله ابن جبير.
قلت: هذا خلاف ما ذكره الثعلبي عن سعيد بن جبير حسب ما تقدم فتأمله. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى{ورتل القرآن ترتيلا} أي لا تعجل بقراءة القرآن بل أقرأه في مهل وبيان مع تدبر المعاني. وقال الضحاك: اقرأه حرفا حرفا. وقال مجاهد: أحب الناس في القراءة إلى الله أعقلهم عنه. والترتيل التنضيد والتنسيق وحسن النظام؛ ومنه ثغر رتل ورتل، بكسر العين وفتحها: إذا كان حسن التنضيد. وتقدم بيانه في مقدمة الكتاب. وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم، مر برجل يقرأ آية ويبكي، فقال: (ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل{ورتل القرآن ترتيلا} هذا الترتيل). وسمع علقمة رجلا يقرأ قراءة حسنة فقال: لقد رتل القرآن، فداه أبي وأمي، وقال أبو بكر بن طاهر: تدبر في لطائف خطابه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه، وقلبك بفهم معانيه، وسرك بالإقبال عليه. وروى عبدالله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة، فيوقف في أول درج الجنة ويقال له أقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها) "خرجه أبو داود" وقد تقدم في أول الكتاب. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمد صوته بالقراءة مدا.
الآية رقم (5)
{إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا}
قوله تعالى{إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} هو متصل بما فرض من قيام الليل، أي سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل قولا ثقيلا يثقل حمله؛ لأن الليل للمنام، فمن أمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل شديد على النفس ومجاهدة للشيطان، فهو أمر يثقل على العبد. وقيل: إنا سنوحي إليك القرآن، وهو قول ثقيل يثقل العمل بشرائعه. قال قتادة: ثقيل والله فرائضه وحدوده. مجاهد: حلاله وحرامه. الحسن: العمل به. أبو العالية: ثقيلا بالوعد والوعيد والحلال والحرام. محمد بن كعب: ثقيلا على المنافقين. وقيل: على الكفار؛ لما فيه من الاحتجاج عليهم، والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم، والكشف عما حرفه أهل الكتاب. السدي: ثقيل بمعنى كريم؛ مأخوذ من قولهم: فلان ثقيل علي، أي يكرم علي. الفراء{ثقيلا} رزينا ليس بالخفيف السفساف لأنه كلام ربنا. وقال الحسين بن الفضل: ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق، ونفس مزينة بالتوحيد. وقال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك، كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة. وقيل{ثقيلا} أي ثابتا كثبوت الثقيل في محله، ويكون معناه أنه ثابت الإعجاز، لا يزول إعجازه أبدا. وقيل: هو القرآن نفسه؛ كما جاء في الخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها - يعني صدرها - على الأرض، فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه. وفي الموطأ وغيره أنه عليه السلام سئل: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: (أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول). قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.
قال ابن العربي: وهذا أولى؛ لأنه الحقيقة، وقد جاء{وما جعل عليكم في الدين من حرج}الحج: 78]. وقال عليه السلام{بعثت بالحنيفية السمحة}. وقيل: القول في هذه السورة: هو قول لا إله إلا الله؛ إذ في الخبر: خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان؛ ذكره القشيري.
الآية رقم (6 : 7)
{إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا، إن لك في النهار سبحا طويلا}
قوله تعالى{إن ناشئة الليل} قال العلماء: ناشئة الليل أي أوقاته وساعاته، لأن أوقاته تنشأ أولا فأولا؛ يقال: نشأ الشيء ينشأ: إذا ابتدأ وأقبل شيئا بعد شيء، فهو ناشئ وأنشأه الله فنشأ، ومنه نشأت السحابة إذا بدأت وأنشأها الله؛ فناشئة: فاعلة من نشأت تنشأ فهي ناشئة، ومنه قوله تعالى{أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين}الزخرف: 18] والمراد إن ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف عن الاسم، فالتأنيث للفظ ساعة، لأن كل ساعة تحدث. وقيل: الناشئة مصدر بمعنى (قيام الليل) كالخاطئة والكاذبة؛ أي إن نشأة الليل هي أشد وطئا. وقيل: إن ناشئة الليل قيام الليل. قال ابن مسعود: الحبشة يقولون: نشأ أي قام، فلعله أراد أن الكلمة عربية، ولكنها شائعة في كلام الحبشة، غالبة عليهم، وإلا فليس في القرآن ما ليس في لغة العرب. وقد تقدم بيان هذا في مقدمة الكتاب مستوفى.
بين تعالى في هذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النهار، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن، أعظم للأجر، وأجلب للثواب. واختلف العلماء في المراد بناشئة الليل؛ فقال ابن عمر وأنس بن مالك: هو ما بين المغرب والعشاء، تمسكا بأن لفظ نشأ يعطي الابتداء، فكان بالأولية أحق؛ ومنه قول الشاعر:
ولولا أن يقال صبا نصيب لقلت بنفسي النشأ الصغار
وكان علي بن الحسين يصلي بين المغرب والعشاء ويقول: هذا ناشئة الليل. وقال عطاء وعكرمة: إنه بدء الليل. وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هي الليل كله؛ لأنه ينشأ بعد النهار، وهو الذي اختاره مالك بن أنس. قال ابن العربي: وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة. وقالت عائشة وابن عباس أيضا ومجاهد: إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم. ومن قام أول الليل قبل النوم فما قام ناشئة. فقال يمان وابن كيسان: هو القيام من آخر الليل. وقال ابن عباس: كانت صلاتهم أول الليل. وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ. وفي الصحاح: وناشئة الليل أول ساعاته. وقال القتبي: إنه ساعات الليل؛ لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة. وعن الحسن ومجاهد: هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح. وعن الحسن أيضا: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة. ويقال: ما ينشأ في الليل من الطاعات؛ حكاه الجوهري.
قوله تعالى{هي أشد وطئا} قرأ أبو العالية وأبو عمرو وابن أبي إسحاق ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن عامر والمغيرة وأبو حيوة {وطاء} بكسر الواو وفتح الطاء والمد، واختاره أبو عبيد. الباقون {وطئا} بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة، واختاره أبو حاتم؛ من قولك: اشتدت على القوم وطأة سلطانهم. أي ثقل عليهم ما حملهم من المؤن، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اشدد وطأتك على مضر) فالمعنى أنها أثقل على المصلي من ساعات النهار. وذلك أن الليل وقت منام وتودع وإجمام، فمن شغله بالعبادة فقد تحمل المشقة العظيمة. ومن مد فهو مصدر واطأت وطاء ومواطأة أي وافقته. ابن زيد واطأته على الأمر مواطأة: إذا وافقته من الوفاق، وفلان يواطئ اسمه اسمي، وتواطؤوا عليه أي توافقوا؛ فالمعنى أشد موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان؛ لانقطاع الأصوات والحركات؛ قال مجاهد وابن أبي مليكة وغيرهما. وقال ابن عباس بمعناه، أي يواطئ السمع القلب؛ قال الله تعالى{ليواطئوا عدة ما حرم الله}التوبة: 37] أي ليوافقوا. وقيل: المعنى أشد مهادا للتصرف في التفكر والتدبر. والوطاء خلاف الغطاء. وقيل{أشد وطئا} بسكون الطاء وفتح الواو أي أشد ثباتا من النهار؛ فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله، فيكون ذلك أثبت للعمل وأتقى لما يلهي ويشغل القلب. والوطء الثبات، تقول: وطئت الأرض بقدمي. وقال الأخفش: أشد قياما. الفراء: أثبت قراءة وقياما. وعنه{أشد وطئا} أي أثبت للعمل وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة، والليل وقت فراغ عن اشتغال المعاش، فعبادته تدوم ولا تنقطع. وقال الكلبي{أشد وطئا} أي أشد نشاطا للمصلي؛ لأنه في، زمان راحته. وقال عبادة{أشد وطأ} أي نشاطا للمصلي وأخف، وأثبت للقراءة.
قوله تعالى{وأقوم قيلا{ أي القراءة بالليل أقوم منها بالنهار؛ أي أشد استقامة واستمرارا على الصواب؛ لأن الأصوات هادئة، والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه. قال قتادة ومجاهد: أي أصوب للقراءة وأثبت للقول؛ لأنه زمان التفهم. وقال أبو علي{أقوم قيلا} أي أشد استقامة لفراغ البال بالليل. وقيل: أي أعجل إجابة للدعاء. حكاه ابن شجرة. وقال عكرمة: عبادة الليل أتم نشاطا، وأتم إخلاصا، وأكثر بركة. وعن زيد بن أسلم: أجدر أن يتفقه في القرآن. وعن الأعمش قال: قرأ أنس بن مالك {إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا{ فقيل له}وأقوم قيلا{ فقال: أقوم وأصوب وأهيأ: سواء. قال أبو بكر الأنباري: وقد ترامى ببعض هؤلاء الزائغين إلى أن قال: من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآن فهو. مصيب، إذا لم يخالف معنى ولم يأت بغير ما أراد الله وقصد له، واحتجوا بقول أنس هذا. وهو قول لا يعرج عليه ولا يلتفت إلى قائله؛ لأنه لو قرأ بألفاظ تخالف ألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها واشتملت على عامتها، لجاز أن يقرأ في موضع {الحمد لله رب العالمين}الفاتحة: 2]: الشكر للباري ملك المخلوقين، ويتسع الأمر في هذا حتى يبطل لفظ جميع القرآن، ويكون التالي له مفتريا على الله عز وجل، كاذبا على رسوله صلى الله عليه وسلم ولا حجة لهم في قول ابن مسعود: نزل القرآن على سبعة أحرف، إنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال وأقبل؛ لأن هذا الحديث يوجب أن القراءات المأثورة المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اختلفت ألفاظها، واتفقت معانيها، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في هلم، وتعال، وأقبل، فأما ما لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعوهم رضي الله عنهم، فإنه من أورد حرفا منه في القرآن بهت ومال وخرج من مذهب الصواب. قال أبو بكر: والحديث الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة حديث لا يصح عن أحد من أهل العلم؛ لأنه مبني على رواية الأعمش عن أنس، فهو مقطوع ليس بمتصل فيؤخذ به، من قبل أن الأعمش رأى أنسا ولم يسمع منه.
قوله تعالى{إن لك في النهار سبحا طويلا} قراءة العامة بالحاء غير معجمة؛ أي تصرفا في حوائجك، وإقبالا وإدبارا وذهابا ومجيئا. والسبح: الجري والدوران، ومنه السابح في الماء؛ لتقلبه بيديه ورجليه. وفرس سابح: شديد الجري؛ قال امرؤ القيس:
مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن الغبار بالكديد المركل
وقيل: السبح الفراغ؛ أي إن لك فراغا للحاجات بالنهار. وقيل{إن لك في النهار سبحا} أي نوما، والتسبح التمدد؛ ذكره الخليل. وعن ابن عباس وعطاء: (سبحا طويلا) يعني فراغا طويلا لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك، وقال الزجاج: إن فاتك في الليل، شيء فلك في النهار فراغ الاستدراك.
وقرأ يحيى بن يعمر وأبو وائل {سبخا} بالخاء المعجمة. قال المهدوي: ومعناه النوم روى ذلك عن القارئين بهذه القراءة. وقيل: معناه الخفة والسعة والاستراحة؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد دعت على سارق ردائها: (لا تسبخي عنه بدعائك عليه). أي لا تخففي عنه إثمه؛ قال الشاعر:
فسبخ عليك الهم واعلم بأنه إذا قدر الرحمن شيئا فكائن
الأصمعي: يقال سبخ الله عنك الحمى أي خففها. وسبخ الحر: فتر وخف. والتسبيخ النوم الشديد. والتسبيخ أيضا توسيع القطن والكتان والصوف وتنفيشها؛ يقال للمرأة: سبخي قطنك. والسبيخ من القطن ما يسبخ بعد الندف، أي يلف لتغزله المرأة، والقطعة منه سبيخة، وكذلك من الصوف والوبر. ويقال لقطع القطن سبائخ؛ قال الأخطل يصف القناص والكلاب:
فأرسلوهن يذرين التراب كما يذري سبائخ قطن ندف أوتار
وقال ثعلب: السبخ بالخاء التردد والاضطراب، والسبخ أيضا السكون؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمى من فيح جهنم، فسبخوها بالماء) أي سكنوها. وقال أبو عمرو: السبخ:: النوم والفراغ.
قلت: فعلى هذا يكون من الأضداد وتكون بمعنى السبح، بالحاء غير المعجمة.
الآية رقم (8)
{واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا}
قوله تعالى{واذكر اسم ربك} أي ادعه بأسمائه الحسنى، ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة. وقيل: أي اقصد بعملك وجه ربك، وقال سهل: اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك، وتقطعك عما سواه. وقيل: اذكر اسم ربك في وعده ووعيده، لتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته. وقال الكلبي: صل لربك أي بالنهار.
قلت: وهذا حسن فإنه لما ذكر الليل ذكر النهار؛ إذ هو قسيمه؛ وقد قال الله تعالى{وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر}الفرقان: 62] على ما تقدم.
قوله تعالى{وتبتل إليه تبتيلا} التبتل: الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل؛ أي انقطع بعبادتك إليه، ولا تشرك به غيره. يقال: بتلت الشيء أي قطعته، ومنه قولهم: طلقها بتة بتلة، وهذه صدقة بتة بتلة؛ أي بائنة منقطعة عن صاحبها،؛ أي قطع ملكه عنها بالكلية؛ ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى، ويقال للراهب متبتل؛ لانقطاعه عن الناس، وانفراده بالعبادة، قال:
تضيء الظلام بالعشاء كأنها منارة ممسى راهب متبتل
وفي الحديث النهي عن التبتل، وهو الانقطاع عن الناس والجماعات. وقيل: إن أصله عند العرب التفرد؛ قال ابن عرفة. والأول أقوى لما ذكرنا. ويقال: كيف قال: تبتيلا، ولم يقل تبتلا؟ قيل له: لأن معنى تبتل بتل نفسه، فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل.
قد مضى في المائدة في تفسير قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم}المائدة: 87] كراهة لمن تبتل وانقطع وسلك سبيل الرهبانية بما فيه كفاية. قال ابن العربي: وأما اليوم وقد مرجت عهود الناس، وخفت أماناتهم، واستولى الحرام على الحطام، فالعزلة خير من الخلطة، والعزبة أفضل من التأهل، ولكن معنى الآية: انقطع عن الأوثان والأصنام وعن عبادة غير الله، وكذلك قال مجاهد: معناه: أخلص له العبادة، ولم يرد التبتل، فصار التبتل مأمورا به في القرآن، منهيا عنه في السنة، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي؛ فلا يتناقضان، وإنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم؛ فالتبتل المأمور به: الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة؛ كما قال تعالى{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}البينة: 5] والتبتل المنهي عنه: هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهيب في الصوامع، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن.
الآية رقم (9 :11)
{رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا، واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا، وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا}
قوله تعالى{رب المشرق والمغرب} قرأ أهل الحرمين وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو وابن أبي إسحاق وحفص {رب} بالرفع على الابتداء والخبر {لا إله إلا هو}. وقيل: على إضمار {هو}. الباقون {رب} بالخفض على نعت الرب تعالى في قوله تعالى{واذكر اسم ربك} {رب المشرق} ومن علم أنه رب المشارق والمغارب انقطع بعمله وأمله إليه. {فاتخذه وكيلا} أي قائما بأمورك. وقيل: كفيلا بما وعدك.
قوله تعالى{واصبر على ما يقولون} أي من الأذى والسب والاستهزاء، ولا تجزع من قولهم، ولا تمتنع من دعائهم. {واهجرهم هجرا جميلا} أي لا تتعرض لهم، ولا تشتغل بمكافأتهم، فإن في ذلك ترك الدعاء إلى الله. وكان هذا قبل الأمر بالقتال، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم، فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك؛ قاله قتادة وغيره. وقال أبو الدرداء: إنا لنكشر في وجوه أقوام ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم.
قوله تعالى{وذرني والمكذبين} أي أرض بي لعقابهم. نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين. وقال مقاتل: نزلت في المطعمين يوم بدر وهم عشرة. وقد تقدم ذكرهم في الأنفال . وقال يحيى بن سلام: إنهم بنو المغيرة. وقال سعيد بن جبير أخبرت أنهم اثنا عشر رجلا. {أولي النعمة} أي أولي الغنى والترفه واللذة في الدنيا {ومهلهم قليلا} يعني إلى مدة آجالهم. قالت عائشة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر. وقيل{ومهلهم قليلا} يعني إلى مدة الدنيا.
الآية رقم (12 : 14)
{إن لدينا أنكالا وجحيما، وطعاما ذا غصة وعذابا أليما، يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا}
قوله تعالى{إن لدينا أنكالا وجحيما} الأنكال: القيود. عن الحسن ومجاهد وغيرهما. واحدها نكل، وهو ما منع الإنسان من الحركة. وقيل: سمى نكلا، لأنه ينكل به. قال الشعبي: أترون أن الله تعالى جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا؟ لا والله! ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم.
وقال الكلبي: الأنكال: الأغلال، والأول أعرف في اللغة؛ ومنه قول الخنساء:
دعاك فقطعت أنكاله وقد كن قبلك لا تقطع
وقيل: إنه أنواع العذاب الشديد؛ قاله مقاتل. وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب النكل على النكل) بالتحريك، قال الجوهري. قيل: وما النكل؟ قال: (الرجل القوي المجرب، على الفرس القوي المجرب) ذكره الماوردي قال: ومن ذلك سمي القيد نكلا لقوته، وكذلك، الغل، وكل عذاب قوي فاشتد، والجحيم النار المؤججة. {وطعاما ذا غصة} أي غير سائغ؛ يأخذ بالحلق، لا هو نازل ولا هو خارج، وهو الغسلين والزقوم والضريع؛ قاله ابن عباس. وعنه أيضا: انه شوك يدخل الحلق، فلا ينزل ولا يخرج. وقال الزجاج: أي طعامهم الضريع؛ كما قال{ليس لهم طعام إلا من ضريع}الغاشية: 6] وهو شوك كالعوسج. وقال مجاهد: هو الزقوم، كما قال{إن شجرة الزقوم طعام الأثيم}الدخان:43 - 44]. والمعنى واحد. وقال حمران بن أعين: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم (إن لدينا أنكالا وجحيما. وطعاما ذا غصة) فصعق. وقال خليد بن حسان: أمسى الحسن عندنا صائما، فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية {إن لدينا أنكالا وجحيما. وطعاما} فقال: أرفع طعامك. فلما كانت الثانية أتيته بطعام فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعوه. ومثله في الثالثة؛ فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فحدثهم، فجاؤوه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق. والغصة: الشجا، وهو ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره. وجمعها غصص. والغصص بالفتح مصدر قولك: غصصت يا رجل تغص، فأنت غاص بالطعام وغصان، وأغصصته أنا، والمنزل غاص بالقوم أي ممتلئ بهم.
قوله تعالى{يوم ترجف الأرض والجبال} أي تتحرك وتضطرب بمن عليها. وانتصب {يوم} على الظرف أي ينكل بهم ويعذبون {يوم ترجف الأرض}. وقيل: بنزع الخافض؛ يعني هذه العقوبة في يوم ترجف الأرض والجبال. وقيل: العامل {ذرني} أي وذرني والمكذبين يوم ترجف الأرض والجبال. {وكانت الجبال كثيبا مهيلا} أي وتكون. والكثيب الرمل المجتمع - قال حسان:
عرفت ديار زينب بالكثيب كخط الوحي في الورق القشيب
والمهيل: الذي يمر تحت الأرجل. قال الضحاك والكلبي: المهيل: هو الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها، وإذا أخذت أسفله انهال. وقال ابن عباس{مهيلا} أي رملا سائلا متناثرا وأصله مهيول وهو مفعول من قولك: هلت عليه التراب أهيله هيلا: إذا صببته. يقال: مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول، ومدين ومديون، ومعين ومعيون؛ قال الشاعر:
قد كان قومك يحسبونك سيدا وإدخال أنك سيد معيون
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنهم شكوا إليه الجدوبة؛ فقال: (أتكيلون أم تهيلون) قالوا: نهيل. قال: (كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه). وأهلت الدقيق لغة في هلت فهو مهال ومهيل. وإنما حذفت الواو، لأن الياء تثقل فيها الضمة، فحذفت فسكنت هي والواو فحذفت الواو لالتقاء الساكنين.
الآية رقم (15 : 19)
{إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا، فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا، السماء منفطر به كان وعده مفعولا، إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا}
قوله تعالى{إنا أرسلنا إليكم رسولا} يريد النبي صلى الله عليه وسلم أرسله إلى قريش {كما أرسلنا إلى فرعون رسولا} وهو موسى {فعصى فرعون الرسول{ أي كذب به ولم يؤمن. قال مقاتل: ذكر موسى وفرعون؛ لأن أهل مكة ازدروا محمدا صلى الله عليه وسلم واستخفوا به؛ لأنه ولد فيهم، كما أن فرعون أزدرى موسى؛ لأنه رباه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى{ألم نربك فينا وليدا}الشعراء:18].
قال المهدوي: ودخلت الألف واللام في الرسول لتقدم ذكره؛ ولذلك اختير في أول الكتب سلام عليكم، وفي آخرها السلام عليكم. {وبيلا} أي ثقيلا شديدا. وضرب وبيل وعذاب وبيل: أي شديد؛ قال ابن عباس ومجاهد. ومنه مطر وابل أي شديد؛ قال الأخفش. وقال الزجاج: أي ثقيلا غليظا.
واستوبل فلان كذا: أي لم يحمد عاقبته. وماء وبيل: أي وخيم غير مريء، وكلأ مستوبل وطعام وبيل ومستوبل: إذا لم يمرئ ولم يستمرأ، قال زهير:
فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا إلى كلأ مستوبل متوخم
وقالت الخنساء:
لقد أكلت بجيلة يوم لاقت فوارس مالك أكلا وبيلا
والوبيل أيضا: العصا الضخمة؛ قال:
لو أصبح في يمنى يدي زمامها وفي كفي الأخرى وبيل تحاذره
وكذلك الموبل بكسر الباء، والموبلة أيضا: الحزمة من الحطب، وكذلك الوبيل، قال طرفة:
عقيلة شيخ كالوبيل يلندد
قوله تعالى{فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا} هو توبيخ وتقريع، أي كيف تتقون العذاب إن كفرتم. وفيه تقديم وتأخير، أي كيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم. وكذا قراءة عبدالله وعطية.
قال الحسن: أي بأي صلاة تتقون العذاب؟ بأي صوم تتقون العذاب؟ وفيه إضمار، أي كيف تتقون عذاب يوم. وقال قتادة: والله ما يتقى من كفر بالله ذلك اليوم بشيء. و{يوما} مفعول بـ {تتقون} على هذه القراءة وليس بظرف، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول {كفرتم}. وقال بعض المفسرين: وقف التمام على قوله: كفرتم والابتداء يوما يذهب إلى أن اليوم مفعول {يجعل} والفعل لله عز وجل، وكأنه قال: يجعل الله الولدان شيبا في يوم. قال ابن الأنباري؛ وهذا لا يصلح؛ لأن اليوم هو الذي يفعل هذا من شدة هوله. المهدوي: والضمير في {يجعل} يجوز أن يكون لله عز وجل، ويجوز أن يكون لليوم، وإذا كان لليوم صلح أن يكون صفة له، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله عز وجل إلا مع تقدير حذف؛ كأنه قال: يوما يجعل الله الولدان فيه شيبا. ابن الأنباري: ومنهم من نصب اليوم {بكفرتم} وهذا قبيح؛ لأن اليوم إذا علق بـ {كفرتم} احتاج إلى صفة؛ أي كفرتم بيوم. فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف وينصب ما بعدها، احتججنا عليه بقراءة عبدالله {فكيف تتقون يوما}.
قلت: هذه القراءة ليست متواترة، وإنما جاءت على وجه التفسير. وإذا كان الكفر بمعنى الجحود فـ {يوما} مفعول صريح من غير صفة ولا حذفها؛ أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء. وقرأ أبو السمال قعنب {فكيف تتقون} بكسر النون على الإضافة. و{الولدان} الصبيان. وقال السدي: هم أولاد الزنا. وقيل: أولاد المشركين. والعموم أصح؛ أي يشيب فيه الضمير من غير كبر. وذلك حين يقال: (يا آدم قم فابعث بعث النار). على ما تقدم في أول سورة الحج . قال القشيري: ثم إن أهل الجنة يغير الله أحوالهم وأوصافهم على ما يريد.
وقيل: هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم وهو مجاز؛ لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ولكن معناه أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة. ويقال: هذا وقت الفزع، وقيل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق، فالله أعلم. الزمخشري: وقد مر بي في بعض الكتب أن رجلا أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة، فقال: أريت القيامة والجنة والنار في المنام، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون. ويجوز أن يوصف اليوم بالطول، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب.
قوله تعالى{السماء منفطر به} أي متشققة لشدته. ومعنى {به} أي فيه؛ أي في ذلك اليوم لهوله. هذا أحسن ما قيل فيه. ويقال: مثقلة به إثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمته عليها وخشيتها من وقوعه، كقوله تعالى{ثقلت في السموات والأرض}الأعراف: 187]. وقيل{به} أي له، أي لذلك اليوم؛ يقال: فعلت كذا بحرمتك ولحرمتك، والباء واللام وفي: متقاربة في مثل هذا الموضع؛ قال الله تعالى{ونضع الموازين القسط ليوم القيامة}الأنبياء: 47] أي في يوم القيامة. وقيل{به} أي بالأمر أي السماء منفطر بما يجعل الولدان شيبا. وقيل: منفطر بالله، أي بأمره، وقال أبو عمرو بن العلاء: لم يقل منفطرة؛ لأن مجازها السقف؛ تقول: هذا سماء البيت؛ قال الشاعر:
فلو رفع السماء إليه قوما لحقنا بالسماء وبالسحاب
وفي التنزيل{وجعلنا السماء سقفا محفوظا}الأنبياء: 32]. وقال الفراء: السماء يذكر ويؤنث. وقال أبو علي: هو من باب الجراد المنتشر، والشجر الأخضر، و{أعجاز نخل منقعر}القمر: 20]. وقال أبو علي أيضا: أي السماء ذات انفطار؛ كقولهم: امرأة مرضع، أي ذات إرضاع، فجرى على طريق النسب. {كان وعده} أي بالقيامة والحساب والجزاء {مفعولا} كائنا لا شك فيه ولا خلف. وقال مقاتل: كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كله.
قوله تعالى{إن هذه تذكرة} يريد هذه السورة أو الآيات عظة. وقيل: آيات القرآن، إذ هو كالسورة الواحدة. {فمن شاء اتخذ إلى ربه} أي من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك إلى ربه {سبيلا} أي طريقا إلى رضاه ورحمته فليرغب، فقد أمكن له؛ لأنه أظهر له الحجج والدلائل. ثم قيل: نسخت بآية السيف، وكذلك قوله تعالى{فمن شاء ذكره}المدثر: 55] قال الثعلبي: والأشبه أنه غير منسوخ.
الآية رقم (20)
{إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}
قوله تعالى{إن ربك يعلم أنك تقوم} هذه الآية تفسير لقوله تعالى{قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه}المزمل: 4] كما تقدم، وهي الناسخة لفرضية قيام الليل كما تقدم. {تقوم} معناه تصلي و{أدنى} أي أقل. وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام {ثلثي} بإسكان اللام. {ونصفه وثلثه} بالخفض قراءة العامة عطفا على {ثلثي}؛ المعنى: تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ كقوله تعالى{علم أن لن تحصوه} فكيف يقومون نصفه أو ثلثه وهم لا يحصونه. وقرأ ابن كثير والكوفيون {ونصفه وثلثه} بالنصب عطفا على {أدنى} التقدير: تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه. قال الفراء: وهو أشبه بالصواب؛ لأنه قال أقل من الثلثين، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة. القشيري: وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف؛ لخفة القيام عليهم بذلك القدر، وكانوا يزيدون، وفي الزيادة إصابة المقصود، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه، وينقصون منه. ويحتمل أنهم أمروا بقيام نصف الليل، ورخص لهم في الزيادة والنقصان، فكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين، وفي النصف إلى الثلث. ويحتمل أنهم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث، والزيادة إلى الثلثين، وكان فيهم من يفي بذلك، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم. وقال قوم: إنما افترض الله عليهم الربع، وكانوا ينقصون من الربع. وهذا القول تحكم.
قوله تعالى{والله يقدر الليل والنهار} أي يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها، وأنتم تعلمون بالتحري والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ. {علم أن لن تحصوه} أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام به. وقيل: أي لن تطيقوا قيام الليل. والأول أصح؛ فإن قيام الليل ما فرض كله قط. قال مقاتل وغيره: لما نزلت{قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه}المزمل: 4] شق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتقخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم؛ فقال تعالى{علم أن لن تحصوه} و{أن} مخففة من الثقيلة؛ أي علم أنكم لن تحصوه؛ لأنكم إن زدتم ثقل عليكم، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضا، وإن نقصتم شق ذلك عليكم.
قوله تعالى{فتاب عليكم} أي فعاد عليكم بالعفو، وهذا يدل على أنه كان فيهم في ترك بعض ما أمر به. وقيل: أي فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم. وأصل التوبة الرجوع كما تقدم؛ فالمعنى رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر. وإنما أمروا بحفظ الأوقات على طريق التحري، فخفف عنهم ذلك التحري. وقيل: معنى {والله يقدر الليل والنهار} يخلقهما مقدرين؛ كقوله تعالى{وخلق كل شيء فقدره تقديرا}الفرقان: 2]. ابن العربي: تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم، وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف، التكليف.
قوله تعالى{فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} فيه قولان: أحدهما أن المراد نفس القراءة؛ أي فاقرؤوا فيما تصلونه بالليل ما خف عليكم. قال السدي: مائة آية. الحسن: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن. وقال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد: خمسون آية.
قلت: قول كعب أصح؛ لقول عليه السلام: (من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين) "رجه أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث عبدالله بن عمرو" وقد ذكرناه في مقدمة الكتاب والحمد لله. القول الثاني{فاقرؤوا ما تيسر منه} أي فصلوا ما تيسر عليكم، والصلاة تسمى قرآنا؛ كقوله تعالى{وقرآن الفجر} أي صلاة الفجر. ابن العربي: وهو الأصح؛ لأنه عن الصلاة أخبر، وإليها يرجع القول.
قلت: الأول أصح حملا للخطاب على ظاهر اللفظ، والقول الثاني مجاز؛ فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله.
قال بعض العلماء: قوله تعالى{فاقرؤوا ما تيسر منه} نسخ قيام الليل ونصفه، والنقصان من النصف والزيادة عليه. ثم احتمل قول الله عز وجل{فاقرؤوا ما تيسر منه} معنيين أحدهما أن يكون فرضا ثانيا؛ لأنه أزيل به فرض غيره. والآخر أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره كما أزيل به غيره؛ وذلك لقوله تعالى{ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}الإسراء: 79] فاحتمل قوله تعالى{ومن الليل فتهجد به نافلة لك}الإسراء: 79] أي يتهجد بغير الذي فرض عليه مما تيسر منه. قال الشافعي: فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس.
قال القشيري أبو نصر: والمشهور أن نسخ قيام الليل كان في حق الأمة، وبقيت الفريضة في حق النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: نسخ التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب؛ كقوله تعالى{فما استيسر من الهدي}البقرة: 196] فالهدي لا بد منه، كذلك لم يكن بده من صلاة الليل، ولكن فوض قدره إلى اختيار المصلي، وعلى هذا فقد قال قوم: فرض قيام الليل بالقليل باق؛ وهو مذهب الحسن. وقال قوم: نسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلا؛ وهو مذهب الشافعي. ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صلى الله عليه وسلم هي هذا، وهو قيامه، ومقداره مفوض إلى خيرته. وإذا ثبت أن القيام ليس فرضا فقوله تعالى{فاقرؤوا ما تيسر منه} معناه أقرؤوا إن تيسر عليكم ذلك، وصلوا إن شئتم. وصار قوم إلى أن النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صلى الله عليه وسلم أيضا، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه. وقوله{نافلة لك}الإسراء: 79] محمول على حقيقة النفل. ومن قال: نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل ثم نسخ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة؛ كقوله تعالى{أقم الصلاة لدلوك الشمس}الإسراء: 78]، وقوله{فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون}الروم: 17]، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع. وقيل: وقع النسخ بقوله تعالى{ومن الليل فتهجد به نافلة لك}الإسراء: 79] والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة، كما أن فرضية الصلاة وإن خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى{يا أيها المزمل. قم الليل}المزمل: 1] كانت عامة له ولغيره. وقد قيل: إن فريضة الله امتدت إلى ما بعد الهجرة، ونسخت بالمدينة؛ لقوله تعالى{علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله}، وإنما فرض القتال بالمدينة؛ فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة، فقيام الليل نسخ بقوله تعالى{ومن الليل فتهجد به نافلة لك}الإسراء: 79]. وقال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ قول الله تعالى{إن ربك يعلم أنك تقوم} وجوب صلاة الليل.
قوله تعالى{علم أن سيكون منكم مرضى} الآية؛ بين سبحانه علة تخفيف قيام الليل، فإن الخلق منهم المريض، ويشق عليهم قيام الليل، ويشق عليهم أن تفوتهم الصلاة، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل، والمجاهد كذلك، فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء. و{أن} في {أن سيكون} مخففة من الثقيلة؛ أي علم أنه سيكون.
سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله، والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله. وروى إبراهيم عن علقمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم{وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله} وقال ابن مسعود: أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء. وقرأ {وآخرون يضربون في الأرض} الآية. وقال ابن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من الموت بين شعبتي رحلي، ابتغى من فضل الله ضاربا في الأرض. وقال طاوس: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله. وعن بعض السلف أنه كان بواسط، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بع الطعام يوم تدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غد، فوافق سعة في السعر؛ فقال التجار للوكيل: إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، فكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا! إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال وتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من الاحتكار كفافا لا علي ولا لي. ويروى أن غلاما من أهل مكة كان ملازما للمسجد، فافتقده ابن عمر، فمشى إلى بيته، فقالت أمه: هو على طعام له يبيعه؛ فلقيه فقال له: يا بني! ما لك وللطعام؟ فهلا إبلا، فهلا بقرا، فهلا غنما! إن صاحب الطعام يحب المحل، وصاحب الماشية يحب الغيث.
قوله تعالى{فاقرؤوا ما تيسر منه} أي صلوا ما أمكن؛ فأوجب الله من صلاة الليل ما تيسر، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم. قال ابن العربي وقد قال قوم: إن فرض قيام الليل سن في ركعتين من هذه الآية؛ قال البخاري وغيره، وعقد بابا ذكر فيه حديث (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله أنحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى أنحلت عقده كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) وذكر حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا قال: (أما الذي يثلغ رأسه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة). وحديث عبدالله بن مسعود قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل ينام الليل كله فقال: (ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه) فقال ابن العربي: فهذه أحاديث مقتضية حمل مطلق الصلاة على المكتوبة؛ فيحمل المطلق على المقيد لاحتماله له، وتسقط الدعوى ممن عينه لقيام الليل. وفي الصحيح واللفظ للبخاري: قال عبدالله بن عمرو: وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبدالله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل) ولو كان فرضا ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه، بل كان يذمه غاية الذم، وفي الصحيح عن عبدالله بن عمر قال: كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت غلاما شابا عزبا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار. قال: ولقينا ملك آخر، فقال لي: لم ترع. فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل) فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا؛ فلو كان ترك القيام معصية لما قال له الملك: لم ترع. والله أعلم.
إذا ثبت أن قيام الليل ليس بفرض، وأن قوله{فاقرؤوا ما تيسر من القرآن}، {فاقرؤوا ما تيسر منه} محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة؛ فقال مالك والشافعي: فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول عنها، ولا الاقتصار على بعضها، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة، من أي القرآن كانت. وعنه ثلاث آيات؛ لأنها أقل سورة. ذكر القول الأول الماوردي والثاني ابن العربي. ولصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي، على ما بيناه في سورة الفاتحة أول الكتاب والحمد لله. وقيل: إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة؛ قال الماوردي: فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولا على الوجوب، أو على الاستحباب دون الوجوب. وهذا قول الأكثرين؛ لأنه لو وجب عليه أن يقرأ لوجب عليه أن يحفظه. الثاني أنه محمول على الوجوب؛ ليقف بقراءته على إعجازه، وما فيه من دلائل التوحيد وبعث الرسل، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه؛ لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة. وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقوال: أحدها جميع القرآن؛ لأن الله تعالى يسره على عباده؛ قاله الضحاك. الثاني ثلث القرآن؛ حكاه جويبر. الثالث مائتا آية؛ قال السدي. الرابع مائة آية؛ قال ابن عباس. الخامس ثلاث آيات كأقصر سورة؛ قاله أبو خالد الكناني.
قوله تعالى{وأقيموا الصلاة} يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها. {وآتوا الزكاة} الواجبة في أموالكم؛ قال عكرمة وقتادة. وقال الحارث العكلي: صدقة الفطر لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك. وقيل: صدقة التطوع. وقيل: كل أفعال الخير.
وقال ابن عباس: طاعة الله والإخلاص له.
قوله تعالى{وأقرضوا الله قرضا حسنا} القرض الحسن ما قصد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب. وقد مضى في سورة الحديد بيانه. وقال زيد بن أسلم: القرض الحسن النفقة على الأهل. وقال عمر بن الخطاب: هو النفقة في سبيل الله.
قوله تعالى{وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} وروي عن عمر بن الخطاب أنه اتخذ حيسا - يعني تمرا بلبن - فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه. فقال بعضهم: ما يدري هذا المسكين ما هذا؟ فقال عمر: لكن رب المسكين يدري ما هو وكأنه تأول{وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا} أي مما تركتم وخلفتم، ومن الشح والتقصير. {وأعظم أجرا} قال أبو هريرة: الجنة؛ ويحتمل أن يكون أعظم أجرا؛ لإعطائه بالحسنة عشرا. ونصب {خيرا وأعظم} على المفعول الثاني {لتجدوه} و{هو}: فضل عند البصريين، وعماد في قول الكوفيين، لا محل له من الإعراب. و{أجرا} تمييز. {واستغفروا الله} أي سلوه المغفرة لذنوبكم {إن الله غفور} لما كان قبل التوبة {رحيم} لكم بعدها؛ قاله سعيد بن جبير. ختمت السورة.
قوله تعالى{يا أيها المدثر} أي يا ذا الذي قد تدثر بثيابه، أي تغشى بها ونام، وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما. وقرأ أبي {المتدثر} على الأصل.
وقال مقاتل: معظم هذه السورة في الوليد بن المغيرة. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث - قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي - قال في حديثه: (فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فجئثت منه فرقا، فرجعت فقلت زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى{يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر}) في رواية - قبل أن تفرض الصلاة - وهي الأوثان قال: (ثم تتابع الوحي). "رجه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح" قال مسلم: وحدثنا زهير بن حرب، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الأوزاعي قال: سمعت يحيى يقول: سألت أبا سلمة: أي القرآن أنزل قبل؟ قال{يا أيها المدثر} فقلت: أو {أقرأ}. فقال: سألت جابر بن عبدالله أي القرآن أنزل قبل؟ قال{يا أيها المدثر} فقلت: أو {أقرأ} فقال جابر: أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أرا أحدا، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء - يعني جبريل صلى الله عليه وسلم فأخذتني رجفة شديدة، فأتيت خديجة فقلت دثروني، فدثروني فصبوا علي ماء، فأنزل الله عز وجل{يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر وثيابك فطهر}) خرجه البخاري وقال فيه: (فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا، فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت{يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر. ولا تمنن تستكثر}). ابن العربي: وقد قال بعض المفسرين إنه جرى على النبي صلى الله عليه وسلم من عقبة بن ربيعة أمر، فرجع إلى منزله مغموما، فقلق واضطجع، فنزلت{يا أيها المدثر} وهذا باطل. وقال القشيري أبو نصر: وقيل بلغه قول كفار مكة أنت ساحر، فوجد من ذلك غما وحم، فتدثر بثيابه، فقال الله تعالى{قم فانذر} أي لا تفكر في قولهم، وبلغهم الرسالة.
وقيل: اجتمع أبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومطعم بن عدي وقالوا: قد اجتمعت وفود العرب في أيام الحج، وهم يتساءلون عن أمر محمد، وقد اختلفتم في الإخبار عنه؛ فمن قائل يقول مجنون، وآخر يقول كاهن، وآخر يقول شاعر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فسموا محمدا باسم واحد يجتمعون عليه، وتسميه العرب به، فقام منهم رجل فقال: شاعر؛ فقال الوليد: سمعت كلام ابن الأبرص، وأمية بن أبي الصلت، وما يشبه كلام محمد كلام واحد منهما؛ فقالوا: كاهن. فقال: الكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمد قط؛ فقام آخر فقال: مجنون؛ فقال الوليد: المجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط. وانصرف الوليد إلى بيته، فقالوا: صبأ الوليد بن المغيرة؛ فدخل عليه أبو جهل وقال: مالك يا أبا عبد شمس! هذه قريش تجمع لك شيئا يعطونكه، زعموا أنك قد احتجت وصبأت. فقال الوليد: ما لي إلى ذلك حاجة، ولكني فكرت في محمد، فقلت: ما يكون من الساحر؟ فقيل: يفرق بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين المرأة وزوجها، فقلت: إنه ساحر. شاع هذا في الناس وصاحوا يقولون: إن محمدا ساحر. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته محزونا فتدثر بقطيفة، ونزلت{يا أيها المدثر}. وقال عكرمة: معنى {يا أيها المدثر} أي المدثر بالنبوة وأثقالها. ابن العربي: وهذا مجاز بعيد؛ لأنه لم يكن تنبأ بعد. وعلى أنها أول القرآن لم يكن تمكن منها بعد أن كانت ثاني ما نزل.
قوله تعالى{يا أيها المدثر}: ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله، وعبر عنه بصفته، ولم يقل يا محمد ويا فلان، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه كما تقدم في سورة المزمل . ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي إذ نام في المسجد: (قم أبا تراب) وكان خرج مغاضبا لفاطمة رضي الله عنها فسقط رداؤه وأصابه ترابه؛ خرجه مسلم. ومثله قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة ليلة الخندق: (قم يا نومان) وقد تقدم. {قم فأنذر} أي خوف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا. وقيل: الإنذار هنا إعلامهم بنبوته؛ لأنه مقدمة الرسالة. وقيل: هو دعاؤهم إلى التوحيد؛ لأنه المقصود بها. وقال الفراء: قم فصل وأمر بالصلاة. {وربك فكبر} أي سيدك ومالكك ومصلح أمرك فعظم، وصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد. وفي حديث أنهم قالوا: بم تفتتح الصلاة؟ فنزلت{وربك فكبر} أي وصفه بأنه أكبر. قال ابن العربي: وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة، فإنه مراد به التكبير والتقديس والتنزيه، لخلع الأنداد والأصنام دونه، ولا تتخذ وليا غيره، ولا تعبد سواه، ولا ترى لغيره فعلا إلا له، ولا نعمة إلا منه. وقد روي أن أبا سفيان قال يوم أحد: اعل هبل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا الله أعلى وأجل) وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها أذانا وصلاة وذكرا بقوله{الله أكبر} وحمل عليه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الوارد على الإطلاق في موارد؛ منها قوله: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) والشرع يقتضي بعرفه ما يقتضي بعمومه، ومن موارده أوقات الإهلال بالذبائح لله تخليصا له من الشرك، وإعلانا باسمه في النسك، وإفرادا لما شرع منه لأمره بالسفك.
قلت: قد تقدم في أول سورة البقرة أن هذا اللفظ {الله أكبر} هو المتعبد به في الصلاة، المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي التفسير: أنه لما نزل قوله تعالى{وربك فكبر} قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (الله أكبر)فكبرت خديجة، وعلمت أنه الوحي من الله تعالى؛ ذكره القشيري.
الفاء في قوله تعالى{وربك فكبر} دخلت على معنى جواب الجزاء كما دخلت في فأنذر أي قم فأنذر وقم فكبر ربك؛ قاله الزجاج. وقال ابن جني: هو كقولك زيدا فاضرب؛ أي زيدا اضرب، فالفاء زائدة.
قوله تعالى{وثيابك فطهر} فيه ثمانية أقوال: أحدهما أن المراد بالثياب العمل. الثاني القلب. الثالث النفس. الرابع الجسم. الخامس الأهل. السادس الخلق. السابع الدين. الثامن الثياب الملبوسات على الظاهر. فمن ذهب إلى القول الأول قال: تأويل الآية وعملك فأصلح؛ قال مجاهد وابن زيد. وروى منصور عن أبي رزين قال: يقول وعملك فأصلح؛ قال: وإذا كان الرجل خبيث العمل قالوا إن فلانا خبيث الثياب، وإذا كان حسن العمل قالوا إن فلانا طاهر الثياب؛ ونحوه عن السدي. ومنه قول الشاعر:
لا هم إن عامر بن جهم أو ذم حجا في ثياب دسم
ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات عليهما) يعني عمله الصالح والطالح؛ ذكره الماوردي. ومن ذهب إلى القول الثاني قال: إن تأويل الآية وقلبك فطهر؛ قاله ابن عباس وسعيد بن جبير؛ دليله قول امرئ القيس:
فسُلِّي ثيابي من ثيابك تنسل
أي قلبي من قلبك. قال الماوردي: ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما: معناه وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي؛ قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: وقلبك فطهر من الغدر؛ أي لا تغدر فتكون دنس الثياب. وهذا مروي عن ابن عباس، واستشهد بقول غيلان بن سلمة الثقفي:
فإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع
ومن ذهب إلى القول الثالث قال: تأويل الآية ونفسك فطهر؛ أي من الذنوب. والعرب تكني عن النفس بالثياب؛ قاله ابن عباس. ومنه قول عنترة:
فشككت بالرمح الطويل ثيابه ليس الكريم على القنا بمحرم
وقال امرؤ القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وقال:
ثياب بني عوف طهارى نقية وأوجههم بيض المسافر غران
أي أنفس بني عوف. ومن ذهب إلى القول الرابع قال: تأويل الآية وجسمك فطهر؛ أي عن المعاصي الظاهرة. ومما جاء عن العرب في الكناية عن الجسم بالثياب قول ليلى، وذكرت إبلا:
رموها بأثياب خفاف فلا ترى لها شبها إلا النعام المنفرا
أي ركبوها فرموها بأنفسهم.
ومن ذهب إلى القول الخامس قال: تأويل الآية وأهلك فطهرهم من الخطايا بالوعظ والتأديب؛ والعرب تسمي الأهل ثوبا ولباسا وإزارا؛ قال الله تعالى{هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}البقرة: 187]. الماوردي: ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما: معناه ونساءك فطهر، باختيار المؤمنات العفائف. الثاني: الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر، في الطهر لا في الحيض. حكاه ابن بحر. ومن ذهب إلى القول السادس قال: تأويل الآية وخلقك فحسن قاله الحسن والقرظي؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه. وقال الشاعر:
ويحيى لا يلام بسوء خلق ويحيى طاهر الأثواب حر
أي حسن الأخلاق. ومن ذهب إلى القول السابع قال: تأويل الآية ودينك فطهر. وفي الصحيحين عنه عليه السلام قال: (ورأيت الناس وعليهم ثياب، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، ورأيت عمر بن الخطاب وعليه إزار يجره). قالوا: يا رسول الله فما أولت ذلك؟ قال: الدين. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: ما يعجبني أن أقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد لا في الطريق، قال الله تعالى{وثيابك فطهر} يريد مالك أنه كنى عن الثياب بالدين. وقد روى عبدالله بن نافع عن أبي بكر بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر بن الخطاب عن مالك بن أنس في قوله تعالى{وثيابك فطهر} أي لا تلبسها على غدرة؛ ومنه قول أبي كبشة:
ثياب بني عوف طهارى نقية وأوجههم بيض المسافر غران
يعني بطهارة ثيابهم: سلامتهم من الدناءات، ويعني بغرة وجوههم تنزيههم عن المحرمات، أو جمالهم في الخلقة أو كليهما؛ قال ابن العربي. وقال سفيان بن عيينة: لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم؛ قاله عكرمة. ومنه قول الشاعر:
أو ذم حجا في ثياب دسم
أي قد دنسها بالمعاصي. وقال النابغة:
رقاق النعال طيب حجزاتهم يُحَيون بالريحان يوم السباسب
ومن ذهب إلى القول الثامن قال: إن المراد بها الثياب الملبوسات، فلهم في تأويله أربعة أوجه: أحدهما: معناه وثيابك فأنق؛ ومنه قول امرئ القيس:
ثياب بني عوف طهارى نقية
الثاني: وثيابك فشمر وقصر، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة، فإذا انجرت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها ما ينجسها، قال الزجاج وطاوس. الثالث{وثيابك فطهر} من النجاسة بالماء؛ قال محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء. الرابع: لا تلبس ثيابك إلا من كسب حلال لتكون مطهرة من الحرام. وعن ابن عباس: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طاهر. ابن العربي وذكر بعض ما ذكرناه: ليس بممتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز، وإذا حملناها على الثياب المعلومة الطاهرة فهي تتناول معنيين: أحدهما: تقصير الأذيال؛ لأنها إذا أرسلت تدنست، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغلام من الأنصار وقد رأى ذيله مسترخيا: ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من ذلك ففي النار) فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب وتوعد ما تحته بالنار، فما بال رجال يرسلون أذيالهم، ويطيلون ثيابهم، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم، وهذه حالة الكبر، وقائدة العجب، (وأشد ما في الأمر أنهم يعصون وينجسون ويلحقون أنفسهم) بمن لم يجعل الله معه غيره ولا ألحق به سواه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء) "لفظ الصحيح" (من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة). قال أبو بكر: يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لست ممن يصنعه خيلاء) فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي، واستثنى الصديق، فأراد الأدنياء إلحاق أنفسهم بالرفعاء، وليس ذلك لهم.
والمعنى الثاني: غسلها من النجاسة وهو ظاهر منها، صحيح فيها. المهدوي: وبه استدل بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب؛ قال ابن سيرين وابن زيد: لا تصل إلا في ثوب طاهر. واحتج بها الشافعي على وجوب طهارة الثوب. وليست عند مالك وأهل المدينة بفرض، وكذلك طهارة البدن، ويدل على ذلك الإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار من غير غسل. وقد مضى هذا القول في سورة التوبة مستوفى.
الآية رقم (5)
{والرجز فاهجر}
قوله تعالى{والرجز فاهجر} قال مجاهد وعكرمة: يعني الأوثان؛ دليله قوله تعالى{فاجتنبوا الرجس من الأوثان}الحج: 30]. قاله ابن عباس وابن زيد. وعن ابن عباس أيضا: والمأثم فاهجر؛ أي فاترك. وكذا روى مغيرة عن إبراهيم النخعي قال: الرجز الإثم. وقال قتادة: الرجز: إساف ونائلة، صنمان كانا عند البيت. وقيل: الرجز العذاب، على تقدير حذف المضاف؛ المعنى: وعمل الرجز فاهجر، أو العمل المؤدي إلى العذاب. وأصل الرجز العذاب، قال الله تعالى{لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك}الأعراف: 134]. وقال تعالى{فأرسلنا عليهم رجزا من السماء}الأعراف: 162]. فسميت الأوثان رجزا؛ لأنها تؤدي إلى العذاب. وقراءة العامة {الرجز} بكسر الراء. وقرأ الحسن وعكرمة ومجاهد وابن محيصن وحفص عن عاصم {والرجز} بضم الراء وهما لغتان مثل الذكر والذكر. وقال أبو العالية والربيع والكسائي: الرجز بالضم: الصنم، وبالكسر: النجاسة والمعصية. وقال الكسائي أيضا: بالضم: الوثن، وبالكسر: العذاب. وقال السدي: الرجز ينصب الراء: الوعيد.
الآية رقم (6)
{ولا تمنن تستكثر}
قوله تعالى{ولا تمنن تستكثر} فيه أحد عشر تأويلا؛ الأول: لا تمنن على ربك بما تتحمله من أثقال النبوة، كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير. الثاني: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها؛ قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة. قال الضحاك: هذا حرمه الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق، وأباحه لأمته؛ وقال مجاهد. الثالث: عن مجاهد أيضا لا تضعف أن تستكثر من الخير؛ من قولك حبل منين إذا كان ضعيفا؛ ودليله قراءة ابن مسعود {ولا تمنن تستكثر من الخير}. الرابع: عن مجاهد أيضا والربيع: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير، فإنه مما أنعم الله عليك. قال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك، إنما عملك منة من الله عليك؛ إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته. الخامس: قال الحسن: لا تمنن على الله بعملك فتستكثره. السادس: لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجرا تستكثر به. السابع: قال القرظي: لا تعط مالك مصانعة. الثامن: قال زيد بن أسلم: إذا أعطيت عطية فأعطها لربك. التاسع: لا تقل دعوت فلم يستجب لي. العاشر: لا تعمل طاعة وتطلب ثوابها، ولكن اصبر حتى يكون الله هو الذي يثيبك عليها. الحادي عشر: لا تفعل الخير لترائي به الناس.
هذه الأقوال وإن كانت مرادة فأظهرها قول ابن عباس: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال؛ يقال: مننت فلانا كذا أي أعطيته. ويقال للعطية المنة؛ فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها؛ لأنه عليه السلام ما كان يجمع الدنيا، ولهذا قال: [ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم]. وكان ما يفضل من نفقة عياله مصروفا إلى مصالح المسلمين؛ ولهذا لم يورث؛ لأنه كان لا يملك لنفسه الادخار والاقتناء، وقد عصمه الله تعالى عن الرغبة في شيء من الدنيا؛ ولذلك حرمت عليه الصدقة وأبيحت له الهدية، فكان يقبلها ويثيب عليها. وقال: [لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع لقبلت] ابن العربي: وكان يقبلها سنة ولا يستكثرها شرعة، وإذا كان لا يعطي عطية يستكثر بها فالأغنياء أولى بالاجتناب؛ لأنها باب من أبواب المذلة، وكذلك قول من قال: إن معناها لا تعطي عطية تنتظر ثوابها، فإن الانتظار تعلق بالأطماع، وذلك في حيزه بحكم الامتناع، وقد قال الله تعالى له{ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى}طه: 131]. وذلك جائز لسائر الخلق؛ لأنه من متاع الدنيا، وطلب الكسب والتكاثر بها. وأما من قال أراد به العمل أي لا تمنن بعملك على الله فتستكثره فهو صحيح؛ فإن ابن آدم لو أطاع الله عمره من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر.
قوله تعالى{ولا تمنن} قراءة العامة بإظهار التضعيف. وقرأ أبو السمال العدوي وأشهب العقيلي والحسن {ولا تمن} مدغمة مفتوحة. {تستكثر}: قراءة العامة بالرفع وهو في معنى الحال، تقول: جاء زيد يركض أي راكضا؛ أي لا تعط شيئا مقدرا أن تأخذ بدله ما هو أكثر منه. وقرأ الحسن بالجزم على جواب النهي وهو رديء؛ لأنه ليس بجواب. ويجوز أن يكون بدلا من {تمنن} كأنه قال: لا تستكثر. وأنكره أبو حاتم وقال: لأن المن ليس بالاستكثار فيبدل منه. ويحتمل أن يكون سكن تخفيفا كعضد. أو أن يعتبر حال الوقف. وقرأ الأعمش ويحيى {تستكثر} بالنصب، توهم لام كي، كأنه قال: ولا تمنن لتستكثر. وقيل: هو بإضمار {أن} كقوله:
(ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى)
ويؤيده قراءة ابن مسعود {ولا تمنن أن تستكثر}. قال الكسائي: فإذا حذف {أن} رفع وكان المعنى واحدا. وقد يكون المن بمعنى التعداد على المنعم عليه بالنعم، فيرجع إلى القول الثاني:، ويعضده قوله تعالى{لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}البقرة: 264] وقد يكون مرادا في هذه الآية. والله أعلم.
الآية رقم (7)
{ولربك فاصبر}
قوله تعالى{ولربك فاصبر} أي ولسيدك ومالكك فاصبر على أداء فرائضه وعبادته. وقال مجاهد: على ما أوذيت. وقال ابن زيد: حملت أمرا عظيما؛ محاربة العرب والعجم، فاصبر عليه لله. وقيل: فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله تعالى.
وقيل: فاصبر على البلوى؛ لأنه يمتحن أولياءه وأصفياءه. وقيل: على أوامره ونواهيه. وقيل: على فراق الأهل والأوطان.
الآية رقم (8 : 10)
{فإذا نقر في الناقور، فذلك يومئذ يوم عسير، على الكافرين غير يسير}
قوله تعالى{فإذا نقر في الناقور} إذا نفخ في الصور. والناقور: فاعول من النقر، كأنه الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت، والنقر في كلام العرب: الصوت؛ ومنه قول امرئ القيس:
أخفضه بالنقر لما علوته ويرفع طرفا غير خاف غضيض
وهم يقولون: نقر باسم الرجل إذ دعاه مختص له بدعائه. وقال مجاهد وغيره: هو كهيئة البوق، ويعني به النفخة الثانية. وقيل: الأولى؛ لأنها أول الشدة الهائلة العامة. وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في النمل و الأنعام وفي كتاب التذكرة ، والحمد لله. وعن أبي حبان قال: أمنا زرارة بن أوفى فلما بلغ {فإذا نقر في الناقور} خر ميتا. {فذلك يومئذ يوم عسير} أي فذلك اليوم يوم شديد {على الكافرين} أي على من كفر بالله وبأنبيائه صلى الله عليهم {غير يسير} أي، غير سهل ولا هين؛ وذلك أن عقدهم لا تنحل إلا إلى عقدة أشد منها، بخلاف المؤمنين الموحدين المذنبين فإنها تنحل إلى ما هو أخف منها حتى يدخلوا الجنة برحمة الله تعالى. و{يومئذ} نصب، على تقدير فذلك يوم عسير يومئذ. وقيل: جر بتقدير حرف جر، مجازه: فذلك في يومئذ. وقيل: يجوز أن يكون رفعا إلا أنه بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن.
الآية رقم (11 : 17)
{ذرني ومن خلقت وحيدا، وجعلت له مالا ممدودا، وبنين شهودا، ومهدت له تمهيدا، ثم يطمع أن أزيد، كلا إنه كان لآياتنا عنيدا، سأرهقه صعودا}
قوله تعالى{ذرني ومن خلقت وحيدا} {ذرني} أي دعني؛ وهي كلمة وعيد وتهديد. {ومن خلقت} أي دعني والذي خلقته وحيدا؛ فـ {وحيدا} على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف، أي خلقته وحده، لا مال له ولا ولد، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته. والمفسرون على أنه الوليد بن المغيرة المخزومي، وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه. وإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة وإيذاء الرسول عليه السلام، وكان يسمى الوحيد في قومه. قال ابن عباس: كان الوليد يقول: أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لي في العرب نظير، ولا لأبي المغيرة نظير، وكان يسمى الوحيد؛ فقال الله تعالى{ذرني ومن خلقت} بزعمه {وحيدا} لا أن الله تعالى صدقه بأنه وحيد. وقال قوم: إن قوله تعالى{وحيدا} يرجع إلى الرب تعالى على معنيين: أحدهما: ذرني وحدي معه فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم. والثاني: أني أنفردت بخلقه ولم يشركني فيه أحد، فأنا أهلكه ولا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه؛ {فوحيدا} على هذا حال من ضمير الفاعل، وهو التاء في {خلقت} والأول قول مجاهد، أي خلقته وحيدا في بطن أمه لا مال له ولا ولد، فأنعمت عليه فكفر؛ فقوله{وحيدا} على هذا يرجع إلى الوليد، أي لم يكن له شيء فملكته. وقيل: أراد بذلك ليدله على أنه يبعث وحيدا كما خلق وحيدا. وقيل: الوحيد الذي لا يعرف أبوه، وكان الوليد معروفا بأنه دعي، كما ذكرنا في قوله تعالى{عتل بعد ذلك زنيم}القلم: 13] وهو في صفة الوليد أيضا.
قوله تعالى{وجعلت له مالا ممدودا} أي خولته وأعطيته مالا ممدودا، وهو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل والحجور والنعم والجنان والعبيد والجواري، كذا كان ابن عباس يقول: وقال مجاهد: غلة ألف دينار، قال سعيد بن جبير وابن عباس أيضا. وقال قتادة: ستة آلاف دينار. وقال سفيان الثوري وقتادة: أربعة آلاف دينار. الثوري أيضا: ألف ألف دينار. مقاتل: كان له بستان لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفا. وقال عمر رضى الله عنه{وجعلت له مالا ممدودا} غلة شهر بشهر. النعمان بن سالم: أرضا يزرع فيها. القشيري: والأظهر أنه إشارة إلى ما لا ينقطع رزقه، بل يتوالى كالزرع والضرع والتجارة.
قوله تعالى{وبنين شهودا} أي حضورا لا يغيبون عنه في تصرف. قال مجاهد وقتادة: كانوا عشرة. وقيل: اثنا عشر؛ قال السدي والضحاك. قال الضحاك: سبعة ولدوا بمكة وخمسة ولدوا بالطائف. وقال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر ولدا. مقاتل: كانوا سبعة كلهم رجال، اسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام والوليد بن الوليد. قال: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. وقيل: شهودا، أي إذا ذكر ذكروا معه؛ قاله ابن عباس. وقيل: شهودا، أي قد صاروا مثله في شهود ما كان يشهده، والقيام بما كان يباشره. والأول قول السدي، أي حاضرين مكة لا يظعنون عنه في تجارة ولا يغيبون.
قوله تعالى{ومهدت له تمهيدا} أي بسطت له في العيش بسطا، حتى أقام ببلدته مطمئنا مترفها يرجع إلى رأيه. والتمهيد عند العرب: التوطئة والتهيئة؛ ومنه مهد الصبي. وقال ابن عباس{ومهدت له تمهيدا} أي وسعت له ما بين اليمن والشام وقاله مجاهد. وعن مجاهد أيضا في {ومهدت له تمهيدا} أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش.
قوله تعالى{ثم يطمع أن أزيد} أي ثم إن الوليد يطمع بعد هذا كله أن أزيده في المال والولد. وقال الحسن وغيره: أي ثم يطمع أن أدخله الجنة، وكان الوليد يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي؛ فقال الله تعالى ردا عليه وتكذيبا له{كلا} أي لست أزيده، فلم يزل يرى النقصان في ماله وولده حتى هلك. و{ثم} في قوله تعالى{ثم يطمع} ليست بثم التي للنسق ولكنها تعجيب، وهي كقوله تعالى{وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) [الأنعام: 1] وذلك كما تقول: أعطيتك ثم أنت تجفوني؛ كالمتعجب من ذلك. وقيل يطمع أن أترك ذلك في عقبه؛ وذلك أنه كان يقول: إن محمدا مبتور؛ أي أبتر وينقطع ذكره بموته. وكان يظن أن ما رزق لا ينقطع بموته. وقيل: أي ثم يطمع أن أنصره على كفره. و{كلا} قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة؛ فيكون متصلا بالكلام الأول.
وقيل{كلا} بمعنى حقا ويكون ابتداء {إنه} يعني الوليد {كان لآياتنا عنيدا} أي معاندا للنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به؛ يقال: عاند فهو عنيد مثل جالس فهو جليس؛ قال مجاهد. وعند يعند بالكسر أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند. والعاند: البعير الذي يحور عن الطريق ويعدل عن القصد والجمع عند مثل راكع وركع؛ وأنشد أبو عبيدة قول الحارثي:
إذا ركبت فاجعلاني وسطا إني كبير لا أطيق العندا
وقال أبو صالح{عنيدا} معناه مباعدا؛ قال الشاعر:
أرانا على حال تفرق بيننا نوى غربة إن الفراق عنود
قتادة: جاحدا. مقاتل: معرضا. ابن عباس: جحودا. وقيل: إنه المجاهر بعدوانه.
وعن مجاهد أيضا قال: مجانبا للحق معاندا له معرضا عنه. والمعنى كله متقارب. والعرب تقول: عند الرجل إذا عتا وجاوز قدره. والعنود من الإبل: الذي لا يخالط الإبل، إنما هو في ناحية. ورجل عنود إذا كان يحل وحده لا يخالط الناس والعنيد من التجبر. وعرق عاند: إذا لم يرقأ دمه. كل هذا قياس واحد وقد مضى في سورة إبراهيم . وجمع العنيد عند، مثل رغيف ورغف.
قوله تعالى{سأرهقه} أي سأكلفه. وكان ابن عباس يقول: سألجئه؛ والإرهاق في كلام العرب: أن يحمل الإنسان على الشيء. {صعودا} الصعود: جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي كذلك فيه أبدا رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم،"خرجه الترمذي وقال فيه حديث غريب" وروى عطية عن أبي سعيد قال: صخرة في جهنم إذا وضعوا عليها أيديهم ذابت فإذا رفعوها عادت، قال: فيبلغ أعلاها في أربعين سنة يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع، حتى إذا بلغ أعلاها رمى به إلى أسفلها، فذلك دأبه أبدا. وقد مضى هذا المعنى في سورة {قل أوحي}الجن: 1] وفي التفسير: أنه صخرة ملساء يكلف صعودها فإذا صار في أعلاها حدر في جهنم، فيقوم يهوي ألف عام من قبل أن يبلغ قرار جهنم، يحترق في كل يوم سبعين مرة ثم يعاد خلقا جديدا. وقال ابن عباس: المعنى سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيه ونحوه عن الحسن وقتادة. وقيل: إنه تصاعد نفسه للنزع وإن لم يتعقبه موت، ليعذب من داخل جسده كما يعذب من خارجه.
الآية رقم (18 : 25)
{إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول البشر}
قوله تعالى{إنه فكر وقدر} يعني الوليد فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن و{قدر} أي هيأ الكلام في نفسه، والعرب تقول: قدرت الشيء إذا هيأته، وذلك أنه لما نزل{حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم}غافر: 1] إلى قوله{إليه المصير} سمعه الوليد يقرؤها فقال: والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر. فقالت قريش: صبا الوليد لتصبون قريش كلها. وكان يقال للوليد ريحانة قريش؛ فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه. فمضى إليه حزينا؟ فقال له: مالي أراك حزينا. فقال له: ومالي لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد، وتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما؛ فغضب الوليد وتكبر، وقال: أنا أحتاج إلى كسر محمد وصاحبه، فأنتم تعرفون قدر مالي، واللات والعزى ما بي حاجة إلى ذلك، وإنما أنتم تزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه قط يخنق؟ قالوا: لا والله، قال: وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا: لا والله. قال: فتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه كذبا قط؟ قالوا: لا والله. قال: فتزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط، ولقد رأينا للكهنة أسجاعا وتخالجا فهل رأيتموه كذلك؟ قالوا: لا والله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمى الصادق الأمين من كثرة صدقه. فقالت قريش للوليد: فما هو؟ ففكر في نفسه، ثم نظر، ثم عبس، فقال ما هو إلا ساحر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ فذلك قوله تعالى{إنه فكر} أي في أمر محمد والقرآن {وقدر} في نفسه ماذا يمكنه أن يقول فيهما. {فقتل} أي لعن. وكان بعض أهل التأويل يقول: معناها فقهر وغلب، وكل مذلل مقتل؛ قال الشاعر:
وما ذرفت عيناك إلا لتقدحي بسهميك في أعشار قلب مقتل
وقال الزهري: عذب؛ وهو من باب الدعاء. {كيف قدر} قال ناس{كيف} تعجيب؛ كما يقال للرجل تتعجب من صنيعه: كيف فعلت هذا؟ وذلك كقوله{انظر كيف ضربوا لك الأمثال}الإسراء: 48]. {ثم قتل} أي لعن لعنا بعد لعن. وقيل: فقتل بضرب من العقوبة، ثم قتل بضرب آخر من العقوبة {كيف قدر} أي على أي حال قدر. {ثم نظر} بأي شيء يرد الحق ويدفعه. {ثم عبس} أي قطب بين عينيه في وجوه المؤمنين؛ وذلك أنه لما حمل قريشا على ما حملهم عليه من القول في محمد صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر، مر على جماعة من المسلمين، فدعوه إلى الإسلام، فعبس في وجوههم.. قيل: عبس وبسر على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه. والعبس مخففا مصدر عبس يعبس عبسا وعبوسا: إذا قطب. والعبس ما يتعلق بأذناب الإبل من أبعارها وأبوالها؛ قال أبو النجم:
كأن في أذنابهن الشول من عبس الصيف قرون الأيل
قوله تعالى{وبسر} أي كلح وجهه وتغير لونه؛ قال قتادة والسدي؛ ومنه قول بشر بن أبي خازم:
صبحنا تميما غداة الجفار بشهباء ملمومة باسره
وقال آخر:
وقد رابني منها صدود رأيته وإعراضها عن حاجتي وبسورها
وقيل: إن ظهور العبوس في الوجه بعد المحاورة، وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة. وقال قوم{بسر} وقف لا يتقدم ولا يتأخر. قالوا: وكذلك يقول أهل اليمن إذا وقف المركب، فلم يجيء ولم يذهب: قد بسر المركب، وأبسر أي وقف وقد أبسرنا. والعرب تقول: وجه باسر بين البسور: إذا تغير واسود. {ثم أدبر} أي ولى وأعرض ذاهبا إلى أهله. {واستكبر} أي تعظم عن أن يؤمن. وقيل: أدبر عن الإيمان واستكبر حين دعي إليه. {فقال إن هذا} أي ما هذا الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم {إلا سحر يؤثر} أي يأثره عن غيره. والسحر: الخديعة. وقد تقدم بيانه في سورة البقرة. وقال قوم: السحر: إظهار الباطل في صورة الحق. والأثره: مصدر قولك: أثرت الحديث آثره إذا ذكرته عن غيرك؛ ومنه قيل: حديث مأثور: أي ينقله خلف عن سلف؛ قال امرؤ القيس:
ولو عن نثا غيره جاءني وجرح اللسان كجرح اليد
لقلت من القول ما لا يزا ل يؤثر عني يد المسند
يريد: آخر الدهر، وقال الأعشى:
إن الذي فيه تماريتما بين للسامع والآثر
ويروى: بين. {إن هذا إلا قول البشر} أي ما هذا إلا كلام المخلوقين، يختدع به القلوب كما تختدع بالسحر، قال السدي: يعنون أنه من قول سيار عبد لبني الحضرمي، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك.
وقيل: أراد أنه تلقنه من أهل بابل. وقيل: عن مسيلمة. وقيل: عن عدي الحضرمي الكاهن. وقيل: إنما تلقنه ممن ادعى النبوة قبله، فنسج على منوالهم. قال أبو سعيد الضرير: إن هذا إلا أمر سحر يؤثر؛ أي يورث.
الآية رقم (26 : 29)
{سأصليه سقر، وما أدراك ما سقر، لا تبقي ولا تذر، لواحة للبشر}
أي سأدخله سقر كي يصلى حرها. وإنما سميت سقر من سقرته الشمس: إذا أذابته ولوحته، وأحرقت جلدة وجهه. ولا ينصرف للتعريف والتأنيث. قال ابن عباس: هي الطبق السادس من جهنم. و"روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [سأل موسى ربه فقال: أي رب، أي عبادك أفقر؟ قال صاحب سقر] ذكره الثعلبي{وما أدراك ما سقر}؟ هذه مبالغة في وصفها؛ أي وما أعلمك أي شيء هي؟ وهي كلمة تعظيم، ثم فسر حالها فقال{لا تبقي ولا تذر} أي لا تترك لهم عظما ولا لحما ولا دما إلا أحرقته. وقيل: لا تبقي منهم شيئا ثم يعادون خلقا جديدا، فلا تذر أن تعاود إحراقهم هكذا أبدا. وقال مجاهد: لا تبقى من فيها حيا ولا تذره ميتا، تحرقهم كلما جددوا. وقال السدي: لا تبقي لهم لحما ولا تذر لهم عظما {لواحة للبشر} أي مغيرة من لاحه إذا غيره. وقراءة العامة {لواحة} بالرفع نعت لـ {سقر{ في قوله تعالى{وما أدراك ما سقر}. وقرأ عطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر {لواحة} بالنصب على الاختصاص، للتهويل. وقال أبو رزين: تلفح وجوههم لفحة تدعها أشد سوادا من الليل؛ وقاله مجاهد. والعرب تقول: لاحه البرد والحر والسقم والحزن: إذا غيره، ومنه قول الشاعر:
تقول ما لا حك يا مسافر يا ابنة عمي لاحني الهواجر
وقال آخر:
وتعجب هند أن رأتني شاحبا تقول لشيء لوحته السمائم
وقال رؤبة بن العجاج:
لوح منه بعد بدن وسنق تلويحك الضامر يطوى للسبق
وقيل: إن اللوح شدة العطش؛ يقال: لاحة العطش ولوحه أي غيره. والمعنى أنها معطشة للبشر أي لأهلها؛ قاله الأخفش؛ وأنشد:
سقتني على لوح من الماء شربة سقاها بها الله الرهام الغواديا
يعني باللوح شدة العطش، والتاح أي عطش، والرهام جمع رهمة بالكسر وهي المطرة الضعيفة وأرهمت السحابة أتت بالرهام. وقال ابن عباس{لواحة} أي تلوح للبشر من مسيرة خمسمائة عام. الحسن وابن كيسان: تلوح لهم جهنم حتى يروها عيانا. نظيره{وبرزت الجحيم للغاوين}الشعراء: 91] وفي البشر وجهان: أحدهما: أنه الإنس من أهل النار؛ قاله الأخفش والأكثرون. الثاني: أنه جمع بشرة، وهي جلدة الإنسان الظاهرة؛ قال مجاهد وقتادة، وجمع البشر أبشار، وهذا على التفسير الأول، وأما على تفسير ابن عباس فلا يستقيم فيه إلا الناس لا الجلود؛ لأنه من لاح الشيء يلوح، إذا لمع.
الآية رقم (30 : 31)
{عليها تسعة عشر، وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر}
قوله تعالى{عليها تسعة عشر} أي على سقر تسعه عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها. ثم قيل: على جملة النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها؛ مالك وثمانية عشر ملكا. ويحتمل أن تكون التسعة عشر نقيبا، ويحتمل أن يكون تسعة عشر ملكا بأعيانهم. وعلى هذا أكثر المفسرين. الثعلبي: ولا ينكر هذا، فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكون تسعة عشر على عذاب بعض الخلائق. وقال ابن جريج: نعت النبي صلى الله عليه وسلم خزنة جهنم فقال: [فكأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي، يجرون أشعارهم، لأحدهم من القوة مثل قوة الثقلين، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل، فيرميهم في النار، ويرمي فوقهم الجبل].
قلت: وذكر ابن المبارك قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن رجل من بني تميم قال: كنا عند أبي العوام، فقرأ هذه الآية{وما أدراك ما سقر. لا تبقى ولا تذر. لواحة للبشر. عليها تسعة عشر} فقال ما تسعة عشر؟ تسعة عشر ألف ملك، أو تسعة عشر ملكا؟ قال: قلت: لا بل تسعة عشر ملكا. فقال: وأنى تعلم ذلك؟ فقلت: لقول الله عز وجل{وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} قال: صدقت هم تسعة عشر ملكا، بيد كل ملك منهم مرزبة لها شعبتان، فيضرب الضربة فيهوي بها في النار سبعين ألفا. وعن عمرو بن دينار: كل واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. خرج الترمذي عن جابر بن عبدالله. قال: قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ قالوا: لا ندري حتى نسأل نبينا. فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد غلب أصحابك اليوم؛ فقال: (وماذا غلبوا)؟ قال: سألهم يهود: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ قال: (فماذا قالوا) قال: قالوا لا ندري حتى نسأل نبينا. قال: (أفغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون، فقالوا لا نعلم حتى نسأل نبينا؟ لكنهم قد سألوا نبيهم فقالوا أرنا الله جهرة، علي بأعداء الله! إني سائلهم عن تربة الجنة وهي الدرمك). فلما جاؤوا قالوا: يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم؟ قال: (هكذا وهكذا) في مرة عشرة وفي مرة تسعة. قالوا: نعم. قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تربة الجنة) قال: فسكتوا هنيهة ثم قالوا: أخبزة يا أبا القاسم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخبز من الدرمك). قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث مجالد عن الشعبي عن جابر. وذكر ابن وهب قال: حدثنا عبدالرحمن بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خزنة جهنم: [ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب].
وقال ابن عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم.
قلت: والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء التسعة عشر، هم الرؤساء والنقباء، وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها؛ كما قال الله تعالى{وما يعلم جنود ربك إلا هو} وقد ثبت في الصحيح عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها). وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: لما نزل{عليها تسعة عشر} قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم! أسمع بن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم الدهم - أي العدد - والشجعان، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم! قال السدي: فقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي: لا يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة؛ يقولها مستهزئا. في رواية: أن الحرث بن كلدة قال أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين. وقيل: إن أبا جهل قال أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟ فنزل قوله تعالى{وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} أي لم نجعلهم رجالا فتتعاطون مغالبتهم. وقيل: جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة، ولا يستروحون إليهم؛ ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له، فتؤمن هوادتهم؛ ولأنهم أشد خلق الله بأسا وأقواهم بطشا. {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة} أي بلية. وروي عن ابن عباس من غير وجه قال: ضلالة للذين كفروا، يريد أبا جهل وذويه. وقيل: إلا عذابا، كما قال تعالى{يوم هم على النار يفتنون. ذوقوا فتنتكم}الذاريات: 14]. أي جعلنا ذلك سبب كفرهم وسبب العذاب. وفي {تسعة عشر} سبع قراءات: قراءة العامة {تسعة عشر}. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن سليمان {تسعة عشر} بإسكان العين. وعن ابن عباس {تسعة عشر} بضم الهاء. وعن أنس بن مالك {تسعة وعشر} وعنه أيضا {تسعة وعشر}. وعنه أيضا {تسعة أعشر} ذكرها المهدوي وقال: من قرأ {تسعة عشر} أسكن العين لتوالي الحركات. ومن قرأ {تسعة وعشر} جاء به على الأصل قبل التركيب، وعطف عشرا على تسعة، وحذف التنوين لكثرة الاستعمال، وأسكن الراء من عشر على نية السكوت عليها. ومن قرأ {تسعة عشر} فكأنه من التداخل؛ كأنه أراد العطف وترك التركيب، فرفع هاء التأنيث، ثم راجع البناء وأسكن. وأما {تسعة أعشر}: فغير معروف، وقد أنكرها أبو حاتم. وكذلك {تسعة وعشر} لأنها محمولة على {تسعة أعشر} والواو بدل من الهمزة، وليس لذلك وجه عند النحويين. الزمخشري: وقرئ{تسعة أعشر} جمع عشير، مثل يمين وأيمن.
قوله تعالى{ليستيقن الذين أوتوا الكتاب} أي ليوقن الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم؛ قال ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم. ثم يحتمل أنه يريد الذين آمنوا منهم كعبدالله بن سلام. ويحتمل أنه يريد الكل. ويزداد الذين آمنوا إيمانا{ بذلك؛ لأنهم كلما صدقوا بما في كتاب الله آمنوا، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم. }ولا يرتاب{ أي ولا يشك }الذين أوتوا الكتاب{ أي أعطوا الكتاب }والمؤمنون{ أي المصدقون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر. {وليقول الذين في قلوبهم مرض{ أي في صدورهم شك ونفاق من منافقي أهل المدينة، الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة ولم يكن بمكة نفاق وإنما نجم بالمدينة. وقيل: المعنى؛ أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة. {والكافرون} أي اليهود والنصارى {ماذا أراد الله بهذا مثلا} يعني بعدد خزنة جهنم. وقال الحسين بن الفضل: السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق؛ فالمرض في هذه الآية الخلاف و{الكافرون} أي مشركو العرب. وعلى القول الأول أكثر المفسرين. ويجوز أن يراد بالمرض: الشك والارتياب؛ لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين، وبعضهم قاطعين بالكذب وقوله تعالى إخبارا عنهم{ماذا أراد الله} أي ما أراد {بهذا} العدد الذي ذكره حديثا، أي ما هذا من الحديث. قال الليث: المثل الحديث؛ ومنه{مثل الجنة التي وعد المتقون} أي حديثها والخبر عنها {كذلك} أي كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم {يضل الله} أي يخزي ويعمي {من يشاء ويهدي} أي ويرشد {من يشاء} كإرشاد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل{كذلك يضل الله} عن الجنة {من يشاء ويهدي} إليها من يشاء {وما يعلم جنود ربك إلا هو} أي وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار {إلا هو} أي إلا الله جل ثناؤه وهذا جواب لأبي جهل حين قال: أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر! وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين، فأتاه جبريل فجلس عنده، فأتى ملك فقال: إن ربك يأمرك بكذا وكذا، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون شيطانا، فقال: (يا جبريل أتعرفه)؟ فقال: هو ملك وما كل ملائكة ربك أعرف. وقال الأوزاعي: قال موسى يا رب من في السماء؟ قال ملائكتي. قال كم عدتهم يا رب؟ قال: اثني عشر سبطا. قال: كم عدة كل سبط؟ قال: عدد التراب ذكرهما الثعلبي. وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا).
قوله تعالى{وما هي إلا ذكرى للبشر} يعني الدلائل والحجج والقرآن. وقيل{وما هي} أي وما هذه النار التي هي سقر {إلا ذكري} أي عظة {للبشر} أي للخلق. وقيل: نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة. قال الزجاج. وقيل: أي ما هذه العدة {إلا ذكري للبشر} أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار؛ فالكناية على هذا في قوله تعالى{وما هي} ترجع إلى الجنود؛ لأنه أقرب مذكور.
الآية رقم (32 : 48)
{كلا والقمر، والليل إذ أدبر، والصبح إذا أسفر، إنها لإحدى الكبر، نذيرا للبشر، لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر، كل نفس بما كسبت رهينة، إلا أصحاب اليمين، في جنات يتساءلون، عن المجرمين، ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين، فما تنفعهم شفاعة الشافعين}
قوله تعالى{كلا والقمر} قال الفراء{كلا} صلة للقسم، التقدير أي والقمر. وقيل: المعنى حقا والقمر؛ فلا يوقف على هذين التقديرين على {كلا} وأجاز الطبري الوقف عليها، وجعلها ردا للذين زعموا أنهم يقاومون خزنة جهنم؛ أي ليس الأم كما يقول من زعم أنه يقاوم خزنة النار. ثم أقسم على ذلك جل وعز بالقمر وبما بعده، فقال{والليل إذا أدبر} أي ولى وكذلك {دبر}. وقرأ نافع وحمزة وحفص {إذ أدبر} الباقون {إذا} بألف و{دبر} بغير ألف وهما لغتان بمعنى؛ يقال دبر وأدبر، وكذلك قبل الليل وأقبل. وقد قالوا: أمس الدابر والمدابر؛ قال صخر بن عمرو بن الشريد السلمي:
ولقد قتلناكم ثناء وموحدا وتركت مرة مثل أمس الدابر
ويروي المدبر. وهذا قول الفراء والأخفش.
وقال بعض أهل اللغة: دبر الليل: إذا مضى، وأدبر: أخذ في الإدبار. وقال مجاهد: سألت ابن عباس عن قوله تعالى{والليل إذا دبر} فسكت حتى إذا دبر قال: يا مجاهد، هذا حين دبر الليل. وقرأ محمد بن السميقع {والليل إذا أدبر} بألفين، وكذلك في مصحف عبدالله وأبي بألفين. وقال قطرب من قرأ {دبر} فيعني أقبل، من قول العرب دبر فلان: إذا جاء من خلفي. قال أبو عمرو: وهي لغة قريش. وقال ابن عباس في رواية عنه: الصواب{أدبر}، إنما يدبر ظهر البعير. واختار أبو عبيد{إذا أدبر} قال: لأنها أكثر موافقة للحروف التي تليه؛ ألا تراه يقول{والصبح إذا أسفر}، فكيف يكون أحدهما {إذ} والآخر {إذا} وليس في القرآن قسم تعقبه {إذ} وإنما يتعقبه {إذا}. ومعنى {أسفر}: ضاء. وقراءة العامة {أسفر} بالألف. وقرأ ابن السميقع{سفر}. وهما لغتان. يقال: سفر وجه فلان وأسفر: إذا أضاء.
وفي الحديث: (أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر) أي صلوا صلاة الصبح مسفرين، ويقال: طولوها إلى الإسفار، والإسفار: الإنارة. وأسفر وجهه حسنا أي أشرق، وسفرت المرأة كشفت عن وجهها فهي سافر. ويجوز أن يكون من سفر الظلام أي كنسه، كما يسفر البيت، أي يكنس؛ ومنه السفير: لما سقط من ورق الشجر وتحات؛ يقال: إنما سمي سفيرا لأن الريح تسفره أي تكنسه. والمسفرة: المكنسة.
قوله تعالى{إنها لإحدى الكبر} جواب القسم؛ أي إن هذه النار {لإحدى الكبر} أي لإحدى الدواهي. وفي تفسير مقاتل {الكبر}: اسم من أسماء النار. وروي عن ابن عباس {إنها} أي إن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم {لإحدى الكبر} أي لكبيرة من الكبائر. وقيل: أي إن قيام الساعة لإحدى الكبر. والكبر: هي العظائم من العقوبات؛ قال الراجز:
يا ابن المعلى نزلت إحدى الكبر داهية الدهر وصماء الغير
وواحدة الكبر، كبرى مثل الصغرى والصغر، والعظمى والعظم. وقرأ العامة لإحدى وهو اسم بني ابتداء للتأنيث، وليس مبنيا على المذكر؛ نحو عقبى وأخرى، وألفه ألف قطع، لا تذهب في الوصل. وروى جرير بن حازم عن ابن كثير {إنها لحدى الكبر} بحذف الهمزة. {نذيرا للبشر} يريد النار؛ أي أن هذه النار الموصوفة {نذيرا للبشر} فهو نصب على الحال من المضمر في {إنها} قال الزجاج. وذكر؛ لأن معناه معنى العذاب، أو أراد ذات إنذار على معنى النسب؛ كقولهم: امرأة طالق وطاهر. وقال الخليل: النذير: مصدر كالنكير، ولذلك يوصف به المؤنث. وقال الحسن: والله ما أنذر الخلائق بشيء أدهى منها. وقيل: المراد بالنذير محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي قم نذيرا للبشر، أي مخوفا لهم {فنذيرا} حال من {قم} في أول السورة حين قال{قم فأنذر}المدثر: 2] قال أبو علي الفارسي وابن زيد، وروي عن ابن عباس وأنكره الفراء. ابن الأنباري: وقال بعض المفسرين معناه {يا أيها المدثر قم نذيرا للبشر}. وهذا قبيح؛ لأن الكلام قد طال فيما بينهما. وقيل. هو من صفة الله تعالى. روى أبو معاوية الضرير: حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي رزين {نذيرا للبشر} قال: يقول الله عز وجل: أنا لكم منها نذير فاتقوها. و(نذيرا) على هذا نصب على الحال؛ أي {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} منذرا بذلك البشر. وقيل: هو حال من {هو} في قوله تعالى{وما يعلم جنود ربك إلا هو}. وقيل: هو في موضع المصدر، كأنه قال: إنذار للبشر. قال الفراء: يجوز أن يكون النذير بمعنى الإنذار، أي أنذر إنذارا؛ فهو كقوله تعالى{فكيف كان نذير} أي إنذاري؛ فعلى هذا يكون راجعا إلى أول السورة؛ أي قم فأنذر أي إنذارا. وقيل: هو منصوب بإضمار فعل. وقرأ ابن أبي عبلة {نذير} بالرفع على إضمار هو. وقيل: أي إن القرآن نذير للبشر، لما تضمنه من الوعد والوعيد.
قوله تعالى{لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} اللام متعلقة {بنذيرا}، أي نذيرا لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الخير والطاعة، أو يتأخر إلى الشر والمعصية؛ نظيره{ولقد علمنا المستقدمين منكم}الحجر: 24] أي في الخير {ولقد علمنا المستأخرين}الحجر: 24] عنه. قال الحسن: هذا وعيد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر؛ كقوله تعالى{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}الكهف: 29]. وقال بعض أهل التأويل: معناه لمن شاء الله أن يتقدم أو يتأخر، فالمشيئة متصلة بالله جل ثناؤه، والتقديم الإيمان، والتأخير الكفر. وكان ابن عباس يقول: هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جوزي بثواب لا ينقطع، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلى الله عليه وسلم عوقب عقابا لا ينقطع.
وقال السدي{لمن شاء منكم أن يتقدم} إلى النار المتقدم ذكرها، {أو يتأخر} عنها إلى الجنة.
قوله تعالى{كل نفس بما كسبت رهينة} أي مرتهنة بكسبها، مأخوذة بعملها، إما خلصها وإما أوبقها. وليست {رهينة} تأنيث رهين في قوله تعالى{كل امرئ بما كسب رهين}الطور: 21] لتأنيث النفس؛ لأنه لو قصدت الصفة لقيل رهين؛ لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث. وإنما هو اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم؛ كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهين؛ ومنه بيت الحماسة:
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب رهينة رمس ذي تراب وجندل
كأنه قال رهن رمس. والمعنى: كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك {إلا أصحاب اليمين} فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم. واختلف في تعيينهم؛ فقال ابن عباس: الملائكة. علي بن أبي طالب: أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم. الضحاك: الذين سبقت لهم من الله الحسنى، ونحوه عن ابن جريج؛ قال: كل نفس بعملها محاسبة {إلا أصحاب اليمين} وهم أهل الجنة، فإنهم لا يحاسبون. وكذا قال مقاتل أيضا: هم أصحاب الجنة الذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق حين قال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وقال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين؛ لأنهم أدوا ما كان عليهم. وعن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: هم المسلمون. وقيل: إلا أصحاب الحق وأهل الإيمان. وقيل: هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم. وقال أبو جعفر الباقر: نحن وشيعتنا أصحاب اليمين، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون. وقال الحكم: هم الذين اختارهم الله لخدمته، فلم يدخلوا في الرهن، لأنهم خدام الله وصفوته وكسبهم لم يضرهم. وقال القاسم: كل نفس مأخوذة بكسبها من خير أو شر، إلا من اعتمد على الفضل والرحمة، دون الكسب والخدمة، فكل من اعتمد على الكسب فهو مرهون، وكل من اعتمد على الفضل فهو غير مأخوذ به. {في جنات} أي في بساتين {يتساءلون} أي يسألون {عن المجرمين} أي المشركين {ما سلككم} أي أدخلكم {في سقر} كما تقول: سلكت الخيط في كذا أي أدخلته فيه. قال الكلبي: فيسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه، فيقول له: يا فلان. وفي قراءة عبدالله بن الزبير {يا فلان ما سلكك في سقر}؟ وعنه قال: قرأ عمر بن الخطاب {يا فلان ما سلككم في سقر} وهي قراءة على التفسير؛ لا أنها قرآن كما زعم من طعن في القرآن؛ قال أبو بكر بن الأنباري.
وقيل: إن المؤمنين يسألون الملائكة عن أقربائهم، فتسأل الملائكة المشركين فيقولون لهم{ما سلككم في سقر}. قال الفراء: في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين الولدان؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب. {قالوا} يعني أهل النار {لم نك من المصلين} أي المؤمنين الذين يصلون. {ولم نك نطعم المسكين} أي لم نك نتصدق. {وكنا نخوض مع الخائضين} أي كنا نخالط أهل الباطل في باطلهم. وقال ابن زيد: نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قولهم - لعنهم الله - كاهن، مجنون، شاعر، ساحر. وقال السدي: أي وكنا نكذب مع المكذبين. وقال قتادة: كلما غوى غاو غوينا معه. وقيل معناه: وكنا أتباعا ولم نكن متبوعين. {وكنا نكذب بيوم الدين} أي لم نك نصدق بيوم القيامة، يوم الجزاء والحكم. {حتى أتانا اليقين} أي جاءنا ونزل بنا الموت؛ ومنه قوله تعالى{واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}الحجر: 99].
قوله تعالى{فما تنفعهم شفاعة الشافعين} هذا دليل على صحة الشفاعة للمذنبين؛ وذلك أن قوما من أهل التوحيد عذبوا بذنوبهم، ثم شفع فيهم، فرحمهم الله بتوحيدهم والشفاعة، فأخرجوا من النار، وليس للكفار شفيع يشفع فيهم.
وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: يشفع نبيكم صلى الله عليه وسلم رابع أربعة: جبريل، ثم إبراهيم، ثم موسى أو عيسى، ثم نبيكم صلى الله عليه وسلم، ثم الملائكة، ثم النبيون، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ويبقى قوم في جهنم، فيقال لهم{ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين. ولم نك نطعم المسكين} إلى قوله{فما تنفعهم شفاعة الشافعين} قال عبدالله بن مسعود: فهؤلاء هم الذين يبقون في جهنم؛ وقد ذكرنا إسناده في كتاب التذكرة.
الآية رقم (49 : 53)
{فما لهم عن التذكرة معرضين، كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة، بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة، كلا بل لا يخافون الآخرة}
قوله تعالى{فما لهم عن التذكرة معرضين} أي فما لأهل مكة أعرضوا وولوا عما جئتم به. وفي تفسير مقاتل: الإعراض عن القرآن من وجهين: أحدهما الجحود والإنكار، والوجه الآخر ترك العمل بما فيه. و{معرضين} نصب على الحال من الهاء والميم في {لهم} وفي اللام معنى الفعل؛ فانتصاب الحال على معنى الفعل. {كأنهم} أي كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صلى الله عليه وسلم {حمر مستنفرة} قال ابن عباس: أراد الحمر الوحشية. وقرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء، أي منفرة مذعورة؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. الباقون بالكسر، أي نافرة. يقال. نفرت واستنفرت بمعنى؛ مثل عجبت واستعجبت، وسخرت واستسخرت، وأنشد الفراء:
أمسك حمارك إنه مستنفر في إثر أحمرة عمدن لغرب
قوله تعالى{فرت} أي نفرت وهربت {من قسورة} أي من رماة يرمونها.
وقال بعض أهل اللغة: إن القسورة الرامي، وجمعه القسورة. وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان: القسورة: هم الرماة والصيادون، ورواه عطاء عن ابن عباس وأبو [ظبيان] عن أبي موسى الأشعري. وقيل: إنه الأسد؛ قال أبو هريرة وابن عباس أيضا. ابن عرفة: من العسر بمعنى القهر أي؛ إنه يقهر السباع، والحمر الوحشية تهرب من السباع. وروى أبو جمرة عن ابن عباس قال: ما أعلم القسورة الأسد في لغة أحد من العرب، ولكنها عصب الرجال؛ قال: فالقسورة جمع الرجال، وأنشد:
يا بنت كوني خيرة لخيرة أخوالها الجن وأهل القسورة
وعنه: ركز الناس أي حسهم وأصواتهم. وعنه أيضا{فرت من قسورة} أي من حبال الصيادين. وعنه أيضا: القسورة بلسان العرب: الأسد، وبلسان الحبشة: الرماة؛ وبلسان فارس: شير، وبلسان النبط: أريا. وقال ابن الأعرابي: القسورة: أول الليل؛ أي فرت من ظلمة الليل. وقاله عكرمة أيضا. وقيل: هو أول سواد الليل، ولا يقال لآخر سواد الليل قسورة. وقال زيد بن أسلم: من رجال أقوياء، وكل شديد عند العرب فهو قسورة وقسور. وقال لبيد بن ربيعة:
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا أتانا الرجال العائدون القساور
قوله تعالى{بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة} أي يعطى كتبا مفتوحة؛ وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد! ايتنا بكتب من رب العالمين مكتوب فيها: إني قد أرسلت إليكم محمدا، صلى الله عليه وسلم. نظيره{ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه}الإسراء: 93]. وقال ابن عباس: كانوا يقولون إن كان محمد صادقا فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار. قال مطر الوراق: أرادوا أن يعطوا بغير عمل. وقال الكلبي: قال المشركون: بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوبا ذنبه وكفارته، فأتنا بمثل ذلك. وقال مجاهد: أرادوا أن ينزل على كل واحد منهم كتاب فيه من الله عز وجل: إلى فلان بن فلان. وقيل: المعنى أن يذكر بذكر جميل، فجعلت الصحف موضع الذكر مجازا. وقالوا: إذا كانت ذنوب الإنسان تكتب عليه فما بالنا لا نرى ذلك؟ {كلا} أي ليس يكون ذلك. وقيل: حقا. والأول أجود؛ لأنه رد لقولهم. {بل لا يخافون الآخرة} أي لا أعطيهم ما يتمنون لأنهم لا يخافون الآخرة، اغترارا بالدنيا. وقرأ سعيد بن جبير {صحفا منشرة{ بسكون الحاء والنون، فأما تسكين الحاء فتخفيف، وأما النون فشاذ. إنما يقال: نشرت الثوب وشبهه ولا يقال أنشرت. ويجوز أن يكون شبه الصحيفة بالميت كأنها ميتة بطيها، فإذا نشرت حييت، فجاء على أنشر الله الميت، كما شبه إحياء الميت بنشر الثوب، فقيل فيه نشر الله الميت، فهي لغة فيه.
الآية رقم (54 : 56)
{كلا إنه تذكرة، فمن شاء ذكره، وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة}
قوله تعالى{كلا إنه تذكرة} أي حقا إن القرآن عظة. {فمن شاء ذكره} أي اتعظ به. {وما يذكرون} أي وما يتعظون {إلا أن يشاء الله} أي ليس يقدرون على الاتعاظ والتذكر إلا بمشيئة الله ذلك لهم. وقراءة العامة {يذكرون} بالياء واختاره أبو عبيد؛ لقوله تعالى{كلا بل لا يخافون الآخرة}. وقرأ نافع ويعقوب بالتاء، واختاره أبو حاتم، لأنه أعم واتفقوا على تخفيفها. {هو أهل التقوى وأهل المغفرة}" في الترمذي وسنن ابن ماجة عن أنس بن مالك" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية{هو أهل التقوى وأهل المغفرة} قال: [قال الله تبارك وتعالى أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له] لفظ الترمذي، وقال فيه: حديث حسن غريب. وفي بعض التفسير: هو أهل المغفرة لمن تاب إليه من الذنوب الكبار، وأهل المغفرة أيضا للذنوب الصغار، باجتناب الذنوب الكبار.
وقال محمد بن نصر: أنا أهل أن يتقيني عبدي، فإن لم يفعل كنت أهلا أن أغفر له [وأرحمه، وأنا الغفور الرحيم].
{لا أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة، أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه، بلى قادرين على أن نسوي بنانه، بل يريد الإنسان ليفجر أمامه، يسأل أيان يوم القيامة}
قوله تعالى{لا أقسم بيوم القيامة} قيل: إن {لا} صلة، وجاز وقوعها في أول السورة؛ لأن القرآن متصل بعضه ببعض، فهو في حكم كلام واحد؛ ولهذا قد يذكر الشيء في سورة ويجيء جوابه في سورة أخرى؛ كقوله تعالى{وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون}الحجر: 6]. وجوابه في سورة أخرى{ما أنت بنعمة ربك بمجنون}القلم: 2]. ومعنى الكلام: أقسم بيوم القيامة؛ قال ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة؛ ومثله قول الشاعر:
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة فكاد صميم القلب لا يتقطع
وحكى أبو الليث السمرقندي: أجمع المفسرون أن معنى {لا أقسم}: أقسم. واختلفوا في تفسير{لا} قال بعضهم{لا} زيادة في الكلام للزينة، ويجري في كلام العرب زيادة لا كما قال في آية أخرى{قال ما منعك أن تسجد}ص: 75]. يعني أن تسجد، وقال بعضهم{لا}: رد لكلامهم حيث أنكروا البعث، فقال: ليس الأمر كما زعمتم.
قلت: وهذا قول الفراء؛ قال الفراء: وكثير من النحويين يقولون {لا} صلة، ولا يجوز أن يبدأ بجحد ثم يجعل صلة؛ لأن هذا لو كان كذلك لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه، ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار، فجاء الإقسام بالرد عليهم في كثير من الكلام المبتدأ منه وغير المبتدأ وذلك كقولهم لا والله لا أفعل {فلا} رد لكلام قد مضى، وذلك كقولك: لا والله إن القيامة لحق، كأنك أكذبت قوما أنكروه. وأنشد غير الفراء لامرئ القيس:
فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر
وقال غوية بن سلمى:
ألا نادت أمامة باحتمال لتحزنني فلا بك ما أبالي
وفائدتها توكيد القسم في الرد. قال الفراء: وكان من لا يعرف هذه الجهة يقرأ {لأقسم} بغير ألف؛ كأنها لام تأكيد دخلت على أقسم، وهو صواب؛ لأن العرب تقول: لأقسم بالله وهي قراءة الحسن وابن كثير والزهري وابن هرمز {بيوم القيامة} أي بيوم يقوم الناس فيه لربهم، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء. {ولا أقسم بالنفس اللوامة} لا خلاف في هذا بين القراء، وهو أنه أقسم سبحانه بيوم القيامة تعظيما لشأنه ولم يقسم بالنفس. وعلى قراءة ابن كثير أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية.
وقيل{ولا أقسم بالنفس اللوامة} رد آخر وابتداء قسم بالنفس اللوامة. قال الثعلبي: والصحيح أنه أقسم بهما جميعا. ومعنى{بالنفس اللوامة} أي بنفس المؤمن الذي لا تراه إلا يلوم نفسه، يقول: ما أردت بكذا؟ فلا تراه إلا وهو يعاتب نفسه؛ قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. قال الحسن: هي والله نفس المؤمن، ما يرى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلامى؟ ما أردت بأكلي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه. وقال مجاهد: هي التي تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشر لم فعلته، وعلى الخير لم لا تستكثر منه. وقيل: إنها ذات اللوم.
وقيل: إنها تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها؛ فعلى هذه الوجوه تكون اللوامة بمعنى اللائمة، وهو صفة مدح؛ وعلى هذا يجيء القسم بها سائغا حسنا. وفي بعض التفسير: إنه آدم عليه السلام لم يزل لائما لنفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة. وقيل: اللوامة بمعنى الملومة المذمومة عن ابن عباس أيضا - فهي صفة ذم وهو قول من نفى أن يكون قسما؛ إذ ليس للعاصي خطر يقسم به، فهي كثيرة اللوم. وقال مقاتل: هي نفس الكافر يلوم نفسه، ويتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله. وقال الفراء: ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها؛ فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحسانا، والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته.
قوله تعالى{أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه} فنعيدها خلقا جديدا بعد أن صارت رفاتا. قال الزجاج: أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة: ليجمعن العظام للبعث، فهذا جواب القسم. وقال النحاس: جواب القسم محذوف أي لتبعثن؛ ودل عليه قوله تعالى{أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} للإحياء والبعث. والإنسان هنا الكافر المكذب للبعث. الآية نزلت في عدي بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: حدثني عن يوم القيامة متى تكون، وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أأمن به، أو يجمع الله العظام؟ ! ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم اكفني جاري السوء عدي بن ربيعة، والأخنس بن شريق). وقيل: نزلت في عدو الله أبي جهل حين أنكر البعث بعد الموت. وذكر العظام والمراد نفسه كلها؛ لأن العظام قالب الخلق. {بلى} وقف حسن ثم تبتدئ {قادرين}. قال سيبويه: على معنى نجمعها قادرين، {فقادرين} حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرناه من التقدير. وقيل: المعنى بل نقدر قادرين. قال الفراء{قادرين} نصب على الخروج من {نجمع} أي نقدر ونقوى {قادرين} على أكثر من ذلك. وقال أيضا: يصلح نصبه على التكرير أي {بلى} فليحسبنا قادرين. وقيل: المضمر كنا أي كنا قادرين في الابتداء، وقد اعترف به المشركون. وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميقع {بلى قادرون} بتأويل نحن قادرون. {على أن نسوي بنانه} البنان عند العرب: الأصابع، واحدها بنانة؛ قال النابغة:
بمخضب رخص كأن بنانه عنم يكاد من اللطافة يعقد
وقال عنترة:
وأن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندواني
فنبه بالبنان على بقية الأعضاء. وأيضا فإنها أصغر العظام، فخصها بالذكر لذلك.
قال القتبي والزجاج: وزعموا أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام؛ فقال الله تعالى: بلى قادرين على أن نعيد السلاميات على صغرها، ونؤلف بينها حتى تستوي، ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار أقدر. وقال ابن عباس وعامة المفسرين: المعنى {على أن نسوي بنانه} أي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير، أو كحافر الحمار، أو كظلف الخنزير، ولا يمكنه أن يعمل به شيئا، ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء. وكان الحسن يقول: جعل لك أصابع فأنت تبسطهن، وتقبضهن بهن، ولو شاء الله لجمعهن فلم تتق الأرض إلا بكفيك. وقيل: أي نقدر أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها؛ وهو كقوله تعالى{وما نحن بمسبوقين. على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون}الواقعة:61 ].
قلت: والتأويل الأول أشبه بمساق الآية. والله أعلم.
قوله تعالى{بل يريد الإنسان ليفجر أمامه} قال ابن عباس: يعني الكافر يكذب بما أمامه من البعث والحساب. وقال عبدالرحمن بن زيد؛ ودليله{يسأل أيان يوم القيامة} أي يسأل متى يكون! على وجه الإنكار والتكذيب. فهو لا يقنع بما هو فيه من التكذيب، ولكن يأثم لما بين يديه. ومما يدل على أن الفجور التكذيب ما ذكره القتبي وغيره: أن أعرابيا قصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشكا إليه نقب إبله ودبرها، وسأله أن يحمله على غيرها فلم يحمله؛ فقال الأعرابي:
أقسم بالله أبو حفص عمر ما مسها من نقب ولا دبر
فاغفر له اللهم إن كان فجر
يعني إن كان كذبني فيما ذكرت. وعن ابن عباس أيضا: يعجل المعصية ويسوف التوبة. وفي بعض الحديث قال: يقول سوف أتوب ولا يتوب؛ فهو قد أخلف فكذب. وهذا قول مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب، حتى يأتيه الموت على أشر أحواله. وقال الضحاك: هو الأمل يقول سوف أعيش وأصيب من الدنيا ولا يذكر الموت. وقيل: أي يعزم على المعصية أبدا وإن كان لا يعيش إلا مدة قليلة. فالهاء على هذه الأقوال للإنسان. وقيل: الهاء ليوم القيامة. والمعنى بل يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي يوم القيامة. والفجور أصله الميل عن الحق. {يسأل أيان يوم القيامة} أي متى يوم القيامة.
الآية رقم (7 : 13)
{فإذا برق البصر، وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر، يقول الإنسان يومئذ أين المفر، كلا لا وزر، إلى ربك يومئذ المستقر، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر}
قوله تعالى{فإذا برق البصر} قرأ نافع وأبان عن عاصم {برق} بفتح الراء، معناه: لمع بصره من شدة شخوصه، فتراه لا يطرف. قال مجاهد وغيره: هذا عند الموت. وقال الحسن: هذا يوم القيامة. وقال فيه معنى الجواب عما سأل عنه الإنسان كأنه يوم القيامة {إذا برق البصر. وخسف القمر} والباقون بالكسر {برق} ومعناه: تحير فلم يطرف؛ قاله أبو عمرو والزجاج وغيرهما. قال ذو الرمة:
ولو أن لقمان الحكيم تعرضت لعينيه مي سافرا كاد يبرق
الفراء والخليل{برق} بالكسر: فزع وبهت وتحير. والعرب تقول للإنسان المتحير المبهوت: قد برق فهو برق؛ وأنشد الفراء:
فنفسك فانع ولا تنعني وداو الكلوم ولا تبرق
أي لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك. وقيل: برق يبرق بالفتح: شق عينيه وفتحهما. قاله أبو عبيدة؛ وأنشد قول الكلابي:
لما أتاني ابن عمير راغبا أعطيته عيشا صهابا فبرق
أي فتح عينيه. وقيل: إن كسر الراء وفتحها لغتان بمعنى.
قوله تعالى{وخسف القمر} أي ذهب ضوئه. والخسوف في الدنيا إلى انجلاء، بخلاف الآخرة، فإنه لا يعود ضوئه. ويحتمل أن يكون بمعنى غاب؛ ومنه قوله تعالى{فخسفنا به وبداره الأرض}القصص: 81]. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والأعرج{وخسف القمر} بضم الخاء وكسر السين يدل عليه {وجمع الشمس والقمر}. وقال أبو حاتم محمد بن إدريس: إذا ذهب بعضه فهو الكسوف، وإذا ذهب كله فهو الخسوف. {وجمع الشمس والقمر} أي جمع بينهما في ذهاب ضوئهما، فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه؛ قاله الفراء والزجاج.
قال الفراء: ولم يقل جمعت؛ لأن المعنى جمع بينهما. وقال أبو عبيدة: هو على تغليب المذكر. وقال الكسائي: هو محمول على المعنى، كأنه قال الضوءان. المبرد: التأنيث غير حقيقي. وقال ابن عباس وابن مسعود: جمع بينهما أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكورين مظلمين مقرنين كأنهما ثوران عقيران. وقد مضى الحديث بهذا المعنى في آخر سورة الأنعام . وفي قراءة عبدالله {وجمع بين الشمس والقمر} وقال عطاء بن يسار: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار الله الكبرى. وقال علي وابن عباس: يجعلان في نور الحجب. وقد يجمعان في نار جهنم؛ لأنهما قد عبدا من دون الله ولا تكون النار عذابا لهما لأنهما جماد، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم. وفي مسند أبي داود الطيالسي، عن يزيد الرقاشي، عن أنس ابن مالك يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار(
وقيل: هذا الجمع أنهما يجتمعان ولا يفترقان، ويقربان من الناس، فيلحقهم العرق لشدة الحر؛ فكأن المعنى يجمع حرهما عليهم. وقيل: يجمع الشمس والقمر، فلا يكون ثم تعاقب ليل ولا نهار.
قوله تعالى{يقول الإنسان يومئذ أين المفر} أي يقول ابن آدم، ويقال: أبو جهل؛ أي أين المهرب؟ قال الشاعر:
أين المفر والكباش تنتطح وأي كبش حاد عنها يفتضح
الماوردي: ويحتمل وجهين: أحدهما {أين المفر} من الله استحياء منه. الثاني {أين المفر} من جهنم حذرا منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين: أحدهما: أن يكون من الكافر خاصة في عرضة القيامة دون المؤمن؛ لثقة المؤمن ببشرى ربه. الثاني: أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها. وقراءة العامة {المفر} بفتح الفاء واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم؛ لأنه مصدر. وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة بكسر الفاء مع فتح الميم؛ قال الكسائي: هما لغتان مثل مدب ومدب، ومصح ومصح. وعن الزهري بكسر الميم وفتح الفاء. المهدوي: من فتح الميم والفاء من {المفر} فهو مصدر بمعنى الفرار، ومن فتح الميم وكسر الفاء فهو الموضع الذي يفر إليه. ومن كسر الميم وفتح الفاء فهو الإنسان الجيد الفرار؛ فالمعنى أين الإنسان الجيد الفرار ولن ينجو مع ذلك.
قلت: ومنه قول امرئ القيس:
مكر مفر مقبل مدبر معا
يريد أنه حسن الكر والفر جيده. {كلا} أي لا مفر {فكلا} رد وهو من قول الله تعالى.. ثم فسر هذا الرد فقال{لا وزر} أي لا ملجأ من النار. وكان ابن مسعود يقول: لا حصن. وكان الحسن يقول: لا جبل. وابن عباس يقول: لا ملجأ. وابن جبير: لا محيص ولا منعة. المعنى في ذلك كله واحد. والوزر في اللغة: ما يلجأ إليه من حصن أو جبل أو غيرهما؛ قال الشاعر:
لعمري ما للفتى من وزر من الموت يدركه والكبر
قال السدي: كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصنوا في الجبال، فقال الله لهم: لا وزر يعصمكم يومئذ مني؛ قال طرفة:
ولقد تعلم بكر أننا فاضلوا الرأي وفي الروع وزر
أي ملجأ للخائف. ويروى: وقر. {إلى ربك يومئذ المستقر} أي المنتهى؛ قال قتادة نظيره{وأن إلى ربك المنتهى}النجم: 42]. وقال ابن مسعود: إلى ربك المصير والمرجع. قيل: أي المستقر في الآخرة حيث يقره الله تعالى؛ إذ هو الحاكم بينهم.
وقيل: إن {كلا} من قول الإنسان لنفسه إذا علم أنه ليس له مفر قال لنفسه{كلا لا وزر. إلى ربك يومئذ المستقر}.
قوله تعالى{ينبأ الإنسان} أي يخبر ابن آدم برا كان أو فاجرا {بما قدم وأخر}: أي بما أسلف من عمل سيء أو صالح، أو أخر من سنة سيئة أو صالحة يعمل بها بعده؛ قاله ابن عباس وابن مسعود. وروى منصور عن مجاهد قال: ينبأ بأول عمله وآخره. وقاله النخعي. وقال ابن عباس أيضا: أي بما قدم من المعصية، وأخر من الطاعة. وهو قول قتادة. وقال ابن زيد{بما قدم} من أمواله لنفسه {وأخر}: خلف للورثة. وقال الضحاك: ينبأ بما قدم من فرض، وأخر من فرض. قال القشيري: وهذا الإنباء يكون في القيامة عند وزن الأعمال. ويجوز أن يكون عند الموت.
قلت: والأول أظهر؛ لما خرجه ابن ماجة في سننه من حديث الزهري، حدثني أبو عبدالله الأغر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته) وخرجه أبو نعيم الحافظ بمعناه من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبع يجري أجرهن للعبد بعد موته وهو في قبره: من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته) فقوله: (بعد موته وهو في قبره) نص على أن ذلك لا يكون عند الموت، وإنما يخبر بجميع ذلك عند وزن عمله، وإن كان يبشر بذلك في قبره. ودل على هذا أيضا قوله الحق{وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم}العنكبوت: 13] وقوله تعالى{ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم}النحل: 25] وهذا لا يكون إلا في الآخرة بعد وزن الأعمال. والله أعلم.
وفي الصحيح: (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء).
الآية رقم (14 : 15)
{بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره}
قوله تعالى{بل الإنسان على نفسه بصيرة} قال الأخفش: جعله هو البصيرة، كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك. وقال ابن عباس{بصيرة} أي شاهد، وهو شهود جوارحه عليه: يداه بما بطش بهما، ورجلاه بما مشى عليهما، وعيناه بما أبصر بهما. والبصيرة: الشاهد. وأنشد الفراء:
كأن على ذي العقل عينا بصيرة بمقعده أو منظر هو ناظره
يحاذر حتى يحسب الناس كلهم من الخوف لا تخفى عليهم سرائره
ودليل هذا التأويل من التنزيل قوله تعالى{يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون}النور: 24]. وجاء تأنيث البصيرة لأن المراد بالإنسان ها هنا الجوارح، لأنها شاهدة على نفس الإنسان؛ فكأنه قال: بل الجوارح على نفس الإنسان بصيرة؛ قال معناه القتبي وغيره. وناس يقولون: هذه الهاء في قوله{بصيرة} هي التي يسميها أهل الإعراب هاء المبالغة، كالهاء في قولهم: داهية وعلامة وراوية. وهو قول أبي عبيد. وقيل المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير أو شر؛ يدل عليه قوله تعالى{ولو ألقى معاذيره} فيمن جعل المعاذير الستور. وهو قول السدي والضحاك. وقال بعض أهل التفسير: المعنى بل على الإنسان من نفسه بصيرة؛ أي شاهد فحذف حرف الجر. ويجوز أن يكون {بصيرة} نعتا لاسم مؤنث فيكون تقديره: بل الإنسان على نفسه عين بصيرة؛ وأنشد الفراء:
كأن على ذي العقل عينا بصيرة
وقال الحسن في قوله تعالى{بل الإنسان على نفسه بصيرة} يعني بصير بعيوب غيره، جاهل بعيوب نفسه. أي ولو أرخى ستوره. والستر بلغة أهل اليمن: معذار؛ قاله الضحاك وقال الشاعر:
ولكنها ضنت بمنزل ساعة علينا وأطت فوقها بالمعاذر
قال الزجاج: المعاذر: الستور، والواحد معذار؛ أي وإن أرخى ستره؛ يريد أن يخفى عمله، فنفسه شاهدة عليه. وقيل: أي ولو اعتذر فقال لم أفعل شيئا، لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه، فعليه شاهد يكذب عذره؛ قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبدالرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسدي أيضا ومقاتل. قال مقاتل: أي لو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك. نظيره قوله تعالى{يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم}غافر: 52] وقوله{ولا يؤذن لهم فيعتذرون}المرسلات: 36] فالمعاذير على هذا: مأخوذ من العذر؛ قال الشاعر:
وإياك والأمر الذي إن توسعت موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه وليس له من سائر الناس عاذر
واعتذر رجل إلى إبراهيم النخعي فقال له: قد عذرتك غير معتذر، إن المعاذير يشوبها الكذب. وقال ابن عباس{ولو ألقى معاذيره} أي لو تجرد من ثيابه. حكاه الماوردي.
قلت: والأظهر أنه الإدلاء بالحجة والاعتذار من الذنب؛ ومنه قول النابغة:
ها إن ذي عذرة إلا تكن نفعت فإن صاحبها مشارك الكند
والدليل على هذا قوله تعالى في الكفار {والله ربنا ما كنا مشركين}الأنعام: 23] وقوله تعالى في المنافقين{يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم}المجادلة: 18]."وفي الصحيح"أنه يقول: (يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع) الحديث. وقد تقدم في حم السجدة وغيرها. والمعاذير والمعاذر: جمع معذرة؛ ويقال: عذرته فيما صنع أعذره عذرا وعذرا، والاسم المعذرة والعذري؛ قال الشاعر:
إني حددت ولا عذرى لمحدود
وكذلك العذرة وهي مثل الركبة والجلسة؛ قال النابغة:
ها إن تا عذرة إلا تكن نفعت فإن صاحبها قد تاه في البلد
قال القاضي أبو بكر بن العربي قوله تعالى{بل الإنسان على نفسه بصيرة. ولو ألقى معاذيره}: فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه؛ لأنها بشهادة منه عليها؛ قال الله سبحانه وتعالى{يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون}النور: 24] ولا خلاف فيه؛ لأنه إخبار على وجه تنتفي التهمة عنه؛ لأن العاقل لا يكذب على نفسه، وهي
وقد قال سبحانه في كتابه الكريم{وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين}آل عمران: 81] ثم قال تعالى{وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا}التوبة: 102] وهو في الآثار كثير؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها). فأما إقرار الغير على الغير بوارث أو دين فقال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا في الرجل يهلك وله بنون، فيقول أحدهم: إن أبي قد أقر أن فلانا ابنه، أن ذلك النسب لا يثبت بشهادة إنسان واحد، ولا يجوز إقرار الذي أقر إلا على نفسه في حصته من مال أبيه، يعطى الذي شهد له قدر الدين الذي يصيبه من المال الذي في يده. قال مالك: وتفسير ذلك أن يهلك الرجل ويترك ابنين ويترك ستمائة دينار، ثم يشهد أحدهما بأن أباه الهالك أقر أن فلانا ابنه، فيكون على الذي شهد للذي استحق مائة دينار، وذلك نصف ميراث المستلحق لو لحق، وإن أقر له الآخر أخذ المائة الأخرى فاستكمل حقه وثبت نسبه. وهو أيضا بمنزلة المرأة تقر بالدين على أبيها أو على زوجها وينكر ذلك الورثة، فعليها أن تدفع إلى الذي أقرت له قدر الذي يصيبها من ذلك الدين لو ثبت على الورثة كلهم، إن كانت امرأة فورثت الثمن دفعت إلى الغريم ثمن دينه، وإن كانت ابنة ورثت النصف دفعت إلى الغريم نصف دينه، على حساب هذا يدفع إليه من أقر له من النساء.
لا يصح الإقرار إلا من مكلف، لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه؛ لأن الحجر يسقط قوله إن كان لحق نفسه، فإن كان لحق غيره كالمريض كان منه ساقط، ومنه جائز. وبيانه في مسائل الفقه. وللعبد حالتان في الإقرار: إحداهما في ابتدائه، ولا خلاف فيه على الوجه المتقدم. والثانية في انتهائه، وذلك مثل إبهام الإقرار، وله صور كثيرة وأمهاتها ست: الصورة الأولى: أن يقول له عندي شيء، قال الشافعي: لو فسره بتمرة أو كسرة قبل منه. والذي تقتضيه أصولنا أنه لا يقبل إلا فيما له قدر، فإذا فسره به قبل منه وحلف عليه. الصورة الثانية: أن يفسر هذا بخمر أو خنزير أو ما لا يكون مالا في الشريعة: لم يقبل باتفاق ولو ساعده عليه المقر له. الصورة الثالثة: أن يفسره بمختلف فيه مثل جلد الميتة أو سرقين أو كلب، (فإن الحاكم يحكم عليه في ذلك بما يراه من رد وإمضاء) فإن رده لم يحكم عليه حاكم آخر غيره بشيء، لأن الحكم قد نفذ بإبطاله، وقال بعض أصحاب الشافعي: يلزم الخمر والخنزير، وهو قول باطل.
وقال أبو حنيفة: إذا قال له علي شيء لم يقبل تفسيره إلا بمكيل أو موزون، لأنه لا يثبت في الذمة بنفسه إلا هما. وهذا ضعيف؛ فإن غيرهما يثبت في الذمة إذا وجب ذلك إجماعا. الصورة الرابعة: إذا قال له: عندي مال قبل تفسيره بما لا يكون مالا في العادة كالدرهم والدرهمين، ما لم يجيء من قرينة الحال ما يحكم عليه بأكثر منه.
الصورة الخامسة: أن يقول له: عندي مال كثير أو عظيم؛ فقال الشافعي: يقبل في الحبة. وقال أبو حنيفة: لا يقبل إلا في نصاب الزكاة. وقال علماؤنا في ذلك أقوالا مختلفة، منها نصاب السرقة والزكاة والدية وأقله عندي نصاب السرقة، لأنه لا يبان عضو المسلم إلا في مال عظيم. وبه قال أكثر الحنفية. ومن يعجب فيتعجب لقول الليث بن سعد: إنه لا يقبل في أقل من اثنين وسبعين درهما. فقيل له: ومن أين تقول ذلك؟ قال: لأن الله تعالى قال{لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين}التوبة: 25] وغزواته وسراياه كانت اثنتين وسبعين. وهذا لا يصح؛ لأنه أخرج حنينا منها، وكان حقه أن يقول يقبل في أحد وسبعين، وقد قال الله تعالى{اذكروا الله ذكرا كثيرا}الأحزاب: 41]، وقال{لا خير في كثير من نجواهم}النساء: 114]، وقال{والعنهم لعنا كبيرا}الأحزاب: 68]. الصورة السادسة: إذا قال له: عندي عشرة أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسرها بما شاء ويقبل منه، فإن قال ألف درهم أو مائة وعبد أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسر المبهم ويقبل منه. وبه قال الشافعي: وقال أبو حنيفة: إن عطف على العدد المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا؛ كقوله: مائة وخمسون درهما؛ لأن الدرهم تفسير للخمسين، والخمسين تفسير للمائة. وقال ابن خيران الإصطخري من أصحاب الشافعي: الدرهم لا يكون تفسيرا في المائة والخمسين إلا للخمسين خاصة ويفسر هو المائة بما شاء.
قوله تعالى{ولو ألقى معاذيره} ومعناه لو اعتذر بعد الإقرار لم يقبل منه. وقد اختلف العلماء فيمن رجع بعد ما أقر في الحدود التي هي خالص حق الله؛ فقال أكثرهم منهم الشافعي وأبو حنيفة: يقبل رجوعه بعد الإقرار. وقال به مالك في أحد قوليه، وقال في القول الآخر: لا يقبل إلا أن يذكر لرجوعه وجها صحيحا.
والصحيح جواز الرجوع مطلقا؛ لما "روى الأئمة منهم البخاري ومسلم "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد المقر بالزنى مرارا أربعا كل مرة يعرض عنه، ولما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أبك جنون) قال: لا. قال: (أحصنت) قال: نعم."وفي حديث البخاري": (لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت). "وفي النسائي وأبي داود:" حتى قال له في الخامسة (أجامعتها) قال: نعم. قال: (حتى غاب ذلك منك في ذلك منها) قال: نعم. قال: (كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر). قال: نعم. ثم قال: (هل تدري ما الزنى) قال: نعم، أتيت منها حراما مثل ما يأتي الرجل من أهله حلالا. قال: (فما تريد مني)؟ قال: أريد أن تطهرني. قال: فأمر به فرجم. قال الترمذي وأبو داود: فلما وجد مس الحجارة فر يشتد، فضربه رجل بلحى جمل، وضربه الناس حتى مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا تركتموه) وقال أبو داود والنسائي: ليثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما لترك حد فلا. وهذا كله طريق للرجوع وتصريح بقبوله. وفي قوله عليه السلام: (لعلك قبلت أو غمزت) إشارة إلى قول مالك: إنه يقبل رجوعه إذا ذكر وجها.
وهذا في الحر المالك لأمر نفسه، فأما العبد فإن إقراره لا يخلو من أحد قسمين: إما أن يقر على بدنه، أو على ما في يده وذمته؛ فإن أقر على ما في بدنه فيما فيه عقوبة من القتل فما دونه نفذ ذلك عليه. وقال محمد بن الحسن: لا يقبل ذلك منه؛ لأن بدنه مستغرق لحق السيد، وفي إقراره إتلاف حقوق السيد في بدنه؛ ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: (من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإن من يبدلنا صفحته نقم عليه الحد). المعنى: أن محل العقوبة أصل الخلقة، وهي الدمية في الآدمية، ولا حق للسيد فيها، وإنما حقه في الوصف والتبع، وهي المالية الطارئة عليه؛ ألا ترى أنه لو أقر بمال لم يقبل، حتى قال أبو حنيفة: إنه لو قال سرقت هذه السلعة أنه لم تقطع يده ويأخذها المقر له. وقال علماؤنا: السلعة للسيد ويتبع العبد بقيمتها إذا عتق؛ لأن مال العبد للسيد إجماعا، فلا يقبل قوله فيه ولا إقراره عليه، لا سيما وأبو حنيفة يقول: إن العبد لا ملك له ولا يصح أن يملك ولا يملك، ونحن وإن قلنا إنه يصح تملكه. ولكن جميع ما في يده لسيده بإجماع على القولين. والله أعلم.
الآية رقم (16 : 21)
{لا تحرك به لسانك لتعجل به، إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه، كلا بل تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة}
قوله تعالى{لا تحرك به لسانك لتعجل به} في الترمذي: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه، يريد أن يحفظه، فأنزل الله تبارك وتعالى{لا تحرك به لسانك لتعجل به} قال: فكان يحرك به شفتيه. وحرك سفيان شفتيه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ مسلم عن ابن جبير عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه، فقال لي ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما؛ فقال سعيد: أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه؛ فأنزل الله عز وجل{لا تحرك به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه} قال جمعه في صدرك ثم تقرؤه{فإذا قرآناه فاتبع قرآنه{ قال فاستمع له وأنصت. ثم إن علينا أن نقرأه؛ قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليهما السلام استمع، وإذا انطلق جبريل عليه السلام قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه؛ خرجه البخاري أيضا. ونظير هذه الآية قوله تعالى{ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه}طه: 114] وقد تقدم. وقال عامر الشعبي: إنما كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له، وحلاوته في لسانه، فنهى عن ذلك حتى يجتمع؛ لأن بعضه مرتبط ببعض، وقيل: كان عليه السلام إذا نزل عليه الوحي حرك لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه، فنزلت {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه}طه: 114] ونزل{سنقرئك فلا تنسى}الأعلى: 6] ونزل{لا تحرك به لسانك} قاله ابن عباس{وقرآنه} أي وقراءته عليك. والقراءة والقرآن في قول الفراء مصدران. وقال قتادة{فاتبع قرآنه} أي فاتبع شرائعه وأحكامه. {ثم إن علينا بيانه} أي تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام؛ قاله قتادة. وقيل: ثم إن علينا بيان ما فيه من الوعد والوعيد وتحقيقهما وقيل: أي إن علينا أن نبينه بلسانك. {كلا} قال ابن عباس: أي إن أبا جهل لا يؤمن بتفسير القرآن وبيانه. وقيل: أي كلا لا يصلون ولا يذكون يريد كفار مكة. {بل تحبون} أي بل تحبون يا كفار أهل مكة {العاجلة} أي الدار الدنيا والحياة فيها {وتذرون} أي تدعون {الآخرة} والعمل لها. وفي بعض التفسير قال: الآخرة الجنة. وقرأ أهل المدينة والكوفيون {بل تحبون} {وتذرون} بالتاء فيهما على الخطاب واختاره أبو عبيد؛ قال: ولولا الكراهة لخلاف هؤلاء القراء لقرأتها بالياء؛ لذكر الإنسان قبل ذلك. الباقون بالياء على الخبر، وهو اختيار أبي حاتم، فمن قرأ بالياء فردا على قوله تعالى{ينبأ الإنسان}القيامة: 13] وهو بمعنى الناس. ومن قرأ بالتاء فعلى أنه واجههم بالتقريع؛ لأن ذلك أبلغ في المقصود؛ نظيره{إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا}الإنسان: 27].
الآية رقم (22 : 25)
{وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة، ووجوه يومئذ باسرة، تظن أن يفعل بها فاقرة}
قوله تعالى{وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة} الأول من النضرة التي هي الحسن والنعمة. والثاني من النظر أي وجوه المؤمنين مشرقة حسنة ناعمة؛ يقال: نضرهم الله ينضرهم نضرة ونضارة وهو الإشراق والعيش والغنى؛ ومنه الحديث (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها). {إلى ربها} إلى خالقها ومالكها {ناظرة} من النظر أي تنظر إلى ربها؛ على هذا جمهور العلماء. وفي الباب حديث صهيب خرجه مسلم وقد مضى في يونس عند قوله تعالى{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}يونس: 26]. وكان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية؛ ثم تلا هذه الآية{وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة} وروى يزيد النحوي عن عكرمة قال: تنظر إلى ربها نظرا. وكان الحسن يقول: نضرت وجوههم ونظروا إلى ربهم.
وقيل: إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب. وروي عن ابن عمر ومجاهد. وقال عكرمة: تنتظر أمر ربها. حكاه الماوردي عن ابن عمر وعكرمة أيضا. وليس معروفا إلا عن مجاهد وحده. واحتجوا بقوله تعالى{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}الأنعام: 103] وهذا القول ضعيف جدا، خارج عن مقتضى ظاهر الآية والأخبار. وفي الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم{وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة} قال هذا حديث غريب. وقد روى عن ابن عمرو ولم يرفعه." وفي صحيح مسلم عن أبي بكر بن عبدالله بن قيس" عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم جل وعز إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن). وروى جرير بن عبدالله قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: (إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا). ثم قرأ {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} "متفق عليه. وخرجه أيضا أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح". "وخرج أبو داود عن أبي رزين العقيلي" قال: قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه؟ قال ابن معاذ: مخليا به يوم القيامة؟ قال: (نعم يا أبا رزين) قال: وما آية ذلك في خلقه؟ قال: (يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر) قال ابن معاذ: ليلة البدر مخليا به. قلنا: بلى. قال: (فالله أعظم) (قال ابن معاذ قال): (فإنما هو خلق من خلق الله - يعني القمر - فالله أجل وأعظم). وفي كتاب النسائي عن صهيب قال: (فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر، ولا أقر لأعينهم) وفي التفسير لأبي إسحاق الثعلبي عن الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يتجلى ربنا عز وجل حتى ينظروا إلى وجهه، فيخرون له سجدا، فيقول ارفعوا رؤوسكم فليس هذا بيوم عبادة]
قال الثعلبي: وقول مجاهد إنها بمعنى تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه، فتأويل مدخول، لأن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا نظرته؛ كما قال تعالى{هل ينظرون إلا الساعة}الزخرف: 66]، {هل ينظرون إلا تأويله}الأعراف: 53]، و{ما ينظرون إلا صيحة واحدة}يس: 49] وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا: نظرت فيه، فأما إذا كان النظر مقرونا بذكر إلى، وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان. وقال الأزهري: إن قول مجاهد تنتظر ثواب ربها خطأ؛ لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى الانتظار، وإن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، كذلك تقوله العرب؛ لأنهم يقولون نظرت إليه: إذا أرادوا نظر العين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته؛ قال:
فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب
لما أراد الانتظار قال تنظراني، ولم يقل تنظران إلي؛ وإذا أرادوا نظر العين قالوا: نظرت إليه؛ قال:
نظرت إليها والنجوم كأنها مصابيح رهبان تشب لقفال
وقال آخر:
نظرت إليها بالمحصب من منى ولي نظر لولا التحرج عارم
وقال آخر:
إني إليك لما وعدت لناظر نظر الفقير إلى الغني الموسر
أي إني أنظر إليك بذل؛ لأن نظر الذل والخضوع أرق لقلب المسؤول؛ فأما ما استدلوا به من قوله تعالى{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}الأنعام: 103] فإنما ذلك في الدنيا. وقد مضى القول فيه في موضعه مستوفى. وقال عطية العوفي: ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته، ونظره يحيط بها؛ يدل عليه{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}الأنعام: 103] قال القشيري أبو نصر: وقيل{إلى} واحد الآلاء: أي نعمه منتظرة وهذا أيضا باطل؛ لأن واحد الآلاء يكتب بالألف لا بالياء، ثم الآلاء: نعمه الدفع، وهم في الجنة لا ينتظرون دفع نقمه عنهم، والمنتظر للشيء متنغص العيش، فلا يوصف أهل الجنة بذلك. وقيل: أضاف النظر إلى الوجه؛ وهو كقوله تعالى{تجري من تحتها الأنهار}المائدة: 119] والماء يجري في النهر لا النهر. ثم قد يذكر الوجه بمعنى العين؛ قال الله تعالى{فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا}يوسف: 93] أي على عينيه. ثم لا يبعد قلب العادة غدا، حتى يخلق الرؤية والنظر في الوجه؛ وهو كقوله تعالى{أفمن يمشي مكبا على وجهه}الملك: 22]، فقيل: يا رسول الله! كيف يمشون في النار على وجوههم؟ قال: (الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم). {ووجوه يومئذ باسرة} أي وجوه الكفار يوم القيامة كالحة كاسفة عابسة. وفي الصحاح: وبسر الفحل الناقة وابتسرها: إذا ضربها من غير ضبعة. وبسر الرجل وجهه بسورا أي كلح؛ يقال: عبس وبسر. وقال السدي{باسرة} أي متغيرة والمعنى واحد. {تظن أن يفعل بها فاقرة} أي توقن وتعلم، والفاقرة: الداهية والأمر العظيم؛ يقال: فقرته الفاقرة: أي كسرت فقار ظهره. قال معناه مجاهد وغيره. وقال قتادة: الفاقرة الشر. السدي: الهلاك. ابن عباس وابن زيد: دخول النار. والمعنى متقارب وأصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم؛ قاله الأصمعي. يقال: فقرت أنف البعير: إذا حززته بحديدة ثم جعلت على موضع الحز الجرير وعليه وتر ملوي، لتذلله بذلك وتروضه؛ ومنه قولهم: قد عمل به الفاقرة. وقال النابغة:
أبى لي قبر لا يزال مقابلي وضربة فأس فوق رأسي فاقره
الآية رقم (26 : 30)
{كلا إذا بلغت التراقي، وقيل من راق، وظن أنه الفراق، والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق}
قوله تعالى{كلا إذا بلغت التراقي} {كلا} ردع وزجر؛ أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة؛ ثم استأنف فقال{إذا بلغت التراقي} أي بلغت النفس أو الروح التراقي؛ فأخبر عما لم يجر له ذكر، لعلم المخاطب به؛ كقوله تعالى{حتى توارت بالحجاب}ص: 32] وقوله تعالى{فلولا إذا بلغت الحلقوم}الواقعة: 83] وقد تقدم. وقيل{كلا} معناه حقا؛ أي حقا أن المساق إلى الله {إذا بلغت التراقي} أي إذا ارتقت النفس إلى التراقي. وكان ابن عباس يقول: إذا بلغت نفس الكافر التراقي. والتراقي جمع ترقوة وهي العظام المكتنفة لنقرة النحر، وهو مقدم الحلق من أعلى الصدر، موضع الحشرجة؛ قال دريد بن الصمة.
ورب عظيمة دافعت عنهم وقد بلغت نفوسهم التراقي
وقد يكنى عن الإشفاء على الموت ببلوغ النفس التراقي، والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت.
قوله تعالى{وقيل من راق} اختلف فيه؛ فقيل: هو من الرقية؛ عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما. روي سماك عن عكرمة قال: من راق يرقي: أي يشفي. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس: أي هل من طبيب يشفيه؛ وقال أبو قلابة وقتادة؛ وقال الشاعر:
هل للفتى من بنات الدهر من واق أم هل له من حمام الموت من راق
وكان هذا على وجه الاستبعاد واليأس؛ أي من يقدر أن يرقي من الموت.
وعن ابن عباس أيضا وأبي الجوزاء أنه من رقي يرقى: إذا صعد، والمعنى: من يرقى بروحه إلى السماء؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقيل: إن ملك الموت يقول من راق؟ أي من يرقى بهذه النفس؛ وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها، فيقول ملك الموت: يا فلان اصعد بها. وأظهر عاصم وقوم النون في قوله تعالى{من راق} واللام في قوله{بل ران} لئلا يشبه مراق وهو بائع المرقة، وبران في تثنية البر. والصحيح ترك الإظهار، وكسرة القاف في {من راق}، وفتحة النون في {بل ران} تكفي في زوال اللبس. وأمثل مما ذكر: قصد الوقف على {من} و{بل}، فأظهرهما؛ قاله القشيري.
قوله تعالى{وظن} أي أيقن الإنسان {أنه الفراق} أي فراق الدنيا والأهل والمال والولد، وذلك حين عاين الملائكة. قال الشاعر:
فراق ليس يشبهه فراق قد انقطع الرجاء عن التلاق
{والتفت الساق بالساق} أي فاتصلت الشدة بالشدة؛ شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة؛ قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. وقال الشعبي وغيره: المعنى التفت ساقا الإنسان عند الموت من شدة الكرب. وقال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب إحدى رجليه على الأخرى. وقال سعيد بن المسيب والحسن أيضا: هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفن. وقال زيد بن أسلم: التفت ساق الكفن بساق الميت. وقال الحسن أيضا: ماتت رجلاه ويبست ساقاه فلم تحملاه، ولقد كان عليهما جوالا. قال النحاس: القول الأول أحسنها. وروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس{والتفت الساق بالساق} قال: آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه الله؛ أي شدة كرب الموت بشدة هول المطلع؛ والدليل على هذا قوله تعالى{إلى ربك يومئذ المساق} وقال مجاهد: بلاء ببلاء. يقول: تتابعت عليه الشدائد. وقال الضحاك وابن زيد: اجتمع عليه أمران شديدان: الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه، والعرب لا تذكر الساق إلا في المحن والشدائد العظام؛ ومنه قولهم: قامت الدنيا على ساق، وقامت الحرب على ساق. قال الشاعر:
وقامت الحرب بنا على ساق
وقد مضى هذا المعنى في آخر سورة {ن والقلم}. وقال قوم: الكافر تعذب روحه عند خروج نفسه، فهذه الساق الأولى، ثم يكون بعدهما ساق البعث وشدائده{إلى ربك} أي إلى خالقك {يومئذ} أي يوم القيامة {المساق} أي المرجع. وفي بعض التفاسير قال: يسوقه ملكه الذي كان يحفظ عليه السيئات. والمساق: المصدر من ساق يسوق، كالمقال من قال يقول.
الآية رقم (31 : 35)
{فلا صدق ولا صلى، ولكن كذب وتولى، ثم ذهب إلى أهله يتمطى، أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى}
قوله تعالى{فلا صدق ولا صلى} أي لم يصدق أبو جهل ولم يصل. وقيل: يرجع هذا إلى الإنسان في أول السورة، وهو اسم جنس. والأول قول ابن عباس. أي لم يصدق بالرسالة {ولا صلى} ودعا لربه، وصلى على رسوله. وقال قتادة: فلا صدق بكتاب الله، ولا صلى لله. وقيل: ولا صدق بمال له، ذخرا له عند الله، ولا صلى الصلوات التي أمره الله بها. وقيل: فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه. قال الكسائي{لا} بمعنى لم ولكنه يقرن بغيره؛ تقول العرب: لا عبدالله خارج ولا فلان، ولا تقول: مررت برجل لا محسن حتى يقال ولا مجمل، وقوله تعالى{فلا اقتحم العقبة}البلد: 11] ليس من هذا القبيل؛ لأن معناه أفلا أقتحم؛ أي فهلا اقتحم، فحذف ألف الاستفهام. وقال الأخفش{فلا صدق} أي لم يصدق؛ كقوله{فلا اقتحم} أي لم يقتحم، ولم يشترط أن يعقبه بشيء آخر، والعرب تقول: لا ذهب، أي لم يذهب، فحرف النفي ينفي الماضي كما ينفي المستقبل؛ ومنه قول زهير:
فلا هو أبداها ولم يتقدم
قوله تعالى{ولكن كذب وتولى} أي كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان {ثم ذهب إلى أهله يتمطى} أي يتبختر، افتخارا بذلك؛ قال مجاهد وغيره. مجاهد: المراد به أبو جهل. وقيل{يتمطى} من المطا وهو الظهر، والمعنى يلوي مطاه. وقيل: أصله يتمطط، وهو التمدد من التكسل والتثاقل، فهو يتثاقل عن الداعي إلى الحق؛ فأبدل من الطاء ياء كراهة التضعيف، والتمطي يدل على قلة الاكتراث، وهو التمدد، كأنه يمد ظهره ويلويه من التبختر. والمطيطة الماء الخاثر في أسفل الحوض؛ لأنه يتمطى أي يتمدد؛ وفي الخبر: إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم والمطيطاء: التبختر ومد اليدين في المشي.
قوله تعالى{أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى} تهديد بعد تهديد، ووعيد بعد وعيد، أي فهو وعيد أربعة لأربعة؛ كما روي أنها نزلت في أبي جهل الجاهل بربه فقال{فلا صدق ولا صلى. ولكن كذب وتولى} أي لا صدق رسول الله، ولا وقف بين يدي فصلى، ولكن، كذب رسولي، وتولى عن التصلية بين يدي. فترك التصديق خصلة، والتكذيب خصلة، وترك الصلاة خصلة، والتولي عن الله تعالى خصلة؛ فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الأربعة. والله أعلم. لا يقال: فإن قوله{ثم ذهب إلى أهله يتمطى} خصلة خامسة؛ فإنا نقول: تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولي، فأخبر عنها. وذلك بين في قول قتادة على ما نذكره. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ذات يوم، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد، مما يلي باب بني مخزوم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فهزه أو مرتين ثم قال: (أولى لك فأولى) فقال له أبو جهل: أتهددني؟ فوالله إني لأعز أهل الوادي وأكرمه. ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال لأبي جهل. وهي كلمة وعيد. قال الشاعر:
فأولى ثم أولى ثم أولى وهل للدر يحلب من مرد
قال قتادة: أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده فقال: [أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى]. فقال: ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئا، إني لأعز من بين جبليها. فلما كان يوم بدر أشرف على المسلمين فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم أبدا. فضرب الله عنقه، وقتله شر قتلة.
وقيل: معناه: الويل لك؛ ومنه قول الخنساء:
هممت بنفسي كل الهموم فأولى لنفسي أولى لها
سأحمل نفسي على آلة فإما عليها وإما لها
الآلة: الحالة، والآلة: السرير أيضا الذي يحمل عليه الميت؛ وعلى هذا التأويل قيل: هو من المقلوب؛ كأنه قيل: أويل، ثم أخر الحرف المعتل، والمعنى: الويل لك حيا، والويل لك ميتا، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار؛ وهذا التكرير كما قال: لك الويلات إنك مرجلي أي لك الويل، ثم الويل، ثم الويل، وضعف هذا القول. وقيل: معناه الذم لك، أولى، من تركه، إلا أنه كثير في الكلام فحذف. وقيل: المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قال الأصمعي {أولى} في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك، كأنه يقول: قد وليت الهلاك، قد دانيت الهلاك؛ وأصله من الولي، وهو القرب؛ قال الله تعالى{يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار}التوبة: 123] أي يقربون منكم؛ وأنشد الأصمعي:
وأولى أن يكون له الولاء
أي قارب أن يكون له؛ وأنشد أيضا:
أولى لمن هاجت له أن يكمدا
أي قد دنا صاحبها [من] الكمد. وكان أبو العباس ثعلب يستحسن قول الأصمعي ويقول: ليس أحد يفسر كتفسير الأصمعي. النحاس: العرب تقول أولى لك: كدت تهلك ثم أفلت، وكأن تقديره: أولى لك وأولى بك الهلكة. المهدوي قال: ولا تكون أولى (أفعل منك)، وتكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: الوعيد أولى له من غيره؛ لأن أبا زيد قد حكى: أولاة الآن: إذا أوعدوا. فدخول علامة التأنيث دليل على أنه ليس كذلك. و{لك} خبر عن {أولى}. ولم ينصرف {أولى} لأنه صار علما للوعيد، فصار كرجل اسمه أحمد. وقيل: التكرير فيه على معنى ألزم لك على عملك السيء الأول، ثم على الثاني، والثالث، والرابع، كما تقدم.
الآية رقم (36 : 40)
{أيحسب الإنسان أن يترك سدى، ألم يك نطفة من مني يمنى، ثم كان علقة فخلق فسوى، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى}
قوله تعالى{أيحسب الإنسان} أي يظن ابن آدم {أن يترك سدى} أي أن يخلى مهملا، فلا يؤمر ولا ينهى؛ قال ابن زيد ومجاهد، ومنه إبل سدى: ترعى بلا راع.
وقيل: أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبدا لا يبعث. وقال الشاعر:
فأقسم بالله جهد اليميــ ــن ما ترك الله شيئا سدى
قوله تعالى{ألم يك نطفة من مني يمنى} أي من قطرة ماء تمنى في الرحم، أي تراق فيه؛ ولذلك سميت مني لإراقة الدماء. وقد تقدم. والنطفة: الماء القليل؛ يقال: نطف الماء: إذا قطر. أي ألم يك ماء قليلا في صلب الرجل وترائب المرأة.
وقرأ حفص {من مني يمنى} بالياء، وهي قراءة ابن محيصن ومجاهد ويعقوب وعياش عن أبي عمرو، واختاره أبو عبيد لأجل المني. الباقون بالتاء لأجل النطفة، واختاره أبو حاتم. {ثم كان علقة} أي دما بعد النطفة، أي قد رتبه تعالى بهذا كله على خسة قدره. ثم قال{فخلق} أي فقدر {فسوى} أي فسواه تسوية، وعدله تعديلا، بجعل الروح فيه {فجعل منه} أي من الإنسان. وقيل: من المني. {الزوجين الذكر والأنثى} أي الرجل والمرأة. وقد احتج بهذا من رأى إسقاط الخنثى. وقد مضى في سورة الشورى أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجتا مخرج الغالب. وقد مضى في أول سورة النساء أيضا القول فيه، وذكرنا في آية المواريث حكمه، فلا معنى لإعادته. {أليس ذلك بقادر} أي أليس الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة من ماء {بقادر على أن يحيي الموتى} أي على أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البلى.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال: [سبحانك اللهم، بلى] وقال ابن عباس. من قرأ {سبح اسم ربك الأعلى}الأعلى: 1] إماما كان أوغيره فليقل{سبحان ربي الأعلى} ومن قرأ {لا أقسم بيوم القيامة}القيامة: 1] إلى آخرها إماما كان أو غيره فليقل{سبحانك اللهم بلى} ذكره الثعلبي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. ختمت السورة والحمد لله.
مكية في قول ابن عباس ومقاتل والكلبي. وقال الجمهور: مدنية. وقيل: فيها مكي، من قوله تعالى{إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا}الإنسان: 23] إلى آخر السورة، وما تقدمه مدني.
وذكر ابن وهب قال: وحدثنا ابن زيد قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرأ{هل أتى على الإنسان حين من الدهر} وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر بن الخطاب: لا تثقل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (دعه يا ابن الخطاب) قال: فنزلت عليه هذه السورة وهو عنده، فلما قرأها عليه وبلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخرج نفس صاحبكم - أو أخيكم - الشوق إلى الجنة) وروي عن ابن عمر بخلاف هذا اللفظ، وسيأتي. وقال القشيري: إن هذه السورة نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والمقصود من السورة عام. وهكذا القول في كل ما يقال إنه نزل بسبب كذا وكذا.
الآية رقم (1 : 3)
{هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا، إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا}
قوله تعالى{هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا} {هل}: بمعنى قد؛ قال الكسائي والفراء وأبو عبيدة. وقد حكي عن سيبويه {هل} بمعنى قد. قال الفراء: هل تكون جحدا، وتكون خبرا، فهذا من الخبر؛ لأنك تقول: هل أعطيتك؟ تقرره بأنك أعطيته. والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا؟ وقيل: هي بمنزلة الاستفهام، والمعنى: أتى. والإنسان هنا آدم عليه السلام؛ قاله قتادة والثوري وعكرمة والسدي. وروي عن ابن عباس. {حين من الدهر} قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أربعون سنة مرت به، قبل أن ينفخ فيه الروح، وهو ملقى بين مكة والطائف وعين ابن عباس أيضا في رواية الضحاك أنه خلق من طين، فأقام أربعين سنة، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة. وزاد ابن مسعود فقال: أقام وهو من تراب أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وستين سنة، ثم نفخ فيه الروح. وقيل: الحين المذكور ها هنا: لا يعرف مقداره؛ عن ابن عباس أيضا، حكاه الماوردي. {لم يكن شيئا مذكورا} قال الضحاك عن ابن عباس: لا في السماء ولا في الأرض. وقيل: أي كان جسدا مصورا ترابا وطينا، لا يذكر ولا يعرف، ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح، فصار مذكورا؛ قال الفراء وقطرب وثعلب. وقال يحيى بن سلام: لم يكن شيئا مذكورا في الخلق وإن كان عند الله شيئا مذكورا.
وقيل: ليس هذا الذكر بمعنى الإخبار، فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم، بل هذا الذكر بمعنى الخطر والشرف والقدر؛ تقول: فلان مذكور أي له شرف وقدر. وقد قال تعالى{وإنه لذكر لك ولقومك}الزخرف: 44]. أي قد أتى على الإنسان حين لم يكن له قدر عند الخليقة. ثم لما عرف الله الملائكة أنه جعل آدم خليفة، وحمله الأمانة التي عجز عنها السموات والأرض والجبال، ظهر فضله على الكل، فصار مذكورا. قال القشيري: وعلى الجملة ما كان مذكورا للخلق، وإن كان مذكورا لله. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء{لم يكن شيئا} قال: كان شيئا ولم يكن مذكورا. وقال قوم: النفي يرجع إلى الشيء؛ أي قد مضى مدد من الدهر وآدم لم يكن شيئا يذكر في الخليقة؛ لأنه آخر ما خلقه من أصناف الخليقة، والمعدوم ليس بشيء حتى يأتي عليه حين. والمعنى: قد مضت عليه أزمنة وما كان آدم شيئا ولا مخلوقا ولا مذكورا لأحد من الخليقة. وهذا معنى قول قتادة ومقاتل: قال قتادة: إنما خلق الإنسان حديثا ما نعلم من خليقة الله جل ثناؤه خليقة كانت بعد الإنسان.
وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئا مذكورا؛ لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله، ولم يخلق بعده حيوانا.
وقد قيل{الإنسان} في قوله تعالى {هل أتى على الإنسان حين} عني به الجنس من ذرية آدم، وأن الحين تسعة أشهر، مدة حمل الإنسان في بطن أمه {لم يكن شيئا مذكورا}: إذ كان علقة ومضغة؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له. وقال أبو بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية: ليتها تمت فلا نبتلى. أي ليت المدة التي أتت على آدم لم تكن شيئا مذكورا تمت على ذلك، فلا يلد ولا يبتلى أولاده. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقرأ {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا} فقال ليتها تمت.
قوله تعالى{إنا خلقنا الإنسان} أي ابن آدم من غير خلاف {من نطفة} أي من ماء يقطر وهو المني، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة؛ كقول عبدالله بن رواحة يعاتب نفسه:
ويقال: مشجت هذا بهذا أي خلطته، فهو ممشوج ومشيج؛ مثل مخلوط وخليط. وقال المبرد: واحد الأمشاج: مشيج؛ يقال: مشج يمشج: إذا خلط، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم؛ قال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة لوقت على مشج سلالته مهين
وقال الفراء: أمشاج: أخلاط ماء الرجل وماء المرأة، والدم والعلقة. ويقال للشيء من هذا إذا خلط: مشيج كقولك خليط، وممشوج كقولك مخلوط. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: الأمشاج: الحمرة في البياض، والبياض في الحمرة. وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة؛ قال الهذلي:
كان الريش والفوقين منه خلاف النصل سيط به مشيج
وعن ابن عباس أيضا قال: يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد، فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة. وقد روي هذا مرفوعا؛ ذكره البزار.
وروي عن ابن مسعود: أمشاجها عروق المضغة. وعنه: ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان. وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وصفراء. وقال ابن عباس: خلق من ألوان؛ خلق من تراب، ثم من ماء الفرج والرحم، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم. ونحوه قال قتادة: هي أطوار الخلق: طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو العظام لحما؛ كما قال في سورة المؤمنون {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين}المؤمنون: 12] الآية. وقال ابن السكيت: الأمشاج الأخلاط؛ لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة. وقال أهل المعاني: الأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد؛ لأنه نعت للنطفة؛ كما يقال: برمة أعشار وثوب أخلاق. وروي عن أبي أيوب الأنصاري: قال جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة؟ فقال: [ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا علا ماء المرأة آنثت وإذا علا ماء الرجل أذكرت] فقال الحبر: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وقد مضى هذا القول مستوفى في سورة البقرة .
قوله تعالى{نبتليه} أي نختبره. وقيل: نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار. وفيما يختبر به وجهان: أحدهما: نختبره بالخير والشر؛ قال الكلبي. الثاني: نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء؛ قال الحسن. وقيل{نبتليه} نكلفه. وفيه أيضا وجهان: أحدهما: بالعمل بعد الخلق؛ قال مقاتل. الثاني: بالدين ليكون مأمورا بالطاعة ومنهيا عن المعاصي. وروي عن ابن عباس{نبتليه}: نصرفه خلقا بعد خلق؛ لنبتليه بالخير والشر. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال: المعنى والله أعلم {فجعلناه سميعا بصيرا} لنبتليه، وهي مقدمة معناها التأخير.
قلت: لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة. وقيل{جعلناه سميعا بصيرا}: يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى، وبصرا يبصر به الهدى.
قوله تعالى{إنا هديناه السبيل} أي بينا له وعرفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر ببعث الرسل، فآمن أو كفر؛ كقوله تعالى{وهديناه النجدين}البلد: 10]. وقال مجاهد: أي بينا له السبيل إلى الشقاء والسعادة. وقال الضحاك وأبو صالح والسدي: السبيل هنا خروجه من الرحم. وقيل: منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. {إما شاكرا وإما كفورا} أي أيهما فعل فقد بينا له. قال الكوفيون{إن} ها هنا تكون جزاء و{ما} زائدة أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر. واختاره الفراء ولم يجزه البصريون؛ إذ لا تدخل {إن} للجزاء على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل. وقيل: أي هديناه الرشد، أي بينا له سبيل التوحيد بنصب الأدلة عليه؛ ثم إن خلقنا له الهداية اهتدى وآمن، وإن خذلناه كفر. وهو كما تقول: قد نصحت لك، إن شئت فاقبل، وإن شئت فاترك؛ أي فإن شئت، فتحذف الفاء. وكذا {إما شاكرا} والله أعلم. ويقال: هديته السبيل وللسبيل وإلى السبيل. وقد تقدم في الفاتحة وغيرها. وجمع بين الشاكر والكفور، ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة؛ نفيا للمبالغة في الشكر وإثباتا لها في الكفر؛ لأن شكر الله تعالى لا يؤدى، فانتفت عنه المبالغة، ولم تنتف عن الكفر المبالغة، فقل شكره، لكثرة النعم عليه وكثرة كفره وإن قل مع الإحسان إليه. حكاه الماوردي.
الآية رقم (4)
{إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا}
قوله تعالى{إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا} بين حال الفريقين، وأنه تعبد العقلاء وكلفهم ومكنهم مما أمرهم، فمن كفر فله العقاب، ومن وحد وشكر فله الثواب. والسلاسل: القيود في جهنم طول كل سلسلة سبعون ذراعا كما مضى في الحاقة . وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وهشام عن ابن عامر {سلاسلا} منونا. الباقون بغير تنوين. ووقف قنبل وابن كثير وحمزة بغير ألف. الباقون بالألف. فأما {قوارير} الأول فنونه نافع وابن كثير والكسائي وأبو بكر عن عاصم، ولم ينون الباقون. ووقف فيه يعقوب وحمزة بغير ألف. والباقون بالألف. وأما {قوارير} الثانية فنونه أيضا نافع والكسائي وأبو بكر، ولم ينون الباقون. فمن نون قرأها بالألف، ومن لم ينون أسقط منها الألف، واختار أبو عبيد التنوين في الثلاثة، والوقف بالألف اتباعا لخط المصحف؛ قال: رأيت في مصحف عثمان {سلاسلا} بالألف و{وقواريرا} الأول بالألف، وكان الثاني مكتوبا بالألف فحكت فرأيت أثرها هناك بينا. فمن صرف فله أربع حجج: أحدها: أن الجموع أشبهت الآحاد فجمعت جمع الآحاد، فجعلت في حكم الآحاد فصرفت. الثانية: أن الأخفش حكى عن العرب صرف جميع ما لا ينصرف إلا أفعل منك، وكذا قال الكسائي والفراء: هو على لغة من يجر الأسماء كلها إلا قولهم هو أظرف منك فإنهم لا يجرونه؛ وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم:
كأن سيوفنا فينا وفيهم مخاريق بأيدي لا عبينا
وقال لبيد:
وجزور أيسار دعوت لحتفها بمغالق متشابه أجسامها
وقال لبيد أيضا:
فضلا وذو كرم يعين على الندى سمح كسوب رغائب غنامها
فصرف مخاريق ومغالق ورغائب، وسبيلها ألا تصرف. والحجة الثالثة: أن يقول نونت قوارير الأول لأنه رأس آية، ورؤوس الآي جاءت بالنون، كقوله جل وعز{مذكورا}. {سميعا بصيرا} فنونا الأول ليوقف بين رؤوس الآي، ونونا الثاني على الجوار للأول. والحجة الرابعة: اتباع المصاحف، وذلك أنهما جميعا في مصاحف مكة والمدينة والكوفة بالألف. وقد احتج من لم يصرفهن بأن قال: إن كل جمع بعد الألف منه ثلاثة أحرف أو حرفان أو حرف مشدد لم يصرف في معرفة ولا نكرة؛ فالذي بعد الألف منه ثلاثة أحرف قولك: قناديل ودنانير ومناديل، والذي بعد الألف منه حرفان قول الله عز وجل{لهدمت صوامع}الحج: 40] لأن بعد الألف منه حرفين، وكذلك قوله{ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا}الحج: 40]. والذي بعد الألف منه حرف مشدد شواب ودواب. وقال خلف: سمعت يحيى بن آدم يحدث عن ابن إدريس قال: في المصاحف الأول الحرف الأول بالألف والثاني بغير ألف؛ فهذا حجة لمذهب حمزة. وقال خلف: رأيت في مصحف ينسب إلى قراءة ابن مسعود الأول بالألف والثاني بغير ألف. وأما أفعل منك فلا يقول أحد من العرب في شعره ولا في غيره هو أفعل منك منونا؛ لأن من تقوم مقام الإضافة فلا يجمع بين تنوين وإضافة في حرف؛ لأنهما دليلان من دلائل الأسماء ولا يجمع بين دليلين؛ قال الفراء وغيره.
قوله تعالى{وأغلالا} جمع غل تغل بها أيديهم إلى أعناقهم. وعن جبير بن نفير عن أبي الدرداء كان يقول: ارفعوا هذه الأيدي إلى الله جل ثناؤه قبل أن تغل بالأغلال. قال الحسن: إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار؛ لأنهم أعجزوا الرب سبحانه ولكن إذلالا. {وسعيرا} تقدم القول فيه.
الآية رقم (5 : 6)
{إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا، عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا}
قوله تعالى{إن الأبرار يشربون من كأس} الأبرار: أهل الصدق واحدهم بر، وهو من امتثل أمر الله تعالى. وقيل: البر الموحد والأبرار جمع بار مثل شاهد وأشهاد، وقيل: هو جمع بر مثل نهر وأنهار؛ وفي الصحاح: وجمع البر الأبرار، وجمع البار البررة، وفلان يبر خالقه ويتبرره أي يطيعه، والأم برة بولدها. وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما سماهم الله جل ثناؤه الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقا كذلك لولدك عليك حقا). وقال الحسن: البر الذي لا يؤذي الذر. وقال قتادة: الأبرار الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر.
وفي الحديث: (الأبرار الذين لا يؤذون أحدا). {يشربون من كأس} أي من إناء فيه الشراب. قال ابن عباس: يريد الخمر. والكأس في اللغة الإناء فيه الشراب: وإذا لم يكن فيه شراب لم يسم كأسا. قال عمرو بن كلثوم:
صَبْنتِ الكأسَ عنا أمَّ عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا
وقال الأصمعي: يقال صبنت عنا الهدية أو ما كان من معروف تصبن صبنا: بمعنى كففت؛ قاله الجوهري. {كان مزاجها} أي شوبها وخلطها، قال حسان:
كأن سبيئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء
ومنه مزاج البدن وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة. {كافورا} قال ابن عباس: هو اسم عين ماء في الجنة، يقال له عين الكافور. أي يمازجه ماء هذه العين التي تسمى كافورا. وقال سعيد عن قتادة: تمزج لهم بالكافور وتختم بالمسك. وقال مجاهد. وقال عكرمة: مزاجها طعمها. وقيل: إنما الكافور في ريحها لا في طعمها. وقيل: أراد كالكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده؛ لأن الكافور لا يشرب؛ كقوله تعالى{حتى إذا جعله نارا}الكهف: 96] أي كنار. وقال ابن كيسان: طيب بالمسك والكافور والزنجبيل. وقال مقاتل: ليس بكافور الدنيا. ولكن سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي لها القلوب. وقوله{كان مزاجها} {كان} زائدة أي من كأس مزاجها كافور. {عينا يشرب بها عباد الله} قال الفراء: إن الكافور اسم لعين ماء في الجنة؛ {فعينا} بدل من كافور على هذا. وقيل: بدل من كأس على الموضع. وقيل: هي حال من المضمر في {مزاجها}. وقيل: نصب على المدح؛ كما يذكر الرجل فتقول: العاقل اللبيب؛ أي ذكرتم العاقل اللبيب فهو نصب بإضمار أعني. وقيل يشربون عينا. وقال الزجاج المعنى من عين. ويقال: كافور وقافور. والكافور أيضا: وعاء طلع النخل وكذلك الكفرى؛ قاله الأصمعي. وأما قول الراعي:
تكسو المفارق واللبات ذا أرج من قصب معتلف الكافور دراج
فإن الظبي الذي يكون منه المسك إنما يرعى سنبل الطيب فجعله كافورا. {يشرب بها} قال الفراء: يشرب بها ويشربها سواء في المعنى، وكأن يشرب بها يروى بها وينقع؛ وأنشد:
شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج
قال: ومثله فلان يتكلم بكلام حسن، ويتكم كلاما حسنا. وقيل: المعنى يشربها والباء زائدة وقيل: الباء بدل {من} تقديره يشرب منها؛ قاله القتبي. {يفجرونها تفجيرا} فيقال: إن الرجل منهم ليمشي في بيوتاته ويصعد إلى قصوره، وبيده قضيب يشير به إلى الماء فيجري معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود، ويتبعه حيثما صعد إلى أعلى قصوره؛ وذلك قوله تعالى{عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} أي يشققونها شقا كما يفجر الرجل النهر ها هنا وها هنا إلى حيث يريد. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد {يفجرونها تفجيرا} يقودونها حيث شاؤوا وتتبعهم حيثما مالوا مالت معهم. وروى أبو مقاتل عن أبي صالح عن سعد عن أبي سهل عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع عيون في الجنة عينان تجريان من تحت العرش إحداهما التي ذكر الله {يفجرونها تفجيرا}والأخرى الزنجبيل] والأخريان نضاختان من فوق العرش إحداهما التي ذكر الله [عينا فيها تسمى] {سلسبيلا} والأخرى التسنيم) "ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول". وقال: فالتسنيم للمقربين خاصة شربا لهم، والكافور للأبرار شربا لهم؛ يمزج للأبرار من التسنيم شرابهم، وأما الزنجبيل والسلسبيل فللإبرار منها مزاج هكذا ذكره في التنزيل وسكت عن ذكر ذلك لمن هي شرب، فما كان للإبرار مزاج فهو للمقربين صرف، وما كان للإبرار صرف فهو لسائر أهل الجنة مزاج. والأبرار هم الصادقون، والمقربون: هم الصديقون.
الآية رقم (7 : 9)
{يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا، ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا}
قوله تعالى{يوفون بالنذر} أي لا يخلفون إذا نذروا. وقال معمر عن قتادة: بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيره من الواجبات. وقال مجاهد وعكرمة: يوفون إذا نذروا في حق الله جل ثناؤه. وقال الفراء والجرجاني: وفي الكلام إضمار؛ أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا. والعرب قد تزيد مرة {كان} وتحذف أخرى. والنذر: حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه من شيء يفعله. وإن شئت قلت في حده: النذر: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وقال الكلبي{يوفون بالنذر} أي يتممون العهود والمعنى واحد؛ وقد قال الله تعالى{ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم}الحج: 29] أي أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم بإحرامهم بالحج. وهذا يقوي قول قتادة.
وأن النذر يندرج فيه ما التزمه المرء بإيمانه من امتثال أمر الله؛ قال القشيري.
وروى أشهب عن مالك أنه قال{يوفون بالنذر} هو نذر العتق والصيام والصلاة.
وروى عنه أبو بكر بن عبدالعزيز قال مالك. {يوفون بالنذر} قال: النذر: هو اليمين.
قوله تعالى{ويخافون} أي يحذرون {يوما} أي يوم القيامة. {كان شره مستطيرا} أي عاليا داهيا فاشيا وهو في اللغة ممتدا؛ والعرب تقول: استطار الصدع في القارورة والزجاجة واستطال: إذا امتد؛ قال الأعشى:
وبانت وقد أسأرت في الفؤاد صدعا على نأيها مستطيرا
ويقال: استطار الحريق: إذا انتشر. واستطار الفجر إذا انتشر الضوء.
وقال حسان:
وهان على سراء بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
وكان قتادة يقول: استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض.
وقال مقاتل: كان شره فاشيا في السموات فانشقت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وفي الأرض نسفت الجبال وغارت المياه.
قوله تعالى{ويطعمون الطعام على حبه} قال ابن عباس ومجاهد: على قلته وحبهم إياه وشهوتهم له. وقال الداراني: على حب الله. وقال الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطعام. وكان الربيع بن خيثم إذا جاءه السائل قال: أطعموه سكرا فإن الربيع يحب السكر. {مسكينا} أي ذا مسكنة. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو الطواف يسألك مالك {ويتيما} أي من يتامى المسلمين. وروى منصور عن الحسن: أن يتيما كان يحضر طعام ابن عمر، فدعا ذات يوم بطعامه، وطلب اليتيم فلم يجده، وجاءه بعد ما فرغ ابن عمر من طعامه فلم يجد الطعام، فدعا له بسويق وعسل؛ فقال: دونك هذا، فوالله ما غبنت؛ قال الحسن وابن عمر: والله ما غبن.
{وأسيرا} أي الذي يؤسر فيحبس. فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: الأسير من أهل الشرك يكون في أيديهم. وقال قتادة. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الأسير هو المحبوس. وكذا قال سعيد بن جبير وعطاء: هو المسلم يحبس بحق. وعن سعيد بن جبير مثل قول قتادة وابن عباس. قال قتادة: لقد أمر الله بالأسرى أن يحسن إليهم، وأن أسراهم يومئذ لأهل الشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه.
وقال عكرمة: الأسير العبد. وقال أبو حمزة الثمالي: الأسير المرأة، يدل عليه قوله عليه السلام: (استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم) أي أسيرات. وقال أبو سعيد الخدري: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} فقال: (المسكين الفقير، واليتيم الذي لا أب له، والأسير المملوك والمسجون) ذكره الثعلبي. وقيل: نسخ إطعام المسكين آية الصدقات؛ وإطعام الأسير آية السيف؛ قال سعيد بن جبير. وقال غيره: بل هو ثابت الحكم، وإطعام اليتيم والمسكين على التطوع، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلا أن يتخير فيه الإمام. الماوردي: ويحتمل أن يريد بالأسير الناقص العقل؛ لأنه في أسر خبله وجنونه، وأسر المشرك انتقام يقف على رأي الإمام؛ وهذا بر وإحسان. وعن عطاء قال: الأمير من أهل القبلة وغيرهم.
قلت: وكأن هذا القول عام يجمع جميع الأقوال، ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى، غير أنه من صدقة التطوع، فأما المفروضة فلا. والله أعلم.
ومضى القول في المسكين واليتيم والأسير واشتقاق ذلك من اللغة في البقرة مستوفى والحمد لله.
قوله تعالى{إنما نطعمكم لوجه الله} أي يقولون بألسنتهم للمسكين واليتيم والأسير {إنما نطعمكم} في الله جل ثناؤه فزعا من عذابه وطمعا في ثوابه. {لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} {لا نريد منكم جزاء} أي مكافأة. {ولا شكورا} أي ولا أن تثنوا علينا بذلك؛ قال ابن عباس: كذلك كانت نياتهم في الدنيا حين أطعموا. وعن سالم عن مجاهد قال: أما إنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله جل ثناؤه منهم فأثنى به عليهم؛ ليرغب في ذلك راغب. وقال سعيد بن جبير حكاه عنه القشيري. وقيل: إن هذه الآية نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذرا فوفى به. وقيل: نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر وهم سبعة من المهاجرين: أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبدالرحمن بن عوف وسعد وأبو عبيدة رضي الله عنهم؛ ذكره الماوردي. وقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا. وقال أبو حمزة الثمالي: بلغني أن رجلا قال يا رسول الله أطعمني فإني والله مجهود؛ فقال: (والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب) فأتى رجلا من الأنصار وهو يتعشى مع امرأته فسأله؛ وأخبره بقول النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقالت المرأة: اطعمه واسقه. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتيم فقال: يا رسول الله! أطعمني فإني مجهود. فقال: (ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب) فاستطعم ذلك الأنصاري فقالت المرأة: أطعمه واسقه، فأطعمه. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم أسير فقال: يا رسول الله! أطعمني فإني مجهود. فقال: (والله ما معي ما أطعمك ولكن اطلب) فجاء الأنصاري فطلب، فقالت المرأة: أطعمه واسقه. فنزلت{ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} ذكره الثعلبي. وقال أهل التفسير: نزلت في علي وفاطمة رضي الله عنهما وجارية لهما اسمها فضة.
قلت: والصحيح أنها نزلت في جميع الأبرار، ومن فعل فعلا حسنا؛ فهي عامة.
وقد ذكر النقاش والثعلبي والقشيري وغير واحد من المفسرين في قصة علي وفاطمة وجاريتهما حديثا لا يصح ولا يثبت، رواه ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله عز وجل{يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا. ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} قال: مرض الحسن والحسين فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعادهما عامة العرب؛ فقالوا: يا أبا الحسن - ورواه جابر الجعفي عن قنبر مولى علي قال: مرض الحسن والحسين حتى عادهما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا أبا الحسن - رجع الحديث إلى حديث ليث بن أبي سليم - لو نذرت عن ولديك شيئا، وكل نذر ليس له وفاء فليس بشيء. فقال رضي الله عنه: إن برأ ولداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا. وقالت جارية لهم نوبية: إن برأ سيداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا. وقالت فاطمة مثل ذلك. وفي حديث الجعفي فقال الحسن والحسين: علينا مثل ذلك فألبس الغلامان العافية، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق علي إلى شمعون بن حاريا الخيبري، وكان يهوديا، فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير، فجاء به، فوضعه ناحية البيت، فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه. وفي حديث الجعفي: فقامت الجارية إلى صاع من شعير فخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد منهم قرص، فلما مضى صيامهم الأول وضع بين أيديهم الخبز والملح الجريش؛ إذ أتاهم مسكين، فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد - في حديث الجعفي - أنا مسكين من مساكين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنا والله جائع؛ أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة. فسمعه علي رضي الله عنه، فأنشأ يقول:
فاطم ذات الفضل اليقين يا بنت خير الناس أجمعين
أما ترين البائس المسكين قد قام بالباب له حنين
يشكو إلى الله ويستكين يشكو إلينا جائع حزين
كل امرئ بكسبه رهين وفاعل الخيرات يستبين
موعدنا جنة عليين حرمها الله على الضنين
وللبخيل موقف مهين تهوى به النار إلى سجين
شرابه الحميم والغسلين من يفعل الخير يقم سمين
ويدخل الجنة أي حين
فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول:
أمرك عندي يا ابن عم طاعه ما بي من لؤم ولا وضاعه
غديت في الخبز له صناعه أطعمه ولا أبالي الساعه
أرجو إذا أشبعت ذا المجاعه أن ألحق الأخيار والجماعه
وأدخل الجنة لي شفاعه
فأطعموه الطعام، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما أن كان في اليوم الثاني قامت إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم؛ فوقف بالباب يتيم فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة. أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة. فسمعه علي فأنشأ يقول:
فاطم بنت السيد الكريم بنت نبي ليس بالزنيم
لقد أتى الله بذي اليتيم من يرحم اليوم يكن رحيم
ويدخل الجنة أي سليم قد حرم الخلد على اللئيم
ألا يجوز الصراط المستقيم يزل في النار إلى الجحيم
شرابه الصديد والحميم
فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول:
أطعمه اليوم ولا أبالي وأوثر الله على عيالي
أمسوا جياعا وهمُ أشبالي أصغرهم يقتل في القتال
بكر بلا يقتل باغتيال يا ويل للقاتل مع وبال
تهوي به النار إلى سفال وفي يديه الغل والأغلال
كبولة زادت على الأكبال
فأطعموه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح؛ فلما كانت في اليوم الثالث قامت إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل، فوضع الطعام بين أيديهم؛ إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا! أطعموني فإني أسير محمد. فسمعه علي فأنشأ يقول:
فاطم يا بنت النبي أحمد بنت نبي سيد مسود
وسماه الله فهو محمد قد زانه الله بحسن أغيد
هذا أسير للنبي المهتد مثقل في غله مقيد
ينكو إلينا الجوع قد تمدد من يطعم اليوم يجده في غد
عند العلي الواحد الموحد ما يزرع الزارع سوف يحصد
أعطيه لا لا تجعليه أقعد
فأنشأت فاطمة رضي الله تعالى عنها تقول:
لم يبق مما جاء غير صاع قد ذهبت كفي مع الذراع
ابناي والله هما جياع يا رب لا تتركهما ضياع
أبوهما للخير ذو اصطناع يصطنع المعروف بابتداع
عبل الذراعين شديد الباع وما على رأسي من قناع
إلا قناعا نسجه أنساع
فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما أن كان في اليوم الرابع، وقد قضى الله النذر أخذ بيده اليمنى الحسن، وبيده اليسرى الحسين، وأقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع؛ فلما أبصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم انطلق بنا إلى ابنتي فاطمة] فانطلقوا إليها وهي في محرابها، وقد لصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها من شدة الجوع، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف المجاعة في وجهها بكى وقال: [واغوثاه يا الله، أهل بيت محمد يموتون جوعا] فهبط جبريل عليه السلام وقال: السلام عليك، ربك يقرئك السلام يا محمد، خذه هنيئا في أهل بيتك. قال: (وما أخذ يا جبريل) فأقرأه {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} إلى قوله{ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} قال الترمذي الحكيم أبو عبدالله في نوادر الأصول: فهذا حديث مزوق مزيف، قد تطرف فيه صاحبه حتى تشبه على المستمعين، فالجاهل بهذا الحديث يعض شفتيه تلهفا ألا يكون بهذه الصفة، ولا يعلم أن صاحب هذا الفعل مذموم؛ وقد قال الله تعالى في تنزيله{ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}البقرة: 219] وهو الفضل الذي يفضل عن نفسك وعيالك، وجرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترة بأن [خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى]. [وابدأ بنفسك ثم بمن تعول] وافترض الله على الأزواج نفقة أهاليهم وأولادهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت] أفيحسب عاقل أن عليا جهل هذا الأمر حتى أجهد صبيانا صغارا من أبناء خمس أو ست على جوع ثلاثة أيام ولياليهن؟ حتى تضوروا من الجوع، وغارت العيون منهم؛ لخلاء أجوافهم، حتى أبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهم من الجهد. هب أنه آثر على نفسه هذا السائل، فهل كان يجوز له أن يحمل أهله على ذلك؟! وهب أن أهله سمحت بذلك لعلي فهل جاز له أن يحمل أطفاله على جوع ثلاثة أيام بلياليهن؟! ما يروج مثل هذا إلا على حمقى جهال؛ أبى الله لقلوب متنبهة أن تظن بعلي مثل هذا. وليت شعري من حفظ هذه الأبيات كل ليلة عن علي وفاطمة، وإجابة كل واحد منهما صاحبه، حتى أداه إلى هؤلاء الرواة؟
فهذا وأشباهه من أحاديث أهل السجون فيما أرى بلغني أن قوما يخلدون في السجون فيبقون بلا حيلة، فيكتبون أحاديث في السمر وأشباهه، ومثل هذه الأحاديث مفتعلة، فإذا صارت إلى الجهابذة رموا بها وزيفوها، وما من شيء إلا له آفة ومكيدة، وآفة الدين وكيده أكثر.
الآية رقم (10 : 11)
{إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا، فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا}
قوله تعالى{إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا{ {عبوسا} من صفة اليوم، أي يوما تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته، فالمعنى نخاف يوما ذا عبوس. وقال ابن عباس يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل منه عرق كالقطران. وعن ابن عباس: العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل؛ قال الشاعر:
شديدا عبوسا قمطريرا
وقيل: القمطرير الشديد؛ تقول العرب: يوم قمطرير وقماطر وعصيب بمعنى؛ وأنشد الفراء:
بني عمنا هل تذكرون بلاءنا عليكم إذا ما كان يوم قماطر
بضم القاف. وقمطر إذا اشتد. وقال الأخفش: القمطرير: أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء؛ قال الشاعر:
ففروا إذا ما الحرب ثار غبارها ولج بها اليوم العبوس القماطر
وقال الكسائي: يقال اقمطر اليوم وازمهر اقمطرارا وازمهرارا، وهو القمطرير والزمهرير، ويوم مقمطر إذا كان صعبا شديدا؛ قال الهذلي:
بنو الحرب أرضعنا لهم مقمطرة ومن يلق منا ذلك اليوم يهرب
وقال مجاهد: إن العبوس بالشفتين، والقمطرير بالجبهة والحاجبين؛ فجعلها من صفات الوجه المتغير من شدائد ذلك اليوم؛ وأنشد ابن الأعرابي:
يغدو على الصيد يعود منكسر ويقمطر ساعة ويكفهر
وقال أبو عبيدة: يقال رجل قمطرير أي متقبض ما بين العينين. وقال الزجاج: يقال أقمطرت الناقة: إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها، وزمت بأنفها؛ فاشتقه من القطر، وجعل الميم مزيدة. قال أسد بن ناعصة:
واصطليت الحروب في كل يوم باسل الشطر قمطرير الصباح
قوله تعالى{فوقاهم الله} أي دفع عنهم {شر ذلك اليوم} أي بأسه وشدته وعذابه
{ولقاهم} أي أتاهم وأعطاهم حين لقوه أي رأوه {نضرة} أي حسنا {وسرورا} أي حبورا. قال الحسن ومجاهد{نضرة} في وجوههم {وسرورا} في قلوبهم. وفي النضرة ثلاثة أوجه: أحدها أنها البياض والنقاء؛ قال الضحاك. الثاني الحسن والبهاء؛ قال ابن جبير. الثالث أنها أثر النعمة؛ قال ابن زيد.
الآية رقم (12 : 14)
{وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا، متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا، ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا}
قوله تعالى{وجزاهم بما صبروا} على الفقر. وقال القرظي: على الصوم. وقال عطاء: على الجوع ثلاثة أيام وهي أيام النذر. وقيل: بصبرهم على طاعة الله، وصبرهم على معصية الله ومحارمه. و{ما}: مصدرية، وهذا على أن الآية نزلت في جميع الأبرار ومن فعل فعلا حسنا. وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر فقال: (الصبر أربعة: أولها الصبر عند الصدمة الأولى، والصبر على أداء الفرائض، والصبر على اجتناب محارم الله، والصبر على المصائب). {جنة وحريرا} أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير. أي يسمى بحرير الدنيا وكذلك الذي في الآخرة [وفيه] ما شاء الله عز وجل من الفضل. وقد تقدم: أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإنما ألبسه من ألبسه في الجنة عوضا عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها.
قوله تعالى{متكئين فيها} أي في الجنة؛ ونصب {متكئين} على الحال من الهاء والميم في {جزاهم} والعامل فيها جزى ولا يعمل فيها {صبروا}؛ لأن الصبر إنما كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة. وقال الفراء. وإن شئت جعلت {متكئين} تابعا، كأنه قال جزاهم جنة {متكئين فيها}. {على الأرائك} السرر في الحجال وقد تقدم. وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات: أحدها الأريكة لا تكون إلا في حجلة على سرير، ومنها السجل، وهو الدلو الممتلئ ماء، فإذا صفرت لم تسم سجلا، وكذلك الذنوب لا تسمى ذنوبا حتى تملأ، والكأس لا تسمو، كأسا حتى تترع من الخمر. وكذلك الطبق الذي تهدى عليه الهدية مهدى، فإذا كان فارغا قيل طبق أو خوان؛ قال ذو الرمة:
خدود جفت في السير حتى كأنما يباشرن بالمعزاء مس الأرائك
أي الفرش على السرر. {لا يرون فيها شمسا} أي لا يرون في الجنة شدة حر كحر الشمس {ولا زمهريرا} أي ولا بردا مفرطا؛ قال الأعشى:
منعمة طفلة كالمهاة لم تر شمسا ولا زمهريرا
وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتكت النار إلى ربها عز وجل قالت: يا رب أكل بعضي بعضا، فجعل لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر في الصيف من سمومها). وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هواء الجنة سجسج: لا حر ولا برد) والسجسج: الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. وقال مرة الهمداني: الزمهرير البرد القاطع. وقال مقاتل بن حيان: هو شيء مثل رؤوس الإبر ينزل من السماء في غاية البرد. وقال ابن مسعود: هو لون من العذاب، وهو البرد الشديد، حتى إن أهل النار إذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم بالنار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوما واحدا. قال أبو النجم:
أو كنت ريحا كنت زمهريرا
وقال ثعلب: الزمهرير: القمر بلغة طيي؛ قال شاعرهم:
وليلة ظلامها قد اعتكر قطعتها والزمهرير ما زهر
ويروى: ما ظهر؛ أي لم يطلع القمر. فالمعنى لا يرون فيها شمسا كشمس الدنيا ولا قمرا كقمر الدنيا، أي إنهم في ضياء مستديم، لا ليل فيه ولا نهار؛ لأن ضوء النهار بالشمس، وضوء الليل بالقمر. وقد مضى هذا المعنى مجودا في سورة مريم عند قوله تعالى{ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا}مريم: 62]. وقال ابن عباس: بينما أهل الجنة في الجنة إذ رأوا نورا ظنوه شمسا قد أشرقت بذلك النور الجنة، فيقولون: قال ربنا{لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا} فما هذا النور؟ فيقول لهم رضوان: ليست هذه شمس ولا قمر، ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا، فأشرقت الجنان من نور ضحكهما، وفيهما أنزل الله تعالى{هل أتى على الإنسان} وأنشد:
أنا مولى لفتى أنزل فيه هل أتى
ذاك علي المرتضى وابن عم المصطفى
قوله تعالى{ودانية عليهم ظلالها} أي ظل الأشجار في الجنة قريبة من الأبرار، فهي مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس ولا قمر ثم؛ كما أن أمشاطهم الذهب والفضة، وإن كان لا وسخ ولا شعث ثم. ويقال: إن ارتفاع الأشجار في الجنة مقدار مائة عام، فإذا اشتهى ولي الله ثمرتها دانت حتى يتناولها. وانتصبت {دانية} على الحال عطفا على {متكئين} كما تقول: في الدار عبدالله متكئا ومرسلة عليه الحجال. وقيل: انتصبت نعتا للجنة؛ أي وجزاهم جنة دانية، فهي، صفة لموصوف محذوف. وقيل: على موضع {لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا} ويرون دانية، وقيل: على المدح أي دنت دانية. قاله الفراء. {ظلالها} الظلال مرفوعة بدانية، ولو قرئ برفع دانية على أن تكون الظلال مبتدأ ودانية الخبر لجاز، وتكون الجملة في موضع الحال من الهاء والميم في {وجزاهم} وقد قرئ بذلك. وفي قراءة عبدالله {ودانيا عليهم} لتقدم الفعل. وفي حرف أبي {ودان} رفع على الاستئناف {وذللت} أي سخرت لهم {قطوفها} أي ثمارها {تذليلا} أي تسخيرا، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع، لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك؛ قاله قتادة. وقال مجاهد: إن قام أحدا ارتفعت له، وإن جلس تدلت عليه، وإن اضطجع دنت منه فأكل منها. وعنه أيضا: أرض الجنة من ورق، وترابها الزعفران، وطيبها مسك أذفر، وأصول شجرها ذهب وورق، وأفنانها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، والثمر تحت ذلك كله؛ فمن أكل منها قائما لم تؤذه، ومن أكل منها قاعدا لم تؤذه، ومن أكل منها مضطجعا لم تؤذه.
وقال ابن عباس: إذا هم أن يتناول من ثمارها تدلت إليه حتى يتناول منها ما يريد، وتذليل القطوف تسهيل التناول. والقطوف: الثمار، الواحد قطف بكسر القاف، سمي به لأنه يقطف، كما سمي الجنى لأنه يجنى. {تذليلا} تأكيد لما وصف به من الذل؛ كقوله{ونزلناه تنزيلا}الإسراء: 106] {وكلم الله موسى تكليما}النساء: 164]. الماوردي: ويحتمل أن يكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها، وتخلص لهم من نواها.
قلت: وفي هذا بعد؛ فقد روى ابن المبارك، قال: أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجنة: جذوعها زمرد أخضر، وكربها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطعاتهم وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدلاء، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد ليس فيه عجم.
قال أبو جعفر النحاس: ويقال المذلل الذي قد ذلله الماء أي أرواه. ويقال المذلل الذي يفيئه أدنى ريح لنعمته، ويقال المذلل المسوى؛ لأن أهل الحجاز يقولون: ذلل نخلك أي سوه، ويقال المذلل القريب المتناول، من قولهم: حائط ذليل أي قصير. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي حكيناها ذكرها أهل العلم باللغة وقالوها في قول امرئ القيس:
وساق كأنبوب السقي المذلل ">الآية رقم (15 : 18)">
الآية رقم (15 : 18)
{ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا، قوارير من فضة قدروها تقديرا، ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا، عينا فيها تسمى سلسبيلا}
قوله تعالى{ويطاف عليهم بأنية من فضة وأكواب} أي يدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشراب {بآنية من فضة} قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء؛ أي ما في الجنة أشرف وأعلى وأنقى. ثم لم تنف الأواني الذهبية بل المعنى يسقون في أواني الفضة، وقد يسقون في أواني الذهب. وقد قال تعالى{يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب}الزخرف: 71]. وقيل: نبه بذكر الفضة على الذهب؛ كقوله{سرابيل تقيكم الحر}النحل: 81] أي والبرد؛ فنبه بذكر أحدهما على الثاني. والأكواب: الكيزان العظام التي لا آذان لها ولا عرى، الواحد منها كوب؛ وقال عدي:
متكئا تقرع أبوابه يسعى عليه العبد بالكوب
وقد مضى في الزخرف . {قوارير من فضة} أي في صفاء القوارير وبياض الفضة؛ فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة. وقيل: أرض الجنة من فضة، والأواني تتخذ من تربة الأرض التي هي منها. ذكره ابن عباس وقال: ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه، إلا القوارير من فضة. وقال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى تجعلها مثل جناح الذباب لم تر من ورائها الماء، ولكن قوارير الجنة مثل الفضة في صفاء القوارير. {قدروها تقديرا} قراءة العامة بفتح القاف والدال؛ أي قدرها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: أتوا بها على قدر ريهم، بغير زيادة ولا نقصان. الكلبى: وذلك ألذ وأشهى؛ والمعنى: قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم. وعن ابن عباس أيضا: قدروها على ملء الكف لا تزيد ولا تنقص، حتى لا تؤذيهم بثقل أو بإفراط صغر. وقيل: إن الشاربين قدروا لها مقادير في أنفسهم على ما اشتهوا وقدروا. وقرأ عبيد بن عمير والشعبي وابن سيرين {قدروها} بضم القاف وكسر الدال؛ أي جعلت لهم على قدر إرادتهم. وذكر هذه القراءة المهدوي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما؛ وقال: ومن قرأ {قدروها} فهو راجع إلى معنى القراءة الأخرى، وكأن الأصل قدروا عليها فحذف الجر؛ والمعنى قدرت عليهم؛ وأنشد سيبويه:
آليت حب العراق الدهر آكله والحب يأكله في القرية السوس
وذهب إلى أن المعنى على حب العراق. وقيل: هذا التقدير هو أن الأقداح تطير فتغترف بمقدار شهوة الشارب؛ وذلك قوله تعالى{قدروها تقديرا} أي لا يفضل عن الري لا ينقص منه، فقد ألهمت الأقداح معرفة مقدار ري المشتهى حتى تغترف بذلك المقدار. ذكر هذا القول الترمذي الحكيم في نوادر الأصول .
قوله تعالى{ويسقون فيها كأسا} وهي الخمر في الإناء. {كان مزاجها زنجبيلا} {كان} صلة؛ أي مزاجها زنجبيل، أو كان في حكم الله زنجبيلا. وكانت العرب تستلذ من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته؛ لأنه يحذو اللسان، ويهضم المأكول، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب. وقال المسيب عن علس يصف ثغر المرأة:
وكأن طعم الزنجبيل به إذ ذقته وسلافة الخمر
ويروى. الكرم. وقال آخر:،
كأن جنيا من الزنجبيـ ـل بات بفيها وأريا مشورا
ونحوه قول الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبيـ ـل باتا بفيها وأريا مشورا
وقال مجاهد: الزنجبيل اسم للعين التي منها مزاج شراب الأبرار. وكذا قال قتادة: والزنجبيل اسم العين التي يشرب بها المقربون صرفا وتمزج لسائر أهل الجنة. وقيل: هي عين في الجنة يوجد فيها طعم الزنجبيل. وقيل: إن فيه معنى الشراب الممزوج بالزنجبيل. والمعنى كأن فيها زنجبيلا. {عينا} بدل من كأس. ويجوز أن ينتصب بإضمار فعل أي يسقون عينا. ويجوز نصبه بإسقاط الخافض أي من عين على ما تقدم في قوله تعالى{عينا يشرب بها عباد الله}الإنسان: 6]. {فيها} أي في الجنة
{تسمى سلسبيلا} السلسبيل الشراب اللذيذ، وهو فعليل من السلالة؛ تقول العرب: هذا شراب سلس وسلسال وسلسل وسلسبيل بمعنى؛ أي طيب الطعم لذيذه. وفي الصحاح: وتسلسل الماء في الحلق جرى، وسلسلته أنا صببته فيه، وماء سلسل وسلسال: سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه، والسلاسل بالضم مثله.
وقال الزجاج: السلسبيل في اللغة: اسم لما كان في غاية السلاسة؛ فكأن العين سميت بصفتها. وعن مجاهد قال: سلسبيلا: حديدة الجرية تسيل في حلوقهم انسلالا.
ونحوه عن ابن عباس: إنها الحديدة الجري. ذكره الماوردي؛ ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل
وقال أبو العالية ومقاتل: إنما سميت سلسبيلا؛ لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم، تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنة. وقال قتادة: سلسة منقاد ماؤها حيث شاؤوا. ونحوه عن عكرمة. وقال القفال: أي تلك عين شريفة فسل سبيلا إليها. وروي هذا عن علي رضي الله عنه. وقوله{تسمى} أي إنها مذكورة عند الملائكة وعند الأبرار وأهل الجنة بهذا الاسم. وصرف سلسبيل؛ لأنه رأس آية؛ كقوله تعالى{الظنونا}الأحزاب: 10] و{السبيلا}الأحزاب: 67].
الآية رقم (19 : 22)
{ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا، وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا، عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا، إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا}
قوله تعالى{ويطوف عليهم ولدان مخلدون} بين من الذي يطوف عليهم بالآنية؛ أي ويخدمهم ولدان مخلدون، فإنهم أخف في الخدمة. ثم قال{مخلدون} أي باقون على ما هم عليه من الشباب والغضاضة والحسن، لا يهرمون ولا يتغيرون، ويكونون على سن واحدة على مر الأزمنة. وقيل: مخلدون لا يموتون. وقيل: مسورون مقرطون؛ أي محلون والتخليد التحلية. وقد تقدم هذا. {إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا} أي ظننتهم من حسنهم وكثرتهم وصفاء ألوانهم: لؤلؤا مفرقا في عرصة المجلس، واللؤلؤ إذا نثر على بساط كان أحسن منه منظوما. وعن المأمون أنه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل، وهو على بساط منسوج من ذهب، وقد نثرت عليه نساء دار الخليفة اللؤلؤ، فنظر إليه منثورا على ذلك البساط فاستحسن المنظر وقال: لله در أبي نواس كأنه أبصر هذا حيث يقول:
كأن صغرى وكبرى من فقاقعها حصباء در على أرض من الذهب
وقيل: إنما شبههم بالمنثور؛ لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين إذ شبههن باللؤلؤ المكنون المخزون؛ لأنهن لا يمتهن بالخدمة.
قوله تعالى{وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا} {ثم}: ظرف مكان أي هناك في الجنة، والعامل في {ثم} معنى {رأيت} أي وإذا رأيت ببصرك {ثم}. وقال الفراء: في الكلام {ما} مضمرة؛ أي وإذا رأيت ما ثم؛ كقوله تعالى{لقد تقطع بينكم}الأنعام: 94] أي ما بينكم. وقال الزجاج{ما} موصولة {بثم} على ما ذكره الفراء، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة، ولكن {رأيت} يتعدى في المعنى إلى {ثم} والمعنى: إذا رأيت ببصرك {ثم} ويعني {بثم} الجنة، وقد ذكر الفراء هذا أيضا.
والنعيم: سائر ما يتنعم به. والملك الكبير: استئذان الملائكة عليهم؛ قال السدي وغيره. قال الكلبي: هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله، فيستأذن عليه؛ فذلك الملك العظيم. وقاله مقاتل بن سليمان. وقيل: الملك الكبير: هو أن يكون لأحدهم سبعون حاجبا، حاجبا دون حاجب، فبينما ولي الله فيما هو فيه من اللذة والسرور إذ يستأذن عليه ملك من عند الله، قد أرسله الله بكتاب وهدية وتحفة من رب العالمين لم يرها ذلك الولي في الجنة قط، فيقول للحاجب الخارج: استأذن على ولي الله فإن معي كتابا وهدية من رب العالمين. فيقول هذا الحاجب للحاجب الذي يليه: هذا رسول من رب العالمين، معه كتاب وهدية يستأذن على ولي الله؛ فيستأذن كذلك حتى يبلغ إلى الحاجب الذي يلي ولي الله فيقول له: يا ولي الله! هذا رسول من رب العالمين يستأذن عليك، معه كتاب وتحفة من رب العالمين أفيؤذن له؟ فيقول: نعم! فأذنوا له. فيقول ذلك الحاجب الذي يليه: نعم فأذنوا له. فيقول الذي يليه للآخر كذلك حتى يبلغ الحاجب الآخر. فيقول له: نعم أيها الملك؛ قد أذن لك، فيدخل فيسلم عليه ويقول: السلام يقرئك السلام، وهذه تحفة، وهذا كتاب من رب العالمين إليك. فإذا هو مكتوب عليه: من الحي الذي لا يموت، إلى الحي الذي يموت. فيفتحه فإذا فيه: سلام على عبدي ووليي ورحمتي وبركاتي، يا وليي أما آن لك أن تشتاق إلى رؤية ربك؟ فيستخفه الشوق فيركب البراق فيطير به البراق شوقا إلى زيادة علام الغيوب، فيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال سفيان الثوري: بلغنا أن الملك الكبير تسليم الملائكة عليهم؛ دليله قوله تعالى{والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}الرعد: 23] وقيل: الملك الكبير كون التيجان على رؤوسهم كما تكون على رأس ملك من الملوك. وقال الترمذي الحكيم: يعني ملك التكوين، فإذا أرادوا شيئا قالوا له كن. وقال أبو بكر الوراق: ملك لا يتعقبه هلك. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملك الكبير هو - أن - أدناهم منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه) قال: [وإن أفضلهم منزلة من ينظر في وجه ربه تعالى كل يوم مرتين] سبحان المنعم.
قوله تعالى{عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق} قرأ نافع وحمزة وابن محيصن {عاليهم} ساكنة الياء، واختاره أبو عبيد أعتبارا بقراءة ابن مسعود وابن وثاب وغيرهما {عاليتهم} وبتفسير ابن عباس: أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها. الفراء: وهو مرفوع بالابتداء وخبره {ثياب سندس} واسم الفاعل يراد به الجمع. ويجوز في قول الأخفش أن يكون إفراده على أنه اسم فاعل متقدم و{ثياب} مرتفعة به وسدت مسد الخبر، والإضافة فيه في تقدير الانفصال لأنه لم يخص، وابتدئ به لأنه اختص بالإضافة. وقرأ الباقون {عاليهم} بالنصب. وقال الفراء: هو كقولك فوقهم، والعرب تقول: قومك داخل الدار فينصبون داخل على الظرف، لأنه محل. وأنكر الزجاج هذا وقال: هو مما لا نعرفه في الظروف، ولو كان ظرفا لم يجز إسكان الياء. ولكنه بالنصب على الحال من شيئين: أحدهما الهاء والميم في قوله{يطوف عليهم} أي على الأبرار {ولدان} عاليا الأبرار ثياب سندس؛ أي يطوف عليهم في هذه الحال، والثاني: أن يكون حالا من الولدان؛ أي {إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا} في حال علو الثياب أبدانهم. وقال أبو علي: العامل في الحال إما {لقاهم نضرة وسرورا} وإما {جزاهم بما صبروا} قال: ويجوز أن يكون ظرفا فصرف. المهدوي: ويجوز أن يكون اسم فاعل ظرفا؛ كقولك هو ناحية من الدار، وعلى أن عاليا لما كان بمعنى فوق أجري مجراه فجعل ظرفا. وقرأ ابن محيصن وابن كثير وأبو بكر عن عاصم {خضر} بالجر على نعت السندس {وإستبرق} بالرفع نسقا على الثياب، ومعناه عاليهم [ثياب] سندس وإستبرق. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب {خضر} رفعا نعتا للثياب {وإستبرق} بالخفض نعتا للسندس، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لجودة معناه؛ لأن الخضر أحسن ما كانت نعتا للثياب فهي مرفوعة، وأحسن ما عطف الإستبرق على السندس عطف جنس على جنس، والمعنى: عاليهم ثياب خضر من سندس وإستبرق، أي من هذين النوعين. وقرأ نافع وحفص كلاهما بالرفع ويكون {خضر} نعتا للثياب؛ لأنهما جميعا بلفظ الجمع {وإستبرق} عطفا على الثياب. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي كلاهما بالخفض ويكون قوله{خضر} نعتا للسندس، والسندس اسم جنس، وأجاز الأخفش وصف اسم الجنس بالجمع على استقباح له؛ وتقول: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض؛ ولكنه مستبعد في الكلام. والمعنى على هذه القراءة: عاليهم ثياب سندس خضر وثياب إستبرق. وكلهم صرف الإستبرق، إلا ابن محيصن، فإنه فتحه ولم يصرفه فقرأ {وإستبرق} نصبا في موضع الجر، على منع الصرف، لأنه أعجمي، وهو غلط؛ لأنه نكرة يدخله حرف التعريف؛ تقول الإستبرق إلا أن يزعم [ابن محيصن] أنه قد يجعل علما لهذا الضرب من الثياب. وقرئ {واستبرق} بوصل الهمزة والفتح على أنه سمي باستفعل من البريق، وليس بصحيح أيضا، لأنه معرب مشهور تعريبه، وأن أصله استبرك والسندس: ما رق من الديباج. والإستبرق: ما غلظ منه. وقد تقدم.
قوله تعالى{وحلوا} عطف على {ويطوف}. {أساور من فضة} وفي سورة فاطر {يحلون فيها من أساور من ذهب} وفي سورة الحج {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا}الحج: 23]، فقيل: حلي الرجل الفضة وحلي المرأة الذهب. وقيل: تارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضة. وقيل: يجمع في يد أحدهم سواران من ذهب وسواران من فضة وسواران من لؤلؤ، ليجتمع لهم محاسن الجنة؛ قاله سعيد بن المسيب. وقيل: أي لكل قوم ما تميل إليه نفوسهم. {وسقاهم ربهم شرابا طهورا} قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى{وسقاهم ربهم شرابا طهورا} قال: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فيشربون من إحداهما، فتجري عليهم بنضرة النعيم، فلا تتغير أبشارهم، ولا تتشعث أشعارهم أبدا، ثم يشربون من الأخرى، فيخرج ما في بطونهم من الأذى، ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون لهم{سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين}الزمر: 73]. وقال النخعي وأبو قلابة: هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم، وصار ما أكلوه وما شربوه رشح مسك، وضمرت بطونهم. وقال مقاتل: هو من عين ماء على باب الجنة، تنبع من ساق شجرة، من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد، وما كان في جوفه من أذى وقذر. وهذا معنى ما روي عن علي، إلا أنه في قول مقاتل عين واحدة وعليه فيكون فعولا للمبالغة، ولا يكون فيه حجة للحنفي أنه بمعنى الطاهر. وقد مضى بيانه في سورة الفرقان والحمد لله. وقال طيب الجمال: صليت خلف سهل بن عبدالله العتمة فقرأ {وسقاهم ربهم شرابا طهورا} وجعل يحرك شفتيه وفمه، كأنه يمص شيئا، فلما فرغ قيل له: أتشرب أم تقرأ؟ فقال: والله لو لم أجد لذته عند قراءته كلذته عند شربه ما قرأته.
قوله تعالى{إن هذا كان لكم جزاء} أي يقال لهم: إنما هذا جزاء لكم أي ثواب. {وكان سعيكم} أي عملكم {مشكورا} أي من قبل الله، وشكره للعبد قبول طاعته، وثناؤه عليه، وإثابته إياه. وروى سعيد عن قتادة قال: غفر لهم الذنب وشكر لهم الحسنى. وقال مجاهد{مشكورا} أي مقبولا والمعنى متقارب؛ فإنه سبحانه إذا قبل العمل شكره، فإذا شكره أثاب عليه بالجزيل؛ إذ هو سبحانه ذو الفضل العظيم. روي عن ابن عمر: أن رجلا حبشيا قال: يا رسول الله! فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوة، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به، وعملت بما عملت، أكائن أنا معك في الجنة؟ قال: [نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة وضياؤه من مسيرة ألف عام] ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: [من قال لا إله إلا الله كان له بها عند الله عهد، ومن قال سبحان الله والحمد لله كان له بها عند الله مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة]، فقال الرجل: كيف نهلك بعدها يا رسول الله؟ فقال: [إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضعه على جبل لأثقله. فتجيء النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يلطف الله برحمته]. قال: ثم نزلت {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} إلى قوله{وملكا كبيرا} قال الحبشي: يا رسول الله! وإن عيني لترى ما ترى، عيناك في الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم) فبكى الحبشي حتى فاضت نفسه. وقال ابن عمر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته ويقول{إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا} قلنا: يا رسول الله وما هو؟ قال: [والذي نفسي بيده لقد أوقفه الله ثم قال أي عبدي لأبيضن وجهك ولأبوئنك من الجنة حيث شئت، فنعم أجر العاملين]."
الآية رقم (23 : 26)
{إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا، فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا، واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا}
قوله تعالى{إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا} ما افتريته ولا جئت به من عندك، ولا من تلقاء نفسك، فسك، كما يدعيه المشركون. ووجه اتصال هذه الآية بنا قيل أنه سبحانه لما ذكر أصناف الوعد والوعيد، بين أن هذا الكتاب يتضمن ما بالناس حاجة إليه، فليس بسحر ولا كهانة، ولا شعر، وأنه حق. وقال ابن عباس: أنزل القرآن متفرقا: آية بعد آية، ولم ينزل جملة واحدة؛ فلذلك قال {نزلنا} وقد مضى القول في هذا مبينا والحمد لله.
قوله تعالى{فاصبر لحكم ربك} أي لقضاء ربك. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: اصبر على أذى المشركين؛ هكذا قضيت. ثم نسخ بآية القتال. وقيل: أي اصبر لما حكم به عليك من الطاعات، أو انتظر حكم الله إذ وعدك أنه ينصرك عليهم، ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة. {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} أي ذا إثم
{أو كفورا} أي لا تطع الكفار. فروى معمر عن قتادة قال: قال أبو جهل: إن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه. فأنزل الله عز وجل{ولا تطع منهم آثما أو كفورا}.
ويقال: نزلت في عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة، وكانا أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضان عليه الأموال والتزويج، على أن يترك ذكر النبوة، ففيهما نزلت{ولا تطع منهم آثما أو كفورا}. قال مقاتل: الذي عرض التزويج عتبة بن ربيعة؛ قال: إن بناتي من أجمل نساء قريش، فأنا أزوجك ابنتي من غير مهر وارجع عن هذا الأمر. وقال الوليد: إن كنت صنعت ما صنعت لأجل المال، فأنا أعطيك من المال حتى ترضى وارجع عن هذا الأمر؛ فنزلت. ثم قيل{أو} في قوله تعالى{آثما أو كفورا} أوكد من الواو؛ لأن الواو إذا قلت: لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص؛ لأنه أمره ألا يطيع الاثنين، فإذا قال{لا تطع منهم آثما أو كفورا} {فأو} قد دلت على أن كل واحد منهما أهل أن يعصي؛ كما أنك إذا قلت: لا تخالف الحسن أو ابن سيرين، أو اتبع الحسن أو ابن سيرين فقد قلت: هذان أهل أن يتبعا وكل واحد منهما أهل لأن يتبع؛ قاله الزجاج. وقال الفراء{أو} هنا بمنزلة {لا} كأنه قال: ولا كفورا؛ قال الشاعر:
لا وجد ثكلى كما وجدت ولا وجد عجول أضلها ربع
أو وجد شيخ أضل ناقته يوم توافى الحجيج فاندفعوا
أراد ولا وجد شيخ. وقيل: الآثم المنافق، والكفور الكافر الذي يظهر الكفر؛ أي لا تطع منهم آثما ولا كفورا. وهو قريب من قول الفراء.
قوله تعالى{واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا} أي صل لربك أول النهار وآخره، ففي أوله صلاة الصبح وفي آخره صلاة الظهر والعصر. {ومن الليل فاسجد له} يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة. {وسبحه ليلا طويلا} يعني التطوع في الليل؛ قاله ابن حبيب. وقال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة. وقيل: هو الذكر المطلق سواء كان في الصلاة أو في غيرها وقال ابن زيد وغيره: إن قوله{وسبحه ليلا طويلا} منسوخ بالصلوات الخمس وقيل: هو ندب. وقيل: هو مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم القول في مثله في سورة المزمل وقول ابن حبيب حسن. وجمع الأصيل: الأصائل والأصل؛ كقولك سفائن وسفن؛ قال: ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل وقال في الأصائل، وهو جمع الجمع:
لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل
وقد مضى في آخر الأعراف مستوفى. ودخلت {من} على الظرف للتبعيض، كما دخلت على المفعول في قوله تعالى{يغفر لكم ذنوبكم}الصف: 12]. "
الآية رقم (27 : 28)
{إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا، نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا}
قوله تعالى{إن هؤلاء يحبون العاجلة} توبيخ وتقريع؛ والمراد أهل مكة. والعجلة الدنيا {ويذرون} أي ويدعون {وراءهم} أي بين أيديهم {يوما ثقيلا} أي عسيرا شديدا كما قال{ثقلت في السموات والأرض}الأعراف: 187]. أي يتركون الإيمان بيوم القيامة. وقيل{ورائهم} أي خلفهم، أي ويذرون الآخرة خلف ظهورهم، فلا يعملون لها. وقيل{نزلت في اليهود فيما كتموه من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته. وحبهم العاجلة: أخذهم الرشا على ما أراد المنافقين؛ لاستبطانهم الكفر وطلب الدنيا. والآية تعم. واليوم الثقيل يوم القيامة. وإنما سمي ثقيلا لشدائده وأهواله. وقيل: للقضاء فيه بين عباده.
قوله تعالى{نحن خلقناهم} أي من طين. {وشددنا أسرهم} أي خلقهم؛ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم. والأسر الخلق؛ قال أبو عبيد: يقال فرس شديد الأسر أي الخلق. ويقال أسره الله جل ثناؤه إذا شدد خلقه؛ قال لبيد:
ساهم الوجه شديد أسره مشرف الحارك محبوك الكتد
وقال الأخطل:
من كل مجتنب شديد أسره سلس القياد تخاله مختالا
وقال أبو هريرة والحسن والربيع: شددنا مفاصلهم وأوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب. وقال مجاهد في تفسير الأسر: هو الشرج، أي إذا خرج الغائط والبول تقبض الموضع. وقال ابن زيد القوة. وقال ابن أحمر يصف فرسا:
يمشي بأوظفة شداد أسرها صم السنابك لا تقي بالجدجد
واشتقاقه من الأسار وهو القد الذي يشد به الأقتاب؛ يقال: أسرت القتب أسرا أي شددته وربطه؛ ويقال: ما أحسن أسر قتبه أي شده وربطه؛ ومنه قولهم: خذه بأسره إذا أرادوا أن يقولوا هو لك كله؛ كأنهم أرادوا تعكيمه وشده لم يفتح ولم ينقص منه شيء. ومنه الأسير، لأنه كان يكتف بالإسار. والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية. أي سويت خلقك وأحكمته بالقوي ثم أنت تكفر بي. {وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا} قال ابن عباس: يقول لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم. وعنه أيضا: لغيرنا محاسنهم إلى أسمج الصور وأقبحها. كذلك روى الضحاك عنه. والأول رواه عنه أبو صالح.
الآية رقم (29 : 31)
{إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما، يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما}
قوله تعالى{إن هذه} أي السورة {تذكرة} أي موعظة {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} أي طريقا موصلا إلى طاعته وطلب مرضاته. وقيل{سبيلا} أي وسيلة. وقيل وجهة وطريقا إلى الجنة. والمعنى واحد. {وما تشاؤون} أي الطاعة والاستقامة واتخاذ السبيل إلى الله {إلا أن يشاء الله} فأخبر أن الأمر إليه سبحانه ليس إليهم، وأنه لا تنفذ مشيئة أحد ولا تتقدم، إلا أن تتقدم مشيئته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {وما يشاؤون} بالياء على معنى الخبر عنهم. والباقون بالتاء على معنى المخاطبة لله سبحانه.
وقيل: إن الآية الأولى منسوخة بالثانية. والأشبه أنه ليس بنسخ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته. قال الفراء{وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} جواب لقوله{فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم فقال{وما تشاؤون} ذلك السبيل {إلا أن يشاء الله} لكم. {إن الله كان عليما} بأعمالكم {حكيما} في أمره ونهيه لكم. وقد مضى في غير موضع. {يدخل من يشاء في رحمته} أي يدخله الجنة راحما له {والظالمين} أي ويعذب الظالمين فنصبه بإضمار يعذب. قال الزجاج: نصب الظالمين لأن قبله منصوب؛ أي يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين أي المشركين ويكون {أعد لهم} تفسيرا لهذا المضمر؛ كما قال الشاعر:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أي أخشى الذئب أخشاه. قال الزجاج: والاختيار النصب وإن جاز الرفع؛ تقول: أعطيت زيدا وعمرا أعددت له برا، فيختار النصب؛ أي وبررت عمرا أو أبر عمرا. وقوله في الشورى {يدخل من يشاء في رحمته والظالمون}الشورى: 8] ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فينصب في المعنى؛ فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء. وها هنا قوله{أعد لهم عذابا} يدل على ويعذب، فجاز النصب. وقرأ أبان بن عثمان {والظالمون} رفعا بالابتداء والخبر {أعد لهم}.
{عذابا أليما} أي مؤلما موجعا. وقد تقدم هذا في سورة البقرة وغيرها والحمد لله. ختمت السورة.
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها، وهي قوله تعالى{وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون}المرسلات: 48] مدنية.
وقال ابن مسعود: نزلت {والمرسلات عرفا} على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ونحن معه نسير، حتى أوينا إلى غار بمنى فنزلت، فبينا نحن نتلقاها منه، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت حية، فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وقيتم شرها كما وقيت شركم). وعن كريب مولى ابن عباس قال: قرأت سورة {والمرسلات عرفا} فسمعتني أم الفضل امرأة العباس، فبكت وقالت: والله يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب. والله أعلم. وهي خمسون آية.
">الآية رقم ( 1 : 15 )">
الآية رقم ( 1 : 15 )
{والمرسلات عرفا، فالعاصفات عصفا، والناشرات نشرا، فالفارقات فرقا، فالملقيات ذكرا، عذرا أو نذرا، إنما توعدون لواقع، فإذا النجوم طمست، وإذا السماء فرجت، وإذا الجبال نسفت، وإذا الرسل أقتت، لأي يوم أجلت، ليوم الفصل، وما أدراك ما يوم الفصل، ويل يومئذ للمكذبين}
قوله تعالى{والمرسلات عرفا} جمهور المفسرين على أن المرسلات الرياح. وروى مسروق عن عبدالله قال: هي الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر الله تعالى ونهيه والخبر والوحي. وهو قول أبي هريرة ومقاتل وأبي صالح والكلبي. وقيل: هم الأنبياء أرسلوا بلا إله إلا الله؛ قاله ابن عباس. وقال أبو صالح: إنهم الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات. وعن ابن عباس وابن مسعود: إنها الرياح؛ كما قال تعالى{وأرسلنا الرياح}الحجر: 22]. وقال{وهو الذي يرسل الرياح}الأعراف: 57]. ومعنى {عرفا} يتبع بعضها بعضا كعرف الفرس؛ تقول العرب: الناس إلى فلان عرف واحد: إذا توجهوا إليه فأكثروا. وهو نصب على الحال من {والمرسلات} أي والرياح التي أرسلت متتابعة. ويجوز أن تكون مصدرا أي تباعا. ويجوز أن يكون النصب على تقدير حرف الجر، كأنه قال: والمرسلات بالعرف، والمراد الملائكة أو الملائكة والرسل. وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالمرسلات السحاب، لما فيها من نعمة ونقمة، عارفة بما أرسلت فيه ومن أرسلت إليه. وقيل: إنها الزواجر والمواعظ. و{عرفا} على هذا التأويل متتابعات كعرف الفرس؛ قال ابن مسعود. وقيل: جاريات؛ قال الحسن؛ يعني في القلوب. وقيل: معروفات في العقول. {فالعاصفات عصفا} الرياح بغير اختلاف؛ قال المهدوي. وعن ابن مسعود: هي الرياح العواصف تأتي بالعصف، وهو ورق الزرع وحطامه؛ كما قال تعالى{فيرسل عليكم قاصفا}الإسراء: 69]. وقيل: العاصفات الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها. وقيل: الملائكة تعصف بروح الكافر؛ يقال: عصف بالشيء أي أباده وأهلكه، وناقة عصوف أي تعصف براكبها، فتمضى كأنها ريح في السرعة، وعصفت الحرب بالقوم أي ذهبت بهم. وقيل: يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف. {والناشرات نشرا} الملائكة الموكلون بالسحب ينشرونها. وقال ابن مسعود ومجاهد: هي الرياح يرسلها الله تعالى نشرا بين يدي رحمته؛ أي تنشر السحاب للغيث.
وروي ذلك عن أبي صالح. وعنه أيضا: الأمطار؛ لأنها تنشر النبات، فالنشر بمعنى الإحياء؛ يقال: نشر الله الميت وأنشره أي أحياه. وروى عنه السدي: أنها الملائكة تنشر كتب الله عز وجل. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يريد ما ينشر من الكتب وأعمال بني آدم. الضحاك: إنها الصحف تنشر على الله بأعمال العباد.
وقال الربيع: إنه البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح. قال{والناشرات} بالواو؛ لأنه استئناف قسم آخر. {فالفارقات فرقا} الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل؛ قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وأبو صالح. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: ما تفرق الملائكة من الأقوات والأرزاق والآجال. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الفارقات الرياح تفرق بين السحاب وتبدده. وعن سعيد عن قتادة قال{الفارقات فرقا} الفرقان، فرق الله فيه بين الحق والباطل والحرام والحلال. وقال الحسن وابن كيسان. وقيل: يعني الرسل فرقوا بين ما أمر الله به ونهى عنه أي بينوا ذلك.
وقيل: السحابات الماطرة تشبيها بالناقة الفارق وهي الحامل التي تخرج وتند في الأرض حين تضع، ونوق فوارق وفرق. [وربما] شبهوا السحابة التي تنفرد من السحاب بهذه الناقة؛ قال ذو الرمة:
أو مزنة فارق يجلو غواربها تبوج البرق والظلماء علجوم
{فالملقيات ذكرا} الملائكة بإجماع؛ أي تلقي كتب الله عز وجل إلى الأنبياء عليهم السلام؛ قاله المهدوي. وقيل: هو جبريل وسمي باسم الجمع؛ لأنه كان ينزل بها. وقيل: المراد الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل الله عليهم؛ قال قطرب. وقرأ ابن عباس {فالملقيات} بالتشديد مع فتح القاف؛ وهو كقوله تعالى{وإنك لتلقى القرآن}النمل: 6] {عذرا أو نذرا} أي تلقى الوحي إعذارا من الله أو إنذارا إلى خلقه من عذابه؛ قال الفراء. وروى عن أبي صالح قال: يعني الرسل يعذرون وينذرون. وروى سعيد عن قتادة {عذرا} قال: عذرا لله جل ثناؤه إلى خلقه، ونذرا للمؤمنين ينتفعون به ويأخذون به. وروى الضحاك عن ابن عباس. {عذرا} أي ما يلقيه الله جل ثناؤه من معاذير أوليائه وهي التوبة {أو نذرا} ينذر أعداءه. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص {أو نذرا} بإسكان الذال وجميع السبعة على إسكان ذال {عذرا} سوى ما رواه الجعفي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم أنه ضم الذال. وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وغيرهما. وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة {عذرا ونذرا} بالواو العاطفة ولم يجعلا بينهما ألفا. وهما منصوبان على الفاعل له أي للإعذار أو للإنذار. وقيل: على المفعول به، قيل: على البدل من {ذكرا} أي فالملقيات عذرا أو نذرا. وقال أبو علي: يجوز أن يكون العذر والنذر بالثقيل على جمع عاذر وناذر؛ كقوله تعالى{هذا نذير من النذر الأولى}النجم: 56] فيكون نصبا على الحال من الإلقاء؛ أي يلقون الذكر في حال العذر والإنذار. أو يكون مفعولا {لذكرا} أي {فالملقيات} أي تذكر {عذرا أو نذرا}. وقال المبرد: هما بالتثقيل جمع والواحد عذير ونذير.
قوله تعالى{إنما توعدون لواقع} هذا جواب ما تقدم من القسم؛ أي ما توعدون من أمر القيامة لواقع بكم ونازل عليكم. ثم بين وقت وقوعه فقال{فإذا النجوم طمست} أي ذهب ضوؤها ومحي نورها كطمس الكتاب؛ يقال: طمس الشيء إذا درس وطمس فهو مطموس، والريح تطمس الآثار فتكون الريح طامسة والأثر طامسا بمعنى مطموس. {وإذا السماء فرجت} أي فتحت وشقت؛ ومنه قوله تعالى{وفتحت السماء فكانت أبوابا}النبأ: 19]. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: فرجت للطي. {وإذا الجبال نسفت} أي ذهب بها كلها بسرعة؛ يقال: نسفت الشيء وأنسفته: إذا أخذته كله بسرعة. وكان ابن عباس والكلبي يقول: سويت بالأرض، والعرب تقول: فرس نسوف إذا كان يؤخر الحزام بمرفقيه؛ قال بشر:
نسوف للحزام بمرفقيها
ونسفت الناقة الكلأ: إذا رعته. وقال المبرد: نسفت قلعت من موضعها؛ يقول الرجل للرجل يقتلع رجليه من الأرض: أنسفت رجلاه. وقيل: النسف تفريق الأجزاء حتى تذروها للرياح. ومنه نسف الطعام؛ لأنه يحرك حتى يذهب الريح بعض ما فيه من التبن. {وإذا الرسل أقتت} أي جمعت لوقتها ليوم القيامة، والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه؛ فالمعنى: جعل لها وقت وأجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم؛ كما قال تعالى{يوم يجمع الله الرسل}المائدة: 109]. وقيل: هذا في الدنيا أي جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذبهم بأن الكفار ممهلون. وإنما تزول الشكوك يوم القيامة. والأول أحسن؛ لأن التوقيت معناه شيء يقع يوم القيامة، كالطمس ونسف الجبال وتشقيق السماء ولا يليق به. التأقيت قبل يوم القيامة. قال أبو علي: أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتا. وقيل: أقتت وعدت وأجلت. وقيل{أقتت} أي أرسلت لأوقات معلومة على ما علمه الله وأراد. والهمزة في {أقتت} بدل من الواو؛ قال الفراء والزجاج. قال الفراء: وكل واو ضمت وكانت ضمتها لازمة جاز أن يبدل منها همزة؛ تقول: صلى القوم إحدانا تريد وحدانا، ويقولون هذه وجوه حسان و[أجوه]. وهذا لأن ضمة الواو ثقيلة. ولم يجز البدل في قوله{ولا تنسوا الفضل بينكم}البقرة: 237] لأن الضمة غير لازمة.
وقرأ أبو عمرو وحميد والحسن ونصر. وعن عاصم ومجاهد {وقتت} بالواو وتشديد القاف على الأصل. وقال أبو عمرو: وإنما يقرأ {أقتت} من قال في وجوه أجوه. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج {وقتت} بالواو وتخفيف القاف. وهو فعلت من الوقت ومنه {كتابا موقوتا}. وعن الحسن أيضا{ووقتت} بواوين، وهو فوعلت من الوقت أيضا مثل عوهدت. ولو قلبت الواو في هاتين القراءتين ألفا لجاز. وقرأ يحيى وأيوب وخالد بن إلياس وسلام {أقتت} بالهمزة والتخفيف؛ لأنها مكتوبة في المصحف بالألف.
قوله تعالى{لأي يوم أجلت} أي أخرت، وهذا تعظيم لذلك اليوم فهو استفهام على التعظيم. أي {ليوم الفصل{ أجلت. وروى سعيد عن قتادة قال: يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة أو إلى النار. وفي الحديث: [إذا حشر الناس يوم القيامة قاموا أربعين عاما على رؤوسهم الشمس شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون الفصل]. {وما أدراك ما يوم الفصل} أتبع التعظيم تعظيما؛ أي وما أعلمك ما يوم الفصل؟ {ويل يومئذ للمكذبين} أي عذاب وخزي لمن كذب بالله وبرسله وكتبه وبيوم الفصل فهو وعيد. وكرره في هذه السورة عند كل آية لمن كذب؛ لأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فإن لكل مكذب بشيء عذابا سوى تكذيبه بشيء آخر، ورب شيء كذب به هو أعظم جرما من تكذيبه بغيره؛ لأنه أقبح في تكذيبه، وأعظم في الرد على الله، فإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك، وعلى قدر وفاقه وهو قوله{جزاء وفاقا}. [النبأ: 26]. وروي عن النعمان بن بشير قال: ويل: واد في جهنم فيه ألوان العذاب. وقال ابن عباس وغيره. قال ابن عباس: إذا خبت جهنم أخذ من جمره فألقي عليها فيأكل بعضها بعضا. وروي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [عرضت علي جهنم فلم أر فيها واديا أعظم من الويل] وروي أنه مجمع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض وانفطر، وقد علم العباد في الدنيا أن شر المواضع في الدنيا ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسالات من الجيف وماء الحمامات؛ فذكر أن ذلك الوادي. مستنقع صديد أهل الكفر والشرك؛ ليعلم ذوو العقول أنه لا شيء أقذر منه قذارة، ولا أنتن منه نتنا، ولا أشد منه مرارة، ولا أشد سوادا منه؛ ثم وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تضمن من العذاب، وأنه أعظم واد في جهنم، فذكره الله تعالى في وعيده في هذه السورة.
الآية رقم (16 : 19)
{ألم نهلك الأولين، ثم نتبعهم الآخرين، كذلك نفعل بالمجرمين، ويل يومئذ للمكذبين}
قوله تعالى{ألم نهلك الأولين} أخبر عن إهلاك الكفار من الأمم الماضين من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم. {ثم نتبعهم الآخرين} أي نلحق الآخرين بالأولين. {كذلك نفعل بالمجرمين} أي مثل ما فعلناه بمن تقدم نفعل بمشركي قريش إما بالسيف، وإما بالهلاك. وقرأ العامة {ثم نتبعهم} بالرفع على الاستئناف، وقرأ الأعرج {نتبعهم} بالجزم عطفا على {نهلك الأولين} كما تقول: ألم تزرني ثم أكرمك. والمراد أنه أهلك قوما بعد قوم على اختلاف أوقات المرسلين. ثم استأنف بقوله{كذلك نفعل بالمجرمين} يريد من يهلك فيما بعد. ويجوز أن يكون الإسكان تخفيفا من {نتبعهم} لتوالي الحركات. وروي عنه الإسكان للتخفيف. وفي قراءة ابن مسعود {ثم سنتبعهم} والكاف من {كذلك} في موضع نصب، أي مثل ذلك الهلاك نفعله بكل مشرك. ثم قيل: معناه التهويل لهلاكهم في الدنيا اعتبارا. وقيل: هو إخبار بعذابهم في الآخرة.
الآية رقم (20 : 24)
{ألم نخلقكم من ماء مهين، فجعلناه في قرار مكين، إلى قدر معلوم، فقدرنا فنعم القادرون، ويل يومئذ للمكذبين}
قوله تعالى{ألم نخلقكم من ماء مهين} أي ضعيف حقير وهو النطفة وقد تقدم.
وهذه الآية أصل لمن قال: إن خلق الجنين إنما هو من ماء الرجل وحده. وقد مضى القول فيه. {فجعلناه في قرار مكين} أي في مكان حريز وهو الرحم. {إلى قدر معلوم} قال مجاهد: إلى أن نصوره. وقيل: إلى وقت الولادة. {فقدرنا} وقرأ نافع والكسائي {فقدرنا} بالتشديد. وخفف الباقون، وهما لغتان بمعنى. قاله الكسائي والفراء والقتبي. قال القتبي: قدرنا بمعنى قدرنا مشددة: كما تقول: قدرت كذا وقدرته؛ ومنه قول النبي صلى الله علسه سلم في الهلال: [إذا غم عليكم فاقدروا له] أي قدروا له المسير والمنازل. وقال محمد بن الجهم عن الفراء{فقدرنا} قال: وذكر تشديدها عن علي رضي الله عنه، تخفيفها، قال: ولا يبعد أن يكون المعنى في التشديد والتخفيف واحدا؛ لأن العرب تقول: قدر عليه الموت وقدر: قال الله تعالى{نحن قدرنا بينكم الموت}الواقعة: 60] قرئ بالتخفيف، والتشديد، وقدر عليه رزقه وقدر. قال: واحتج الذين خففوا فقالوا؛ لو كانت كذلك لكانت فنعم المقدرون. قال الفراء: وتجمع العرب بين اللغتين؛ قال الله تعالى{فمهل الكافرين أمهلهم رويدا}الطارق: 17] قال الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
وروي عن عكرمة {فقدرنا} مخففة من القدرة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم والكسائي لقوله{فنعم القادرون} ومن شدد فهو من التقدير، أي فقدرنا الشقي والسعيد فنعم المقدرون. رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المعنى قدرنا قصيرا أو طويلا. ونحوه عن ابن عباس: قدرنا ملكنا. المهدوي: وهذا التفسير أشبه بقراءة التخفيف.
قلت: هو صحيح فإن عكرمة هو الذي قرأ {فقدرنا} مخففا قال: معناه فملكنا فنعم المالكون، فأفادت الكلمتان معنيين متغايرين؛ أي قدرنا وقت الولادة وأحوال النطفة في التنقيل من حالة إلى حالة حتى صارت بشرا سويا، أو الشقي والسعيد، أو الطويل والقصير، كله على قراءة التشديد. وقيل: هما بمعنى كما ذكرنا.
الآية رقم (25 : 28)
{ألم نجعل الأرض كفاتا، أحياء وأمواتا، وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا، ويل يومئذ للمكذبين}
قوله تعالى{ألم نجعل الأرض كفاتا} أي ضامة تضم الأحياء على ظهورها والأموات في بطنها. وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه، ودفن شعره وسائر ما يزيله عنه. وقوله عليه السلام: [قصوا أظافركم وادفنوا قلاماتكم] وقد مضى. يقال: كفت الشيء أكفته: إذا جمعته وضممته، والكفت: الضم والجمع؛ وأنشد سيبويه:
كرام حين تنكفت الأفاعي إلى أجحارهن من الصقيع
وقال أبو عبيد{كفاتا} أوعية. ويقال للنحي: كفت وكفيت، لأنه يحوي اللبن ويضمه قال:
فأنت اليوم فوق الأرض حيا وأنت غدا تضمك في كفات
وخرج الشعبي في جنازة فنظر إلى الجبان فقال: هذه كفات الأموات، ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كفات الأحياء.
روى عن ربيعة في النباش قال تقطع يده فقيل له: لم قلت ذلك؟ قال. إن الله عز وجل يقول{ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا} فالأرض حرز. وقد مضى هذا في سورة المائدة . وكانوا يسمون بقيع الغرقد كفتة، لأنه مقبرة تضم الموتى، فالأرض تضم الأحياء إلى منازلهم والأموات في قبورهم. وأيضا استقرار الناس على وجه الأرض، ثم اضطجاعهم عليها، انضمام منهم إليها. وقيل: هي كفات للأحياء يعني دفن ما يخرج من الإنسان من الفضلات في الأرض؛ إذ لا ضم في كون الناس عليها، والضم يشير إلى الاحتفاف من جميع الوجوه. وقال الأخفش وأبو عبيدة ومجاهد في أحد قوليه: الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض، أي الأرض منقسمة إلى حي وهو الذي ينبت، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت. وقال الفراء: انتصب، {أحياء وأمواتا} بوقوع الكفات عليه؛ أي ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات. فإذا نونت نصبت؛ كقوله تعالى{أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما}البلد: 14]. وقيل: نصب على الحال من الأرض، أي منها كذا ومنها كذا. وقال الأخفش{كفاتا} جمع كافتة والأرض يراد بها الجمع فنعتت بالجمع. وقال الخليل: التكفيت: تقليب الشيء ظهرا لبطن أو بطنا لظهر. ويقال: انكفت القوم إلى منازلهم أي انقلبوا. فمعنى الكفات أنهم يتصرفون على ظهرها وينقلبون إليها ويدفنون فيها. {وجعلنا فيها} أي في الأرض {رواسي شامخات} يعني الجبال، والرواسي الثوابت، والشامخات الطوال؛ ومنه يقال: شمخ بأنفه إذا رفعه كبرا. {وأسقيناكم ماء فراتا} أي وجعلنا لكم سقيا. والفرات: الماء العذب يشرب ويسقى منه الزرع. أي خلقنا الجبال وأنزلنا الماء الفرات. وهذه الأمور أعجب من البعث. وفي بعض الحديث قال أبو هريرة: في الأرض من الجنة الفرات والدجلة ونهر الأردن. وفي صحيح مسلم: سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة.
الآية رقم (29 : 34)
{انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون، انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، إنها ترمي بشرر كالقصر، كأنه جمالة صفر، ويل يومئذ للمكذبين}
قوله تعالى{انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون} أي يقال للكفار سيروا {إلى ما كنتم به تكذبون} من العذاب يعني النار، فقد شاهدتموها عيانا. {انطلقوا إلى ظل} أي دخان {ذي ثلاث شعب} يعني الدخان الذي يرتفع ثم يتشعب إلى ثلاث شعب. وكذلك شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب. ثم وصف الظل فقال{لا ظليل} أي ليس كالظل الذي يقي حر الشمس {ولا يغني من اللهب} أي لا يدفع من لهب جهنم شيئا. واللهب ما يعلو على النار إذ اضطرمت، من أحمر وأصفر وأخضر. وقيل: إن الشعب الثلاث هي الضريع والزقوم والغسلين؛ قاله الضحاك. وقيل: اللهب ثم الشرر ثم الدخان؛ لأنها ثلاثة أحوال، هي غاية أوصاف النار إذا أضطرمت واشتدت. وقيل: عنق يخرج من النار فيتشعب ثلاث شعب. فأما النور فيقف على رؤوس المؤمنين، وأما الدخان فيقف على رؤوس المنافقين، وأما اللهب الصافي فيقف على رؤوس الكافرين. وقيل: هو الرادق، وهو لسان من نار يحيط بهم، ثم يتشعب منه ثلاث شعب، فتظللهم حتى يفرغ من حسابهم إلى النار. وقيل: هو الظل من يحموم؛ كما قال تعالى{في سموم وحميم. وظل من يحموم. لا بارد ولا كريم}الواقعة: 43] على ما تقدم. وفي الحديث: (إن الشمس تدنو من رؤوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس ولا لهم أكفان فتلحقهم الشمس وتأخذ بأنفاسهم ومد ذلك اليوم، ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله فهنالك يقولون{فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم}الطور: 27] ويقال للمكذبين{انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون} من عذاب الله وعقابه {انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب}. فيكون أولياء الله جل ثناؤه في ظل عرشه أو حيث شاء من الظل، إلى أن يفرغ من الحساب ثم يؤمر بكل فريق إلى مستقره من الجنة والنار. ثم وصف النار فقال{إنها ترمي بشرر كالقصر} الشرر: واحدته شررة. والشرار: واحدته شرارة، وهو ما تطاير من النار في كل جهة، وأصله من شررت الثوب إذا بسطته للشمس ليجف. والقصر البناء العالي. وقراءة العامة {كالقصر} بإسكان الصاد: أي الحصون والمدائن في العظم وهو واحد القصور. قاله ابن عباس وابن مسعود. وهو في معنى الجمع على طريق الجنس. وقيل: القصر جمع قصرة ساكنة الصاد، مثل جمرة، وجمر وتمرة وتمر. والقصرة: الواحدة من جزل الحطب الغليظ.
وفي البخاري عن ابن عباس أيضا{ترمى بشرر كالقصر} قال كنا نرفع الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل، فترفعه للشتاء، فنسميه القصر، وقال سعيد بن جبير والضحاك: هي أصول الشجر والنخل العظام إذا وقع وقطع. وقيل: أعناقه. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد والسلمي {كالقصر} بفتح الصاد، أراد أعناق النخل. والقصرة العنق، جمعها قصر وقصرات. وقال قتادة: أعناق الإبل. قرأ سعيد بن جبير بكسر القاف وفتح الصاد، وهي أيضا جمع قصرة مثل بدرة وبدر وقصعة وقصع وحلقة وحلق، لحلق الحديد. وقال أبو حاتم: ولعله لغة، كما قالوا حاجة وحوج. وقيل: القصر: الجبل، فشبه الشرر بالقصر في مقاديره، ثم شبهه في لونه بالجمالات الصفر، وهي الإبل السود؛ والعرب تسمي السود من الإبل صفرا؛ قال الشاعر:
تلك خيلي منه وتلك ركابي هن صفر أولادها كالزبيب
أي هن سود. وإنما سميت السود من الإبل صفرا لأنه يشوب سوادها شيء من صفرة؛ كما قيل لبيض الظباء: الأدم؛ لأن بياضها تعلوه كدرة: والشرر إذا تطاير وسقط وفيه بقية من لون النار أشبه شيء بالإبل السود، لما ينوبها من صفرة. وفي شعر عمران بن حطان الخارجي:
وضعف الترمذي هذا القول فقال: وهذا القول محال في اللغة، أن يكون شيء يشوبه شيء قليل، فنسب كله إلى ذلك الشائب، فالعجب لمن قد قال هذا، وقد قال الله تعالى{جمالات صفر} فلا نعلم شيئا من هذا في اللغة. ووجهه عندنا أن النار خلقت من النور فهي نار مضيئة، فلما خلق الله جهنم وهي موضع النار، حشا ذلك الموضع بتلك النار، وبعث إليها سلطانه وغضبه، فاسودت من سلطانه وازدادت حدة، وصارت أشد سوادا من النار ومن كل شيء سوادا، فإذا كان يوم القيامة وجيء بجهنم في الموقف رمت بشررها على أهل الموقف، غضبا لغضب الله، والشرر هو أسود، لأنه من نار سوداء، فإذا رمت النار بشررها فإنها ترمي الأعداء به، فهن سود من سواد النار، لا يصل ذلك إلى الموحدين؛ لأنهم في سرادق الرحمة قد أحاط بهم في الموقف، وهو الغمام الذي يأتي فيه الرب تبارك وتعالى، ولكن يعاينون ذلك الرمي، فإذا عاينوه نزع الله ذلك السلطان والغضب عنه في رأي العين منهم حتى يروها صفراء؛ ليعلم الموحدون أنهم في رحمة الله لا في سلطانه وغضبه. وكان ابن عباس يقول: الجمالات الصفر: حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال. ذكره البخاري. وكان يقرؤها {جمالات} بضم الجيم، وكذلك قرأ مجاهد وحميد {جمالات} بضم الجيم، وهي الحبال الغلاط، وهي قلوس السفينة أي حبالها. وواحد القلوس: قلس. وعن ابن عباس أيضا على أنها قطع النحاس. والمعروف في الحبل الغليظ جمل بتشديد الميم كما تقدم في الأعراف . و{جمالات} بضم الجيم: جمع جمالة بكسر الجيم موحدا، كأنه جمع جمل، نحو حجر وحجارة، وذكر وذكارة، وقرأ يعقوب وابن أبي إسحاق وعيسى والجحدري {جُمالة} بضم الجيم موحدا وهي الشيء العظيم المجموع بعضه إلى بعض. وقرأ حفص وحمزة والكسائي {جمالة} وبقية السبعة {جمالات} قال الفراء: يجوز أن تكون الجمالات جمع جمال كما يقال: رجل ورجال ورجالات. وقيل: شبهها بالجمالات لسرعة سيرها. وقيل: لمتابعة بعضها بعضا. والقصر: واحد القصور. وقصر الظلام: اختلاطه ويقال: أتيته قصرا أي عشيا، فهو مشترك؛ قال:
كأنهم قصرا مصابيح راهب بموزن روى بالسليط ذبالها
مسألة: في هذه الآية دليل على جواز ادخار الحطب والفحم وإن لم يكن من القوت، فإنه من مصالح المرء ومغاني مفاقره. وذلك مما يقتضي النظر أن يكتسبه في غير وقت حاجته؛ ليكون أرخص وحالة وجوده أمكن، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخر القوت في وقت عموم وجوده من كسبه ومال، وكل شيء محمول عليه. وقد بين ابن عباس هذا بقوله: كنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه وندخره للشتاء وكنا نسميه القصر. وهذا أصح ما قيل في ذلك والله أعلم.
الآية رقم (35 : 37)
{هذا يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون، ويل يومئذ للمكذبين}
قوله تعالى{هذا يوم لا ينطقون} أي لا يتكلمون {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} أي إن يوم القيامة له مواطن ومواقيت، فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها، ولا يؤذن لهم في الاعتذار والتنصل. وعن عكرمة عن ابن عباس قال: سأل ابن الأزرق عن قوله تعالى{هذا يوم لا ينطقون} و{فلا تسمع إلا همسا}طه: 108] وقد قال تعالى{وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون}الصافات: 27] فقال له: إن الله عز وجل يقول{وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون}الحج: 47] فإن لكل مقدار من هذه الأيام لونا من هذه الألوان. وقيل: لا ينطقون بحجة نافعة، ومن نطق بما لا ينفع ولا يفيد فكأنه ما نطق. قال الحسن: لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون. وقيل: إن هذا وقت جوابهم {اخسؤوا فيها ولا تكلمون}المؤمنون: 108] وقد تقدم. وقال أبو عثمان: أسكتتهم رؤية الهيبة وحياء الذنوب. وقال الجنيد: أي عذر لمن أعرض عن منعمه وجحده وكفر أياديه ونعمه؟ و{يوم} بالرفع قراءة العامة على الابتداء والخبر؛ أي تقول الملائكة{هذا يوم لا ينطقون} ويجوز أن يكون قوله{انطلقوا}المرسلات: 29] من قول الملائكة، ثم يقول الله لأوليائه: هذا يوم لا ينطق الكفار. ومعنى اليوم الساعة والوقت. وروى يحيى بن سلطان. عن أبي بكر عن عاصم {هذا يوم لا ينطقون} بالنصب، ورويت عن ابن هرمز وغيره، فجاز أن يكون مبنيا لإضافته إلى الفعل وموضعه رفع. وهذا مذهب الكوفيين. وجاز أن يكون في موضع نصب على أن تكون الإشارة إلى غير اليوم. وهذا مذهب البصريين؛ لأنه إنما بني عندهم إذا أضيف إلى مبني، والفعل ها هنا معرب. وقال الفراء في قوله تعالى{ولا يؤذن لهم فيعتذرون} الفاء نسق أي عطف على {يؤذن} وأجيز ذلك؛ لأن أواخر الكلام بالنون. ولو قال: فيعتذروا لم يوافق الآيات. وقد قال{لا يقضى عليهم فيموتوا}فاطر: 36] بالنصب وكله صواب؛ ومثله{من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه}البقرة: 245] بالنصب والرفع.
الآية رقم (38 : 40)
{هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين، فإن كان لكم كيد فكيدون، ويل يومئذ للمكذبين}
قوله تعالى{هذا يوم الفصل} أي ويقال لهم هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق؛ فيتبين المحق من المبطل. {جمعناكم والأولين} قال ابن عباس: جمع الذين كذبوا محمدا والذين كذبوا النبيين من قبله. رواه عنه الضحاك. {فإن كان لكم كيد} أي حيلة في الخلاص من الهلاك {فكيدوني} أي فاحتالوا لأنفسكم وقاووني ولن تجدوا ذلك. وقيل: أي {فإن كان لكم كيد} أي قدرتم على حرب {فكيدوني} أي حاربوني. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. قال: يريد كنتم في الدنيا تحاربون محمدا صلى الله عليه وسلم وتحاربونني فاليوم حاربوني. وقيل: أي إنكم كنتم في الدنيا تعملون بالمعاصي وقد عجزتم الآن عنها وعن الدفع عن أنفسكم. وقيل: إنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون كقول هود{فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون}هود: 55].
">الآية رقم (41 : 45)">
الآية رقم (41 : 45)
{إن المتقين في ظلال وعيون، وفواكه مما يشتهون، كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون، إنا كذلك نجزي المحسنين، ويل يومئذ للمكذبين}
قوله تعالى{إن المتقين في ظلال وعيون} أخبر بما يصير إليه المتقون غدا، والمراد بالظلال ظلال الأشجار وظلال القصور مكان الظل في الشعب الثلاث. وفي سورة يس {هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون}يس: 56]. {وفواكه مما يشتهون} أي يتمنون. وقراءة العامة {ظلال}. وقرأ الأعرج والزهري وطلحة {ظلل} جمع ظلة يعني في الجنة. {كلوا واشربوا} أي يقال لهم غدا هذا بدل ما يقال للمشركين {فإن كان لكم كيد فكيدون}. فـ {كلوا وأشربوا} في موضع الحال من ضمير {المتقين} في الظرف الذي هو {في ظلال} أي هم مستقرون {في ظلال} مقولا لهم ذلك. {إنا كذلك نجزي المحسنين} أي نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأعمالهم في الدنيا.
قوله تعالى{كلوا وتمتعوا قليلا} هذا مردود إلى ما تقدم قبل المتقين، وهو وعيد وتهديد وهو حال من {المكذبين} أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم{كلوا وتمتعوا قليلا}. {إنكم مجرمون} أي كافرون. وقيل: مكتسبون فعلا يضركم في الآخرة، من الشرك والمعاصي.
الآية رقم (48 : 50)
{وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، ويل يومئذ للمكذبين، فبأي حديث بعده يؤمنون}
قوله تعالى{وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} أي إذا قيل لهؤلاء المشركين{اركعوا} أي صلوا {لا يركعون} أي لا يصلون؛ قال مجاهد. وقال مقاتل: نزلت في ثقيف، امتنعوا من الصلاة فنزل ذلك فيهم. قال مقاتل: قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلموا) وأمرهم بالصلاة فقالوا: لا ننحني فإنها مسبة علينا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود). يذكر أن مالكا رحمه الله دخل المسجد بعد صلاة العصر، وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر، فجلس ولم يركع، فقال له صبي: يا شيخ قم فاركع. فقام فركع ولم يحاجه بما يراه مذهبا، فقيل له في ذلك، فقال: خشيت أن أكون من الذين {إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون}. وقال ابن عباس: إنما يقال لهم هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. قتادة: هذا في الدنيا. ابن العربي: هذه الآية حجة على وجوب الركوع وإنزاله ركنا في الصلاة وقد أنعقد الإجماع عليه، وظن قوم أن هذا إنما يكون في القيامة وليست بدار تكليف فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب، وإنما يدعون إلى السجود كشفا لحال الناس في الدنيا، فمن كان لله يسجد يمكن من السجود، ومن كان يسجد رثاء لغيره صار ظهره طبقا واحدا. وقيل: أي إذا قيل لهم اخضعوا للحق لا يخضعون، فهو عام في الصلاة وغيرها وإنما ذكر الصلاة، لأنها أصل الشرائع بعد التوحيد. وقيل: الأمر بالإيمان لأنها لا تصح من غير إيمان.
قوله تعالى{فبأي حديث بعده يؤمنون} أي إن لم يصدقوا بالقرآن الذي هو المعجز والدلالة على صدق الرسول عليه السلام، فبأي شيء يصدقون! وكرر{ويل يومئذ للمكذبين} لمعنى تكرير التخويف والوعيد. وقيل: ليس بتكرار، لأنه أراد بكل قول منه غير الذي أراد بالآخر؛ كأنه ذكر شيئا فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئا آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئا آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا. ثم كذلك إلى آخرها. ختمت السورة ولله الحمد.
{عم يتساءلون، عن النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون، كلا سيعلمون، ثم كلا سيعلمون}
قوله تعالى{عم} لفظ استفهام؛ ولذلك سقطت منها ألف {ما}، ليتميز الخبر عن الاستفهام. وكذلك فيم، ومم إذا استفهمت. والمعنى عن أي شيء يسأل بعضهم بعضا. وقال الزجاج: أصل {عم} عن ما فأدغمت النون في الميم، لأنها تشاركها في الغنة. والضمير في {يتساءلون} لقريش. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت {عم يتساءلون}؟ وقيل{عم} بمعنى: فيم يتشدد المشركون ويختصمون.
قوله تعالى{عن النبأ العظيم} أي يتساءلون {عن النبأ العظيم} فعن ليس تتعلق بـ {يتساءلون} الذي في التلاوة؛ لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام فيكون {عن النبأ العظيم} كقولك: كم مالك أثلاثون أم أربعون؟ فوجب لما ذكرناه من امتناع تعلقه {بيتساءلون} الذي في التلاوة، وإنما يتعلق بيتساءلون آخر مضمر. وحسن ذلك لتقدم يتساءلون؛ قال المهدوي. وذكر بعض أهل العلم أن الاستفهام في قوله{عن} مكرر إلا أنه مضمر، كأنه قال عم يتساءلون أعن النبأ العظيم؟ فعلى هذا يكون متصلا بالآية الأولى. و {النبأ العظيم} أي الخبر الكبير.
قوله تعالى{الذي هم فيه مختلفون} أي يخالف فيه بعضهم بعضا، فيصدق واحد ويكذب آخر؛ فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو القرآن؛ دليله قوله{قل هو نبأ عظيم. أنتم عنه معرضون} فالقرآن نبأ وخبر وقصص، وهو نبأ عظيم الشأن.
وروى سعيد عن قتادة قال: هو البعث بعد الموت صار الناس فيه رجلين: مصدق ومكذب. وقيل: أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وروي الضحاك عن ابن عباس قال: وذلك أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة، فأخبره الله جل ثناؤه باختلافهم، ثم هددهم فقال{كلا سيعلمون} أي سيعلمون عاقبة القرآن، أو سيعلمون البعث: أحق هو أم باطل. و {كلا} رد عليهم في إنكارهم البعث أو تكذيبهم القرآن، فيوقف عليها. ويجوز أن يكون بمعنى حقا أو {ألا} فيبدأ بها. والأظهر أن سؤالهم إنما كان عن البعث؛ قال بعض علمائنا: والذي يدل عليه قوله عز وجل{إن يوم الفصل كان ميقاتا}النبأ: 17] يدل على أنهم كانوا يتساءلون عن البعث. {ثم كلا سيعلمون} أي حقا ليعلمن صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن ومما ذكره لهم من البعث بعد الموت. وقال الضحاك{كلا سيعلمون} يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم. {ثم كلا سيعلمون} يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم. وقيل: بالعكس أيضا. وقال الحسن: هو وعيد بعد وعيد. وقراءة العامة فيهما بالياء على الخبر؛ لقوله تعالى{يتساءلون} وقوله{هم فيه مختلفون}. وقرأ الحسن وأبو العالية ومالك بن دينار بالتاء فيهما.
الآية رقم (6 : 16)
{ألم نجعل الأرض مهادا، والجبال أوتادا، وخلقناكم أزواجا، وجعلنا نومكم سباتا، وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا، وبنينا فوقكم سبعا شدادا، وجعلنا سراجا وهاجا، وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا، لنخرج به حبا ونباتا، وجنات ألفافا}
قوله تعالى{ألم نجعل الأرض مهادا} دلهم على قدرته على البعث؛ أي قدرتنا على إيجاد هذه الأمور أعظم من قدرتنا على الإعادة. والمهاد: الوطاء والفراش. وقد قال تعالى{الذي جعل لكم الأرض فراشا}البقرة: 22] وقرئ {مهدا}. ومعناه أنها لهم كالمهد للصبي وهو ما يمهد له فينوم عليه {والجبال أوتادا} أي لتسكن ولا تتكفأ ولا تميل بأهلها. {وخلقناكم أزواجا} أي أصنافا: ذكرا وأنثى. وقيل: ألوانا. وقيل: يدخل في هذا كل زوج من قبيح وحسن، وطويل وقصير؛ لتختلف الأحوال فيقع الاعتبار، فيشكر الفاضل ويصبر المفضول. {وجعلنا نومكم سباتا} {جعلنا} معناه صيرنا؛ ولذلك تعدت إلى مفعولين. {سباتا} المفعول الثاني، أي راحة لأبدانكم، ومنه يوم السبت أي يوم الراحة؛ أي قيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، فلا تعملوا فيه شيئا. وأنكر ابن الأنباري هذا وقال: لا يقال للراحة سبات. وقيل: أصله التمدد؛ يقال: سبتت المرأة شعرها: إذا حلته وأرسلته، فالسبات كالمد، ورجل مسبوت الخلق: أي ممدود. وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدد، فسميت الراحة سبتا. وقيل: أصله القطع؛ يقال: سبت شعره سبتا: حلقه؛ وكأنه إذا نام انقطع عن الناس وعن الاشتغال، فالسبات يشبه الموت، إلا أنه لم تفارقه الروح. ويقال: سير سبت: أي سهل لين؛ قال الشاعر:
ومطوية الأقراب أما نهارها فسبت وأما ليلها فذميل
{وجعلنا الليل لباسا} أي تلبسكم ظلمته وتغشاكم؛ قال الطبري. وقال ابن جبير والسدي: أي سكنا لكم. {وجعلنا النهار معاشا} فيه إضمار، أي وقت معاش، أي متصرفا لطلب المعاش وهو كل ما معاش به من المطعم والمشرب وغير ذلك فـ {معاشا} على هذا اسم زمان، ليكون الثاني هو الأول. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى العيش على تقدير حذف المضاف. {وبنينا فوقكم سبعا شدادا} أي سبع سموات محكمات؛ أي محكمة الخلق وثيقة البنيان. {وجعلنا سراجا وهاجا} أي وقادا وهي الشمس. وجعل هنا بمعنى خلق؛ لأنها تعدت لمفعول واحد والوهاج الذي له وهج؛ يقال: وهج يهج وهجا ووهجا ووهجانا. ويقال للجوهر إذا تلألأ توهج. وقال ابن عباس: وهاجا منيرا متلألئا. {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا} قال مجاهد وقتادة: والمعصرات الرياح. وقاله ابن عباس: كأنها تعصر السحاب. وعن ابن عباس أيضا: أنها السحاب. وقال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك: أي السحائب التي تنعصر بالماء ولما تمطر بعد، كالمرأة المعصر التي قددنا حيضها ولم تحض، قال أبو النجم:
تمشي الهوينى مائلا خمارها قد أعصرت أوقد دنا إعصارها
فالرياح تسمى معصرات؛ يقال: أعصرت الريح تعصر إعصارا: إذا أثارت العجاج، وهي الإعصار، والسحب أيضا تسمى المعصرات لأنها تمطر. وقال قتادة أيضا: المعصرات السماء، النحاس: هذه الأقوال صحاح؛ يقال للرياح التي تأتي بالمطر معصرات، والرياح تلقح السحاب، فيكون المطر، والمطر ينزل من الريح على هذا. ويجوز أن تكون الأقوال واحدة، ويكون المعنى وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات {ماء ثجاجا} وأصح الأقوال أن المعصرات؛ السحاب. كذا المعروف أن الغيث منها، ولو كان بالمعصرات لكان الريح أولى. وفي الصحاح: والمعصرات السحائب تعتصر بالمطر. وأعصر القوم أي أمطروا؛ ومنه قرأ بعضهم {وفيه يعصرون} والمعصر: الجارية أول ما أدركت وحاضت؛ يقال: قد أعصرت كأنها دخلت عصر شبابها أو بلغته؛ قال الراجز:
جارية بسفوان دارها تمشي الهوينى ساقطا خمارها
قد أعصرت أو قد دنا إعصارها
والجمع: معاصر، ويقال: هي التي قاربت الحيض؛ لأن الإعصار في الجارية كالمراهقة في الغلام. سمعته من أبي الغوث الأعرابي. قال غيره: والمعصر السحابة التي حان لها أن تمطر؛ يقال أجن الزرع فهو مجن: أي صار إلى أن يجن، وكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر. وقال المبرد: يقال سحاب معصر أي ممسك للماء، ويعتصر منه شيء بعد شيء، ومنه العصر بالتحريك للملجأ الذي يلجأ إليه، والعصرة بالضم أيضا الملجأ. وقد مضى هذا المعنى في سورة يوسف والحمد لله. وقال أبو زبيد:
صاديا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصرة المنجود
ومنه المعصر للجارية التي قد قربت من البلوغ يقال لها معصر؛ لأنها تحبس في البيت، فيكون البيت لها عصرا. وفي قراءة ابن عباس وعكرمة {وأنزلنا بالمعصرات}. والذي في المصاحف {من المعصرات} قال أبي بن كعب والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان{من المعصرات} أي من السموات. {ماء ثجاجا} صبابا متتابعا؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. يقال: ثججت دمه فأنا أثجه ثجا، وقد ثج الدم يثج ثجوجا، وكذلك الماء، فهو لازم ومتعد. والثجاج في الآية المنصب. وقال الزجاج: أي الضباب، وهو متعد كأنه يثج: نفسه أي يصب. وقال عبيد بن الأبرص:
فثج أعلاه ثم ارتج أسفله وضاق ذرعا بحمل الماء منصاح
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الحج المبرور فقال: [العج والثج] فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة الدماء وذبح الهدايا. وقال ابن زيد: ثجاجا كثيرا. والمعنى واحد.
قوله تعالى{لنخرج به} أي بذلك الماء {حبا} كالحنطة والشعير وغير ذلك
{ونباتا} من الأب، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش. {وجنات} أي بساتين
{ألفاقا} أي ملتفة بعضها ببعض لتشعب أغصانها، ولا واحد له كالأوزاع والأخياف. وقيل: واحد الألفاف لف بالكسر ولف بالضم. ذكره الكسائي، قال:
جنة لُفٌّ وعيشٌ مغدِق وندامى كلهم بيض زُهُرْ
وعنه أيضا وأبي عبيدة: لفيف كشريف وأشراف. وقيل: هو جمع الجمع. حكاه الكسائي. يقال: جنة لفاء ونبت لف والجمع لف بضم اللام مثل حمر، ثم يجمع اللف ألفافا. الزمخشري : ولو قيل جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان وجيها. ويقال: شجرة لفاء وشجر لف وامرأة لفاء: أي غليظة الساق مجتمعة اللحم. وقيل: التقدير: ونخرج به جنات ألفافا، فحذف لدلالة الكلام عليه. ثم هذا الالتفاف والانضمام معناه أن الأشجار في البساتين تكون متقاربة، فالأغصان من كل شجرة متقاربة لقوتها.
الآية رقم (17 : 20)
{إن يوم الفصل كان ميقاتا، يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا، وفتحت السماء فكانت أبوابا، وسيرت الجبال فكانت سرابا}
قوله تعالى{إن يوم الفصل كان ميقاتا} أي وقتا ومجمعا وميعادا للأولين والآخرين، لما وعد الله من الجزاء والثواب. وسمي يوم الفصل لأن الله تعالى يفصل فيه بين خلقه. {يوم ينفخ في الصور} أي للبعث {فتأتون} أي إلى موضع العرض.
{أفواجا} أي أمما، كل أمة مع إمامهم. وقيل: زمرا وجماعات. الواحد: فوج. ونصب يوما بدلا من اليوم الأول. وروي من حديث معاذ بن جبل قلت: يا رسول الله! أرأيت قول الله تعالى{يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ بن جبل لقد سألت عن أمر عظيم) ثم أرسل عينيه باكيا، ثم قال: (يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتا قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين، وبدل صورهم، فمنهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون: أرجلهم أعلاهم، ووجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمي يتردون، وبعضهم صم بكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم، فهي مدلاة على صدورهم، يسيل القيح من أفواههم لعابا، يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من النار، وبعضهم أشد نتنا من الجيف، وبعضهم ملبسون جلابيب سابغة من القطران لاصقة بجلودهم؛ فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس - يعني النمام - وأما الذين على صورة الخنازير، فأهل السحت والحرام والمكس. وأما المنكسون رؤوسهم ووجوههم، فأكلة الربا، والعمي: من يجور في الحكم، والصم البكم: الذين يعجبون بأعمالهم. والذين يمضغون ألسنتهم: فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم. والمقطعة أيديهم وأرجلهم: فالذين يؤذون الجيران. والمصلبون على جذوع النار: فالسعاة بالناس إلى السلطان والذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات، ويمنعون حق الله من أموالهم. والذين يلبسون الجلابيب: فأهل الكبر والفخر والخيلاء).
قوله تعالى{وفتحت السماء فكانت أبوابا} أي لنزول الملائكة؛ كما قال تعالى{ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا}الفرقان: 25]. وقيل: تقطعت، فكانت قطعا كالأبواب فانتصاب الأبواب على هذا التأويل بحذف الكاف. وقيل: التقدير فكانت ذات أبواب؛ لأنها تصير كلها أبوابا. وقيل: أبوابها طرقها. وقيل: تنحل وتتناثر، حتى تصير فيها أبواب. وقيل: إن لكل عبد بابين في السماء: بابا لعمله، وبابا لرزقه، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب. وفي حديث الإسراء: (ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا). {وسيرت الجبال فكانت سرابا} أي لا شيء كما أن السراب كذلك: يظنه الرائي ماء وليس بماء.
وقيل{سيرت} نسفت من أصولها. وقيل: أزيلت عن مواضعها.
الآية رقم (21 : 30)
{إن جهنم كانت مرصادا، للطاغين مآبا، لابثين فيها أحقابا، لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا، إلا حميما وغساقا، جزاء وفاقا، إنهم كانوا لا يرجون حسابا، وكذبوا بآياتنا كذابا، وكل شيء أحصيناه كتابا، فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا}
قوله تعالى{إن جهنم كانت مرصادا} مفعال من الرصد والرصد: كل شيء كان أمامك. قال الحسن: إن على النار رصدا، لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه، فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجيء بجواز حبس. وعن سفيان رضي الله عنه قال: عليها ثلاث قناطر. وقيل {مرصادا} ذات أرصاد على النسب؛ أي ترصد من يمر بها. وقال مقاتل: محبسا. وقيل: طريقا وممرا، فلا سبيل إلى الجنة حتى يقطع جهنم.
وفي الصحاح: والمرصاد: الطريق. وذكر القشيري: أن المرصاد المكان الذي يرصد فيه الواحد العدو، نحو المضمار: الموضع الذي تضمر فيه الخيل. أي هي معدة لهم؛ فالمرصاد بمعنى المحل؛ فالملائكة يرصدون الكفار حتى ينزلوا بجهنم. وذكر الماوردي عن أبي سنان أنها بمعنى راصدة، تجازيهم بأفعالهم. وفي الصحاح: الراصد الشيء: الراقب له؛ تقول: رصده يرصده رصدا ورصدا، والترصد: الترقب. والمرصد: موضع الرصد. الأصمعي: رصدته أرصده: ترقبته، وأرصدته: أعددت له. والكسائي: مثله.
قلت: فجهنم معدة مترصدة، متفعل من الرصد وهو الترقب؛ أي هي متطلعة لمن يأتي. والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمغيار، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار.
{للطاغين مآبا} بدل من قوله{مرصادا} والمآب: المرجع، أي مرجعا يرجعون إليها؛ يقال: آب يؤوب أوبة: إذا رجع. وقال قتادة: مأوى ومنزلا. والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر، أو في دنياه بالظلم.
قوله تعالى{لابثين فيها أحقابا} أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكلما مضى حقب جاء حقب. والحقب بضمتين: الدهر والأحقاب الدهور. والحقبة بالكسر: السنة؛ والجمع حقب؛ قال متمم بن نويرة التميمي:
وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
والحقب بالضم والسكون: ثمانون سنة. وقيل: أكثر من ذلك وأقل، على ما يأتي، والجمع: أحقاب. والمعنى في الآية؛ [لابثين] فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها؛ فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه؛ إذ في الكلام ذكر الآخرة وهو كما يقال أيام الآخرة؛ أي أيام بعد أيام إلى غير نهاية، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب. ونحوه وذكر الأحقاب لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم، فتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونها، وهي كناية عن التأبيد، أي يمكثون فيها أبدا. وقيل: ذكر الأحقاب دون الأيام؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود. والمعنى متقارب؛ وهذا الخلود في حق المشركين. ويمكن حمل الآية على العصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب. وقيل: الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العقاب؛ ولهذا قال{لابثين فيها أحقابا. لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا. إلا حميما وغساقا}. و{لابثين} اسم فاعل من لبث، ويقويه أن المصدر منه اللبث بالإسكان، كالشرب. وقرأ حمزة والكسائي {لبثين} بغير ألف وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، وهما لغتان؛ يقال: رجل لابث ولبث، مثل طمع وطامع، وفره وفاره. ويقال: هو لبث بمكان كذا: أي قد صار اللبث شأنه، فشبه بما هو خلقة في الإنسان نحو حذر وفرق؛ لأن باب فعل إنما هو لما يكون خلقة في الشيء في الأغلب، وليس كذلك اسم الفاعل من لابث.
والحقب: ثمانون سنة في قول ابن عمر وابن محيصن وأبي هريرة، والسنة ثلثمائة يوم وستون يوما، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا، قاله ابن عباس. وروي ابن عمر هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو هريرة: والسنة ثلثمائة يوم وستون يوما كل يوم مثل أيام الدنيا. وعن ابن عمر أيضا: الحقب: أربعون سنة. السدي: سبعون سنة. وقيل: إنه ألف شهر. رواه أبو أمامة مرفوعا. بشير بن كعب: ثلاثمائة سنة. الحسن: الأحقاب لا يدري أحدكم هي، ولكن ذكروا أنها مائة حقب، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما تعدون. وعن أبي أمامة أيضا، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الحُقُب الواحد ثلاثون ألف سنة) ذكره المهدوي. والأول الماوردي. وقال قطرب: هو الدهر الطويل غير المحدود.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكون فيها أحقابا، الحقب بضع وثمانون سنة، والسنة ثلثمائة وستون يوما، كل يوم ألف سنة مما تعدون؛ فلا يتكلن أحدكم على أن يخرج من النار). ذكره الثعلبي. القُرظي: الأحقاب: ثلاثة وأربعون، حقبا كل حقب سبعون خريفا، كل خريف سبعمائة سنة، كل سنة ثلثمائة وستون يوما، كل يوم ألف سنة.
قلت: هذه أقوال متعارضة، والتحديد في الآية للخلود، يحتاج إلى توقيف يقطع العذر، وليس ذلك بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما المعنى - والله أعلم - ما ذكرناه أولا؛ أي لابثين فيها أزمانا ودهورا، كلما مضى زمن يعقبه زمن، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبد الآبدين من غير انقطاع. وقال ابن كيسان: معنى {لابثين فيها أحقابا} لا غاية لها انتهاء، فكأنه قال أبدا. وقال ابن زيد ومقاتل: إنها منسوخة بقوله تعالى{فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا} يعني أن العدد قد انقطع، والخلود قد حصل.
قلت: وهذا بعيد؛ لأنه خبر، وقد قال تعالى{ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط}الأعراف: 40] على ما تقدم. هذا في حق الكفار، فأما العصاة الموحدون فصحيح ويكون النسخ بمعنى التخصيص. والله أعلم. وقيل: المعنى {لابثين فيها أحقابا} أي في الأرض؛ إذ قد تقدم ذكرها ويكون الضمير في {لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا} لجهنم. وقيل: واحد الأحقاب حقب وحقبة؛ قال:
فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها فأنت بما أحدثته بالمجرب
وقال الكميت:
مر لها بعد حقبة حقب
قوله تعالى{لا يذوقون فيها} أي في الأحقاب {بردا ولا شرابا} البرد: النوم في قول أبي عبيدة وغيره؛ قال الشاعر:
ولو شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نُقاخا ولا بردا
وقاله مجاهد والسدي والكسائي والفضل بن خالد وأبو معاذ النحوي؛ وأنشدوا قول الكندي:
بردت مراشفها علي فصدني عنها وعن تقبيلها البرد
يعني النوم. والعرب تقول: منع البرد البرد، يعني: أذهب البرد النوم.
قلت: وقد جاء الحديث أنه عليه الصلاة والسلام سئل هل في الجنة نوم. فقال: (لا؛ النوم أخو الموت، والجنة لا موت فيها) فكذلك النار؛ وقد قال تعالى{لا يقضى عليهم فيموتوا}فاطر: 36] وقال ابن عباس: البرد: برد الشراب. وعنه أيضا: البرد النوم: والشراب الماء. وقال الزجاج: أي لا يذوقون فيها برد ريح، ولا ظل، ولا نوم. فجعل البرد برد كل شيء له راحة، وهذا برد ينفعهم، فأما الزمهرير فهو برد يتأذون به، فلا ينفعهم، فلهم منه من العذاب ما الله أعلم به. وقال الحسن وعطاء وابن زيد: بردا: أي روحا وراحة؛ قال الشاعر:
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء أوقات العشي تذوق
قوله تعالى{لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا} جملة في موضع الحال من الطاغين، أو نعت للأحقاب؛ فالأحقاب ظرف زمان، والعامل فيه {لابثين} أو {لبثين} على تعدية فعل. {إلا حميما وغساقا} استثناء منقطع في قول من جعل البرد النوم، ومن جعله من البرودة كان بدلا منه. والحميم: الماء الحار؛ قاله أبو عبيدة. وقال ابن زيد: الحميم: دموع أعينهم، تجمع في حياض ثم يسقونه. قال النحاس: أصل الحميم: الماء الحار، ومنه اشتق الحمام، ومنه الحمى، ومنه {وظل من يحموم}: إنما يراد به النهاية في الحر. والغساق: صديد أهل النار وقيحهم. وقيل الزمهرير. وقرأ حمزة والكسائي بتشديد السين، وقد مضى في ص القول فيه. {جزاء وفاقا} أي موافقا لأعمالهم. عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما؛ فالوفاق بمعنى الموافقة كالقتال بمعنى المقاتلة. و{جزاء} نصب على المصدر، أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم؛ قال الفراء والأخفش. وقال الفراء أيضا: هو جمع الوفق، والوفق واللفق واحد. وقال مقاتل. وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار. وقال الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة، فأتاهم الله بما يسوءهم. {إنهم كانوا لا يرجون} أي لا يخافون {حسابا} أي محاسبة على أعمالهم. وقيل: معناه لا يرجون ثواب حساب. الزجاج: أي إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فيرجون حسابهم. {وكذبوا بآياتنا كذابا} أي بما جاءت به الأنبياء. وقيل: بما أنزلنا من الكتب. وقراءة العامة {كذابا} بتشديد الذال، وكسر الكاف، على كذب، أي كذبوا تكذيبا كبيرا. قال الفراء: هي لغة يمانية فسيحة؛ يقولون: كذبت [به] كذابا، وخرقت القميص خراقا؛ وكل فعل في وزن فعل فمصدره فعال مشدد في لغتهم؛ وأنشد بعض الكلابيين:
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي وعن حوج قضاؤها من شفائنا
وقرأ علي رضي الله عنه {كذابا} بالتخفيف وهو مصدر أيضا. وقال أبو علي: التخفيف والتشديد جميعا: مصدر المكاذبة، كقول الأعشى:
فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه
أبو الفتح: جاءا جميعا مصدر كذب وكذب جميعا. الزمخشري{كذابا} بالتخفيف مصدر كذب؛ بدليل قوله:
فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه
وهو مثل قوله{أنبتكم من الأرض نباتا}نوح: 17] يعني وكذبوا بآياتنا أفكذبوا كذابا. أو تنصبه بـ {كذبوا}. لأنه يتضمن معنى كذبوا؛ لأن كل مكذب بالحق كاذب؛ لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين، فبينهم مكاذبة. وقرأ ابن عمر {كذابا} بضم الكاف والتشديد، جمع كاذب؛ قاله أبو حاتم. ونصبه على الحال الزمخشري. وقد يكون الكذاب: بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال: رجل كذاب، كقولك حسان وبخال، فيجعله صفة لمصدر {كذبوا} أي تكذيبا كذابا مفرطا كذبه. وفي الصحاح: وقوله تعالى{وكذبوا بآياتنا كذابا} وهو أحد مصادر المشدد؛ لأن مصدره قد يجيء على تفعيل مثل التكليم وعلى فعال كذاب وعلى تفعلة مثل توصية، وعلى مفعل؛ {ومزقناهم كل ممزق}. {وكل شيء أحصيناه كتابا} {كل} نصب بإضمار فعل يدل عليه {أحصيناه} أي وأحصينا كل شيء أحصيناه. وقرأ أبو السمال {وكل شيء} بالرفع على الابتداء.
{كتابا} نصب على المصدر؛ لأن معنى أحصينا: كتبنا، أي كتبناه كتابا. ثم قيل: أراد به العلم، فإن ما كتب كان أبعد من النسيان. وقيل: أي كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة. وقيل: أراد ما كتب على العباد من أعمالهم. فهذه كتابة صدرت عن الملائكة الموكلين بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة؛ دليله قوله تعالى{وإن عليكم لحافظين. كراما كاتبين}الانفطار: 10]. {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا} قال أبو برزة: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن؟ فقال: قوله تعالى{فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا} أي {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها}النساء: 56] و{كلما خبت زدناهم سعيرا}الإسراء: 97].
الآية رقم (31 : 36)
{إن للمتقين مفازا، حدائق وأعنابا، وكواعب أترابا، وكأسا دهاقا، لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا، جزاء من ربك عطاء حسابا}
قوله تعالى{إن للمتقين مفازا} ذكر جزاء من اتقى مخالفة أمر الله {مفازا} موضع فوز ونجاة وخلاص مما فيه أهل النار. ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها: مفازة، تفاؤلا بالخلاص منها. {حدائق وأعنابا} هذا تفسير الفوز. وقيل{إن للمتقين مفازا} إن للمتقين حدائق؛ جمع حديقة، وهي البستان المحوط عليه؛ يقال أحدق به: أي أحاط. والأعناب: جمع عنب، أي كروم أعناب، فحذف. {وكواعب أترابا} كواعب: جمع كاعب وهي الناهد؛ يقال: كَعَبت الجارية تكعَب كُعوبا، وكعَّبت تُكَعِّب تكعيبا، ونهدت تنهد نهودا. وقال الضحاك: ككواعب العذارى؛ ومنه قول قيس بن عاصم:
وكم من حصان قد حوينا كريمة ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر
والأتراب: الأقران في السن. وقد مضى في سورة الواقعة الواحد: ترب. {وكأسا دهاقا{ قال الحسن وقتادة وابن زيد وابن عباس: مترعة مملوءة؛ يقال: أدهقت الكأس: أي ملأتها، وكأس دهاق أي ممتلئة؛ قال:
ألا فاسقني صِرفا سقاني الساقي من مائها بكأسك الدهاق
وقال خداش بن زهير:
أتانا عامر يبغي قِرانا فأترعنا له كأسا دهاقا
وقال سعد بن جبير وعكرمة ومجاهد وابن عباس أيضا: متتابعة، يتبع بعضها بعضا؛ ومنه ادهقت الحجارة أدهاقا، وهو شدة تلازمها ودخول بعضها في بعض؛ فالمتتابع كالمتداخل. وعن عكرمة أيضا وزيد بن أسلم: صافية؛ قال الشاعر:
لأنت إلى الفؤاد أحب قربا من الصادي إلى كأس دهاق
وهو جمع دهق، وهو خشبتان [يغمز] بهما [الساق]. والمراد بالكأس الخمر، فالتقدير: خمرا ذات دهاق، أي عصرت وصفيت؛ قاله القشيري. وفي الصحاح: وأدهقت الماء: أي أفرغته إفراغا شديدا: قال أبو عمرو: والدهق - بالتحريك: ضرب من العذاب. وهو بالفارسية دأشكنجه. المبرد: والمدهوق: المعذب بجميع العذاب الذي لا فرجة فيه. ابن الأعرابي: دهقت الشيء كسرته وقطعته، وكذلك دهدقته: وأنشد لحجر بن خالد:
ودهمقته بزيادة الميم: مثله. وقال الأصمعي: الدهمقة: لين الطعام وطيبه ورقته، وكذلك كل شيء لين؛ ومنه حديث عمر: لو شئت أن يدهمق لي لفعلت، ولكن الله عاب قوما فقال{أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها}الأحقاف: 20].
قوله تعالى{لا يسمعون فيها} أي في الجنة {لغوا ولا كذابا} اللغو: الباطل، وهو ما يلغى من الكلام ويطرح؛ ومنه الحديث: (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت) وذلك أن أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم، ولم يتكلموا بلغو؛ بخلاف أهل الدنيا. {ولا كذابا} تقدم، أي لا يكذب بعضهم بعضا، ولا يسمعون كذبا. وقرأ الكسائي {كذابا} بالتخفيف من كذبت كذابا أي لا يتكاذبون في الجنة. وقيل: هما مصدران للتكذيب، وإنما خففها ها هنا لأنها ليست مقيدة بفعل يصير مصدرا له، وشدد قوله{وكذبوا بآياتنا كذابا} لأن كذبوا يقيد المصدر بالكذاب. {جزاء من ربك} نصب على المصدر. لأن المعنى جزاهم بما تقدم ذكره، جزاءه وكذلك {عطاء} لأن معنى أعطاهم وجزاهم واحد. أي أعطاهم عطاء. {حسابا} أي كثيرا، قاله قتادة؛ يقال: أحسبت فلانا: أي كثرت له العطاء حتى قاله حسبي. قال:
ونقفي وليد الحي إن كان جائعا ونحسبه إن كان ليس بجائع
وقال القتبي: ونرى أصل هذا أن يعطيه حتى يقول حسبي. وقال الزجاج{حسابا} أي ما يكفيهم. وقاله الأخفش. يقال: أحسبني كذا: أي كفاني. وقال الكلبي: حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشرا. مجاهد: حسابا لما عملوا، فالحساب بمعنى العد. أي بقدر ما وجب له في وعد الرب، فإنه وعد للحسنة عشرا، ووعد لقوم بسبعمائة ضعف، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدارا؛ كما قال تعالى{إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}الزمر: 10]. وقرأ أبو هاشم {عطاء حسابا} بفتح الحاء، وتشديد السين، على وزن فعال أي كفافا؛ قال الأصمعي: تقول العرب: حسبت الرجل بالتشديد: إذا أكرمته؛ وأنشد قول الشاعر:
إذا أتاه ضيفه يحسِّبه
وقرأ ابن عباس. {حسانا} بالنون.
الآية رقم (37 : 40)
{رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا، يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا، إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا}
قوله تعالى{رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن} قرأ ابن مسعود ونافع وأبو عمرو وابن كثير وزيد عن يعقوب، والمفضل عن عاصم{رب} بالرفع على الاستئناف، {الرحمن} خبره. أو بمعنى: هو رب السموات، ويكون {الرحمن} مبتدأ ثانيا. وقرأ ابن عامر ويعقوب وابن محيصن كلاهما بالخفض، نعتا لقوله{جزاء من ربك} أي جزاء من ربك رب السموات الرحمن. وقرأ ابن عباس وعاصم وحمزة والكسائي{رب السموات} خفضا على النعت، {الرحمن} رفعا على الابتداء، أي هو الرحمن. واختاره أبو عبيد وقال: هذا أعدلها؛ خفض {رب} لقربه من قوله{من ربك} فيكون نعتا له، ورفع {الرحمن} لبعده منه، على الاستئناف، وخبره {لا يملكون منه خطابا} أي لا يملكون أن يسألوه إلا فيما أذن لهم فيه. وقال الكسائي{لا يملكون منه خطابا} بالشفاعة إلا بإذنه. وقيل: الخطاب: الكلام؛ أي لا يملكون أن يخاطبوا الرب سبحانه إلا بإذنه؛ دليله{لا تكلم نفس إلا بإذنه}هود: 105].
وقيل: أراد الكفار {لا يملكون منه خطابا}، فأما المؤمنون فيشفعون. قلت: بعد أن يؤذن لهم؛ لقوله تعالى{من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقوله تعالى{يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا}طه: 109].
قوله تعالى{يوم يقوم الروح والملائكة صفا} {يوم} نصب على الظرف؛ أي يوم لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح. واختلف في الروح على أقوال ثمانية: الأول: أنه ملك من الملائكة. قال ابن عباس: ما خلق الله مخلوقا بعد العرش أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم. ونحو منه عن ابن مسعود؛ قال: الروح ملك أعظم من السموات السبع، ومن الأرضين السبع، ومن الجبال. وهو حيال السماء الرابعة، يسبح الله كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة؛ يخلق الله من كل تسبيحة ملكا، فيجيء يوم القيامة وحده صفا، وسائر الملائكة صفا.
الثاني: أنه جبريل عليه السلام. قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس: إن عن يمين العرش نهرا من نور، مثل السموات السبع، والأرضين السبع، والبحار السبع، يدخل جبريل كل يوم فيه سحرا فيغتسل، فيزداد نورا على نوره، وجمالا على جماله، وعظما على عظمه، ثم ينتفض فيخلق الله من كل قطرة تقع من ريشه سبعين ألف ملك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألفا البيت المعمور، والكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليهما إلى يوم القيامة. وقال وهب: إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله تعالى ترعد فرائصه؛ يخلق الله تعالى من كل رعدة مائة ألف ملك، فالملائكة صفوف بين يدي الله تعالى منكسة رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا: لا إله إلا أنت؛ وهو قوله تعالى{يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن} في الكلام {وقال صوابا} يعني قوله{لا إله إلا أنت}.
الثالث: روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [الروح في هذه الآية جند من جنود الله تعالى، ليسوا ملائكة، لهم رؤوس وأيد وأرجل، يأكلون الطعام]. ثم قرأ {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} فإن هؤلاء جند، وهؤلاء جند. وهذا قول أبي صالح ومجاهد. وعلى هذا هم خلق على صورة بني آدم، كالناس وليسوا بناس. الرابع: أنهم أشراف الملائكة؛ قاله مقاتل بن حيان. الخامس: أنهم حفظة على الملائكة؛ قال ابن أبي نجيح. السادس: أنهم بنو آدم، قاله الحسن وقتادة. فالمعنى ذوو الروح. وقال العوفي والقرظي: هذا مما كان يكتمه ابن عباس؛ قال: الروح: خلق من خلق الله على صور بني آدم، وما نزل ملك من السماء إلا ومعه واحد من الروح. السابع: أرواح بني آدم تقوم صفا، فتقوم الملائكة صفا، وذلك بين النفختين، قبل أن ترد إلى الأجساد؛ قال عطية. الثامن: أنه القرآن؛ قاله زيد بن أسلم.
وقرأ {وكذلك أوحينا إليك روح له من أمرنا}. و {صفا}: مصدر أي يقومون صفوفا. والمصدر ينبئ عن الواحد والجمع، كالعدل، والصوم. ويقال ليوم العيد: يوم الصف. وقال في موضع آخر{وجاء ربك والملك صفا صفا}الفجر: 22] هذا يدل على الصفوف، وهذا حين العرض والحساب. قال معناه القتبي وغيره. وقيل: يقوم الروح صفا، والملائكة صفا، فهم صفان. وقيل: يقوم الكل صفا واحدا. {لا يتكلمون} أي لا يشفعون {إلا من أذن له الرحمن} في الشفاعة {وقال صوابا} يعني حقا؛ قاله الضحاك ومجاهد. وقال أبو صالح: لا إله إلا الله. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يشفعون لمن قال لا إله إلا الله. وأصل الصواب. السداد من القول والفعل، وهو من أصاب يصيب إصابة؛ كالجواب من أجاب يجيب إجابة. وقيل{لا يتكلمون} يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفا، لا يتكلمون هيبة وإجلالا {إلا من أذن له الرحمن} في الشفاعة وهم قد قالوا صوابا، وأنهم يوحدون الله تعالى ويسبحونه. وقال الحسن: إن الروح يقول يوم القيامة: لا يدخل أحد الجنة إلا بالرحمة، ولا النار إلا بالعمل. وهو معنى قوله تعالى{وقال صوابا}.
قوله تعالى{ذلك اليوم الحق} أي الكائن الواقع {فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا} أي مرجعا بالعمل الصالح؛ كأنه إذا عمل خيرا رده إلى الله عز وجل، وإذا عمل شرا عده منه. وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام: [والخير كله بيديك، والشر ليس إليك]. وقال قتادة{مآبا} : سبيلا.
قوله تعالى{إنا أنذرناكم عذابا قريبا} يخاطب كفار قريش ومشركي العرب؛ لأنهم قالوا: لا نبعث. والعذاب عذاب الآخرة، وكل ما هو آت فهو قريب، وقد قال تعالى{كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}النازعات: 46] قال معناه الكلبي وغيره. وقال قتادة: عقوبة الدنيا؛ لأنها أقرب العذابين. قال مقاتل: هي قتل قريش ببدر. والأظهر أنه عذاب الآخرة، وهو الموت والقيامة؛ لأن من مات فقد قامت قيامته، فإن كان من أهل الجنة رأى مقعده من الجنة، وإن كان من أهل النار رأى الخزي والهوان؛ ولهذا قال تعالى{يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} بين وقت ذلك العذاب؛ أي أنذرناكم عذابا قريبا في ذلك اليوم، وهو يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، أي يراه، وقيل: ينظر إلى ما قدمت فحذف إلى. والمرء ها هنا المؤمن في قول الحسن؛ أي يجد لنفسه عملا، فأما الكافر فلا يجد لنفسه عملا، فيتمنى أن يكون ترابا. ولما قال{ويقول الكافر} علم أنه أراد بالمرء المؤمن. وقيل: المرء ها هنا: أبي خلف وعقبة بن أبي معيط. {ويقول الكافر} أبو جهل. وقيل: هو عام في كل أحد وإنسان يرى في ذلك اليوم جزاء ما كسب. وقال مقاتل: نزلت قوله{يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي{ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا}: في أخيه الأسود بن عبد الأسد. وقال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: الكافر: ها هنا إبليس وذلك أنه عاب آدم بأنه خلق من تراب، وافتخر بأنه خلق من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة، والرحمة، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب، تمنى أنه يكون بمكان آدم، فيقول{يا ليتني كنت ترابا} قال: ورأيته في بعض التفاسير للقشيري أبي نصر. وقيل: أي يقول إبليس يا ليتني خلقت من التراب ولم أقل أنا خير من آدم. وعن ابن عمر: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، وحشر الدواب والبهائم والوحوش، ثم يوضع القصاص بين البهائم، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء بنطحتها، فإذا فرغ من القصاص بينها قيل لها: كوني ترابا، فعند ذلك يقول الكافر{يا ليتني كنت ترابا}. ونحوه عن أبي هريرة وعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم. وقد ذكرناه في كتاب التذكرة، بأحوال الموتى وأمور الآخرة ، مجودا والحمد لله. ذكر أبو جعفر النحاس: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع، قال حدثنا سلمة بن شبيب، قال حدثنا عبدالرازق، قال حدثنا معمر، قال أخبرني جعفر بن برقان الجزري، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، قال: إن الله تعالى يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان، ثم يقال للبهائم والطير كوني ترابا، فعند ذلك {يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا}. وقال قوم{يا ليتني كنت ترابا}: أي لم أبعث، كما قال{يا ليتني لم أوت كتابيه}. وقال أبو الزناد: إذا قضي بين الناس، وأمر بأهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجن: عودوا ترابا، فيعودون ترابا، فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم {يا ليتني كنت ترابا}. وقال ليث بن أبي سليم: مؤمنوا الجن يعودون ترابا. وقال عمر بن عبدالعزيز والزهري والكلبي ومجاهد: مؤمنوا الجنة حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها. وهذا أصح، وقد مضى في سورة الرحمن بيان هذا، وأنهم مكلفون: يثابون ويعاقبون، فهم كبني آدم، والله أعلم بالصواب.
{والنازعات غرقا، والناشطات نشطا، والسابحات سبحا، فالسابقات سبقا، فالمدبرات أمرا، يوم ترجف الراجفة، تتبعها الرادفة، قلوب يومئذ واجفة، أبصارها خاشعة، يقولون أئنا لمردودون في الحافرة، أئذا كنا عظاما نخرة، قالوا تلك إذا كرة خاسرة، فإنما هي زجرة واحدة، فإذا هم بالساهرة}
قوله تعالى{والنازعات غرقا} أقسم سبحانه بهذه الأشياء التي ذكرها، على أن القيامة حق. و{النازعات}: الملائكة التي تنزع أرواح الكفار؛ قاله علي رضي الله عنه، وكذا قال ابن مسعود وابن عباس ومسروق ومجاهد: هي الملائكة تنزع نفوس بين آدم. قال ابن مسعود: يريد أنفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم، من تحت كل شعرة، ومن تحت الأظافير وأصول القدمين نزعا كالسفود ينزع من الصوف الرطب، يغرقها، أي يرجعها في أجسادهم، ثم ينزعها فهذا عمله بالكفار. وقاله ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: نزعت أرواحهم، ثم غرقت، ثم حرقت؛ ثم قذف بها في النار. وقيل: يرى الكافر نفسه في وقت النزع كأنها تغرق. وقال السدي: و{النازعات} هي النفوس حين تغرق في الصدور. مجاهد: هي الموت ينزع النفوس. الحسن وقتادة: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق؛ أي تذهب، من قولهم: نزع إليه أي ذهب، أو من قولهم: نزعت الخيل أي جرت. {غرقا} أي إنها تغرق وتغيب وتطلع من أفق إلى أفق آخر. وقاله أبو عبيدة وابن كيسان والأخفش. وقيل: النازعات القسي تنزع بالسهام؛ قاله عطاء وعكرمة. و{غرقا} بمعنى إغراقا؛ وإغراق النازع في القوس أن يبلغ غاية المد، حتى ينتهي إلى النصل. يقال: أغرق في القوس أي استوفي مدها، وذلك بأن تنتهي إلى العقب الذي عند النصف الملفوف عليه. والاستغراق الاستيعاب. ويقال لقشرة البيضة الداخلة{غِرقِئ}. وقيل: هم الغزاة الرماة.
قلت: هو والذي قبله سواء؛ لأنه إذا أقسم بالقسي فالمراد النازعون بها تعظيما لها؛ وهو مثل قوله تعالى{والعاديات ضبحا}العاديات: 1] والله أعلم. وأراد بالإغراق: المبالغة في النزع وهو سائر في جميع وجوه تأويلها. وقيل: هي الوحش تنزع من الكلأ وتنفر. حكاه يحيى ابن سلام. ومعنى {غرقا} أي إبعادا في النزع.
قوله تعالى{والناشطات نشطا} قال ابن عباس: يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير: إذا حل عنه. وحكى هذا القول الفراء ثم قال: والذي سمعت من العرب أن يقولوا أنشطت وكأنما أنشط من عقال. وربطها نشطها والرابط الناشط، وإذا ربطت الحبل في يد البعير فقد نشطته، فأنت ناشط، وإذا حللته فقد أنشطته وأنت منشط. وعن ابن عباس أيضا: هي أنفس المؤمنين عند الموت تنشط للخروج؛ وذلك أنه ما من مؤمن [يحضره الموت] إلا وتعرض عليه الجنة قبل أن يموت، فيرى فيها ما أعد الله له من أزواجه وأهله من الحور العين، فهم يدعونه إليها، فنفسه إليهم نشطة أن تخرج فتأتيهم. وعنه أيضا قال: يعني أنفس الكفار والمنافقين تنشط كما ينشط العقب، الذي يعقب به السهم. والعقب بالتحريك: العصب الذي تعمل منه الأوتار، الواحدة عقبة؛ تقول منه: عقب السهم والقدح والقوس عقبا : إذا لوى شيئا منه عليه. والنشط: الجذب بسرعة، ومنه الأنشوطة: عقدة يسهل أنحلالها إذا جذبت مثل عقدة التكة. وقال أبو زيد: نشطت الحجل أنشطة نشطا: عقدته بأنشوطة، وأنشطته أي حللته، وأنشطت الحبل أي مددته حتى ينحل. وقال الفراء: أنشط العقال أي حل، ونشط: أي ربط الحبل في يديه. وقال الليث: أنشطته بأنشوطة وأنشوطتين أي أوثقته، وأنشطت العقال: أي مددت أنشوطته فانحلت. قال: ويقال نشط بمعنى أنشط، لغتان بمعنى؛ وعليه يصح قول ابن عباس المذكور أولا. وعنه أيضا: الناشطات الملائكة لنشاطها، تذهب وتجيء بأمر الله حيثما كان. وعنه أيضا وعن علي رضي الله عنهما: هي الملائكة تنشط أرواح الكفار، ما بين الجلد والأظفار، حتى تخرجها من أجوافهم نشطا بالكرب والغم، كما تنشط الصوف من سفود الحديد، وهي من النشط بمعنى الجذب؛ يقال: نشطت الدلو أنشطها بالكسر، وأنشطها بالضم: أي نزعتها.
قال الأصمعي: بئر أنشاط: أي قريبة القعر، تخرج الدلو منها بجذبة واحدة. وبئر نشوط؛ قال: وهي التي لا يخرج منها الدلو حتى تنشط كثيرا. وقال مجاهد: هو الموت ينشط نفس الإنسان. السدي: هي النفوس حين تنشط من القدمين. وقيل: النازعات: أيدي الغزاة أو أنفسهم، تنزع القسي بإغراق السهام، وهي التي تنشط الأوهاق. عكرمة وعطاء: هي الأوهاق تنشط السهام. وعن عطاء أيضا وقتادة والحسن والأخفش: هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق: أي تذهب. وكذا في الصحاح. {والناشطات نشطا} يمني النجوم من برج إلى برج، كالثور الناشط من بلد إلى بلد. والهموم تنشط بصاحبها؛ قال هميان بن قحافة:
أمست همومي تنشط المناشطا الشام بي طورا وطورا واسطا
أبو عبيدة وعطاء أيضا: الناشطات: هي الوحش حين تنشط من بلد إلى بلد، كما أن الهموم تنشط الإنسان من بلد إلى بلد؛ وأنشد قول هميان:
أمست همومي... البيت.
وقيل{والنازعات} للكافرين {والناشطات} للمؤمنين، فالملائكة يجذبون روح المؤمن برفق، والنزع جذب :شدة، والنشط جذب برفق. وقيل: هما جميعا للكفار والآيتان بعدهما للمؤمنين عند فراق الدنيا.
قوله تعالى{والسابحات سبحا} قال علي رضي الله عنه: هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين. الكلبي: هي الملائكة تقبض أرواح المؤمنين، كالذي يسبح في الماء، فأحيانا ينغمس وأحيانا يرتفع، يسلونها سلا رفيقا بسهولة، ثم يدعونها حتى تستريح. وقال مجاهد وأبو صالح: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأم الله، كما يقال للفرس الجواد سابح: إذا أسرع في جريه. وعن مجاهد أيضا: الملائكة تسبح في نزولها وصعودها. وعنه أيضا: السابحات: الموت يسبح في أنفس بني آدم. وقيل: هي الخيل الغزاة؛ قال عنترة:
والخيل تعلم حين تسـ ـبح في حياض الموت سبحا
وقال امرؤ القيس:
مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن غبارا بالكديد المركل
قتادة والحسن: هي النجوم تسبح في أفلاكها، وكذا الشمس والقمر؛ قال الله تعالى{كل في فلك يسبحون}. عطاء: هي السفن تسبح في الماء. ابن عباس: السابحات أرواح المؤمنين تسبح شوقا إلى لقاء الله ورحمته حين تخرج.
قوله تعالى{فالسابقات سبقا} قال علي رضي الله عنه: هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء عليهم السلام. وقاله مسروق ومجاهد. وعن مجاهد أيضا وأبي روق: هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح. وقيل: تسبق بني آدم إلى العمل الصالح فتكتبه. وعن مجاهد أيضا: الموت يسبق الإنسان. مقاتل: هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة. ابن مسعود: هي أنفس المؤمنين تسبق، إلى الملائكة الذين يقبضونها وقد عاينت السرور، شوقا إلى لقاء الله تعالى ورحمته. ونحو عن الربيع، قال: هي النفوس تسبق بالخروج عند الموت. وقال قتادة والحسن ومعمر: هي النجوم يسبق بعضها بعضا في السير. عطاء: هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد. وقيل: يحتمل أن تكون السابقات ما تسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار؛ قال الماوردي. وقال الجرجاني: ذكر {فالسابقات} بالفاء لأنها مشتقة من التي قبلها؛ أي واللائي يسبحن فيسبقن، تقول: قام فذهب؛ فهذا يوجب أن يكون القيام سببا للذهاب، ولو قلت: قام وذهب، لم يكن القيام سببا للذهاب.
قوله تعالى{فالمدبرات أمرا} قال القشيري: أجمعوا على أن المراد الملائكة. وقال الماوردي: فيه قولان: أحدهما الملائكة؛ قال الجمهور. والقول الثاني هي الكواكب السبعة. حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل. وفي تدبيرها الأمر وجهان: أحدهما تدبير طلوعها وأفولها. الثاني تدبيرها ما قضاه الله تعالى فيها من تقلب الأحوال. وحكى هذا القول أيضا القشيري في تفسيره، وأن الله تعالى علق كثيرا من تدبير أم العالم بحركات النجوم، فأضيف التدبير إليها وإن كان من الله، كما يسمى الشيء باسم ما يجاوره. وعلى أن المراد بالمدبرات الملائكة، فتدبيرها نزولها بالحلال والحرام وتفصيله؛ قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما. وهو إلى الله جل ثناؤه، ولكن لما نزلت الملائكة به سميت بذلك؛ كما قال عز وجل{نزل به الروح الأمين}الشعراء: 193]. وكما قال تعالى{فإنه نزله على قلبك}البقرة: 97]. يعني جبريل نزله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل هو الذي أنزل.
وروى عطاء عن ابن عباس{فالمدبرات أمرا}: الملائكة وكلت بتدبير أحوال الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك. قال عبدالرحمن بن ساباط: تدبير أم الدنيا إلى أربعة؛ جبريل وميكائيل وملك الموت واسمه عزرائيل وإسرافيل، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأنفس في البر والبحر، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم، وليس من الملائكة أقرب من إسرافيل، وبينه وبين العرش مسيرة خمسمائة عام. وقيل: أي وكلوا بأمور عرفهم الله بها. ومن أول السورة إلى هنا قسم أقسم الله به، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لنا ذلك إلا به عز وجل. وجواب القسم مضمر، كأنه قال: والنازعات وكذا وكذا لتبعثن ولتحاسبن. أضمر لمعرفة السامعين بالمعنى؛ قاله الفراء. ويدل عليه قوله تعالى{أئذا كنا عظاما نخرة} ألست ترى أنه كالجواب لقولهم{أئذا كنا عظاما نخرة} نبعث؟ فاكتفى بقول{أئذا كنا عظاما نخرة}؟ وقال قوم: وقع القسم على قوله{إن في ذلك لعبرة لمن يخشى}النازعات: 26] وهذا اختيار الترمذي بن علي. أي فيما قصصت من ذكر يوم القيامة وذكر موسى وفرعون {لعبرة لمن يخشى} ولكن وقع القسم على ما في السورة مذكورا ظاهرا بارزا أحرى وأقمن من أن يؤتي بشيء ليس بمذكور فيما قال ابن الأنباري : وهذا قبيح، لأن الكلام قد طال فيما بينهما. وقيل : جواب القسم {هل أتاك حديث موسى} لأن المعنى قد أتاك.
وقيل: الجواب {يوم ترجف الراجفة} على تقدير ليوم ترجف، فحذف اللام. وقيل: فيه تقديم وتأخير، وتقديره يوم ترجف الراجفة وتتبعها الرادفة والنازعات غرقا. وقال السجستاني: يجوز أن يكون هذا من التقديم والتأخير، كأنه قال: فإذا هم بالساهرة والنازعات. ابن الأنباري: وهذا خطأ؛ لأن الفاء لا يفتح بها الكلام، والأول الوجه. وقيل: إنما وقع القسم على أن قلوب أهل النار تجف، وأبصارهم تخشع، فانتصاب {يوم ترجف الراجفة} على هذا المعنى، ولكن لم يقع عليه.
قال الزجاج: أي قلوب واجفة يوم ترجف، وقيل: انتصب بإضمار اذكر و{ترجف} أي تضطرب. والراجفة: أي المضطربة كذا قال عبدالرحمن بن زيد؛ قال: هي الأرض، والرادفة الساعة. مجاهد: الراجفة الزلزلة {تتبعها الرادفة} الصيحة. وعنه أيضا وابن عباس والحسن وقتادة: هما الصيحتان. أي النفختان. أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله تعالى، وأما الثانية فتحيي كل شيء بإذن الله تعالى. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينهما أربعون سنة) وقال مجاهد أيضا: الرادفة حين تنشق السماء وتحمل الأرض والجبال فتدك دكة واحدة، وذلك بعد الزلزلة.
وقيل: الراجفة تحرك الأرض، والرادفة زلزلة أخرى تفني الأرضين . فالله أعلم. وقد مضى في آخر النمل ما فيه كفاية في النفخ في الصور.
وأصل الرجفة الحركة، قال الله تعالى{يوم ترجف الأرض} وليست الرجفة ههنا من الحركة فقظ، بل من قولهم: رجف الرعد يرجف رجفا ورجيفا: أي أظهر الصوت والحركة، ومنه سميت الأراجيف، لاضطراب الأصوات بها، وإفاضة الناس فيها؛ قال:
أبالأراجيف يا ابن اللؤم توعدني وفي الأراجيف خلت اللؤم والخورا
وعن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب ربع الليل قام ثم قال: (يا أيها الناس أذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه). {قلوب يومئذ واجفة} أي خائفة وجلة؛ قاله ابن عباس وعليه عامة المفسرين. وقال السدي: زائلة عن أماكنها. نظيره {إذ القلوب لدى الحناجر}غافر: 18].
وقال المؤرج: قلقة مستوفزة، مرتكضة غير ساكنة. وقال المبرد: مضطربة. والمعنى متقارب، والمراد قلوب الكفار؛ يقال وجف القلب يجف وجيفا إذا خفق، كما يقال: وجب يجب وجيبا، ومنه وجيف الفرس والناقة في العدو، والإيجاف حمل الدابة على السير السريع، قال:
بدلن بعد جرة صريفا وبعد طول النفس الوجيفا
و{قلوب} رفع بالابتداء و{واجفة} صفتها. و{أبصارها خاشعة} خبرها؛ مثل قول {ولعبد مؤمن خير من مشرك}البقرة: 221]. ومعنى {خاشعة} منكسرة ذليلة من هول ما ترى. نظيره{خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة}القلم : 43]. والمعنى أبصار أصحابها، فحذف المضاف. {يقولون أئنا لمردودون في الحافرة} أي يقول هؤلاء المكذبون المنكرون للبعث، إذا قيل لهم إنكم تبعثون، قالوا منكرين متعجبين: أنرد بعد موتنا إلى أول الأم، فنعود أحياء كما كنا قبل الموت؟ وهو كقولهم{أئنا لمبعوثون خلقا جديدا} يقال: رجع فلان في حافرته، وعلى حافرته، أي رجع من حيث جاء؛ قال قتادة. وأنشد ابن الأعرابي:
أحافرة على صلع وشيب معاذ الله من سفه وعار
يقول: أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصبا بعد أن شبت وصلعت! ويقال: رجع على حافرته: أي الطريق الذي جاء منه. وقولهم في المثل: النقد عند الحافرة. قال يعقوب: أي عند أول كلمة. ويقال: ألتقي القوم فاقتتلوا عند الحافرة. أي عند أول ما التقوا. وقيل: الحافرة العاجلة؛ أي أئنا لمردودون إلى الدنيا فنصبر أحياء كما كنا؟ قال الشاعر:
آليت لا أنساكم فاعلموا حتى يرد الناس في الحافرة
وقيل: الحافرة: الأرض التي تحفر فيها قبورهم، فهي بمعنى المحفورة؛ كقوله تعالى{ماء دافق} و{عيشة راضية}. والمعنى أثنا لمردودون في قبورنا أحياء. قال مجاهد والخليل والفراء. وقيل: سميت الأرض الحافرة؛ لأنها مستقر الحوافر، كما سميت القدم أرضا؛ لأنها على الأرض. والمعنى أثنا لراجعون بعد الموت إلى الأرض فنمشي على أقدامنا. وقال ابن زيد: الحافرة: النار، وقرأ {تلك إذا كرة خاسرة}. وقال مقاتل وزيد بن أسلم: هي اسم من أسماء النار. وقال ابن عباس: الحافرة في كلام العرب: الدنيا. وقرأ أبو حيوة{الحفرة} بغير ألف، مقصور من الحافر. وقيل: الحفرة: الأرض المنتنة بأجساد موتاها؛ من قولهم: حفرت أسنانه، إذا ركبها الوسخ من ظاهرها وباطنها. يقال: في أسنانه حفر، وقد حفرت تحفر حفرا، مثل كسر يكسر كسرا إذا فسدت أصولها. وبنو أسد يقولون: في أسنانه حفر بالتحريك. وقد حفرت مثال تعب تعبا، وهي أردا اللغتين؛ قاله في الصحاح.
قوله تعالى{أئذا كنا عظاما نخرة} أي بالية متفتتة. يقال: نخر العظم بالكسر: أي بلي وتفتت؛ يقال: عظام نخرة. وكذا قرأ الجمهور من أهل المدينة ومكة والشام والبصرة، واختاره أبو عبيد؛ لأن الآثار التي تذكر فيها العظام، نظرنا فيها فرأينا نخرة لا ناخرة. وقرأ أبو عمرو وابنه عبدالله وابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وحمزة والكسائي وأبو بكر {ناخرة} بألف، واختاره الفراء والطبري وأبو معاذ النحوي؛ لوفاق رؤوس الآي. وفي الصحاح: والناخر من العظام التي تدخل الريح فيه ثم تخرج منه ولها نخير. ويقال: ما بها ناخر، أي ما بها أحد. حكاه يعقوب عن الباهلي.
وقال أبو عمرو بن العلاء: الناخرة التي لم تنخر بعد، أي لم تبل ولا بد أن تنخر. وقيل: الناخر المجوفة. وقيل: هما لغتان بمعنى؛ كذلك تقول العرب: نخر الشيء فهو نخر وناخر؛ كقولهم: طمع فهو طمع وطامع، وحذر وحاذر، وبخل وباخل، وفره وفاره؛ قال الشاعر:
يظل بها الشيخ الذي كان بادنا يدب على عوج له نخرات
عوج: يعني قوائم. وفي بعض التفسير: ناخرة بالألف: بالية، ونخرة: تنخر فيها الريح أي تمر فيها، على عكس الأول؛ قال:
من بعد ما صرت عظاما ناخره
وقال بعضهم: الناخرة: التي أكلت أطرافها وبقيت أوساطها. والنخرة: التي فسدت كلها. قال مجاهد: نخرة أي مرفوتة؛ كما قال تعالى{عظاما ورفاتا} ونخرة الريح بالضم: شدة هبوبها. والنخرة أيضا والنخرة مثال الهمزة: مقدم أنف الفرس والحمار والخنزير؛ يقال: هشم نخرته: أي أنفه. {قالوا تلك إذا كرة خاسرة} أي رجعة خائبة، كاذبة باطلة، أي ليست كائبة؛ قاله الحسن وغيره. الربيع بن أنس{خاسرة} على من كذب بها. وقيل: أي هي كرة خسران. والمعنى أهلها خاسرون؛ كما يقال: تجارة رابحة أي يربح صاحبها. ولا شيء أخسر من كرة تقتضي المصير إلى النار.
وقال قتادة ومحمد بن كعب: أي لئن رجعنا أحياء بعد الموت لنحشرن بالنار، وإنما قالوا هذا لأنهم أو عدوا بالنار. والكر: الرجوع؛ يقال: كرة، وكر بنفسه، يتعدى ولا يتعدى. والكرة: المرة، والجمع الكرات.
قوله تعالى{فإنما هي زجرة واحدة} ذكر جل ثناؤه سهولة البعث عليه فقال{فإنما هي زجرة واحدة}. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: نفخة واحدة {فإذا هم} أي الخلائق أجمعون {بالساهرة} أي على وجه الأرض، بعد ما كانوا في بطنها. قال الفراء: سميت بهذا الاسم؛ لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم. والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة، بمعنى ذات سهو؛ لأنه يسهر فيها خوفا منها، فوصفها بصفة ما فيها؛ واستدل ابن عباس والمفسرون بقول أمية ابن أبي الصلت:
وفيها لحمُ ساهرةٍ وبحر وما فاهوا به لهم مقيم
وقال آخر يوم ذي قار لفرسه:
أقدم محاج إنها الأساوره ولا يهولنك رجل نادره
فإنما قصرك ترب الساهره ثم تعود بعدها في الحافره
من بعد ما صرت عظاما ناخره
وفي الصحاح. ويقال: الساهور: ظل الساهرة، وهي وجه الأرض. ومنه قوله تعالى{فإذا هم بالساهرة}، قال أبو كبير الهذلي:
يرتدن ساهرة كان جميمها وعميمها أسداف ليل مظلم
ويقال: الساهور: كالغلاف للقمر يدخل فيه إذا كسف، وأنشدوا قول أمية بن أبي الصلت:
قمر وساهور يسل ويغمد
وأنشد الآخر في وصف امرأة:
كأنها عرق سام عند ضاربه أو شقة خرجت من جوف ساهور
يريد شقة القمر. وقيل: الساهرة: هي الأرض البيضاء. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: أرض من فضة لم يعص الله جل ثناؤه عليها قط خلقها حينئذ. وقيل: أرض جددها الله يوم القيامة. وقيل: الساهرة اسم الأرض السابعة يأتي بها الله تعالى فيحاسب عليها الخلائق، وذلك حين تبدل الأرض غير الأرض. وقال الثوري: الساهرة: أرض الشام. وهب بن منبه: جبل بيت المقدس. عثمان بن أبي العاتكة: إنه اسم مكان من الأرض بعينه، بالشام، وهو الصقع الذي بين جبل أريحاء وجبل حسان يمده الله كيف يشاء. قتادة: هي جهنم أي فإذا هؤلاء الكفار في جهنم. وإنما قيل لها ساهرة؛ لأنهم لا ينامون عليها حينئذ. وقيل: الساهرة: بمعنى الصحراء على سفير جهنم؛ أي يوقفون بأرض القيامة، فيدوم السهر حينئذ. ويقال: الساهرة: الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك، لأن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة: جارية الماء، وفي ضدها: نائمة؛ قال الأشعث بن قيس:
وساهرة يضحي السراب مجللا لأقطارها قد جئتها متلثما
أو لأن سالكها لا ينام خوف الهلكة.
الآية رقم (15 : 26)
{هل أتاك حديث موسى، إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى، اذهب إلى فرعون إنه طغى، فقل هل لك إلى أن تزكى، وأهديك إلى ربك فتخشى، فأراه الآية الكبرى، فكذب وعصى، ثم أدبر يسعى، فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى}
قوله تعالى{هل أتاك حديث موسى} أي قد جاءك وبلغك {حديث موسى} وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. أي إن فرعون كان أقوى من كفار عصرك، ثم أخذناه، وكذلك هؤلاء. وقيل{هل} بمعنى {ما} أي ما أتاك، ولكن أخبرت به، فإن فيه عبرة لمن يخشى. وقد مضى من خبر موسى وفرعون في غير موضع ما فيه كفاية. وفي {طوى} ثلاث قراءات: قرأ ابن محيصن وابن عامر والكوفيون {طوى} منونا واختاره أبو عبيد لخفة الاسم. الباقون بغير تنوين؛ لأنه معدول مثل عمر وقثم
قال الفراء: طوى: واد بين المدينة ومصر. قال: وهو معدول عن طاو، كما عدل عمر عن عام. وقرأ الحسن وعكرمة {طوى} بكسر الطاء، وروي عن أبي عمرو، على معنى المقدس مرة بعد مرة؛ قال الزجاج؛ وأنشد:
أعاذل إن اللوم في غير كنهه علي طوى من غيك المتردد
أي هو لوم مكرر علي. وقيل: ضم الطاء وكسرها لغتان، وقد مضى في طه القول فيه. {اذهب إلى فرعون} أي ناداه ربه، فحذف، لأن النداء قول؛ فكأنه؛ قال له رب {أذهب إلى فرعون}. {إنه طغى} أي جاوز القدر في العصيان. وروي عن الحسن قال: كان فرعون علجا من همدان. وعن مجاهد قال: كان من أهل إصطخر. وعن الحسن أيضا قال: من أهل أصبهان، يقال له ذو ظفر، طول أربعة أشبار. {فقل هل لك إلى أن تزكى} أي تسلم فتطهر من الذنوب. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: هل لك أن تشهد أن لا إله إلا الله. {وأهديك إلى ربك} أي وأرشدك إلى طاعة ربك {فتخشى} أي تخافه وتتقيه. وقرأ نافع وبن كثير {تزكى} بتشديد الزاي، على إدغام التاء في الزاي لأن أصلها تتزكى. الباقون{تزكى} بتخفيف الزاي على معنى طرح التاء. وقال أبو عمرو{تزكى} بالتشديد [تتصدق بـ] الصدقة، و{تزكى} يكون زكيا مؤمنا. وإنما دعا فرعون ليكون زكيا مؤمنا. قال: فلهذا اخترنا التخفيف. وقال صخر بن جويرية: لما بعث الله موسى إلى فرعون قال له{أذهب إلى فرعون} إلى قول {وأهديك إلى ربك فتخشى} ولن يفعل، فقال: يا رب، وكيف أذهب إليه وقد علمت أنه لا يفعل؟ فأوحى الله إليه أن أمض إلى ما أمرتك به، فإن في السماء اثني عشر ألف ملك يطلبون علم القدر، فلم يبلغوه ولا يدركوه. {فأراه الآية الكبرى} أي العلامة العظمى وهي المعجزة وقيل: العصا. وقيل: اليد البيضاء تبرق كالشمس. وروى الضحاك عن ابن عباس: الآية الكبرى قال العصا. الحسن: يده وعصاه. وقيل: فلق البحر. وقيل: الآية: إشارة إلى جميع آياته ومعجزاته. {فكذب} أي كذب نبي الله موسى {وعصى} أي عصى ربه عز وجل. {ثم أدبر يسعى} أي ولى مدبرا معرضا عن الإيمان {يسعى} أي يعمل بالفساد في الأرض. وقيل: يعمل في نكاية موسى. وقيل{أدبر يسعى} هاربا من الحية. {فحشر} أي جمع أصحابه يمنعوه منها. وقيل: جمع جنوده للقتال والمحاربة، والسحرة للمعارضة. وقيل: حشر الناس للحضور. {فنادى} أي قال لهم بصوت عال {أنا ربكم الأعلى} أي لا رب لكم فوقي. ويروى: إن إبليس تصور لفرعون في صورة الإنس بمصر في الحمام، فأنكره فرعون، فقال له إبليس: ويحك! أما تعرفني؟ قال: لا. قال: وكيف وأنت خلقتني؟ ألست القائل أنا ربكم الأعلى. ذكره الثعلبي في كتاب العرائس. وقال عطاء: كان صنع لهم أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها، فقال أنا رب أصنامكم. وقيل: أراد القادة والسادة. هو ربهم، وأولئك، هم أرباب السفلة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ فنادى فحشر؛ لأن النداء يكون قبل الحشر. {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} أي نكال قوله{ما علمت لكم من إله غيري}القصص: 38] وقوله بعد}أنا ربكم الأعلى}النازعات: 24] قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة. وكان بين الكلمتين أربعون سنة؛ قال ابن عباس. والمعنى: أمهله في الأولى، ثم أخذه في الآخرة، فعذبه بكلمتيه. وقيل: نكال الأولى: هو أن أغرقه، ونكال الآخرة: العذاب في الآخرة. وقال قتادة وغيره. وقال مجاهد: هو عذاب أول عمره وأخره. وقيل: الآخرة قوله {أنا ربكم الأعلى} والأولى تكذيبه لموسى. عن قتادة أيضا. و{نكال} منصوب على المصدر المؤكد في قول الزجاج؛ لأن معنى أخذه الله: نكل، الله به، فأخرج [نكال] مكان مصدر من معناه، لا من لفظه. وقيل: نصب بنزع حرف الصفة. أي فأخذه الله بنكال الآخرة، فلما نزع الخافض نصب. وقال الفراء: أي أخذه الله أخذا نكالا، أي للنكال. والنكال: اسم لما جعل نكالا للغير أي عقوبة له حتى يعتبر به. يقال: نكل فلان بفلان: إذا أثخنه عقوبة. والكلمة من الامتناع، ومنه النكول عن اليمين، والنكل القيد. وقد مضى في سورة المزمل والحمد لله. {إن في ذلك لعبرة} أي اعتبارا وعظة. {لمن يخشى} أي يخاف الله عز وجل.
الآية رقم (27 : 33)
{أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، متاعا لكم ولأنعامكم}
قوله تعالى{أأنتم أشد خلقا} يريد أهل مكة، أي أخلقكم بعد الموت أشد في تقديركم {أم السماء} فمن قدر على السماء قدر على الإعادة؛ كقوله تعالى{لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس}غافر: 57] وقوله تعالى{أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم}يس: 81]، فمعنى الكلام التقريع والتوبيخ. ثم وصف السماء فقال{بناها} أي رفعها فوقكم كالبناء. {رفع سمكها} أي أعلى سقفها في الهواء؛ يقال: سمكت الشيء أي رفعته في الهواء، وسمك الشيء سموكا: ارتفع. وقال الفراء: كل شيء حمل شيئا من البناء وغيره فهو سمك. وبناء مسموك وسنام سامك تامك أي عال، والمسموكات: السموات. ويقال: أسمك في الديم، أي أصعد في الدرجة. {فسواها} أي خلقها خلقا مستويا، لا تفاوت فيه، ولا شقوق، ولا فطور.
قوله تعالى{وأغطش ليلها} أي جعله مظلما؛ غطش الليل وأغطشه الله؛ كقولك: ظلم [الليل] وأظلمه الله. ويقال أيضا: أغطش الليل بنفسه. وأغطشه الله كما يقال: أظلم الليل، وأظلمه الله. والغطش والغبش: الظلمة. ورجل أغطش: أي أعمى، أو شبيه به، وقد غطش، والمرأة غطشاء؛ ويقال: ليلة غطشاء، وليل أغطشى وفلاة غطشى لا يهتدى لها؛ قال الأعشى:
ويهماء بالليل غطشى الفلا ة يؤنسني صوت فيادها
وقال الأعشى أيضا:
عقرت لهم موهنا ناقتي وغامرهم مدلهم غطش
يعني بغامرهم ليلهم، لأنه غمرهم بسواده. وأضاف الليل إلى السماء لأن الليل يكون بغروب الشمس، والشمس مضاف إلى السماء، ويقال: نجوم الليل، لأن ظهورها بالليل.
قوله تعالى{وأخرج ضحاها} أي أبرز نهارها وضوءها وشمسها. وأضاف الضحا إلى السماء كما أضاف إليها الليل؛ لأن فيها سبب الظلام والضياء وهو غروب الشمس وطلوعها. {والأرض بعد ذلك دحاها} أي بسطها. وهذا يشير إلى كون الأرض بعد السماء. وقد مضى القول فيه في أول البقرة عند قوله تعالى{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا، ثم استوى إلى السماء}البقرة: 29] مستوفى.
والعرب تقول: دحوت الشيء أدحوه دحوا: إذا بسطته. ويقال لعش النعامة أُدحِي؛ لأنه مبسوط على وجه الأرض. وقال أمية بن أبي الصلت:
وبث الخلق فيها إذ دحاها فهم قطانها حتى التنادي
وأنشد المبرد:
دحاها فلما رآها استوت على الماء أرسى عليها الجبالا
وقيل: دحاها سواها؛ ومنه قول زيد بن عمرو:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها بأيد وأرسى عليها الجبالا
وعن ابن عباس: خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان، قبل أن يخلق الدنيا بألف عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت. وذكر بعض أهل العلم أن {بعد} في موضع {مع} كأنه قال: والأرض مع ذلك دحاها؛ كما قال تعالى{عتل بعد ذلك زنيم}القلم: 13]. ومنه قولهم: أنت أحمق وأنت بعد هذا سيء الخلق، قال الشاعر:
فقلت لها عني إليك فإنني حرام وإني بعد ذاك لبيب
أي مع ذلك لبيب. وقيل: بعد: بمعنى قبل؛ كقوله تعالى{ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر}الأنبياء: 105] أي من قبل الفرقان، قال أبو خراش الهذلي:
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا خراش وبعض الشر أهون من بعض
وزعموا أن خراشا نجا قبل عروة. وقيل{دحاها}: حرثها وشقها. قال ابن زيد. وقيل: دحاها مهدها للأقوات. والمعنى متقارب وقراءة العامة {والأرض} بالنصب، أي دحا الأرض. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون {والأرض} بالرفع، على الابتداء؛ لرجوع الهاء. ويقال: دحا يدحو دحوا ودحى يدحى دحيا؛ كقولهم: طغى يطغي ويطغو ، وطغي يطغي، ومحا يمحو ويمحي، ولحى العود يلحى ويلحو، فمن قال: يدحو قال دحوت ومن قال يدحى قال دحيت {أخرج منها} أي أخرج من الأرض {ماءها} أي العيون المتفجرة بالماء. {ومرعاها} أي النبات الذي يرعى. وقال القتبي: دل بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح؛ لأن النار من العيدان والملح من الماء. {والجبال أرساها} قراءة العامة {والجبال} بالنصب، أي وأرسى الجبال
{أرساها} يعني: أثبتها فيها أوتادا لها. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم {والجبال} بالرفع على الابتداء. ويقال: هلا أدخل حرف العطف على {أخرج} فيقال : إنه حال بإضمار قد؛ كقوله تعالى{حصرت صدورهم}النساء: 90]. {متاعا لكم} أي منفعة لكم {ولأنعامكم} من الإبل والبقر والغنم. و{متاعا} نصب على المصدر من غير اللفظ؛ لأن معنى {أخرج منها ماءها ومرعاها} أمتع بذلك. وقيل: نصب بإسقاط حرف الصفة تقديره لتتمتعوا به متاعا.
الآية رقم (34 : 36)
{فإذا جاءت الطامة الكبرى، يوم يتذكر الإنسان ما سعى، وبرزت الجحيم لمن يرى}
قوله تعالى{فإذا جاءت الطامة الكبرى} أي الداهية العظمى، وهي النفخة الثانية، التي يكون معها البعث، قال ابن عباس في رواية الضحاك عنه، وهو قول الحسن. وعن ابن عباس أيضا والضحاك: أنها القيامة؛ سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء، فتعم ما سواها لعظم هولها؛ أي تقلبه. وفي أمثالهم:
جرى الوادي فطمَّ على القريِّ
المبرد: الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع، وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم: طم الفرس طميما إذا استفرغ جهده في الجري، وطم الماء إذا ملأ النهر كله. غيره: هي مأخوذة من طم السيل الركية أي دفنها، والطم: الدفن والعلو. وقال القاسم بن الوليد الهمداني: الطامة الكبري حين يساق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار. وهو معنى قول مجاهد: وقال سفيان: هي الساعة التي يسلم فيها أهل النار إلى الزبانية. أي الداهية التي طمت وعظمت؛ قال:
إن بعض الحب يعمي ويصم وكذاك البغض أدهى وأطم
{يوم يتذكر الإنسان ما سعى} أي ما عمل من خير أو شر. {وبرزت الجحيم} أي ظهرت. {لمن يرى} قال ابن عباس: يكشف عنها فيراها تتلظى كل ذي بصر. وقيل: المراد الكافر لأنه الذي يرى النار بما فيها من أصناف العذاب. وقيل: يراها المؤمن ليعرف قدر النعمة ويصلي الكافر بالنار. وجواب {فإذا جاءت الطامة} محذوف أي إذا جاءت الطامة دخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة. وقرأ مالك بن دينار{وبرزت الجحيم}. عكرمة: وغيره{لمن ترى} بالتاء، أي لمن تراه الجحيم، أو لمن تراه أنت يا محمد. والخطاب له عليه السلام، والمراد به الناس.
الآية رقم (37 : 41)
{فأما من طغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى}
قوله تعالى{فأما من طغى. وآثر الحياة الدنيا} أي تجاوز الحد في العصيان. قيل: نزلت في النضر وابنه الحارث، وهي عامة في كل كافر أثر الحياة الدنيا على الآخرة.
وروى عن يحيى بن أبي كثير قال: من اتخذ من طعام واحد ثلاثة ألوان فقد طغى. وروى جويبر عن الضحاك قال: قال حذيفة: أخوف ما أخاف على هذه الأمة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون. ويروى أنه وجد في الكتب: إن الله جل ثناؤه قال لا يؤثر عبد لي دنياه على آخرته، إلا بثثت عليه همومه وضيعته، ثم لا أبالي في أيها هلك . {فإن الجحيم هي المأوى} أي مأواه. والألف واللام بدل من الهاء.
قوله تعالى{وأما من خاف مقام ربه} أي حذر مقامه بين يدي ربه. وقال الربيع: مقامه يوم الحساب. وكان قتادة يقول: إن لله عز وجل مقاما قد خافه المؤمنون. وقال مجاهد: هو خوفه في الدنيا من الله عز وجل عند مواقعة الذنب فيقلع. نظيره{ولمن خاف مقام ربه جنتان}الرحمن : 46]. {ونهى النفس عن الهوى} أي زجرها عن المعاصي والمحارم. وقال سهل: ترك الهوى مفتاح الجنة؛ لقوله عز وجل{وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} قال عبدالله بن مسعود: أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق فنعوذ بالله من ذلك الزمان. {فإن الجنة هي المأوى} أي المنزل. والآيتان نزلتا في مصعب بن عمير وأخيه عامر بن عمير؛ فروى الضحاك عن ابن عباس قال: أما من طغى فهو أخ لمصعب بن عمير أسر يوم بدر، فأخذته الأنصار فقالوا: من أنت؟ قال: أنا أخو مصعب بن عمير، فلم يشدوه في الوثاق، وأكرموه وبيتوه عندهم، فلما أصبحوا حدثوا مصعب بن عمير حديثه؛ فقال: ما هو لي بأخ، شدوا أسيركم، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا. فأوثقوه حتى بعثت أمه في فدائه. {وأما من خاف مقام ربه} فمصعب بن عمير، وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه، حتى نفذت المشاقص في جوفه. وهي السهام، فلما رأه رسول الله صلى الله عليه وسلم متشحطا في دمه قال: (عند الله أحتسبك) وقال لأصحابه: (لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعليه من ذهب). وقيل: إن مصعب بن عمير قتل أخاه عامرا يوم بدر. وعن ابن عباس أيضا قال: نزلت هذه الآية في رجلين: أبي جهل بن هشام المخزومي ومصعب بن عمير العبدري. وقال السدي: نزلت هذه الآية {وأما من خاف مقام ربه} في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وذلك أن أبا بكر كان له غلام يأتيه بطعام، وكان يسأله من أين أتيت بهذا، فأتاه يوما بطعام فلم يسأل وأكله، فقال له غلامه: لم لا تسألني اليوم؟ فقال: نسيت، فمن أين لك هذا الطعام. فقال: تكهنت لقوم في الجاهلية فأعطونيه. فتقايأه من ساعته وقال: يا رب ما بقي في العروق فأنت حبسته فنزلت{وأما من خاف مقام ربه}. وقال الكلبي: نزلت في من هم بمعصية وقدر عليها في خلوة ثم تركها من خوف الله. ونحوه عن ابن عباس. يعني من خاف عند المعصية مقامه بين يدي الله، فانتهى عنها. والله أعلم.
الآية رقم (42 : 46)
{يسألونك عن الساعة أيان مرساها، فيم أنت من ذكراها، إلى ربك منتهاها، إنما أنت منذر من يخشاها، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}
قوله تعالى{يسألونك عن الساعة أيان مرساها} قاله ابن عباس: سأل مشركو مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تكون الساعة استهزاء، فأنزل الله عز وجل الآية. وقال عروة بن الزبير في قوله تعالى{فيم أنت من ذكراها}؟ لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة، حتى نزلت هذه الآية {إلى ربك منتهاها}. ومعنى {مرساها} أي قيامها. قال الفراء: رسوها قيامها كرسو السفينة. وقال أبو عبيدة: أي منتهاها، ومرسى السفينة حيث، تنتهي. وهو قول ابن عباس. الربيع بن أنس: متى زمانها. والمعنى متقارب. وقد مضى في الأعراف بيان ذلك. وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة إلا بغضبة يغضبها ربك). {فيم أنت من ذكراها} أي في أي شيء أن يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها؟ وليس لك السؤال عنها. وهذا معنى ما رواه الزهري عن عروة بن الزبير قال: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى نزلت{فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها} أي منتهى علمها؛ فكأنه عليه السلام لما أكثروا عليه سأل الله أن يعرفه ذلك، فقيل له: لا تسأل، فلست في شيء من ذلك. ويجوز أن يكون إنكارا على المشركين في مسألتهم له؛ أي فيم أنت من ذلك حتى يسألونك بيانه، ولست ممن يعلمه. روي معناه عن ابن عباس. والذكرى بمعنى الذكر.
قوله تعالى{إلى ربك منتهاها} أي منتهى علمها، فلا يوجد عند غيره علم الساعة؛ وهو كقوله تعالى{قل إنما علمها عند ربي}الأعراف : 187] وقوله تعالى{إن الله عنده علم الساعة}لقمان: 34]. {إنما أنت منذر من يخشاها} أي مخوف؛ وخص الإنذار بمن يخشى، لأنهم المنتفعون به، وإن كان منذرا لكل مكلف؛ وهو كقوله تعالى{إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب}يس: 11].
وقراءة العامة {منذر} بالإضافة غير منون؛ طلب التخفيف، وإلا فأصله التنوين؛ لأنه للمستقبل وإنما لا ينون في الماضي. قال الفراء: يجوز التنوين وتركه؛ كقوله تعالى{بالغ أمره}الطلاق: 3]، و{بالغ أمره} و{موهن كيد الكافرين}الأنفال: 18] و{موهن كيد الكافرين} والتنوين هو الأصل، وبه قرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن محيصن وحميد وعياش عن أبي عمرو {منذر} منونا، وتكون في موضع نصب، والمعنى نصب، إنما ينتفع بإنذارك من يخشى الساعة. وقال أبو علي: يجوز أن تكون الإضافة للماضي، نحو ضارب زيد أمس؛ لأنه قد فعل الإنذار، الآية رد على من قال: أحوال الآخرة غير محسوسة، وإنما هي راحة الروح أو تألمها من غير حس. {كأنهم يوم يرونها{ يعني الكفار يرون الساعة {لم يلبثوا} أي في دنياهم، {إلا عشية} أي قدر عشية {أو ضحاها} أي أو قدر الضحا الذي يلي تلك العشية، والمراد تقليل مدة الدنيا، كما قال تعالى{لم يلبثوا إلا ساعة من نهار}الأحقاف: 35]. وروى الضحاك عن ابن عباس: كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا يوما واحدا. وقيل{لم يلبثوا} في قبورهم {إلا عشية أو ضحاها}، وذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول. وقال الفراء: يقول القائل: وهل للعشية ضحا؟ وإنما الضحا لصدر النهار، ولكن أضيف الضحا إلى العشية، وهو اليوم الذي يكون فيه على عادة العرب؛ يقولون: آتيك الغداة أوعشيتها، وآتيك العشية أو غداتها، فتكون العشية في معنى آخر النهار، والغداة في معنى أول النهار؛ قال: وأنشدني بعض بني عقيل:
نحن صبحنا عامرا في دارها جردا تعادي طرفي نهارها
عشية الهلال أو سرارها
أراد: عشية الهلال، أو سرار العشية، فهو أشد من آتيك الغداة أو عشيها.
{عبس وتولى، أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى}
{عبس} أي كلح بوجهه؛ يقال: عبس وبسر. وقد تقدم. {وتولى} أي أعرض بوجهه {أن جاءه} {أن} في موضع نصب لأنه مفعول له، المعنى لأن جاءه الأعمى، أي الذي لا يبصر بعينيه. فروى أهل التفسير أجمع أن قوما من أشراف قريش كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد طمع في إسلامهم، فأقبل عبدالله بن أم مكتوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع عبدالله عليه كلامه، فأعرض عنه، ففيه نزلت هذه الآية. قال مالك: إن هشام بن عروة حدثه عن عروة، أنه قال: نزلت {عبس وتولى} في ابن أم مكتوم؛ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا محمد استدنني، وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر، ويقول: [يا فلان، هل ترى بما أقول بأسا]؟ فيقول: [لا والدمي ما أرى بما تقول بأسا]؛ فأنزل الله{عبس وتولى}. وفي الترمذي مسندا قال: حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، حدثني أبي، قال هذا ما عرضنا على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: نزلت {عبس وتولى} في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل، يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول: [أترى بما أقول بأسا] فيقول: لا؛ ففي هذا نزلت؛ قال: هذا حديث غريب.
الآية عتاب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في إعراضه وتوليه عن عبدالله بن أم مكتوم. ويقال: عمرو بن أم مكتوم، واسم أم مكتوم عاتكة بنت عامر بن مخزوم، وعمرو هذا: هو ابن قيس بن زائدة بن الأصم، وهو ابن خال خديجة رضي الله عنها. وكان قد تشاغل عنه برجل من عظماء المشركين، يقال كان الوليد بن المغيرة. قال ابن العربي: أما قول علمائنا إنه الوليد بن المغيرة فقد قال آخرون إنه أمية بن خلف والعباس وهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين، ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة، ما حضر معهما ولا حضرا معه، وكان موتهما كافرين، أحدهما قبل الهجرة، والآخر ببدر، ولم يقصد قط أمية المدينة، ولا حضر عنده مفردا، ولا مع أحد.
أقبل ابن أم مكتوم والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الله تعالى، وقد قوي طمعه في إسلامهم وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم، فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، وجعل يناديه ويكثر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بغيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء: إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد؛ فعبس وأعرض عنه، فنزلت الآية. قال الثوري: فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول: (مرحبا بمن عاتبني فيه ربي). ويقول: (هل من حاجة)؟ واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما. قال أنس: فرأيته يوم القادسية راكبا وعليه درع ومعه راية سوداء.
قال علماؤنا: ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالما بأن النبي صلى الله عليه وسلم مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلامهم، ولكن الله تبارك وتعالى عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصفة؛ أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني، وكان النظر إلى المؤمن أولى وإن كان فقيرا أصلح وأولى من الأمر الآخر، وهو الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم، وإن كان ذلك أيضا نوعا من المصلحة، وعلى هذا يخرج قوله تعالى{ما كان لنبي أن يكون له أسرى}الأنفال: 67] الآية على ما تقدم. وقيل: إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الرجل، ثقة بما كان في قلب ابن مكتوم من الإيمان؛ كما قال: (إني لأصل الرجل وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه )
قال ابن زيد: إنما عبس النبي صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم وأعرض عنه؛ لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه، فدفعه ابن أم مكتوم، وأبي إلا أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلمه، فكان في هذا نوع جفاء منه. ومع هذا أنزل الله في حقه على نبيه صلى الله عليه وسلم{عبس وتولى} بلفظ الإخبار عن الغائب، تعظيما له ولم يقل: عبست وتوليت. ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسا له فقال{وما يدريك} أي يعلمك {لعله} يعني ابن أم مكتوم {يزكى} بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين، بأن يزداد طهارة في دينه، وزوال ظلمة الجهل عنه. وقيل: الضمير في {لعله} للكافر يعني إنك إذا طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذكر، فتقربه الذكرى إلى قبول الحق وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن. وقرأ الحسن {آأن جاءه الأعمى} بالمد على الاستفهام فـ{أن} متعلقة بفعل محذوف دل عليه {عبس وتولى} التقدير: آأن جاءه أعرض عنه وتولى؟ فيوقف على هذه القراءة على {وتولى}، ولا يوقف عليه على قراءة الخبر، وهي قراءة العامة.
نظير هذه الآية في العتاب قوله تعالى في سورة الأنعام{ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي}الأنعام: 52] وكذلك قول في سورة الكهف{ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا}الكهف: 28] وما كان مثله، والله أعلم.
{أو يذكر} يتعظ بما تقول {فتنفعه الذكرى} أي العظة. وقراءة العامة {فتنفعه} بضم العين، عطفا على {يزكى}. وقرأ عاصم وابن أبي إسحاق وعيسى {فتنفعه} نصبا. وهي قراءة السلمي وزر بن حبيش، على جواب لعل، لأنه غير موجب؛ كقوله تعالى{لعلي أبلغ الأسباب}غافر: 36] ثم قال{فاطلع}الصافات: 55].
الآية رقم (5 : 10)
{أما من استغنى، فأنت له تصدى، وما عليك ألا يزكى، وأما من جاءك يسعى، وهو يخشى، فأنت عنه تلهى}
قوله تعالى{أما من استغنى} أي كان ذا ثروة وغنى {فأنت له تصدى} أي تعرض له، وتصغي لكلامه. والتصدي: الإصغاء؛ قال الراعي:
تصدي لو ضاح كأن جبينه سراج الدجي يحني إليه الأساور
وأصله تتصدد من الصد، وهو ما استقبلك، وصار قبالتك؛ يقال: داري صدد داره أي قبالتها، نصب على الظرف. وقيل: من الصدى وهو العطش. أي تتعرض له كما يتعرض العطشان للماء، والمصاداة: المعارضة. وقراءة العامة {تصدى} بالتخفيف، على طرح التاء الثانية تخفيفا. وقرأ نافع وابن محيصن بالتشديد على الإدغام. {وما عليك ألا يزكى} أي لا يهتدي هذا الكافر ولا يؤمن، إنما أنت رسول، ما عليك إلا البلاغ. {وأما من جاءك يسعى} يطلب العلم لله {وهو يخشى} أي يخاف الله. {فأنت عنه تلهى} أي تعرض عنه بوجهك وتشغل بغيره. وأصله تتلهى؛ يقال: لهيت عن الشيء ألهى: أي تشاغلت عنه. والتلهي: التغافل. ولهيتُ عنه وتليتُ: بمعنى.
">الآية رقم (11 : 16)">
الآية رقم (11 : 16)
{كلا إنها تذكرة، فمن شاء ذكره، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة}
قوله تعالى{كلا} كلمة ردع وزجر؛ أي ما الأمر كما تفعل مع الفريقين؛ أي لا تفعل بعدها مثلها: من إقبالك على الغني، وإعراضك عن المؤمن الفقير. والذي جرى من النبي صلى الله عليه وسلم كان ترك الأولى كما تقدم، ولو حمل على صغيرة لم يبعد؛ قاله القشيري. والوقف على {كلا} على هذا الوجه: جائز. ويجوز أن تقف على {تلهي} ثم تبتدئ {كلا} على معنى حقا. {إنها} أي السورة أو آيات القرآن {تذكرة} أي موعظة وتبصرة للخلق {فمن شاء ذكره} أي اتعظ بالقرآن. قال الجُرجاني{إنها} أي القرآن، والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة، أخرجه على لفظ التذكرة، ولو ذكره لجاز؛ كما قال تعالى في موضع آخر{كلا إنه تذكرة}. ويدل على أنه أراد القرآن قوله{فمن شاء ذكره} أي كان حافظا له غير ناس؛ وذكر الضمير، لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ. وروى الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى{فمن شاء ذكره} قال من شاء الله تبارك وتعالى ألهمه. ثم أخبر عن جلالته فقال{في صحف} جمع صحيفة {مكرمة} أي عند الله؛ قاله السدي. الطبري{مكرمة} في الدين لما فيها من العلم والحكم. وقيل{مكرمة} لأنها نزل بها كرام الحفظة، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ. وقيل{مكرمة} لأنها نزلت من كريم؛ لأن كرامة الكتاب من كرامة صاحبه. وقيل: المراد كتب الأنبياء؛ دليله{إن هذا لفي الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى}الأعلى:19]. {مرفوعة} رفيعة القدر عند الله. وقيل: مرفوعة عنده تبارك وتعالى. وقيل: مرفوعة في السماء السابعة، قاله يحيى بن سلام. الطبري: مرفوعة الذكر والقدر. وقيل: مرفوعة عن الشبه والتناقض. {مطهرة} قال الحسن: من كل دنس. وقيل: مصانة عن أن ينالها الكفار. وهو معنى قول السدي. وعن الحسن أيضا: مطهرة من أن تنزل على المشركين. وقيل: أي القرآن أثبت للملائكة في صحف يقرؤونها فهي مكرمة مرفوعة مطهرة. {بأيدي سفرة} أي الملائكة الذين جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله، فهم بررة لم يتدنسوا بمعصية. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هي مطهرة تجعل التطهير لمن حملها {بأيدي سفرة} قال: كتبة. وقاله مجاهد أيضا. وهم الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد في الأسفار، التي هي الكتب، وأحدهم: سافر؛ كقولك: كاتب وكتبة. ويقال: سفرت أي كتبت، والكتاب: هو السفر، وجمعه أسفار.
قال الزجاج: وإنما قيل للكتاب سفر، بكسر السين، وللكاتب سافر؛ لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه. يقال: أسفر الصبح: إذا أضاء، وسفرت المرأة: إذا كشفت النقاب عن وجهها. قال: ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة: أصلحت بينهم. وقال الفراء، وأنشد:
فما أدع السفارة بين قومي ولا أمشي بغش إن مشيت
والسفير: الرسول والمصلح بين القوم والجمع: سفراء، مثل فقيه وفقهاء. ويقال للوراقين سفراء، بلغة العبرانية. وقال قتادة: السفرة هنا: هم القراء، لأنهم يقرؤون الأسفار. وعنه أيضا كقول ابن عباس. وقال وهب بن منبه{بأيدي سفرة. كرام بررة} هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن العربي: لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة، كراما بررة، ولكن ليسوا بمرادين بهذه الآية، ولا قاربوا المرادين بها، بل هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق، ولا يشاركهم فيها سواهم، ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم. وروي في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له، مع السفرة الكرام البررة؛ ومثل الذي يقرؤه وهو يتعاهده، وهو عليه شديد، فله أجران] متفق عليه، واللفظ للبخاري. {كرام} أي كرام على ربهم؛ قال الكلبي. الحسن: كرام عن المعاصي، فهم يرفعون أنفسهم عنها. وروى الضحاك عن ابن عباس في {كرام} قال: يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته، أو تبرز لغائطه. وقيل: أي يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم. {بررة} جمع بار مثل كافر وكفرة، وساحر وسحرة، وفاجر وفجرة؛ يقال: بر وبار إذا كان أهلا للصدق، ومنه بر فلان في يمينه: أي صدق، وفلان يبر خالقه ويتبرره: أي يطيعه؛ فمعنى {بررة} مطيعون لله، صادقون لله في أعمالهم. وقد مضى في سورة الواقعة قولة تعالى{إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون. لا يمسه إلا المطهرون}الواقعة:79] أنهم الكرام البررة في كتاب مكنون. {لا يمسه إلا المطهرون}الواقعة: 79] أنهم الكرام البررة في هذه السورة.
الآية رقم (17 : 23)
{قتل الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه، من نطفة خلقه فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقبره، ثم إذا شاء أنشره، كلا لما يقض ما أمره}
قوله تعالى{قتل الإنسان ما أكفره}؟ {قتل} أي لعن. وقيل: عذب. والإنسان الكافر. روى الأعمش عن مجاهد قال: ما كان في القرآن {قتل الإنسان} فإنما عني به الكافر. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب، وكان قد أمن، فلما نزلت {والنجم} آرتد، وقال: أمنت بالقرآن كله إلا النجم، فأنزل الله جل ثناؤه فيه {قتل الإنسان} أي لعن عتبة حيث كفر بالقرآن، ودعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [اللهم سلط عليه كلبك أسد الغاضرة] فخرج من فوره بتجارة إلى الشام، فلما انتهى إلى الغاضرة تذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لمن معه ألف دينار إن هو أصبح حيا، فجعلوه في وسط الرفقة، وجعلوا المتاع حول، فبينما هم على ذلك أقبل الأسد، فلما دنا من الرحال وثب، فإذا هو فوقه فمزقه، وقد كان أبوه ندبه وبكى وقال: ما قال محمد شيئا قط إلا كان. وروى أبو صالح عن ابن عباس {ما أكفره}: أي شيء أكفره؟ وقيل{ما} تعجب؛ وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا: قاتله الله ما أحسنه! وأخزاه الله ما أظلمه؛ والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا. وقيل: ما أكفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه على التعجب أيضا؛ قال ابن جريج: أي ما أشد كفره! وقيل{ما} استفهام أي أي شيء دعاه إلى الكفر؛ فهو استفهام توبيخ. و{ما} تحتمل التعجب، وتحتمل معنى أي، فتكون استفهاما.
قوله تعالى{من أي شيء خلقه} أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر فيتكبر؟ أي اعجبوا لخلقه. {من نطفة} أي من ماء يسير مهين جماد {خلقه} فلم يغلط في نفسه؟! قال الحسن: كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين. {فقدره} في بطن أمه. كذا روى الضحاك عن ابن عباس: أي قدر يديه ورجليه وعينيه وسائر آرابه، وحسنا ودميما، وقصيرا وطويلا، وشقيا وسعيدا. وقيل{فقدره} أي فسواه كما قال{أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا}. وقال{الذي خلقك فسواك}. وقيل{فقدره} أطوارا أي من حال إلى حال؛ نطفة ثم علقة، إلى أن تم خلقه. {ثم السبيل يسره} قال ابن عباس في رواية عطاء وقتادة والسدي ومقاتل: يسره للخروج من بطن أمه. مجاهد: يسره لطريق الخير والشر؛ أي بين له ذلك. دليله{إنا هديناه السبيل} و{هديناه النجدين}. وقاله الحسن وعطاء وابن عباس أيضا في رواية أبي صالح عنه. وعن مجاهد أيضا قال: سبيل الشقاء والسعادة. ابن زيد: سبيل الإسلام. وقال أبو بكر بن طاهر يسر على كل أحد ما خلقه له وقدره عليه؛ دليله قوله عليه السلام: [اعملوا فكل ميسر لما خلق له].
قوله تعالى{ثم أماته فأقبره} أي جعل له قبرا يواري فيه إكراما، ولم يجعله مما يلقي على وجه الأرض تأكله الطير والعوافي؛ قال الفراء. وقال أبو عبيدة{أقبره}: جعل له قبرا، وأمر أن يقبر. قال أبو عبيدة: ولما قتل عمر بن هبيرة صالح بن عبدالرحمن، قالت بنو تميم ودخلوا عليه: أقبرنا صالحا؛ فقال: دونكموه. وقال{أقبره} ولم يقل قبره؛ لأن القابر هو الدافن بيده، قال الأعشى:
لو أسندت ميتا إلى نحرها عاش ولم ينقل إلى قابر
يقال: قبرت الميت: إذا دفنته، وأقبره الله: أي صيره بحيث يقبر، وجعل له قبرا؛ تقول العرب: بترت ذنب البعير، وأبتره الله، وعضبت قرن الثور، وأعضبه الله، وطردت فلانا، والله أطرده، أي صيره طريدا. {ثم إذا شاء أنشره} أي أحياه بعد موته. وقراءة العامة {أنشره} بالألف. وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب بن أبي حمزة {شاء نشره} بغير ألف، لغتان فصيحتان بمعنى؛ يقال: أنشر الله الميت ونشره؛ قال الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر
قوله تعالى{كلا لما يقض ما أمره} قال مجاهد وقتادة{لما يقض}: لا يقضي أحد ما أمر به. وكان ابن عباس يقول{لما يقض ما أمره} لم يف بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم. ثم قيل{كلا} ردع وزجر، أي ليس الأمر: كما يقول الكافر؛ فإن الكافر إذا أخبر بالنشور قال{ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى}فصلت: 50] ربما يقول قد قضيت ما أمرت به. فقال: كلا لم يقض شيئا بل هو كافر بي وبرسولي. وقال الحسن: أي حقا لم يقض: أي لم يعمل بما أمر به. و{ما} في قوله{لما} عماد للكلام؛ كقوله تعالى{فبما رحمة من الله}آل عمران: 159] وقول{عما قليل ليصبحن نادمين}المؤمنون: 40]. وقال الإمام ابن فورَك: أي: كلا لما يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان، بل أمره بما لم يقض له. ابن الأنباري: الوقف على {كلا} قبيح، والوقف على {أمره} و{نشره} جيد؛ فـ {كلا} على هذا بمعنى حقا.
">الآية رقم (24 : 32)">
الآية رقم (24 : 32)
{فلينظر الإنسان إلى طعامه، أنا صببنا الماء صبا، ثم شققنا الأرض شقا، فأنبتنا فيها حبا، وعنبا وقضبا، وزيتونا ونخلا، وحدائق غلبا، وفاكهة وأبا، متاعا لكم ولأنعامكم}
قوله تعالى{فلينظر الإنسان إلى طعامه} لما ذكر جل ثناؤه ابتداء خلق الإنسان، ذكر ما يسر من رزقه؛ أي فلينظر كيف خلق الله طعامه. وهذا النظر نظر القلب بالفكر؛ أي ليتدبر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته، وكيف هيأ له أسباب المعاش، ليستعد بها للمعاد. وروي عن الحسن ومجاهد قالا{فلينظر الإنسان إلى طعامه} أي إلى مدخله ومخرجه. وروى ابن أبي خيثمة عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (يا ضحاك ما طعامك) قلت: يا رسول الله! اللحم واللبن؛ قال: (ثم يصير إلى ماذا) قلت إلى ما قد علمته؛ قال: (فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا). وقال أبي بن كعب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن مطعم ابن آدم جعل مثلا للدنيا وإن قزحه وملحه فانظر إلى ما يصير]. وقال أبو الوليد: سألت ابن عمر عن الرجل يدخل الخلاء فينظر ما يخرج منه؛ قال: يأتيه الملك فيقول أنظر ما بخلت به إلى ما صار؟
قوله تعالى{أنا صببنا الماء صبا} قراءة العامة {إناء} بالكسر، على الاستئناف، وقرأ الكوفيون ورويس عن يعقوب {أنا} بفتح الهمزة، فـ{أنا} في موضع خفض على الترجمة عن الطعام، فهو بدل منه؛ كأنه قال{فلينظر الإنسان إلى طعامه} إلى {أنا صببنا} فلا يحسن الوقف على {طعامه} من هذه القراءة. وكذلك إن رفعت {أنا} بإضمار هو أنا صببنا؛ لأنها في حال رفعها مترجمة عن الطعام. وقيل: المعنى: لأنا صببنا الماء، فأخرجنا به الطعام، أي كذلك كان. وقرأ الحسين بن علي {أني} فقال، بمعنى كيف؟ فمن أخذ بهذه القراءة قال: الوقف على {طعامه} تام. ويقال: معنى {أني} أين، إلا أن فيها كناية عن الوجوه؛ وتأويلها: من أي وجه صببنا الماء؛ قال الكميت:
أني، ومن أين آبك الطرب من حيث لا صبوة ولا ريب
{صببنا الماء صبا}: يعني الغيث والأمطار. {ثم شققنا الأرض شقا} أي بالنبات {فأنبتنا فيها حبا} أي قمحا وشعيرا وسلتا وسائر ما يقصد ويدخر {وعنبا وقضبا} وهو القت والعلف، عن الحسن: سمو، بذلك لأنه يقضب أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة. قال القتبي وثعلب: وأهل مكة يسمون القت القضب. وقال ابن عباس: هو الرطب لأنه يقضب من النخل: ولأنه ذكر العنب قبله. وعنه أيضا: أنه الفصفصة وهو القت الرطب. وقال الخليل: القضب الفِصْفِصْة الرطبة. وقيل: بالسين، فإذا يبست فهو قت. قال: والقضب: اسم يقع على ما يقضب من أغصان الشجرة، ليتخذ منها سهام أو قسي. ويقال: قضبا،يعني جميع ما يقضب، مثل القت والكراث وسائر البقول التي تقطع فينبت أصلها. وفي الصحاح: والقضة والقضب الرطبة، وهي الإسفست بالفارسية، والموضع الذي ينبت فيه مقضبة. {وزيتونا} وهي شجرة الزيتون {ونخلا} يعني النخيل {وحدائق} أي بساتين وأحدها حديقة. قال الكلبي: وكل شيء أحيط عليه من نخيل أو شجر فهو حداقة، وما لم يحط عليه فليس بحديقة. {غلبا} عظاما شجرها؛ يقال: شجرة غلباء، ويقال للأسد: الأغلب؛ لأنه مصمت العنق، لا يلتفت إلا جميعا؛ قال العجاج:
ما زلت يوم البين ألوي صَلَبي والرأس حتى صرت مثل الأغلب
ورجل أغلب بين الغلب إذا كان غليظ الرقبة. والأصل في الوصف بالغلب: الرقاب فاستعير؛ قال قال عمرو بن معدي كرب:
يمشي بها غُلب الرقاب كأنهم بزل كُسِين من الكحيل جِلالا
وحديقة غلباء: ملتفة وحدائق غلب. وأغلولب العشب: بلغ وألتف البعض بالبعض.
قال ابن عباس: الغلب: جمع أغلب وغلباء وهي الغلاظ. وعنه أيضا الطوال. قتادة وابن زيد: الغلب: النخل الكرام. وعن ابن زيد أيضا وعكرمة: عظام الأوساط والجذوع. مجاهد: ملتفة. {وفاكهة} أي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخوخ وغيرهما {وأبا} هو ما تأكله البهائم من العشب، قال ابن عباس والحسن: الأب: كل ما أنبتت الأرض، مما لا يأكله الناس، ما يأكله الآدميون هو الحصيد؛ ومنه قول الشاعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
له دعوة ميمونة ريحها الصبا بها ينبت الله الحصيدة والأبا
وقيل: إنما سمي أبا؛ لأنه يؤب أي يوم وينتجع. والأب والأم: أخوان؛ قال:
جذمنا قيس ونجد دارنا ولنا الأب به والمكرع
وقال الضحاك: والأب: كل شيء ينبت على وجه الأرض. وكذا قال أبو رزين: هو النبات. يدل عليه قول ابن عباس قال: الأب: ما تنبت الأرض مما يأكل الناس والأنعام. وعن ابن عباس أيضا وابن أبي طلحة: الأب: الثمار الرطبة. وقال الضحاك: هو التين خاصة. وهو محكي عن ابن عباس أيضا؛ قال الشاعر:
فما لهم مرتع للسوا م والأب عندهم يقدر
الكلبي: هو كل نبات سوى الفاكهة. وقيل: الفاكهة: رطب الثمار، والأب يابسها.
وقال إبراهيم التيمي: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن تفسير الفاكهة والأب فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت: في كتاب الله ما لا أعلم.
وقال أنس: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال: كل هذا قد عرفناه، فما الأب؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلف، وما عليك يا ابن أم عمر ألا تدري ما الأب؟ ثم قال: اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلقتم من سبع، ورزقتم من سبع، فاسجدوا لله على سبع). وإنما أراد بقول: (خلقتم من سبع) يعني {من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة}الحج: 5] الآية، والرزق من سبع، وهو قوله تعالى{قأنبتنا فيها حبا وعنبا} إلى قوله{وفاكهة} ثم قال{وأبا} وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم، وأنه مما تختص به البهائم. والله أعلم. {متاعا لكم} نصب على المصدر المؤكد، لأن إنبات هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات. وهذا ضرب مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم، كنبات الزرع بعد دثوره، كما تقدم بيانه في غير موضع. ويتضمن آمتنانا عليهم بما أنعم به، وقد مضى في غير موضع أيضا.
الآية رقم ( 33 : 42)
{فإذا جاءت الصاخة، يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، وجوه يومئذ مسفرة، ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة، ترهقها قترة، أولئك هم الكفرة الفجرة}
قوله تعالى{فإذا جاءت الصاخة} لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة، وبالإنفاق مما أمتن به عليهم. والصاخة: الصيحة التي تكون عنها القيامة، وهي النفخة الثانية، تصخ الأسماع: أي تصمها فلا تسمع إلا ما يدعى به للأحياء. وذكر ناس من المفسرين قالوا: تصيخ لها الأسماع، من قولك: أصاخ إلى كذا: أي استمع إليه، ومنه الحديث: (ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة إلا الجن والإنس). وقال الشاعر:
يصيخ للنبأة أسماعه إصاخة المنشد للمنشد
قال بعض العلماء: وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء، فأما اللغة فمقتضاها القول الأول، قال الخليل: الصاخة: صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها بشدة وقعتها. وأصل الكلمة في اللغة: الصك الشديد. وقيل: هي مأخوذة من صخه بالحجر: إذا صكه قال الراجز:
يا جارتي هل لك أن تجالدي جلادة كالصك بالجلامد
ومن هذا الباب قول العرب: صختهم الصاخة وباتتهم البائتة، وهي الداهية. الطبري: وأحسبه من صخ فلان فلانا: إذا أصماه. قال ابن العربي: الصاخة التي تورث الصمم، وإنها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة، حتى لقد قال بعض حديثي الأسنان حديثي الأزمان:
أَصَمَّ بك الناعي وإن كان أسمعا
وقال آخر:
أَضَمَّني سِرُّهم أيام فرقتهم فهل سمعتم بسر يورث الصمما
لعمر الله إن صيحة القيامة لمسمعة تصم عن الدنيا، وتسمع أمور الآخرة.
قوله تعالى{يوم يفر المرء من أخيه} أي يهرب، أي تجيء الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه؛ أي من موالاة أخيه ومكالمته؛ لأنه لا يتفرغ لذلك، لاشتغاله بنفسه؛ كما قال بعده{لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} أي يشغله عن غيره. وقيل: إنما يفر حذرا من مطالبتهم إياه، لما بينهم من التبعات. وقيل: لئلا يروا ما هو فيه من الشدة. وقيل: لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا؛ كما قال{يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا}الدخان: 41]. وقال عبدالله بن طاهر الأبهري: يفر منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى ربه تعالى.
وذكر الضحاك عن ابن عباس قال: يفر قابيل من أخيه هابيل، ويفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه، وإبراهيم عليه السلام من أبيه، ونوح عليه السلام من ابنه، ولوط من امرأته، وآدم من سوأة بنيه. وقال الحسن: أول من يفر يوم القيامة من، أبيه: إبراهيم، وأول من يفر من ابنه نوح؛ وأول من يفر من امرأته لوط. قال: فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم وهذا فرار التبرؤ. {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}. في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: [يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا] قلت، يا رسول الله! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: [يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض]." خرجه الترمذي. عن ابن عباس": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يحشرون حفاة عراة غرلا] فقالت امرأة: أينظر بعضنا، أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: [يا فلانة] {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}. قال: حديث حسن صحيح. وقراءة العامة بالغين المعجمة؛ أي حال يشغله عن الأقرباء. وقرأ ابن محيصن وحميد {يعنيه} بفتح الياء، وعين غير معجمة؛ أي يعنيه أمره. وقال القتبي: يعنيه: يصرفه ويصده عن قرابته، ومنه يقال: أعن عني وجهك: أي أصرفه واعن عن السفيه؛ قال خفاف:
سيعنيك حرب بني مالك عن الفحش والجهل في المحفل
قوله تعالى{وجوه يومئذ مسفرة} أي مشرقة مضيئة، قد علمت مالها من الفوز والنعيم، وهي وجوه المؤمنين. {ضاحكة} أي مسرورة فرحة. {مستبشرة}: أي بما آتاها الله من الكرامة. وقال عطاء الخراساني{مسفرة} من طول ما اغبرت في سبيل الله جل ثناؤه. ذكره أبو نعيم. الضحاك: من آثار الوضوء. ابن عباس: من قيام الليل؛ لما روي في الحديث: [من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار] يقال: أسفر الصبح إذا أضاء. {ووجوه يومئذ عليها غبرة} أي غبار ودخان {ترهقها} أي تغشاها {قترة} أي كسوف وسواد. كذا قال ابن عباس. وعنه أيضا: ذلة وشدة. والقتر في كلام العرب: الغبار، جمع القترة، عن أبي عبيد؛ وأنشد الفرزدق:
متوج برداء الملك يتبعه موج ترى فوقه الرايات والقترا
وفي الخبر: إن البهائم إذا صارت ترابا يوم القيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار. وقال زيد بن أسلم، القترة: ما ارتفعت إلى السماء، والغبرة: ما انحطت إلى الأرض، والغبار والغبرة: واحد. {أولئك هم الكفرة} جمع كافر {الفجرة} جمع فاجر، وهو الكاذب المفتري على الله تعالى. وقيل: الفاسق؛ [يقال]: فجر فجورا: أي فسق، وفجر: أي كذب. وأصله: الميل، والفاجر: المائل. وقد مضى بيانه والكلام فيه. والحمد لله وحده
وفي الترمذي: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلي يوم القيامة [كأنه رأي عين] فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت). قال: هذا حديث حسن [غريب].
الآية رقم (1 : 14)
{إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت، وإذا العشار عطلت، وإذا الوحوش حشرت، وإذا البحار سجرت، وإذا النفوس زوجت، وإذا الموؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت، وإذا الصحف نشرت، وإذا السماء كشطت، وإذا الجحيم سعرت، وإذا الجنة أزلفت، علمت نفس ما أحضرت}
قوله تعالى{إذا الشمس كورت} قال ابن عباس: تكويرها: إدخالها في العرش. والحسن: ذهاب ضوئها. وقاله قتادة ومجاهد: وروي عن ابن عباس أيضا. سعيد بن جبير: عورت. أبو عبيدة: كورت مثل تكوير العمامة، تلف فتمحى. وقال الربيع بن خيثم{كورت رمي بها؛ ومنه: كورته فتكور؛ أي سقط.
قلت: وأصل التكوير: الجمع، مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها أي لاثها وجمعها فهي تكور ويمحى ضوءها، ثم يرمى بها في البحر. والله أعلم. وعن أبي صالح: كورت: نكست.
{وإذا النجوم انكدرت} أي تهافتت وتناثرت. وقال أبو عبيدة: أنصبت كما تنصب العقاب إذا انكسرت. قال العجاج يصف صقرا:
أبصر خربان فضاء فانكدر تقضِّيَ البازي إذا البازي كسر
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبقى في السماء يومئذ نجم إلا سقط في الأرض، حتى يفزع أهل الأرض السابعة مما لقيت وأصاب العليا)، يعني الأرض. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: تساقطت؛ وذلك أنها قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور، وتلك السلاسل بأيدي ملائكة من نور، فإذا جاءت النفخة الأولى مات، من في الأرض ومن في السموات، فتناثرت تلك الكواكب وتساقطت السلاسل من أيدي الملائكة؛ لأنه مات من كان يمسكها. ويحتمل أن يكون انكدارها طمس آثارها. وسميت النجوم نجوما لظهورها في السماء بضوئها. وعن ابن عباس أيضا: انكدرت تغيرت فلم يبق لها ضوء لزوالها عن أماكنها. والمعنى متقارب.
قوله تعالى{وإذا الجبال سيرت} يعني قلعت من الأرض، وسيرت في الهواء؛ وهو مثل قوله تعالى{ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة}الكهف: 47]. وقيل: سيرها تحولها عن منزلة الحجارة، فتكون كثيبا مهيلا أي رملا سائلا وتكون كالعهن، وتكون هباء منثورا، وتكون سرابا، مثل السراب الذي ليس بشيء. وعادت الأرض قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمنا. وقد تقدم في غير موضع والحمد لله. {وإذا العشار عطلت} أي النوق الحوامل التي في بطونها أولادها؛ الواحدة عشراء أو التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وبعدما تضع أيضا. ومن عادة العرب أن يسموا الشيء باسمه المتقدم وإن كان قد جاوز ذلك؛ يقول الرجل لفرسه وقد قرح: هاتوا مهري وقربوا مهري، ويسميه بمتقدم اسمه؛ قال عنترة:
لا تذكري مهري وما أطمعته فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
وقال أيضا:
وحملت مهري وسطها فمضاها
وإنما خص العشار بالذكر؛ لأنها أعزما تكون على العرب، وليس عطلها أهلها إلا حال القيامة. وهذا على وجه المثل؛ لأن في القيامة لا تكون ناقة عشراء، ولكن أراد به المئل؛ أن هول يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه. وقيل: إنهم إذا قاموا من قبورهم، وشاهد بعضهم بعضا، ورأوا الوحوش والدواب محشورة، وفيها عشارهم التي كانت أنفس أموالهم، لم يعبؤوا بها، ولم يهمهم أمرها. وخوطبت العرب بأمر العشار؛ لأن مالها وعيشها أكثره من الإبل. وروى الضحاك عن ابن عباس: عطلت: عطلها أهلها، لاشتغالهم بأنفسهم. وقال الأعشى:
هو الواهب المائة المصطفا ة إما مخاضا وإما عشارا
وقال آخر:
ترى المرء مهجورا إذا قل ماله وبيت الغني يهدي له ويزار
وما ينفع الزوار مال مزورهم إذا سرحت شول له وعشار
يقال: ناقة عشراء، وناقتان عشراوان، نوق عشار وعشراوات، يبدلون من همزة التأنيث واوا. وقد عشرت الناقة تعشبوا: أي صارت عشراء. وقيل: العشار: السحاب يعطل مما يكون فيه وهو الماء فلا يمطر؛ والعرب تشبه السحاب بالحامل. وقيل: الديار تعطل فلا تسكن. وقيل: الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع. والأول أشهر، وعليه من الناس الأكثر.
قوله تعالى{وإذا الوحوش حشرت} أي جمعت والحشر: الجمع. عن الحسن وقتادة وغيرهما. وقال ابن عباس: حشرها: موتها. رواه عنه عكرمة. وحشر كل شيء: الموت غير الجن والإنس، فإنهما يوافيان يوم القيامة. وعن ابن عباس أيضا قال: يحشر كل شيء حتى الذباب. قال ابن عباس: تحشر الوحوش غدا: أي تجمع حتى يقتص لبعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء، ثم يقال لها كوني ترابا فتموت. وهذا أصح مما رواه عنه عكرمة، وقد بيناه في كتاب التذكرة مستوفى، ومضى في سورة الأنعام بعضه. أي إن الوحوش إذا كانت هذه حالها فكيف ببني آدم. وقيل: عني بهذا أنها مع نفرتها اليوم من الناس وتنددها في الصحاري، تنضم غدا إلى الناس من أهوال ذلك اليوم. قال معناه أبي بن كعب.
قوله تعالى{وإذا البحار سجرت} أي ملئت من الماء؛ والعرب تقول: سجرت الحوض أسجره سجرا: إذا ملأته، وهو مسجور والمسجور والساجر في اللغة: الملآن. وروى الربيع بن خيثم: سجرت: فاضت وملئت. وقاله الكلبي ومقاتل والحسن والضحاك. قال ابن أبي زمنين: سجرت: حقيقته ملئت، فيفيض بعضها إلى بعض فتصير شيئا واحدا. وهو معنى قول الحسن. وقيل: أرسل عذبها على مالحها ومالحها على عذبها، حتى امتلأت. عن الضحاك ومجاهد: أي فجرت فصارت بحرا واحدا. القشيري: وذلك بأن يرفع الله الحاجز الذي ذكره في قوله تعالى{بينهما برزخ لا يبغيان}الرحمن: 20]، فإذا رفع ذلك البرزخ تفجرت مياه البحار، فعمت الأرض كلها، وصارت البحار بحرا واحدا. وقيل: صارت بحرا واحدا من الحميم لأهل النار. وعن الحسن أيضا وقتادة وابن حيان: تيبس فلا يبقى من مائها قطرة. القشيري: وهو من سجرت التنور أسجره سجرا: إذا أحميته وإذا سلط عليه الإيقاد نشف ما فيه من الرطوبة وتسير الجبال حينئذ وتصير البحار والأرض كلها بساطا واحدا، بأن يملأ مكان البحار بتراب الجبال. وقال النحاس: وقد تكون الأقوال متفقة؛ يكون تيبس من الماء بعد أن يفيض، بعضها إلى بعض، فتقلب نارا. قلت: ثم سير الجبال حينئذ، كما ذكر القشيري، والله أعلم. وقال ابن زيد وشمر وعطية وسفيان ووهب وأبي وعلي بن أبي طالب وابن عباس في رواية الضحاك عنه: أوقدت فصارت نارا. قال ابن عباس: يكور الله الشمس والقمر والنجوم في البحر، ثم يبعث الله عليها ريحا دبورا، فتنفخه حتى يصير نارا. وكذا في بعض الحديث: (يأمر الله جل ثناؤه الشمس والقمر والنجوم فينتثرون في البحر، ثم يبعث الله جل ثناؤه الدبور فيسجرها نارا، فتلك نارا، فتلك نار الله الكبرى، التي يعذب بها الكفار). قال القشيري: قيل في تفسير قول ابن عباس {سجرت} أوقدت، يحتمل أن تكون جهنم في قعور من البحار، فهي الآن غير مسجورة لقوام الدنيا، فإذا أنقضت الدنيا سجرت، فصارت كلها نارا يدخلها الله أهلها. ويحتمل أن تكون تحت البحر نار، ثم يوقد الله البحر كله فيصير نارا. وفي الخبر: البحر نار. في نار. وقال معاوية بن سعيد: بحر الروم وسط الأرض، أسفله آبار مطبقة بنحاس يسجر نارا يوم القيامة. وقيل: تكون الشمس في البحر، فيكون البحر نارا بحر الشمس. ثم جميع ما في هذه الآيات يجوز أن يكون في الدنيا قبل يوم القيامة ويكون من أشراطها، ويجوز أن يكون يوم القيامة، وما بعد هذه الآيات فيكون في يوم القيامة. قلت: روي عن عبدالله بن عمرو: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم. وقال أبي بن كعب: ست آيات من قبل يوم القيامة: بينما الناس في أسواقهم ذهب ضوء الشمس وبدت النجوم فتحيروا ودهشوا، فبينما هم كذلك ينظرون إذ تناثرت النجوم وتساقطت، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت واضطربت واحترقت، فصارت هباء منثورا، ففزعت الإنس إلى الجن والجن إلى الإنس، واختلطت الدواب والوحوش والهوام والطير، وماج بعضها في بعض؛ فذلك قوله تعالى{وإذا الوحوش حشرت} ثم قالت الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحار فإذا هي نار تأجج، فبينما هم كذلك تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلي، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم. وقيل: معنى {سجرت}: هو حمرة مائها، حتى تصير كالدم؛ مأخوذ من قولهم: عين سجراء: أي حمراء. وقرأ ابن كثير {سجرت} وأبو عمرو أيضا، إخبارا عن حالها مرة واحدة. وقرأ الباقون بالتشديد إخبارا عن حالها في تكرير ذلك منها مرة بعد أخرى.
قوله تعالى{وإذا النفوس زوجت} قال النعمان بن بشير: قال النبي صلى الله عليه وسلم {وإذا النفوس زوجت} قال: (يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله). وقال عمر بن الخطاب: يقرن الفاجر مع الفاجر، ويقرن الصالح مع الصالح. وقال ابن عباس: ذلك حين يكون الناس أزواجا ثلاثة، السابقون زوج - يعني صنفا - وأصحاب اليمين زوج، وأصحاب الشمال زوج. وعنه أيضا قال: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرن الكافر بالشياطين، وكذلك المنافقون وعنه أيضا: قرن كل شكل بشكله من أهل الجنة وأهل النار، فيضم المبرز في الطاعة إلى مثله، والمتوسط إلى مثله، وأهل المعصية إلى مثله؛ فالتزويج أن يقرن الشيء بمثله؛ والمعنى: وإذا النفوس قرنت إلى أشكالها في الجنة والنار. وقيل: يضم كل رجل إلى من كان يلزمه من ملك وسلطان، كما قال تعالى{احشروا الذين ظلموا وأزواجهم}الصافات: 22]. وقال عبدالرحمن بن زيد: جعلوا أزواجا على أشباه أعمالهم ليس بتزويج، أصحاب اليمين زوج، وأصحاب الشمال زوج، والسابقون زوج؛ وقد قال جل ثناؤه{احشروا الذين ظلموا وأزواجهم}الصافات: 22] أي أشكالهم. وقال عكرمة{وإذا النفوس زوجت} قرنت الأرواح بالأجساد؛ أي ردت إليها. وقال الحسن: ألحق كل امرئ بشيعته: اليهود باليهود، والنصاري بالنصارى، والمجوس بالمجوس، وكل من كان يعبد شيئا من دون الله يلحق بعضهم ببعض، والمنافقون بالمنافقين، والمؤمنون بالمؤمنين. وقيل: يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان، على جهة البغض والعداوة، ويقرن المطيع بمن دعاه إلى الطاعة من الأنبياء والمؤمنين. وقيل: قرنت النفوس بأعمالها، فصارت لاختصاصها به كالتزويج.
قوله تعالى{وإذا الموؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت} الموؤودة المقتولة؛ وهي الجارية تدفن وهي حية، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب، فيوءدها أي يثقلها حتى تموت؛ ومنه قوله تعالى{ولا يؤوده حفظهما}البقرة: 255] أي لا يثقله؛ وقال متمم بن نويرة:
وموؤودة مقبورة في مفازة بآمتها موسودة لم تمهد
وكانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين: إحداهما كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به. الثانية إما مخافة الحاجة والإملاق، وإما خوفا من السبي والاسترقاق. وقد مضى في سورة النحل هذا المعنى، عند قوله تعالى{أم يدسه في التراب}النحل: 59] مستوفى. وقد كان ذوو الشرف منهم يمتنعون من هذا، ويمنعون منه، حتى افتخر به الفرزدق، فقال:
ومنا الذي منع الوائدات فأحيا الوئيد فلم يوأَد
يعني جده صعصعة كان يشتريهن من آبائهن. فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موؤودة. وقال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة، وتمخضت على رأسها، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة، وردت التراب عليها، وإن ولدت غلاما حبسته، ومنه قوال الراجز: سميتها إذ ولدت تموت والقبر صهر ضامن زميت الزميت الوقور، والزميت مثال الفسيق أوقر من الزميت، وفلان أزمت الناس أي أوقرهم، وما أشد تزمته؛ عن الفراء. وقال قتادة: كانت الجاهلية يقتل أحدهم ابنته، ويغذو كلبه، فعاتبهم الله على ذلك، وتوعدهم بقوله{وإذا الموؤودة سئلت} قال عمر في قوله تعالى{وإذا الموؤودة سئلت} قال: جاء قيس بن عاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني وأدت ثماني بنات كن لي في الجاهلية، قال: (فأعتق عن كل واحدة منهن رقبة) قال: يا رسول الله إني صاحب إبل، قال: (فاهد عن كل واحدة منهن بدنة إن شئت).
وقوله تعالى{سئلت} سؤال الموؤودة سؤال توبيخ لقاتلها، كما يقال للطفل إذا ضرب: لم ضربت؟ وما ذنبك؟ قال الحسن: أراد الله أن يوبخ قاتلها؛ لأنها قتلت بغير ذنب. وقال ابن أسلم: بأي ذنب ضربت، وكانوا يضربونها. وذكر بعض أهل العلم في قوله تعالى{سئلت} قال: طلبت؛ كأنه يريد كما يطلب بدم القتيل. قال: وهو كقوله{وكان عهد الله مسؤولا}الأحزاب: 15] أي مطلوبا. فكأنها طلبت منهم، فقيل أين أولادكم؟ وقرأ الضحاك وأبو الضحا عن جابر بن زيد وأبي صالح {وإذا الموؤودة سألت} فتتعلق الجارية بأبيها، فتقول: بأي ذنب قتلتني؟! فلا يكون له عذر؛ قال ابن عباس وكان يقرأ {وإذا الموؤودة سألت} وكذلك هو في مصحف أبي. وروى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقا ولدها بثدييها، ملطخا بدمائه، فيقول يا رب، هذه أمي، وهذه قتلتني). والقول الأول عليه الجمهور، وهو مئل قوله تعالى لعيسى{أأنت قلت للناس}، على جهة التوبيخ والتبكيت لهم، فكذلك سؤال الموؤودة توبيخ لوائدها، وهو أبلغ من سؤالها عن قتلها؛ لأن هذا مما لا يصح إلا بذنب، فبأي ذنب كان ذلك، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها، كان أعظم في البلية وظهور الحجة على قاتلها. والله أعلم. وقرئ {قتلت} بالتشديد، وفيه دليل بين على أن أطفال المشركين لا يعذبون، وعلى أن التعذيب لا يستحق إلا بذنب.
قوله تعالى{وإذا الصحف نشرت} أي فتحت بعد أن كانت مطوية، والمراد صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير وشر، تطوي بالموت، وتنشر في يوم القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته، فيعلم ما فيها، فيقول{مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}الكهف: 49]. وروى مرثد بن وداعة قال: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده {في جنة عالية}الحاقة: 22] إلى قوله{الأيام الخالية}الحاقة: 24] وتقع صحيفة الكافر في يده {في سموم وحميم} إلى قوله {ولا كريم}الواقعة: 42]. وروي عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة) فقلت: يا رسول الله فكيف بالنساء؟ قال: (شغل الناس يا أم سلمة). قلت: وما شغلهم؟ قال: (نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل). وقد مضى في سورة الإسراء قول أبي الثوار العدوي: هما نشرتان وطية، أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت، فإذا مت طويت، حتى إذا بعثت نشرت {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا}الإسراء: 14]. وقال مقاتل: إذا مات المرء طويت صحيفة عمله، فإذا كان يوم القيامة نشرت. وعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال: إليك يساق الأمر يا ابن آدم. وقرأ نافع وابن عام وعاصم وأبو عمرو {نشرت} مخففة، على نشرت مرة واحدة، لقيام الحجة. الباقون بالتشديد، على تكرار النشر، للمبالغة في تقريع العاصي، وتبشير المطيع. وقيل: لتكرار ذلك من الإنسان والملائكة الشهداء عليه.
قوله تعالى{وإذا السماء كشطت} الكشط: قلع عن شدة التزاق؛ فالسماء تكشط كما يكشط الجلد عن الكبش وغيره والقشط: لغة فيه. وفي قراءة عبدالله {وإذا السماء قشطت} وكشطت البعير كشطا: نزعت جلده ولا يقال سلخته؛ لأن العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته، وانكشط: أي ذهب؛ فالسماء تنزع من مكانها كما ينزع الغطاء عن الشيء. وقيل: تطوى كما قال تعالى{يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب}الأنبياء: 104] فكأن المعنى: قلعت فطويت. والله أعلم.
قوله تعالى{وإذا الجحيم سعرت} أي أو قدت فأضرمت للكفار وزيد في إحمائها. يقال: سعرت النار وأسعرتها. وقراءة العامة بالتخفيف من السعير. وقرأ نافع وابن ذكوان ورويس بالتشديد لأنها أوقدت مدة بعد مرة. قال قتادة: سعرها غضب الله وخطايا بني آدم. وفي الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة وروي موقوفا.
قوله تعالى{وإذا الجنة أزلفت} أي دنت وقربت من المتقين. قال الحسن: إنهم يقربون منها؛ لا أنها تزول عن موضعها. وكان عبدالرحمن بن زيد يقول: زينت: أزلفت؟ والزلفى في كلام العرب: القربة قال الله تعالى{وأزلفت الجنة للمتقين}الشعراء:90]، وتزلف فلان تقرب.
قوله تعالى{علمت نفس ما أحضرت} يعني ما عملت من خير وشر. وهذا جواب {إذا الشمس كورت} وما بعدها. قال عمر رضي الله عنه لهذا أجري الحديث. وروي عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما أنهما قرآها، فلما بلغا {علمت نفس ما أحضرت} قالا لهذا أجريت القصة؛ فالمعنى على هذا إذا الشمس كورت وكانت هذه الأشياء، علمت نفس ما أحضرت من عملها. وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ما بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدمه [وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم] بين يديه، فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن: يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل) وقال الحسن{إذ الشمس كورت} وقع على قوله{علمت نفس ما أحضرت} كما يقال: إذا نفر زيد نفر عمرو. والقول الأول أصح. وقال ابن زيد عن ابن عباس في قوله تعالى{إذا الشمس كورت} إلى قوله{وإذا الجنة أزلفت} اثنتا عشرة خصلة: ستة في الدنيا، وستة في الآخرة؛ وقد بينا الستة الأولى بقول أبي بن كعب.
الآية رقم (15 : 22)
{فلا أقسم بالخنس، الجوار الكنس، والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس، إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين، وما صاحبكم بمجنون}
قوله تعالى{فلا أقسم} أي أقسم، و{لا} زائدة، كما تقدم. {بالخنس، الجوار الكنس} هي الكواكب الخمسة الدراري: زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة، فيما ذكر أهل التفسير. والله أعلم. وهو مروي عن علي كرم الله وجهه. وفي تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم وجهان: أحدهما: لأنها تستقبل الشمس؛ قاله بكر بن عبدالله المزني. الثاني: لأنها تقطع المجرة؛ قال ابن عباس. وقال الحسن وقتادة: هي النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت، وقاله علي رضي الله عنه، قال: هي النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل؛ وتكنس في وقت غروبها؛ أي تتأخر عن البصر لخفائها، فلا ترى. وفي الصحاح{الخنس}: الكواكب كلها. لأنها تخنس في آن قيب، أو لأنها تخنس نهارا. ويقال: هي الكواكب السيارة منها دون الثابتة. وقال الفراء في قوله تعالى{فلا أقسم بالخنس. الجواري الكنس}: إنها النجوم الخمسة؛ زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد؛ لأنها تخنس في مجراها، وتكنس، أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار، وهو الكناس. ويقال: سميت خنسا لتأخرها، لأنها الكواكب المتحيرة التي ترجع وتستقيم، يقال: خنس عنه يحنس بالضم خنوسا: تأخر، وأخنسه غيره: إذا خلفه ومضى عنه. والخنس تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة، والرجل أخنس، والمرأة خنساء، والبقر كلها خنس. وقد روي عن عبدالله بن مسعود في قوله تعالى{فلا أقسم بالخنس} هي بقر الوحش. روى هشيم عن زكريا عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال: قال لي عبدالله بن مسعود: إنكم قوم عرب فما الخنس؟ قلت: هي بقر الوحش؛ قال: وأنا أرى ذلك. وقال إبراهيم وجابر بن عبدالله. وروي عن ابن عباس: إنما أقسم الله ببقر الوحش. وروى عنه عكرمة قال{الخنس}: البقر و{الكنس}: هي الظباء، فهي خنس إذا رأين الإنسان خنسن وأنقبضن وتأخرن ودخلن كناسهن. القشيري: وقيل على هذا {الخنس} من الخنس في الأنف، وهو تأخرن الأرنبة وقصر القصبة، وأنوف البقر والظباء خنس. والأصح الحمل على النجوم، لذكر الليل والصبح بعد هذا، فذكر النجوم أليق بذلك.
قلت: لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد، وإن لم يعلم وجه الحكمة في ذلك. وقد جاء عن ابن مسعود وجابر بن عبدالله وهما صحابيان والنخعي أنها بقر الوحش. وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أنها الظباء. وعن الحجاج بن منذر قال: سألت جابر بن زيد عن الجواري الكنس، فقال: الظباء والبقر، فلا يبعد أن يكون المراد النجوم. وقد قيل: إنها الملائكة؛ حكاه الماوردي. والكنس الغيب؛ مأخوذة من الكناس، وهو كناس الوحش الذي يختفي فيه. قال أوس بن حجر:
ألم تر أن الله أنزل مزنه وغفر الظباء في الكناس تقمع
وقال طرفة:
كأن كناسي ضالة يكنفانها وأطرقسي تحت صلب مؤيد
وقيل: الكنوس أن تأوي إلى مكانسها، وهي المواضع التي تأوي إليها الوحوش والظباء. قال الأعشى في ذلك:
فلما أتينا الحي أتلع أنس كما أتلعت تحت المكانس ربرب
يقال: تلع. النهار ارتفع وأتلعت الظبية من كناسها: أي سمت بجيدها. وقال امرؤ القيس:
تعشى قليلا ثم أنحى ظلوفه يثير التراب عن مبيت ومكنس
والكنس: جمع كانس وكانسة، وكذا الخنس جمع خانس وخانسة. والجواري: جمع جارية من جرى يجري. {والليل إذا عسعس} قال الفراء: أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر؛حكاه الجوهري. وقال بعض أصحابنا: إنه دنا من أوله وأظلم وكذلك السحاب إذا دنا من الأرض. المهدوي{والليل إذا عسعس} أدبر بظلامه؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وروي عنهما أيضا وعن الحسن وغيره: أقبل بظلامه. زيد بن أسلم{عسعس} ذهب. الفراء: العرب تقول عسعس وسعسع إذا لم يبق منه إلا اليسير. الخليل وغيره: عسعس الليل إذا أقبل أو أدبر. المبرد: هو من الأضداد، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد، وهو ابتداء الظلام في أوله، وإدباره في آخره؛ وقال علقمة بن قرط:
حتى إذا الصبح لها تنفسا وأنجاب عنها ليلها وعسعسا
وقال روبة:
يا هند ما أسرع ما تسعسعا من بعد ما كان فتى سرعرعا
وهذه حجة الفراء. وقال امرؤ القيس:
عسعس حتى لو يشاء ادَّنا كان لنا من ناره مقبس
فهذا يدل على الدنو. وقال الحسن ومجاهد: عسعس: أظلم، قال الشاعر:
حتى إذا ما ليلهن عسعسا ركبن من حد الظلام حندسا
الماوردي: وأصل العس الامتلاء؛ ومنه قيل للقدح الكبير عس لامتلائه بما فيه، فأطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه؛ وأطلق على إدباره لانتهاء امتلائه على ظلامه؛ لاستكمال امتلائه به. وأما قول امرئ القيس.
ألما على الربع القديم بعسعسا
فموضع بالبادية. وعسعس أيضا اسم رجل؛ قال الرجز:
وعسعس نعم الفتى تبياه
أي تعتمده. ويقال للذئب العسعس والعسعاس والعساس؛ لأنه يعس بالليل ويطلب. ويقال للقنافذ العساعس لكثرة ترددها بالليل. قال أبو عمرو: والتعسعس الشم، وأنشد:
كمنخر الذنب إذا تعسعسا
والتعسعس أيضا: طلب الصيد [بالليل].
قوله تعالى{والصبح إذا تنفس} أي امتد حتى يصير نهارا واضحا؛ يقال للنهار إذا زاد: تنفس. وكذلك الموج إذا نضح الماء. ومعن التنفس: خروج النسيم من الجوف. وقيل{إذا تنفس} أي انشق وانفلق؛ ومنه تنفست القوس أي تصدعت. {إنه لقول رسول كريم} هذا جواب القسم. والرسول الكريم جبريل؛ قال الحسن وقتادة والضحاك. والمعنى {إنه لقول رسول} عن الله {كريم} على الله. وأضاف الكلام إلى جبريل عليه السلام، ثم عداه عنه بقول {تنزيل من رب العالمين}الواقعة: 80] ليعلم أهل التحقيق في التصديق، أن الكلام لله عز وجل. وقيل: هو محمد عليه الصلاة والسلام {ذي قوة} من جعله جبريل فقوته ظاهرة فروى الضحاك عن ابن عباس قال: من قوته قلعه مدائن قوم لوط بقوادم جناحه. {عند ذي العرش} أي عند الله جل ثناؤه {مكين} أي ذي منزلة ومكانة؛ فروي عن أبي صالح قال: يدخل سبعين سرادقا بغير إذن. {مطاع ثم} أي في السموات؛ قال ابن عباس: من طاعة الملائكة جبريل، أنه لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قال جبريل عليه السلام لرضوان خازن الجنان: افتح له، ففتح، فدخل ورأى ما فيها، وقال لمالك خازن النار: افتح له جهنم حتى ينظر إليها، فأطاعه وفتح له. {أمين} أي مؤتمن على الوحي الذي يجيء به. ومن قال: إن المراد محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى {ذي قوة} على تبليغ الرسالة {مطاع} أي يطيعه من أطاع الله جل وعز. {وما صاحبكم بمجنون} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم بمجنون حتى يتهم في قول. وهو من جواب القسم. وقيل: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى جبريل في الصورة التي يكون بها عند ربه جل وعز فقال: ما ذاك إلي؛ فإذن له الرب جل ثناؤه، فأتاه وقد سد الأفق، فلما نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم خر مغشيا عليه، فقال المشركون: إنه مجنون، فنزلت{إنه لقول رسول كريم} {وما صاحبكم بمجنون} وإنما رأى جبريل على صورته فهابه، وورد عليه ما لم تحتمل بنيته، فخر مغشيا عليه.
الآية رقم (23 : 29)
{ولقد رآه بالأفق المبين، وما هو على الغيب بضنين، وما هو بقول شيطان رجيم، فأين تذهبون، إن هو إلا ذكر للعالمين، لمن شاء منكم أن يستقيم، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين}
قوله تعالى{ولقد رآه بالأفق المبين} أي رأى جبريل في صورته، له ستمائة جناح. {بالأفق المبين} أي بمطلع الشمس من قبل المشرق؛ لأن هذا الأفق إذا كان منه تطلع الشمس فهو مبين. أي من جهته ترى الأشياء. وقيل: الأفق المبين: أقطار السماء ونواحيها؛ قال الشاعر:
أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع
الماوردي: فعلى هذا، فيه ثلاثة أقاويل أحدها: أنه رآه في أفق السماء الشرقي؛ قاله سفيان. الثاني: في أفق السماء الغربي، حكاه ابن شجرة. الثالث: أنه رآه نحو أجياد، وهو مشرق مكة؛ قاله مجاهد. وحكى الثعلبي عن ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل{إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السماء} قال: لن تقدر على ذلك. قال{بلى} قال: فأين تشاء أن أتخيل لك؟ قال{بالأبطح} قال: لا يسعني. قال{فبمنى} قال: لا يسعني. قال{فبعرفات} قال: ذلك بالحري أن يسعني. قواعده فخرج صلى الله عليه وسلم للوقت، فإذا هو قد أقبل بخشخشة وكلكلة من جبال عرفات، قد ملأ ما بين المشرق والمغرب، ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم خر مغشيا عليه، فتحول جبريل في صورته، وضمه إلى صدره. وقال: يا محمد لا تخف؛ فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرضى السابعة، وإن العرش على كاهله، وإنه ليتضاءل أحيانا من خشية الله، حتى يصير مثل الوصع - يعني العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته. وقيل: إن محمدا عليه السلام رأى ربه عز وجل بالأفق المبين. وهو معنى قول ابن مسعود. وقد مضى القول في هذا في {والنجم} مستوفى، فتأمله هناك. وفي{المبين} قولان: أحدهما أنه صفة الأفق؛ قال الربيع. الثاني أنه صفة لمن رآه؛ قاله مجاهد. وما هو على الغيب بظنين : بالظاء، قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي، أي بمتهم، والظنة التهمة؛ قال الشاعر:
أما وكتاب الله لا عن سناءة هجرت ولكن الظنين ظنين
واختاره أبو عبيد؛ لأنهم لم يبخلوه ولكن كذبوه؛ ولأن الأكثر من كلام العرب: ما هو بكذا، ولا يقولون: ما هو على كذا، إنما يقولون: ما أنت على هذا بمتهم. وقرأ الباقون {بضنين} بالضاد: أي ببخيل من ضننت بالشيء أضن ضنا [فهو] ضنين. فروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا يضن عليكم بما يعلم، بل يعلم الخلق كلام الله وأحكامه. وقال الشاعر:
أجود بمكنون الحديث وإنني بسرك عمن سالني لضنين
والغيب: القرآن وخبر السماء. ثم هذا صفة محمد عليه السلام. وقيل: صفة جبريل عليه السلام. وقيل: بظنين: بضعيف. حكاه الفراء والمبرد؛ يقال: رجل ظنين: أي ضعيف. وبئر ظنون: إذا كانت قليلة الماء؛ قال الأعشى:
ما جعل الجد الظنون الذي جنب صوب اللجب الماطر
مثل الفراتي إذا ما طما يقذف بالبوصي والماهر
والظنون: الدين الذي لا يدري أيقضيه آخذه أم لا؟ ومنه حديث علي عليه السلام في الرجل يكون له الدين الظنون، قال: يزكيه لما مضى إذا قبضه إن كان صادقا. والظنون: الرجل السيء الخلق؛ فهو لفظ مشترك.
قوله تعالى{وما هو} يعني القرآن {بقول شيطان رجيم} أي مرجوم ملعون، كما قالت قريش. قال عطاء: يريد بالشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه. {فأين تذهبون} قال قتادة: فإلى أين تعدلون عن هذا القول وعن طاعته. كذا روى معمر عن قتادة؛ أي أين تذهبون عن كتابي وطاعتي. وقال الزجاج: فأي طريقة تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم. ويقال: أين تذهب؟ وإلى أين تذهب؟ وحكى الفراء عن العرب: ذهبت الشام وخرجت العراق وانطلقت السوق: أي إليها. قال: سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة؛ وأنشدني بعض بني عقيل:
تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا وأي الأرض تذهب بالصياح
يريد إلى أي أرض تذهب، فحذف إلى. وقال الجنيد: معنى الآية مقرون بآية أخرى؛ وهي قوله تعالى{وإن من شيء إلا عندنا خزائنه}الحجر: 21] المعنى: أي طريق تسلكون أبين من الطريق الذي بينه الله لكم. وهذا معنى قول الزجاج. {إن هو} يعني القرآن {إلا ذكر للعالمين} أي موعظة وزجر. و{إن} بمعنى {ما}. وقيل: ما محمد إلا ذكر. {لمن شاء منكم أن يستقيم} أي يتبع الحق ويقيم عليه. وقال أبو هريرة وسليمان بن موسى: لما نزلت {لمن شاء منكم أن يستقيم} قال أبو جهل: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم - وهذا هو القدر؛ وهو رأس القدرية - فنزلت{وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين}، فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيرا إلا بتوفيق الله، ولا شرا إلا بخذلانه. وقال الحسن: والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاءه الله لها. وقال وهب بن منبه: قرأت في سبعة وثمانين كتابا مما أنزل الله على الأنبياء: من جعل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر. وفي التنزيل{ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله}الأنعام: 111]. وقال تعالى{وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله}يونس: 100]. وقال تعالى{إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}القصص: 56] والآي في هذا كثير، وكذلك الأخبار، وأن الله سبحانه هدى بالإسلام، وأضل بالكفر، كما تقدم في غير موضع. ختمت السورة والحمد لله.
{إذا السماء انفطرت، وإذا الكواكب انتثرت، وإذا البحار فجرت، وإذا القبور بعثرت، علمت نفس ما قدمت وأخرت}
قوله تعالى{إذا السماء انفطرت} أي تشققت بأمر الله؛ لنزول الملائكة؛ كقول{ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا}الفرقان: 25]. وقيل: تفطرت لهيبة الله تعالى. والفطر: الشق؛ يقال: فطرته فانفطر؛ ومنه فطر ناب البعير: طلع، فهو بعير فاطر، وتفطر الشيء: شقق، وسيف فطار أي فيه شقوق؛ قال عنترة:
وسيفي كالعقيقة وهو كمعي سلاحي لا أفل ولا فطارا
وقد تقدم في غير موضع. {وإذا الكواكب انتثرت} أي تساقطت؛ نثرت الشيء أنثره نثرا، فانتثر،والاسم النثار. والنثار بالضم: ما تناثر من الشيء، ودر منثر، شدد للكثرة. {وإذا البحار فجرت} أي فجر بعضها في بعض، فصارت بحرا واحدا، على ما تقدم. قال الحسن: فجرت: ذهب ماؤها ويبست؛ وذلك أنها أولا راكدة مجتمعة؛ فإذا فجرت تفرقت، فذهب ماؤها. وهذه الأشياء بين يدي الساعة، على ما تقدم في {إذا الشمس كورت}التكوير: 1]. {وإذا القبور بعثرت} أي قلبت وأخرج ما فيها من أهلها أحياء؛ يقال: بعثرت المتاع: قلبته ظهرا لبطن، وبعثرت الحوض وبحثرته: إذا هدمته وجعلت أسفله أعلاه. وقال قوم منهم الفراء{بعثرت}: أخرجت ما في بطنها من الذهب والفضة. وذلك من أشراط الساعة: أن تخرج الأرض ذهبها وفضتها. {علمت نفس ما قدمت وأخرت} مثل{ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر}القيامة: 13]. وتقدم. وهذا جواب {إذا السماء أنفطرت} لأنه قسم في قول الحسن وقع على قوله تعالى{علمت نفس} يقول: إذا بدت هذه الأمور من أشراط الساعة ختمت الأعمال فعلمت كل نفس ما كسبت؛ فإنها لا ينفعها عمل بعد ذلك. وقيل: أي إذا كانت هذه الأشياء قامت القيامة، فحوسبت كل نفس بما عملت، وأوتيت كتابها بيمينها أو بشمالها، فتذكرت عند قراءته جميع أعمالها. وقيل: هو خبر، وليس بقسم، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
الآية رقم (6 : 9)
{يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك، كلا بل تكذبون بالدين}
قوله تعالى{يا أيها الإنسان} خاطب بهذا منكري البعث. وقال ابن عباس: الإنسان هنا: الوليد بن المغيرة. وقال عكرمة: أبي بن خلف. وقيل: نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي. عن ابن عباس أيضا{ما غرك بربك الكريم} أي ما الذي غرك حتى كفرت؟ {بربك الكريم} أي المتجاوز عنك. قال قتادة: غرة شيطانه المسلط عليه. الحسن: غرة شيطانه الخبيث. وقيل: حمقه وجهله. رواه الحسن عن عمر رضي الله عنه. وروى غالب الحنفي قال: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم}الانفطار: 6] قال غره الجهل وقال صالح بن مسمار: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه قرأ {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم}؟ فقال غره جهله . وقال عمر رضي الله عنه: كما قال الله تعالى {إنه كان ظلوما جهولا}الأحزاب: 72]. وقيل: غره عفو الله، إذ لم يعاقبه في أول مرة. قال إبراهيم بن الأشعث: قيل: للفضيل بن عياض: لو أقامك الله تعالى يوم القيامة بين يديه، فقال لك{ما غرك بربك الكريم}؟ [الانفطار: 6] ماذا كنت تقول؟ قال: كنت أقول غرني ستورك المرخاة، لأن الكريم هو الستار. نظمه ابن السماك فقال:
يا كاتم الذنب أما تستحي والله في الخلوة ثانيكا
غرك من ربك إمهاله وستره طول مساويكا
وقال ذو النون المصري: كم من مغرور تحت الستر وهو لا يشعر
وأنشد أبو بكر بن طاهر الأبهري:
يا من غلا في العجب والتيه وغره طول تماديه
أملى لك الله فبارزته ولم تخف غب معاصيه
وروي عن علي رضي الله عنه أنه صاح بغلام له مرات فلم يلبه فنظر فإذا هو بالباب، فقال: مالك لم تجبني؟ فقال. لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك. فاستحسن جوابه فأعتقه. وناس يقولون: ما غرك: ما خدعك وسول لك حتى أضعت ما وجب عليك؟ وقال ابن مسعود: ما منكم من أحد إلا وسيخلو الله به يوم القيامة، فيقول له: يا ابن آدم ماذا غرك بي؟ يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ {الذي خلقك} أي قدر خلقك من نطفة {فسواك} في بطن أمك، وجعل لك يدين ورجلين وعينين وسائر أعضائك {فعدلك} أي جعلك معتدلا سوى الخلق؛ كما يقال: هذا شيء معدل. وهذه قراءة العامة وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ قال الفراء: وأبو عبيد: يدل عليه قوله تعالى{لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}التين: 4]. وقرأ الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي{فعدلك} مخففا أي: أمالك وصرفك إلى أي صورة شاء، إما حسنا وإما قبيحا، وإما طويلا وإما قصيرا. وقال موسى بن علي بن أبي رباح اللخمي عن أبيه عن جده قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم . أما قرأت هذه الآية {في أي صورة ما شاء ركبك} فيما بينك وبين آدم، وقال عكرمة وأبو صالح{في أي صورة ما شاء ركبك} إن شاء في صورة إنسان، وإن شاء في صورة حمار، وإن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير. وقال مكحول: إن شاء ذكرا، وإن شاء أنثى. قال مجاهد{في أي صورة} أي في أي شبه من أب أو أم أو عم أو خال أو غيرهم. و{في} متعلقة بـ{ركب}، ولا تتعلق بـ{عدلك}، على قراءة من خفف؛ لأنك تقول عدلت إلى كذا، ولا تقول عدلت في كذا؛ ولذلك منع الفراء التخفيف؛ لأنه قدر {في} متعلقة بـ{عدلك}، و{ما} يجوز أن تكون صلة مؤكدة؛أي في أي صورة شاء ركبك. ويجوز أن تكون شرطية أي إن شاء ركبك في غير صورة الإنسان من صورة قرد أو حمار أو خنزير، فـ{ما} بمعنى الشرط والجزاء؛ أي في صورة ما شاء يركبك ركبك.
قوله تعالى{كلا بل تكذبون بالدين} يجوز أن تكون {كلا} بمعنى حقا و{ألا} فيبتدأ بها. ويجوز أن تكون بمعنى {لا}، على أن يكون المعنى ليس الأمر كما تقولون من أنكم في عبادتكم غير الله محقون. يدل على ذلك قوله تعالى{ما غرك بربك الكريم}الانفطار: 6] وكذلك يقول الفراء: يصير المعنى: ليس كما غررت به. وقيل: أي ليس الأمر كما يقولون، من أنه لا بعث. وقيل: هو بمعنى الردع والزجر. أي لا وقتروا بحلم الله وكرمه، فتتركوا التفكر في آياته. ابن الأنباري: الوقف الجيد على {الدين}، وعلى {ركبك}، والوقف على {كلا} قبيح. {بل تكذبون} يا أهل مكة {بالدين} أي بالحساب، و{بل} لنفي شيء تقدم وتحقيق غيره. وإنكارهم للبعث كان معلوما، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة.
الآية رقم (10 : 12)
{وإن عليكم لحافظين، كراما كاتبين، يعلمون ما تفعلون}
قوله تعالى{وإن عليكم لحافظين} أي رقباء من الملائكة {كراما} أي علي؛ كقوله{كرام بررة}عبس: 16]. وهنا ثلاث مسائل:
الأولى: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند حدى حالتين: الخراءة أو الجماع، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم [حائط] أو بغيره، أو ليستره أخوه). وروي عن علي رضي الله عنه قال: (لا يزال الملك موليا عن العبد ما دام بادي العورة) وروي (إن العبد إذا دخل الحمام بغير مئزر لعنه ملكاه).
الثانية: واختلف الناس في الكفار هل عليهم حفظة أم لا؟ فقال بعضهم: لا؛ لأن أمرهم ظاهر، وعملهم واحد؛ قال الله تعالى{يعرف المجرمون بسيماهم}الرحمن: 41]. وقيل: بل عليهم حفظة؛ لقوله تعالى{كلا بل تكذبون بالدين. وإن عليكم لحافظين. كراما كاتبين. يعلمون ما تفعلون}الانفطار: 9 - 12]. وقال{وأما من أوتي كتابه بشماله}الحاقة: 25] وقال{وأما من أوتي كتابه وراء ظهره}الإنشقاق:10]، فأخبر أن الكفار يكون لهم كتاب، ويكون عليهم حفظة. فإن قيل: الذي على يمينه أي شيء يكتب ولا حسنة له؟ قيل له: الذي يكتب عن شمال يكون بإذن صاحبه، ويكون شاهدا على ذلك وإن لم يكتب. والله أعلم.
الثالثة: سئل سفيان: كيف تعلم الملائكة أن العبد قد هم بحسنة أو سيئة؟ قال: إذا هم العبد بحسنة وجدوا منه ريح المسك، وإذا هم بسيئة وجدوا منه ريح النتن. وقد مضى في ق قوله{ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}ق: 18] زيادة بيان لمعنى هذه الآية. وقد كره العلماء الكلام عن الغائط والجماع، لمفارقة الملك العبد عند ذلك. وقد مضى في آخر آل عمران القول في هذا. وعن الحسن: يعلمون لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم. وقيل: يعلمون ما ظهر منكم دون ما حدثتم به أنفسكم. والله أعلم.
الآية رقم (13 : 19)
{إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم، يصلونها يوم الدين، وما هم عنها بغائبين، وما أدراك ما يوم الدين، ثم ما أدراك ما يوم الدين، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله}
قوله تعالى{إن الأبرار لفي نعيم. وإن الفجار لفي جحيم} تقسيم مثل قوله{فريق في الجنة وفريق في السعير}الشورى: 7] وقال{يومئذ يصدعون}الروم: 43] الآيتين. {يصلونها} أي يصيبهم لهبها وحرها {يوم الدين} أي يوم الجزاء والحساب، وكرر ذكره تعظيما لشأنه؛ نحو قوله تعالى{القارعة ما القارعة. وما أدراك ما القارعة}القارعة: 1ـ3] وقال ابن عباس فيما روي عنه: كل شيء من القرآن من قوله{وما أدراك} فقد أدراه. وكل شيء من قوله {وما يدريك} فقد طوي عنه. {يوم لا تملك نفس} قرأ ابن كثير وأبو عمرو {يوم} بالرفع على البدل من {يوم الدين} أو ردا على اليوم الأول، فيكون صفة ونعتا لـ {يوم الدين}. ويجوز أن يرفع بإضمار هو. الباقون بالنصب على أنه في موضع رفع إلا أنه، نصب، لأنه مضاف غير متمكن؛ كما تقول: أعجبني يوم يقوم زيد. وأنشد المبرد:
من أي يومي من الموت أفر أيومَ لم يقدر أم يوم قدر
فاليومان الثانيان مخفوضان بالإضافة، عن الترجمة عن اليومين الأولين، إلا أنهما نصبا في اللفظ؛ لأنهما أضيفا إلى غير محض. وهذا اختيار الفراء والزجاج. وقال قوم: اليوم الثاني منصوب على المحل، كأنه قال في يوم لا تملك نفس لنفس شيئا. وقيل: بمعنى: إن هذه الأشياء تكون يوم، أو على معنى يدانون يوم؛ لأن الدين يدل عليه، أو بإضمار اذكر. {والأمر يومئذ لله} لا ينازعه فيه أحد، كما قال{لمن الملك اليوم لله الواحد القهار. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم}غافر:17]. تمت السورة والحمد لله
سورة المطففين مكية قال مقاتل: وهي أول سورة نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا ثماني آيات من قوله{إن الذين أجرموا} إلى آخرها، مكي. وقال الكلبي وجابر بن زيد: نزلت بين مكة والمدينة.
الآية رقم (1 : 3)
{ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}
"روى النسائي عن ابن عباس" قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله تعالى{ويل للمطففين} فأحسنوا الكيل بعد ذلك. قال الفراء: فهم من أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا. وعن ابن عباس أيضا قال: هي: أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة نزل المدينة، وكان هذا فيهم؛ كانوا إذا اشتروا استوفوا بكيل راجح، فإذا باعوا بخسوا المكيال والميزان، فلما نزلت هذه السورة انتهوا، فهم أو في الناس كيلا إلى يومهم هذا. وقال قوم: نزلت في رجل يعرف بأبي جهينة، واسمه عمرو؛ كان له صاعان يأخذ بأحدهما، ويعطي بالآخر؛ قال أبو هريرة رضي الله عنه.
قوله تعالى{ويل} أي شدة عذاب في الآخرة. وقال ابن عباس: إنه واد في جهنم يسيل فيه صديد. أهل النار، فهو قوله تعالى{ويل للمطففين} أي الذين ينقصون مكاييلهم وموازينهم. وروي عن ابن عمر قال: المطفف: الرجل يستأجر المكيال وهو يعلم أنه يحيف في كيله فوزره عليه. وقال آخرون: التطفيف في الكيل والوزن والوضوء والصلاة والحديث. في الموطأ قال مالك: ويقال لكل شيء وفاء وتطفيف. وروى عن سالم ابن أبي الجعد قال: الصلاة بمكيال، فمن أوفى له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله عز وجل في ذلك{ويل للمطففين}.
قال أهل اللغة: المطفف مأخوذ من الطفيف، وهو القليل، والمطفف هو المقل حق صاحبه بنقصانه عن الحق، في كيل أو وزن. وقال الزجاج: إنما قيل للفاعل من هذا مطفف؛ لأنه لا يكاد يسرق من المكيال والميزان إلا الشيء الطفيف الخفيف، وإنما أخذ من طف الشيء وهو جانبه. وطفاف المكوك وطفافه بالكسر والفتح: ما ملا أصباره، وكذلك طف المكوك وطففه؛ وفي الحديث: (كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملؤوه). وهو أن يقرب أن يمتلئ فلا يفعل، والمعنى بعضكم من بعض قريب، فليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى. والطفاف والطفافة بالضم: ما فوق المكيال. وإناء طفاف: إذا بلغ الملء طفافه؛ تقول منه: أطففت. والتطفيف: نقص المكيال وهو ألا تملأه إلى أصباره، أي جوانبه؛ يقال: أدهقت الكأس إلى أصبارها أي إلى رأسها. وقول ابن عمر حين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سبق الخيل: كنت فارسا يومئذ فسبقت الناس حتى طفف بي الفرس مسجد بني زريق، حتى كاد يساوي المسجد. يعني: وثب بي.
المطفف: هو الذي يخسر في الكيل والوزن، ولا يوفي حسب ما بيناه؛ وروى ابن القاسم عن مالك: أنه قرأ {ويل للمطففين} فقال: لا تطفف ولا تخلب، ولكن أرسل وصب عليه صبا، حتى إذا استوفى أرسل يدك ولا تمسك. وقال عبدالملك بن الماجشون: نهى، رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسح الطفاف، وقال: إن البركة في رأسه. قال: وبلغني أن كيل فرعون كان مسحا بالحديد.
قوله تعالى{الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون} قال الفراء: أي من الناس يقال: اكتلت منك: أي استوفيت منك ويقال أكتلت ما عليك: أي أخذت ما عليك. وقال الزجاج: أي إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل؛ والمعنى: الذين إذا استوفوا أخذوا الزيادة، وإذا أوفوا أو وزنوا لغيرهم نقصوا، فلا يرضون للناس ما يرضون لأنفسهم. الطبري{على} بمعنى عند.
قوله تعالى{وإذا كالوهم أو وزنوهم}: أي كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذفت اللام، فتعدى الفعل فنصب؛ ومثله نصحتك ونصحت لك، وأمرتك به وأمرتكه؛ قاله الأخفش والفراء. قال الفراء: وسمعت أعرابية تقول إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل. وهو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس. قال الزجاج: لا يجوز الوقف على {كالوا} و{وزنوا} حتى تصل به {هم} قال: ومن الناس من يجعلها توكيدا، ويجيز الوقف على {كالوا} و{وزنوا} والأول الاختيار؛ لأنها حرف واحد. وهو قول الكسائي. قال أبو عبيد: وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين، ويقف على {كالوا} و{وزنوا} ويبتدئ {هم يخسرون} قال: وأحسب قراءة حمزة كذلك أيضا. قال أبو عبيد: والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين: إحداهما: الخط؛ وذلك أنهم كتبوهما بغير ألف، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا {كالوا} و{وزنوا} بالألف، والأخرى: أنه يقال: كلتك ووزنك بمعنى كلت لك، ووزنت لك، وهو كلام عربي؛ كما يقال: صدتك وصدت لك، وكسبتك وكسبت لك، وكذلك شكرتك ونصحتك ونحو ذلك. قوله{يخسرون}: أي ينقصون؛ والعرب تقول: أخسرت الميزان وخسرته. و(هم) في موضع نصب، على قراءة العامة، راجع إلى الناس، تقديره (وإذا كانوا) الناس (أو وزنوهم يخسرون) وفيه وجهان: أحدهما أن يراد كالوا لهم أو وزنوا لهم، فحذف الجار، وأوصل الفعل، كما قال:
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
أراد: جنيت لك، والوجه الآخر: أن يكون على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف هو المكيل والموزون. وعن ابن عباس رضي الله عنه: إنكم معاشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم: المكيال والميزان. وخص الأعاجم، لأنهم كانوا يجمعون الكيل والوزن جميعا، وكانا مفرقين في الحرمين؛ كان أهل مكة يزنون، وأهل المدينة يكيلون. وعلى القراءة الثانية {هم} في موضع رفع بالابتداء؛ أي وإذا كالوا للناس أو وزنوا لهم فهم يخسرون. ولا يصح؛ لأنه تكون الأولى ملغاة، ليس لها خبر، وإنما كانت تستقيم لو كان بعدها: وإذا كالوا هم ينقصون، أو وزنوا هم يخسرون.
الثانية: قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا ظهر فيهم الطاعون، وما طففوا الكيل إلا منعوا النبات، وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس الله عنهم المطر)"خرجه أبو بكر البزار بمعناه، ومالك بن أنس أيضا من حديث ابن عمر" وقد ذكرناه في كتاب التذكرة. وقال مالك بن دينار: دخلت على جار لي قد نزل به الموت، فجعل يقول: جبلين من نار، جبلين من نار فقلت: ما تقول؟ أتهجر؟ قال: يا أبا يحيى، كان لي مكيالان، أكيل بأحدهما، كلما ضربت أحدهما بالآخر آزداد عظما، فمات من وجعه. وقال عكرمة: أشهد على كل كيال أو وزان أنه في النار. قيل له: فإن ابنك كيال أو وزان. فقال: أشهد أنه في النار. قال الأصمعي: وسمعت أعرابية تقول: لا تلتمس المروءة ممن مروءته في رؤوس المكاييل، ولا ألسنة الموازين. وروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وقال عبد خير: مر علي رضي الله عنه على رجل وهو يزن الزعفران وقد أرجح، فأكفأ الميزان، ثم قال: أقم الوزن بالقسط؛ ثم أرجح بعد ذلك ما شئت. كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها، ويفضل الواجب من النفل. وقال نافع: كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول: أتق الله وأوف الكيل والوزن بالقسط، فإن المطففين يوم القيامة يوقفون حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم. وقد روي أن أبا هريرة قدم المدينة وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، فقال أبو هريرة: فوجدناه في صلاة الصبح فقرأ في الركعة الأولى {كهيعص} وقرأ في الركعة الثانية {ويل للمطففين} قال أبو هريرة: فأقول في صلاتي: ويل لأبي فلان، كان له مكيالان إذا أكتال أكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص.
الآية رقم (4 : 8)
{ ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون . ليوم عظيم . يوم يقوم الناس لرب العالمين . كلا إن كتاب الفجار لفي سجين . وما أدراك ما سجين }
قوله تعالى{ألا يظن أولئك} إنكار وتعجيب عظيم من حالهم، في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون التطفيف ببالهم، ولا يخمنون تخمينا {أنهم مبعوثون} فمسؤولون عما يفعلون. والظن هنا بمعنى اليقين؛ أي ألا يوقن أولئك، ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والوزن. وقيل: الظن بمعنى التردد، أي إن كانوا لا يستيقنون بالبعث، فهلا ظنوه، حتى يتدبروا ويبحثوا عنه، ويأخذوا بالأحوط {ليوم عظيم} شأنه وهو يوم القيامة.
قوله تعالى{يوم يقوم الناس} العامل في {يوم} فعل مضمر، دل عليه {مبعوثون} والمعنى يبعثون {يوم يقوم الناس لرب العالمين}. ويجوز أن يكون بدلا من يوم في {ليوم عظيم}، وهو مبني. وقيل: هو في موضع خفض؛ لأنه أضيف إلى غير متمكن. وقيل: هو منصوب على الظرف أي في يوم، ويقال: أقم إلى يوم يخرج فلان، فتنصب يوم، فإن أضافوا إلى الاسم فحينئذ يخفضون ويقولون: أقم إلى يوم خروج فلان. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير إنهم مبعوثون يوم يقوم الناس لرب العالمين ليوم عظيم.
وعن عبدالملك بن مروان: أن أعرابيا قال لي: قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففين؛ أراد بذلك أن المطففين قد توجه عليهم هذا الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن. وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظيم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصف ذاته برب العالمين، بيان بليغ لعظم الذنب، وتفاقم الإثم في التطفيف، وفيما كان في مثل حاله من الحيف، وترك القيام بالقسط، والعمل على التسوية والعدل، في كل أخذ وإعطاء، بل في كل قول وعمل.
قرأ ابن عمر{ويل للمطففين} حتى بلغ {يوم يقوم الناس لرب العالمين} فبكى حتى سقط، وامتنع من قراءة ما بعده، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (يوم يقوم الناس لرب العالمين، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فمنهم من يبلغ العرق كعبيه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ حقويه، ومنهم من يبلغ صدره، ومنهم من يبلغ أذنيه، حتى إن أحدهم ليغيب في رشحه كما يغيب الضفدع). وروى ناس عن ابن عباس قال: يقومون مقدار ثلثمائة سنة. قال: ويهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة. وروي عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقومون ألف عام في الظلة). و"روى مالك عن نافع" عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى إن أحدهم ليقوم في رشحه إلى أنصاف أذنيه). وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يقوم مائة سنة). وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم لبشير الغفاري: (كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه مقدار ثلثمائة سنة لرب العالمين، لا يأتيهم فيه خبر، ولا يؤمر فيه بأمر) قال بشير: المستعان الله.
قلت: قد ذكرناه مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليخفف عن المؤمن، حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا) في {سأل سائل}المعارج: 1]. وعن ابن عباس: يهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة. وقيل: إن ذلك المقام على المؤمن كزوال الشمس؛ والدليل على هذا من الكتاب قول الحق{ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}يونس: 62] ثم وصفهم فقال{الذين آمنوا وكانوا يتقون}يونس: 63] جعلنا الله منهم بفضله وكرمه وجوده. ومنه أمين. وقيل: المراد بالناس جبريل عليه السلام يقوم لرب العالمين؛ قال ابن جبير وفيه بعد؛ لما ذكرنا من الأخبار في ذلك، وهي صحيحة ثابتة، وحسبك بما في صحيح مسلم، والبخاري والترمذي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم {يوم يقوم الناس لرب الله العالمين} قال: (يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه). ثم قيل: هذا القيام يوم يقومون من قبورهم. وقيل: في الآخرة بحقوق عباده في الدنيا. وقال يزيد الرشك: يقومون بين يديه للقضاء.
القيام لله رب العالمين سبحانه حقير بالإضافة إلى عظمته وحقه، فأما قيام الناس بعضهم لبعض فاختلف فيه الناس؛ فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى جعفر بن أبي طالب واعتنقه، وقام طلحة لكعب بن مالك يوم تيب عليه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار حين طلع عليه سعد بن معاذ: (قوموا إلى سيدكم). وقال أيضا: (من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار). وذلك يرجع إلى حال الرجل ونيته، فإن أنتظر ذلك وأعتقده لنفسه، فهو ممنوع، وإن كان على طريق البشاشة والوصلة فإنه جائز، وخاصة عند الأسباب، كالقدوم من السفر ونحوه. وقد مضى في آخر سورة يوسف شيء من هذا.
">الآية رقم (9 : 13)">
الآية رقم (9 : 13)
{كلا إن كتاب الفجار لفي سجين، وما أدراك ما سجين، كتاب مرقوم، ويل يومئذ للمكذبين، الذين يكذبون بيوم الدين، وما يكذب به إلا كل معتد أثيم، إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين}
قوله تعالى{كلا إن كتاب الفجار لفي سجين} قال قوم من أهل العلم بالحربية{كلا} ردع وتنبيه، أي ليس الأم على ما هم عليه من تطفيف الكيل والميزان، أو تكذيب بالآخرة، فليرتدعوا عن ذلك. فهي كلمة ردع وزجر، ثم استأنف فقال{إن كتاب الفجار}. وقال الحسن{كلا} بمعنى حقا. وروى ناس عن ابن عباس {كلا} قال: ألا تصدقون؛ فعلى هذا: الوقف لرب العالمين. وفي تفسير مقاتل: إن أعمال الفجار. وروى ناس عن ابن عباس قال: إن أرواح الفجار وأعمالهم {لفي سجين}. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: سجين صخرة تحت الأرض السابعة، تقلب فيجعل كتاب الفجار تحتها. ونحوه عن ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير ومقاتل وكعب؛ قال كعب: تحتها أرواح الكفار تحت خد إبليس. وعن كعب أيضا قال: سجين صخرة سوداء تحت الأرض السابعة، مكتوب فيها اسم كل شيطان، تلقى أنفس، الكفار عندها. وقال سعيد بن جبير: سجين تحت خد إبليس. يحيى بن سلام: حجر أسود تحت الأرض، يكتب فيه أرواح الكفار. وقال عطاء الخراساني: هي الأرض السابعة السفلى، وفيها إبليس وذريته. وعن ابن عباس قال: إن الكافر يحضره الموت، وتحضره رسل الله، فلا يستطيعون لبغض الله له وبغضهم إياه، أن يؤخروه ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته، فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه، ورفعوه إلى ملائكة العذاب، فأروه ما شاء الله أن يروه من الشر، ثم هبطوا به إلى الأرض السابعة، وهي سجين، وهي آخر سلطان إبليس، فأثبتوا فيها كتابه. وعن كعب الأحبار في هذه الآية قال: إن روح الفاجر إذا قبضت يصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، ثم يهبط بها إلى الأرض، فتأبى الأرض أن تقبلها، فتدخل في سبع أرضين، حتى ينتهى بها إلى سجين، وهو خد إبليس. فيخرج لها من سجين من تحت خد إبليس رق، فيرقم فيوضع تحت خد إبليس. وقال الحسن: سجين في الأرض السابعة. وقيل: هو ضرب مثل وإشارة إلى أن الله تعالى يرد أعمالهم التي ظنوا أنها تنفعهم. قال مجاهد: المعنى عملهم تحت الأرض السابعة لا يصعد منها شيء. وقال: سجين صخرة في الأرض السابعة. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سجين جب في جهنم وهو مفتوح) وقال في الفلق: (إنه جب مغطى). وقال أنس: هي دركة في الأرض السفلي. وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سجين أسفل الأرض السابعة). وقال عكرمة: (سجين: خسار وضلال؛ كقولهم لمن سقط قدره: قد زلق بالحضيض. وقال أبو عبيدة والأخفش والزجاج{لفي سجين} لفي حبس وضيق شديد، فعيل من السجين؛ كما يقول: فسيق وشريب؛ قال ابن مقبل:
ورفقة يضربون البيض ضاحية ضربا تواصت به الأبطال سجينا
والمعنى: كتابهم في حبس؛ جعل ذلك دليلا على خساسة منزلتهم، أو لأنه يحل من الإعراض عنه والإبعاد له محل الزجر والهوان. وقيل: أصله سجيل، فأبدلت اللام نونا. وقد تقدم ذلك. وقال زيد بن أسلم: سجين في الأرض السافلة، وسجيل في السماء الدنيا. القشيري: سجين: موضع في السافلين، يدفن فيه كتاب هؤلاء، فلا يظهر بل يكون في ذلك الموضع كالمسجون. وهذا دليل على خبث أعمالهم، وتحقير الله إياها؛ ولهذا قال في كتاب الأبرار{يشهده المقربون}. {وما أدراك ما سجين} أي ليس ذلك مما كنت تعلمه يا محمد أنت ولا قومك. ثم فسره فقال{كتاب مرقوم} أي مكتوب كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى. وقال قتادة: مرقوم أي مكتوب، رقم لهم بشر: لا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد. وقال الضحاك: مرقوم: مختوم، بلغة حمير؛ وأصل الرقم: الكتابة؛ قال:
سأرقم في الماء القراح إليكم على بعدكم إن كان للماء راقم
وليس في قوله{وما أدراك ما سجين} ما يدل على أن لفظ سجين ليس عربيا، كما لا يدل في قوله{القارعة ما القارعة. وما أدراك ما القارعة}القارعة: 1] بل هو تعظيم لأمر سجين، وقد مضى في مقدمة الكتاب - والحمد لله - أنه ليس في القرآن غير عربي.
قوله تعالى{ويل يومئذ للمكذبين} أي شدة وعذاب يوم القيامة للمكذبين. ثم بين تعالى أمرهم فقال{الذين يكذبون بيوم الدين} أي بيوم الحساب والجزاء والفصل بين العباد. {وما يكذب به إلا كل معتد أثيم} أي فاجر جائز عن الحق، معتد على الخلق في معاملته إياهم وعلى نفسه، وهو أثيم في ترك أمر الله. وقيل هذا في الوليد بن المغيرة وأبي جهل ونظرائهما لقوله تعالى{إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} وقراءة العامة {تتلى} بتاءين، وقراءة أبي حيوة وأبي سماك وأشهب العقيلي والسلمي{إذا يتلى} بالياء. وأساطير الأولين: أحاديثهم وأباطيلهم التي كتبوها وزخرفوها. وأحدها أسطورة وإسطارة، وقد تقدم.
">الآية رقم (14 : 17)">
الآية رقم (14 : 17)
{كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون، ثم إنهم لصالوا الجحيم، ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون}
قوله تعالى{كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} {كلا}: ردع وزجر، أي ليس هو أساطير الأولين. وقال الحسن: معناها حقا {ران على قلوبهم}. وقيل: في الترمذي: عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب، صقل قلبه، فإن عاد زيا. فيها، حتى تعلو على قلبه)، وهو(الران) الذي ذكر الله في كتابه{كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}. قال: هذا حديث حسن صحيح. وكذا قال المفسرون: هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب. قال مجاهد: هو الرجل يذنب الذنب، فيحيط الذنب بقلبه، ثم يذنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه، حتى تغشي الذنوب قلبه. قال مجاهد: هي مثل الآية التي في سورة البقرة{بلى من كسب سيئة}البقرة: 81] الآية. ونحوه عن الفراء؛ قال: يقول كثرت المعاصي منهم والذنوب، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرين عليها. وروي عن مجاهد أيضا قال: القلب مثل الكهف ورفع كفه، فإذا أذنب العبد الذنب انقبض، وضم إصبعه، فإذا أذب الذنب انقبض، وضم أخرى، حتى ضم أصابعه كلها، حتى يطبع على قلبه. قال: وكانوا يرون أن ذلك هو الرين، ثم قرأ{كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}. ومثله عن حذيفة رضي الله عنه سواء. وقال بكر بن عبدالله: إن العبد إذا أذنب صار في قلبه كوخزة الإبرة، ثم صار إذا أذنب ثانيا صار كذلك، ثم إذا كثرت الذنوب صار القلب كالمنخل، أو كالغربال، حتى لا يعي خيرا، ولا يثبت فيه صلاح. وقد بينا في البقرة القول في هذا المعنى بالأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا معنى لإعادتها. وقد روى عبدالغني بن سعيد عن موسى بن عبدالرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وعن موسى عن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس شيئا الله أعلم بصحته؛ قال: هو الران الذي يكون على الفخذين والساق والقدم، وهو الذي يلبس في الحرب. قال: وقال آخرون: الران: الخاطر الذي يخطر بقلب الرجل. وهذا مما لا يضمن عهدة صحته. فالله أعلم. فأما عامة أهل التفسير فعلى ما قد مضى ذكره قبل هذا. وكذلك أهل اللغة عليه؛ يقال: ران على قلبه ذنبه يرين رينا وريونا أي غلب. قال أبو عبيدة في قوله{كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} أي غلب؛ وقال أبو عبيد: كل ما غلبك [وعلاك] فقد ران بك، ورانك، وران عليك؛ وقال الشاعر:
وكم ران من ذنب على قلب فاجر فتاب من الذنب الذي ران وانجلى
ورانت الخمر على عقله: أي غلبته، وران عليه النعاس: إذا غطاه؛ ومنه قول عمر في الأسيفع - أسيفع جهينة - : فأصبح قد رين به. أي غلبته الديون، وكان يدان؛ ومنه قول أبي زبيد يصف رجلا شرب حتى غلبه الشراب سكرا، فقال:
ثم لما رآه رانت به الخمـ ـر وأن لا ترينه باتقاء
فقوله: رانت به الخمر، أي غلبت على عقله وقلبه. وقال الأموي: قد أران القوم فهم مرينون: إذا هلكت مواشيهم وهزلت. وهذا من الأمر الذي أتاهم مما يغلبهم، فلا يستطيعون احتماله. قال أبو زيد يقال: قد رين بالرجل رينا: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ولا قبل له وقال أبو معاذ النحوي: الرين: أن يسود القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب، وهذا أشد من الرين، والإقفال أشد من الطبع. الزجاج: الرين: هو كالصدأ يغشي القلب كالغيم الرقيق، ومثله الغين، يقال: غين على قلبه: غطي. والغين: شجر ملتف، الواحدة غيناء، أي خضراء، كثيرة الورق، ملتفة الأغصان. وقد تقدم قول الفراء أنه إحاطة الذنب بالقلوب. وذكر الثعلبي عن ابن عباس{ران على قلوبهم}: أي غطى عليها. وهذا هو الصحيح عنه إن شاء الله. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر والمفضل {ران} بالإمالة؛ لأن فاء الفعل الراء، وعينه الألف منقلبة من ياء، فحسنت الإمالة لذلك. ومن فتح فعلى الأصل؛ لأن باب فاء الفعل في (فعل) الفتح، مثل كال وباع ونحوه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ووقف حفص {بل} ثم يبتدئ {ران} وقفا يبين اللام، لا للسكت.
قوله تعالى{كلا} أي حقا {إنهم} يعني الكفار {عن ربهم يومئذ} أي يوم القيامة {لمحجوبون} وقيل{كلا} ردع وزجر، أي ليس كما يقولون، بل {إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}. قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خست منزلة الكفار بأنهم يحجبون. وقال جل ثناؤه{وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة}القيامة: 22] فأعلم الله جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون إليه، وأعلم أن الكفار محجوبون عنه، وقال مالك بن أنس في هذه الآية: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه. وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسخط، دل على أن قوما يرونه بالرضا. ثم قال: أما والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا. وقال الحسين بن الفضل: لما حجبهم في الدنيا عن نور توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته. وقال مجاهد في قوله تعالى{لمحجوبون}: أي عن كرامته ورحمته ممنوعون. وقال قتادة: هو أن الله لا ينظر إليهم برحمته، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. وعلى الأول الجمهور، وأنهم محجوبون عن رؤيته فلا يرونه. {ثم إنهم لصالوا الجحيم} أي ملازموها، ومحترقون فيها غير خارجين منها، {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها}النساء: 56] و{كلما خبت زدناهم سعيرا}الإسراء: 97]. ويقال: الجحيم الباب الرابع من النار. {ثم يقال} لهم أي تقول لهم خزنة جهنم {هذا الذي كنتم به تكذبون} رسل الله في الدنيا.
">الآية رقم (18 : 21)">
الآية رقم (18 : 21)
{كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين، وما أدراك ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون}
قوله تعالى{كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين} {كلا} بمعنى حقا، والوقف على {تكذبون}. وقيل أي ليس الأمر كما يقولون ولا كما ظنوا بل كتابهم في سجين، وكتاب المؤمنين في عليين. وقال مقاتل: كلا، أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه. ثم استأنف فقال{إن كتاب الأبرار} مرفوع في عليين على قدر مرتبتهم. قال ابن عباس: أي في الجنة. وعنه أيضا قال: أعمالهم في كتاب الله في السماء. وقال الضحاك ومجاهد وقتادة: يعني السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين. وروى ابن الأجلح عن الضحاك قال: هي سدرة المنتهى، ينتهي إليها كل شيء من أمر الله لا يعدوها، فيقولون: رب عبدك فلان، وهو. أعلم به منهم، فيأتيه كتاب من الله عز وجل مختوم بأمانه من العذاب. فذلك قوله تعالى{كلا إن كتاب الأبرار}. وعن كعب الأحبار قال: إن روح المؤمن إذا قبضت صعد بها إلى السماء، وفتحت لها أبواب السماء، وتلقتها الملائكة بالبشرى، ثم يخرجون معها حتى ينتهوا إلى العرش، فيخرج لهم من تحت العرش، رق فيرقم ويختم فيه النجاة من الحساب يوم القيامة ويشهده المقربون. وقال قتادة أيضا{في عليين} هي فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى. وقال البراء بن عازب قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليون في السماء السابعة تحت العرش). وعن ابن عباس أيضا: هو لوح من زبر جدة خضراء معلق بالعرش، أعمالهم مكتوبة فيه. وقال الفراء: عليون ارتفاع بعد ارتفاع. وقيل: عليون أعلى الأمكنة. وقيل: معناه علو في علو مضاعف، كأنه لا غاية له؛ ولذلك جمع بالواو والنون. وهو معنى قول الطبري. قال الفراء: هو اسم موضوع على صفة الجمع، ولا واحد له من لفظه؛ كقولك: عشرون وثلاثون، والعرب إذا جمعت جمعا ولم يكن له بناء من واحده ولا تثنية، قالوا في المذكر والمؤنث بالنون. وهي معنى قول الطبري. وقال الزجاج: إعراب هذا الاسم كإعراب الجمع، كما تقول: هذه قنسرون، ورأيت قنسرين. وقال يونس النحوي وأحدها: علي وعلية. وقال أبو الفتح: عليين: جمع على، وهو فعيل من العلو. وكان سبيله أن يقول علية كما قالوا للغرفة علية؛ لأنها من العلو، فلما حذف التاء من علية عوضوا منها الجمع بالواو والنون، كما قالوا في أرضين. وقيل: إن عليين صفة للملائكة، فإنهم الملأ الأعلى؛ كما يقال: فلان في بني فلان؛ أي هو في جملتهم وعندهم. والذي في الخبر من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهل عليين لينظرون إلى الجنة من كذا، فإذا أشرف رجل من أهل عليين أشرقت الجنة لضياء وجهه، فيقولون: ما هذا النور؟ فيقال أشرف رجل من أهل عليين الأبرار أهل الطاعة والصدق). وفي خبر آخر: (إن أهل الجنة ليرون أهل عليين كما يرى الكوكب الدري في أفق السماء) يدل على أن عليين اسم الموضع المرتفع. وروى ناس عن ابن عباس في قوله {عليين} قال: أخبر أن أعمالهم وأرواحهم في السماء الرابعة.
قوله تعالى{وما أدراك ما عليون} أي ما الذي أعلمك يا محمد أي شيء عليون؟ على جهة التفخيم والتعظيم له في المنزلة الرفيعة. ثم فسره له فقال{كتاب مرقوم يشهده المقربون}. وقيل: إن {كتاب مرقوم} ليس تفسيرا لعليين، بل تم الكلام عند قوله{عليون} ثم ابتدأ وقال{كتاب مرقوم} أي كتاب الأبرار كتاب مرقوم ولهذا عكس الرقم في كتاب الفجار؛ قال القشيري. وروي: أن الملائكة تصعد بعمل العبد، فيستقبلونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم: إنكم الحفظة على عبدي، وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه أخلص لي عمله، فاجعلوه في عليين، فقد غفرت له، وإنها لتصعد بعمل العبد، فيتركونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم: أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه لم يخلص لي عمله، فاجعلوه في سجين.
قوله تعالى{يشهده المقربون} أي يشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء من الملائكة. وقال وهب وابن إسحاق: المقربون هنا إسرافيل عليه السلام، فإذا عمل المؤمن عمل البر، صعدت الملائكة بالصحيفة وله نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض، حتى ينتهي بها إلى إسرافيل، فيختم عليها ويكتب فهو قوله{يشهده المقربون} أي يشهد كتابتهم.
">الآية رقم (22 : 28)">
الآية رقم (22 : 28)
{إن الأبرار لفي نعيم، على الأرائك ينظرون، تعرف في وجوههم نضرة النعيم، يسقون من رحيق مختوم، ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ومزاجه من تسنيم، عينا يشرب بها المقربون}
قوله تعالى{إن الأبرار} أي أهل الصدق والطاعة. {لفي نعيم} أي نعمة، والنعمة بالفتح: التنعيم؛ يقال: نعمه الله وناعمه فتنعم وامرأة منعمة ومناعمة بمعنى. أي إن الأبرار في الجنات يتنعمون. {على الأرائك} وهي الأسرة في الحجال {ينظرون} أي إلى ما أعد الله لهم من الكرامات؛ قال عكرمة وابن عباس ومجاهد. وقال مقاتل: ينظرون إلى أهل النار. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (ينظرون إلى أعدائهم في النار) ذكره المهدوي. وقيل: على أرائك أفضاله ينظرون إلى وجهه وجلاله.
قوله تعالى{تعرف في وجوههم نضرة النعيم} أي بهجته وغضارته ونوره؛ يقال: نضر النبات: إذا آزهر ونور. وقراءة العامة {تعرف} بفتح التاء وكسر الراء {نضرة} نصبا؛ أي تعرف يا محمد. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويعقوب وشيبة وابن أبي إسحاق{تعرف} بضم التاء وفتح الراء على الفعل المجهول {نضرة} رفعا. {يسقون من رحيق} أي من شراب لا غش فيه. قاله الأخفش والزجاج. وقيل، الرحيق الخمر الصافية. وفي الصحاح: الرحيق صفوة الخمر. والمعنى واحد. الخليل: أقصى الخمر وأجودها. وقال مقاتل وغيره: هي الخمر العتيقة البيضاء الصافية من الغش النيرة، قال حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم بردي يصفق بالرحيق السلسل
وقال آخر:
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره أشهى إلي من الرحيق السلسل
قوله تعالى{مختوم} المختوم الممزوج. وقيل: مختوم أي ختمت ومنعت عن أن يمسها ماس إلى أن يفك ختامها الأبرار. وقرأ علي وعلقمة وشقيق والضحاك وطاوس والكسائي {خاتمه} بفتح الخاء والتاء وألف بينهما. قاله علقمة: أما رأيت المرأة تقول للعطار: أجعل خاتمه مسكا، تريد آخره. والخاتم والختام متقاربان في المعنى، إلا أن الخاتم الاسم، والختام المصدر؛ قال الفراء. وفي الصحاح: والختام: الطين الذي يحتم به. وكذا قال مجاهد وابن زيد: ختم إناؤه بالمسك بدلا من الطين. حكاه المهدوي. وقال الفرزدق:
وبت أفض أغلاق الختام
وقال الأعشى:
وأبرزها وعليها ختم
أي عليها طينة مختومة؛ مثل نفض بمعنى منفوض، وقبض بمعنى مقبوض. وذكر ابن المبارك وابن وهب، واللفظ لابن وهب، عن عبدالله. بن مسعود في قوله تعالى{ختامه مسك}: خلطه، ليس بخاتم يختم، ألا ترى إلى قول المرأة من نسائكم: إن خلطه من الطيب كذا وكذا. إنما خلطه مسك؛ قال: شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر أشربتهم، لو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها، لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها. وروى أبي بن كعب قال: قيل يا رسول الله ما الرحيق المختوم؟ قال: (غدران الخمر). وقيل: مختوم في الآنية، وهو غير الذي يجري في الأنهار. فالله أعلم. {وفي ذلك} أي وفي الذي وصفناه من أمر الجنة {فليتنافس المتنافسون} أي فليرغب الراغبون يقال: نفست عليه الشيء أنفسه نفاسة: أي ضننت به، ولم أحب أن يصير إليه. وقيل: الفاء بمعنى إلى، أي وإلى ذلك فليتبادر المتبادرون في العمل؛ نظيره{لمثل هذا فليعمل العاملون}.
قوله تعالى{ومزاجه} أي ومزاجه ذلك الرحيق {من تسنيم} وهو شراب ينصب عليهم من علو، وهو أشرف شراب في الجنة. وأصل التسنيم في اللغة: الارتفاع فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل؛ ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه، وكذلك تسنيم القبور. وروي عن عبدالله قال: تسنيم عين في الجنة يشرب بها المقربون صرفا، ويمزج منها كأس أصحاب اليمين فتطيب. وقال ابن عباس في قول عز وجل{ومزاجه من تسنيم} قال: هذا مما قال الله تعالى{فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}السجدة: 17]. وقيل: التسنيم عين تجري في الهواء بقدرة الله تعالى، فتنصب في أواني أهل الجنة على قدر مائها، فإذا امتلأت أمسك الماء، فلا تقع منه قطرة على الأرض، ولا يحتاجون إلى الاستقاء؛ قال قتادة، ابن زيد: بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش. وكذا في مراسيل الحسن. وقد ذكرناه في سورة الإنسان
{عينا يشرب بها المقربون} أي يشرب منها أهل جنة عدن، وهم أفاضل أهل الجنة صرفا، وهي لغيرهم مزاج. و{عينا} نصب على المدح. وقال الزجاج: نصب على الحال من تسنيم، وتسنيم معرفة، ليس يعرف له أشتقاق، وإن جعلته مصدرا مشتقا من السنام فـ {عينا} نصب؛ لأنه مفعول به؛ كقوله تعالى{أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما}البلد: 14] وهذا قول الفراء إنه منصوب بتسنيم. وعند الأخفش بـ {يسقون} أي يسقون عينا أو من عين. وعند المبرد بإضمار أعني على المدح.
">الآية رقم (29 : 36)">
الآية رقم (29 : 36)
{إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين، وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون، وما أرسلوا عليهم حافظين، فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون، على الأرائك ينظرون، هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون}
قوله تعالى{إن الذين أجرموا} وصف أرواح الكفار في الدنيا مع المؤمنين باستهزائهم بهم والمراد رؤساء قريش من أهل الشرك. روى ناس عن ابن عباس قال: هو الوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والعاص بن هشام، وأبو جهل، والنضر بن الحارث؛ وأولئك {كانوا من الذين آمنوا} من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مثل عمار، وخباب وصهيب وبلال {يضحكون} على وجه السخرية.{وإذا مروا بهم} عند إتيانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم {يتغامزون} يغمز بعضهم بعضا، ويشيرون بأعينهم. وقيل: أي يعيرونهم بالإسلام ويعيبونهم به يقال: غمزت الشيء بيدي؛ قال:
وكنت إذا غمزت فتاة قوم كسرت كعوبها أو تستقيما
وقالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد غمزني، فقبضت رجلي. الحديث؛ وقد مضى في النساء . وغمزته بعيني. وقيل: الغمز: بمعنى العيب، يقال غمزه: أي عابه، وما في فلأن غمزة أي عيب. وقال مقاتل: نزلت في علي بن أبي طالب جاء في نفر من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلمزهم المنافقون، وضحكوا عليهم وتغامزوا.
قوله تعالى{وإذا انقلبوا} أي أنصرفوا إلى أهلهم وأصحابهم وذويهم {انقلبوا فكهين} أي معجبين منهم. وقيل: معجبون بما هم عليه من الكفر، متفكهون بذكر المؤمنين. وقرأ ابن القعقاع وحفص والأعرج والسلمي{فكهين} بغير ألف. الباقون بألف. قال الفراء: هما لغتان مثل طمع وطامع وحذر وحاذر، وقد تقدم في سورة الدخان والحمد لله. وقيل: الفكه: الأشر البطر والفاكه: الناعم المتنعم. {وإذا رأوهم} أي إذا رأى هؤلاء الكفار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {قالوا إن هؤلاء لضالون} في اتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم {وما أرسلوا عليهم حافظين} لأعمالهم، موكلين بأحوالهم، رقباء عليهم.
قوله تعالى{فاليوم} يعني هذا اليوم الذي هو يوم القيامة {الذين آمنوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم {من الكفار يضحكون} كما ضحك الكفار منهم في الدنيا. نظيره في آخر سورة {المؤمنين} وقد تقدم. وذكر ابن المبارك: أخبرنا محمد بن بشار عن قتادة في قوله تعالى{فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} قال: ذكر لنا أن كعبا كان يقول إن بين الجنة والنار كوى، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في الدنيا اطلع من بعض الكوى؛ قال الله تعالى في آية أخرى{فاطلع فرآه في سواء الجحيم}الصافات: 55] قال: ذكر لنا أنه أطلع فرأى جماجم القوم تغلي. وذكر ابن المبارك أيضا: أخبرنا الكلبي عن أبي صالح في قوله تعالى{الله يستهزئ بهم}البقرة: 15] قال: يقال لأهل النار وهم في النار: أخرجوا، فتفتح لهم أبواب النار، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم؛ فذلك قوله{الله يستهزئ بهم}البقرة: 15] ويضحك منهم المؤمنون حين غلقت دونهم فذلك قوله تعالى{فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون. على الأرائك ينظرون. هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون} قد مضى هذا في أول سورة البقرة . ومعنى {هل ثوب } أي هل جوزي بسخريتهم في الدنيا بالمؤمنين إذا فعل بهم ذلك. وقيل: إنه متعلق بـ {ينظرون} أي ينظرون: هل جوزي الكفار؟ فيكون معنى هل [التقرير] وموضعها نصبا بـ {ينظرون}. وقيل: استئناف لا موضع له من الأعراب. وقيل: هو إضمار على القول، والمعنى؛ يقول بعض المؤمنين لبعض{هل ثوب الكفار} أي أثيب وجوزي. وهو من ثاب يثوب أي رجع؛ فالثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله، ويستعمل في الخير والشر. تمت السورة والله أعلم.
{إذا السماء انشقت، وأذنت لربها وحقت، وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت، وأذنت لربها وحقت}
قوله تعالى{إذا السماء انشقت} أي سمعت، وحق لها أن تسمع. روي معناه عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن أي ما استمع الله لشيء قال الشاعر:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
أي سمعوا. وقال قعنب ابن أم صاحب:
إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا وما هم أذنوا من صالح دفنوا
وقيل: المعنى وحقق الله عليها الاستماع لأمره بالانشقاق. وقال الضحاك: حقت: أطاعت، وحق لها أن تطيع ربها، لأنه خلقها؛ يقال: فلان محقوق بكذا. وطاعة السماء: بمعنى أنها لا تمتنع مما أراد الله بها، ولا يبعد خلق الحياة فيها حتى تطيع وتجيب. وقال قتادة: حق لها أن تفعل ذلك؛ ومنه قول كثير:
فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا وحقت لها العتبى لدينا وقلت
قوله تعالى{وإذا الأرض مدت} أي بسطت ودكت جبالها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تمد مد الأديم) لأن الأديم إذا مد زال كل آنثناء فيه وامتد واستوى. قال ابن عباس وابن مسعود: ويزاد وسعتها كذا وكذا؛ لوقوف الخلائق عليها للحساب حتى لا يكون لأحد من البشر إلا موضع قدمه، لكثرة الخلائق فيها. وقد مضى في سورة {إبراهيم} أن الأرض تبدل بأرض أخرى وهي الساهرة في قول ابن عباس على ما تقدم عنه {وألقت ما فيها وتخلت} أي أخرجت أمواتها، وتخلت عنهم. وقال ابن جبير: ألقت ما في بطنها من الموتى، وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء. وقيل: ألقت ما في بطنها كنوزها ومعادنها، وتخلت منها. أي خلا جوفها، فليس في بطنها شيء، وذلك يؤذن بعظم الأمر، كما تلقى الحامل ما في بطنها عند الشدة. وقيل: تخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها. وقيل: ألقت ما استودعت، وتخلت مما استحفظت؛ لأن الله تعالى استودعها عباده أحياء وأمواتا، واستحفظها بلاده مزارعة وأقواتا. {وأذنت لربها{ أي في إلقاء موتاها }وحقت{ أي وحق لها أن تسمع أمره. واختلف في جواب {إذا} فقال الفراء{أذنت}. والواو زائدة، وكذلك {وألقت}. ابن الأنباري: قال بعض المفسرين: جواب {إذا السماء أنشقت} {أذنت}، وزعم أن الواو مقحمة وهذا غلط؛ لأن العرب لا تقحم الواو إلا مع {حتى إذا} كقوله تعالى{حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها}الزمر: 71] ومع {لما} كقوله تعالى{فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه}الصافات: 103] معناه {ناديناه} والواو لا تقحم مع غير هذين. وقيل: الجواب فاء مضمرة كأنه قال{إذا السماء أنشقت} فيا أيها الإنسان إنك كادح. وقيل: جوابها ما دل عليه {فملاقيه} أي إذا السماء انشقت لاقي الإنسان كدحه. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} {إذا السماء انشقت}. قاله المبرد. وعنه أيضا: الجواب {فأما من أوتي كتابه بيمينه} وهو قول الكسائي؛ أي إذا السماء أنشقت فمن أوتي كتابه بيمينه فحكمه كذا. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح ما قيل فيه وأحسنه. قيل: هو بمعنى أذكر {إذا السماء انشقت}. وقيل: الجواب محذوف لعلم المخاطبين به؛ أي إذا كانت هذه الأشياء علم المكذبون بالبعث ضلالتهم وخسرانهم. وقيل: تقدم منهم سؤال عن وقت القيامة، فقيل لهم: إذا ظهرت أشراطها كانت القيامة، فرأيتم عاقبة تكذيبكم بها. والقرآن كالآية الواحدة في دلالة البعض على البعض. وعن الحسن: إن قوله {إذا السماء انشقت} قسم. والجمهور على خلاف قول من أنه خبر وليس بقسم.
الآية رقم (6 : 9)
{يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه، فأما من أوتي كتابه بيمينه، فسوف يحاسب حسابا يسيرا، وينقلب إلى أهله مسرورا}
قوله تعالى{يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا} المراد بالإنسان الجنس أي يا ابن آدم. وكذا روى سعيا. عن قتادة: يا ابن آدم، إن كدحك لضعيف، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل ولا قوة إلا بالله. وقيل: هو معين، قال مقاتل: يعني الأسود بن عبدالأسد. ويقال: يعني أبي بن خلف. ويقال: يعني جميع الكفار، أيها الكافر إنك كادح. والكدح في كلام العرب: العمل والكسب؛ قال ابن مقبل:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقال آخر:
ومضت بشاشة كل عيش صالح وبقيت أكدح للحياة وأنصب
أي أعمل. وروى الضحاك عن ابن عباس{إنك كادح} أي راجع {إلى ربك كدحا} أي رجوعا لا محالة {فملاقيه} أي ملاق ربك. وقيل: ملاق عملك. القتبي {إنك كادح} أي عامل ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك. والملاقاة بمعنى اللقاء أن تلقى ربك بعملك. وقيل أي تلاقي كتاب عملك؛ لأن العمل قد انقضى ولهذا قال{فأما من أوتي كتابه بيمينه} وهو المؤمن {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} لا مناقشة فيه. كذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حوسب يوم القيامة عذب) قالت: فقلت يا رسول الله أليس قد قال الله {فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا} فقال{ليس ذاك الحساب؛ إنما ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب)"أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وقال حديث حسن صحيح" {وينقلب إلى أهله مسرورا} أزواجه في الجنة من الحور العين {مسرورا} أي مغتبطا قرير العين. ويقال إنها نزلت في أبي سلمة بن عبدالأسد، هو أول من هاجر من مكة إلى المدينة. وقيل: إلى أهله الذين كانوا له في الدنيا، ليخبرهم بخلاصه وسلامته. والأول قول قتادة. أي إلى أهله الذين قد أعدهم الله له في الجنة.
الآية رقم (10 : 15)
{وأما من أوتي كتابه وراء ظهره، فسوف يدعو ثبورا، ويصلى سعيرا، إنه كان في أهله مسرورا، إنه ظن أن لن يحور، بلى إن ربه كان به بصيرا}
قوله تعالى{وأما من أوتي كتابه وراء ظهره} نزلت في الأسود بن عبدالأسد أخي أبي سلمة قال ابن عباس. ثم هي عامة في كل مؤمن وكافر. قال ابن عباس: يمد يده اليمنى ليأخذ كتابه فيجذبه ملك، فيخلع يمينه، فيأخذ كتابه بشمال من وراء ظهره. وقال قتادة ومقاتل: يفك ألواح صدره وعظامه ثم تدخل يده وتخرج من ظهره، فيأخذ كتابه كذلك. {فسوف يدعو ثبورا} أي بالهلاك فيقول: يا ويلاه، يا ثبوراه. {ويصلى سعيرا} أي ويدخل النار حتى يصلى بحرها. وقرأ الحرميان وابن عامر والكسائي {ويصلى} بضم الياء وفتح الصاد، وتشديد اللام، كقوله تعالى{ثم الجحيم صلوه}الحاقة: 31] وقوله{وتصلية جحيم}الواقعة: 94]. الباقون {ويصلى} بفتح الياء مخففا، فعل لازم غير متعد؛ لقوله{إلا من هو صال الجحيم}الصافات: 163] وقوله{يصلى النار الكبرى}الأعلى: 12] وقوله {ثم إنهم لصالو الجحيم}المطففين: 16]. وقراءة ثالثة رواها أبان عن عاصم وخارجة عن نافع وإسماعيل المكي عن ابن كثير {ويصلي} بضم الياء وإسكان الصاد وفتح اللام مخففا؛ كما قرئ {وسيصلون} بضم الياء، وكذلك في الغاشية قد قرئ أيضا{تصلي نارا} وهما لغتان صلى وأصلى؛ كقوله{نزل. وأنزل}.
قوله تعالى{إنه كان في أهله} أي في الدنيا {مسرورا} قال ابن زيد: وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء والشفقة في الدنيا فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة، وقرأ قول الله تعالى{إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم}. قال: ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحك فيها والتفكه. فقال{إنه كان في أهله مسرورا}. {إنه ظن أن لن يحور} أي لن يرجع حيا مبعوثا فيحاسب، ثم يثاب أو يعاقب. يقال: حار يحور إذا رجع؛ قل لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وقال عكرمة وداود بن أبي هند، يحور كلمة بالحبشية، ومعناها يرجع. ويجوز أن تتفق الكلمتان فإنهما كلمة اشتقاق؛ ومنه الخبز الحوارة؛ لأنه يرجع إلى البياض. وقال ابن عباس: ما كنت أدري: ما يحور؟ حتى سمعت أعرابية تدعو بنية لها: حوري، أي ارجعي إلي، فالحور في كلام العرب الرجوع؛ ومنه قول عليه السلام{اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور} يعني: من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة، وكذلك الحور بالضم. وفي المثل {حور في محارة} أي نقصان في نقصان. يضرب للرجل إذا كان أمره يدبر، قال الشاعر:
واستعجلوا عن خفيف المضغ فازدردوا والذم يبقى وزاد القوم في حور
والحور أيضا: الاسم من قولك: طحنت الطاحنة فما أحارت شيئا؛ أي ما ردت شيئا من الدقيق. والحور أيضا الهلكة؛ قال الراجز:
في بئر لا حور سرى ولا شعر
قال أبو عبيدة: أي بئر حور، و{لا} زائدة. وروى {بعد الكون} ومعناه من انتشار الأمر بعد تمامه. وسئل معمر عن الحور بعد الكون، فقال: هو الكنتي. فقال له عبدالرزاق: وما الكنتي؟ فقال: الرجل يكون صالحا ثم يتحول رجل سوء. قال أبو عمرو: يقال للرجل إذا شاخ: كنتي، كأنه نسب إلى قوله: كنت في شبابي كذا. قال:
فأصبحت كنتا وأصبحت عاجنا وشر خصال المرء كنت وعاجن
عجن الرجل: إذا نهض معتمدا على الأرض من الكبر. وقال ابن الأعرابي: الكنتي: هو الذي يقول: كنت شابا، وكنت شجاعا، والكاني هو الذي يقول: كان لي مال وكنت أهب، وكان لي خيل وكنت أركب.
قوله تعالى{بلى} أي ليس الأمر كما ظن، بل يحور إلينا ويرجع. {إن ربه كان به بصيرا} قبل أن يخلقه، عالما بأن مرجعه إليه. وقيل: بلى ليحورن وليرجعن. ثم ستأنف فقال{إن ربه كان به بصيرا} من يوم خلقه إلى أن بعثه. وقيل: عالما بما سبق له من الشقاء والسعادة.
الآية رقم (16 : 21)
{فلا أقسم بالشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق، لتركبن طبقا عن طبق، فما لهم لا يؤمنون، وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون}
قوله تعالى{فلا أقسم} أي فأقسم و{لا} صلة. {بالشفق} أي بالحمرة التي تكون عند مغيب الشمس حتى تأتي صلاة العشاء الآخرة. قال أشهب وعبدالله بن الحكم ويحيى بن يحيى وغيرهم، كثير عددهم عن مالك: الشفق الحمرة التي في المغرب، فإذا ذهبت الحمرة فقد خرجت من وقت المغرب ووجبت صلاة العشاء. وروى بن وهب قال: أخبرني غير واحد عن علي ابن أبي طالب ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأبي هريرة: أن الشفق الحمرة، وبه قال مالك بن أنس. وذكر غير ابن وهب من الصحابة: عمر وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأنسا وأبا قتادة وجابر بن عبدالله وابن الزبير، ومن التابعين: سعيد بن جبير، وابن المسيب وطاوس، وعبدالله بن دينار، والزهري، وقال به من الفقهاء الأوزاعي ومالك والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وأبو عبيدة وأحمد وإسحاق وقيل: هو البياض؛ روي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة أيضا وعمر بن عبدالعزيز والأوزاعي وأبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه. وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه. وروي عن ابن عمر أيضا أنه البياض والاختيار الأول؛ لأن أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء عليه، ولأن شواهد كلام العرب والاشتقاق والسنة تشهد له. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول لثوب عليه مصبوغ: كأنه الشفق وكان أحمر، فهذا شاهد للحمرة؛ وقال الشاعر:
وأحمر اللون كمحمر الشفق
وقال آخر:
قم يا غلام أعني غير مرتبك على الزمان بكأس حشوها شفق
ويقال للمغرة الشفق. وفي الصحاح: الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قريب من العتمة. قال الخليل: الشفق: الحمرة، من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، إذا ذهب قيل: غاب الشفق. ثم قيل: أصل الكلمة من رقة الشيء؛ يقال: شيء شفق أي لا تماسك له لرقته. واشفق عليه. أي رق قلبه عليه، والشفقة: الاسم من الإشفاق، وهو رقة القلب، وكذلك الشفق؛ قال الشاعر:
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم
فالشفق: بقية ضوء الشمس وحمرتها فكأن تلك الرقة عن ضوء الشمس. وزعم الحكماء أن البياض لا يغيب أصلا. وقال الخليل: صعدت منارة الإسكندرية فرمقت البياض، فرأيته يتردد من أفق إلى أفق ولم أره يغيب. وقال ابن أبي أويس: رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر قال علماؤنا: فلما لم يتحدد وقته سقط اعتباره. وفي سنن أبي داود عن النعمان بن بشير قال: أنا أعلمكم بوقت صلاة العشاء الآخرة؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر الثالثة. وهذا تحديد، ثم الحكم معلق بأول الاسم. لا يقال: فينقض عليكم بالفجر الأول، فإنا نقول الفجر الأول لا يتعلق به حكم من صلاة ولا إمساك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين الفجر بقوله وفعله فقال وليس الفجر أن تقول هكذا - فرفع يده إلى فوق - ولكن الفجر أن تقول هكذا وبسطها وقد مضى بيانه في آية الصيام من سورة البقرة ، فلا معنى للإعادة. وقال مجاهد: الشفق: النهار كله ألا تراه قال {والليل وما وسق} وقال عكرمة: ما بقي من النهار. والشفق أيضا: الرديء من الأشياء؛ يقال: عطاء مشفق أي مقلل قال الكميت:
ملك أغر من الملوك تحلبت للسائلين يداه غير مشفق
قوله تعالى{والليل وما وسق} أي جمع وضم ولف، وأصله من سورة السلطان وغضبه فلولا أنه خرج إلى العباد من باب الرحمة ما تمالك العباد لمجيئه ولكن خرج من باب الرحمة فمزح بها، فسكن الخلق إليه ثم انذعروا والتفوا وانقبضوا، ورجع كل إلى مأواه فسكن فيه من هوله وحشا، وهو قوله تعالى{ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه}القصص: 73] أي بالليل {ولتبتغوا من فضله}القصص: 73] أي بالنهار على ما تقدم. فالليل يجمع ويضم ما كان منتشرا بالنهار في تصرفه. هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد ومقاتل وغيرهم؛ قال ضابئ بن الحارث البرجمي:
فإني وإياكم وشوقا إليكم كقابض ماء لم تسقه أنامله
يقول: ليس في يده من ذلك شيء كما أنه ليس في يد القابض على الماء شيء؛ فإذا جلل الليل الجبال والأشجار والبحار والأرض فاجتمعت له، فقد وسقها. والوسق: ضمك الشيء بعضه إلى بعض، تقول: وسقته أسقه وسقا. ومنه قيل للطعام الكثير المجتمع: وسق، وهو ستون صاعا. وطعام موسق: أي مجموع، وإبل مستوسقة أي مجتمعة؛ قال الراجز:
إن لنا قلائصا حقائقا مستوسقات لو يجدن سائقا
وقال عكرمة{وما وسق} أي وما ساق من شيء إلى حيث يأوي، فالوسق بمعنى الطرد، ومنه قيل للطريدة من الإبل والغنم والحمر: وسيقة، قال الشاعر:
كما قاف آثار الوسيقة قائف
وعن ابن عباس{وما وسق} أي وما جن وستر. وعنه أيضا: وما حمل، وكل شيء حملته فقد وسقته، والعرب تقول: لا أفعله ما وسقت عيني الماء، أي حملته. ووسقت الناقة تسق وسقا: أي حملت وأغلقت رحمها على الماء، فهي ناقة واسق، ونوق وساق مثل نائم ونيام، وصاحب وصحاب، قال بشر بن أبي خازم:
ألظ بهن يحدوهن حتى تبينت الحيال من الوساق
ومواسيق أيضا. وأوسقت البعير: حملته حمله، وأوسقت النخلة: كثر حملها. وقال يمان والضحاك ومقاتل بن سليمان: حمل من الظلمة. قال مقاتل: أو حمل من الكواكب. القشيري: ومعنى حمل: ضم وجمع، والليل يجلل بظلمته كل شيء فإذا جللها فقد وسقها. ويكون هذا القسم قسما بجميع المخلوقات، لاشتمال الليل عليها، كقوله تعالى{فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون}الحاقة:38 - 39]. وقال ابن جبير{وما وسق} أي وما عمل فيه، يعني التهجد والاستغفار بالأسحار، قال الشاعر:
ويوما ترانا صالحين وتارة تقوم بنا كالواسق المتلبب
أي كالعامل.
قوله تعالى{والقمر إذا اتسق} أي تم واجتمع واستوى. قال الحسن: اتسق: أي امتلأ واجتمع. ابن عباس: استوى. قتادة: استدار. الفراء: اتساقه: امتلاؤه واستواؤه ليالي البدر، وهو افتعال من الوسق الذي هو الجمع، يقال: وسقته فاتسق، كما يقال: وصلته فاتصل، ويقال: أمر فلان متسق: أي مجتمع على الصلاح منتظم. ويقال: اتسق الشيء: إذا تتابع{لتركبن طبقا عن طبق} قرأ أبو عمر وابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومسروق وأبو وائل ومجاهد والنخعي وابن كثير وحمزة والكسائي {لتركبن} بفتح الباء خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم، أي لتركبن يا محمد حالا بعد حال، قال ابن عباس. الشعبي: لتركبن يا محمد سماء بعد سماء، ودرجة بعد درجة، ورتبة بعد رتبة، في القربة من الله تعالى. ابن مسعود: لتركبن السماء حالا بعد حال، يعني حالاتها التي وصفها الله تعالى بها من الانشقاق والطي وكونها مرة كالمهل ومرة كالدهان. وعن إبراهيم عن عبدالأعلى{طبقا عن طبق} قال: السماء تقلب حالا بعد حال. قال: تكون وردة كالدهان، وتكون كالمهل؛ وقيل: أي لتركبن أيها الإنسان حالا بعه حال، من كونك نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم حيا وميتا وغنيا وفقيرا. فالخطاب للإنسان المذكور في قوله{يا أيها الإنسان إنك كادح} هو اسم للجنس، ومعناه الناس. وقرأ الباقون {لتركبن} بضم الباء، خطابا للناس، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قال: لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى الله عليه وسلم، لما ذكر قبل هذه الآية فمن أوتي كتابه بيمينه ومن أوتي كتابه بشماله. أي لتركبن حالا بعد حال من شدائد القيامة، أو لتركبن سنة من كان قبلكم في التكذيب واختلاق على الأنبياء.
قلت: وكله مراد، وقد جاءت بذلك أحاديث، ف"أبو نعيم الحافظ عن جعفر بن محمد بن علي" عن جابر رضي الله عنه، قال سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل؛ إن الله لا إله غيره إذا أراد خلقه قال للملك اكتب رزقه وأثره وأجله، واكتب شقيا أو سعيدا، ثم يرتفع ذلك الملك، ويبعث الله ملكا آخر فيحفظه حتى يدرك، ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته، فإذا جاءه الموت ارتفع ذانك الملكان، ثم جاءه ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه، فإذا أدخل حفرته رد الروح في جسده، ثم يرتفع ملك الموت، ثم جاءه ملكا، القبر فامتحناه، ثم يرتفعان، فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات، فأنشطا كتابا معقودا في عنقه، ثم حضرا معه، واحد سائق والآخر شهيد) ثم قال الله عز وجل {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد}ق: 22]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{لتركبن طبقا عن طبق} قال: (حالا بعد حال) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قدامكم أمرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم) فقد أشتمل هذا الحديث على أحوال تعتري الإنسان، من حين يخلق إلى حين يبعث، وكله شدة بعد شدة، حياة ثم موت، ثم بعث ثم جزاء، وفي كل حال من هذه شدائد. وقال صلى الله عليه وسلم: (لتركبن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ خرجه البخاري: وأما أقوال المفسرين، فقال عكرمة: حالا بعد حال، فطيما بعد رضيع، وشيخا بعد شباب، قال الشاعر:
كذلك المرء إن ينسأ له أجل يركب على طبق من بعده طبق
وعن مكحول: كل عشرين عاما تجدون أمرا لم تكونوا عليه: وقال الحسن: أمرا بعد أمر، رخاء بعد شدة، وشدة بعد رخاء، وغنى بعد فقر، وفقرا بعد غني، وصحة بعد سقم، وسقما بعد صحة: سعيد بن جبير: منزلة بعد منزلة، قوم كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة، وقوم كانوا في الدنيا مرتفعين فاتضعوا في الآخرة: وقيل: منزلة عن منزلة، وطبقا عن طبق، وذلك، أن من كان على صلاح دعاه إلى صلاح فوقه، ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه، لأن كل شيء يجري إلى شكله: ابن زيد: ولتصيرن من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة: وقال ابن عباس: الشدائد والأهوال: الموت، ثم البعث، ثم العرض، والعرب تقول لمن وقع في أم شديد: وقع في بنات طبق، وإحدى بنات طبق، ومنه قيل للداهية الشديدة: أم طبق، وإحدى بنات طبق: وأصلها من الحيات، إذ يقال: للحية أم طبق لتحويها: والطبق في اللغة: الحال كما وصفنا، قال الأقرع بن حابس التميمي:
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره وساقني طبق منه إلى طبق
وغدا أدل دليل على حدوث العالم، وإثبات الصانع، قالت الحكماء: من كان اليوم على حالة، وغدا على حالة أخرى فليعلم أن تدبيره إلى سواه: وقيل لأبي بكر الوراق: ما الدليل على أن لهذا العالم صانعا؟ فقال: تحويل الحالات، وعجز القوة، وضعف الأركان، وقهر النية: ونسخ العزيمة: ويقال: أتانا طبق من الناس وطبق من الجراد: أي جماعة: وقول العباس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
تنقل من صالب إلى رحم إذا مضى عالم بدا طبق
أي قرن من الناس. يكون طباق الأرض أي ملأها. والطبق أيضا: عظم رقيق يفصل بين الفقارين ويقال: مضى طبق من الليل، وطبق من النهار: أي معظم منه. والطبق: واحد الأطباق، فهو مشترك. وقرئ {لتركبن} بكسر الباء، على خطاب النفس و{ليركبن} بالياء على ليركبن الإنسان. و{عن طبق} في محل نصب على أنه صفة لـ {طبقا} أي طبقا مجاوزا لطبق. أو حال من الضمير في {لتركبن} أي لتركبن طبقا مجاوزين لطبق، أو مجاوزا أو مجاوزة على حسب القراءة.
قوله تعالى{فما لهم لا يؤمنون} يعني أي شيء يمنعهم من الإيمان بعد ما وضحت لهم الآيات وقامت الدلالات. وهذا استفهام إنكار. وقيل: تعجب أي أعجبوا منهم في ترك الإيمان مع هذه الآيات. {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} أي لا يصلون. وفي الصحيح: إن أبا هريرة قرأ {إذا السماء أنشقت} فسجد فيها، فلما أنصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها. وقد قال مالك: إنها ليست من عزائم السجود؛ لأن [المعنى] لا يذعنون ولا يطيعون في العمل بواجباته. ابن العربي: والصحيح أنها منه، وهي رواية المدنيين عنه، وقد أعتضد فيها القرآن والسنة. قال ابن العربي: لما أممت بالناس تركت قراءتها؛ لأني إن سجدت أنكروه، وإن تركتها كان تقصيرا مني، فاجتنبتها إلا إذا صليت وحدي. وهذا تحقيق وعد الصادق بأن يكون المعروف منكرا، والمنكر معروفا؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: (لولا حدثان قومك بالكفر لهدمت البيت، ولرددته على قواعد إبراهيم). ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع، وعند الرفع منه، وهو مذهب مالك والشافعي ويفعله الشيعة، فحضر عندي يوما في محرس ابن الشواء بالثغر - موضع تدريسي - عند صلاة الظهر، ودخل المسجد من المحرس المذكور، فتقدم إلى الصف وأنا في مؤخره قاعدا على طاقات البحر، أتنسم الريح من شدة الحر، ومعي في صف واحد أبو ثمنة رئيس البحر وقائده، مع نفر من أصحابه ينتظر الصلاة، ويتطلع على مراكب تخت الميناء، فلما رفع الشيخ يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه قال أبو ثمنة وأصحابه: ألا ترون إلى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا؟ فقوموا إليه فاقتلوه وأرموا به إلى البحر، فلا يراكم أحد. فطار قلبي من بين جوانحي وقلت: سبحان الله هذا الطرطوشي فقيه الوقت. فقالوا لي: ولم يرفع يديه؟ فقلت: كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، وهذا مذهب مالك، في رواية أهل المدينة عنه. وجعلت أسكنهم وأسكتهم حتى فرغ من صلاته، وقمت معه إلى المسكن من المحرس، ورأى تغير وجهي، فأنكره، وسألني فأعلمته، فضحك وقال: ومن أين لي أن أقتل على سنة؟ فقلت له: ولا يحل لك هذا، فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك وربما ذهب دمك. فقال: دع هذا الكلام، وخذ في غيره.
الآية رقم (22 : 25)
{بل الذين كفروا يكذبون، والله أعلم بما يوعون، فبشرهم بعذاب أليم، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون}
قوله تعالى{بل الذين كفروا يكذبون} محمدا صلى الله عليه وسلم وما جاء به. وقال مقاتل: نزلت في بني عمرو بن عمير وكانوا أربعة، فأسلم آثنان منهم. وقيل: هي في جميع الكفار. {والله أعلم بما يوعون} أي بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. وقال مجاهد: يكتمون من أفعالهم. ابن زيد: يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة؛ مأخوذ من الوعاء الذي يجمع ما فيه؛ يقال: أوعيت الزاد والمتاع: إذا جعلته في الوعاء؛ قال الشاعر:
الخير أبقى وإن طال الزمان به والشر أخبث ما أوعيت من زاد
ووعاه أي حفظه؛ تقول: وعيت الحديث أعيه وعيا، وأذن واعية. وقد تقدم.
{فبشرهم بعذاب أليم} أي موجع في جهنم على تكذيبهم. أي أجعل ذلك بمنزلة البشارة. {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} استثناء منقطع، كأنه قال: لكن الذين صدقوا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وعملوا الصالحات، أي أدوا الفرائض المفروضة عليهم {لهم أجر} أي ثواب {غير ممنون} أي غير منقوص ولا مقطوع؛ يقال: مننت الحبل: إذا قطعته. وقد تقدم. {لهم أجر غير ممنون} سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله: فقال: غير مقطوع. فقال: هل تعرف ذلك العرب؟ قال: نعم قد عرفه أخو يشكر حيث يقول:
فترى خلفهن من سرعة الرجـ ـع مَنِينا كأنه أهباء
قال المبرد: المنين: الغبار؛ لأنها تقطعه وراءها. وكل ضعيف منين وممنون. وقيل{غير ممنون} لا يمن عليهم به. وذكر ناس من أهل العلم أن قوله{إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ليس استئناء، وإنما هو بمعنى الواو، كأنه قال: والذين آمنوا. وقد مضى في البقرة القول فيه والحمد لله.