الفاتح أسد بن الفرات رضي اللهعنه القاضي والفقيه وقائد الأسطول
بقلم فضيلة الشيخ/ محمد عبدالله الخطيب
الأسطورة التي تزعم أن في الإسلام رجل دين لا علاقة له بالدنيا ولا بالحياة، وأن هناك رجل دنيا لا علاقة له بالدين، أسطورة كاذبة لا يعرفها الإسلام على امتداد تاريخه؛ بل هي مستوردة من وراء البحار، والإسلام منها بريء، فالمسلم عالمي بحكم إسلامه، ونظام الإسلام الشامل للدين والدنيا والآخرة، يشمل العبادة والقيادة، ويتناول السياسة والاقتصاد.
والعالم المجاهد الذي نتحدث عنه "أسد ابن الفرات" كان قاضيًا وفقيهًا، ومجاهدًا، وقائدًا للأسطول الذي فتح جزيرة صقلية، إحدى جزر حوض البحر الأبيض المتوسط، والتي تقع في جنوب إيطاليا.
واختياره- رضي الله عنه- يثير الدهشة في زماننا هذا، ويبعث على العجب، كيف يتولى قاض فقيه قيادة الأسطول في معركة من أشد المعارك، وهو سيلتقي ولا شك بالأسطول الروماني الذي يقوم بحماية هذه الجزيرة.
ومما يزيد من تلك الدهشة أن القاضي قد شارف على السبعين من عمره، فكيف يقوى على احتمال أهوال المعركة؟
لكن كل هذه الهواجس تتلاشى حين نستمع إلى صوت قائد الأسطول وهو يُكبِّر، وينادى في رجاله، هلموا على الجهاد، هلموا على الشهادة في سبيل الله، أقبلوا على جنة عرضها السموات والأرض، ويتولى التكبير والنداء، وتنطلق عبارات القائد قوية تنفذ إلى القلوب، وتحمل معها نور الإيمان والبشرى بالنصر أو الشهادة في سبيل الله.
وفي لحظات انطلق المجاهدون إلى أماكنهم، في إيمان وثقة وفرحة، وقد انطلقت حناجرهم بالتكبير والتهليل، والبحر ساكن من حولهم، وكأنه ينصت إلى تكبيراتهم في الحقيقة رهبة وخشوع وإجلال.
نبذة عن الجزيرة:
كانت تابعة للإمبراطورية البيزنطية، وفي مطلع القرن التاسع الميلادي حدث فيها الكثير من ألوان الفوضى والعبث، وكانت بحرية الروم تستغلها كقاعدة تغير منها على الساحل الإفريقي، وتقوم بالتخريب في بلاد المسلمين، فكان لابد من التفكير في فتح هذه الجزيرة؛ لدفع الأذى ونشر الإسلام، وليأمن جميع الناس في ظله، فأصدر "زيادة الله بن الأغلب" الأمر لأسد بن الفرات لقيادة الأسطول الذي يقوم بالفتح للجزيرة، وكان ذلك في ربيع الأول سنة 212 هجرية.
وصقلية ليست جزيرة واحدة، إنها تشكل ثلاث جزر، وكل جزيرة لها طبيعة خاصة، وشهرة مختلفة عما عداها، وقد قيل قديمًا "إن صقلية أشبه بقارة".
كان الأسطول يتكون من ثمان وتسعين قطعة حربية، رست بالقرب من الشاطئ في تنسيق وانتظام.. وكانت أشرعة السفن، وهى ترفرف فوق البحر كأنها أجنحة ملائكة، جاءت لتشارك المؤمنين في الجهاد.
وكما احتشدت قطع الأسطول في ميناء سوسة، احتشدت كذلك مشاعر الناس وذكرياتهم عن مواقف الجهاد.
تذكروا مشهدًا رائعًا كهذا المشهد، وقف فيه التاريخ يدون بداية عظيمة لفتح عظيم.
كان ذلك قبل مائة سنة وأكثر، وكان ميناء سبتة حافلاً يومها بقطع الأسطول الذي عبر به طارق بن زياد إلى أرض القوط، وأخضع تلك الدولة الشاسعة الواسعة لحكم الإسلام.
وبرقت الأماني في قلوب الناس، أن يكرر التاريخ نفسه، ويكون هذا اليوم بداية عظيمة لفتح عظيم.
وبعد أن تمت مراسم الوداع بين أمير القيروان وقائد الأسطول صدرت الإشارة بالتحرك فوق عباب البحر صوب جزيرة صقلية.
وإذا كان الوقت في ربيع الأول فقد انبعثت في نفوس المجاهدين ذكريات باهرة ساحرة عما أصاب البشرية من خير عميم في هذا الشهر.
شرفت الإنسانية بمولده:
ألم يكن ربيع الأول نقطة زاهرة في غرة الزمن، ودرة ناصعة في عقد الأيام؟
ألم يكن بداية مرحلة جديدة شهدت فيها الإنسانية تحرير العقل من الباطل، وتحرير النفس من الشهوات، وتحرير الإنسان من العبودية والهوان؟
ألم يولد فيه نجم إنساني، ملأ الكون علمًا وحكمة، ووصل ما بين الأرض والسماء برباط من نور؟
شهر شرفت به الشهور كما شرفت الإنسانية بميلاد محمد بن عبد الله فيه صلى الله عليه وسلم.
وتوالت الذكريات على نفوس المجاهدين، كما تتوالى مواكب الشهب في تناسق بديع.
إن المهمة التي جردوا أنفسهم لها هي خطوة من تلك الخطوات المباركة التي بدأها النبي على طريق الجهاد.. وستتلوها خطوات ما دام للإنسانية وجود.
إنهم ذاهبون إلى فتح جزيرة ما زالت الوثنية توصد أبوابها في وجه النور، وما زالت أعلام الجاهلية ترفرف على نواحيها.
ولم يكن أمام المجاهدين إلا أحد أمرين: الاستشهاد أو النصر، وكلاهما أمنية غالية تداعب نفوسهم.
ولما وصلوا إلى ميناء مازر- ويقع في الطرف الغربي لجزيرة صقلية- نادى أسد بن الفرات في الجند بالنزول، وكانت أول لحظة يخط فيها التاريخ سطرًا مجيدًا من سطور الفتح الأكبر في هذه الجزيرة.
خطة الفتح:
كان أسد بن الفرات قد أعد خطة الفتح بعبقرية عسكرية ذكرت المجاهدين بتلك الخطط الدقيقة التي وضعها القواد العظام في أيام الفتح الأولى.
اتجه بالجيش إلى شرق الجزيرة، بعد أن خصص فرقة من الجند لحراسة الأسطول، وبعد أن سد جميع الطرق والشعاب التي يمكن أن يتسلل منها الروم من الخلف.
ثم أمر بالهجوم على جيش الروم، وكان يقوده رجل ممعن في الغطرسة والكبرياء كأشد ما يكون الإمعان.. هذا الرجل اسمه بلاطة، وكان له تاريخ عريض في كسب المعارك، مما جعل الغرور جزءًا من نفسه، وشطرًا من مشاعره.
وقد أقسم بلاطة بكل عزيز لديه بأن لن يكتفي بدحر المسلمين، وإنما سيأخذ بالثأر من أميرهم في القيروان، وسيوقف زحف المسلمين على المدن في المنطقة كلها.
ومما زاده صلفًا وغرورًا أنه نظر ناحية المسلمين فرأى أسد بن الفرات شيخًا متقدمًا في السن، تلمع لحيته البيضاء تحت أشعة الشمس، فقال لجيشه: أرأيتم هذا الشيخ.. إنه قائد المسلمين.. وهو كما ترون لا جلد له على القتال، ولا صبر له على الكر والفر، ولا يملك العزم على احتمال أهوال المعارك.. احملوا عليهم، واجعلوهم طعامًا لوحوش الجزيرة.
وبينما كان بلاطة يتهكم ويزري بقائد المسلمين، كان أسد بن الفرات يعظ جنده بالآية الكريمة:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال: 45- 46)، وكان يأمرهم بألا يقتلوا شيخًا ولا طفلاً ولا امرأة، وأن يكبروا عند كل ضربة سيف، وعند كل رمية سهم.
ثم التقى الجمعان، وحمي وطيس المعركة، وكانت المفاجأة لجيش الروم أن أسد بن الفرات، الشيخ الذي رق عظمه، ونالت منه السنون، يصول ويجول كأنه شاب في مقتبل العمر، وتجلت فيه القوة الذاتية للمسلم، القوة التي يستمدها من إيمانه وعقيدته، فتبعث في الجسد المحطم المتهالك تيارًا من العزيمة يصعق كل من يتصدى له.
وما هي إلا ساعة حتى ظهر الشحوب على وجه قائد الروم، وأدرك أنه كان يحلم بسراب خادع، وأنه يحارب رجالاً يحبون الموت ويقبلون عليه.. ويتلذذون بالاستشهاد في أرض المعركة.
ومرت به لحظات ثقال يتردد بين الاستمرار في القتال حتى ولو أدى ذلك إلى مصرعه، وبين الفرار وفيه ما فيه من وصمة العار!.
ثم آثر الحياة على الموت، وفر من ساحة القتال.. وهرب إلى فلورية تسبقه أنباء الهزيمة، ويغطي وجهه غبار الهوان.
وهنا سنحت الفرصة لخصومه أن ينتقموا منه، فطالما جرح كبرياءهم بجبروته وغطرسته.. وطالما جرعهم كئوس الذل والصغار.
وإذا هو في غمرة العار الذى جلله، والهزيمة التي أركسته، فوجئ بعدد من الجند، يحدقون به، ويروون سيوفهم في دمائه، وانتهت أسطورة القائد الذي كانت الجزيرة تعتمد عليه في حمايتها.
وإذا كانت الجزيرة قد قضت ليلة باكية منتحبة على ما لحقها من هوان، فإن المسلمين كانوا في الجانب الآخر يصلون لله شكرًا على النصر الذي أحرزوه بفضله ورحمته.
ولكن هل يستسلم حاكم الجزيرة، ويحني رأسه للهزيمة، ويتخلى عن سلطانه للمسلمين؟
إنه يعلم أن موت بلاطة أثر في الروح المعنوية لجيش الجزيرة، وأن أنباء الهزيمة ثبطت همم الذين كانوا يريدون قتال المسلمين، ويعلم أيضًا أن الجزيرة تسودها حالة من الفزع والرعب، وأن الموقف إذا استمر على هذه الحال، فإن الجزيرة ستقع في قبضة المسلمين لا محالة.
البلاط الروماني يتدخل:
وتنهد تنهيدة عميقة، وهو يفكر فيما آل إليه أمر الجزيرة، وفيما سوف يحدث لها إن لم تدركها نجدة سريعة.
ومن أين تأتي النجدة؟
الجزيرة تابعة للبلاط الروماني في القسطنطينية، وإن القسطنيطنية لن تتواني لحظة واحدة إذا علمت بأن الجزيرة على وشك السقوط في أيدي المسلمين.
كان الاستنجاد بالبلاط آخر سهم يلقيه ميخائيل الثاني للحفاظ على سلطانه في الجزيرة، وكانت الأحداث تجري سراعًا، تقطع الأحلام التي تزجيها رياح عاصفة، فالمسلمون يستولون كل يوم على جزء جديد من الجزيرة، ويرفعون عليه علم الإسلام، ويقيمون فيه شعائر الصلاة.
وفيما هم يتقدمون في الجزيرة شرقًا وغربًا، كان ميخائيل الثاني قد استنجد بالبلاط الروماني، وتحرك الأسطول من القسطنطينية حاملاً القوات الرومانية المتأهبة لقتال المسلمين.
وعندما وصل إلى الجزيرة كان القتال على أشده عند قلعة الكرات المنيعة، وكان ميخائيل الثاني إزاء عجزه عن مواصلة القتال قد لجأ إلى الخديعة، فطلب من المسلمين الصلح، وإغماد السيوف، وكان يهدف من وراء ذلك إلى وقف القتال ريثما يصل الأسطول الروماني.
ولكن أسد بن الفرات القائد الفطن الأريب، أدرك ببصيرته الواعية الحكيمة أن هناك خديعة لجأ إليها حاكم الجزيرة، وأن عليه أن يحتاط لهذا الأمر، فقام بتوزيع السرايا على جهات مختلفة من الجزيرة، حتى إذا ما اتضح وجه الخديعة، وأسفر عن ملامحه الكئيبة، يكون زمام الأمر في يديه.
وما لبث أسد بن الفرات أن اكتشف بعد أيام صدق حدسه، واتضحت أمام عينيه الصورة التي كان يخفيها ميخائيل الثاني وراء الصلح والمهادنة، فقد وصل الأسطول الروماني إلى الجزيرة، وتدفقت عليها القوات الرومانية كأمواج البحر، وبدأت المعارك تأخذ شكلاً عاصفًا في كل مكان من صقلية.
كيف واجه أسد بن الفرات الموقف وإمدادات الروم تكاد تغطي الجزيرة كلها؟ هل أثر هذا في روحه المعنوية؟ هل فكر في جمع القوات المتناحرة هنا وهناك ليركز على القتال في جبهة واحدة؟
إنه رفض أن يترك مكانًا استولى عليه، ورفع فوقه لواء الله، بل ظل يحارب في أنحاء الجزيرة بصورة أذهلت أنباؤها البلاط الروماني، ورغم جهاده المتصل لم يشعر باللغوب، ولم يدركه الوهن.
أي قوة خفية في هذا الرجل؟:
إنه يقوم بعمل أسطوري في رسم الخطط والاشتراك في القتال.
ومع ذلك لا يهدأ ولا يكل ولا يجنح إلى الراحة.
فلا عجب إذا أحرز النصر تلو النصر، وأيقنوا أنهم أمام قوة معجزة قاهرة تفوق قدرة البشر.
استمر القتال دائرًا بين المسلمين والروم سبعة عشر شهرًا، إذ بدأ في ربيع الأول سنة 212 هجرية، وظل على أشده حتى استهل رجب سنة 213 هجرية.
كانت المعركة طوال هذه الفترة تسير لصالح المسلمين، وقد أدارها أسد بن الفرات بحكمة أعادت إلى الذاكرة صور العبقرية العسكرية التي كان يتمتع بها القواد العظام أمثال: "خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وطارق بن زياد، ومسلم بن أبي قتيبة".
كان أسد بن الفرات حازمًا مع جنده، كما كان حازمًا مع أعدائه، حدث أن بعض الجند استبطئوا نهاية المعركة، فأرسلوا جنديًّا من بينهم اسمه أسد بن قادم يطلب من أسد بن الفرات السماح له ولعدد من زملائه بالعودة إلى القيروان.
وهنا دار حوار بين القائد والجندي حاول خلاله القائد أن يقنع الجندي بالعدول عن رأيه، ولكن دون جدوى، فما كان من أسد بن الفرات القاضي السمح إلا أن أمسك السوط، وضرب به الجندي وهدده بفصل رأسه عن جسده إذا تخلى عن الجهاد وخرج على طاعة الله.
توجس ابن الفرات من هذه الحادثة، وخشي أن تكون شرارة تشتعل بعدها فتنة التذمر في أوساط الجند، فقام بجولة في جميع جبهات القتال، وراح يتحدث إلى المجاهدين عما ادخره الله لهم من رضوان سابغ ونعيم لا يبلى.
ثم خرج من هذه الجولة بحقيقة مؤكدة، وهى أن الجيش عازم على القتال، حتى النصر أو الشهادة.
وبالرغم من الإمدادات العسكرية التي كانت ترسلها القسطنطينية إلى الجزيرة لمقاتلة المسلمين فإن قوات الروم كانت تتساقط كأوراق الخريف هزها إعصار في يوم عاصف، وكانت أعلام الإسلام ترتفع كل يوم على بقعة جديدة من بقاع الجزيرة حتى أصبح الاستيلاء على صقلية قاب قوسين أو أدنى.
ولكن الظروف تغيرت فجأة، وجاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، فبينما المسلمون في قمة انتصارهم، ويرفعون ألوية الله، ويواصلون فتوحات أسلافهم إذا بوباء مبيد ينشر أجنحته السوداء على الجزيرة، ويصحب معه أشباح الموت ويسوق مواكب الفناء.
مفاجأة قلبت موازين المعركة:
المسلمون الذين عجزت أسلحة الطغاة أن تنال منهم، أنشب الوباء فيهم أظافره، وراح يحصدهم حصد الهشيم.
المقاتلون الأشداء الذين اكتسبوا صلابة الجبال وبأس الصحراء تساقطوا صرعى دون جلاد أو قتال، المؤمنون الذين تدافعوا إلى ساحات الشهادة لم تسل أرواحهم على حد السيوف، وإنما أسالتها جراثيم فتاكة لا ترى بالعين ولا تحس باليد.
وكان لابد للمأساة أن تبلغ الذروة وتصل إلى القمة، فامتدت يد الوباء إلى القائد العظيم أسد بن الفرات، وتسلل الموت إلى جسد الشهيد.. فقضى نحبه والسيف في يده.
استشهد أسد بن الفرات، وفَتْح صقلية على وشك أن يتم، مات وهالة الجهاد تكسو وجهه الوضيء، وظلال الرضوان تنبسط على أيامه الغاربة، مات وكل شبر في صقلية يشهد بجهاده المقدس، وكل بقعة فيها يرفرف عليها علم الإسلام.
وكما هزت الدنيا أنباء انتصاراته هزتها أنباء استشهاده، وبات المغرب كله ليلة حزينة آسية، وخفتت أضواء المصابيح والأسرجة في القيروان، ولم تقتصر آلام الفجيعة على المغرب كله، وإنما امتدت إلى كل أرجاء الدولة العباسية.
وإذا كان القدر لم يمهله حتى يتمتع بثمرة جهاده، فلا ريب أن روحه كانت تطل من عليائها في سنة 264 لترى الجزيرة وقد فتحها المسلمون، وأصبحت إحدى الإمارات الإسلامية.
وبعد...
فهذا جانب من قصة الشهيد أسد بن الفرات.. القصة التي بدأت سطورها في ساحات القضاء، ثم كتب الفصل الأخير منها في ساحات القتال.. إنها ليست سيرة حياة بقدر ما هي نموذج عمل، يتأسى بها من يأنس في نفسه القدرة على تكييف حياته وصبها في قالب المواقف الصعبة، والظروف القاسية، إذا شاءت له الأقدار أن يضع قدميه على طريق لم يألف السير فيه، أو يتبوأ منصبًا لم تؤهله له ثقافته وعلمه.
إن كثيرًا من عظماء التاريخ كشفت المصادفة البحتة عن عبقريتهم، فقد فرضت عليهم الظروف مواقف لا يجتازها إلا كل ذي عقل مضيء، ومواهب خلاقة.. ومن ثم تتفتح كمام عبقريته، وتؤتي ثمارًا متجددة خالدة؛ لأن نتاج العقيدة والإيمان بالله لا يموت.
لقد امتد تاريخ المسلمين في الجزيرة مدة تزيد عن قرنين من الزمان، ترك خلالها بصمات ما زالت ماثلة في مدن الجزيرة.
إن مدنية الإسلام في هذه الفترة كانت في أوج عظمتها، فانساب الإسلام في الجزيرة بكل معطياته ورقيه، وأصبحت الجزيرة مركزًا حيًّا هامًّا من مراكز نقل الفكر الإسلامي، والثقافة الإسلامية إلى الغرب المتخلف.
جاء في دائرة معارف لاروس: "إن صقلية مدينة للعرب بأسمى ما عرفته من تقدم زراعي، فالقطن وقصب السكر والفستق وغيرها لم تعرفه الجزيرة إلا بالفتح العربي".
لقد كثرت في الجزيرة بعد الفتح الإسلامي المساجد، وامتلأت بطلاب العلم من جميع الأجيال وبالعلماء الذين يوجهون ويعلمون ويؤدبون، لقد كان دأب المسلمين بعد الفتح تأكيد التسامح الديني، ونبذ التعصب، فتركوا لسكان صقلية أن يمارسوا طقوسهم الدينية بحرية تامة.
وقد زار ابن جبير- الرحالة المسلم- جزيرة صقلية فرأى الأزياء الإسلامية محبوبة ومستعملة وشائعة، كما رأى النساء النصرانيات ترتدين أزياء المسلمات" (رحلة ابن جبير).
------
المصدر : مجلة المجتمع، 1178.
موقع التاريخ