أعلنت الأردن وإسرائيل عن مشروع ضخم يتمثل في إنشاء رابط مائي يصل طوله إلى مائتي كيلو متر ما بين البحر الأحمر والبحر الميت أدنى نقطة على سطح الأرض، ووقعتا اتفاقية رسمية بالفعل، تكلفة مشروع قد تصل لأحد عشر مليارًا من الدولارات مع وجود واضح ومؤثر للبنك الدولي والولايات المتحدة كراعييْن للاتفاق ومانحين من ضمن الدول الممولة للمشروع، وأعطت إسرائيل حافزًا للأردن للتوقيع تمثلَ في خمسين مليون متر مياه مكعب سنوية تقدمها تل أبيب لعمان من بحيرة طبرية كحصة إضافية، علاوة على ما نص عليه في اتفاقية السلام بينهما في 1994، والمشروع هو التعاون الاقتصادي الأكبر بين الكيان والأردن منذ عقود، فما الذي يحدث بالضبط؟!
1- ما هي أصول المشروع؟
ليس مشروع الربط بين البحر الميت والبحر الأحمر وليد اللحظة؛ فقد كان ضمن الخطط الإسرائيلية منذ الأزل، وهو بالأساس فكرة بريطانية بحتة في عهود الاستعمار في القرن التاسع عشر لإيجاد بديل عن قناة السويس الفرنسية حينها، وكان الإسرائيليون على وشك البدء فيه في الثمانينات لولا توقف تل أبيب عن تنفيذه لرفض الملك حسين كما أشيع حينها، بعدها عاد ليظهر للمرة الأولى عالميًا في مؤتمر الأرض في جوهانسبرج بجنوب أفريقيا في الثامن والعشرين من أغسطس للعام 2002 على أساس أنه إنقاذ بيئي للبحر الميت الذي ينخفض منسوب مياهه مترًا واحدًا كل عام، ومن المتوقع جفافه بالكامل في العام 2050 (وهي مقولة تسوقها دائمًا تل أبيب بينما تؤكد بعض الدراسات العلمية زيفها)
حينها رفضت المجموعة العربية المشروع بشدة باعتباره يخالف كل الثوابت التي تمنع التعاون مع إسرائيل، ثم سُوِّق مرة أخرى في مؤتمر المياه بكيوتو اليابانية والذي كان في عام 2003 على أنه إنقاذ للأردن إحدى أفقر عشر دول مائيًا في العالم بحصة مائية سنوية للفرد تبلغ مائة وستين مترًا مكعبًا مقابل ستة آلاف متر مكعب عالميًا، وزيادة لحصة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي من المياه المحلاة، ثم طرح ثالثًا كمشروع اقتصادي عملاق في المنتدى الاقتصادي العالمي بعمان في 2003.
وقد أكدت الأردن مرارًا على أن المشروع سيكون أردنيًا خالصًا، وجميع المنشآت والمحطات ستكون على أرضها وأن تنفيذ وإدارة المشروع في مراحله الأولى سيكون أردنيًا أيضًا بلا شريك، كان هذا منذ سنوات قبل أن نرى الاتفاق الماثل أمامنا الآن.
أوضح الإسرائيليون في هذا الوقت أن المشروع سيكون عبارة عن قناتين، واحدة تربط البحر الأحمر بالبحر الميت عن طريق خليج العقبة، ثم أخرى تصبح منفذًا من البحر الميت للمتوسط، بالتالي إقامة شبكة إبحار مائية كاملة وجديدة في المنطقة التي يسيطر عليها ممر ملاحي واحد وهو (قناة السويس).
حينها قللت مصر من أهمية ما يحدث، وقال خبراء أن القناة لن تستطيع منافسة قناة السويس اقتصاديًا، فالقناة مثلًا سيكون طولها مائتين وثمانين كيلو مترًا مقابل مائة واثنين وستين كيلومترًا لقناة السويس؛ مما يعني إطالة زمن الرحلة على السفن التجارية مما يستدعيه هذا من تكاليف إبحار ووقود إضافية (وهو كلام غير صحيح لأن طول القناة سيتراوح بين 180 كيلو مترًا و200 كحدٍ أقصى)، والأهم أن ملوحة البحر الميت ثمانية أضعاف ملوحة مياه خليج العقبة مما يؤدي لتناقص العمر الافتراضي لهياكل السفن الحديدية، فضلًا عن تكلفته الهائلة ماديًا.
في 2005 أعيد المشروع لطاولة الحوار مرة أخرى عن طريق هاني الملقي – وزير الخارجية الأردني حينها – الذي التقى بكل من أرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي وشيمون بيريز نائب رئيس الوزراء في مباحثات وصفت بأنها الأعلى دبلوماسيًا منذ سنوات بين تل أبيب وعمان.
بعدها، وفي التاسع من مايو لنفس العام، وقعت إسرائيل وفلسطين والأردن رسالة رسمية ثلاثية يطالبون فيها البنك الدولي بعمل دراسة جدوى للمشروع مع تحمل تكلفة الدراسة البالغة 15.5 مليون دولار، مع تكلفة مبدئية للمشروع تبلغ خمسة مليارات دولار، ليصل رد البنك الدولي بعدها بشهرين في الخامس من يوليو بالموافقة على تمويل دراسة الجدوى من قبل جهات مانحة على رأسها الولايات المتحدة واليابان وإيطاليا وفرنسا، تحملت الأخيرة منها ثلاثة ملايين يورو، مع تأكيد البنك أن السبيل الأمثل للنقل الأولي هو أنابيب مياه بطول مائة وثمانين كيلو مترًا، وهي صيغة المشروع الجديد بالفعل وثمرة تطويره.
بعد سنوات من الاجتماعات وإنهاء دراسة الجدوى والاتفاق على الأمور كلها وعبور بعض العراقيل التي تمثلت في متغيرات سياسية وعسكرية في منطقة لا تهدأ، وفي الجمعة الماضية – السابع والعشرين من فبراير – وقع وزير الري الأردني (حازم الناصر) ووزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي (سليفان شالوم) اتفاقية تنفيذ المرحلة الأولى من المشروع وهي بناء خط أنابيب ينقل مياه خليج العقبة للبحر الميت بطول مائتي كيلو متر مع إنشاء محطات لتحلية المياه وتوليد الكهرباء، بحضور ممثلين عن البنك الدولي والولايات المتحدة وبلا تواجد للجانب الفلسطيني!
2- ما هي جدوى المشروع الاقتصادية؟
بحسب التصريحات الرسمية والمتوقع فإن المشروع سيسحب ما يقارب ال 300 مليون متر مكعب من مياه البحر الأحمر سنويًا على أن تضخ باتجاه البحر الميت عن طريق خط الأنابيب الذي سيبدأ من مدينة العقبة الأردنية، ثم في المراحل المستقبلية ستصل كمية المياه المسحوبة من البحر الأحمر لملياري متر مكعب سنويًا!
أيضًا سيتم إنشاء محطات تحلية مياه على أن تكون الطاقة الإنتاجية لأول محطة هي 65: 85 مليون متر مكعب سنويًا، ومع تطويرها سيتم أيضًا إنشاء محطات توليد كهرباء للاستفادة من فرق المنسوب بين سطح البحر الأحمر وسطح البحر الميت والبالغ 600 متر ارتفاعًا تبعًا لكون البحر الميت هو النقطة الأكثر انخفاضًا في العالم.
الجانب الأردني ستزوده تل أبيب ب 50 مليون متر مكعب إضافية من مياه بحيرة طبرية لسد العجز المائي لديه مقابل توقيعه على الاتفاق، أما الجانب الفلسطيني – الذي غاب عن التوقيع – فمن المفترض أن تصل حصته من المشروع لثلاثين مليون متر مكعب من المياه المحلاة.
المروج عن المشروع هو هذه الفوائد، من تحلية مياه البحر لسد احتياجات الأردن وفلسطين والكيان المحتل في منطقة تنخفض فيها حصة الفرد المائية باستمرار، وتدل الدراسات على دخولها في أزمة مائية قريبة وفي نطاق الشح المائي، ومن ناحية أخرى الاستفادة من انخفاض المنسوب الكبير واستغلال اندفاع المياه من أعلى لأسفل وصولًا للبحر الميت لتوليد الكهرباء، ومن ناحية ثالثة إنقاذ البحر الميت وهو هدف بيئي من أهم الأهداف الترويجية للمشروع.
3- ما هي مكاسب تل أبيب من هذه القناة؟
يمكن إجمال الفوائد الإسرائيلية ومخاطر المشروع فيما يلي:
1 – تعزيز القدرات النووية الإسرائيلية؛ فتل أبيب والتي تضع في برنامجها النووي إنشاء أربعة مفاعلات أخرى – لاستخدامات متعددة لا تقتصر على الطاقة السلمية – تبدو في حاجة لرافد ضخم من المياه لتبريد هذه المفاعلات بدون الحاجة لإطالة عملية النقل. لذلك، في النية الإسرائيلية أن تكون المفاعلات على طول القناة مع استخدام المياه المستجلبة من البحر الأحمر في تبريدها.
2 – الكهرباء المنتجة بحسب النائب الأردني رائد حجازين سوف توفر على إسرائيل ستمائة وخمسين مليون دولار سنويًا مع سد احتياجات إسرائيل من الكهرباء، فضلًا عن توسيع الرقعة الزراعية التي ستروَى بالمياه المحلاة مما يساهم في زراعة أراضي النقب، مما سيؤدي تلقائيًا لتوسيع رقعة الاستيطان الإسرائيلي فيها ورفع معدلات الهجرة إليها مع إقامة مستعمرات صهيونية ضخمة جديدة وتحقيق الهدف الإسرائيلي الأهم (تكثيف الاستيطان)!
3 – مع تعزيز مصادر الطاقة الإسرائيلية بهذا الشكل ينتج لدينا اقتصادٌ إسرائيلي قويٌ للغاية أضعاف ما هو عليه الآن، مع توسع تام في الصناعات الإستراتيجية وتقليل الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية، مما يؤدي لتثبيت الجذور الإسرائيلية في المنطقة ككيان يحاول الحفاظ على صلابته وزيادتها باستمرار.
4 – الأهم، إعادة ترسيم الحدود بين فلسطين (ممثلة في مناطق السلطة) والأردن، حيث ستشكل أنابيب نقل المياه خطوطًا فاصلة بعمق 100 متر فضلًا عن أنها كلها ستكون في الجانب الأردني، مع إمكانية تشريع حماية إسرائيلية مفهومة في سياق مشروع ضخم كهذا ونشر نقاط أمنية صهيونية، والأهم هو وضع عائق بالغ الضخامة أمام أي مشروع مستقبلي لإقامة دولة فلسطينية.
5 – جغرافيًا فإن القناة فيما بعد ستشكل حاجزًا مهمًا للغاية يمنع أي هجوم مستقبلي عربي على إسرائيل من الشرق، وهو أمر قد يبدو مستبعدًا تبعًا للعلاقات العربية الإسرائيلية الحالية لكنه لا يبدو بهذه الغرابة بالنسبة لإسرائيل التي تضع كل سيناريوهات الأمن القومي أمامها وتتعامل معها بمنتهى الجدية.
6 – دخول التعاون المؤسساتي العربي الإسرائيلي لمرحلة جديدة كجزء من الخطط الإسرائيلية، حيث تلقائيًا ستنشأ شبكة اقتصادية قوية ما بين شركات إسرائيل المختصة في مجال الزراعة والري والصناعات الهندسية والكهرباء وما بين الشركات الأردنية والمجتمع الأردني عمومًا، مع تغلغل في بنية الدولة الأردنية وبعض المفاصل الاقتصادية المهمة فيها عن طريق الاقتصاد الإسرائيلي.
4- ما هي أخطار المشروع على المنطقة؟
لا يبدو المشروع على هذا القدر من الأمان قطعًا، فالتغيير العنيف والمتسارع على هذا المستوى البيئي الكبير سيصاحبه جانب من خطر غير محدود!
من ناحية، فإن من أخطار القناة تغيير المنسوب المائي والإخلال به بين البحر الأحمر والمحيط الهندي نتيجة سحب المياه المتوالي سنويًا، ثم الأهم وهو رفع مستوى مياه البحر الميت مما سينتج عنه بحسب خبراء إغراق أراضي أردنية متاخمة للبحر والصناعات المتاخمة لشواطئ البحر الميت بمساحة تقترب من الكيلومتر المربع؛ مما يُنتِج تهجيرًا قسريًا للسكان هناك. ومن ناحية أخرى فإن البحر الميت هو منطقة زلزالية نشطة، مع حجم المياه المتدفق من البحر الأحمر وارتفاع منسوب البحر الميت سيزيد الضغط على القاع مما سيؤدي احتمالا إلى نشاط زلزالي مرتفع في منطقة البحر الأكثر ملوحة والأردن عمومًا. ومن ناحية ثالثة فإن نسبة التركيز الملحي في البحر الأكثر ملوحة في العالم ستقل بكل تأكيد تبعًا لكميات المياه المتدفقة عليه، مما يضر بصناعات البوتاسيوم الأردنية شديدة الأهمية للزراعة والصناعة على سواء.
من الجدير بالذكر أن الأردن التي تنادي دائمًا بإنقاذ البحر الميت، هي أكثر من يدرك ومعها العرب أن سبب جفاف البحر الميت الأساسي هو تحويل إسرائيل لمجرى مياه النهر الأردني – الرافد الأساسي للبحر – واستيلاؤها على مياهه العذبة عن طريق سد دغانيا الذي يسحب المياه المتوجهة إلى البحر الميت ويرسلها لإسرائيل، مما سيتسبب أيضًا في جفاف بحيرة طبرية نفسها (أهم مورد مائي إسرائيلي).
تبدو الحاجة الملحة للمياه مع الضغط الأمريكي على الحكومة الأردنية دافعيْن قوييْن للمضي قدمًا بهذا المشروع. لكن الأهم هو تذكر أن إسرائيل لا تفعل أي شيء إلا لو كان في صالحها، ولا تعطي هباتٍ وتعاونًا بهذه السهولة، فهذا يخالف كل سياساتها المعلنة وغير المعلنة، وخصوصًا مع أعدائها التاريخيين والأوائل (العرب).
فى النهاية أرجو من أخواننا المتخصصين أن يوضحوا رؤيتهم فى هذا الموضوع .