حرب أنابيب الغاز : الوجه الآخر للصراع في الشرق الأوسط ..اللعبة الجيوسياسية
20 فبراير، 2014، الساعة 11:36 مساءً
في الحروب ،، عادة ما تركّز وسائل الإعلام على الضحايا والدمار، وتهتمّ الشعوب بسير العمليّات العسكرية والأمنية. وينسى الجميع البُعد الجيو-سياسي، وكذلك الخلفيّات الإقتصادية-المالية للجهات المتورّطة، ولمن يقف وراءها. وهذا ما ينطبق تماماً على المشهد الحالي في الأقليم ، حيث تتجاوزالأحداث مسألة "إسقاط دكتاتور" من هنا أو مسألة "قمع مسلّحين متمرّدين" من هناك، وهي ترتبط مباشرة بمصالح حيويّة فائقة الأهمية للدول الإقليمية الأساسية، وللدول العظمى أيضاً... كيف ذلك؟
يشكل الغاز فعلياً مادة الطاقة الرئيسة في القرن الواحد والعشرين سواء من حيث البديل الطاقي لتراجع احتياطي النفط عالمياً من حيث الطاقة النظيفة. ولهذا.. فإن السيطرة على مناطق الاحتياطي (الغازي) في العالم تعتبر بالنسبة للقوى القديمة والحديثة أساس الصراع الدولي في تجلياته الإقليمية.بعد إقرار إتفاق
"كيوتو"سنة 1992، وتطبيق الدول الأوروبية لإجراءات حازمة للحد من تلوّث الجوّ ، تضاعف إستهلاك أوروبا للغاز. ومن المتوقّع أن يزداد هذا الإستهلاك بأكثر من خمس مرّات في السنوات القليلة المقبلة، في ظل قرارات بإغلاق العديد من المفاعلات النووية المولّدة للطاقة. وهذا ما فتح شهيّة الكثير من الدول المصدرة للغاز نحو أوروبا،بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك لمصالح إقتصادية ولأهداف مرتبطة بالنفوذ السياسي الدولي. وفي هذا السياق، توزّع روسيا الإتحادية (التي هي المصدّر الأوّل للغاز في العالم) ، كمّيات ضخمة من الغاز السائل تبلغ 420 مليار طن سنوياً، عبر شبكة ضخمةومعقدة من خطوط الأنابيب تمتد من روسيا مرورا بأوكرانيا وبيلاروسيا إلى مجمل أوروبا الشرقية سابقاً، وصولاً إلى ألمانيا وبلجيكا بواسطة شركة "
غاز بروم" الروسية التي تأسّست في العام 1996
ومن الواضح أن روسيا قدقرأت الخارطة وتعلمت الدرس جيداً.. فسقوط الاتحاد السوفيتي كان بسبب غياب موارد الطاقة العالمية عن سيطرته.. لتضخ إلى البنى الصناعية المال والطاقة.. وبالتالي البقاء.ولذلك تعلمت أن لغة الطاقة الآتية إلى القرن الواحد والعشرين على الأقل هي لغة الغاز.
البــدايــــة :
في منتصف الشهر السابع من عام 2009، أبرمت اتفاقية في
العاصمة التركية أنقرة تمهد الطريق أمام إقامة مشروع خط أنابيب غاز ضخم لنقل الغاز من أذربيجان في وسط آسيا عبر الأراضي التركية في اتجاه دول الاتحاد الأوروبي ليصب في مستودعات كبيرة للتخزين تقع في بلدة حدودية داخل النمسا تسمى "
بوجمارتن اندرمارش" ، وهو ما يعد مشروعا منافسا لمشروع خط الأنابيب الروسي المعروف بـ
"ساوث ستريم"أو "
السيل الجنوبي " الذي كانت تنوي القيام به شركة
غاز بروم الروسية. الذي كان مقررا أن يمر تحت مياه البحر الأسود من روسيا الى بلغاريا ثم الى وسط أوروبا ، لنقل كمية ستصل تدريجيا الى 31 مليار متر مكعب من الغاز سنويا من آسيا الوسطى الى الاتحاد الأوروبي وشارك في التوقيع على هذه الاتفاقية ، إضافة إلى تركيا وأذربيجان، أربع دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي هم بلغاريا- رومانيا- المجر- النمسا، التي من المنتظر أن يمر بها الأنبوب، بحضور
ألمانيا التي تشارك في تنفيذ المشروع، إلا أنها لم توقع على اتفاقية العبور كونها ليست بلد العبور، وبحضور رئيس المفوضية الأوروبية وكذلك حضور المبعوث الخاص من قبل رئيس الولايات المتحدة
باراك أوباما لشؤون الطاقة في أوراسيا ، الذين شاركوا في فعاليات التوقيع على الاتفاقية، مؤكدين بعبارات لا تقبل الشك تبني حلف الأطلسي ودعمه السياسي والاستراتيجي لهذا المشروع الذي تم الإتفاق على تسميته بخط أنابيب
«نابوكو»
فما هو سر هذه التسمية الغامضة ؟؟
لأن اختيار الأسماء حين يختارها الأمريكي لا يأتي عبثا ، يأتي هذا الاسم
«نابوكو» لتأكيد الطابع الجيوسياسي الأنجلوساكسوني، بل و«الديني التوراتي»، على هذا الخط الأنبوبي ..!!
فقد أرتبط اسم
«نابوكو» بالأفكار الصهيونية السرية، فالاسم مشتق من أوبرا (نابوكو)، التي تتمحور حكايتها حول الصراع الأزلي على مدينة أورشليم (القدس). وتدعو للتمسك بالديانة اليهودية، والتضحية من اجلها، والقصة برمتها مستوحاة من العهد القديم (كتاب النبي دانيال)، الذي يعكس صورةالتاريخ اليهودي إبان حكم الملك (نابوكود الثاني)، ملك بابل العظيمة (العراق) من عام 605 إلى عام 562 قبل الميلاد.
و(نابوكو) صيغة تصغير و(تحقير) باللغة العبرية للملك البابلي (
نابوخذ نصر)، ويبدو أن الأطراف التي خططت لهذا المشروع، قد تعمدت استعمال اسم الملك البابلي لدوره في إنهاء مملكة يهوذا وفي ما عرف بالسبي البابلي بعد تصغيره، ثم قامت بإلصاقه على مشروع القناطر الكونية، التي ستنسف اقتصاد البلدان العربية ، وتتلاعب بمصيرها، ويبدو أن التسمية جاءت بهذا الشكل لإنعاش الأحقاد اليهودية القديمة، والانتقام من نبوخذ نصر، فضلا عن الاستخفاف بالحضارة البابلية التي سحقت اليهود في أورشليم واستعبدتهم في الأزمنة الغابرة ،وهكذا فالتاريخ السياسي للمشروع يسجل أن الإعلان عن نابوكو كان مقدّمة لتدمير العراق، بمعاول أمريكا وأنصارها من الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، فنبشوا بخناجر الحقد القديم قبر نابوكوذ نازار (نابوخذ نصّر)، وهو في مثواه البابلي الأخير، واشتركوا مع يهود الاشكيناز والسفارديم والفالاشا في محاولة استعادة الأمجاد اليهودية المتعفنة .
من هنا يتضح لنا أن اللافتة التعريفية للقناطر النابوكوية تحمل أكثر من دلالة رمزية، وتستبطن الشر كله، فالكتاب يُعرف من عنوانه. .
ولقد جسد هذا المشروع منذ بدء التفكير فيه مشادة حادة بين نوعين متضادين من الاستراتيجيات الجيوسياسية الكبرى حول طاقة القوقاز ووسط آسيا تمخضت في نهاية المطاف عن التوقيع على أغرب اتفاقية دولية وقعت خلال العقد الأول من هذا القرن كما سنرى لاحقاً في هذا المقال، الذي سنحاول فيه تحليل هذا المشروع الغامض والذي يعد مفتاح السر وراء كل ما يجري من أحداث شهدتها وتشهدها منطقة الشرق الأوسط ، في محاولة لتحري بعض أبعاده الاستراتيجية و فك رموزه وطلاسمه .
فكرة المشروع
بدأت فكرة المشروع عام 2002 مع بداية هذاالقرن، واتخذت أول خطوة عملية فيه في بداية عام 2002 حينما وقع بروتوكول للاشتراك في المشروع بين
كونسورتيوم من شركة (
أو إم في جاز) النمساوية و(
بوتاش)التركيةو(
إم أو إل) المجرية و(
ترانس جاز) الرومانية و(
بلغار جاز)البلغارية، والهدف الرئيسي من هذا المشروع هو ربط احتياطيات الغاز في آسيا الوسطى عبر بحر قزوين بأوروبا من خلال خط أنابيب يعبر بحر قزوين إلى أذربيجان ثم إلى النمسا،
دون المرور بأراضي دولة روسيا، وبحسب دراسات المشروع في بداياته فهو يعتمد أساساً على تصدير الغاز الطبيعي من المزود تركمانستان، التي تملك رابع أكبر احتياطي غاز في العالم من خلال تمرير خط أنابيب عبر بحر قزوين يحمل غاز تركمانستان إلى أذربيجان دون المرور على الأراضي الروسية، ومنها إلى تركيا حيث سيمر ثلثا خط الأنابيب عبر الأراضي التركية ومن ثم يعبر بلغاريا ورومانيا ثم المجر إلى منتهاه في محطة تجميع ضخمة في مدينة «
بوجمارتن اندرمارش »،في النمسا، بطول 2050 ميلا أو 3300 كيلو متر.
إذن فمشروع
«نابوكو» هو مشروع لتحويل تجارة الغاز الطبيعي من آسيا الوسطى إلى أوروبا دون المرور بروسيا وبتأييد من المفوضية الأوروبية ودعمها المادي وذلك بمنحة مالية لتغطية نحو 50 في المائة من تكلفة المشروع ، غير أن مشروع نابوكو الذي تم التفكير فيه عام 2002 لم ير النور وتم تعطيله وإرجاؤه فترة امتدت إلى تاريخ توقيعه في عام 2009م وذلك لأسباب عديدة،تأتي في مقدمتها لعبة المصالح الكبيرة بين الجغرافية والسياسة والطاقة.
لعبة المصالح: الفعل ورد الفعل
كما نوهنا سابقاً فإنه مع بداية القرن الحالي ولدت فكرة مشروع خط
«نابوكو» العابر للقارات لنقل الغاز من أواسط آسيا إلى أواسط أوروبا وتفادي المرور بروسيا، والتفكير في تشييد هذا الخط كان مبنيا أساساً على استراتيجية حلف الناتو للاستمرار في تطويق الدب الروسي ومحاولة كسر احتكاره لتجارة الغاز العالمية، عن طريق مشروع خط الطاقة نابوكو، الذي بدوره سيقلص اعتماد الاتحاد الأوروبي على إمدادات الغاز الروسية.
ولكن هيمنة روسيا السياسية والعسكرية والتجارية ووقوفها عائقاً لتلك الاتجاهات الأوروبية – الأمريكية من أجل تنفيذ فكرة هذا المشروع الذي كان معتمداً في بدايته على المزودين الأساسيين بضخ الغاز في خط الأنابيب من حقول الغاز في الدول من القوقاز ووسط آسيا، والالتفات حول روسيا و"تحريرهم"من مخالب الدب الروسي، وكذلك إلى الحد من اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، أو سيطرتها عليه، وهو بالطبع مما أثار حفيظة الدب الروسي ، الذي يتربع على أكبر احتياطي للغاز في العالم ويسيطر على جميع خطوط الأنابيب العاملة التي تنقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا .
ولأن
موسكو ليست بالفريسة السهلة، ومن الصعب عزلها وتحييدها بناء على الرغبات الامريكية الجامحة ،فقد أظهرت روسيا ممانعتها قولاً وفعلاً لذلك المشروع الذي اعتبرته يستهدف كيانها الإقليمي ومعادياً لها، وتبنت خطة استراتيجية دفاعية بثلاثة محاور وذات أبعاد ودوائر حلزونية تتقارب في المركز وتتباعد في زمنها التنفيذي وذلك لمجابهة مشروع نابوكو وتفريغه من جدواه من النواحي القانونية والاقتصادية والسياسيةً،، وقد جاء المحور الأول منها عبر إثارة
نزاع الملكية القانونية حول بحر قزوين ، فقد لجأت روسيا في تنفيذ استراتيجيتها إلى إثارة جدل قانوني حول مسار الأنبوب، وإمداداته وذلك من أجل الإيقاف الفوري أو على الأقل تعطيل مشروع خط نابوكو.
هذا الخلاف الذي أثارته روسيا هو ماهية الصفة القانونية للمسطح المائي لبحر قزوين في ظل القانون الدولي ، وهل هو بحر أم بحيرة ؟!!.
ولإيضاح ذلك المبدأ، فإن القانون الدولي بشكل عام يفرق بين الصفة القانونية للمسطح المائي فيما لو كان بحرا فإن القانون الدولي يحدد حقوق معيته للدول المطلة عليه، وتختلف هذه الحقوق إذا كانت صفة المسطح المائي حوضا أي «بحيرة»، فإنه يترتب عليه حقوق تختلف للدول المطلة عليه: فالبحر تحت القانون الدولي يتم تقاسم مياهه وثرواته حسب طول شواطئ الدول المحيطة به،وجرفها القاري… إلخ، فيما إذا كان المسطح المائي حوضا أو بحيرة فإن الوضع القانوني للملكية يختلف حيث يتم تقاسم مياهه وثرواته بالتساوي بين الدول المحيطة به.
وتأسيساً على ذلك المبدأ، أثارت روسيا
موضوع الصفة القانونية لبحر قزوين وتبنت تعريف حوض قزوين على أنه بحيرة متجددة بمياه أنهار الفولجا وبناء على ذلك فالقانون الدولي يعطيها الحق بتقاسم مياههوثرواته بالتساوي بين الدول المحيطة به كما ينص القانون الدولي على ذلك، هذاالمحور من الاستراتيجية الروسية جعل من المستحيل، ليس فقط إنشاء خط أنابيب الغاز عبر حوض قزوين، بل حتى تطوير تركمانستان أو أذربيجان لأية حقول غاز على سواحل حوض قزوين في ظل هذا التعريف، إلى أن يتم الاعتراف به كبحر، وبالتالي فلا حق لأي دولة أخرى مطلة على البحر في حقول النفط والغاز على شواطئ الدول الأخرى المطلة على المسطح المائي.
وجاء المحور الثاني في الاستراتيجية الدفاعية الروسية عبر بناء قوة روسي االاحتكارية في شراء كامل الغاز المنتج في أواسط آسيا وبالتالي احتكار بيعه عن طريقها وعبر أنابيبها العابرة للقارات، لذا فقد دخلت روسيا في عقود شراء غاز طويلة المدى من كل حكومات الدول المفترض منها ضخ الغاز في خط أنابيب نابوكو، كتركمانستان التي تنتج حالياً نحو 80 مليار متر مكعب سنوياً، وقامت روسيا بشراء أكثر من 50مليار متر مكعب في عقود طويلة الأجل.
كما دخلت بعقود شراء طويلة الأجل معأوزبكستان التي لديها احتياطي قدره 1.8 مليار متر مكعب من الغاز، حيث قامت روسيابشراء كامل إنتاجها من الغاز في عقد طويل الأجل ينتهي عام 2018، وفي ضوء ذلكانسحبت تلك الدول من أي تعهد لإمداد «نابوكو»، وأعلنت تركمانستان من جانبها أخيرا أنه حتى ولو بعد تطوير حقولها الغازية ووجود فائض في الغاز المنتج عن تلبيةتعهداتها لروسيا والصين فلن تبيع الغاز لخط أنابيب نابوكو ، كما أن أذربيجان التي يعول عليها كثيراً بعد انسحاب تركمانستان من إمداد النسبة الأكبر من الغاز المنقول إلى أوروبا، دخلت هي الأخرى في تعهدات مع روسيا بعقود بيع طويلة المدى، حيث وقعت روسيا معها اتفاقاً لشراء حصة كبيرة من غازها، ولكنها أعلنت في الوقت نفسه أنهاستبيع الغاز لـ
«نابوكو» إذا وجد فائضا لديها.
ومن هنا فقد نجحت روسيا في تفريغ المشروع من جدواه ونسفته من جذوره تماما .
وبالاضافة لكل ما سبق ، قامت روسيا بتكثيف الجهود لبناء خطوط غاز جديدة ، فأعلنت شركة غاز بروم بأنها ستسثمر في مشاريع غاز من أمريكيا اللاتينية و أفريقيا و آسيا و حتى واشنطن ستجد نفسها ذات يوم تشتري الغاز من روسيا، و أعلنت روسيا عن أربع خطوط غاز عملاقة :
1 -السيل الشمالي (
نورث ستريم) يوصل الغاز من شمال روسيا الى ألمانيا عبر البحر دون المرور ببيلاروسيا
2- السيل الجنوبي (
ساوث ستريم) عبر البحرالأسود الى بلغاريا و منها يتوزع خط عبر رومانيا هنغاريا النمسا، و جنوبا عبراليونان إيطاليا, و قد تم إنجاز معظم الإتفاقيات لمد هذا الخط……
3- مد خط من نيجيريا الى النيجر فالجزائر لتسييل الغاز ثم نقله الى آوروبا و لاحقا مد إنبوب الى آوروبا .
5- قامت أيضا غاز بروم بالإستحواذ على نصف حصة شركة
إيني الإيطالية في ليبيا ، و بدأت بالإستثمار في السودان .
من هنا نرى أن الاستراتيجية الروسية بمحاورها وبأبعادها المتعددة قد نجحت نجاحاً باهراً، فقد أيقنت بأنها أجهضت مشروع
«نابوكو» وجعلته يولد ميتاً بعد أن جففت كل المصادر المحتملة لأي شكل من أشكال هذا المشروع، بعد أن اتضح جلياً أنه ليس من العقل بناء أنبوب لنقل غاز لا يوجد له من يزوده أو يمده بالغاز أو حتى يقبل بحق المرور عبر الملك المشاع، ولم تتردد روسيا في المحافل الدولية بسخريتها من المشروع، والذي اعتبرته نزعة أو زوبعة موسيقية سياسية، وأنها ردت «نابوكو» إلى معناه الأصلي وأنه لا يتعدى كونه إنشادا فوضويا يؤديه الأمريكان والأوروبيون يذكرنا بالكورس الساخر في أوبرا نابوكو الذي يضم العبيد العبريين المبتسمون، لكنهم وفي الوقت نفسه مكتئبون ويائسون.
وكان من المنتظر بعد هذا الهجوم أن ينال(
فلاديمير بوتين) وسام الاستحقاق، الذي سيؤهل روسيا لتسلق سلم السيطرة على الاقتصاد العالمي، بيد أن التدخل الأمريكي المحموم لإعادة بعث مشروع
«نابوكو» جعل للرواية فصولا أخرى أكثر درماتيكية وإثارة .
الهجوم الأمريكي المضاد
تلك الخطوات الإستباقية الإجهاضية من روسيا قابلتها أمريكا وحلفائها بخطة مضادة تعتمد على إيجاد خطوات عملية بديلة ، فقد ألقت الولايات المتحدة بثقلها الدبلوماسي كاملا لإنعاش مشروع
«نابوكو» وإعطائه دفعة معنوية قوية، وبالفعل تم التوقيع على مشروع
«نابوكو» أمام ذهول واندهاش العالم، خصوصاً روسيا التي فوجئت بتوقيع اتفاقية نابوكو الغريبة نوعاً ما، ليس فقط لأن نجاح نابوكو التجاري ضعيف ويعتمد على الدعم الحكومي للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بل بالحالة الكوميدية المضحكة التي أفرزها نجاح الاستراتيجية الروسية التي تمثلت في عدم وجود مزود للغاز من جهة، ومن جهة أخرى يتم التوقيع على بناء أنابيب الغاز..
فوجه الغرابة في مشروع خط أنابيب
«نابوكو» – كما بدا وقتها- هو عكسه أو قلبه للموازين والقواعد الاقتصادية الكلية، حيث إنه من المفترض أن تجد المادة المرادنقلها أولاً ثم تبدأ في إنشاء الوسيلة لنقلها، أي أنه يجب أن تجد مصدر الغاز أولاً، ثم تنشئ خط أنابيب لنقله؛ وهذا مالم يحدث في حالتنا ، ولكن على الرغم من ذلك إلا أنه تم التوقيع على الاتفاق على مشروع
«نابوكو» عام 2009م الذي يقضي ببناء خط الأنابيب أولا، ثم البحث عن الغاز لاحقا...!!
لكن هل كانت هذه حقا هي الحقيقة..؟ قطعا لا، فروسيا لم تعرف أن الاستراتيجية الأمريكية المضادة كانت تعتمد على الإستعاضة عن مصادر الغاز المفقودة في وسط آسيا بمصدر آخر جاء من صحاري الجزيرة العربية ،وتحديدا من ..
قــطـــر ، ومن هنا ولدت فكرة مشروع
خط الغاز القطري والذي سيصبح مقررا له أن يخرج من قطر مرورا بالمملكةالعربية السعودية ثم يتجه غربا إلى
الأراضي السورية حيث يلتقي بخط الغاز المصري – وحديثا الإسرائيلي - ثم يتجه شمالا إلى تركيا..!!
ومن هنا يمكن أن نفهم سر هذا الإرتماء القطري في أحضان السياسة الأمريكية
وهنا ظهرت مشكلة أخرى ، فكيف سيسمح نظام الأسد السوري الموالي للروس والمعادي للغرب بمرور هذا الأنبوب في أراضيه ، وهو المشروع الذي سيضر ضررا بالغا بأهم حليف استراتيجي له وهي روسيا ؟
هنا كان لابد من دخول الجرافات الأمريكية إلى المنطقة كي تمهد الأرض وتزيل أية عقبات قد تعوق مرور هذا الأنبوب الحيوي الضخم،،وهذه العقبات كانت تتمثل أولا في النظام السوري ثم القضية الفلسطينية مرورا بالموقف الملتهب في لبنان .. فلا يمكن لأنبوب يحمل غازا حارقا أن يمر وسط صخورصلدة أو في وسط ملتهب بالأزمات .
وكانت هذه الجرافات الأمريكية في حقيقتها هي
مشروع الشرق الأوسط الجديد لإعادة فك وتركيب الأنظمة الموجودة في تلك المنطقة بما يسمح بعبور هذا الخط فيها بأمان وبما يحقق المصلحة الأمريكية والأوروبية المرجوة منه ، فالمعادلة قد أصبحت صفرية ، و هو ما يعني أنه إما سقوط سوريا أو سقوط المخطط الأمريكي ، فتم إعطاء الإذن لإنطلاق شرارة ما يعرف بالربيع العربي في بلدان تلك المنطقة باثارة الفتن والقلاقل في سوريا، فكل من يقع في طريق مرور هذا الأنبوب أو بجواره، ولم يلتحق بالركب الأمريكي، يعد من البلدان المارقة، والأقطار المتمردة، فجاء الدور اليوم على سوريا الواقعة في بوابة البلدان المحاذية لقناطر
«نابوكو» وهذا يفسر إصرار الإدارة الامريكية على إزاحة النظام السوري بالطرق المتاحة وغير المتاحة. .
ومما زاد الطين بلة أن سوريا نفسها كانتقد أبرمت مع العراق وإيران ولبنان اتفاقاً مبدئيا على مد حزمة بديلة للغاز الطبيعيلمنافسة أنابيب
«نابوكو» تبدأ من بحر قزوين وتنتهي عند السواحل اللبنانية،يزيد طولها على خمسة آلاف كيلومتر، لذا فأن المرحلة الراهنة تقضي بوجوب قيام أمريكا باكتساح النظام السوري، بحيث تضمن الاستحواذ على خطوط الغاز القادمة من مصر وفلسطين ولبنان، وتتمكن من ربطها بخطوط
«نابوكو» عبر سوريا الواقعة الآن تحت الضغط التركي النابوكي، واستكمالا لهذه الخطوة وافقت حكومة إقليم كردستان العراق على ربط أنابيب تصدير الغاز في شمال العراق بقناطر
«نابوكو» من دون الرجوع إلى الحكومة المركزية في بغداد .
وهذه العقبة السورية الكئود تفسر أيضا سر ذلك السعار القطري في محاربة النظام السوري ودعم قطر اللا محدود للمتمردين في سوريا للإطاحة بنظام الرئيس الأسد،، فسوريا بكل بساطة هي العائق الرئيسي ، بل والوحيد ، أمام تدفق الغاز القطري إلى أوروبا
الدور التركي
إن ميزة تركيا في هذا المشروع الضخم هي موقعها الإستراتيجي ، فهي تمثل قنطرة عبور بين مصادر الغاز في أواسط أسيا والشرقالأوسط والتي تملك نحو 70 في المائة من الاحتياطيات المعروفة في العالم من الغاز، وبين واحدة من أكبر المناطق المستهلكة في العالم وهي أوروبا ، اضافة الى أن تركيا هي معبر أنبوب النفط الخام المهم (
باكو- تبليسي - جيهان)
وأمل تركيا هو الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وتوقعها بأن يعمل مشروع نابوكو على ترسيخ مكانتها أوروبيا من خلال العمل على أن تكون مركزا للطاقة بالنسبة إلى الغرب، حيث إن خط
«نابوكو» سينضم إلى عدد آخر من خطوط أنابيب الغاز التي تمر عبر تركيا ، بما يجعلها عقدة الغاز الأهم والأخطر في العالم ، فهذا الأنبوب الذي سيكون أكثر من ثلثي طوله في تركيا، سيعزز من دورها الأوروبي وقبولها لدى الاتحاد كما هي رغبة الولايات المتحدة كذلك، كما أن تركيا في حالة نجاح المشروع ستجني مبلغاً كبيراً من خلال مرور ذلك الأنبوب
«نابوكو»،أي نحو 630 مليون دولار كرسوم عبور سنوية كما أنه سيمكنها، من شراء حاجاتها من ذلك الغاز بسعر مخفَّض.
والمتتبع للمساعي التي تبذلها تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، يرى أن مشروع نابوكو يصب في جهد تركيا الحثيث لتقييم أهليتها لهذه العضوية التي طالما حلمت بها ولهثت وراءها طويلا .
وبناءا على هذه المعطيات، تم تدشين إتفاق غير معلن بين عبد الله جول و أوردوغان من جهة ، وبين الإدارة الأمريكية من جهة يقضي بالآتي :
1. يقوم اردوغان و جول بتأسيس حزب إسلامي و تساعده واشنطن على الإمساك بزمام السلطة
2. تتعهد واشنطن بأن لايمر أنبوب الغاز في اليونان كي تضمن تركيا الحصول على كامل قبرص و الدخول في الإتحاد الآوروبي على حساب اليونان
3. تحول الولايات المتحدة تركيا الى
عقدة غاز عالمية يقبل أردوغان أن يكون النفوذ على هذه العقدة لواشنطن
4. تقبل تركيا باعادة تقسيم المنطقة بما فيها أجزاء من تركيا.
5. تُعوّضُ تركيا باحتلال جزء من سوريا وبنفوذ في دويلات سنية في مصر وسوريا التي ستُمنح تركيا مساحات منها تعويضاً عمّا ستفقده في دويلة كردية ودويلة علوية ستصل حتى حدودها..
6. تلتزم واشنطن بمنح أردوغان وجل دوراً عالمياً، كما حدث مع أمير قطر
7. تساعد تركيا في الخفاء واشنطن في احتلال العراق وسوريا
8. تسهّل تركيا دخول الأمريكان إلى وسط آسيا، والأهم نشر الفوضى في البلقان.
9. تحصل تركيا على النفط السوري مقابل الغاز اللبناني لإسرائيل. على أن يكون الغاز القبرصي تحت النفوذ التركي.
والتاريخ السياسي يسجل أن الإعلان عن
«نابوكو» كان مقدّمة لاحتلال العراق، فكما قلنا سابقا حتى اختيار الأسماء حين يختارها الأمريكي لا يختارها عن عبث، نعم أردوغان يقاتل لأجل نابوكو وليس لأجل العثمانية، ولا لأجل الإسلام، فعثمانيته الجديدة هي تحويل عدو الإسلام من الصهيونية والاحتلال إلى الأقليات الإسلامية والمسيحية،وتقسيم المنطقة بحيث يتخلّى عن بعض الأراضي التركية ليأخذ تعويضاً عنها في شكل نفوذ وامتيازات وأراض في أماكن أخرى .
وتوجه تركيا في هذا النهج من خلال مشروع نابوكو يؤكده تصريح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يوم التوقيع على الاتفاقية حينما قال: «حتى إن قمتم بتقييم المشروع من ناحية الطاقة فحسب، يتضح أنه ينبغي أن تكون تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي
الدور الإيراني :
تمثل إيران رافدا أساسيا محتملا لمشروع نابوكو، مضافا إلى المصدر القطري ، فبالإضافة إلى امتلاكها احتياطيات غازية ونفطية هائلة كونها صاحبة ثاني أكبر احتياطي بعد روسيا، فإنها معبر مثالي لنقل الغاز التركماني إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب الإيرانية الموجودة إلى تركيا ومن دون إثارة النزاعات القانونية الدولية التي أثارتها روسيا حول بحر قزوين.
إذن فإيران هي المحطة المثالية لتلقي ثالث ورابع أكبر الدول المنتجة للغاز في العالم، ومحطة تصدير الغاز منها كثاني دولة ومنقطر كثالث دولة ومن تركمانستان كرابع أكبر الدول المنتجة للغاز في العالم.
وفي الوقت نفسه لا شك في أن إيران تعد خط غاز
«نابوكو» وسيلة مثالية للدخول في شراكة استراتيجية حقيقية مع أوروبا وكسر الحصار الذي فرضه الغرب على اقتصاداتها.
وعلى الرغم من تأكيدات الولايات المتحدة معارضة واشنطن استعمال الغاز الإيراني في نابوكو، إلا أن المواقف السياسية مهمابلغت عدائيتها فإنها تتبدل، وتبقى المصالح الإقتصادية هي الحكم في العلاقات وتبادل المنافع.
وهذا هو ما وضح في الأبعاد والاتجاهات في سياسة الإدارة الأمريكية مؤخرا , وذلك التقارب الأمريكي الإيراني المريب الذي ظهرت بوادره على سطح الأحداث في الشهور القليلة الماضية
وعلى الرغم من أن روسيا تفضل أن تركز إيران على تسويق منتجاتها في السوق الآسيوية كالهند والصين، وإبقائها بعيدة عن سوق الغاز الأوروبية، إلا أن إيران تجد منافسين لها في السوق الآسيوية، وتبقى لها السوق الأوروبية المتعطشة للإمدادات الإيرانية، ورغبة إيران الملحة في الشراكة الاستراتيجية مع أوروبا
الدور الإسرائيلي :
بعد إكتشاف الغاز بكميات هائلة في حقول شرق البحر المتوسط و خاصة في حقل تمار البحري الواقع قبالة سواحلها بالبحر المتوسط على بعد 90 كيلومترا من سواحل حيفا، والذي تقدر احتياطيات الغاز فيه بنحو 284 مليار متر كعب، فقد أصبحت اسرائيل شريكا مهما في مصادر الطاقة العالمي ،وقد نصحها الخبرا الأمريكان بأن «أسهل طريق بالنسبة لها لكي تبيع ثروتها الطبيعية إلى الخارج هو بناء خط أنابيب يمر على طول شواطئ لبنان وسوريا، ويصل إلى تركيا في نهاية المطاف وفيها يلتقي مع الخط القطري ليتم توجيه الأثنان بعدها إلى العمق الأوروبي، لكن وجود النظام السوري الحالي هو أيضا ما يعوق تنفيذ هذا المشروع الطموح .. أضف إلى ذلك ،فاسرائيل تتحكم في خط أنابيب نفط (
باكو- جيهان) الذي تحميه غوام وهو تحالف عسكري ناتو -أمريكي بين جورجيا وأذربيجان وأوكرانيا وأزوبكستان ومولدافيا. والفكرة هي ربط خط أنابيب باكو جيهان مع خط أنابيب ايلات – اشكلون الاسرائيلي من خلال نظام شبكة أنابيب تحت الماء من ميناء جيهان التركي الى ميناء أشكلون الاسرائيلي. وفي حين ان أنبوب باكو جيهان يوصف بأنه بديل عن روسيا في نقل نفط وغاز أسيا الوسطى الى الاسواق الأوربية ، فإن جزءا من هذا النفط والغاز يقصد به أن يعاد تصديره الى الاسواق الآسيوية عبر ميناء ايلات على البحر الاحمر، و بربط خط أنابيب باكو جيهان مع نظام أنابيب اسرائيل ، وبناءا على هذه المعطيات ، فقد أصبحت اسرائيل لاعبا مهما في سوق الطاقة العالمي بالتحالف مع شركات النفط الأنجلو أمريكية العملاقة.
وعليه ،تبدو المصادر الرئيسية المغذية لهذا الخط العملاق في صورته النهائية ممثلة في قطر وأذربيجان وتركمانستان والعراق واسرائيل – وربما إيران - ، بينما تمثل سوريا معبراً هاما له ، في حين نجد تركيا تمثل عقدة الغاز لهذا الخط الأسطوري
(نابوكو) الذي يعتمد على مد قناطر أنبوبية عملاقة، صممت لتنبعث من حقول الغاز في أواسط آسيا، ، قاطعةالجبال والسهول والبحار والأنهار والأراضي الوعرة لتنتهي في غرب أوروبا، وفي الطريق ستلتحق بها القناطر العربية المنضوية تحت راية (نابوكو)، في تشكيلة عجيبة تتفوق بالطول والحجم على سور الصين، لتفجر براكين الربيع العربي في عواصم الشرق،وترسم صورة مفزعة للصراع الروسي الصيني في مواجهة القوة الأمريكية المهيمنة على أغنى مكامن النفط والغاز، وبالاتجاه الذي يضمن عزل القوى الدولية الصاعدة (روسياالصين الهند واليابان) عن حوض البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، ويمهد الطريق أمام النظام العالمي الجديد ليبسط سلطته على قارات كوكب الأرض، وينشر مخالبه على منابع الغاز في الشرق.
فكما تؤكد الوقائع السياسية يمكننا أن نلحظ أن خط العرض (33)، شمال خط الاستواء، صار بديلا ل
طريق الحرير القديم، وان هذا الخط نفسه هو الذي سيحقق الأهداف الامريكية، ويساعدها على فرض هيمنتها على ما يسمى (المنطقة الأمريكية الوسطى)، المتمثلة بأقطار الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، فخط العرض (33) لا يمثل بالضرورة درباً لقوافل الحرير كما كان في السابق ، لكنه يماثله من حيث القوة والأهمية، في كونه شريان الطاقة الرئيسي في العالم، وهو أيضا شريان النفوذ والسلطة. .
لقد جاءت قناطر خط (نابوكو) لتضع حدا للصراع القديم بين المعسكر الروسي وأنصاره والمعسكر الغربي وحاشيته، وتحقق الحلم بنقل الغاز (أهم مصادر الطاقة) من آسيا الوسطى والمنطقة العربية إلى قلب الاتحاد الأوربي مرورا بتركيا، بدعم مطلق من البيت الأبيض وإسرائيل. .
إن الصراع على مكامن الغاز في بحر قزوين، والمحاولات الروسية الجارية لمنع تركمانستان من تصدير غازها إلى أوروبا، والصراع الجورجي الروسي، والمناوشات الروسية الأرمينية على حقول الغاز، قد وضع القوى الغربية أمام حالة مصيرية لا تحتمل التأجيل، حالة تستدعي السيطرة على تلك المنطقة بشكل كامل. فإذا كانت الحروب التي شنتها أمريكا وحلفائها في الشرق كانت بدافع السيطرة على حقول النفط، فان الخط (33)المار بأغنى منابع النفط والغاز صار هو الخندق الأمامي للمواجهات الجديدة، وهو البديل الأمثل للصراع القديم على طريق الحرير، لكنه أكثر بطشاً وشراسة منه، وستكون خسائره ببليارات الدولارات، سيما أن اللاعبين في مسارح النظام العالمي هم اليوم أكثر عدوانية ووقاحة، وأكثر عددا وعدة.