لا أعادها الله من فتنة ..
أشهد أنني عاصرتها وشهدت معارك أول يومين منها ، وتفصيل ذلك مايلي :
كانت أول القوات الواصلة للحرم بعد فجر اليوم الأول من شهر محرم الحرام سنة ١٤٠٠هـ ، هي قوات الحج والمواسم ( قوات الطواريء الآن ) .. وهي قوة عسكرية خفيفة كان تسليحها هو رشاش بريتا ٩ ملم ( أبو مقبضين ) .. تتكون من فوجين أو ثلاثة ، وتقع معسكراتها في منطقة دقم الوبر شرق العزيزية . وتم توزيع من ندب لهذه المهمة حول الحرم المكي وعند الأبواب المغلقة تحديدًا .. ولأنها عندما لم تستطع فعل شيءٍ تقرر سحبها عصر ذلك اليوم بإستخدام سيارات الهلال الأحمر ( جموس ) .. وكانت خدعة عسكرية حتى لا تستهدف تلك السيارات الحاملة للقوات أثناء إنسحابها .. إلا إن بعضها لم تسلم من رماية الخوارج من داخل الحرم .. وقد شاهدت إحداها تتعرض لوابل من الطلقات وهي تمشي مسرعة ومحملة بالجنود حتى انقلبت عند مدخل السوق الصغير . وتعرض أحد العساكر للقنص في ساحة الحرم وهو ينسحب بعد أن ترك وحيدًا بالقرب من باب الملك عبد العزيز وتم سحبه بواسطة مدنيين وسيارة مدنية ، ولم يتعرض لهم الخوارج بمكروه ، لأنهم في اليوم الأول لم يكونوا يتعرضون للمدنيين .. واختلف الوضع بقية الأيام وأصبح القنص عشوائيًا وضد أي شيءٍ يتحرك .
وقد شهد المبني الذي كنت فيه جوار الحرم وجود قناصة من مجاهدي الحرس الوطني .. وكانوا يرمون ببنادقهم ( أم خمس ) من الطابق الرابع على شبابيك الطابق الثاني للحرم وذلك لوجود تحرك بشري ملحوظ خلف تلك الشبابيك ( وكنت اقوم وقتها بجمع الظروف الفارغة للطلقات النارية ) والأفرد يصيحون علي ( لا ترفع راسك ياولد .. كنت طالبًا في الثانوية آنذاك
) .. وفي الطابق الثاني من نفس المبنى طرق علينا الباب فردين أحدهما عسكري من قوات الحج والمواسم وآخر مدني ( يلبس بنطلون وقميص ويتحدث باللهجة الأردنية ) وطلبا الإذن بالدخول للقيام بعمليات رماية بالرشاش بريتا المشار إليه أعلاه ، ولكنه المحاولة فشلت لعطل أصاب الرشاش .. وسقطت منه طلقة أثناء إعادة التذخير ( لا زلت أحتفظ بها إلى الآن
) ثم غادرا ولم يعودا .
ومن بعد عصر ذلك اليوم وطوال الليل كانت المنطقة المحصورة بين باب الملك عبالعزيز وباب إبراهيم ومنارات البابين ، وما يقابلها من ناحية سوق ( الباب الصغير ) تشهد إشتباكات متقطعة بالأسلحة الخفيفة من الجهتين إستمرت حتى صباح اليوم الثاني من محرم .. وكانت ليلة جهنمية لم استطع النوم فيها من شدة الرماية ، حيث لم يكن يفصلني عنها سوى جدار ونوافذ زجاجية ( كان ذلك مقر عمل الوالد ) ورغم الأوامر العليا الصادرة لي بالانسحاب إلا أنني كنت أرفض بأدب
في صباح اليوم الثاني شاهدت بأم عيني حضور المجنزرة ناقلة الجنود M113 وكانت غير مسلحة وتجوب الطرقات حول الحرم وهي تتعرض لوابل من الطلقات النارية بدون أي نتيجة .. وعصر ذلك اليوم حضر لمنطقة جياد موكب يحمل ثلاثة أمراء عرفت منهم الأميرين نايف وفواز رحمهما الله ونزولها بفندق شبرا جوار عمارة الأشراف مقابل مستشفى جياد .. حيث تم اختيار ذلك الفندق ليكون مقر للقيادة .. ثم بدأت عملية التمهيد لإقتحام الحرم بإطلاق المدافع ( أو صواريخ ) على شرفات منارات الحرم حيث كان يتواجد بها بعض قناصة الخوارج . والذين إستطاعوا من مواقعهم هذه السيطرة على مساحات كبيرة من الأحياء المكية والجبال حول الحرم .. حتى أن طلقاتهم وصلت إلى منطقة الحجون حسب ما روى البعض .. كما شهد عصر اليوم الثاني حضور أعداد كثيفة من مشاة جيشنا الباسل بعضهم دخل لمنطقة الحرم من جهة كدي ثم بير بليلة ثم جياد .. والبعض وصل عن طريق الملاوي الخلفي نزولًا الي شعب عامر ثم منطقة الغزة .. وقد شاهدتهم بإم عيني وهم يركضون بإتجاه الحرم وهم هامات شاخصات بلباسهم الكاكي الفاتح ويرتدون سترات زيتية اللوان وسلاحهم الفردي كان هو ال G3 ، وكم كان شعوري بالفخر أنذاك لا حدود له .. والحقيقة أن ذلك الرمي المدفعي المركز على المنارات كان مفزعًا لي لدرجة أنني خفت من سقوط بعض القذائف خطئًا عليّ ، خاصة بعد أن وصلت القوات وحمي الوطيس .. فقررت اللإنسحاب من ميدان المعركة من مبدأ السلامة أولًا .
وللحق أقول ما يلي :
١- تأخر وصول قوات الحرس الوطني المدرعة بسبب بعد مقر تواجدها ( في الرياض ) ، بينما القوات البرية متوجده في الطائف ، وهذا يفسر أسبقية وصولها لمكة .. ومن شارك في عملية التحرير هي وحدات من كتيبة الأسلحة المشتركة الأولى التابعة للواء الإمام محمد من سعود الآلي الأول والذي لم يكتمل تشكيله أنذاك .. وكان زيهم الميداني بدلات زيتية اللون وخوذات حديد مطلية باللون البيج .
٢- قوات الأمن الخاصة التابعة لوزارة الدخلية كانت بالزي الأزرق ، ولكونها كانت في طور التشكيل أنذاك ، لا أعلم إن كانت شاركة بقوة في عملية التحرير أو كانت مشاركتها رمزية .
٣- لم أشهد مشاركة أي عنصر غير سعودي في هذين اليومين خلاف الشخص المدني الذي ذكرته . ولا أعلم طبيعة أمره ، أو سر تواجده في ذلك الزمان والمكان ، ومشاركته الجندي السعودي في محاولة الرمي التي لم تكلل بالنجاح ( وأرجح أنه مدرب في القوة ، أحب أن يشارك في تلك المهمة بصفته الشخصية ) والله أعلم .
٤- عملية التحرير إبتدأت من المنارات وانتهت بالأقبية .. ولم تشهد أي عملية إنزال مظلي أو إبرار جوي كما يدعي بعض الجهلة .. وكانت القوات الرئيسية المشاركة في عملية التحرير هي القوات البرية ثم الحرس الوطني ثم القوات التابعة لوزارة الداخلية .
٥- بلغ عدد الشهداء من جميع القوات ١١٥ شهيدًا ( لم تذكر الإحصائية الجهات العسكرية التي ينتسبون إليها ) ( الإحصائية من كتاب وتموت الفتنة ، إعداد جريدة الندوة الطبعة الأولى لسنة ١٤٠٠هـ ) .. وأيًا كانت الجهة فهم جميعًا أبناء الوطن ورجاله ، فدوا دينهم ووطنهم بأرواحهم ، رحمهم الله رحمة واسعة ، وغفر لهم ، وجعلهم في عليين مع الأنبياء والشهداء والصديقين وحَسُنَ أولئك رفيقا .
وختامًا : هذه شهادتي .. وذكرى من ذكرياتي .. قمتها لكم على عجالة .. وأعتذر عن الإسهاب والإطالة .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .. وصل الله على أشرف الأنبياء والمرسلين .