قرنٍ من السيادة الجوية
في الخامس والعشرون من ديسمبر عام 1925م، ووسط تحوّلات تاريخية جسيمة تشهدها شبه الجزيرة العربية، وُلِدت في أجواء مكة المكرمة نواة أول قوة جوية عربية نظامية، حملت اسم قوة الطيران لمملكة الحجاز ونجد. لم يكن ذلك التأسيس مجرد خطوة عسكرية عابرة، بل كان شرارة البداية لأعرق وأقدم سلاح جو عربي، سلاح وُلد من رحم الطموح والوحدة، وصاغ مجده عبر قرنٍ من الصمود والسيادة.
جاء تأسيس قوة الطيران تلك امتدادًا للإرث الجوي الذي بدأ مع قوة الطيران الحجازية عام 1916، ليواصل الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – طيب الله ثراه – المسيرة بعد ضم الحجاز، مدركًا أن السماء ستكون خط الدفاع الأول عن كيانٍ ناشئ يتطلع للمجد. ومنذ تلك اللحظة، أخذت الطائرات تُحلّق في فضاء الوطن الجديد، تحمل راية التوحيد وتكتب أول سطور المجد في سماء المملكة.
لقد كان ذلك اليوم التاريخي - الخامس والعشرون من ديسمبر 1925م - ميلادًا للسيادة الجوية السعودية، وبداية مسيرة امتدت لمئة عام من التطور، من طائرات خشبية بدائية إلى أسراب مقاتلات حديثة، ومن مطارات ترابية بسيطة إلى منظومات قيادة وتحكم متقدمة تحمي سماء الوطن بكل فخر واقتدار.
ميلاد القوة الجوية السعودية (1916–1932)

في زمنٍ كانت فيه الطائرات لا تزال تُعد من معجزات العصر، وسماء الجزيرة العربية لا تعرف سوى أسراب الطيور، وُلدت الشرارة الأولى للطيران العسكري العربي من أرض الحجاز عام 1916، حين أُنشئت قوة الطيران الحجازية في عهد الشريف حسين بن علي.
كانت تلك القوة، رغم محدودية مواردها، أول وأقدم سلاح جو عربي، امتلكت عدداً بسيطاً من الطائرات البريطانية، مثل De Havilland DH-9، تُدار بأيدي طيارين أجانب وتُشرف عليها كوادر محلية في بدايات تعلمها لفنون الطيران والصيانة.
ومع اتساع رقعة توحيد البلاد، دخل الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود الحجاز عام 1925، فاستوعب أهمية هذا السلاح الجديد وأدرك دوره الحيوي في بناء الدولة الحديثة.
وبعد ضم الحجاز، آلت قوة الطيران الحجازية إلى جيشه، فاغتنم منها ست طائرات DH-9 وطائرتين من طراز BF-19، كانت تمثّل حينها نواة القوة الجوية الجديدة.
كما انضم إليه عدد من الطيارين والفنيين الذين خدموا مع الشريف حسين، إضافةً إلى مهندسين وفنيين روس ساهموا في تشغيل وصيانة الطائرات، مما أضفى طابعاً احترافياً مبكراً على القوة الوليدة.
وفي 25 ديسمبر 1925م، صدر القرار التاريخي بإعلان تأسيس قوة الطيران لمملكة الحجاز ونجد، لتبدأ بذلك أول تجربة طيران عسكري منظم في تاريخ الدولة السعودية الحديثة. لم يكن التأسيس شكليًا، بل جاء ضمن رؤية واضحة لبناء قوة جوية فاعلة، تعمل انطلاقًا من شبكة مطارات بدائية لكنها ذات أهمية استراتيجية، شملت مطار جدة كمركز رئيسي للتشغيل والصيانة، ومطار الطائف لدوره التدريبي والدفاعي، ومطار ينبع لدعم الاتصال والنقل على الساحل الغربي، إضافة إلى مطار جزيرة دارين و في المنطقة الشرقية، ومطار الرياض كرافد مهم في عمق الدولة، ومطار رابغ الذي خدم خطوط الربط الجوي الساحلي.
ولم يقتصر اهتمام الملك عبدالعزيز على ما توفر من طائرات، بل سعى لتطوير قدرات القوة الجوية، فأمر بشراء طائرات جديدة أكثر تطورًا من طراز Westland Wapiti Mk.IIA من بريطانيا، والتي وصلت إلى المملكة عام 1929م، لتمنح القوة الناشئة مستوى أفضل من الاعتمادية والأداء العملياتي.
ومع اتساع المهام وتزايد الحاجة إلى كوادر وطنية، جاء عام 1930م ليشهد تأسيس مدرسة الطيران السعودية الأولى، في خطوة سبّاقة هدفت إلى إعداد الطيارين والفنيين السعوديين لخدمة قطاع الطيران بشقيه العسكري والمدني. وقد شكّلت هذه المدرسة حجر الأساس في بناء العنصر البشري، الذي سيحمل لاحقًا مسؤولية تطوير هذا السلاح وحمايته.
وبحلول عام 1932م، ومع إعلان توحيد البلاد تحت اسم المملكة العربية السعودية، دخلت القوة الجوية مرحلة جديدة من تاريخها، حيث تغيّر مسمّاها رسميًا إلى سلاح الطيران السعودي، في خطوة عكست انتقالها من قوة ناشئة مرتبطة بمرحلة التأسيس، إلى ذراع جوية نظامية تابعة لدولة موحّدة ذات سيادة.
وفي تلك اللحظة المفصلية، كانت قوة الطيران الحجازية النجدية قد تجاوزت كونها تجربة محدودة الإمكانات، لتغدو نواة راسخة لسلاح جو وطني، تأسس على رؤية بعيدة المدى وإيمان عميق بأن السماء ستكون أحد ميادين السيادة والدفاع عن الوطن. ومن تلك المدارج البسيطة في جدة ودارين والرياض، بدأت رحلة امتدت قرنًا كاملًا، نحتفي اليوم بإنجازاتها ونستحضر مجدها في سماء المملكة.
تطوّر الهيكل والتنظيم - من مهابط ترابية إلى شبكة سيادة جوية
القيادة وبناء المنظومة التنظيمية
شهدت القوات الجوية الملكية السعودية تطورًا متدرجًا في هيكلها القيادي والإداري، انتقلت خلاله من تشكيلات محدودة تعتمد على القيادة المباشرة إلى منظومة قيادة مركزية متكاملة، قادرة على التخطيط وإدارة العمليات الجوية على المستويات الاستراتيجية والعملياتية والتكتيكية. هذا التطور رافقه تعزيز صلاحيات القيادة الجوية، وتكاملها مع باقي أفرع القوات المسلحة ضمن إطار عمليات مشتركة عالية الكفاءة.
من المطارات الترابية إلى شبكة قواعد جوية متقدمة
بدأت القوات الجوية عملها من مطارات بدائية ذات مدارج ترابية وإمكانات محدودة، قبل أن تشهد المملكة نقلة نوعية في البنية التحتية الجوية تمثلت في إنشاء شبكة واسعة من القواعد الجوية الحديثة، الموزعة استراتيجيًا على مختلف مناطق المملكة.
وتضم هذه الشبكة قواعد رئيسية ومحورية مثل قاعدة الملك عبدالعزيز الجوية بالظهران، قاعدة الملك سعود بحفر الباطن، قاعدة الملك خالد في خميس مشيط، قاعدة الملك فهد بالطائف، قاعدة الملك فيصل بتبوك، قاعدة الملك سلمان بالرياض، قاعدة الملك عبدالله بجدة، و قاعدة الأمير سلطان بالخرج وقاعدة الجوف الجوية ،إضافة إلى قواعد متقدمة عززت العمق العملياتي والجاهزية، من بينها قاعدة الهفوف المتقدمة، قاعدة حائل المتقدمة، وقاعدة بيشة المتقدمة.
وقد شكّلت هذه القواعد العمود الفقري للقدرة على الانتشار السريع، واستيعاب الأساطيل الحديثة، وإدارة العمليات الجوية المستمرة.
وتضم هذه الشبكة قواعد رئيسية ومحورية مثل قاعدة الملك عبدالعزيز الجوية بالظهران، قاعدة الملك سعود بحفر الباطن، قاعدة الملك خالد في خميس مشيط، قاعدة الملك فهد بالطائف، قاعدة الملك فيصل بتبوك، قاعدة الملك سلمان بالرياض، قاعدة الملك عبدالله بجدة، و قاعدة الأمير سلطان بالخرج وقاعدة الجوف الجوية ،إضافة إلى قواعد متقدمة عززت العمق العملياتي والجاهزية، من بينها قاعدة الهفوف المتقدمة، قاعدة حائل المتقدمة، وقاعدة بيشة المتقدمة.
وقد شكّلت هذه القواعد العمود الفقري للقدرة على الانتشار السريع، واستيعاب الأساطيل الحديثة، وإدارة العمليات الجوية المستمرة.
المدارس والمراكز التدريبية وبناء الكادر الجوي
تزامن التطور العملياتي مع اهتمام مبكر ببناء الإنسان الجوي المؤهل، فأنشئت مؤسسات تعليمية وتدريبية متخصصة أسست لنهضة القوات الجوية.
انطلقت مدرسة الطيران عام 1930 كأولى اللبنات التدريبية، تلاها افتتاح مدرسة أعمال المطارات في 1936 وبعد ذلك تلاها افتتاح معهد الدراسات الفنية عام 1945 لإعداد الفنيين المتخصصين في صيانة وتشغيل الطائرات. وفي إطار بناء القيادات الجوية، افتُتحت كلية الملك فيصل الجوية وذلك في عام 1968 لتكون الصرح الرئيس لتخريج الطيارين وضباط القوات الجوية. كما تم إنشاء مدرسة الطيران العمودي المشترك في الطائف لدعم عمليات المروحيات وتكاملها مع بقية الأفرع.
وقد أسهمت هذه المؤسسات في خلق منظومة تدريب متكاملة تجمع بين الطيران، والهندسة، والقيادة.
التحول إلى القيادة الشبكية الحديثة
مع دخول القرن الحادي والعشرين، تبنّت القوات الجوية الملكية السعودية أنظمة قيادة وسيطرة متقدمة، أبرزها C4ISR وC5ISR، ما أتاح ربط الأسراب الجوية ومراكز العمليات والقواعد ضمن شبكة واحدة لتبادل المعلومات في الزمن الحقيقي.
هذا التحول مكّن من دمج الاستطلاع والإنذار المبكر والضربات الجوية في منظومة موحدة، وعزز القدرة على إدارة المعارك الجوية المعقدة، والعمل المشترك مع القوات البرية والبحرية والدفاع الجوي بكفاءة عالية، وفق مفاهيم الحرب الحديثة متعددة المجالات.
المسيرة الزمنية للقوات الجوية
التحول المؤسسي والتوسع المبكر (1933– 1950)
مع إعلان توحيد المملكة العربية السعودية عام 1932م، دخل الطيران العسكري السعودي مرحلة جديدة من تاريخه، مرحلة انتقل فيها من كونه نواة ناشئة إلى مكوّن أصيل ضمن بنية الجيش السعودي للدولة الموحّدة. وبرغم محدودية الإمكانات المادية في تلك الحقبة، إلا أن رؤية الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – طيب الله ثراه – كانت واضحة وحاسمة؛ فالقوة الجوية لم تكن ترفًا عسكريًا، بل أداة استراتيجية لحماية الوطن، وضمان تواصله، وبناء حضوره بين الأمم.
وخلال منتصف الثلاثينيات، بدأت ملامح التمكين الحقيقي تظهر بوضوح. ففي عام 1935م، أبرمت المملكة اتفاقًا مع إيطاليا لشراء أول حزمة متكاملة من الطائرات، ضمّت خمس قاذفات من طراز Caproni Ca.101، وثلاث طائرات نقل متعددة المهام، وطائرتين للتدريب من نوع Nove، إضافة إلى ثلاث طائرات تدريب من طراز Caproni Ca.100. وقد مثّل هذا التعاقد أول برنامج تسليح جوي منظم في تاريخ المملكة، جمع بين القتال والنقل والتدريب ضمن منظومة واحدة، وأسّس لبنية تشغيلية متكاملة للقوة الجوية السعودية.
وفي عام 1936م، اتُخذت خطوة لا تقل أهمية عن شراء الطائرات، حين أُرسلت أول بعثة من الطيارين السعوديين إلى إيطاليا للتدرب على الطيران والعمليات الجوية الحديثة. وبالتوازي مع ذلك، جرى الاتفاق على إرسال بعثة إيطالية متخصصة إلى المملكة لتطوير مدرسة الطيران في جدة، ضمّت مدربين وفنيين بقيادة النقيب شيكو (Chico)، إلى جانب فريق مختص بالصيانة وإنشاء حظائر الطائرات في كل من جدة والطائف، ما أسهم في رفع الجاهزية الفنية والتنظيمية للقوة الجوية.
وفي السابع والعشرين من يناير 1937م، شهدت مكة المكرمة حدثًا مفصليًا في تاريخ الطيران السعودي، حين نفذت الطائرات السعودية أول استعراض جوي في سماء المدينة المقدسة، بقيادة طيارين سعوديين أكملوا تدريبهم في إيطاليا. لم يكن ذلك العرض مجرد استعراض رمزي، بل إعلانًا واضحًا عن ميلاد الجيل الأول من الطيارين السعوديين المحترفين، وبداية مرحلة جديدة من الاعتماد على الكفاءات الوطنية.
وفي العام نفسه، تم تأسيس إدارة الطيران العربي السعودي، لتتولى الإشراف على شؤون الطيران المدني والعسكري معًا. مثّلت هذه الخطوة تطورًا إداريًا مهمًا، إذ أرست الإطار التنظيمي والقانوني لإدارة قطاع الطيران في المملكة، وأسهمت في توحيد الجهود وتنسيقها ضمن جهاز رسمي يعكس متطلبات الدولة الحديثة.
ومع استمرار التوسع، حصلت المملكة على طائرتين فرنسيتين من طراز Caudron C.286 خُصصتا لنقل كبار المسؤولين، في مؤشر مبكر على تنامي الدور الرسمي والدبلوماسي للطيران الحكومي، إلى جانب مهامه العسكرية.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومع بروز ملامح النظام الدولي الجديد، اتجهت المملكة إلى تعزيز تعاونها مع بريطانيا. ففي يونيو 1945م، تقدّم الملك عبدالعزيز بطلب رسمي لتطوير سلاح الجو السعودي وتدريب كوادره، وهو ما تُرجم إلى عرض بريطاني شمل تزويد المملكة بطائرتين من طراز Avro Anson للاستطلاع، وطائرتين من النوع ذاته لأغراض النقل، إضافة إلى ثلاث طائرات تدريب أساسي من طراز DH.82 Tiger Moth. كما أُرسلت بعثات سعودية إلى بريطانيا للتدرب على الطيران والصيانة، بالتزامن مع وصول بعثة تدريب بريطانية إلى المملكة بقيادة العقيد هيو بلاك (Hugh Black)، اتخذت من مدينة الطائف مقرًا رئيسيًا لأعمالها.
وبنهاية الأربعينيات، كانت المملكة قد وضعت الأسس الصلبة لسلاح جو وطني منظم، يمتلك طائرات متنوعة، ومدارس تدريب، وكوادر وطنية مؤهلة، وهيكلًا إداريًا واضح المعالم. لم يعد الطيران السعودي تجربة ناشئة، بل أصبح قوة قائمة بذاتها، تمهّد بثبات للمرحلة التالية من التحديث والتحول، التي ستشهدها البلاد مع دخولها عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية.
التحول المؤسسي والتوسع المبكر (1933– 1950)
مع إعلان توحيد المملكة العربية السعودية عام 1932م، دخل الطيران العسكري السعودي مرحلة جديدة من تاريخه، مرحلة انتقل فيها من كونه نواة ناشئة إلى مكوّن أصيل ضمن بنية الجيش السعودي للدولة الموحّدة. وبرغم محدودية الإمكانات المادية في تلك الحقبة، إلا أن رؤية الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – طيب الله ثراه – كانت واضحة وحاسمة؛ فالقوة الجوية لم تكن ترفًا عسكريًا، بل أداة استراتيجية لحماية الوطن، وضمان تواصله، وبناء حضوره بين الأمم.
وخلال منتصف الثلاثينيات، بدأت ملامح التمكين الحقيقي تظهر بوضوح. ففي عام 1935م، أبرمت المملكة اتفاقًا مع إيطاليا لشراء أول حزمة متكاملة من الطائرات، ضمّت خمس قاذفات من طراز Caproni Ca.101، وثلاث طائرات نقل متعددة المهام، وطائرتين للتدريب من نوع Nove، إضافة إلى ثلاث طائرات تدريب من طراز Caproni Ca.100. وقد مثّل هذا التعاقد أول برنامج تسليح جوي منظم في تاريخ المملكة، جمع بين القتال والنقل والتدريب ضمن منظومة واحدة، وأسّس لبنية تشغيلية متكاملة للقوة الجوية السعودية.
وفي عام 1936م، اتُخذت خطوة لا تقل أهمية عن شراء الطائرات، حين أُرسلت أول بعثة من الطيارين السعوديين إلى إيطاليا للتدرب على الطيران والعمليات الجوية الحديثة. وبالتوازي مع ذلك، جرى الاتفاق على إرسال بعثة إيطالية متخصصة إلى المملكة لتطوير مدرسة الطيران في جدة، ضمّت مدربين وفنيين بقيادة النقيب شيكو (Chico)، إلى جانب فريق مختص بالصيانة وإنشاء حظائر الطائرات في كل من جدة والطائف، ما أسهم في رفع الجاهزية الفنية والتنظيمية للقوة الجوية.
وفي السابع والعشرين من يناير 1937م، شهدت مكة المكرمة حدثًا مفصليًا في تاريخ الطيران السعودي، حين نفذت الطائرات السعودية أول استعراض جوي في سماء المدينة المقدسة، بقيادة طيارين سعوديين أكملوا تدريبهم في إيطاليا. لم يكن ذلك العرض مجرد استعراض رمزي، بل إعلانًا واضحًا عن ميلاد الجيل الأول من الطيارين السعوديين المحترفين، وبداية مرحلة جديدة من الاعتماد على الكفاءات الوطنية.
وفي العام نفسه، تم تأسيس إدارة الطيران العربي السعودي، لتتولى الإشراف على شؤون الطيران المدني والعسكري معًا. مثّلت هذه الخطوة تطورًا إداريًا مهمًا، إذ أرست الإطار التنظيمي والقانوني لإدارة قطاع الطيران في المملكة، وأسهمت في توحيد الجهود وتنسيقها ضمن جهاز رسمي يعكس متطلبات الدولة الحديثة.
ومع استمرار التوسع، حصلت المملكة على طائرتين فرنسيتين من طراز Caudron C.286 خُصصتا لنقل كبار المسؤولين، في مؤشر مبكر على تنامي الدور الرسمي والدبلوماسي للطيران الحكومي، إلى جانب مهامه العسكرية.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومع بروز ملامح النظام الدولي الجديد، اتجهت المملكة إلى تعزيز تعاونها مع بريطانيا. ففي يونيو 1945م، تقدّم الملك عبدالعزيز بطلب رسمي لتطوير سلاح الجو السعودي وتدريب كوادره، وهو ما تُرجم إلى عرض بريطاني شمل تزويد المملكة بطائرتين من طراز Avro Anson للاستطلاع، وطائرتين من النوع ذاته لأغراض النقل، إضافة إلى ثلاث طائرات تدريب أساسي من طراز DH.82 Tiger Moth. كما أُرسلت بعثات سعودية إلى بريطانيا للتدرب على الطيران والصيانة، بالتزامن مع وصول بعثة تدريب بريطانية إلى المملكة بقيادة العقيد هيو بلاك (Hugh Black)، اتخذت من مدينة الطائف مقرًا رئيسيًا لأعمالها.
وبنهاية الأربعينيات، كانت المملكة قد وضعت الأسس الصلبة لسلاح جو وطني منظم، يمتلك طائرات متنوعة، ومدارس تدريب، وكوادر وطنية مؤهلة، وهيكلًا إداريًا واضح المعالم. لم يعد الطيران السعودي تجربة ناشئة، بل أصبح قوة قائمة بذاتها، تمهّد بثبات للمرحلة التالية من التحديث والتحول، التي ستشهدها البلاد مع دخولها عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية.
عصر الانبعاث الجوي (1950–1960): من الطيران التقليدي إلى القوة الحديثة
مع مطلع الخمسينيات، كان العالم قد خرج لتوّه من أتون الحرب العالمية الثانية، حاملاً معه ثورة عسكرية غيرت وجه الحروب إلى الأبد. فقد ظهرت الطائرات النفاثة، وتطورت أنظمة التسليح، وأصبحت السيطرة على السماء شرطًا أساسيًا لحسم أي صراع. وفي هذا المنعطف التاريخي الحاسم، دخل سلاح الطيران الملكي السعودي مرحلة تحول عميقة، انتقل فيها من قوة نامية تعتمد على الطائرات المكبسية، إلى نواة قوة جوية حديثة تسعى لمواكبة أحدث ما بلغته التكنولوجيا العسكرية آنذاك.
في عام 1950م، خطت المملكة خطوة استراتيجية بالغة الأهمية عبر التوصل إلى اتفاقية تعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، شملت إرسال بعثة تدريب لتأهيل الطيارين السعوديين في مطار الظهران، الذي برز منذ تلك اللحظة كمركز رئيسي للتدريب والتشغيل الجوي. وفي إطار هذا التعاون، جرى تعزيز قدرات النقل الجوي بشراء أربع طائرات من طراز C-47 Dakota وأربع طائرات نقل إستراتيجي من طراز C-54 Skymaster، ما منح سلاح الطيران قدرة أفضل على النقل والربط والدعم اللوجستي داخل المملكة وخارجها.
وبالتوازي مع ذلك، شهدت قاعدة الظهران الجوية تطورًا ملحوظًا في مجال التدريب، مع إدخال طائرات T-6 Texan وT-35 وT-34 Mentor إلى الخدمة، وهي طائرات مخصصة للتدريب الأساسي والمتقدم، شكّلت آنذاك نقلة نوعية في مستوى إعداد الطيارين السعوديين، وأسهمت في رفع كفاءتهم وفق معايير أقرب لما هو معمول به في القوات الجوية المتقدمة.
وفي عام 1953م، دخل سلاح الطيران مرحلة جديدة من التطور العملياتي بتشكيل سرب القاذفات، عقب التعاقد على شراء تسع طائرات قاذفة من طراز B-26 Invader الأمريكية، والتي اتخذت من مطار جدة مقرًا لها. وقد مثّل ذلك أول امتلاك فعلي لقدرات جوية هجومية قادرة على تنفيذ مهام القصف والدعم الجوي، ما أضاف بعدًا جديدًا إلى العقيدة القتالية للقوة الجوية السعودية.
أما التحول الأبرز في تلك الحقبة، فجاء عام 1955م، حين وقّعت المملكة أول صفقة مقاتلات نفاثة في تاريخها، بشراء عشرين مقاتلة Vampire FB-52 من إيطاليا، التي كانت تنتجها بترخيص بريطاني من شركة de Havilland. ومع دخول هذه الطائرات الخدمة، دخل سلاح الطيران السعودي رسميًا عصر الطيران النفاث، لتتغير معه مفاهيم السرعة والاعتراض والقتال الجوي. ولضمان إعداد الطيارين لهذا التحول الكبير، تم دعم منظومة التدريب بشراء اثنتي عشرة طائرة تدريب من نوع DHC-1 Chipmunk البريطانية.
وفي عام 1956م، تعزز هذا المسار التحديثي بتوقيع اتفاقية شاملة جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية، شملت تزويد المملكة بعدد من الطائرات الحديثة، كان أبرزها عشر طائرات تدريب نفاثة من نوع T-33 Shooting Star، وعشرون مقاتلة F-86F Sabre، إلى جانب ست طائرات نقل من نوع C-123 Provider، واثنتي عشرة طائرة تدريب أساسي من نوع T-28 Trojan. وقد شكّلت هذه الصفقة أكبر برنامج تحديث يشهده سلاح الطيران السعودي حتى ذلك الوقت، وأسست لمرحلة جديدة من الاحتراف والجاهزية العملياتية.
وفي عام 1957م، اكتملت ملامح هذا التحول بدخول أول طائرة مروحية إلى خدمة سلاح الطيران السعودي، من طراز Westland Whirlwind HAR-3 البريطانية. وقد فُتحت بذلك صفحة جديدة في تاريخ القوة الجوية، مع بداية تأسيس الطيران العمودي، الذي أُنيطت به مهام النقل والإخلاء والبحث والإنقاذ، قبل أن يتطور لاحقًا ليصبح عنصرًا أساسيًا في العمليات الجوية الحديثة.
وهكذا، ومع نهاية عقد الخمسينيات، كان سلاح الطيران الملكي السعودي قد انتقل من مرحلة البناء إلى مرحلة التمكين، واضعًا الأسس الصلبة لقوة جوية حديثة، ستدخل في العقد التالي عصرها الذهبي من التوسع والتنظيم، وتصبح أحد أعمدة الدفاع والسيادة في سماء المملكة.
عقد التحول والتمكين (1960–1980): ميلاد القوة الجوية الملكية الحديثة
مع مطلع الستينيات الميلادية، دخل سلاح الطيران السعودي مرحلة مفصلية في تاريخه، انتقل فيها من قدرات محدودة إلى مشروع بناء قوة جوية متكاملة. وجاء تعيين صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز وزيرًا للدفاع والطيران عام 1962م ليشكّل نقطة الانطلاق الفعلية لهذا التحول، حيث أُطلقت رؤية تطوير شاملة شملت الطائرات، القواعد، أنظمة القيادة والسيطرة، والرادارات.
في عام 1962م بدأ تحديث النقل الجوي بدخول 9 طائرات C-130E الخدمة، لتشكّل العمود الفقري للقدرات اللوجستية، تلاها في العام نفسه إدخال طائرات Jetstar كنواة لسرب النقل السريع والقيادي. ومع نجاح هذه المنظومة، توسّع الأسطول لاحقًا بشراء 10 طائرات C-130H عام 1971م، ثم 6 طائرات KC-130 للتزود بالوقود جوًا و17 طائرة C-130H عام 1973م، ما منح القوات الجوية قدرة انتشار واستدامة عملياتية غير مسبوقة.
وعلى صعيد المقاتلات، أُوفدت خلال الفترة 1962-1965م بعثات متخصصة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لتقييم المقاتلات النفاثة الحديثة، وأسفر ذلك عن إطلاق مشروع الدفاع الجوي الشامل عام 1965م، الذي تضمّن إدخال مقاتلات Lightning F.53 الاعتراضية، وطائرات تدريب نفاثة Strikemaster Mk80 ، إضافة إلى منظومة رادار وإنذار مبكر واتصالات متكاملة.
وفي أعقاب الانتهاكات الجوية التي تعرّضت لها الحدود الجنوبية للمملكة، نُفّذ عام 1966م مشروعٌ طارئ عُرف باسم «البساط السحري»، تضمّن نشر مقاتلات لايتنيج Lightning الاعتراضية، ومقاتلات هوكر هنتر Hawker Hunter القاذفة-المقاتلة، إلى جانب منظومات دفاع جوي ورادارات إنذار مبكر وأنظمة قيادة وسيطرة. وقد أسهم هذا الانتشار السريع في استعادة السيطرة الكاملة على الأجواء الجنوبية ووقف جميع الانتهاكات الجوية، ليؤكد فعالية التحول الذي شهدته القوات الجوية السعودية في تلك المرحلة المفصلية.
تواصل تحديث أسراب المقاتلات بدخول 50 مقاتلة F-5 ابتداءً من عام 1969م، تبعها تعزيز إضافي بشراء 64 مقاتلة F-5E عام 1975م، لترسيخ قدرة الاعتراض والدعم الجوي. وفي خطوة استراتيجية كبرى، تعاقدت المملكة عام 1978م على مقاتلات F-15C/D، التي مثّلت آنذاك قمة ما وصل إليه التفوق الجوي العالمي.
وفي مجال الطيران العمودي، دخلت الخدمة عام 1966م مروحيات Alouette III، ثم تلتها خلال الستينيات والسبعينيات صفقة مروحيات AB-204/205/206 متعددة المهام، لتعزيز النقل، الدعم، والبحث والإنقاذ.
ولضمان استدامة هذا التطور، أُسست الكلية الجوية عام 1968م، إلى جانب إنشاء معهد الدراسات الفنية الجوية بالظهران، لتأهيل الطيارين والمهندسين والفنيين السعوديين وفق معايير حديثة.
وعلى مستوى البنية التحتية، شهدت الفترة 1965-1968م تطوير قاعدة خميس مشيط الجوية، إلى جانب تحديث قواعد الظهران، جدة، والطائف، وتجهيزها بحظائر محصنة، ومرافق صيانة، وأنظمة رادار واتصالات متقدمة.
وفي عام 1973م، تُوّج هذا المسار برفع سلاح الطيران إلى القوات الجوية الملكية السعودية، في خطوة عكست اكتمال الهوية المؤسسية للقوة الجوية. وبحلول نهاية السبعينيات، كانت المملكة قد امتلكت قوة جوية حديثة، قائمة على التخطيط، والتقنية، والكوادر الوطنية، ومهيأة لدخول مرحلة التفوق الجوي في العقود اللاحقة.
عقد الصلابة والتعاظم (1980–2000)
شهدت ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين مرحلةً حرجةً من تاريخ المنطقة ثورةٌ تفجّرت في إيران، صراعاتٌ إقليمية تلاطمت، ثم جاءت حرب الخليج الأولى فهزّت ثقة الجوار وأظهرت هشاشة بعض المعادلات التقليدية. في هذه الأجواء الملبّدة بالتهديد، وتحت قيادة الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله، دخلت القوات الجوية الملكية السعودية مرحلةً جديدة من الصلابة والتَعاظُم: خطط استباقية، صفقات استراتيجية، وبناء شبكات رصد وسيطرة جعلت من سماء المملكة حصناً عصياً على المفاجآت.
كانت أولى خطوات عهد النهوض نقل القدرة من مستوى الدفاع المحلي إلى منظومة مؤسساتية قادرة على الاكتشاف المبكر، القيادة المتكاملة، والرد القوي. وقد تجلّت هذه النقلة في صفقاتٍ ومشروعاتٍ أثّرت في موازين القوة الجوية للمملكة ـ صفقاتٌ جعلت من السلاح الوطني لاعبًا فاعلًا على مستوى الإقليم.
كانت أولى خطوات عهد النهوض نقل القدرة من مستوى الدفاع المحلي إلى منظومة مؤسساتية قادرة على الاكتشاف المبكر، القيادة المتكاملة، والرد القوي. وقد تجلّت هذه النقلة في صفقاتٍ ومشروعاتٍ أثّرت في موازين القوة الجوية للمملكة ـ صفقاتٌ جعلت من السلاح الوطني لاعبًا فاعلًا على مستوى الإقليم.
تهديدات جعلت التحديث أمراً عاجلاً
أحداثٌ جعلت السماء السعودية هدفًا للاهتمام الأكثر الثورة الإيرانية التي أعادت ترتيب موازين النفوذ الإقليمي، الحروب المتتالية في الخليج التي أسفرت عن مفاهيم تهديد جديدة، وخصوصاً حرب الخليج الأولى التي أثبتت أن السيطرة على المعلومات والقدرة على الإسناد الجوي والقتال المتقدم أمر حاسم. كل ذلك قاد القيادة إلى انتهاج سياسة شراء واستباقٍ تقوّي الردع وتؤمّن العمق الاستراتيجي.
صفقة درع السلام وعمود الإنذار المبكر (1981) - قلب الشبكة الاستخبارية
في عام 1981 شهدت القوات الجوية نقلة نوعية في مجال الاكتشاف والقيادة والسيطرة شراء 5 طائرات AWACS من طراز E-3A مزوّدة بأنظمة رصد وإنذار مبكر جوّي، إلى جانب 8 طائرات للتزود بالوقود جواً KE-3A. عُرفت هذه المبادرة في سياقها المؤسسي بصفقة (درع السلام) التي ضَمِنَت وجود قدراتٍ متقدمة للاستخبار الجوي، ونشرت رادارات إنذار مبكر أرضية وأنظمة قيادة وسيطرة متطورة، فانتفت مفاجآة الارتفاعات وأصبح الزمن المطلوب لاكتشاف التهديد وتوجيه الرد أقصر بكثير.
تعزيز أسطول النقل (1981–1984) - شريان شبه استراتيجي متجدد
أدركت القيادة أهمية القدرة على الحركة وإنعاش خطوط الإمداد والإخلاء والانتشار، فتمت زيادة قدرات النقل في 1981 جُهّز الأسطول بإضافة 8 طائرات C-130H، وفي 1984 دخلت الخدمة 4 طائرات نقل تكتيكي CN-235، ما أعطى المرونة للتعامل مع المهمات التكتيكية واللوجستية داخل المملكة والمنطقة.
استطلاع وإنذار بصري وجوي (1982) - عيون في السماء
لم يغب جانب الاستخبارات البصرية والجوية عن خطط التحديث إذ تم شراء 10 طائرات RF-5E في 1982 لتعزيز قدرات الاستطلاع الجوي المسلح وغير المسلح، مما حسّن من قدرة المملكة على تجميع المعلومات الدقيقة والمستمرة عن مسرح العمليات الإقليمي.
إكمال القدرة الاعتراضية - دفعات F-15 وعمليات تعزيز القوة (1987–1992)
لم تكن الاكتشافات وحدها كافية كان لا بد من قوة اعتراض وهجوم دائمة استجابت البرامج التسليحية لذلك بتعزيز أسراب الاعتراض والمضاربين. ففي 1987 تم شراء 12 طائرة F-15C، وتبعها في 1990 شراء 24 طائرة F-15C إضافية، ليكتمل فيها رصيد المقاتلات الاعتراضيّة التي تحمي الأجواء. ثم في 1992 تم التعاقد على 72 مقاتلة F-15S (Strike Eagle) - دفعة عظيمة متعددة المهام أعطت المملكة قدرة هجومية عميقة ودقة في الضربات والاستهداف.
صفقتا اليمامة (1985 و1993) - أعمدة القدرة الهجومية والتدريب المتقدم
صفقة اليمامة 1 (1985) كانت من أشهر الصفقات، مضمنة عناصر هجومية ودعم تدريبي مكثّف 24 طائرة Tornado ADV دفاعية، و48 طائرة Tornado IDS هجومية، و30 طائرة Hawk-65 للتدريب المتقدم، و30 طائرة PC-9 للتدريب التأسيسي، وإمداد بطائرتي Jetstream-31 لمهام الملاحة والتأهيل لطياري التورنيدو. هذه الصفقة أنشأت لبنة تكتيكية هجومية متقدمة. وتبعتها اليمامة 2 (1993) التي ضمت 48 طائرة Tornado IDS هجومية و20 طائرة Hawk-65 إضافية، مما أكمل حلقة التزويد القتالي والتدريبي للطيران التكتيكي.
قدرات المروحيات (توسيع 1980s–1990s)
لم يغفل التحديث عن جناح المروحيات فقد أضيف للأسطول 29 مروحية Bell-212 لتعزيز مهام النقل، الإخلاء، والدعم القريب، ما عزّز القدرة على نقل قوة سريعة داخل ساحات العمليات والدعم الإنساني والطوارئ.
وفي 1996 تعاقدت المملكة على مروحية AS-532U2 Cougar لتشكل عمود سرب البحث والإنقاذ القتالي (السرب 99) منصةٌ متعددة المهام، منقذةٌ للجنود والمدنيين، وموجّهة لمهام الإخلاء القتالي والدعم القريب، فزدات قدرة القوات الجوية على الاستجابة العاجلة للعمليات والطوارئ في ظروف قتال واقعية.
القيادة والسيطرة، الرادارات والشبكات - منبع القرارات السريعة
لم تكن الطائرات وحدها ما صنع الفارق، بل الشبكة التي تقرأ، تنقل، وتقود. صفقة درع السلام وأنظمة الإنذار المبكر أرست بنية رادارية أرضية ومحمولة، وربطت محطات الكشف بالـAWACS ووحدات القيادة المركزية، مكوّنةً شبكة متماسكة للقيادة والسيطرة. هذا التكامل قلّل زمن الاستجابة، حسّن دقة التوجيه، ومكّن من تنفيذ مهام اعتراض ودعم بعيد المدى.
تابع
