روسيا قد لا تكسب الحرب، لكنها لا تخسرها
ابراهيم نوار
في المقال التالي، وبعيدا عن أهوال الظروف المأساوية التي تحيط بها على الجانبين، أتناول موضوع الحرب الاوكرانية من منظور استراتيجي.
النتيجة التي خلصت إليها بخصوص تأثير استمرار الحرب على كل من روسيا وأوروبا تتفق مع ما جاء في المداخلة العميقة التي أدلى بها هنري كيسنجر في الحوار الذي أجراه معه كلاوس شواب رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي "دافوس" أخيرا. كيسنجر قال بضرورة إنهاء الحرب بأسرع وقت، واتفق مع روسيا في حاجتها إلى الامن، وضرورة أن تتنازل أوكرانيا عن جزء من اراضيها الحالية، مؤكدا أنها يجب أن تستمر جسرا للاتصال والتفاعل السلمي بين روسيا والقارة الأوروبية.
المقال المنشور اليوم في صحيفة "القدس العربي":
"روسيا قد لا تكسب الحرب، لكنها لا تخسرها
إبراهيم نوار
في تاريخها الطويل، سواء تمددت روسيا أو انكمشت، فإنها ظلت قوة برية عظمى، تمثل أراضيها من شرق سيبيريا إلى غرب جبال وسهول الأورال قلعة حصينة تستعصي على الغزاة، وقوة قطبية تتوفر لها فرص الهيمنة على القطب الشمالي وبحار أوروبا الشمالية، لكنها لم تصبح أبدآ قوة بحرية عظمى، الأمر الذي كان وما يزال أحد نقاط ضعفها الاستراتيجي. ورغم ذلك، فإن القوى المعادية لها، حتى في أشد مراحل ضعفها، لم تتمكن من اقتطاعها من العالم وإلقائها تحت جبال الجليد في المحيط المتجمد الشمالي. الولايات المتحدة، القوة البحرية الأعظم في العالم، يبدو أنها لا تفهم ذلك ولا تعيه. ومن ثم فإنها لا تدرك أن الحرب ضد روسيا قد تستمر للأبد بدون الانتصار عليها.
النظام العالمي يمر منذ سنوات بمرحلة قلقة مليئة بعوامل التوتر، تحمل في رحمها جنين عملية تغيير تاريخية قيد التطور، ستنتهي لا محالة إلى تغيير النظام الحالي للسيطرة القطبية المنفردة للولايات المتحدة، وإعادة تشكيل النظام العالمي على أساس صيغة متعددة الأطراف، ما تزال هي الأخرى قيد التشكل، لكنها تظهر من الآن مكانة جديدة لكل من روسيا والصين والهند والاتحاد الأوروبي بجانب الولايات المتحدة. في هذا السياق تجري الحرب الأوكرانية، التي تريد الولايات المتحدة لها أن تطول سنوات وسنوات، حتى تستنزف القوة العسكرية لروسيا، فتخور وتسقط، في تكرار مماثل لما حدث في حرب أفغانستان، وتعيد أوروبا إلى رشدها حتى تبتعد عن نزق تطوير هوية سياسية واقتصادية وعسكرية مستقلة عن الولايات المتحدة، وتدفع الصين الى اختيار الدخول بقدميها في مصيدة " بيت الطاعة" الأمريكي.
استراتيجية تركيز المجهود الرئيسي
لكن روسيا، التي دخلت حربها في أوكرانيا شهرها الرابع تجد نفسها الآن في وضع أفضل عسكريا واقتصاديا وسياسيا عما كانت عليه خلال الأشهر الثلاثة الماضية؛ فهي من الناحية العسكرية غيرت استراتيجيتها من "توزيع المجهود العسكري" على مساحة واسعة من أراضي أوكرانيا شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، إلى استراتيجية "تركيز المجهود الاستراتيجي الرئيسي" في إقليم دونباس شرقا، والشريط الساحلي لبحر آزوف جنوبا. وقد ساعد تغيير القيادة العسكرية للحرب على نجاح تكتيكات تنفيذ الاستراتيجية الجديدة التي ركزت في الأسابيع الأخيرة على كسر شوكة كتائب آزوف القومية المتطرفة في مدينة ماريوبول الساحلية.
استراتيجية "تركيز المجهود الرئيسي" حققت لروسيا عددا مهما من المكاسب؛ الأول هو تقليل الخسائر، والثاني هو السيطرة على معقل المقاومة الرئيسي في ماريوبول، والثالث هو السيطرة على بحر آزوف وتأمين المدخل الشمالي الشرقي للبحر الأسود، وتأمين الاتصال البري مع شبه جزيرة القرم، وتعزيز الوجود البحري في البحر الأسود، وفتح الطريق لتأمين الشريط الساحلي الجنوبي، والتوجه إلى تطهير الشريط الحدودي الشرقي، وهو ما قد يفتح الباب لإقامة جمهورية مستقلة واحدة في دونباس على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، تصبح بمثابة buffer zone حتى في حال وجود قوات من حلف الناتو في أوكرانيا.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن روسيا أصبحت هي، وليس الولايات المتحدة، الطرف القادر على استخدام "سلاح الطاقة"، وهو السلاح الذي يكبد أوروبا والعالم خسائر فادحة، كما أنها أصبحت أيضا في وضع يمكنها من رد سلاح الحرب على "الروبل" إلى أوروبا، التي أذعنت لشرط روسيا بأن تتم تسوية مستحقات شراء الغاز الروسي بالعملة الروسية وليس بالدولار، ومنعت التحويل من الدولار الى "الروبل"، ومن ثم أجبرت دول الاتحاد الأوروبي على فتح حسابات باليورو يتم التحويل منها إلى البنوك الروسية. وكانت النتيجة أن الروبل الذي كانت الولايات المتحدة تتباهي في الأسابيع الأولى من العقوبات بأنها أسقطته تقريبا في أسواق النقد العالمية، صعدت قيمته الآن إلى أعلى مستوى في السنوات الأخيرة.
ومع أن الاقتصاد الروسي بشكل عام يعاني من تداعيات الحرب الأوكرانية، سواء بسبب تأثير انقطاع طرق التجارة مع الغرب أو اضطرابها بحر وجوا، أو بسبب تراجع استيراد مستلزمات الإنتاج الصناعي الوسيطة، فإن القدرة على التحمل تبدو أعلى مما هي في الدول الأوروبية، خصوصا مع توفر السلع الغذائية والطاقة، وهما أكبر محركين من محركات ارتفاع الأسعار في العالم حاليا.
روسيا تحقق فائضا ماليا
وتؤكد أرقام الميزانية الروسية للربع الأول من العام الحالي قدرتها على تحمل العقوبات الاقتصادية؛ حيث حققت فائضا في الميزانية الفيدرالية بقيمة 1.1 تريليون روبل (17 مليار دولار) وفقا لتقديرات وزارة المالية. مقابل عجز في الميزانية الفيدرالية الأمريكية يتجاوز 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. كما أوفت بسداد أقساط وفوائد الديون المستحقة عليها رغم تجميد أرصدتها من العملات الأجنبية في الخارج.
مرونة "تحويل" التجارة
وعلى الصعيد السياسي فإن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وجد متنفسا واسعا للتحرك في الأسابيع الأخيرة، بينما كانت روسيا محاصرة دبلوماسيا في الأسابيع الأولى للحرب، حيث زار عدة بلدان منها الجزائر وسلطنة عُمان في محاولة لبناء موقف متماسك داخل مجموعة "أوبك +" في وجه الضغوط الأمريكية. وقد ترافق هذا التحرك الدبلوماسي مع ظاهرة يجب أن نلفت النظر إليها لأهميتها الكبيرة، ألا وهي سرعة ومرونة "تحويل التجارة" الروسية من الغرب إلى الشرق، خصوصا إلى الهند والصين ودول آسيا الوسطى.
ومع أن الولايات المتحدة حاولت ممارسة ضغوط شديدة على البلدين وغيرهما، فإن روسيا نجحت في تعويض انخفاض صادراتها إلى الدول الغربية، بزيادة الصادرات إلى كل من الهند والصين ودول آسيا الوسطى. وحتى وإن ترافقت هذه الزيادة مع منح خصومات كبيرة للمشترين، فإن المستوى المرتفع لأسعار النفط والغاز في أسواق العالم يجعل المبيعات مربحة لروسيا، فهي تكسر نظام العقوبات الأمريكية، وتحصل على إيرادات ملائمة لصادراتها، وتعزز قيمة عملتها الوطنية في السوق. وقد تمكنت من مضاعفة صادرتها النفطية إلى الهند أربع مرات حتى نهاية الشهر الماضي لترتفع من 66 ألف برميل إلى 277 ألفا بنسبة 6 في المئة من الواردات النفطية للهند.
قدرة لا محدودة على التحمل
الاستنتاج الذي نخلص إليه هنا هو أن روسيا لديها في الأجل الطويل عوامل كافية للقدرة على مواجهة اختبارات التحمل القاسية لفترة غير محدودة من الزمن. وهذا يجعلنا نتساءل عن مدى قدرة الطرف الآخر على النجاح في اختبارات تحمل انقطاع أو التهديد بقطع امدادات الطاقة، ونقص السلع الغذائية، وتقسيم العالم ماديا إلى منطقتين اقتصاديتين، وهو ما ينتج عنه تحول كبير في اتجاهات التجارة العالمية، التي إذا استمرت في الأجل الطويل فإنها ستترك آثارا شديدة على النمو في أوروبا، وتجعلها أسيرة لمنطقة الطاقة الأمريكية بدلا من أن تكون مستقلة لمدة قد تصل إلى عشر سنوات من الآن. وقد جاءت خطوة روسيا الأخيرة بقطع إمدادات الغاز عن فنلندا يوم السبت الماضي لتؤكد جدية التهديد الروسي بقطع إمدادات الغاز عن زبائنها الذين يرفضون سداد الثمن بالروبل.
وعلى الصعيد الداخلي فإن الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، فشلت حتى الآن في تقديم صيغة لإنقاذ مواطنيها من الأعباء القاسية لارتفاع تكاليف المعيشة. الأوضاع في دول الاتحاد الأوروبي أسوأ بكثير مما هي عليه في الولايات المتحدة.
ونحن نعتقد أن الولايات المتحدة تقدم الدعم العسكري بسخاء إلى أوكرانيا ليس فقط لمواصلة القتال ضد الروس، ولكن لأن إطالة أمد الحرب من شأنه أن يضعف دول الاتحاد الأوروبي، خصوصا ألمانيا، ويزيد حاجتها الأمنية والاقتصادية للولايات المتحدة.
ومع ذلك فإن تقديم المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا بعشرات المليارات من الدولارات، مع انخفاض مستوى المعيشة، يضع علامات استفهام كبيرة على سياسات إدارة بايدن التي ستواجه منافسة قاسية من الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس.
ومع أن جوهر سياسة بايدن في أوكرانيا هو المزايدة على النزعة القومية الشعبوية لأنصار الرئيس السابق دونالد طرامب، فإن زيادة الأعباء الاقتصادية الداخلية، وضعف المردود العسكري للمجهود الحربي في أوكرانيا، وارتفع رقم ضحايا فيروس كورونا لأكثر من مليون شخص، يجعل سياسة بايدن بمثابة المنصة السياسية التي سيصعد عليها أنصار طرامب لتحقيق انتصارات في العديد من الدوائر التي يسيطر عليها حاليا الديمقراطيون في مجلسي الشيوخ والنواب.
ومع ضعف فرص بايدن نفسه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فإن المسرح السياسي الأمريكي يبدو الآن مهيأ أكثر من أي وقت مضى، منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لعودة دونالد طرامب إلى البيت الأبيض، وهو ما سيؤدي إلى التعجيل بنهاية النظام القطبي الأحادي، وفشل السياسة الخارجية والدفاعية الحالية للولايات المتحدة التي بدأت، بقيادة بايدن، تحشد لمواجهة عسكرية مع الصين في جنوب شرق آسيا.
#IbrahimNawar