الكثير يجهل احداث السنة الاخيرة من حكم سيدي الامير عبد القادر وكيف ارتضى ان ينزل على حكم لامورسيير قائد الجيوش الفرنسية سنة 1847
استمر الامير ينافح بالغالي والنفيس سبعة عشر عاما اذاق فيها الجيش الفرنسي الذي دوخ اوروبا كلها حتى موسكو مهينا ماريشالاته الاربعة هازئا بهم في سرالته اليهم بأنه رضع لبان الحرب صغيرا بينما هم اهتموا بطرائقها القولية في مدارسهم حتى اذا عاجلتهم الحرب لم تمنح لهم الفرصة للرجوع الى كراريسهم ولما استكمل الأمير ما يتطلبه الموقف من العدة والعدد اخذ يتسرب سريعا إلى إقليم التل حتى وصل إلى " تاهرت " – تيارت – واندفعت جيوشه منطلقة من مركز القيادة بالحدود المغربية متوجهة إلى شتى النواحي من ارض الوطن منقضة على العدو فانتزعت من يده مناطق كثيرة ومنها ارض بني عامر كما نزلت بمدينة سيدي بلعباس وهناك التحقت بها أفواج من الناس متوجهين إلى ناحية وادي ملوية حيث يقيم الأمير وراء جبل يزناسن غربا.
ومن هنالك انطلقت الجنود مندفعة في غاراتها على المراكز الفرنسية القائمة بشتى النواحي والجهات ومكث الأمير يدبر شان هذه العصابة المنصورة في كفاحها قرابة 06 أشهر من أوائل فصل الشتاء إلى نهاية فصل الربيع وأوغل في سيره هذا حتى وطئت قدماه ارض الجزائر المحتلة فاضطرب لشانه رجال أركان الحرب وأدركهم الهلع والفزع حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم حولوا أنظارهم إلى سلطان المغرب يستعينون به فأرسل إليه يأمره بالخروج من الحدود. ولما عاد إليه رسول الأمير وتحقق منه أن الأمير لا نية له إلا في الجهاد وتأديب رعاياه الذين تركوه واتبعوا دولة فرنسا. وافق الأمير على قصده واخبره بما في قلوب أهل المغرب الأقصى من الميل والمحبة وحسن الاعتقاد.
انحراف سلطان المغرب وميوله للفرنسيين ضد الجزائريين
واستمرت فرنسا تعمل على توطيد دعائمها بهذا المغرب الإسلامي الكبير فغدت لتنفيذ خطتها هذه بسلوكها بسياسة التفرقة وتفكيك ما هنالك من الروابط الثابتة بين أبناء وطن المغرب العربي على قاعدة الاستعمار التقليدية: " فرق تسد " ... وسعت بكل جهودها في التآمر وبذر بذور الشقاق والخلاف بين أقطابه فعملت على أحداث الوحشة والقطيعة بين عاهل المغرب الأقصى السلطان عبد الرحمان بن هشام وأمير المغرب الأوسط عبد القادر بن محي الدين وحملت السلطان على رفض قبول التجاء الأمير إلى الحدود المغربية وطرده وإبعاده عنها ارتكازا منها على موجب الاتفاقية المبرمة سابقا بينها وبين دولة المغرب على عهد السلطان محمد بن عبد الله العلوي سنة 1180 هجري – 1766 . وذلك حسب ما جاء في المادة التاسعة من هذه الاتفاقية التي تنص على انه :
" إذا انتقض الصلح بين وجاقات الجزائر ووجاقات تونس وطرابلس وبين الفرنسيين فلا يأمر سيدنا السلطان محمد بن عبد الله ابن إسماعيل – نصره الله – بإعانة الوجاقات المذكورين بشيء أصلا ولا يترك أحدا من رعيته يتسلح ويركب تحت سنجق احد الوجاقات ليقاتل الفرنسيين ولا يترك أحدا من مراسيه ليقاتلهم وان فعل رعيته ذلك عاقبه وضمن ما أفسده."
وجاء في المادة الحادية عشر من نفس هذه المعاهدة أو المصالحة أن للقنصوات الفرنسيين التقدم والتصدر على غيرهم من قنصوات الأجناس الأخرى وفي نفس الوقت أو هم الفرنسيون سلطان المغرب بان الأمير عبد القادر يطمع ببلاده.
وفعلا أحجم سلطان المغرب عن مناصرة الأمير عبد القادر الجزائري واظهر له الجفاء بعد ما كان له ناصرا ومؤازرا وذلك ما يذكرنا ويعود بنا إلى الوراء إلى عهد بوخوص عاهل المغرب الأقصى وموقفه مع صهره البطل الجزائري الزعيم يوغرطة – منذ ألفي سنة – أي حينما اعتصم يوغرطة بصهره ذا مستنصرا به في حروبه مع روما فأسلمه بوخوص إلى الجمهورية الرومانية ...
وإخوان اتخذهم سهاما فكانوها ولكن في فؤادي
والتاريخ يعيد نفسه كما يقولون.
وكان من بين رسائل السلطان التي تحمل تهديده وتوعدتاه إلى الأمير عبد القادر هذه الرسالة التي يقول فيها :
" لا سبيل إلى خلاصك إلا بأحد أمرين إما أن تسلم نفسك إلينا أو إما أن تخرج من هذه الحدود فان ابيت أن تجري احدهما طوعا فنحن نجريه كرها ."
تحريض المغرب أهالي وقبائل البلاد ضد الجزائريين
بل لم يكتف السلطان بهذا كله حتى أوعز إلى أهالي البلاد والقبائل والمداشر المجاورة بمعاداة الأمير والتألب عليه وقد طالت المخابرات والمكاتبات بين العاهلين وتدخلت بريطانيا العظمى في القضية ولم يكن إلا ما أراده الله. فتحمل البطل الجزائري كل ذلك من أخيه المغربي برباطة جأش وصبر وثبات. وتحقق لديه يومئذ بأنه انزل أماله بواد غير ذي زرع مغترا بالسراب فعاد أدراجه وهو يتعثر باذيال الخيبة ولسان حاله ينشد متمثلا بقول طرفه:
وظلم ذوي القربى اشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
وكتب إلى سلطان المغرب يقول:
" أما بعد فاني كاتبكم أولا ولتمست منكم كف ضرر قبائلكم المجاورة لنا وتعديا على من تبعني وسوء معاملتهم لهم لأنهم كلهم أولاد دين واحد وشريعة واحدة فلم يأتني جواب عن ذلك ولم يحصل لهم ردع من طرفكم ومع هذا كله أنا صابر ومتحمل لما يجرونه كراهية سفك دماء المسلمين مدة 06 أشهر طمعا في رجوعهم عن البغي والطغيان إلى العدل والإحسان مع قدرتي عليهم في كل آن فان لم تردعهم الآن عن أفعالهم وترجعهم عن قبيح تصرفاتهم التزم المحاماة عن حقوقي والمحافظة على شرف أتباعي ولذا بادرت بإخباركم السلام "
مراسلة الأمير عبد القادر علماء القاهرة للحصول على فتوى من جراء وقوف المغرب مع الفرنسيين ضد الجزائريين
كما انه يبعث إلى علماء القاهرة كمستفت في القضية ليستحلي فيها رأيهم من الوجهة الشرعية . فكلهم أجاب بما هو مسطر في الجزء الأول من فتاوى الشيخ عليش وتحفة الزائر . وخلاصة الجواب هو إلقاء المسؤولية على عاتق سلطان المغرب عبد الرحمان بن هشام . فانظر نص الفتوى هنالك ولم يدر ملك المغرب سامحه الله إن اتخاذه لهذا الموقف المريب يجر وراءه من الحسرة والندامة على أهل المغرب كافة مع ما يصحبه من شقاء وأحزان ووبال وخسران ولقد تنبأ بذلك وزيره محمد بن إدريس العمراوي فنظم قصيدة حماسية طويلة ويحثهم فيها على مساندة الجزائر في كفاحها.
تواطأ المغرب مع فرنسا ضد الجزائريين
وكتب " بيجو " يومئذ إلى قبائل بني يزناسن كتابا مطولا بتاريخ 4 جمادي الأولى 1263 هجري – 20 أفريل 1847 – يحملهم فيه على طرد الأمير من تلك الديار ويهددهم فيه بالفتك والتقتيل إن لم يفعلوا وبعث بمثله إلى جميع الجهات الغربية وجميع أهل أنكاد والأحلاف والمهاية والمطالسة وبني يحي والقليعة بل والى أهالي الوطن الجزائري كله.
وتواطأ معه على ذلك سلطان المغرب ثم كانت هنالك أيضا معاهدة طنجة " 10 ديسمبر 1844 " التي كان من أهم بنودها فيما يتصل بحرب الجزائر: هو أن يحل الجيش المغربي المرابط على الحدود الجزائرية واعتبار الأمير عبد القادر خارجا عن القانون والقبض عليه وتسليمه ومنعه من دخول الأراضي المراكشية ومعاملة فرنسا معاملة الدول اكثر رعاية في الشؤون السياسية والتجارية. وعلى كل فانه مهما بلغ السلطان من الحساسية نحو مبادئ الأخوة الإسلامية العامة فانه كان لا يقل حساسية واهتماما باستقرار عرشه هو.
تجنيد المغرب كتيبة لمحاربة الجزائريين وتسيير الحرب ضد الأمير عبد القادر
وفعلا جند السلطان كتيبة لمحاربة الأمير وضعها على أهبة واستعداد في تازا وفاس وأمر عليها خاله بوزيان وكتب من فوره إلى رعاياه من بني يزناسن وأهل أنكاد كتابا أو ظهيرا يأمرهم فيه بالسمع والطاعة لخاله هذا ومناصرته في حرب الأمير عبد القادر ومعاداته ومما جاء في قوله :
" ... فها نحن أمرنا خالنا الأمجد الشيخ بوزيان بالقيام على ساق الجد في إخراجه – أي عبد القادر – ودائرته من أيالتنا السعيدة طوعا أو كرها وحسم في مادة فتنتهم وضلالهم فكونوا معه يدا واحدة وشدوا عضده على ذلك حتى يقضي الغرض إن شاء الله تعالى وكفوا إخوانكم عن متابعته ونهوضهم عن مقاطعته فان من قاطعه ونبذ متابعته فقد أحاط نفسه ودينه ومن تبعه وشد عضده وكثرة سواده فقد تعرض لسخط الله ورسوله وسخطنا لا ينجح له زرع ولا ضرع وقد اعذر من انذر وان من تبعه باء بالضلال والردى وحاد عن شريعة الهدى كتب في 03 رمضان سنة 1263 من المولى عبد الرحمان بن المولى هشام. "
واخذ السلطان يومئذ من فوره في تخطيط المقاومة وتسيير الحرب ضد الأمير عبد القادر وصدرت هنالك أعمال تعسفية من قبل المغاربة ضد الأمير وجيش المقاومة .
وفي في ذلك يقول شيخ الإسلام التونسي محمد بيرم الخامس في كتابه " صفوة الاعتبار " : بقي الأمير سيدي عبد القادر مدافعا ومهاجما إلى أن استولت الغلطات النفسانية المخالفة للديانة الإسلامية لسلطان المغرب الاتحاد مع الفرنسيين على محاربة الأمير المشار إليه وقطع عنه سلطان المغرب خطة التجائه جهات الصحراء فاضطر الأمير إلى التسليم للفرنسيين ورحم الله الإمام محمد عبده حينما قال : إنما تتم نكاية الأعداء بخيانة الأصدقاء ... "
جواب مفتي الديار المصرية عن الاستفتاء حول الموقف المغربي تجاه القضية الجزائرية
وجاء في جواب مفتي الديار المصرية وشيخ المالكية بها الشيخ محمد عليش عن الاستفتاء الذي وجهه الأمير عبد القادر إلى مشيخة الفتوى بالقاهرة حول الموقف الذي اتخذه سلطان المغرب تجاه القضية الجزائرية ما يلي:
" ... وما كان يخطر ببالنا أن يصدر من مولانا السلطان عبد الرحمان وفقه الله تعالى مثل هذه الأمور مع مثلكم فانا لله وإنا إليه راجعون وما قدر الله سبحانه وتعالى لابد أن يكون خصوصا وانتم جسر بينه وبين عدوه . إلى أن قال: وان شق العصا واتاكم بجيشه وجب عليكم قتاله وجوبا عينيا اذ هو حينئذ كالعدو والبغاة المتغلبين الفاجئين القاصدين الأنفس والحريم لعدوانه وتجاريه على ما اجمع المسلمون على تحريمه . وهو أنفسكم وحريمكم وأموالكم ومنعكم مما هو متعين عليكم بالإجماع من جهاد الكفار الفاجئين لكم والمقتول منكم في قتاله كالمقتول في قتال الكفار ليس بينه وبين الجنة إلا طلوع الروح فصمموا على قتاله واعدوا له ما استطعتم من قوة نصركم الله تعالى عليه وعلى أعداء الدين وبارك فيكم وفي كل ما أعانكم من المسلمين وخذل كل من عاداكم وخذلكم كائنا من كان وجعل كيده في نحره .
ما هي الأسباب الذي جعل المغرب يقف موقفه هذا ضد الجزائريين ؟
زمن يدري – ولا المعلم يدري – ؟ فلعل أن يكون هنالك للسلطان عذر نجهله ؟ فالمرء كما يقول هو اعلم بشأنه أو لعله كان يرى في عبد القادر مزاحما تجب مقومته ودفعه عن تراب المغرب اعتمادا منه على معاهدة أبرمت سلفا بين الأتراك العثمانيين بالجزائر وحكومة المغرب حول ولاية وهران التي كان ينظر إليها السلطان كجزء من ارض المغرب ... ؟ لاسيما وقد أشيع وان بريطانيا كانت ترى في الأمير خلفا صالحا للسلطان عبد الرحمان على عرش المغرب الأقصى في حالة ما إذا أدى الأمر إلى خلعه أو كان السلطان يرى في المبايعة التي عقدها لأهل تلمسان وولى عليهم عمه المولى أبا الحسن علي بن سليمان هي مبايعة شرعية نافذة تشمل عامة الولاية كلها ... ؟ أو كان متحققا من إخفاق تبارز القوة العادية أمام القوة النظامية وإنها لا تثمر سوى الغلبة والانهزام. ؟ أو لضعف إمكانياته يومئذ ... ؟ كما انه يحتمل المقام أيضا أن هناك حلما يداعب السلطان بعودة سياسة المرابطين والموحدين التوسعية في المغرب الأوسط ... ؟ أو كان ذلك منه يعود إلى احترام المعاهدة المبرمة بين حكومة المغرب وفرنسا سنة 1180 هجري – 1767 المومى إليها فيما تقدم ؟ لا ادري ؟
واستبعد كثيرا ما رمى به الأمير من طرف صاحب كتاب " الاستقصاء " حيث اتهمه عندما التجأ إلى حدود المغرب الأقصى بان ذلك كان منه عن خبث طوية وسوء نية وانه رام الاستبداد والتملك على المغرب وانه اخذ في استفساد القبائل الذين هناك وتحقق السلطان بأمره وشرى الشر وتفاقم الأمر الخ.
فاني لا أخال هذا صحيحا . ولاسيما إذا نظرنا منصفين وضعية الأمير المادية ومعنوياته وما أحاط به من ولايات الحرب ومصائبه حينما كان لاجئا بالحدود المغربية فكيف يفكر مع ذلك في الاستبداد والتملك على المغرب ... ؟ وغاية ما نستطيع أن نقوله اليوم حول هذا الموقف الشاذ الذي ظهر به سلطان المغرب هو التوقف وعدم التسرع إلى الحكم له أو عليه عملا بقول الشاعر العربي الحكيم :
نهيتك لا تعجل بعتب لصاحب لعل له عذر وانت تلوم
إلى أن يكشف لنا الزمان هذه الحقيقة وحينئذ يقول التاريخ كلمته والمستقبل كشاف . وهناك بعض تفاصيل وتوضيحات مفيدة وردت حول ذلك في كتاب " أنفس الذخائر " للشيخ الطيب المهاجي ص 24 – 31 ط " وهران " – الجزائر بدون تاريخ.
ما هي الأسباب الذي جعل تونس تقف موقفها هذا ضد الجزائريين ؟
وهكذا نرى أيضا عمل بايات تونس مع الجزائر فإنهم اتخذوا نفس هذا الموقف العدائي أيام الغزو الفرنسي وبلغ بعضهم إلى حد التعاون مع الغزاة الفرنسيين وفعلا نجد الباي يتغاضى عن إمداد التونسيين لجيش الحملة الفرنسية بتبايع المؤن كما استخدمت تونس طريقا لإرسال المنشورات المكتوبة بالعربية في حث الجزائريين على الاستسلام. وفيها الوعد باحترام أملاك العرب والكراغلة وطلب إليهم التعاون مع الجيش الغازي.
وهكذا نرى الباي حسين الثاني وقف موقف الحياد الميال إلى فرنسا أثناء الحملة فرد دعاة الجهاد الذين أتوا من الجزائر ورحب بالترجمان " دوبنيسك " – مبعوث " بولينياك "- الذي وصل الى تونس قبيل الحملة " افريل 1830 " .
ويدل التقرير الذي كتبه " دوبنيسك " لشرح مهمته على أن الباي التونسي قبل أسس المعاهدة التي اقترحتها فرنسا وأكثر من هذا فانه وعد بمساعدة الحملة الفرنسية ضد الجزائر وذلك بإرسال بعض مواد التموين لها ولقد تأكد موقف الباي هذا المتحيز للفرنسيين حين أسرع بإرسال وفد لتهنئة المارشال " دوبورمون " بانتصاره على جيرانه الجزائريين ويبدو انه كان متلهفا على هذه التهنئة فوصل الوفد التونسي قبل أن يتم الانتصار للمارشال في 05 جويلية 1830.
هذا مع ملاحظة أن فرنسا قامت بالحملة باسم أوروبا المسيحية وان أهدافها كانت ترمي إلى تأكيد النفوذ الفرنسي في النيابات الثلاث : الجزائر وتونس وطرابلس بدليل أن القيادة الفرنسية بعد الاستيلاء على الجزائر أرسلت جزءا من الأسطول إلى كل من طرابلس وتونس.
ويمكن التساؤل عن الأسباب التي دعت الباي إلى اتخاذ هذا الموقف المعادي لمصلحة العالم الإسلامي وشمال إفريقيا خاصة ... فهل كان الباي حسن مازال يحقد على دايات الجزائر لانهم فرضوا على تونس دغع جزية سنوية في بعض الاحايين ... ؟ ولكن هذه القضية قد تم حلها بواسطة الباب العالي سنة 1821 . أو كان الباي يتوقع أن يستفيد من وراء احتلال الجزائر ... ؟ أو يكون ذلك عملا اتخذه كوسيلة يتوصل به إلى استكمال شخصيته كحاكم مستقل عن حكومة استنبول ... ؟ فالمشكلة لا تزال غامضة .
واقعة بين الأمير عبد القادر والجيش المغربي
واقعة تافريست
" تافريست " اسم لمكان على الحدود المغربية الجزائرية يبعد بنحو مرحلة عن الدائرة التي كان يقيم بها الأمير وبه كانت المعركة التي شنها السلطان ضد الأمير بقيادة الباشا هشام ابن الأحمر وهو من أشهر قادة الجيش المغربي وطالما حاول الأمير التباعد والتجافي عن الخلاف الذي نشأت عنه هذه المعركة بما كتبه إلى السلطان نفسه والى هذا القائد المغربي طلبا للسلم وحقنا للدماء مع إبداء حسن النية وسلامة الطوية نحو حكومة المغرب خاصة والشعب المغربي عموما وتكررت مكاتباته في ذلك ولكن حكومة المغرب أصرت على القتال . فاحتدمت الحرب بين الطرفين على كره من الأمير وكان ميدان هذه الواقعة بتافريست. وأسفرت الحرب عن انهزام الجيش المغربي وقتل القائد بن الأحمر وحز رأسه فجيء به محمولا مع حرمه وأبنائه إلى حضرة الأمير فأمر بردهم محروسين إلى مدينة فاس وكانت المغانم والذخائر التي أحرز عليها الجيش الجزائري في هذه الوقعة كثيرة وافرة.
ثاْر المغرب بعد واقعة تافريست ضد اللاجئين الجزائريين في المغرب بالحرب والأسر وتحويل بعضهم إلى سوق العبيد
واقعة بني عامر
كان هذا القبيل من بني عامر قد ارتحل من حوز دائرة الأمير إلى المغرب الأقصى بسبب ما أحدثته دسائس البوحميدي ضد مصطفى التهامي أمين الدائرة. والبوحميدي هذا هو الذي كان سببا في نزوح هؤلاء بني عامر إلى المغرب الأقصى بما ألقى في قلوبهم من الرعب وبتحريضهم على إعلان العصيان في وجه الخليفة ابن التهامي وكان سلطان المغرب قد منحهم أرضا للفلاحة والسكن وبقي هؤلاء القوم يعملون لمعاشهم مترقبين سنوح الفرصة للعودة إلى أوطانهم والاتصال بأميرهم ولما اشتهر أمر انتصار الأمير بواقعة تافرسيت عزم بنو عامر على الالتحاق بأرضهم وكاتبوا الأمير في ذلك وهو وقتئذ مشتغل بالاستعداد لنقل دائرته إلى ناحية " الكرط " قرب جبل قليعة ثم سافر في نخبة من فرسانه إلى بلاد مكناسة.
ويومئذ شرع بنو عامر في الرحلة شرقا إلى مواطنهم بالجزائر فاعترضتهم القوات المغربية ومنعتهم من الاتصال بأرضهم والالتحاق ببلادهم . وحاربتهم حتى النهاية فاستالصتهم وسيق بعضهم أسرى إلى سوق العبيد.
إغارة المغاربة على دائرة الأمير عبد القادر بالنهب والسلب
إغارة الأمير على قليعة
وفي غيبة الأمير بمكناسة أغار القلعيون على دائرته النازلة يومئذ بجوارهم فاختطفوا منها ما سولت لهم نفوسهم وعملوا فيها يد النهب والسلب. واتصل الخبر بالأمير فكاتب رؤساء هذا القبائل لرد ما سلب أو نهب من أثاث الدائرة ومتاعها فابو منه ذلك وأصروا واستكبروا استكبارا فغزاهم الأمير وأذاقهم باسه وشديد نكاله واسر طائفة من رؤسائهم وأعيانهم ثم وقع العفو عنهم بعدما تعهدوا برد ما اختطفوه أو سرقوه.
غدر المغرب برسول الأمير عبد القادر وأسره وقتلهم إياه
الغدر بسفير السلم – البوحميدي –
وبعد انتهاء واقعة بني عامر وقليعة غادر الأمير تلك النواحي متوجها إلى أصقاع " زايو " وهو المكان المطل على سهل " تريفة " وهناك اتصل به محمد بن عبد الرحمان رئيس قبيلة الأحلاف فاظهر له النصيحة والوفاء واقترح عليه إرسال وفد أو ممثل من طرفه إلى سلطان المغرب إزالة لما هناك من الوحشية القائمة بينهما وربطا لأواصل الصداقة والتعاون بين أقطاب هذا المغرب العربي الإسلامي الكبير زاعما أن السلطان نفسه راغب في ذلك وهو عازم على تنفيذه ومستعد لتحصيله من حينه.
فسر الأمير لهذه النصيحة واطمأنت نفسه لهذا النبأ العظيم مرتاحا لكلام رئيس الأحلاف وسرعان ما بادر الأمير إلى تكوين سفارة مركبة من خليفته البوحميدي ورئيس الأحلاف هذا فسافر إلى المغرب ولما اتصلا ببلاط فاس فلم يعرهما السلطان التفاتا بل ألقى القبض على البوحميدي فأودعه في السجن مهانا ثم بعد أيام قلائل دس له من سمه فمات في سجنه وذهب ضحية الغدر والخيانة.
واقعة بين الأمير عبد القادر وولي العهد المغربي
واقعة قلعة سلوان
يوجد مكان هذه القلعة قرب بلدة مليلة من ريف المغرب وعلى 15 كيلومتر منها . حيث كان الأمير يومئذ مخيما بدائرته هناك وبهذا المكان اشتعلت نار الحرب بين الجيوش الجزائرية وعسكر السلطان البالغ عدده 50 ألف مقاتل وقد جعل السلطان عسكره إلى ولديه محمد – ولي عهده – وأخيه احمد – أو هو مولاي سليمان – بمعاضدة قائدين قائد الريف وقائد وجدة . وكان نزول القوات بهذا المكان يوم 02 محرم 1264 هجري – 10 ديسمبر 1847 – وبعد يومين من التاريخ نشبت الحرب بين الفريقين فانتصرت الجيوش الجزائرية التي كان لا يزيد عددها عن 1200 فارس و 800 رجل. وتقدمت في سيرها إلى أن بلغت إلى السرداق الذي يقيم فيه ولي العهد المغربي مع أخيه واشتد أمامهما القتال ففر من حولهما أكثر الجند ولم يبق معهما سوى رجال الحامية فقط فتسترا بالظهر والأثقال واستمرت المعركة قائمة من نصف الليل الآخر إلى الفجر. وكثر في ذلك اليوم القتل والأسر ولاسيما في جيش السلطان وانسحب الأمير بعدها إلى مركزه منتصرا.
واقعة بين الأمير عبد القادر والجيش المغربي والخيانة التي تعرض لها الأمير
واقعة عجرود
وبأثر انهزام المغاربة بواقعة سلوان جاءت النجدات من المغرب الأقصى فنزلت بناحية " زايو " وكان الأمير قد اجتاز نهر ملوية إلى ضفته الشرقية. فطلبته جنود السلطان وحلت مكانه من الضفة الغربية . ويومئذ انتقل الأمير بجيشه إلى ناحية "عجرود" وهناك وقعت الاشتباكات بين الطرفين وكثر فيها القتلى والجرحى. وصادف أن كان الوادي مضطربا فغرق فيه أكثر جند السلطان وتحول الأمير بعدها إلى مصب النهر فلحقته هناك الجنود وتجددت المعارك . فأصيب فيها الكثير من رجال حكومة الأمير واعيان رؤساء جيشه منهم القائد الشهير محمد بن يحي وغيره . ووقع الأمير من أعلى فرسه الذي سقط تحته ميتا وجرح في ساقه . ثم جيء له بجواد ثان فوقع به مثل ذلك ثم ثالث ورابع كذلك. واشتد الكرب بالمجاهدين ونفدت الميرة وقل ما بأيديهم من السلاح . فاضطر الأمير وقتئذ إلى التقهقر بمن بقي معه من الجند الى جبل بني خالد من ارض بني يزناسن وكانت الأمطار غزيرة متهاطلة ليل نهار . فنزل هناك على شيخ الجبل المختار " بودشنيش " ببلدة " تافجيرت " وكان هذا الشيخ من أصدقاء الأمير فتحول عنه يومئذ واظهر انحرافه منصرفا بوجهه إلى ناحية جيش الغاصب .
وبينما كانت المعركة قائمة كان الجنرال " لاموريسير " يتجول بتلك النواحي يروح ويغدوا بين الحدود الجزائرية المغربية ومعه من الجند نحو 50 ألف مقاتل يتربص الدوائر بالأمير ليقطع عنه خط الرجعة أي مخافة انزلاقه إلى نواحي الصحراء فخيم الجنرال بأرض " مسيردة " بمكان يعرف باسم " عطية " قرب بلدة " ندرومة " ومن هناك انطلقت الجواسيس وانتشرت العيون تراقب تحركات الأمير وتقلباته في الآفاق.
من أسباب انهيار الدولة القومية الجزائرية هو خيانة الجار المسلم وخيانة المسلمين للجزائريين
لقد ضلت الحرب قائمة بين الدولة الجزائرية وبين الدولة الفرنسية المهاجمة منذ 17 سنة لم يدخر الأمير خلالها وسعا للدفاع عن حوزة الوطن وحقق شعبه الحر الأبي .
فكيف بدولة مثل دولة الأمير عبد القادر ولم يكن لها الإمكانيات ما يكفل لها الاستمرار على المقاومة في حرب طويلة الأمد .
مقابل جيوش كاملة السلاح والعدة تجاوز عددها في بعض الوقائع 150 ألف جندي مع خذلان الناصر والصاحب وتقاعس ملوك المسلمين ورؤسائهم جيرانا كانوا أو غيرهم من المؤازرة مع الدس والمكر الذي كان يحوط بعض الخونة ضد الأمير فيا حسرتاه ويا ويلاه ... وانظر معي إلى ماكتب به الأمير إلى السلطان محمود باستبول مشتكيا ومستنجدا قائلا :
" ... ونحن أسلمنا إخواننا المسلمون وتركونا أسرى في يد العدو فهم لنا ظالمون وتبرأ منا من كان قريبا لنا من الملوك ومنعونا شراء ما نتقوى به على الكافر خوفا منه ومنعونا حتى السلوك. "
" طلبنا منهم الإعانة بالرجال فلم يقبلوا واستعناهم بالأموال فلم يفعلوا وطلبنا منهم السلف فكان عين المحال ومنعوا رعاياهم من اعانتنا بكل وجه وحال فما نفعنا قريب ولا مجاور ولا دافع ذو سيف ولا محاور كان المسلمين ليسوا بجسد واحد والمسلمون بهاذ القطر لا ينظرون من غيرك إفراج ولا لهم ملجأ يلجئون إليه غير حظك العالي والإدراك فأبصارهم لإعانتك وإمدادك طامعة وقلوبهم بمحبتك وذكرك طافحة فان قيل مال عندك المال الوافر وان قيل جيش عندك العسكر البحر. "
ونعم ثبت وان الأمير كان له اتصال بحكومة استنبول وكذلك بالدولة الانكليزية في لندن وذلك لأجل القضية الجزائرية. ولكنه لم ينجح في مسعاه فأما التركية فإنها كانت يومئذ في شغل شاغل بقضاياها المتعددة المشاكل الملتوية الطرق مع دول أوروبا الغربية والشرقية وأما الانكليز فان سياسته معروفة.
ويشهد لنا بهذه الحقيقة الناصعة كتاب الإفرنج أنفسهم ومؤرخوهم مثل " اوغستان برنار " الفرنسي وغيره . فإنهم يقولون أن فشل الأمير في حروبه ضد الفرنسيين لم يكن ناتجا عن تغلب الفرنسيين عليه. او لشدة مناهضتهم له. كلا. وإنما كان السبب في ذلك ناشئا عن تفرق المسلمين عنه وعدم اتحادهم تحت لوائه لحرمانهم من الشعور الوطني القومي وتفرقهم هذا كان له أوفى نصيب في أسباب فشله . وجاء في دائرة المعارف وان الأمير حارب الفرنسيين حروبا انتصر عليهم فيها مرارا وأذاقهم فيها البأس الشديد ومما اوجب عدم نجاحه أن باي قسنطينة الذي انفرد بعد امتلاك الفرنسيين لسواحل الجزائر للجهات الشرقية أبى أن يساعده فوقع تحت اسر الفرنسيين. وحدث ما هو اشد من ذلك وهو أن سلطان المغرب الأقصى وقف إلى جانب الفرنسيين لصد الأمير عبد القادر عن الالتجاء إلى الصحراء فاضطر الأمير للتسليم وكان ذلك سنة 1848 .
استمر الامير ينافح بالغالي والنفيس سبعة عشر عاما اذاق فيها الجيش الفرنسي الذي دوخ اوروبا كلها حتى موسكو مهينا ماريشالاته الاربعة هازئا بهم في سرالته اليهم بأنه رضع لبان الحرب صغيرا بينما هم اهتموا بطرائقها القولية في مدارسهم حتى اذا عاجلتهم الحرب لم تمنح لهم الفرصة للرجوع الى كراريسهم ولما استكمل الأمير ما يتطلبه الموقف من العدة والعدد اخذ يتسرب سريعا إلى إقليم التل حتى وصل إلى " تاهرت " – تيارت – واندفعت جيوشه منطلقة من مركز القيادة بالحدود المغربية متوجهة إلى شتى النواحي من ارض الوطن منقضة على العدو فانتزعت من يده مناطق كثيرة ومنها ارض بني عامر كما نزلت بمدينة سيدي بلعباس وهناك التحقت بها أفواج من الناس متوجهين إلى ناحية وادي ملوية حيث يقيم الأمير وراء جبل يزناسن غربا.
ومن هنالك انطلقت الجنود مندفعة في غاراتها على المراكز الفرنسية القائمة بشتى النواحي والجهات ومكث الأمير يدبر شان هذه العصابة المنصورة في كفاحها قرابة 06 أشهر من أوائل فصل الشتاء إلى نهاية فصل الربيع وأوغل في سيره هذا حتى وطئت قدماه ارض الجزائر المحتلة فاضطرب لشانه رجال أركان الحرب وأدركهم الهلع والفزع حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم حولوا أنظارهم إلى سلطان المغرب يستعينون به فأرسل إليه يأمره بالخروج من الحدود. ولما عاد إليه رسول الأمير وتحقق منه أن الأمير لا نية له إلا في الجهاد وتأديب رعاياه الذين تركوه واتبعوا دولة فرنسا. وافق الأمير على قصده واخبره بما في قلوب أهل المغرب الأقصى من الميل والمحبة وحسن الاعتقاد.
انحراف سلطان المغرب وميوله للفرنسيين ضد الجزائريين
واستمرت فرنسا تعمل على توطيد دعائمها بهذا المغرب الإسلامي الكبير فغدت لتنفيذ خطتها هذه بسلوكها بسياسة التفرقة وتفكيك ما هنالك من الروابط الثابتة بين أبناء وطن المغرب العربي على قاعدة الاستعمار التقليدية: " فرق تسد " ... وسعت بكل جهودها في التآمر وبذر بذور الشقاق والخلاف بين أقطابه فعملت على أحداث الوحشة والقطيعة بين عاهل المغرب الأقصى السلطان عبد الرحمان بن هشام وأمير المغرب الأوسط عبد القادر بن محي الدين وحملت السلطان على رفض قبول التجاء الأمير إلى الحدود المغربية وطرده وإبعاده عنها ارتكازا منها على موجب الاتفاقية المبرمة سابقا بينها وبين دولة المغرب على عهد السلطان محمد بن عبد الله العلوي سنة 1180 هجري – 1766 . وذلك حسب ما جاء في المادة التاسعة من هذه الاتفاقية التي تنص على انه :
" إذا انتقض الصلح بين وجاقات الجزائر ووجاقات تونس وطرابلس وبين الفرنسيين فلا يأمر سيدنا السلطان محمد بن عبد الله ابن إسماعيل – نصره الله – بإعانة الوجاقات المذكورين بشيء أصلا ولا يترك أحدا من رعيته يتسلح ويركب تحت سنجق احد الوجاقات ليقاتل الفرنسيين ولا يترك أحدا من مراسيه ليقاتلهم وان فعل رعيته ذلك عاقبه وضمن ما أفسده."
وجاء في المادة الحادية عشر من نفس هذه المعاهدة أو المصالحة أن للقنصوات الفرنسيين التقدم والتصدر على غيرهم من قنصوات الأجناس الأخرى وفي نفس الوقت أو هم الفرنسيون سلطان المغرب بان الأمير عبد القادر يطمع ببلاده.
وفعلا أحجم سلطان المغرب عن مناصرة الأمير عبد القادر الجزائري واظهر له الجفاء بعد ما كان له ناصرا ومؤازرا وذلك ما يذكرنا ويعود بنا إلى الوراء إلى عهد بوخوص عاهل المغرب الأقصى وموقفه مع صهره البطل الجزائري الزعيم يوغرطة – منذ ألفي سنة – أي حينما اعتصم يوغرطة بصهره ذا مستنصرا به في حروبه مع روما فأسلمه بوخوص إلى الجمهورية الرومانية ...
وإخوان اتخذهم سهاما فكانوها ولكن في فؤادي
والتاريخ يعيد نفسه كما يقولون.
وكان من بين رسائل السلطان التي تحمل تهديده وتوعدتاه إلى الأمير عبد القادر هذه الرسالة التي يقول فيها :
" لا سبيل إلى خلاصك إلا بأحد أمرين إما أن تسلم نفسك إلينا أو إما أن تخرج من هذه الحدود فان ابيت أن تجري احدهما طوعا فنحن نجريه كرها ."
تحريض المغرب أهالي وقبائل البلاد ضد الجزائريين
بل لم يكتف السلطان بهذا كله حتى أوعز إلى أهالي البلاد والقبائل والمداشر المجاورة بمعاداة الأمير والتألب عليه وقد طالت المخابرات والمكاتبات بين العاهلين وتدخلت بريطانيا العظمى في القضية ولم يكن إلا ما أراده الله. فتحمل البطل الجزائري كل ذلك من أخيه المغربي برباطة جأش وصبر وثبات. وتحقق لديه يومئذ بأنه انزل أماله بواد غير ذي زرع مغترا بالسراب فعاد أدراجه وهو يتعثر باذيال الخيبة ولسان حاله ينشد متمثلا بقول طرفه:
وظلم ذوي القربى اشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
وكتب إلى سلطان المغرب يقول:
" أما بعد فاني كاتبكم أولا ولتمست منكم كف ضرر قبائلكم المجاورة لنا وتعديا على من تبعني وسوء معاملتهم لهم لأنهم كلهم أولاد دين واحد وشريعة واحدة فلم يأتني جواب عن ذلك ولم يحصل لهم ردع من طرفكم ومع هذا كله أنا صابر ومتحمل لما يجرونه كراهية سفك دماء المسلمين مدة 06 أشهر طمعا في رجوعهم عن البغي والطغيان إلى العدل والإحسان مع قدرتي عليهم في كل آن فان لم تردعهم الآن عن أفعالهم وترجعهم عن قبيح تصرفاتهم التزم المحاماة عن حقوقي والمحافظة على شرف أتباعي ولذا بادرت بإخباركم السلام "
مراسلة الأمير عبد القادر علماء القاهرة للحصول على فتوى من جراء وقوف المغرب مع الفرنسيين ضد الجزائريين
كما انه يبعث إلى علماء القاهرة كمستفت في القضية ليستحلي فيها رأيهم من الوجهة الشرعية . فكلهم أجاب بما هو مسطر في الجزء الأول من فتاوى الشيخ عليش وتحفة الزائر . وخلاصة الجواب هو إلقاء المسؤولية على عاتق سلطان المغرب عبد الرحمان بن هشام . فانظر نص الفتوى هنالك ولم يدر ملك المغرب سامحه الله إن اتخاذه لهذا الموقف المريب يجر وراءه من الحسرة والندامة على أهل المغرب كافة مع ما يصحبه من شقاء وأحزان ووبال وخسران ولقد تنبأ بذلك وزيره محمد بن إدريس العمراوي فنظم قصيدة حماسية طويلة ويحثهم فيها على مساندة الجزائر في كفاحها.
تواطأ المغرب مع فرنسا ضد الجزائريين
وكتب " بيجو " يومئذ إلى قبائل بني يزناسن كتابا مطولا بتاريخ 4 جمادي الأولى 1263 هجري – 20 أفريل 1847 – يحملهم فيه على طرد الأمير من تلك الديار ويهددهم فيه بالفتك والتقتيل إن لم يفعلوا وبعث بمثله إلى جميع الجهات الغربية وجميع أهل أنكاد والأحلاف والمهاية والمطالسة وبني يحي والقليعة بل والى أهالي الوطن الجزائري كله.
وتواطأ معه على ذلك سلطان المغرب ثم كانت هنالك أيضا معاهدة طنجة " 10 ديسمبر 1844 " التي كان من أهم بنودها فيما يتصل بحرب الجزائر: هو أن يحل الجيش المغربي المرابط على الحدود الجزائرية واعتبار الأمير عبد القادر خارجا عن القانون والقبض عليه وتسليمه ومنعه من دخول الأراضي المراكشية ومعاملة فرنسا معاملة الدول اكثر رعاية في الشؤون السياسية والتجارية. وعلى كل فانه مهما بلغ السلطان من الحساسية نحو مبادئ الأخوة الإسلامية العامة فانه كان لا يقل حساسية واهتماما باستقرار عرشه هو.
تجنيد المغرب كتيبة لمحاربة الجزائريين وتسيير الحرب ضد الأمير عبد القادر
وفعلا جند السلطان كتيبة لمحاربة الأمير وضعها على أهبة واستعداد في تازا وفاس وأمر عليها خاله بوزيان وكتب من فوره إلى رعاياه من بني يزناسن وأهل أنكاد كتابا أو ظهيرا يأمرهم فيه بالسمع والطاعة لخاله هذا ومناصرته في حرب الأمير عبد القادر ومعاداته ومما جاء في قوله :
" ... فها نحن أمرنا خالنا الأمجد الشيخ بوزيان بالقيام على ساق الجد في إخراجه – أي عبد القادر – ودائرته من أيالتنا السعيدة طوعا أو كرها وحسم في مادة فتنتهم وضلالهم فكونوا معه يدا واحدة وشدوا عضده على ذلك حتى يقضي الغرض إن شاء الله تعالى وكفوا إخوانكم عن متابعته ونهوضهم عن مقاطعته فان من قاطعه ونبذ متابعته فقد أحاط نفسه ودينه ومن تبعه وشد عضده وكثرة سواده فقد تعرض لسخط الله ورسوله وسخطنا لا ينجح له زرع ولا ضرع وقد اعذر من انذر وان من تبعه باء بالضلال والردى وحاد عن شريعة الهدى كتب في 03 رمضان سنة 1263 من المولى عبد الرحمان بن المولى هشام. "
واخذ السلطان يومئذ من فوره في تخطيط المقاومة وتسيير الحرب ضد الأمير عبد القادر وصدرت هنالك أعمال تعسفية من قبل المغاربة ضد الأمير وجيش المقاومة .
وفي في ذلك يقول شيخ الإسلام التونسي محمد بيرم الخامس في كتابه " صفوة الاعتبار " : بقي الأمير سيدي عبد القادر مدافعا ومهاجما إلى أن استولت الغلطات النفسانية المخالفة للديانة الإسلامية لسلطان المغرب الاتحاد مع الفرنسيين على محاربة الأمير المشار إليه وقطع عنه سلطان المغرب خطة التجائه جهات الصحراء فاضطر الأمير إلى التسليم للفرنسيين ورحم الله الإمام محمد عبده حينما قال : إنما تتم نكاية الأعداء بخيانة الأصدقاء ... "
جواب مفتي الديار المصرية عن الاستفتاء حول الموقف المغربي تجاه القضية الجزائرية
وجاء في جواب مفتي الديار المصرية وشيخ المالكية بها الشيخ محمد عليش عن الاستفتاء الذي وجهه الأمير عبد القادر إلى مشيخة الفتوى بالقاهرة حول الموقف الذي اتخذه سلطان المغرب تجاه القضية الجزائرية ما يلي:
" ... وما كان يخطر ببالنا أن يصدر من مولانا السلطان عبد الرحمان وفقه الله تعالى مثل هذه الأمور مع مثلكم فانا لله وإنا إليه راجعون وما قدر الله سبحانه وتعالى لابد أن يكون خصوصا وانتم جسر بينه وبين عدوه . إلى أن قال: وان شق العصا واتاكم بجيشه وجب عليكم قتاله وجوبا عينيا اذ هو حينئذ كالعدو والبغاة المتغلبين الفاجئين القاصدين الأنفس والحريم لعدوانه وتجاريه على ما اجمع المسلمون على تحريمه . وهو أنفسكم وحريمكم وأموالكم ومنعكم مما هو متعين عليكم بالإجماع من جهاد الكفار الفاجئين لكم والمقتول منكم في قتاله كالمقتول في قتال الكفار ليس بينه وبين الجنة إلا طلوع الروح فصمموا على قتاله واعدوا له ما استطعتم من قوة نصركم الله تعالى عليه وعلى أعداء الدين وبارك فيكم وفي كل ما أعانكم من المسلمين وخذل كل من عاداكم وخذلكم كائنا من كان وجعل كيده في نحره .
ما هي الأسباب الذي جعل المغرب يقف موقفه هذا ضد الجزائريين ؟
زمن يدري – ولا المعلم يدري – ؟ فلعل أن يكون هنالك للسلطان عذر نجهله ؟ فالمرء كما يقول هو اعلم بشأنه أو لعله كان يرى في عبد القادر مزاحما تجب مقومته ودفعه عن تراب المغرب اعتمادا منه على معاهدة أبرمت سلفا بين الأتراك العثمانيين بالجزائر وحكومة المغرب حول ولاية وهران التي كان ينظر إليها السلطان كجزء من ارض المغرب ... ؟ لاسيما وقد أشيع وان بريطانيا كانت ترى في الأمير خلفا صالحا للسلطان عبد الرحمان على عرش المغرب الأقصى في حالة ما إذا أدى الأمر إلى خلعه أو كان السلطان يرى في المبايعة التي عقدها لأهل تلمسان وولى عليهم عمه المولى أبا الحسن علي بن سليمان هي مبايعة شرعية نافذة تشمل عامة الولاية كلها ... ؟ أو كان متحققا من إخفاق تبارز القوة العادية أمام القوة النظامية وإنها لا تثمر سوى الغلبة والانهزام. ؟ أو لضعف إمكانياته يومئذ ... ؟ كما انه يحتمل المقام أيضا أن هناك حلما يداعب السلطان بعودة سياسة المرابطين والموحدين التوسعية في المغرب الأوسط ... ؟ أو كان ذلك منه يعود إلى احترام المعاهدة المبرمة بين حكومة المغرب وفرنسا سنة 1180 هجري – 1767 المومى إليها فيما تقدم ؟ لا ادري ؟
واستبعد كثيرا ما رمى به الأمير من طرف صاحب كتاب " الاستقصاء " حيث اتهمه عندما التجأ إلى حدود المغرب الأقصى بان ذلك كان منه عن خبث طوية وسوء نية وانه رام الاستبداد والتملك على المغرب وانه اخذ في استفساد القبائل الذين هناك وتحقق السلطان بأمره وشرى الشر وتفاقم الأمر الخ.
فاني لا أخال هذا صحيحا . ولاسيما إذا نظرنا منصفين وضعية الأمير المادية ومعنوياته وما أحاط به من ولايات الحرب ومصائبه حينما كان لاجئا بالحدود المغربية فكيف يفكر مع ذلك في الاستبداد والتملك على المغرب ... ؟ وغاية ما نستطيع أن نقوله اليوم حول هذا الموقف الشاذ الذي ظهر به سلطان المغرب هو التوقف وعدم التسرع إلى الحكم له أو عليه عملا بقول الشاعر العربي الحكيم :
نهيتك لا تعجل بعتب لصاحب لعل له عذر وانت تلوم
إلى أن يكشف لنا الزمان هذه الحقيقة وحينئذ يقول التاريخ كلمته والمستقبل كشاف . وهناك بعض تفاصيل وتوضيحات مفيدة وردت حول ذلك في كتاب " أنفس الذخائر " للشيخ الطيب المهاجي ص 24 – 31 ط " وهران " – الجزائر بدون تاريخ.
ما هي الأسباب الذي جعل تونس تقف موقفها هذا ضد الجزائريين ؟
وهكذا نرى أيضا عمل بايات تونس مع الجزائر فإنهم اتخذوا نفس هذا الموقف العدائي أيام الغزو الفرنسي وبلغ بعضهم إلى حد التعاون مع الغزاة الفرنسيين وفعلا نجد الباي يتغاضى عن إمداد التونسيين لجيش الحملة الفرنسية بتبايع المؤن كما استخدمت تونس طريقا لإرسال المنشورات المكتوبة بالعربية في حث الجزائريين على الاستسلام. وفيها الوعد باحترام أملاك العرب والكراغلة وطلب إليهم التعاون مع الجيش الغازي.
وهكذا نرى الباي حسين الثاني وقف موقف الحياد الميال إلى فرنسا أثناء الحملة فرد دعاة الجهاد الذين أتوا من الجزائر ورحب بالترجمان " دوبنيسك " – مبعوث " بولينياك "- الذي وصل الى تونس قبيل الحملة " افريل 1830 " .
ويدل التقرير الذي كتبه " دوبنيسك " لشرح مهمته على أن الباي التونسي قبل أسس المعاهدة التي اقترحتها فرنسا وأكثر من هذا فانه وعد بمساعدة الحملة الفرنسية ضد الجزائر وذلك بإرسال بعض مواد التموين لها ولقد تأكد موقف الباي هذا المتحيز للفرنسيين حين أسرع بإرسال وفد لتهنئة المارشال " دوبورمون " بانتصاره على جيرانه الجزائريين ويبدو انه كان متلهفا على هذه التهنئة فوصل الوفد التونسي قبل أن يتم الانتصار للمارشال في 05 جويلية 1830.
هذا مع ملاحظة أن فرنسا قامت بالحملة باسم أوروبا المسيحية وان أهدافها كانت ترمي إلى تأكيد النفوذ الفرنسي في النيابات الثلاث : الجزائر وتونس وطرابلس بدليل أن القيادة الفرنسية بعد الاستيلاء على الجزائر أرسلت جزءا من الأسطول إلى كل من طرابلس وتونس.
ويمكن التساؤل عن الأسباب التي دعت الباي إلى اتخاذ هذا الموقف المعادي لمصلحة العالم الإسلامي وشمال إفريقيا خاصة ... فهل كان الباي حسن مازال يحقد على دايات الجزائر لانهم فرضوا على تونس دغع جزية سنوية في بعض الاحايين ... ؟ ولكن هذه القضية قد تم حلها بواسطة الباب العالي سنة 1821 . أو كان الباي يتوقع أن يستفيد من وراء احتلال الجزائر ... ؟ أو يكون ذلك عملا اتخذه كوسيلة يتوصل به إلى استكمال شخصيته كحاكم مستقل عن حكومة استنبول ... ؟ فالمشكلة لا تزال غامضة .
واقعة بين الأمير عبد القادر والجيش المغربي
واقعة تافريست
" تافريست " اسم لمكان على الحدود المغربية الجزائرية يبعد بنحو مرحلة عن الدائرة التي كان يقيم بها الأمير وبه كانت المعركة التي شنها السلطان ضد الأمير بقيادة الباشا هشام ابن الأحمر وهو من أشهر قادة الجيش المغربي وطالما حاول الأمير التباعد والتجافي عن الخلاف الذي نشأت عنه هذه المعركة بما كتبه إلى السلطان نفسه والى هذا القائد المغربي طلبا للسلم وحقنا للدماء مع إبداء حسن النية وسلامة الطوية نحو حكومة المغرب خاصة والشعب المغربي عموما وتكررت مكاتباته في ذلك ولكن حكومة المغرب أصرت على القتال . فاحتدمت الحرب بين الطرفين على كره من الأمير وكان ميدان هذه الواقعة بتافريست. وأسفرت الحرب عن انهزام الجيش المغربي وقتل القائد بن الأحمر وحز رأسه فجيء به محمولا مع حرمه وأبنائه إلى حضرة الأمير فأمر بردهم محروسين إلى مدينة فاس وكانت المغانم والذخائر التي أحرز عليها الجيش الجزائري في هذه الوقعة كثيرة وافرة.
ثاْر المغرب بعد واقعة تافريست ضد اللاجئين الجزائريين في المغرب بالحرب والأسر وتحويل بعضهم إلى سوق العبيد
واقعة بني عامر
كان هذا القبيل من بني عامر قد ارتحل من حوز دائرة الأمير إلى المغرب الأقصى بسبب ما أحدثته دسائس البوحميدي ضد مصطفى التهامي أمين الدائرة. والبوحميدي هذا هو الذي كان سببا في نزوح هؤلاء بني عامر إلى المغرب الأقصى بما ألقى في قلوبهم من الرعب وبتحريضهم على إعلان العصيان في وجه الخليفة ابن التهامي وكان سلطان المغرب قد منحهم أرضا للفلاحة والسكن وبقي هؤلاء القوم يعملون لمعاشهم مترقبين سنوح الفرصة للعودة إلى أوطانهم والاتصال بأميرهم ولما اشتهر أمر انتصار الأمير بواقعة تافرسيت عزم بنو عامر على الالتحاق بأرضهم وكاتبوا الأمير في ذلك وهو وقتئذ مشتغل بالاستعداد لنقل دائرته إلى ناحية " الكرط " قرب جبل قليعة ثم سافر في نخبة من فرسانه إلى بلاد مكناسة.
ويومئذ شرع بنو عامر في الرحلة شرقا إلى مواطنهم بالجزائر فاعترضتهم القوات المغربية ومنعتهم من الاتصال بأرضهم والالتحاق ببلادهم . وحاربتهم حتى النهاية فاستالصتهم وسيق بعضهم أسرى إلى سوق العبيد.
إغارة المغاربة على دائرة الأمير عبد القادر بالنهب والسلب
إغارة الأمير على قليعة
وفي غيبة الأمير بمكناسة أغار القلعيون على دائرته النازلة يومئذ بجوارهم فاختطفوا منها ما سولت لهم نفوسهم وعملوا فيها يد النهب والسلب. واتصل الخبر بالأمير فكاتب رؤساء هذا القبائل لرد ما سلب أو نهب من أثاث الدائرة ومتاعها فابو منه ذلك وأصروا واستكبروا استكبارا فغزاهم الأمير وأذاقهم باسه وشديد نكاله واسر طائفة من رؤسائهم وأعيانهم ثم وقع العفو عنهم بعدما تعهدوا برد ما اختطفوه أو سرقوه.
غدر المغرب برسول الأمير عبد القادر وأسره وقتلهم إياه
الغدر بسفير السلم – البوحميدي –
وبعد انتهاء واقعة بني عامر وقليعة غادر الأمير تلك النواحي متوجها إلى أصقاع " زايو " وهو المكان المطل على سهل " تريفة " وهناك اتصل به محمد بن عبد الرحمان رئيس قبيلة الأحلاف فاظهر له النصيحة والوفاء واقترح عليه إرسال وفد أو ممثل من طرفه إلى سلطان المغرب إزالة لما هناك من الوحشية القائمة بينهما وربطا لأواصل الصداقة والتعاون بين أقطاب هذا المغرب العربي الإسلامي الكبير زاعما أن السلطان نفسه راغب في ذلك وهو عازم على تنفيذه ومستعد لتحصيله من حينه.
فسر الأمير لهذه النصيحة واطمأنت نفسه لهذا النبأ العظيم مرتاحا لكلام رئيس الأحلاف وسرعان ما بادر الأمير إلى تكوين سفارة مركبة من خليفته البوحميدي ورئيس الأحلاف هذا فسافر إلى المغرب ولما اتصلا ببلاط فاس فلم يعرهما السلطان التفاتا بل ألقى القبض على البوحميدي فأودعه في السجن مهانا ثم بعد أيام قلائل دس له من سمه فمات في سجنه وذهب ضحية الغدر والخيانة.
واقعة بين الأمير عبد القادر وولي العهد المغربي
واقعة قلعة سلوان
يوجد مكان هذه القلعة قرب بلدة مليلة من ريف المغرب وعلى 15 كيلومتر منها . حيث كان الأمير يومئذ مخيما بدائرته هناك وبهذا المكان اشتعلت نار الحرب بين الجيوش الجزائرية وعسكر السلطان البالغ عدده 50 ألف مقاتل وقد جعل السلطان عسكره إلى ولديه محمد – ولي عهده – وأخيه احمد – أو هو مولاي سليمان – بمعاضدة قائدين قائد الريف وقائد وجدة . وكان نزول القوات بهذا المكان يوم 02 محرم 1264 هجري – 10 ديسمبر 1847 – وبعد يومين من التاريخ نشبت الحرب بين الفريقين فانتصرت الجيوش الجزائرية التي كان لا يزيد عددها عن 1200 فارس و 800 رجل. وتقدمت في سيرها إلى أن بلغت إلى السرداق الذي يقيم فيه ولي العهد المغربي مع أخيه واشتد أمامهما القتال ففر من حولهما أكثر الجند ولم يبق معهما سوى رجال الحامية فقط فتسترا بالظهر والأثقال واستمرت المعركة قائمة من نصف الليل الآخر إلى الفجر. وكثر في ذلك اليوم القتل والأسر ولاسيما في جيش السلطان وانسحب الأمير بعدها إلى مركزه منتصرا.
واقعة بين الأمير عبد القادر والجيش المغربي والخيانة التي تعرض لها الأمير
واقعة عجرود
وبأثر انهزام المغاربة بواقعة سلوان جاءت النجدات من المغرب الأقصى فنزلت بناحية " زايو " وكان الأمير قد اجتاز نهر ملوية إلى ضفته الشرقية. فطلبته جنود السلطان وحلت مكانه من الضفة الغربية . ويومئذ انتقل الأمير بجيشه إلى ناحية "عجرود" وهناك وقعت الاشتباكات بين الطرفين وكثر فيها القتلى والجرحى. وصادف أن كان الوادي مضطربا فغرق فيه أكثر جند السلطان وتحول الأمير بعدها إلى مصب النهر فلحقته هناك الجنود وتجددت المعارك . فأصيب فيها الكثير من رجال حكومة الأمير واعيان رؤساء جيشه منهم القائد الشهير محمد بن يحي وغيره . ووقع الأمير من أعلى فرسه الذي سقط تحته ميتا وجرح في ساقه . ثم جيء له بجواد ثان فوقع به مثل ذلك ثم ثالث ورابع كذلك. واشتد الكرب بالمجاهدين ونفدت الميرة وقل ما بأيديهم من السلاح . فاضطر الأمير وقتئذ إلى التقهقر بمن بقي معه من الجند الى جبل بني خالد من ارض بني يزناسن وكانت الأمطار غزيرة متهاطلة ليل نهار . فنزل هناك على شيخ الجبل المختار " بودشنيش " ببلدة " تافجيرت " وكان هذا الشيخ من أصدقاء الأمير فتحول عنه يومئذ واظهر انحرافه منصرفا بوجهه إلى ناحية جيش الغاصب .
وبينما كانت المعركة قائمة كان الجنرال " لاموريسير " يتجول بتلك النواحي يروح ويغدوا بين الحدود الجزائرية المغربية ومعه من الجند نحو 50 ألف مقاتل يتربص الدوائر بالأمير ليقطع عنه خط الرجعة أي مخافة انزلاقه إلى نواحي الصحراء فخيم الجنرال بأرض " مسيردة " بمكان يعرف باسم " عطية " قرب بلدة " ندرومة " ومن هناك انطلقت الجواسيس وانتشرت العيون تراقب تحركات الأمير وتقلباته في الآفاق.
من أسباب انهيار الدولة القومية الجزائرية هو خيانة الجار المسلم وخيانة المسلمين للجزائريين
لقد ضلت الحرب قائمة بين الدولة الجزائرية وبين الدولة الفرنسية المهاجمة منذ 17 سنة لم يدخر الأمير خلالها وسعا للدفاع عن حوزة الوطن وحقق شعبه الحر الأبي .
فكيف بدولة مثل دولة الأمير عبد القادر ولم يكن لها الإمكانيات ما يكفل لها الاستمرار على المقاومة في حرب طويلة الأمد .
مقابل جيوش كاملة السلاح والعدة تجاوز عددها في بعض الوقائع 150 ألف جندي مع خذلان الناصر والصاحب وتقاعس ملوك المسلمين ورؤسائهم جيرانا كانوا أو غيرهم من المؤازرة مع الدس والمكر الذي كان يحوط بعض الخونة ضد الأمير فيا حسرتاه ويا ويلاه ... وانظر معي إلى ماكتب به الأمير إلى السلطان محمود باستبول مشتكيا ومستنجدا قائلا :
" ... ونحن أسلمنا إخواننا المسلمون وتركونا أسرى في يد العدو فهم لنا ظالمون وتبرأ منا من كان قريبا لنا من الملوك ومنعونا شراء ما نتقوى به على الكافر خوفا منه ومنعونا حتى السلوك. "
" طلبنا منهم الإعانة بالرجال فلم يقبلوا واستعناهم بالأموال فلم يفعلوا وطلبنا منهم السلف فكان عين المحال ومنعوا رعاياهم من اعانتنا بكل وجه وحال فما نفعنا قريب ولا مجاور ولا دافع ذو سيف ولا محاور كان المسلمين ليسوا بجسد واحد والمسلمون بهاذ القطر لا ينظرون من غيرك إفراج ولا لهم ملجأ يلجئون إليه غير حظك العالي والإدراك فأبصارهم لإعانتك وإمدادك طامعة وقلوبهم بمحبتك وذكرك طافحة فان قيل مال عندك المال الوافر وان قيل جيش عندك العسكر البحر. "
ونعم ثبت وان الأمير كان له اتصال بحكومة استنبول وكذلك بالدولة الانكليزية في لندن وذلك لأجل القضية الجزائرية. ولكنه لم ينجح في مسعاه فأما التركية فإنها كانت يومئذ في شغل شاغل بقضاياها المتعددة المشاكل الملتوية الطرق مع دول أوروبا الغربية والشرقية وأما الانكليز فان سياسته معروفة.
ويشهد لنا بهذه الحقيقة الناصعة كتاب الإفرنج أنفسهم ومؤرخوهم مثل " اوغستان برنار " الفرنسي وغيره . فإنهم يقولون أن فشل الأمير في حروبه ضد الفرنسيين لم يكن ناتجا عن تغلب الفرنسيين عليه. او لشدة مناهضتهم له. كلا. وإنما كان السبب في ذلك ناشئا عن تفرق المسلمين عنه وعدم اتحادهم تحت لوائه لحرمانهم من الشعور الوطني القومي وتفرقهم هذا كان له أوفى نصيب في أسباب فشله . وجاء في دائرة المعارف وان الأمير حارب الفرنسيين حروبا انتصر عليهم فيها مرارا وأذاقهم فيها البأس الشديد ومما اوجب عدم نجاحه أن باي قسنطينة الذي انفرد بعد امتلاك الفرنسيين لسواحل الجزائر للجهات الشرقية أبى أن يساعده فوقع تحت اسر الفرنسيين. وحدث ما هو اشد من ذلك وهو أن سلطان المغرب الأقصى وقف إلى جانب الفرنسيين لصد الأمير عبد القادر عن الالتجاء إلى الصحراء فاضطر الأمير للتسليم وكان ذلك سنة 1848 .