''الخبــــــر'' تتجــــــــول في بلاد مكـــــة والمديــــــنة وتكتــــــشف
آرامكـــو.. الجبــيل ومدائـن النـبي صـــالح
الأربعاء 13 فيفري 2013 المملكة السعودية: مبعوث ''الخبر'' العربي زواق
عندما يذكر اسم العربية السعودية، فإن الذي يرتسم في ذهن ذاكر الاسم وسامعه، هو النفط، مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكأن هذا البلد الواسع الشاسع لا يضم إلا هذه العناصر الثلاثة. وإذا كان هذا الأمر معقولا ومنطقيا وطبيعيا نظرا لأهمية المورد الطبيعي وقدسية المدينتين. و السعودية عبارة عن قارة تضم تاريخا عريقا وجغرافيا متنوعة، تزخر بمدائن ومواقع وهيئات في غاية الأهمية للسعوديين وللعرب والعالم، وفق حسابات ومصالح السعوديين والغرب والمسلمين والعالم.
شبّه الزميل كمال جوزي، بعد جولة ليلية له في العاصمة السعودية، مدينة الرياض بباريس، لأناقتها وإضاءتها ونقاوة شوارعها.. وعندما تجولت بالعديد من أحيائها بعد ذلك، وجدتها لا تختلف عن أي حاضرة من حواضر العالم المتطور باريس أو غيرها.. وعندما زرنا، بعد أيام قليلة، مدينة الدمام بأقصى شرق المملكة، بدت لي وكأنها أبهى وأوسع وأكثر انشراحا وأريحية وحداثة من الرياض. أما مدينة الجبيل وإن كانت أصغر من المدينتين المذكورتين، فهي تفوقهما حداثة ونهضة وتطورا، والأمر ينسحب على الخُبر والمدينة المنورة التي وإن كان طابعها الديني وراء توسعها الأفقي اللامحدود، فإنه لم يكن عائقا دون نهضتها العمرانية الحديثة. وتبقى مدينة المدائن جدة التي كانت آخر محطة للوفد الإعلامي الجزائري الذي زار المملكة العربية السعودية، تلبية لدعوة من الوزارة السعودية للإعلام والثقافة، جوهرة عمرانية متميزة بكل المقاييس.. حدث كل هذا ويحدث، بالرغم من أن هذه المدن كانت في فترة ستينيات القرن الماضي فقط، مجرد مدن طينية وتجمعات سكانية لا تربطها رابطة بعمران العصر الحديث. فمن الواقف وراء سر هذه النهضة المحيّرة؟
جولتنا وتجوالنا بعدد من محافظات المملكة ومدنها ومؤسسات الدولة السعودية المختلفة، كشفت لنا أن سر هذه النهضة يكمن ويقف وراءه الإنسان السعودي، وليس المال فقط كما يذهب إليه البعض. فقد استثمر السعوديون، منذ مدة، في العنصر البشري، حيث فتحت أبواب التكوين في الخارج أمام الشباب السعودي وبالخصوص في أمريكا، وهؤلاء تجدهم، اليوم، في أغلب المناصب الحساسة، على غرار شركة آرامكو النفطية التي تعد القلب النابض للمملكة.
آرامكو.. مفخرة السعوديين
في مدينة الدمام وقفنا بشركة ''آرامكو'' البترولية، على أن هذه الشركة البترولية العملاقة يديرها شبان سعوديون بتقنية جد عالية، ويتحكمون في كل شرايينها، بداية من أبعد بئر نفطي منتج إلى غاية عمليات الحفر الجارية لتطوير بئر هناك وحفر بئر جديد.. تقنيو النفط السعوديون الذين التقينا بهم بمقر المديرية العامة لـ''آرامكو''، لا ينفون أن المديرين العامين الأوائل للشركة ومساعديهم كانوا أجانب.. بريطانيون وأمريكان، لكن ومع الأيام وفي هدوء تام، حلّ محلهم أبناء البلد وتحكموا في ما بعد في كل مفاصل الشركة. وإذا كان هذا حال أعقد وأكبر شركة، فإن سيطرة الإنسان السعودي بثقافته العربية الإسلامية وبتراثه المحلي السعودي التقليدي على بقية الهيئات والمؤسسات الأخرى، كان أيسر وأيسر بكثير.
ورغم أهمية هذه الحداثة، فإننا لن نبدأ رحلتنا عبر أبواب السعودية العصرية، وإنما من التاريخ بالضبط من موقع يعود تاريخه إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام بقرون، من الجبال الصخرية التي نقشها قوم ثمود ثم الأنباط.. من مدينة الحجر بكسر الحاء، حسب ما ورد في القرآن الكريم أو مدائن صالح كما تسمى اليوم.. من هناك إلى الرياض وبقية حواضر المملكة العربية السعودية ومعالم تمدنها.
في الطريق إلى مدائن النبي صالح
الزائر لمنطقة مدائن النبي صالح بمحافظة العلا التابعة لإمارة المدينة المنورة، يتجاوز ذهنية، أو لنقل، يتحرر من فكرة أن المملكة العربية السعودية هي بلاد مكة والمدينة فقط، لأنه يجد نفسه أمام عالم سحري ترتبط فيه ترسبات الثقافة الدينية المتعلقة بنبي الله صالح وعقاب المولى عز وجل لقومه ثمود، بعد ردتهم ونحرهم للناقة، ويصاب بالدهشة من الآثار المادية المحفورة في الصخور على شكل غرف مع واجهات في غاية الإتقان، يقال إنها كانت تستخدم لدفن الموتى.. وقبل الوصول إلى هذه المواقع الأثرية المدهشة التي يقال إن تاريخها يعود إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام بثلاثة قرون، تشد الزائر خاصة عند اقترابه وبعد تجاوزه لمدينة العلا، تلك المنحوتات الطبيعية الخلابة في الجبال الصخرية التي تبدو كأنها ليست بفعل الرياح والأمطار وتقلبات الطبيعة والزمن، وإنما بفعل يد فنان بارع اجتهد في صقلها ونجح في تحويلها من أحجار صماء إلى أشكال هندسية طبيعية في غاية الروعة والجمال، كما لا تقل الحقول الخضراء وغابات النخيل المنتشرة بكثرة عند مختلف جنبات ومنعرجات الطريق، روعة عن منحوتات الطبيعة.. بعد كل هذا، يجد الزائر نفسه أمام محطة قديمة لقطار الحجاز الذي تم مدّه إبان حقبة الخلافة العثمانية لنقل الحجاج من الشام إلى الديار المقدسة، وهي معلم تاريخي آخر يقف المرء أمامه مندهشا ومتأملا في إنجازات الإنسان وفعل الطبيعة وعاديات الزمن.. من محطة القطار هاته القريبة جدا من الموقع الذي يفترض أن يصنف دون تأخير ضمن عجائب الدنيا الأخرى، لأنه وببساطة أغرب العجائب السبع المعروفة، وجدنا أنفسنا أمام البئر المحفور في الصخر والتي يقال إن نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم وقف عندها وهو في طريقه لغزوة تبوك، وحذر أصحابه ومرافقيه من الأكل والصلاة أو المبيت وسط هذه الآثار التي بقيت عبرة لمن يعتبر، ومازال تحذيره ساريا حتى اليوم، إذ أن زوار الموقع من المسلمين يتجنبون الأكل أو الصلاة أو المبيت في المكان الذي يفترض أن يبقى للبكاء والتباكي، كما قال أحد مرافقينا من الذين يعرفون المنطقة ولهم إلمام بالدين والتاريخ. ومن موقع البئر، انتقلنا إلى ما يعرف بـ''الديوان'' وهو حجرة كبيرة أو لنقل قاعة استقبال أو قاعة اجتماع، يقال إن علّية القوم من ثمود وهم قوم النبي صالح، كانوا يجتمعون بها لمناقشة أمورهم.. القاعة واسعة بها حافة حجرية يفترض أن المجتمعين كانوا يتخذونها كراسي للجلوس، وإذا صحّت هذه الفرضية، فالمؤكد أنهم كانوا طويلي القامة أو لنقل عمالقة، لأن إنسان اليوم يجد صعوبة كبيرة في الصعود إليها للجلوس، وإذا ما جلس فتبقى رجلاه متدليتين في الهواء.. ومن هذه القاعة، عبرنا فتحة بين الصخور العالية العاتية باتجاه آخر، ووجدنا أنفسنا وسط ساحة تحيط بها الجبال الصخرية من كل مكان، وكانت لنا وقفة أمام بئر محفور هو الآخر في الصخور، مربوط بقناة محفورة هي الأخرى في الصخر ومؤدية أو قادمة من أعلى الجبل وربما من جهة أبعد، وقيل لنا بأن البئر لم يحفر لاستخراج الماء من باطن الأرض، وإنما حفرت لتخزين مياه الأمطار التي تتدفق عبر القناة المحفورة إلى داخل البئر، ولنا أن نتصور الأدوات التي كان يستخدمها هؤلاء القوم لصعود جبل عال وحاد وحفر قناة عبره.. ونحن متواجدون ضمن هذه الساحة التي لا مخرج لها سوى الفتحة التي قدمنا منها والمؤدية، في حال عودتنا، إلى ''الديوان''، مرت سحابة سوداء مصحوبة برعود مخيفة جعلت البعض منا يدعو ''اللهم نجنا من غضبك ولا تغضب علينا كما غضبت على ثمود يوم ارتدادهم عن الإيمان بك والنفور من دعوة نبيك صالح وعقرهم للناقة المعجزة''. غادرنا المكان مسرعين باتجاه مواقع أثرية أخرى، لكن تعذر على بعضنا ممن أنهكتهم الرحلة مواصلة السير بسبب الإرهاق وبسبب المجاري المائية التي أحدثتها الأمطار الغزيرة التي تساقطت طيلة ذلك اليوم والأيام التي سبقته، فبقوا في السيارات.. في هذا اللحظات غرق مُتقدمنا، وكيل وزارة الإعلام والثقافية السعودي الدكتور عبد العزيز، في مجرى مائي إلى نصفه، فبدا لنا وكأن الأرض التهمته. والغريب في الأمر، أن الرمال غطت المجرى أو المنحدر فبدت الأرض أمامنا مستوية وعادية، لأننا لم نكن نتصور أن هناك نوعا من الرمال يمكن أن يطفو فوق سطح المياه.. وعن مرافقنا وكيل وزارة الإعلام والثقافة السعودي الذي تركناه منذ أسبوع في مدينة الرياض، ولم نكن نتصور أن نلتقي به ثانية حتى فاجأنا صبيحة يوم توجهنا إلى مدائن صالح، عن هذا الرجل ذي الثقافة الواسعة والذي يتكلم الفرنسية بشكل طليق وهو الأمر الذي جعله قريبا من الجزائريين وجعلهم قريبين منه، عن هذا الرجل، نقول شيئا واحدا فقط وهو أنه نموذج فريد للإنسان الذي يخدم بتفان ضيوف بلده، فنعم خادم الضيوف.
إلى هنا انتهت رحلتنا إلى هذا الكنز الإنساني الفريد من نوعه، لا لأننا زرنا وعاينّا كل المواقع، فقد كنا نتمنى الوصول إلى محلب الناقة وهو عبارة عن إناء صخري يقال إن قوم ثمود كانوا يحلبون فيه الناقة المعجزة، ولكن لأن النهار تقدم والمسافة التي تفصلنا عن المدينة المنورة هي أربعمائة كيلومتر، والأمطار تنزل بغزارة واحتمال انقطاع الطرق رغم جودتها في المملكة العربية السعودية، أمر وارد.
وماذا عن مكة والمدينة؟
المدينة المنورة التي وصلناها قبيل الفجر، مدينة حديثة جدا وفسيحة جدا ومريحة جدا، وجمالية عماراتها ذكرتني بجمالية وسط مدينة الجزائر عندنا، مع تسجيل فارق، هو أن عمارات مدينة رسول الله حديثة، وعمارات وسط مدينة الجزائر يعود تاريخ بنائها إلى أكثر من قرن من الزمان.. خلال تجوالنا بهذا الحيز الجغرافي الطاهر، اكتشفت أن أول مسجد بني في الإسلام ليس هو المسجد الذي يرقد فيه رسول الله مع صاحبيه أبي بكر وعمر، أو ما يعرف بالمسجد النبوي الشريف، وإنما هو مسجد قباء الذي تعادل صلاة واحدة فيه عمرة، كما جاء في الحديث الشريف المثبت عند أحد أبوابه. بهذه المدينة وقفت مع زملائي في قمة جبل الرماة المقابل لجبل أحد، وسألت عن سر صغر هذا الجبل الذي وقف في أعلاه الرماة الذين أمرهم رسول الله بحماية ظهر جيش المسلمين، فأوضح لي مرافقنا بأن كل زائر أو العديد من زوار المكان يأخذون معهم حجرا أو حفنة تراب بحجة التبرك، ومع الزمن انكمش حجم الجبل ولا يستبعد أن يأتي يوم يستوي فيه مع الأرض.. بهذا المكان توجد مقبرة شهداء أحد ويظهر وسط مكان محاط بالحجارة ما قيل لنا بأنه قبر عم النبي حمزة بن عبد المطلب. بهذه المدينة الطاهرة، كانت لنا وقفة بمسجد القبلتين، وأثناء تواجدنا داخله تقدم منا متكلم باللهجة اللبنانية أو السورية، سائلا مثلنا عن الذي كان يقف فيه إمام المصلين باتجاه أولى القبلتين وقال لنا ''لقد زرت هذا المسجد منذ حوالي أربعين سنة وكان هناك محراب''، وأشار بإصبعه إلى الحائط المقابل للمنبر الحالي، وتأسف صاحبنا عن عمليات التجديد والتوسعة التي لا تترك للقديم أثرا...أما عن مدينة مكة ،فنرى أن أهميتها وموقعها ومشاكلها تتطلب وقفة أخرى حيزا أوسع، سنعود لها في استطلاع مستقل،سينشر بعد أيام.
الجبيل.. مدينة المستقبل
لا تكمن غرابة مدينة الجبيل ''الصناعية والسكنية'' في طبيعتها الحديثة وهي المدينة التي خلقت من العدم وفق أحدث مقاييس عالم العمران، ولا في أهميتها الصناعية رغم أنها تشكل موقعا ومرفأ لأكبر وأهم الصناعات البتروكيمياوية في العالم، وإنما تكمن غرابتها في الأسس التي بنيت عليها. فعملية تهيئة هذه المدينة جاءت بعد أن تم رفع مستوى الأرض الممتدة على مساحة ألف وستة عشر كيلومترا مربعا عن مستوى سطح البحر بمترين ونصف المتر، وذلك لتجاوز معضلة ملوحة تربتها السبخية، وقد كلفت عملية الردم هذه، صب ما يزيد على ثلاثمائة وسبعين مليون متر مكعب من الأتربة والرمال، وهي كمية تكفي، كما يقول الملف التقني، لإقامة طريق يلف الكرة الأرضية كلها بعرض تسعة أمتار وعلو متر واحد. كما تنفرد المدينة بحفر أكبر نهر صناعي في العالم، جزءه الأول ينقل مياه البحر باتجاه مختلف المركبات الصناعية القائمة وتلك التي هي في طريق الإنشاء والتي مازالت مجرد مشاريع وتلك التي قد تأتي في المستقبل، والهدف منه بطبيعة الحال هو تبريد آلات هذه المصانع ومنتجاتها، أما جزءه الثاني فيعيد المياه المستخدمة إلى البحر ثانية، بعد إعادة درجة حرارتها إلى مستواها الطبيعي.. هذا ما تعلق بالمدينة الصناعية، أما تلك المخصصة لسكانها فتكفي الإشارة إلى أن التدريس بها من المرحلة الابتدائية إلى الكليات، يعتمد كليا على التجهيزات الإلكترونية ولا وجود فيه لا للسبورة التقليدية المعروفة ولا للأقلام والكراريس، والتعليم مخصص لجميع أطفال وأبناء المقيمين بالمدينة من سعوديين وعرب وأجانب، وهم في غالبيتهم إطارات عاملون بالوحدات الصناعية المنتشرة بالمنطقة. وفي نهاية مطاف هذه المدينة ميناءان يربطانها بالعالم الخارج، واحد صناعي والآخر تجاري، بالإضافة إلى شبكة واسعة من الطرق السريعة وسكة الحديد في جميع الاتجاهات.. النجاحات التي حققها المشرفون على المشروع، دفع السلطات السعودية إلى استحداث مدينة صناعية أخرى سموها رأس الخير تقع إلى الشمال من ينبع بحوالي ستين كيلومترا. وحسب الدراسات المعدة وما تحقق منها لحد الآن، ينتظر أن تكون هذه المدينة أكبر مجمع صناعي لصناعات التعدين في العالم.
كل هذا الفضاء، وهذه المنشآت والهيئات مفتوحة أمام أي راغب في الاستثمار، سواء أكان مستثمرا خاصا أو شركة عمومية، سعوديا أو غير سعودي، وقد لعب التحفيز الذي قدمه ويقدمه صندوق التنمية الصناعي السعودي لكل راغب في الاستثمار، دورا هاما في تحقيق ما تحقق، ومن أهم هذه المحفزات سعر الأرض المغري والقروض من دون فوائد، المتوسطة والطويلة الأجل.
وعن السر الكامن وراء تحقيق هذه القفزة النوعية، يرجع المشرفون على عمليات البناء والتسيير سبب النجاح إلى الاستقلالية المالية والإدارية للهيئة المسيرة، وهي الهيئة الملكية للجبيل وينبع، التي لا تخضع لأي وصاية حكومية، فهي لا تتبع مثلا وزارة الصناعة السعودية وإنما هي هيئة قائمة بذاتها لا تحركها سوى حسابات التقدم إلى الأمام، كما يقول أحد إطاراتها الذي يتناقض مظهر لحيته الطويلة وشاربه المقصوص مع أفكاره وإلمامه بالمفاهيم الصناعية الحديثة، نقول يتناقض مظهره مع أفكاره، لأنه بدا لنا لحظة خروجه لاستقبالنا وكأنه رجل وعظ وإرشاد ديني، لكن وبمجرد شروعه في الحديث حتى بدا وكأنه إنسان آخر غير ذلك الذي اعتقدناه عند رؤيته.. للتوضيح، ينبع التي لم نتمكن من زيارتها، مدينة صناعية سعودية أخرى تقع على الجهة الأخرى للمملكة العربية السعودية أي على ضفاف البحر الأحمر على عكس مدينة الجبيل التي تقع على ضفاف الخليج العربي، لكنهما متكاملتين ويمكن الجزم بأنهما قد أصبحتا رمز النهضة الصناعية في الخليج العربي كله وليس في المملكة العربية السعودية فقط.
الإرهاب مشروع فكري والسعوديون يواجهونه بالفكر المضاد
المملكة العربية السعودية من البلدان العربية التي ابتلاها الله بآفة الإرهاب كما هو معروف، ولمعرفة كيفية مواجهة الظاهرة، كان للوفد الإعلامي الجزائري الذي زار المملكة وقفة وزيارة لـ''مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية''، حيث كانت لنا جلسة مع القائمين على هذه الهيئة التي أسندت لها القيادة السعودية ملف معالجة هذه الآفة. ومن الصدف الغريبة، أن زيارتنا للمركز تزامنت مع جريمة اقتحام الإرهابيين لمجمع إنتاج الغاز بعين أمناس بالجنوب الجزائري، وهي الحادثة التي شكلت مدخلا لمداخلة المتحدث الأمني بوزارة الداخلية السعودي اللواء منصور بن سلطان التركي الذي قال في كلمة له بأن عملية الهجوم على المنشأة الغازية في الجزائر، تؤكد ضرورة وجود إستراتيجية طويلة الأمد لمكافحة هذه الآفة الخطيرة، مؤكدا على أن المملكة عازمة على اجتثاث الإرهاب ولو تطلبت العملية ثلاثين سنة، وهذا تماشيا مع توصيات القيادة السعودية التي أوصت، كما قال، بأن لا تعالج المشكلة معالجة آنية وأمنية فقط.
أما مستشار وزير الداخلية، الدكتور عبد الرحمان بن عبد العزيز الهدلق، فاستهل مداخلته بالتأكيد على أن الإرهاب في أساسه مشروع فكري والفكر لا يواجه إلا بالفكر. وعلى ضوء هذه الخلفية، قامت التجربة السعودية بدراسة من أسماهم بالفئات الضالة، وقد بيّنت كل الدراسات أن غالبية هؤلاء المنحرفين من الطبقات الاجتماعية الوسطى، وأقلية منهم من الطبقة العليا أو الميسورة، ولهم في الغالب الأعم مشاكل اجتماعية لكن ليست لهم مشاكل نفسية، وهم محدودو الثقافة الدينية، وكلهم عادوا من أفغانستان. وذكر المستشار بأن عدد السعوديين الذين شاركوا في الجهاد الأفغاني بلغ عشرة آلاف شخص، كان من بينهم، بطبيعة الحال، أسامة بن لادن. ولم يخف المتحدث أن بن لادن من غرب المملكة القريبة ثقافيا من مصر، وباعتباره من عائلة مالكة لشركات كبرى وعديدة كانت تشغل عددا كبيرا من المصريين، فقد كان على علاقة وطيدة بهؤلاء ومنهم من كان يحمل الفكر التكفيري، وعبر هذه القناة انتقلت إليه العدوى، ليصل بعد ذلك إلى معادلة مفادها أن اجتماع فتيان ساخطين على أوضاعهم الاجتماعية مع فكر منحرف مع وفرة الأموال، فإن المنتوج عن هذه التوليفة لن يكون إلا إرهابا. ولتفكيك هذه المعادلة، قامت حكومة المملكة العربية السعودية بامتصاص السخط الاجتماعي عبر محاربة البطالة التي يمكن القول إنه بتراجع حدتها تراجع عدد الساخطين على أوضاعهم وبالتالي تراجع عدد معتنقي الفكر الضال. وبالموازاة مع هذا، تم الاعتناء بالمدارس والمراكز الثقافية والمنشآت الاجتماعية، سواء من حيث طبيعة التكوين أو مرافقة المتمدرسين عبر النشاط ''اللاصفي'' أي خارج صفوف الأقسام الدراسية، بتفعيل حركة الرحلات والسفريات. كما تمت معالجة فكر وممارسات الأساتذة والمعلمين المتشددين، بتنبيههم ومناصحتهم عبر قنوات وزارة التربية، وهي خطوات أتت أكلها على العموم مع تسجيل استثناءات. كما تم الإكثار من عدد البعثات الدراسية إلى الخارج والى جميع دول العالم بدون استثناء، وهي العملية التي سمحت بتكوين عدد معتبر من الشباب السعودي المتشبع بثقافة احترام آراء الآخرين، وبالتالي التحرر من الفكر المتعصب للأنا. وبالموازاة، كان الجهاز الأمني يقوم بدوره تجاه الذين بلغ بهم الانحراف الفكري مستوى غير قابل للعلاج لا بالفكر ولا بالحجة، وحتى هؤلاء لم تقتصر معالجتهم بالحبس والمتابعات القضائية فقط، وإنما بإعادة تأهيلهم اجتماعيا في مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، وقد أطلق على هؤلاء المدانين قضائيا اسم ''المستفيدون'' وليس المساجين، واستفادوا بالفعل من برامج تأهيل، شرعية ونفسية واجتماعية وتدريبية ورياضية وفكرية، وبطبيعة الحال أشرف على البرامج مختصون ذوو مستوى عال.
ولمعرفة مدى استجابة هؤلاء وتفاعلهم مع المناخ الجديد، يتم، على سبيل المثال لا الحصر، ملاحظة سلوكاتهم مثلا عند تسجيل أحدهم هدفا أثناء مقابلة في كرة القدم، فإن فرح عند تسجيله لهدف أو تفاعل فَرَحا مع تسجيل زميل له أو غضب من تسجيل خصمه لهدف في مرمى فريقه، فهذا يعني أن هناك نتيجة إيجابية لخطوات إعادة التأهيل، كما تمت رعاية هؤلاء لا حقا أي بعد مغادرتهم المركز، وهذه الرعاية هي الأطول لأنها هي المحك الحقيقي لمدى نجاح البرنامج، والنتيجة المحققة أنه باستثناء سبعة من المائة والعشرين سعوديا عائدا من معتقل غوانتنامو، يعيشون الآن في أسرهم حياة عادية وطبيعية ولا فرق بينهم وبين غيرهم، ونفس النتيجة تنسحب على بقية الذين كانوا متشبعين بالفكر، من الذين لم يذهبوا إلى أفغانستان. ويخلص الدكتور عبد الرحمان بن عبد العزيز الهدلق، في نهاية مداخلته، إلى أن النظر إلى هؤلاء على أنهم ضحايا وليسوا مجرمين، حتى وإن كانت أفعالهم إجرامية، فرض ضرورة اعتماد منطق معالجتهم بمسؤولية، والنتيجة أن استفاد المجتمع وليسوا هم فقط.
الخبر الجزائرية
آرامكـــو.. الجبــيل ومدائـن النـبي صـــالح
الأربعاء 13 فيفري 2013 المملكة السعودية: مبعوث ''الخبر'' العربي زواق
عندما يذكر اسم العربية السعودية، فإن الذي يرتسم في ذهن ذاكر الاسم وسامعه، هو النفط، مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكأن هذا البلد الواسع الشاسع لا يضم إلا هذه العناصر الثلاثة. وإذا كان هذا الأمر معقولا ومنطقيا وطبيعيا نظرا لأهمية المورد الطبيعي وقدسية المدينتين. و السعودية عبارة عن قارة تضم تاريخا عريقا وجغرافيا متنوعة، تزخر بمدائن ومواقع وهيئات في غاية الأهمية للسعوديين وللعرب والعالم، وفق حسابات ومصالح السعوديين والغرب والمسلمين والعالم.
شبّه الزميل كمال جوزي، بعد جولة ليلية له في العاصمة السعودية، مدينة الرياض بباريس، لأناقتها وإضاءتها ونقاوة شوارعها.. وعندما تجولت بالعديد من أحيائها بعد ذلك، وجدتها لا تختلف عن أي حاضرة من حواضر العالم المتطور باريس أو غيرها.. وعندما زرنا، بعد أيام قليلة، مدينة الدمام بأقصى شرق المملكة، بدت لي وكأنها أبهى وأوسع وأكثر انشراحا وأريحية وحداثة من الرياض. أما مدينة الجبيل وإن كانت أصغر من المدينتين المذكورتين، فهي تفوقهما حداثة ونهضة وتطورا، والأمر ينسحب على الخُبر والمدينة المنورة التي وإن كان طابعها الديني وراء توسعها الأفقي اللامحدود، فإنه لم يكن عائقا دون نهضتها العمرانية الحديثة. وتبقى مدينة المدائن جدة التي كانت آخر محطة للوفد الإعلامي الجزائري الذي زار المملكة العربية السعودية، تلبية لدعوة من الوزارة السعودية للإعلام والثقافة، جوهرة عمرانية متميزة بكل المقاييس.. حدث كل هذا ويحدث، بالرغم من أن هذه المدن كانت في فترة ستينيات القرن الماضي فقط، مجرد مدن طينية وتجمعات سكانية لا تربطها رابطة بعمران العصر الحديث. فمن الواقف وراء سر هذه النهضة المحيّرة؟
جولتنا وتجوالنا بعدد من محافظات المملكة ومدنها ومؤسسات الدولة السعودية المختلفة، كشفت لنا أن سر هذه النهضة يكمن ويقف وراءه الإنسان السعودي، وليس المال فقط كما يذهب إليه البعض. فقد استثمر السعوديون، منذ مدة، في العنصر البشري، حيث فتحت أبواب التكوين في الخارج أمام الشباب السعودي وبالخصوص في أمريكا، وهؤلاء تجدهم، اليوم، في أغلب المناصب الحساسة، على غرار شركة آرامكو النفطية التي تعد القلب النابض للمملكة.
آرامكو.. مفخرة السعوديين
في مدينة الدمام وقفنا بشركة ''آرامكو'' البترولية، على أن هذه الشركة البترولية العملاقة يديرها شبان سعوديون بتقنية جد عالية، ويتحكمون في كل شرايينها، بداية من أبعد بئر نفطي منتج إلى غاية عمليات الحفر الجارية لتطوير بئر هناك وحفر بئر جديد.. تقنيو النفط السعوديون الذين التقينا بهم بمقر المديرية العامة لـ''آرامكو''، لا ينفون أن المديرين العامين الأوائل للشركة ومساعديهم كانوا أجانب.. بريطانيون وأمريكان، لكن ومع الأيام وفي هدوء تام، حلّ محلهم أبناء البلد وتحكموا في ما بعد في كل مفاصل الشركة. وإذا كان هذا حال أعقد وأكبر شركة، فإن سيطرة الإنسان السعودي بثقافته العربية الإسلامية وبتراثه المحلي السعودي التقليدي على بقية الهيئات والمؤسسات الأخرى، كان أيسر وأيسر بكثير.
ورغم أهمية هذه الحداثة، فإننا لن نبدأ رحلتنا عبر أبواب السعودية العصرية، وإنما من التاريخ بالضبط من موقع يعود تاريخه إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام بقرون، من الجبال الصخرية التي نقشها قوم ثمود ثم الأنباط.. من مدينة الحجر بكسر الحاء، حسب ما ورد في القرآن الكريم أو مدائن صالح كما تسمى اليوم.. من هناك إلى الرياض وبقية حواضر المملكة العربية السعودية ومعالم تمدنها.
في الطريق إلى مدائن النبي صالح
الزائر لمنطقة مدائن النبي صالح بمحافظة العلا التابعة لإمارة المدينة المنورة، يتجاوز ذهنية، أو لنقل، يتحرر من فكرة أن المملكة العربية السعودية هي بلاد مكة والمدينة فقط، لأنه يجد نفسه أمام عالم سحري ترتبط فيه ترسبات الثقافة الدينية المتعلقة بنبي الله صالح وعقاب المولى عز وجل لقومه ثمود، بعد ردتهم ونحرهم للناقة، ويصاب بالدهشة من الآثار المادية المحفورة في الصخور على شكل غرف مع واجهات في غاية الإتقان، يقال إنها كانت تستخدم لدفن الموتى.. وقبل الوصول إلى هذه المواقع الأثرية المدهشة التي يقال إن تاريخها يعود إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام بثلاثة قرون، تشد الزائر خاصة عند اقترابه وبعد تجاوزه لمدينة العلا، تلك المنحوتات الطبيعية الخلابة في الجبال الصخرية التي تبدو كأنها ليست بفعل الرياح والأمطار وتقلبات الطبيعة والزمن، وإنما بفعل يد فنان بارع اجتهد في صقلها ونجح في تحويلها من أحجار صماء إلى أشكال هندسية طبيعية في غاية الروعة والجمال، كما لا تقل الحقول الخضراء وغابات النخيل المنتشرة بكثرة عند مختلف جنبات ومنعرجات الطريق، روعة عن منحوتات الطبيعة.. بعد كل هذا، يجد الزائر نفسه أمام محطة قديمة لقطار الحجاز الذي تم مدّه إبان حقبة الخلافة العثمانية لنقل الحجاج من الشام إلى الديار المقدسة، وهي معلم تاريخي آخر يقف المرء أمامه مندهشا ومتأملا في إنجازات الإنسان وفعل الطبيعة وعاديات الزمن.. من محطة القطار هاته القريبة جدا من الموقع الذي يفترض أن يصنف دون تأخير ضمن عجائب الدنيا الأخرى، لأنه وببساطة أغرب العجائب السبع المعروفة، وجدنا أنفسنا أمام البئر المحفور في الصخر والتي يقال إن نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم وقف عندها وهو في طريقه لغزوة تبوك، وحذر أصحابه ومرافقيه من الأكل والصلاة أو المبيت وسط هذه الآثار التي بقيت عبرة لمن يعتبر، ومازال تحذيره ساريا حتى اليوم، إذ أن زوار الموقع من المسلمين يتجنبون الأكل أو الصلاة أو المبيت في المكان الذي يفترض أن يبقى للبكاء والتباكي، كما قال أحد مرافقينا من الذين يعرفون المنطقة ولهم إلمام بالدين والتاريخ. ومن موقع البئر، انتقلنا إلى ما يعرف بـ''الديوان'' وهو حجرة كبيرة أو لنقل قاعة استقبال أو قاعة اجتماع، يقال إن علّية القوم من ثمود وهم قوم النبي صالح، كانوا يجتمعون بها لمناقشة أمورهم.. القاعة واسعة بها حافة حجرية يفترض أن المجتمعين كانوا يتخذونها كراسي للجلوس، وإذا صحّت هذه الفرضية، فالمؤكد أنهم كانوا طويلي القامة أو لنقل عمالقة، لأن إنسان اليوم يجد صعوبة كبيرة في الصعود إليها للجلوس، وإذا ما جلس فتبقى رجلاه متدليتين في الهواء.. ومن هذه القاعة، عبرنا فتحة بين الصخور العالية العاتية باتجاه آخر، ووجدنا أنفسنا وسط ساحة تحيط بها الجبال الصخرية من كل مكان، وكانت لنا وقفة أمام بئر محفور هو الآخر في الصخور، مربوط بقناة محفورة هي الأخرى في الصخر ومؤدية أو قادمة من أعلى الجبل وربما من جهة أبعد، وقيل لنا بأن البئر لم يحفر لاستخراج الماء من باطن الأرض، وإنما حفرت لتخزين مياه الأمطار التي تتدفق عبر القناة المحفورة إلى داخل البئر، ولنا أن نتصور الأدوات التي كان يستخدمها هؤلاء القوم لصعود جبل عال وحاد وحفر قناة عبره.. ونحن متواجدون ضمن هذه الساحة التي لا مخرج لها سوى الفتحة التي قدمنا منها والمؤدية، في حال عودتنا، إلى ''الديوان''، مرت سحابة سوداء مصحوبة برعود مخيفة جعلت البعض منا يدعو ''اللهم نجنا من غضبك ولا تغضب علينا كما غضبت على ثمود يوم ارتدادهم عن الإيمان بك والنفور من دعوة نبيك صالح وعقرهم للناقة المعجزة''. غادرنا المكان مسرعين باتجاه مواقع أثرية أخرى، لكن تعذر على بعضنا ممن أنهكتهم الرحلة مواصلة السير بسبب الإرهاق وبسبب المجاري المائية التي أحدثتها الأمطار الغزيرة التي تساقطت طيلة ذلك اليوم والأيام التي سبقته، فبقوا في السيارات.. في هذا اللحظات غرق مُتقدمنا، وكيل وزارة الإعلام والثقافية السعودي الدكتور عبد العزيز، في مجرى مائي إلى نصفه، فبدا لنا وكأن الأرض التهمته. والغريب في الأمر، أن الرمال غطت المجرى أو المنحدر فبدت الأرض أمامنا مستوية وعادية، لأننا لم نكن نتصور أن هناك نوعا من الرمال يمكن أن يطفو فوق سطح المياه.. وعن مرافقنا وكيل وزارة الإعلام والثقافة السعودي الذي تركناه منذ أسبوع في مدينة الرياض، ولم نكن نتصور أن نلتقي به ثانية حتى فاجأنا صبيحة يوم توجهنا إلى مدائن صالح، عن هذا الرجل ذي الثقافة الواسعة والذي يتكلم الفرنسية بشكل طليق وهو الأمر الذي جعله قريبا من الجزائريين وجعلهم قريبين منه، عن هذا الرجل، نقول شيئا واحدا فقط وهو أنه نموذج فريد للإنسان الذي يخدم بتفان ضيوف بلده، فنعم خادم الضيوف.
إلى هنا انتهت رحلتنا إلى هذا الكنز الإنساني الفريد من نوعه، لا لأننا زرنا وعاينّا كل المواقع، فقد كنا نتمنى الوصول إلى محلب الناقة وهو عبارة عن إناء صخري يقال إن قوم ثمود كانوا يحلبون فيه الناقة المعجزة، ولكن لأن النهار تقدم والمسافة التي تفصلنا عن المدينة المنورة هي أربعمائة كيلومتر، والأمطار تنزل بغزارة واحتمال انقطاع الطرق رغم جودتها في المملكة العربية السعودية، أمر وارد.
وماذا عن مكة والمدينة؟
المدينة المنورة التي وصلناها قبيل الفجر، مدينة حديثة جدا وفسيحة جدا ومريحة جدا، وجمالية عماراتها ذكرتني بجمالية وسط مدينة الجزائر عندنا، مع تسجيل فارق، هو أن عمارات مدينة رسول الله حديثة، وعمارات وسط مدينة الجزائر يعود تاريخ بنائها إلى أكثر من قرن من الزمان.. خلال تجوالنا بهذا الحيز الجغرافي الطاهر، اكتشفت أن أول مسجد بني في الإسلام ليس هو المسجد الذي يرقد فيه رسول الله مع صاحبيه أبي بكر وعمر، أو ما يعرف بالمسجد النبوي الشريف، وإنما هو مسجد قباء الذي تعادل صلاة واحدة فيه عمرة، كما جاء في الحديث الشريف المثبت عند أحد أبوابه. بهذه المدينة وقفت مع زملائي في قمة جبل الرماة المقابل لجبل أحد، وسألت عن سر صغر هذا الجبل الذي وقف في أعلاه الرماة الذين أمرهم رسول الله بحماية ظهر جيش المسلمين، فأوضح لي مرافقنا بأن كل زائر أو العديد من زوار المكان يأخذون معهم حجرا أو حفنة تراب بحجة التبرك، ومع الزمن انكمش حجم الجبل ولا يستبعد أن يأتي يوم يستوي فيه مع الأرض.. بهذا المكان توجد مقبرة شهداء أحد ويظهر وسط مكان محاط بالحجارة ما قيل لنا بأنه قبر عم النبي حمزة بن عبد المطلب. بهذه المدينة الطاهرة، كانت لنا وقفة بمسجد القبلتين، وأثناء تواجدنا داخله تقدم منا متكلم باللهجة اللبنانية أو السورية، سائلا مثلنا عن الذي كان يقف فيه إمام المصلين باتجاه أولى القبلتين وقال لنا ''لقد زرت هذا المسجد منذ حوالي أربعين سنة وكان هناك محراب''، وأشار بإصبعه إلى الحائط المقابل للمنبر الحالي، وتأسف صاحبنا عن عمليات التجديد والتوسعة التي لا تترك للقديم أثرا...أما عن مدينة مكة ،فنرى أن أهميتها وموقعها ومشاكلها تتطلب وقفة أخرى حيزا أوسع، سنعود لها في استطلاع مستقل،سينشر بعد أيام.
الجبيل.. مدينة المستقبل
لا تكمن غرابة مدينة الجبيل ''الصناعية والسكنية'' في طبيعتها الحديثة وهي المدينة التي خلقت من العدم وفق أحدث مقاييس عالم العمران، ولا في أهميتها الصناعية رغم أنها تشكل موقعا ومرفأ لأكبر وأهم الصناعات البتروكيمياوية في العالم، وإنما تكمن غرابتها في الأسس التي بنيت عليها. فعملية تهيئة هذه المدينة جاءت بعد أن تم رفع مستوى الأرض الممتدة على مساحة ألف وستة عشر كيلومترا مربعا عن مستوى سطح البحر بمترين ونصف المتر، وذلك لتجاوز معضلة ملوحة تربتها السبخية، وقد كلفت عملية الردم هذه، صب ما يزيد على ثلاثمائة وسبعين مليون متر مكعب من الأتربة والرمال، وهي كمية تكفي، كما يقول الملف التقني، لإقامة طريق يلف الكرة الأرضية كلها بعرض تسعة أمتار وعلو متر واحد. كما تنفرد المدينة بحفر أكبر نهر صناعي في العالم، جزءه الأول ينقل مياه البحر باتجاه مختلف المركبات الصناعية القائمة وتلك التي هي في طريق الإنشاء والتي مازالت مجرد مشاريع وتلك التي قد تأتي في المستقبل، والهدف منه بطبيعة الحال هو تبريد آلات هذه المصانع ومنتجاتها، أما جزءه الثاني فيعيد المياه المستخدمة إلى البحر ثانية، بعد إعادة درجة حرارتها إلى مستواها الطبيعي.. هذا ما تعلق بالمدينة الصناعية، أما تلك المخصصة لسكانها فتكفي الإشارة إلى أن التدريس بها من المرحلة الابتدائية إلى الكليات، يعتمد كليا على التجهيزات الإلكترونية ولا وجود فيه لا للسبورة التقليدية المعروفة ولا للأقلام والكراريس، والتعليم مخصص لجميع أطفال وأبناء المقيمين بالمدينة من سعوديين وعرب وأجانب، وهم في غالبيتهم إطارات عاملون بالوحدات الصناعية المنتشرة بالمنطقة. وفي نهاية مطاف هذه المدينة ميناءان يربطانها بالعالم الخارج، واحد صناعي والآخر تجاري، بالإضافة إلى شبكة واسعة من الطرق السريعة وسكة الحديد في جميع الاتجاهات.. النجاحات التي حققها المشرفون على المشروع، دفع السلطات السعودية إلى استحداث مدينة صناعية أخرى سموها رأس الخير تقع إلى الشمال من ينبع بحوالي ستين كيلومترا. وحسب الدراسات المعدة وما تحقق منها لحد الآن، ينتظر أن تكون هذه المدينة أكبر مجمع صناعي لصناعات التعدين في العالم.
كل هذا الفضاء، وهذه المنشآت والهيئات مفتوحة أمام أي راغب في الاستثمار، سواء أكان مستثمرا خاصا أو شركة عمومية، سعوديا أو غير سعودي، وقد لعب التحفيز الذي قدمه ويقدمه صندوق التنمية الصناعي السعودي لكل راغب في الاستثمار، دورا هاما في تحقيق ما تحقق، ومن أهم هذه المحفزات سعر الأرض المغري والقروض من دون فوائد، المتوسطة والطويلة الأجل.
وعن السر الكامن وراء تحقيق هذه القفزة النوعية، يرجع المشرفون على عمليات البناء والتسيير سبب النجاح إلى الاستقلالية المالية والإدارية للهيئة المسيرة، وهي الهيئة الملكية للجبيل وينبع، التي لا تخضع لأي وصاية حكومية، فهي لا تتبع مثلا وزارة الصناعة السعودية وإنما هي هيئة قائمة بذاتها لا تحركها سوى حسابات التقدم إلى الأمام، كما يقول أحد إطاراتها الذي يتناقض مظهر لحيته الطويلة وشاربه المقصوص مع أفكاره وإلمامه بالمفاهيم الصناعية الحديثة، نقول يتناقض مظهره مع أفكاره، لأنه بدا لنا لحظة خروجه لاستقبالنا وكأنه رجل وعظ وإرشاد ديني، لكن وبمجرد شروعه في الحديث حتى بدا وكأنه إنسان آخر غير ذلك الذي اعتقدناه عند رؤيته.. للتوضيح، ينبع التي لم نتمكن من زيارتها، مدينة صناعية سعودية أخرى تقع على الجهة الأخرى للمملكة العربية السعودية أي على ضفاف البحر الأحمر على عكس مدينة الجبيل التي تقع على ضفاف الخليج العربي، لكنهما متكاملتين ويمكن الجزم بأنهما قد أصبحتا رمز النهضة الصناعية في الخليج العربي كله وليس في المملكة العربية السعودية فقط.
الإرهاب مشروع فكري والسعوديون يواجهونه بالفكر المضاد
المملكة العربية السعودية من البلدان العربية التي ابتلاها الله بآفة الإرهاب كما هو معروف، ولمعرفة كيفية مواجهة الظاهرة، كان للوفد الإعلامي الجزائري الذي زار المملكة وقفة وزيارة لـ''مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية''، حيث كانت لنا جلسة مع القائمين على هذه الهيئة التي أسندت لها القيادة السعودية ملف معالجة هذه الآفة. ومن الصدف الغريبة، أن زيارتنا للمركز تزامنت مع جريمة اقتحام الإرهابيين لمجمع إنتاج الغاز بعين أمناس بالجنوب الجزائري، وهي الحادثة التي شكلت مدخلا لمداخلة المتحدث الأمني بوزارة الداخلية السعودي اللواء منصور بن سلطان التركي الذي قال في كلمة له بأن عملية الهجوم على المنشأة الغازية في الجزائر، تؤكد ضرورة وجود إستراتيجية طويلة الأمد لمكافحة هذه الآفة الخطيرة، مؤكدا على أن المملكة عازمة على اجتثاث الإرهاب ولو تطلبت العملية ثلاثين سنة، وهذا تماشيا مع توصيات القيادة السعودية التي أوصت، كما قال، بأن لا تعالج المشكلة معالجة آنية وأمنية فقط.
أما مستشار وزير الداخلية، الدكتور عبد الرحمان بن عبد العزيز الهدلق، فاستهل مداخلته بالتأكيد على أن الإرهاب في أساسه مشروع فكري والفكر لا يواجه إلا بالفكر. وعلى ضوء هذه الخلفية، قامت التجربة السعودية بدراسة من أسماهم بالفئات الضالة، وقد بيّنت كل الدراسات أن غالبية هؤلاء المنحرفين من الطبقات الاجتماعية الوسطى، وأقلية منهم من الطبقة العليا أو الميسورة، ولهم في الغالب الأعم مشاكل اجتماعية لكن ليست لهم مشاكل نفسية، وهم محدودو الثقافة الدينية، وكلهم عادوا من أفغانستان. وذكر المستشار بأن عدد السعوديين الذين شاركوا في الجهاد الأفغاني بلغ عشرة آلاف شخص، كان من بينهم، بطبيعة الحال، أسامة بن لادن. ولم يخف المتحدث أن بن لادن من غرب المملكة القريبة ثقافيا من مصر، وباعتباره من عائلة مالكة لشركات كبرى وعديدة كانت تشغل عددا كبيرا من المصريين، فقد كان على علاقة وطيدة بهؤلاء ومنهم من كان يحمل الفكر التكفيري، وعبر هذه القناة انتقلت إليه العدوى، ليصل بعد ذلك إلى معادلة مفادها أن اجتماع فتيان ساخطين على أوضاعهم الاجتماعية مع فكر منحرف مع وفرة الأموال، فإن المنتوج عن هذه التوليفة لن يكون إلا إرهابا. ولتفكيك هذه المعادلة، قامت حكومة المملكة العربية السعودية بامتصاص السخط الاجتماعي عبر محاربة البطالة التي يمكن القول إنه بتراجع حدتها تراجع عدد الساخطين على أوضاعهم وبالتالي تراجع عدد معتنقي الفكر الضال. وبالموازاة مع هذا، تم الاعتناء بالمدارس والمراكز الثقافية والمنشآت الاجتماعية، سواء من حيث طبيعة التكوين أو مرافقة المتمدرسين عبر النشاط ''اللاصفي'' أي خارج صفوف الأقسام الدراسية، بتفعيل حركة الرحلات والسفريات. كما تمت معالجة فكر وممارسات الأساتذة والمعلمين المتشددين، بتنبيههم ومناصحتهم عبر قنوات وزارة التربية، وهي خطوات أتت أكلها على العموم مع تسجيل استثناءات. كما تم الإكثار من عدد البعثات الدراسية إلى الخارج والى جميع دول العالم بدون استثناء، وهي العملية التي سمحت بتكوين عدد معتبر من الشباب السعودي المتشبع بثقافة احترام آراء الآخرين، وبالتالي التحرر من الفكر المتعصب للأنا. وبالموازاة، كان الجهاز الأمني يقوم بدوره تجاه الذين بلغ بهم الانحراف الفكري مستوى غير قابل للعلاج لا بالفكر ولا بالحجة، وحتى هؤلاء لم تقتصر معالجتهم بالحبس والمتابعات القضائية فقط، وإنما بإعادة تأهيلهم اجتماعيا في مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، وقد أطلق على هؤلاء المدانين قضائيا اسم ''المستفيدون'' وليس المساجين، واستفادوا بالفعل من برامج تأهيل، شرعية ونفسية واجتماعية وتدريبية ورياضية وفكرية، وبطبيعة الحال أشرف على البرامج مختصون ذوو مستوى عال.
ولمعرفة مدى استجابة هؤلاء وتفاعلهم مع المناخ الجديد، يتم، على سبيل المثال لا الحصر، ملاحظة سلوكاتهم مثلا عند تسجيل أحدهم هدفا أثناء مقابلة في كرة القدم، فإن فرح عند تسجيله لهدف أو تفاعل فَرَحا مع تسجيل زميل له أو غضب من تسجيل خصمه لهدف في مرمى فريقه، فهذا يعني أن هناك نتيجة إيجابية لخطوات إعادة التأهيل، كما تمت رعاية هؤلاء لا حقا أي بعد مغادرتهم المركز، وهذه الرعاية هي الأطول لأنها هي المحك الحقيقي لمدى نجاح البرنامج، والنتيجة المحققة أنه باستثناء سبعة من المائة والعشرين سعوديا عائدا من معتقل غوانتنامو، يعيشون الآن في أسرهم حياة عادية وطبيعية ولا فرق بينهم وبين غيرهم، ونفس النتيجة تنسحب على بقية الذين كانوا متشبعين بالفكر، من الذين لم يذهبوا إلى أفغانستان. ويخلص الدكتور عبد الرحمان بن عبد العزيز الهدلق، في نهاية مداخلته، إلى أن النظر إلى هؤلاء على أنهم ضحايا وليسوا مجرمين، حتى وإن كانت أفعالهم إجرامية، فرض ضرورة اعتماد منطق معالجتهم بمسؤولية، والنتيجة أن استفاد المجتمع وليسوا هم فقط.
الخبر الجزائرية