لو قصد المجاهد في قتاله: الغنيمة مع إرادته وجه الله تعالى في قتاله هذا، فما حكم هذه النية؟
قال ابن النحاس(
[1]) -رحمه الله-: «وهذه النية مما اختلف فيها وفي أشباهها أئمة السلف، فذهب بعضهم إلى أن النية فاسدة، وأن صاحبها يعاقب عليها لإدخاله قصد الدنيا في عمل الآخرة. وذهب آخرون إلى أن هذه النية صحيحة، وهذا هو المذهب الصحيح...»(
[2]).
وبصحة هذه النية ذهب جمع من المحققين(
[3])، واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى:
﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا﴾ [الفتح: 20]. ففي هذه الآية دليل على جواز تشريك إرادة الغنيمة، فإنه يبعد أني يرغب الله عباده في الغنيمة، ويعدهم بها، ويمتن عليهم بنيلها ثم يحظر عليهم نيتها وقصدها(
[4]).
2- عن عبد الله بن حوالة الأزدي t قال: «بعثنا رسول الله e لنغنم على أقدامنا، فرجعنا فلم نغنم شيئًا، وعرف الجهد في وجوهنا. فقام فينا فقال:
اللهم لا تكلهم إلي فأضعف عنهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم...» الحديث(
[5]).
فيدل هذا الحديث «على أن دخول غير الإعلاء ضمنًا لا يقدح في الإعلاء إذا كان الإعلاء هو الباعث الأصلي»(
[6]).
واستدل بهذا الحديث على جواز الغزو للغنيمة والأجر معًا(
[7]).
3- وجاء في حديث كعب بن مالك، وقصة تخلفه عن غزوة تبوك، وسبب تخلفه عن غزوة بدر، بقوله: «وذلك أن رسول الله e إنما خرج يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد»(
[8]).
قال القرطبي(
[9]) رحمه الله-: «ودل خروج النبي e ليتلقى العير على جواز النفير للغنيمة، لأنها كسب حلال، وهو يرد ما كره مالك من ذلك، إذ قال: ذلك قتال على الدنيا، وما جاء أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، دون من يقاتل للغنيمة، يراد به إذا كان قصده وحده وليس للدين فيه حظ...»(
[10]).
4- ما رواه جابر رضي الله عنه قال: «بعثنا رسول الله e وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرًا لقريش...» الحديث(
[11]).
5- عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله e قال:
«ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة، إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة. ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم»(
[12]).
قال ابن النحاس: «ولأجل ما في نيل المغنم من شائبة نقص الأجر كان جماعة يتعففون عن المغنم، منهم إبراهيم بن أدهم؛ كان إذا غزا لم ينل من المغنم، فيقال له: أتشك أنه حلال؟ فيقول: إنما الزهد في الحلال»(
[13]).
قال ابن رجب(
[14]) -رحمه الله-:«فإن خالط نية الجهاد مثلاً نية غير الرياء، مثل أخذ أجره للخدمة، أو أخذ شيء من الغنيمة، أو التجارة، نقص بذلك أجر جهادهم، ولم يبطل بالكلية...»(
[15]).
وبهذه النصوص يتبين أن إشراك نية الغنيمة لا يقدح في شرط الإخلاص إذا كان الباعث الأصلي هو: إرادة الجهاد في سبيل الله.
قال القرافي(
[16]) -رحمه الله-: «وأما مطلق التشريك كمن جاهد ليحصل طاعة الله بالجهاد، وليحصل المال من الغنيمة فهذا لا يضره، ولا يحرم عليه بالإجماع، لأن الله تعالى جعل له هذا في هذه العبادة. ففرق بين جهاده ليقول الناس إنه شجاع، أو ليعظمه الإمام فيكثر عطاؤه من بيت المال، فهذا ونحوه رياء حرام، وبين أن يجاهد ليحصل السبايا، والكراع(
[17])، والسلاح من جهة أموال العدو، فهذا لا يضره مع أنه قد شرك...وكذلك من حج وشرك في حجه غرض المتجر بأن يكون جل مقصوده، أو كله السفر للتجارة خاصة، ويكون الحج إما مقصودًا مع ذلك أو غير مقصود، ويقع تابعًا اتفاقًا، فهذا أيضًا لا يقدح في صحة الحج ولا يوجب إثمًا ولا معصية، وكذلك من صام ليصح جسده أو ليحصل له زوال مرض من الأمراض التي ينافيها الصوم، ويكون التداوي مقصوده، أو بعض مقصوده، والصوم مقصود مع ذلك، وأوقع الصوم مع هذه المقاصد لا تقدح هذه المقاصد في صومه. بل أمر بها صاحب الشرع في قوله e:
«يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»(
[18]). أي قاطع، فأمر بالصوم لهذا الغرض، فلو كان ذلك قادحًا لم يأمر به عليه الصلاة والسلام في العبادات»(
[19]).
([1]) هو: أبو زكريا، أحمد بن إبراهيم بن محمد الدمشقي، ثم الدمياطي، الشيخ العلامة الإمام القدوة، أكثر المرابطة والجهاد، حتى قتل شهيدًا. له مؤلفات نافعة، منها: تنبيه الغافلين من أعمال الجاهلين، ومشارع الأشواق إلى مصارع العشاق، وغيرها. توفي سنة 814هـ. انظر: الأعلام، للزركلي: 1/87.
([2]) مشارع الأشواق: 2/623، 624.
([3]) منهم ابن النحاس في المرجع السابق، والقرطبي في تفسيره: 7/239، وابن حجر في الفتح: 6/35، وابن رجب في جامع العلوم والحكم: 1/82، والصنعاني في سبيل السلام: 4/87، والقرافي في الفروق: 3/22 - 23.
([4]) مشارع الأشواق: 2/626، بتصرف.
([5]) أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الرجل يغزو ويلتمس الأجر والغنيمة، رقم 2535، وسكت عنه. والبيهقي في السنن الكبرى: 9/167. وحسن إسناده الحافظ ابن حجر، فتح الباري: 6/35.
([6]) فتح الباري: 6/35.
([7]) انظر: مشارع الأشواق: 2/627.
([8]) أخرجه البخاري، باب حديث كعب بن مالك، وقول الله عز وجل: ﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ ﴾ [التوبة118]، كتاب المغازي، رقم 4418.
([9]) هو: الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري الخزرجي القرطبي، له مصنفات نافعة، منها: الجامع لأحكام القرآن، التذكرة بأحوال الموتى والآخرة. توفي سنة 671هـ. انظر: الديباج المذهب، لابن فرحون، ص317، ومعجم المؤلفين: 8/239.
([10]) تفسير القرطبي: 7/239.
([11]) أخرجه مسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة ميتات البحر، رقم 1935.
([12]) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان قدر ثواب من غزا فغنم ومن لم يغنم، رقم 1906.
([13]) مشارع الأشواق: 2/630.
([14]) هو: الإمام زين الدين، أبو الفرج، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، البغدادي، الدمشقي، الفقيه، الزاهد، البارع، الأصولي، المحدث، له المصنفات المفيدة الكثيرة، منها: كتاب القواعد الفقهية، وجامع العلوم والحكم، وغيرها. توفي سنة 795هـ. انظر: ذيل ابن عبد الهادي على طبقات الحنابلة، يوسف بن حسن بن عبد الهادي، ص36، والرد الوافر، لابن ناصر الدين، ص188.
([15]) جامع العلوم والحكم: 1/82.
([16]) هو: أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله الصنهاجي، المالكي، انتهت إليه رئاسة الفقه على مذهب الإمام مالك، كان إمامًا بارعًا في الفقه والأصول، من مصنفاته: "الفروق"، و"تنقيح الفصول". توفي سنة 684هـ. انظر: الديباج المذهب، ص62، وشجرة النور الزكية، ص188.
([17]) الكراع: اسم لجميع الخيل. النهاية: 4/165.
([18]) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قول النبي e: "من استطاع الباءة فليتزوج..."، رقم 5065. وأخرجه مسلم، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه ووجد مؤنة، واشتغال من عجز عن المؤنة بالصوم، كتاب النكاح، رقم 1400، كلاهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
([19]) الفروق، للقرافي: 3/22 - 23.