فتوحات العراق وفارس

إنضم
9 أكتوبر 2011
المشاركات
488
التفاعل
79 0 0
بقلم الدكتور /راغب السرجاني





قبل الحديث عن رسالة أبي بكر إلى خالد بن الوليد رضي الله عنهما، نشير إلى أنه بعد انتهاء حروب الرِّدَّة مباشرة حدث أن جاء المثنى بن حارثة -من قبيلة بكر بن وائل التي كانت تستقر في شمال الجزيرة العربية جنوب العراق- إلى أبي بكر الصديق ليطلب منه أن يسمح له بقتال الفرس المتاخمين له، والقيام ببعض الغارات عليهم. فقال له:

"يا خليفة رسول الله ابعثني على قومي؛ فإن فيهم إسلامًا أقاتل بهم أهل فارس، وأكفيك أهل ناحيتي من العدو". فسمح له أبو بكر بذلك.

وعلى الفور قام المثنى بن حارثة بشن بعض الغارات على الجيوش الجنوبية في فارس، ثم أرسل بعد ذلك يطلب المدد من أبي بكر t يقول له: "إن أمددتني وسمعت بذلك العرب أسرعوا إليَّ، وأذلَّ الله المشركين، مع أني أخبرك -يا خليفة رسول الله- أن الأعاجم تخافنا وتتقينا".

وفي الواقع لم يستغرق أبو بكر في التفكير طويلاً، وقد قام على إثر هذا بإرسال رسالة إلى خالد بن الوليد في اليمامة يقول له فيها: "إن الله فتح عليك فعارق (أي: فسر إلى العراق)، وابدأ بفرج الهند (وهي الأُبُلَّة)، وتألَّف أهل فارس ومن كان في ملكهم من الأمم".

دولة المسلمين ودولة فارس.. بين هذه وتلك


في سبيل مسايرة هذه الأحداث نستعرض موقف كلتا الدولتين اللتين نحن بصددهما حتى نَعِي الموقف جيدًا:

فعلى الجانب الأول كانت الدولة الإسلامية، وهي بعدُ ضعيفة لم تعرف الاستقرار، وكانت ما زالت على أعتاب الخروج من حرب داخلية شديدة دارت رحاها طيلة سنة كاملة، وتطلبت خروج أحد عشر جيشًا إلى أحد عشر مكانًا مختلفًا من أنحائها.

أما أهلها فما زال منهم المرتد ومنهم الذي لم يرتد وثبت على الإسلام، ولكن هذا الذي لم يرتد وثبت على الإسلام خاض كثيرًا من المعارك وقد أُرهِقَت قواه، فكان منهم الجرحى ومنهم القتلى، أما المُعافى فقد هدَّته الحرب تمامًا، كما الحال في حرب اليمامة وحروب اليمن.

وفي ظل هذه الظروف المفككة، وحيث جيش المسلمين مفرَّق في أكثر من مكان يأمر أبو بكر الصديق من مكانه في المدينة خالد بن الوليد وهو في اليمامة، ودون انتظار لعودته ليتدارسا الأمر، يأمره بالذهاب إلى العراق وفتح فارس!!

وعلى الجانب الآخر كانت تقف دولة فارس ممتدة من غرب العراق إلى شرق الصين (شاملة العراق كله)، وكانت دولتا الصين والهند تدفعان الجزية إلى ملك فارس، أي أن آسيا كلها -تقريبًا- حتى حدود الصين كانت دولة فارسية.

وفوق تلك المساحة الشاسعة وتلك القوة التي حدت بالهند والصين أن تدفعا لها الجزية، فقد كانت دولة فارس تملك من مظاهر العظمة والأموال والأبهة والجيوش ما ظل المؤرخون يحكون عنه لسنوات وسنوات، والتي سنراها بالفعل حين يأتي الحديث عن حروب المسلمين فيها.

ولنا أن نتخيل دولة ضعيفة صغيرة تعمها حرب أهلية كما الحال -مثلاً- في دولة رواندا، ثم يقوم رئيسها بعد انتهاء تلك الحرب الأهلية، واستقرار الأحوال بإرسال رسالة إلى قائد من قواده ممن هم على أحد أقاليم دولته، مفادها أن يُعِدَّ نفسه ويذهب لفتح أمريكا وروسيا!!

فكان الموقف -ولا شك- غاية في الصعوبة، وهو كما يصوره أبو الحسن الندوي فيما يسمى بعلم مقارنة الأمم يقول: إن قوة الفرس والروم بالنسبة للمسلمين في ذلك الوقت كانت أكبر كثيرًا من قوة أمريكا وروسيا (قبل سقوطها) بالنسبة للمسلمين الآن.

أي أن النسبة من ناحية الجيوش والعدة والعتاد كانت أكبر كثيرًا لصالح الفرس.

وإن تعجب من قراره بإنفاذ جيش أسامة بن زيد، رغم أن الردة كانت قد ظهرت واستفحل أمرها، وقد تمسك بقوله: لا أدع جيشًا أنفذه رسول الله . ومثله أيضًا قرار حروب الردة -التي عمَّت الجزيرة العربية- الذي اتخذه بعد ذلك، وكلها قرارات حاسمة ومهمة في تاريخ الأمة الإسلامية.

فأعجب منه أمر قيامه (أبو بكر الصديق) بهذه الخطوة العجيبة وقراره فتح فارس، خاصة في ذلك الوقت، ثم بعده ببضعة شهور قرار فتح الروم ثاني أعظم قوة في العالم في ذلك الوقت، كما سيأتي بيانه.

خطة أبي بكر للفتح.. ووصيته للقادة:


وفي رد فعل غير متوقع من قبل خالد بن الوليد، فإنه لم يبعث برد أو استفسار عما جاء في رسالة أبي بكر الصديق العجيبة، إنما كان من أمره أن أرسل بالرسائل إلى الجيوش الإسلامية المحيطة به لتجميعهم، ثم أرسل رسالة إلى هرمز أمير منطقة الأُبلّة (ميناء على شط العرب، وتقع أقصى جنوب العراق) من قبل فارس يهدده فيها ويتوعده.

ومن المدينة كان أبو بكر الصديق t قد وضع خطة لفتح بلاد فارس تعمل كفكي الكماشة، بحيث تكون نهايتها في مدينة الحيرة أعظم مدن فارس بعد المدائن العاصمة، وكانت تبعد عنها بنحو مائتي كيلو متر.

فكان أن أمر أبو بكر خالد بن الوليد بأن يتجه إلى العراق لفتحها من جهة الجنوب حتى يصل إلى مدينة الحيرة، وفي الوقت نفسه كتب إلى عياض بن غنم -وكان في الحجاز- بأن يدخل العراق من أعلاها مفتتحًا ما في طريقه إليها، ثم يكمل المسير حتى يصل إلى الحيرة أيضًا، وقد قال لهما أبو بكر t:

"فأيُّكما سبق إلى الحيرة فهو أمير على صاحبه، وإذا اجتمعتما بالحيرة وقد فضضتما مسالح (حصون) فارس وأَمِنتُما أن يُؤْتَى المسلمون من خلفهم، فليكن أحدكما ردءًا للمسلمين ولصاحبه بالحيرة، وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم المدائن".


وكانت خطة رائعة قد رسمها أبو بكر الصديق أراد بها الإحاطة بقوات الفرس غربي بغداد كما السوار بالمعصم، بحيث تقاتل هذه القوات أحد الجيشين وفي خَلَدِها رعب وفزع من هجوم الجيش الآخر من خلفها.

ثم إن هذه الخطة ستعمل على إرباك قوات الفرس وقادتهم، من حيث عدم معرفتهم لأهداف ومقاصد كل جيش، ومن حيث صعوبة توزيع قواتهم لملاقاة كلا الجيشين في وقت واحد!!

وكذلك فإن هذه الخطة ستعمل على ألا يمر المسلمون من طريق واحد، وإنما من طريقين مختلفين، والذي من شأنه أنهم سيستطيعون أن يحصلوا على أكبر قدر من الماء والكلأ لهم ولدوابهم، الأمر الذي لا يتوافر حين يكون الطريق واحدًا.

وفوق هذا وذاك، فإن هذه الخطة ستثير المنافسة الشريفة بين جيش خالد بن الوليد وجيش عياض بن غنم، في أيهما يحقق النصر ويسبق أولاً إلى الحيرة؛ مما يحفز الهمم ويثير الحماسة في قلوبهم.

بعد هذه الخطة المحكمة لم ينس أبو بكر أن يوقّع ببعض التوصيات المهمة، التي إن دلت على شيء فإنما تدل على حكمته وبُعد نظره، ومثلها يكون له مفعول السحر على مر العصور، فكان مما جاء فيها:

"... واستعينوا بالله واتقوه، وآثروا أمر الآخرة على الدنيا يجتمعا لكم، ولا تؤثروا الدنيا فتُسلَبوهما، واحذروا ما حذركم الله بترك المعاصي ومعاجلة التوبة، وإياكم والإصرار وتأخير التوبة".

وقد كانت هذه هي الأسلحة الحقيقية لقتال أهل فارس وفي كل قتال؛ فإذا آثر الإنسان أمر الآخرة على أمر الدنيا اجتمعت له الدنيا والآخرة، ومن سعى إلى الدنيا فقط ضاعت منه الدنيا والآخرة.

كما لا بد من التعجيل بالتوبة والإقلاع عن الذنوب والمعاصي؛ وذلك في كل وقت وبالأخص هنا، حيث الكنوز والأموال والخير العميم، وقبل أن تفتح الدنيا عليهم بفتح فارس.

وبعد الإشارة إلى أسلحة المعركة كان أن وضح الصديق ما من شأنه أن يحفظ قوة الجيشين، وأن يعمل على تعجيل إحراز النصر، فكتب إلى خالد وعياض بعد أن أزمعا الرحيل قائلاً:

"وَأْذَنا لمن شاء بالرجوع ولا تستفتحا بمتكارِه، واستنفرا من قاتل أهل الردة ومن ثبت على الإسلام بعد رسول اللهولا يغزونَّ معكم أحد ارتدَّ حتى أرى رأيي".

حتى في هذا الوقت العصيب الذي يريد فيه أكبر عدد من الجند لم ينس أبو بكر غاية الفتح وغاية الجهاد وهي الإطاحة بالوثنية والشرك في كل صوره ؛ فلم يرد أن يجعل في جيشه إلا من ثبتوا على إسلامهم حين فُتِنَ الباقون وارتدوا، فكان ما أراد ولم يشهد الذين ارتدوا هذه المعارك، حتى سمح لهم بعد ذلك عمر بن الخطاب ؛ وذلك بعد أن اطمأنَّ لإسلامهم.

ثم رجع من أهل المدينة ومن حولها مَنْ أَذِنَا لهم بالرجوع؛ وذلك حتى لا يكونوا مُكْرَهِين على القتال كما أمر بذلك أبو بكرالذي أراد من وراء ذلك ألاّ يتصدع الجيشان، وأن يكون كلاهما في كامل إيمانه.

وبذلك تناقصت قوات كلا الجيشين حتى لم يعد يبق مع خالد بن الوليد في النِّبَاج إلا ألفان فقط!!

رجل بألف.. وخالد يستنفر المؤمنين:



منذ أن تلقى رسالة أبي بكر الأولى كان قد جمع خالد بن الوليد جيشه، وانطلق من اليمامة حتى نزل النِّبَاج (على بعد مائتي كيلو متر، حوالي ثلاثين ومائة ميل من اليمامة)، على رأس ألفين كانوا قد بقوا معه.

وأمام هذا العدد الضئيل جدًّا كان أن كتب كل من خالد وعياض إلى أبي بكر يطلبان المدد.

فأمد أبو بكر خالدًا برجل واحد فقط هو القَعْقَاعُ بن عمرو التميمي، وقبل أن يتعجب خالد دهش أهل المدينة فقالوا لأبي بكر: "أتمد رجلاً قد انفضَّ عنه جنوده برجل؟!" فأجابهم قائلاً: "لَصَوْتُ القعقاع في الجيش خير من ألف رجل"، "ولا يُهْزَمُ جيشٌ فيهم مثل هذا".

والشيء نفسه حدث مع عياض بن غنم حين أرسل أيضًا يطلب المدد، فأمده أبو بكر أيضًا برجل واحد هو عبد بن عوف الحميري، وقال عنه أيضًا: رجل بألف رجل.

وكان أن ذهب القعقاع بن عمرو وحده على فرسه مددًا إلى خالد بن الوليد في النِّباج.

وفي حالة استنفار عام أرسل خالد بن الوليد برسائل المدد والعون إلى كل المحيطين به في هذه المنطقة، فأرسل برسالتين إلى قبيلة تميم، وكان فيهم سُلْمَى بن القَيْن (له صحبة وهجرة) فجاءه بألف مقاتل، وأيضًا كان فيهم حَرْمَلَة بن مُرْيِط (له صحبة وهجرة أيضًا)، وقد جاءه على رأس ألف أيضًا.

ثم كتب إلى المثنى بن حارثة -وكان بجنوب العراق، وهو الذي بدأ الغارات على العراق- أن يأتيه، وقد بعث إليه بكتاب من أبي بكر يأمره بطاعته، فكان أن سمع وأطاع، وجاء إليه مسرعًا على رأس جيش من أربعة آلاف مقاتل.

وكان مذعور بن عدي أيضًا في جنوب العراق، وكان مع المثنى بن حارثة وقد اختلف معه في بعض الأمور وتكاتبا إلى أبي بكر، فكتب إليه أبو بكر يأمره بالمسير مع خالد، فكان أن جاءه (مذعور) على رأس ألفي مقاتل.

ثم استطاع خالد بن الوليد أن يجمع مما بينه (في النِّباج) وبين العراق من قبيلتي ربيعة ومضر ثمانية آلاف مقاتل آخرين، وكل هؤلاء ممن لم يرتدوا قبل ذلك، وممن ظلوا على إسلامهم.

ونستطيع إذن أن نتحقق عدد الجيش كاملاً كما يلي:

- الأصل ألفان، وكانوا مع خالد بن الوليد منهم ألف من قبيلة طيِّئ الذين وقف فيهم عدي بن حاتم ومنعهم من الردة، وكانوا ممن ثبتوا على القتال، والألف الأخرى كانوا من صحابة رسول الله

- ألفان من قبيلة تميم، منهم ألف على رأسهم سُلمى، وألف على رأسهم حرملة.

- ستة آلاف من جنوب العراق، كان منهم أربعة آلاف مع المثنى بن حارثة، وألفان مع مذعور بن عدي.

- ثمانية آلاف من قبيلتي ربيعة ومضر.

ومن هنا كان إجمالي العدد الذي تجمع عند خالد بن الوليد في النِّباج ثمانية عشر ألف مقاتل، لم يسبق لأي منهم ردة وقد خرجوا طائعين، وهو عدد لم يجتمع لأحد من قبل من المسلمين أو غيرهم في الجزيرة العربية.

وكان من أهم ما يميز ذاك الجيش أن فيه خالد بن الوليد، وفيه المثنى بن حارثة، وفيه القعقاع بن عمرو، وفيه عاصم بن عمرو التميمي أخو القعقاع بن عمرو، وكان قد جاء مع جيش سُلْمَى بن القين، وكان أيضًا من أشد مقاتلي المسلمين مهارة، وسيكون له بأس في حروب فارس على نحو ما سيأتي.

على الجانب الآخر كان في مواجهة خالد بن الوليد أمير منطقة (الأُبُلَّة) من قبل فارس ويدعى (هرمز)، وكان هذا من أسوأ جيران العرب للعرب، حتى إنهم -العرب- باتوا يضربون به المثل في الخبث والكفر، فكانوا يقولون: أخبث من هرمز، وأكفر من هرمز!!

وكان هرمز هذا أميرًا على مدينة الأُبُلَّة، وهي مدينة كانت تقع -كما ذكرنا- في جنوب العراق، على مشارف الدولة الفارسية من ناحية الجزيرة العربية، وكانت يومئذ أعظم موانئ فارس على الخليج العربي -الفارسي آنذاك- شأنًا وأشدها شوكة.

وكان عندها نهر يسمى نهر الأُبلَّة، كان يعد في ذلك الوقت من جِنَانِ الدنيا، فكان حواليه من الحدائق وميادين النخل والأُتْرُج والنارنج، وأصناف الزروع والخضروات والقصور المتناظرة العظيمة ما تَحَارُ فيه العيون، ولا يُنظَر أحسن منه.

وكان هرمز هذا من شرفاء الفارسيين، وكان يلبس تاجًا مُرصَّعًا بالجواهر والفصوص والذهب، يقدر ثمنه بمائة ألف درهم، وكان تحت إمرته في الجيش أخوان من العائلة المالكة هما: قُباذ وأنوشجان، وذلك يعكس عِظَمَ أمر هرمز، ووثوق كسرى فارس فيه، وكان يُدعى آنذاك شيرويه.

في النباج وبعد أن اجتمع له ثمانية عشر ألفًا، بعث خالد بن الوليد برسالة صغيرة إلى هرمز أمير منطقة الأُبلة من قِبَل فارس، جاء فيها:

"أما بعد.. فأسلمْ تسلمْ، أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر بالجزية، وإلا فلا تلومنَّ إلا نفسك، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة".

وقد أرسلها مع أحد الفرس الذين كان قد أسرهم في موقعة اليمامة؛ وذلك أنه كان يعلم أن هذا الفارسي حين يذهب إلى هرمز سيقصُّ عليه ما كان منه -من خالد بن الوليد- في اليمامة، وكيف قاتل بجيش قوامه اثنا عشر ألفًا مائةَ ألفٍ ثم انتصر عليهم؛ مما يلقي الوهن والرعب في قلوب الفارسيين وقلب هرمز.

وما إن وصلت هذه الرسالة إلى هرمز حتى استشاط غضبًا؛ إذ كيف لهذا العربي الذي كانوا يتصدقون عليه وعلى كل العرب بفتات العيش -وكانوا (أي العرب) دائمًا ما يظهرون لهم (لأهل فارس) الطاعة والخنوع- كيف يجرؤ على إرسال مثل هذه الرسالة التي تحمل ذاك الحجم من التهديد والوعيد؟!

ومن فوره أرسل بالخبر إلى شيرويه في المدائن، ويستأذنه في قتال المسلمين وإرسال المدد له.

ومن (الأبلة) وبعد أن أرسل شيرويه بجيش كبير إليه تعجل هرمز إلى منطقة كاظمة، وهي على ساحل الخليج الفارسي وماؤها عذب، ظنًّا منه أنها مقصد خالد بن الوليد!! إلا أنه علم بعد ذلك أن خالدًا قصد الحفير، فكان أن عدل ثانية عن وجهته ومال إليها ليبادر هو خالدًا.

خطة خالد بن الوليد:

أما خالد بن الوليد فقد قسم جيشه إلى ثلاث فرق تسلك طرقًا مغايرة، فأرسل الفرقة الأولى وعلى رأسها المثنى بن حارثة. ثم الفرقة الثانية في اليوم الثاني وعلى رأسها عاصم بن عمرو التيمي، وجعله على الميمنة. والفرقة الثالثة أرسلها في اليوم الثالث وعلى رأسها عدي بن حاتم، وجعله على الميسرة.

ثم في اليوم الرابع خرج هو بنفسه على مقدمة الجيش، وواعدهم جميعًا عند الحفير في يوم معين.

ولقد كان لتقسيم هذا الجيش على هذه الفرق الثلاث عدة أغراض، كان منها ما يلي:

الغرض الأول: الاستفادة بأكبر كمٍّ من مياه الآبار المنتشرة في الطرق التي سيمرون بها.

الثاني: التغطية والتعتيم على عيون وجواسيس الفرس، فلا يستطيعون أن يعرفوا بالضبط وجهة الجيش الإسلامى، وأيضًا عدده. ومن ثَمَّ تظل قوات الجيش الفارسي في حيرة من أمرها حتى يفاجَئُوا بالواقع أمامهم.

كانت كاظمة -كما ذكرنا- وجهة هرمز الأولى، إلا أن عيونه أدركت أن خالد بن الوليد سيتجه بجيوشه شمالاً نحو الحفير ولن يتوجه إلى كاظمة. فما كان من هرمز -كما ذكرنا أيضًا- إلا أن عدل عن وجهته وبادر نحو الحفير تلك التي يقصدها خالد، ثم عسكر فيها ورتب بها جيوشه، وذلك قبل وصول خالد.

وبالمثل فقد اكتشفت عيون خالد أن هرمز قد وصل إلى الحفير وعسكر فيها، ولعله أراد أن يرهقهم، أو أنه لم يرد أن ينزل عليهم وقد تجهزوا له، فكان أن غيَّر مساره وحول اتجاهه إلى كاظمة!!

حينما علم هرمز بهذا الأمر استشاط غضبًا؛ إذ كيف يلعب به هذا الأعرابي، ثم أسرع بجيشه إلى كاظمة لملاقاة خالد بن الوليد هناك، وكان أن وصل الجيشان في وقت واحد، وبذلك يكون خالد قد فوَّت على الفرس فرصة إعداد الجيش قبل وصوله كما في المرة الأولى.

على عكس المسلمين لم يكن هرمز يعتقد الولاء في جنده، ولم يكن يأمن ثباتهم في المعركة؛ إذ إنه يعلم أنهم يحبون الحياة ويكرهون الموت، أما جيش المسلمين فقد قال عنه خالد بن الوليد يصفهم لهرمز: قوم يحبون الموت كما يحب أهل فارس الحياة.

ولكي يضمن عدم فرار جيشه قرر هرمز أمرًا عجيبًا عارضه فيه كثير منهم، إلا أنه أصرَّ عليه، وهو أن يقوم بربط كل عشرة من الجنود بسلسلة فيما بينهم، فإذا فكر واحد منهم أو اثنان في الهرب فلن ينجحا، اللهم إلا إذا هرب عشرتهم، وبعيد أن يحدث هذا!!

وقد احتج أناس منهم بأن قالوا معترضين: "قيدتم أنفسكم لعدوكم! فلا تفعلوا فإن هذا طائر سوء". وكان أن ردوا عليهم بقولهم: "أما أنتم فيحدثوننا أنكم تريدون الهرب".

بعد انتهاء هذا الأمر عبَّأَ هرمز قواته، وجعل على ميمنته قباذ، وجعل على ميسرته أنوشجان، ووقف هو في مقدمة الجيوش ينتظر خالد بن الوليد.

وعلى الجانب الآخر عسكر خالد في قبالة جيش فارس مباشرة يرتقب اللقاء.

موقعة الأبلة:


كان من عادة الحروب في ذلك الوقت، تلك التي تكون الخيول والمبارزة بالسيوف من أعمدتها أن يقف الجيشان على مقربة من بعضهما البعض كل منهما يرى الآخر، ثم يخرج أحد المقاتلين من أحد الجيشين ويطلب المبارزة مع أحد المقاتلين من الجيش الآخر، في نوع من استعراض القوة بينهما.

لكن هرمز كان يضمر في نفسه المكر والغدر بخالد بن الوليد؛ حيث قد نما إلى مسامعه أمر قوته وشجاعته، وأن قوة المسلمين في قوته، فكان أن عمد إلى أن يخرج هو ويطلب خالد بن الوليد باسمه للمبارزة، ثم تواطأ مع فرسانه على الغدر بخالد حين يشتبك معه بأن يهجموا عليه معه فيقتلوه.

وبالفعل امتطى هرمز فرسه، وانطلق إلى وسط الميدان ينادي فيقول: "رجل ورجل، أين خالد بن الوليد؟" فخرج إليه خالد وتقدم بفرسه حتى وصل إلى هرمز، والناس من الطرفين اشرأبَّت إليهما أبصارهم.

والتقيا فاختلفا ضربتين، ابتدأه خالد بضربة فتلقاها هرمز، ثم ضرب هرمز ضربة تلقاها خالد، وما فتئ القتال يحتدم حتى أحاطت حامية كبيرة من الفرس بهما حتى اختفيا بينهم، مع ما كان لمثل هذا التصرف غير المتعارف عليه في حروب ذلك الوقت من سمعة سيئة ووصمة عار في جبين أصحابه.

ومهما كان من أمر فإن خالد بن الوليد -كما يقول المؤرخون- قد اختفى عن الأنظار وسط هذه الحامية، إلا أن ذلك لم يشغله عن قتل هرمز، فظل يقاتله حتى قتله على فرسه! وظل يقاتل ويبارز تلك الحامية التي التفت حوله!!

وكان خالد بن الوليد t ثاني اثنين من المسلمين عُدُّوا ممن يستطيعون المقاتلة بسيفين اثنين في وقت واحد، وكان الآخر هو الزبير بن العوام

وقد ظل خالد يقاتل في هذا الموقف الشديد حتى هبَّ لنجدته القعقاع بن عمرو -من عُدَّ بألف رجل- واستطاع ومن معه تخليصه من بينهم.

في هذه الأثناء التحم الفريقان واستعَرَ القتال، وهجم المسلمون هجمة شرسة على الفرس، وقد فُتَّ في عَضُدِهم، وأخذ بهم (الفرس) الرعب كل مأخذ، خاصة بعد مقتل قائدهم (هرمز) أمام أعينهم في أول ضربة للمسلمين وأول قتيل للفرس.

ووهنت قوتهم وضعفت عزيمتهم عن قتال المسلمين، وقد ركب المسلمون أكتافهم وأعملوا فيهم سيوفهم في قتال لم يعهد؛ حيث كان كل من يقتل يجر معه باقي من في سلسلته، فكان فأل سوء على أهل فارس، وقد قتل منهم عدد كبير جدًّا، ولم يُقتل من المسلمين عددٌ يذكر في هذه الموقعة، وقد سميت بموقعة ذات السلاسل.

وكان من نتائجها أنِ اسْتحوذ خالد بن الوليد على كاظمة، وأخذ تاج هرمز (بمائة ألف درهم)، ثم أرسله هو وفيلاً كان في جيش الفرس ضمن خُمس الغنائم إلى أبي بكر الصديق في المدينة مع زَرّ بن كليب، وهو من صحابة رسول الله غير أن أبا بكر الصديق أعاد الفيل إلى خالد بن الوليد في كاظمة، ذلك الذي أدهش الناس في المدينة، حتى إن بعض النساء تساءلن: إن كان من خلق الله أو من صنع البشر! وقيل: إنه مات في طريق العودة.

فبعد أن انتصر خالد بن الوليد في الكاظمة أرسل سويد بن قطبة إلى الأبلة لفتحها وكانت حصنًا كبيرًا، وقد خرج أهله للدفاع عنه، وحين وصل سويد بن قطبة إلى الأبلة كان قد أتى الليل فدخل أهل الحصنِ الحصنَ ولم يحدث قتال، وكان هذا من عادة الحروب في ذلك الوقت.

وقد لحق خالد بن الوليد بسويد بن قطبة، وحين علم أهل الأبلة بذلك رفضوا أن يخرجوا من الحصن، وظلوا متحصنين به خوفًا من العُدَّة الكبيرة ومن خالد بن الوليد نفسه.

وقد أخبر سويد خالدًا بأنهم قد خرجوا له لولا قدومه (قدوم خالد)، فأراد خالد أن يعمل معهم الحيلة حتى يتركوا الحصن ويستدرجهم إلى معركة خارجه، فكان أن توجه بجيشه نهارًا أمام الحصن في اتجاه الحيرة، وقد أوهم المقاتلين الفرس داخله أنه ذاهب لفتح الحيرة، وترك سويد بن قطبة وحده في مقدمة الجيش، وفي الليل عاد خالد بن الوليد خلسة في ظهر جيش سويد بن قطبة.

ولما أصبح الصباح خرج جيش الفرس لقتال سويد ففوجئوا بالأعداد الضخمة، وفوجئوا بخالد بن الوليد في خلف الجيش، فدبَّ الرعب في قلوبهم وانكسرت معنوياتهم، فقال خالد بن الوليد لسويد: "احملوا عليهم؛ فإني أرى هيئة قوم قد ألقى الله في قلوبهم الرعب".

وبالفعل فكما يذكر المؤرخون فإن الفرس كانوا يسلمون رقابهم لسيوف المسلمين، حتى لكأنه لم يكن هناك قتال يُذْكَر من شدة رعب الفرس من قتال المسلمين، وانتصر المسلمون عليهم، وأرسل خالد بن الوليد معقل بن مقرن أحد الأخوة العشرة ليجمع السبي والغنائم من داخل الحصن.

وبعد إرسال خمس الغنائم إلى أبي بكر الصديق في المدينة، كان نصيب الفارس الواحد من المسلمين في هذه الموقعة ألف درهم، وهو رقم لم يعهده العرب في ذلك الوقت، ولم يكن العربي في هذه الفترة -كما يذكر المؤرخون- يحلم به وهو نائم!!

ومن الأبلة أرسل خالد بن الوليد جيشًا لإخضاع باقي المنطقة، وقد انتهى المثنى بن حارثة إلى "حصن المرأة" على نهر يسمى نهر المرأة، وكان لأميرة فارسية تدعى كامورزاد، فترك عليه أخاه المُعَنَّى بن حارثة لفتحه، وتوجه هو إلى "حصن الرجل" وهو زوج كامورزاد ففتحه، ولما علمت بذلك كامورزاد تخلت عن الحصن وفتحه المُعَنَّى، وقد تزوجها بعد أن أسلمت.

وبهذا يكون خالد بن الوليد قد فتح منطقة في جنوب العراق تكاد تكون ذات بأس وشدة، واستطاع أن يزلزل قلوب أهل فارس، الذين لم يتوقعوا لمرة واحدة أن يفكر العرب -مجرد تفكير- في حربهم!!

كانت الخطة التي وضعها أبو بكر الصديق لفتح بلاد فارس هي أن يتوجه خالد بن الوليد لفتح الحيرة في وسط العراق على نهر الفرات.

وإتمامًا لهذه الخطة، وقبل أن يترك الأبلة كان خالد بن الوليد يعلم ما لميناء الأبلة من أهمية قصوى؛ فهو يقع جنوب غربي فارس (إيران الآن)، ويطل على الخليج العربي (الفارسي) وشط العرب، وكانت تأتيه السفن من الصين ومن السند والهند؛ لذلك وضع ثلاث حاميات على حدود الأبلة لحمايتها، إحداها بقيادة قطبة بن قتادة، والثانية بقيادة سويد بن قطبة، والثالثة بقيادة شريح بن عامر، وجعل على هذه الحاميات الثلاث قائدًا واحدًا هو سويد بن مقرن، وجعل مقره الحفير على أبواب الجزيرة العربية وآخر حدود جيش خالد بن الوليد حتى يحمي مؤخرته حماية أكيدة.

وسويد بن مقرن هذا هو أحد الإخوة العشرة أبناء مُقَرِّن، الذين كان جميعهم في جيش خالد بن الوليد يجاهدون في سبيل الله، وقد ذُكر سويد قبل ذلك مرتين، المرة الأولى عندما خرج أبو بكر الصديق t بنفسه لحرب قبيلة بني شيبان عندما هجمت على المدينة في بداية حروب الردة، فكان سويد بن مقرن على مؤخرة الجيش، وكان أخواه النعمان بن مقرن وعبد الله بن مقرن الأول على الميمنة والثاني على الميسرة، وكان أبو بكر الصديق على المقدمة.

وكانت المرة الثانية التي جاء فيها ذكر سويد بن مقرن حين كان على قيادة الجيش الحادي عشر المتجه إلى تهامة باليمن لحروب الردة، وهذه هي المرة الثالثة التي يذكر فيها سويد في هذه الحروب، وقد تركه خالد بن الوليد على هذه الحاميات، ووكَّله بجمع الجزية والخراج من هذه المنطقة، واتجه هو شمالاً.

موقعة المذار:

بسبب ما حدث لجيوش فارس السابقة فقد أرسل (أردشير) كسرى فارس في ذلك الوقت جيشًا آخر بقيادة قارن بن يرقانس، وكان من القواد المهرة، فتوجه من الشمال من مدينة المدائن بحدود نهر دجلة حتى يصل إلى خالد بن الوليد، ولم يدر بخَلَده مطلقًا أن يجد في مواجهته خالد بن الوليد صاعدًا إليه.

كان خالد بن الوليد قد توجه شمالاً غربي نهر دجلة حتى مرَّ بحصن المرأة وحصن الرجل، وفتح مدينتين صغيرتين هما: (زندوارد) و(هرمزجرد) وصالح أهلهما على الجزية، ثم علم أن جيش "قارن" يتقدم من المدائن شرق دجلة ناحية الجنوب قاصدًا إياه.

فما كان من خالد بن الوليد إلا أن عبر نهر دجلة عن طريق بعض السفن التي اغتنمها من مدينة الأبلة، وتوجه شمالاً لمواجهة جيش "قارن" الذي لم يعلم بعدُ بهذا الأمر!

وعلى الجانب الآخر كان جيش "قارن" قد عبر نهرًا صغيرًا عند قرية المذار، ثم عسكر في هذا المكان (المذار)، ورتب جيشه فجعل نفسه على المقدمة، وجعل على ميمنته قباذ وعلى ميسرته أنوشجان، اللذين كانا على مجنبتي هرمز في موقعة كاظمة، التي قُتل فيها هرمز.

وإلى المذار أيضًا قد توجه جيش خالد بن الوليد وهو على التعبئة نفسها التي كان عليها منذ خرج من النباج، حيث مسلمة بن حارثة في المقدمة، وعاصم بن عمرو التميمي في الميمنة، وعدي بن حاتم الطائي في الميسرة.

التقى الجيشان في منطقة المذار، وقد خرج قارن يدعو للمبارزة فتسارع إليه خالد بن الوليد ومعقل بن الأعشى، فلحقه معقل قبل خالد فالتقت سيوفهما فَقَتَلَ معقلُ قارنًا في أول لقاء في المعركة تمامًا كما حدث في موقعة ذات السلاسل!!

وقد زاد ذلك من معنويات المسلمين وزعزع من معنويات جيش فارس، فتقدمت ميمنة المسلمين بقيادة عاصم بن عمرو التميمي وقتل أنوشجان قائد ميسرة الفرس، وبالمثل قتل عدي بن حاتم الطائي قباذ قائد الميمنة!!

وقد تبع ذلك هزيمة ساحقة للفرس قتل فيها منهم ثلاثون ألفًا، وغرق كثيرٌ ممن فَرَّ يريد العودة والعبور، وأخذ المسلمون يجمعون الأسلاب والغنائم من الجنود الفرس!!

وتجدر الإشارة هنا إلى التفريق بين الغنائم والأسلاب، أن الغنائم هي ما يجمع من الجيش بعد القتال من خيول وأسلحة وما إلى ذلك، أما الأسلاب فهي ما يأخذه المحارب مما على قتيله في الحرب.

وقد وزع خالد بن الوليد الأسلاب لمن سلبها، ووزع الغنائم عليهم، وبعث الخمس إلى أبي بكر الصديق في المدينة، وقد كان نصيب الفارس في هذه المعركة أيضًا ألف درهم، كما كان في موقعة كاظمة.

وكانت هذه هي أول مرة يجتاز المسلمون فيها نهر دجلة، وأول موقعة ينتصر فيها خالد بن الوليد شرق نهر دجلة.

الفرس وخطة الكماشة:


علم (أردشير) كسرى فارس في ذلك الوقت بانتصار جيش المسلمين في موقعة المذار، فأرسل جيشًا آخر بقيادة بَهْمَن جاذويه، وهو ممن تم شرفهم في جيوش فارس ومن كبار قادة الجيش.

وفي خطه شبيهة بخطة أبي بكر الصديق لفتح فارس توجه بهمن ناحية المذار حيث خالد بن الوليد، وفي الناحية الأخرى أرسل أحد قواده وهو أندرزغر إلى منطقة الولجة على حدود الجزيرة العربية، فيكون أندرزغر من خلف جيش خالد، وبهمن من أمامه فيحصراه في المذار بين فكي كماشة.

وصلت هذه الأخبار إلى سمع خالد بن الوليد -وهو ما زال بالمذار- عن طريق عيونه، وقدَّر هذه الخطة قدرها وأدرك خطورة تحرك الجيشين، فما كان منه إلا أن آثر التخلي عن كل ما اكتسبه من أرض شرق دجلة وما استحوذ عليه، والرجوع والتقهقر إلى منطقة الولجة لملاقاة أندرزغر.

وكان هذا الصنيع من قِبل خالد من صميم الحكمة وحسن التدبير؛ لأنه لو كان أصر على التمسك بما تحت يده لكان أتاه جيش بهمن من الشمال وجيش أندرزغر من الجنوب، والله أعلم بعاقبة الأمر حينذاك.

خالد ونجاح الخطة المضادة:


في الولجة كان قد نزل خالد بن الوليد، وقد وجد أن ميدان المعركة أرض منبسطة ليس فيها أشجار ولا مستنقعات، فعمل على خطة لمقابلة أندرزغر؛ حيث صفَّ قواته كما هي خطته المعهودة في ذلك، ثم أخفى خلف الجيش -وبعيدًا عن أرض المعركة- قوتين منفصلتين إحداها بقيادة بُسْر بن أبي رهم، والأخرى بقيادة سعيد بن مرة.

وبدأت المعركة واقتتل المسلمون والفرس قتالاً شديدًا، وصبر الفريقان لبعضهما حتى اقترب الليل وما زالت النتيجة لم تُحسم، وما زال خالد بن الوليد يخبِّئ قوتيه ويصبر عليهما حتى يَنهك عدوه ويَجهد.

وحين تيقن بلوغ الجهد ونفاد الصبر من الجيشين أمر خالد بن الوليد القوتين الكامنتين في الخلف بالالتفاف في دورة واسعة حول جيش فارس من الخلف، من حيث كانوا يتوقعون وينتظرون المدد من بهمن.

وفي مفاجأة مذهلة ومروعة وجد الفرس جيشي المسلمين على رءوسهم، فاختلط أمرهم ودبت الهزيمة في أوصالهم حتى لم يعد يعرف أحدهم -كما يقول الرواة- مقتل صاحبه، وقد عملت سيوف المسلمين في رقابهم، ومَنَّ الله على المسلمين بنصر مُؤَزَّر في منطقة الولجة.

موقعة أليس ونهر الدم:

في موقعة الولجة كان قد قُتِلَ اثنان من أبناء زعماء نصارى العرب، هما ابن عبد الأسود وابن جابر بن بجير، وكانا من قبيلة بكر بن وائل، ولما علمت قبيلة بكر بن وائل بذلك اشتد غيظها وحنقها على المسلمين، وكاتبت الفرس على الاشتراك معهم في قتال المسلمين.

وكان أن جهز نصارى العرب جيشًا كبيرًا وتجمعوا به في أُلَّيْس، وإلى أُلَّيْس أيضًا كان قد توجه أربعون ألف مقاتل من مدينة أَمْغِيشيا (معظم أهل المدينة تقريبًا، وهي على بعد أربعين كيلو مترًا من أُلَّيْس)؛ لينضموا إلى من اجتمع بها لحرب المسلمين، وكان أن انضاف إليهم مقدمة جيش بهمن وعلى رأسها جابان الذي أرسله بهمن لنفس الغرض.

وبهذا تكون أُلَّيْس هذه قد جمعت معظم أهل أَمْغِيشيا، إضافة إلى جيش الفرس بقيادة جابان، وبالإضافة أيضًا إلى نصارى بكر بقيادة جابر بن بجير وعبد الأسود، وبينما كان بهمن في طريقه إلى (أُلَّيْس) علم بمرض أردشير فرجع إلى المدائن فمكث بجواره ولم يشترك في هذا التحالف، وقد اجتمع للفرس في أُلَّيْس أكثر من مائة ألف مقاتل على رأسهم جابان ومن بينهم نصارى بكر بن وائل، وأيضًا أَمْغِيشيا وكانت تحت الحكم الفارسي.

كان خالد بن الوليد وجيشه -كما نعلم- ثمانية عشر ألف مقاتل؛ إذ لم يفقد في هذه المعارك عددًا يذكر وظل كما هو، وكان قد علم -وهو في الولجة- بتجمع هذه الجيوش له في أُلَّيْس، فعمد إليها وكأنه يبحث عن الفرس في كل مكان.

وفي أُلَّيْس قال نصارى بكر بن وائل لجابان: اجعلنا على المقدمة فنحن أعلم بالعرب وأقدر على قتالهم منك. فأجابهم جابان: لَئِن صدقتم لنجعلنكم عليها. وهنا ثار الفرس وقالوا: كيف ترضى لهؤلاء الأجلاف أن يقولوا لك: إنهم أفضل منا في قتال العرب وتوافقهم على ذلك؟! فرد عليهم جابان قائلاً: "إن كان لنا النصر فهم تحت إمرتنا، وإن كان للعرب (المسلمين) النصر فهم فداؤنا". وكان أن جعل جيشه في المؤخرة، وجعل نصارى بكر في المقدمة، فجعل جابر على يمينه وعبد الأسود على يساره، ومقدمة الجيش من أَمْغِيشيا.

جابان وخالد.. ضعف وشجاعة:

برغم أن جابان كان قائدًا محنكًا إلا أنه كان صاحب شخصية ضعيفة، فقد صادف وصول خالد بن الوليد وجيشه أن الفرس قد أعدوا طعام الغداء وجلسوا إليه، وعندها أمرهم جابان بأن يتركوا الطعام ويستعدوا للصدام مع المسلمين، ولكنهم عصوه وخالفوا أمره ظنًّا منهم أن ذلك سيعني للمسلمين أنهم لا يعتنون ولا يحفلون بهم.

وما إن انتهى إليهم خالد بن الوليد وقد رتب جيشه حتى خرج أمام الصف فنادى: "أين جابر؟ أين عبد الأسود؟" فجبنوا حتى خرج رجل يدعى مالك بن قيس، وكان أيضًا من زعماء بكر بن وائل، فقال له خالد بن الوليد: "يابن الخبيثة، ما جرأك عليَّ من بينهم وليس فيك وفاء؟!" يعني قتلك لا يَفِي بما أريد، ثم ضربه ضربة واحدة قتلَتْه!!

وعلى الفور زحف عليهم خالد بن الوليد وأقامهم عن طعامهم وأجبرهم على الحرب، فكان أن دارت رحاها واشتد سعيرها، بين جيش المسلمين وقوامه ثمانية عشر ألف مقاتل على رأسهم خالد بن الوليد بحكمته وقوته وشجاعته، وجيش جابان الذي يتكون من خليط من العجم والعرب وقوامه أكثر من مائة ألف مقاتل على رأسهم قائد ضعيف هزيل (جابان).

في لحظات فارقة وفي أشد من أي قتال سبق اقتتل المسلمون وجيش جابان قتالاً شديدًا مريرًا، وصبر كل من الطرفين للآخر، وصمد كل منهما لعدوه في محاولات مستميتة ظلت الحرب فيها سجال، حيث لم تثقل بعد أيّ من الكفتين، حتى شق ذلك على المسلمين.

وهنا نذر خالد بن الوليد نذرًا فقال: "اللهم إن لك عليَّ إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدًا أقدر عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم".

وكأن الله I كان ينتظر هذا النذر، فما أن انتهى خالد من دعائه حتى مالت الكفة لصالح المسلمين، وبدأت صفوف جابان تتضعضع فانكشفوا للمسلمين وقد منحهم الله أكتافهم، فنادى خالد في الجيش: "الأسر الأسر إلا من امتنع".

فأخذ المسلمون يأسرون ما استطاعوا من الفرس والعجم، يسوقونهم سَوْق البعير، حتى جمعوا منهم سبعين ألف أسير جُلُّهم من أَمْغِيشيا، وقد حبس خالد الماء عن الفرات، ثم وضعهم على حافته وقد وَكَّلَ بهم من يضرب أعناقهم فيه حتى ظلوا في ذلك ثلاثة أيام، ثم فتح عليهم الفرات فصار من أثر دمائهم أحمر قانيًا، فسُمِّيَ لذلك "نهر الدم"، وظل على ذلك قرونًا طويلة، حتى ذكر ابن بطوطة (القرن الثامن الهجري) في رحلاته أنه مَرَّ على نهر الدم، ذلك الذي وقعت حوله موقعة أُلَّيْس.

وبذلك أرهب خالد بن الوليد الفرس إرهابًا شديدًا، وفَتَّ في أعْضَادِهم هم ومن حالفهم، وقد وصلت أخبار ذلك النصر إلى أبي بكر الصديق في المدينة فأعجب إعجابًا شديدًا ببأس خالد بن الوليد، وأثنى عليه ودعا له بالتوفيق.

أَمْغِيشيا وفتح دون قتال:

قبل أن تصل أنباء تلك الهزيمة القاسية إلى المدائن، وفي محاولة لعدم منح الفرس الفرصة في الاستعداد والتجهيز، كان أن توجه خالد بن الوليد إلى أَمْغِيشيا على مسافة أربعين كيلو مترًا من أُلَّيْس، والتي قتل من أهلها في أُلَّيْس حوالي أربعين ألفًا، فوجدها خاوية من أهلها، وذلك من حين علموا بتوجه خالد إليها، وقد تركوا فيها أموالهم وأمتعتهم!

وإرهابًا للفرس وتهوينًا من شأنهم حين دخل أَمْغِيشيا (وكانت مدينة عظيمة البنيان مرتفعة القصور) أمر خالد بن الوليد بهدمها بالكامل، وكل ما كان في حَيِّزِها.

وقد أصاب المسلمون من السبي والغنائم فيها ما لم يصيبوه في معاركهم من قبل، فكان نصيب الفارس ألفًا وخمسمائة درهم، وكان من بين السبي رجل يدعى حبيبًا وكان نصرانيًّا، وقد أسلم حبيب هذا وأنجب غلامًا، كان هو الحسن البصري إمام التابعين.

وقد وصلت أنباء أَمْغِيشيا إلى أبي بكر الصديق فقال: "يا معشر قريش، عدا أسدكم (يعني خالدًا) على الأسد (يعني فارس)؛ فغلبه على خراذيله (يعني فرائسه)، أعجزت النساءُ أن يلدن مثل خالد".

وإلى هنا يكون قد تمَّ للمسلمين النصر في كاظمة، ثم الأبلة فالمذار فأُلَّيْس فأَمْغِيشيا، انتصارات تتلوها انتصارات، والحُلم هو الحيرة وقد بدت على الأبواب.

كانت هناك رغبة جامحة تراود خالد بن الوليد في الوصول إلى الحيرة؛ إذ منها سينطلق أميرًا على الجيشين -إذا وصل أولاً- في فتح المدائن عاصمة الفرس، وهذه الرغبة لم يعد الفرس غافلين عنها خاصة مرزبان الحيرة، الذي أيقن أنه صار في فوهة المدفع، وأن الدائرة لا شك عليه، خاصة بعد ما وصل إلى سمعه خبر أَمْغِيشيا وتبين مسار خالد.

معركة المقر وعودة المياه:

وكان خالد بن الوليد يجمع السفن في أَمْغِيشيا ليتوجه بها شمالاً عن طريق نهر الفرات تجاه الحيرة؛ خوفًا من أن يتعطل سيره على الأرض، خاصة والفصل ربيع حيث يفيض نهرا دجلة والفرات، حيث تصعِّب آثار الفيضان سير الإبل على الأرض.

وبهذا الأمر علم آزاذبه مرزبان الحيرة، فقرر أن يقوم بحيلة دفاعية من أجل أن يحول دون أن يبلغ خالد بن الوليد مأربه، فكان أن أرسل ابنه على رأس فرقة من الجيش إلى مكان يسمى المقر جنوبي الحيرة، وأمره بسد نهر الفرات وتفجير الأنهار الأخرى الفرعية، فلا تستطيع سفن خالد بن الوليد مواصلة السير.

وبالفعل قام ابن آزاذبه بما أمره أبوه؛ فجنحت سفن خالد بن الوليد في النهر حتى ارتاع المسلمون لذلك، إذ إنهم لم يتعودوا ركوب البحر الذي لم يدلفهم إليه بيئتهم الصحراوية.

وقد استنتج الملاحون -وهم من أهل البلاد- أن هذا لا يعدو إلا أن يكون من صنيع جيش فارس بسدهم الفرات، وتفجيرهم الأنهار عند المقر، مما جعل الماء يسلك غير سبيله.

وما إن سمع خالد بن الوليد من الملاحين تعليلهم حتى أخذ فرقة من الخيالة وتوجه من تَوِّهِ إلى المقر بهدف إعادة فتح مجرى الماء لإنقاذ سفن المسلمين في نهر الفرات، وعند المقر قابلته طليعة من طلائع ابن آزاذبه فأبادهم عن آخرهم، ثم تقدم نحو القوة الأساسية لجيش ابن آزاذبه فوجدها على فم الفرات في المقر، فاشتبك معهم حتى هزمهم هزيمة ساحقة وقتل ابن آزاذبه.

ثم تقدم خالد بن الوليد وفتح الفرات وسد الأنهار الفرعية، فعاد الماء إلى مجراه، وتقدمت سفن المسلمين مرة أخرى في اتجاه الحيرة، وتقدم هو بنفسه ومن معه من الفرسان حتى وصل إلى الخورنق جنوب الحيرة على مقربة منها.

وفي الوقت الذي قُتِل فيه ابن آزاذبه ووصل خالد إلى الخورنق كان أردشير كسرى فارس قد مات في ذلك الوقت في المدائن، الأمر الذي فَتَّ كثيرًا في عضد (آزاذبه)، فما كان منه إلا أن فر بجيشه شرق الفرات راجعًا إلى المدائن، وتاركًا الحيرة لأهلها يدافعون عنها.

وفي الحيرة كان هناك حصن كبير يعد من أقوى حصون فارس الجنوبية وهو قصر (الخورنق)، وكان يملكه النعمان بن المنذر الذي كان أميرًا على الحيرة قبل هذه الفترة، وقد بناه له مهندس رومي يُدعى (سنمار) في عشرين سنة، حتى لم يكن في التاريخ مثله منعةً وحصانةً وإبداعًا، ولما أتم بناءه صعد به النعمان إلى أعلى القصر وألقاه من فوقه ليقتله؛ وذلك حتى لا يبني مثله لغيره، وقد صار هذا مضرب الأمثال، فكان العرب يقولون: "جزاء سنمار".

وقد وصل خالد بن الوليد إلى هذا القصر المنيع وفتحه بسهولة، والذي كان من الممكن أن يحتمي به آزاذبه لولا ضعفه وخيانته لفارس، ثم تقدم ناحية الحُلْم، ناحية الحيرة أكبر مدن فارس الجنوبية، والتي لو فتحت لأصبح سهلاً على المسلمين التقدم إلى المدائن عاصمة الفرس.



يتبع لاحقا ...........​
 
رد: فتوحات العراق وفارس

فتح الحيرة والانبار


بعد أن فتح سيدنا قصر الخورنق توجه إلى "الحيرة"، وهي كما قلنا الحلم الذي يتسابق عليه المسلمون، وكانت الحيرة مدينة عظيمة من مدن العراق بل هي أكبر مدينة في جنوب العراق، وتقع هذه المدينة على نهر الفرات في مواجهة سواد العراق، أو في مواجهة الجزيرة بين نهري الفرات ودجلة على مسافة تكاد تكون قريبة من المدائن على مقدمة الصحراء، وعلى حدود تقترب من الشام ويمر عليها نهر الفرات الذي تأتيه السفن التجارية من السِّنْدِ والهِنْد والصِّين؛ فهذه المدينة من المدن المهمة جدًّا، وفيها من القصور والمباني الفاخرة الكثير، ويسكن معظمها نصارى العرب ولكن يحكمها الفرس كما قلنا، إذ كان يحكمها "آزاذبه" الذي كان أميرًا فارسيًّا عليها؛ لأنها كانت موالية للفرس منذ فترة طويلة منذ أن تملكها أو ترأس عليها النعمان بن المنذر وحتى هذه اللحظة، فهي مدينة قديمة وعظيمة في الفرس؛ ولذلك جعل سيدنا أبو بكر الصديق ملتقى الجيشين في الحيرة.

وصلت جيوش خالد بن الوليد ذات الثمانية عشر ألف مقاتل إلى الحيرة فوجدوا فيها أربعة حصون:

الحصن الأول: يُسمى القصر الأبيض، وكان فيه إياس بن قبيصة، وهو رجل نصراني، وكل أمراء الحصون من النصارى أيضًا، وحصن آخر يُسمى قصر العبسيين كان فيه رجل يسمى عدي بن عدي المقتول، وحصن ابن مازن فيه حيري بن أكان، وحصن ابن بقيلة وكان فيه عمرو بن عبد المسيح، وكان أكبر هؤلاء الأمراء، وفي بعض الروايات أنه تجاوز الأعوام المائة.

كانت هذه الحصون الأربعة من الشدة والمناعة، بحيث إن أهلها يستطيعون أن يمكثوا فيها أيامًا وشهورًا دون أن يكونوا بحاجة إلى الخروج منها.

وعندما وصل خالد بن الوليد t إلى الحيرة وجد جميع أهل الحيرة متحصنين داخل هذه الحصون الأربعة بعد أن تركهم (آزاذبه) بجيشه وانصرف إلى المدائن.

جعل خالد بن الوليد لنفسه قاعدة بعيدة عن القصور، وأرسل مجموعة من أمهر قواده لحصار هذه الحصون، فأرسل لحصار القصر الأبيض، وأرسل سيدنا ضرار بن الخطاب لحصار قصر العبسيين، وكان ضرار بن الخطاب هذا زميلاً لخالد بن الوليد منذ أيام "أُحُد" أيام الشِّرك، فقد كان ضرار في كتيبة خالد بن الوليد التي هزمت المسلمين في موقعة "أُحد"، وأسلم ضرار في ، وشهد مع خالد بن الوليد جميع الفتوح في ، وفي مواقعه في العراق، وهو ليس أخًا لعمر بن الخطاب، ولا لزيد بن الخطاب، لكنه أخٌ لهما في الإسلام.

القصر الثالث قصر ابن مازن عليه ضِرَار بن مُقرِّن وهو أحد الإخوة العشرة، أولاد مقرن المزني، ثم جعل خالد بن الوليد t حصار القصر الرابع قصر ابن بقيلة إلى .

وتقدمت الجيوش الأربعة لحصار هذه الحصون، وأرسل خالد بن الوليد إلى أهل هذه القصور الأربعة رسالةً تدعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، وأعطاهم مهلة يومًا يبدأ الضرب بعده.

بعد مرور المهلة بدأ المسلمون يرمون القصور بالأسهم والنبال، فسمعوا أهل القصور يقولون: عليكم بالخزازيف. وهذه الكلمة جديدة على المسلمين لا يعرفون معناها، ولكنهم ابتعدوا عن مرمى أهل هذه القصور، ثم ظهرت الخزازيف وهي عبارة عن مقاليع ضخمة تقذف كرات من الخزف، صُنِعَتْ هذه الكرات من الطين وأوقدت عليها النيران حتى أصبحت خزفًا فهي تشبه قنابل أو أحجارًا ضخمة تُقذَف بالمقاليع على جيش المسلمين، وكان من حُسْنِ تقدير المسلمين الابتعاد عن مرمى هذه القصور فلم تصبهم هذه الخزازيف بشيء، وكانت قوة الرمي عند المسلمين أقوى وأعظم، فكانت سهامهم تصل إلى داخل هذه القصور؛ فتصيب مَنْ بها من الناس ولا تفرِّق هذه الأسهم بين جندي وبين رجل غير مقاتل وبين راهب في معبد لا تفرق بين أحد؛ لأنها تسقط داخل القصور، فعندما كثرت الإصابات خرج الرهبان من ديارهم وقالوا: يا أهل القصور، والله ما يقتلنا إلا أنتم، فليس لكم إلا الاستسلام. وبالفعل اجتمع أهل هذه القصور الأربعة على الاستسلام، وكان أولهم استسلامًا أكبرهم سنًّا؛ عمرو بن عبد المسيح وأرسل إلى خالد بن الوليد رسالة يخبره فيها برغبته في التفاوض معه على الجزية.

خالد يدعو الأمراء إلى الإسلام :

بعد أن أعلنت هذه الحصون استسلامها خرج من كل حصن أميرُه، فأرسل أمراء الحصار من المسلمين مع كل أمير من أمراء الحصون الأربعة رسولاً ليوصله إلى خالد بن الوليد، وظلوا هم على حصار الحصون لئلا يكون هناك خديعة للمسلمين من أهل هذه الحصون، وقابل خالد بن الوليد كل أمير منهم على حدة، ثم قابلهم مجتمعين، وتحدث معهم وقال لهم: ماذا تريدون؟

قالوا: ما لنا بحربكم من حاجة، ولكن ندفع الجزية.

فقال لهم: والله إن الكفر لَفَلاةٌ مُضِلَّة (أي كالصحراء المتسعة التي يَضِلُّ من يسير فيها)، فعجبًا لكم كيف تُستَذَلُّون بأعجمي وتتركون العربي؟!

وحزن خالد بن الوليد على عدم إسلامهم، ووافق t على الجزية، وهو t -كما نرى- كان الأحبَّ إليه أن يسلم هؤلاء القوم ويتركهم وحالهم، ولكنهم أبوا أن يسلموا وأصرُّوا على ما هم عليه من الكفر والضلال.

قدَّر خالد بن الوليد t الجزية عليهم بعد أن قام بعدّهم وأخرج منهم المسنّين، فوصلت الجزية إلى مائة وتسعين ألف درهم في السنة، وسمِّي هذا صلح الحيرة، وكتب t عهدًا بذلك على أن يمنع المسلمون عنهم الأذى سواء من المسلمين أو من غيرهم، فلو أن الروم أرادوا حرب أهل الحيرة فعلى المسلمين أن يردوهم عنهم، وإلا فلا جزية عليهم، وذلك لأن الجزية مقابل الحماية، ووافق أهل هذه القصور الأربعة وأعطوا خالد بن الوليد t مائة وتسعين ألفًا من الدراهم بعد أن جمعوها في أكثر من شهر من أهل هذه القصور ممن يستطيعون القتال.

عدل المسلمين ونزاهتهم :

ووافق هذا الأمر عيدًا عند الفرس يُسمَّى عيد النيروز حيث كانوا في مدخل الصيف -وكان عندهم عيد آخر في مدخل الشتاء يُسمَّى (عيد المهرجان)- وكان من عادة الفرس في هذه الأعياد أن يذهبوا إلى القرى التي يمتلكونها من العرب، فيعطيهم العرب الهدايا أمنًا لجانبهم (أي إتاوة تُفْرَض على العرب من جانب الفرس)، وكان أهل الحيرة ممن تعودوا هذا الأمر؛ فأعطوا خالد بن الوليد من هذه الهدايا الكثير، إضافة إلى الـ 190.000 درهم، وعندما أرسل خالد t هذه الهدايا والـ 190000 ألف درهم إلى أبي بكر الصديق t في المدينة المنورة؛ أَبَى أبو بكر الصديق t إلا أن تُحْتَسَب هذه الأموال من الجزية، وتُردُّ لهم بقية هذه الأموال.

وبالفعل أُعِيدت الأموال الزائدة إلى أهل الحيرة، وكان لهذا الأمر أثر عظيم على أهل الحيرة الذين انتقلوا من المجوسية ومن النصرانية إلى الإسلام.
وبهذا فتح خالد بن الوليد أعظم مدينة في جنوب العراق، واتخذها قاعدة له ينطلق منها إلى غيرها من الأماكن.

كانت أولى مواقع المسلمين "كاظمة" في الفرس في شهر المحرم، ومَرَّ على المسلمين شهر صفر ثم أوائل شهر ربيع الأول، ففي أقل من ستين يومًا كان المسلمون يمتلكون هذه المنطقة.

علم خالد بن الوليد وهو في الحيرة أن هناك بعض تجمعاتٍ للفُرْسِ في مدينة كربلاء، وهي على بُعد مائة كيلو متر من الحيرة، فأرسل لها كتيبة بقيادة عاصم بن عمرو التميمي، ففتحها وقاتل أهلها وانتصر عليهم، وأصبحت "كربلاء" هذه حتى هذه اللحظة حدود المسلمين الشمالية في العراق.

علم خالد بن الوليد أيضًا أن (جابان) الذي كان يرأس جيش الفرس في موقعة (أُلَّيْس) وهرب منها بعد أن انتصر المسلمون على الفرس، قد تجمع ببعض الجيوش في (تُسْتَر)؛ فأرسل له جيشين: أحدهما بقيادة المثنى بن حارثة، والآخر بقيادة حنظلة بن الربيع. وتوجه الجيشان من الحيرة حتى حدود المذار، وقبل أن يتجاوزاه إلى "تستر" علم جابان بتقدم الجيشين فانسحب بجيشه إلى داخل فارس ولم يقاتل.

سيطر المسلمون سيطرة كاملة على هذه المنطقة، وبدأ سيدنا خالد بن الوليد يحاول أن يوسع دائرة أملاك المسلمين في هذه المنطقة، وأتاه في هذا الوقت أهل مدينة "باروسما"، وأهل مدينة "بانِقيا" يعاهدونه على الصلح؛ فذهب إليهم خالد بن الوليد، وقالوا له: إنهم يريدون الصلح على أن يعطوه الجزية. فوافقهم وأعطاهم كتابًا بهذا، وكان صلح "بارُوسما" و"بانِقيا" على ألفي ألف درهم في السنة وهو ما يساوي مليوني درهم؛ وذلك لأن هذه المنطقة كانت منطقةً غنيةً وحافلة بالناس، وفيها الكثير ممن يمتلكون الأموال فَقُدِّرت عليهم الجزيةُ بألفي ألف درهم في السنة، وأعطيت للمسلمين وبذلك قويت شوكة المسلمين، وأصلحوا من أسلحتهم ومن أمتعتهم، وصارت لهم السيطرة الكاملة في هذه المنطقة.

بدأ خالد بن الوليد يُعِدُّ الحاميات التي تحمى هذه المنطقة؛ فقد أصبح له من الجيوش في هذه المنطقة الكثير، فيقسِّم سيدنا خالد بن الوليد المنطقة الشمالية إلى سبع مناطق رئيسية، وجعل نفسه t في "الحيرة" حيث كانت هي المركز الرئيسي لإدارة الحرب، ثم جعل سبعة جيوش على حدود المنطقة التي فتحها المسلمون حتى الآن.

فجعل المثنى بن حارثة -وكان t في كل مواقع المسلمين هو قائد مقدمة المسلمين؛ لأنه كان أعلم الجيش بالعراق، وأقدر المسلمين على قتال فارس؛ ولأنه كان من قبيلة شيبان، وكان يسكن شمالي الجزيرة العربية، وكان يعلم هذه البلاد جيدًا، وكان أقدر على قتال الفرس، وهو أول من نصح سيدنا أبا بكر الصديق بقتال الفرس - على أقرب المواقع إلى الفرس "المدائن"؛ لأن هذه هي أخطر نقطة من نقاط المسلمين، وجعل ضرار بن الخطاب على رأس حامية، وضرار بن الأزور على رأس حامية، وضرار بن مقرن على رأس حامية، وبسر بن أبي رُهم على رأس حامية، وبسر هذا الذي كان قائدًا لأحد الفريقين اللذَيْن قاما بالكمين في موقعة الولجة كما نذكر، والكتيبة السابعة بقيادة عتيبة بن النهاس على حدود منطقة الحيرة الجنوبية، وجعل القعقاع بن عمرو على هذه المنطقة الواسعة في وسط العراق، والقعقاع بن عمرو في هذا الوقت كان بمنزلة النائب لخالد بن الوليد في الحروب، فهو نائب القائد الأعلى للقوات الإسلامية في ذلك الوقت فجعله خالد t قريبًا منه، ثم جعل هذه المنطقة كلها تحت إمرته مباشرة في الحيرة، وأمَّر سيدنا عاصم بن عمرو التميمي على كربلاء، وجعل على إمارة منطقة الأُبُلَّة -وهي من المناطق المهمة جدًّا- سيدنا سويد بن مقرن، وقسم الحاميات إلى ثلاث: حامية بقيادة حسكة الحنظلي، وحامية بقيادة الحصين بن أبي الحر، وحامية أخرى بقيادة عتيبة بن النهاس، فهؤلاء هم الأمراء الأحد عشر الذين عيَّنَهُم خالد بن الوليد على المناطق المختلفة التي فُتِحَتْ في العراق، وبدأ سيدنا خالد بن الوليد في شنِّ الغارات الخفيفة على أهل فارس رغبة في تجميع الغنائم وتقوية شوكة المسلمين، وبث الرعب في قلوب الفرس، وكثير من الفرس وأهل هذه المنطقة إما أنهم دفعوا الجزية أو أنهم أَجْلَوْا تمامًا عن المنطقة؛ لقوة وبأس المسلمين في هذا الوقت، ودامت السيطرة للمسلمين في هذه المنطقة.

موقف عياض بن غنم :

فعل خالد بن الوليد كل هذا، وما زال سيدنا عياض بن غَنْم يقف أمام أول حصن من حصون فارس من جهة المنطقة التي ذهب يفتحها -شمال الجزيرة العربية- وهي منطقة دومة الجندل، وقد كان حصنًا عظيمًا للفرس في شمال الجزيرة العربية، ولم يتمكن سيدنا عياض حتى هذه اللحظة من فتح هذا الحصن.

على الجانب الآخر نجد أن خالد بن الوليد قد أتم مهمته على خير ما يمكن أن يُتِمَّ قائدٌ مهمتَه، وهو يفكر الآن ماذا يفعل بعد أن أتم مهمته في وقت قياسي، فقد قطع مئات الكيلو مترات، وانتصر على مئات الآلاف ممن كانوا في جيوش الفرس، وفتح الحيرة وظل منتظرًا في الحيرة حوالي ثلاثة شهور، دون أن تصل أخبار عن انتصارات لعياض بن غنم، وهو الآن يفكر: هل أتوجه إلى المدائن لفتحها أم أذهب إلى عياض بن غنم لمساعدته؟ ولكن في توجهه إلى المدائن مخالفة لأمر أبي بكر الصديق t؛ لأنه قد أمر بأنه إذا اجتمع الجيشان في الحيرة يُؤَمَّر عليهما من يصل أولاً إلى الحيرة، ثم يتوجه الجيشان معًا إلى المدائن، وهذا هو الرأي الأصوب، فكيف يقاتل خالد بن الوليد في المدائن، وفي ظهره جيوش الفرس التي تحارب عياض بن غنم؟ وماذا يفعل إذا انتصرت هذه الجيوش على عياض؟!

كان من المفترض أن يتقدم عياض بن غنم من دومة الجندل بعد أن يفتحها إلى شمال العراق، ثم ينزل من شمال العراق حتى الحيرة، وهنا يقوم خالد بما كان يُتوقع أن يقوم به عياض، فيتوجه بجيشه من الحيرة إلى كربلاء والتي تقع في أقصى شمال المنطقة التي استولى عليها المسلمون وعليها عاصم بن عمرو التميمي، ويستخلف على الحيرة نائبه المظفر القعقاع بن عمرو التميمي، ويُوكِل إليه قيادة كل هذه الجيوش الموجودة في هذه المنطقة، ويأخذ معه جيشًا ويتوجه إلى "كربلاء"، وفيها يوافيه عاصم بن عمرو التميمي بالأخبار والأنباء عن موقف الفرس في هذه المنطقة.

فتح الأنبار وعين التمر :

وكان الفرس في هذه المنطقة يتجمعون في ثلاثة أماكن رئيسية؛ منطقة على نهر الفرات تُسمَّى الأنبار، وهي حصن منيع جدًّا من حصون الفرس، ومنطقة عين التمر، ومنطقة تُسمَّى الفِرَاض وهي قريبة من الشام، وكانت الشام تابعة للروم.

وبدأ خالد t بالتوجه إلى الأنبار بجيشه، وعندما وصل إليها وجدها محصنة بحصن منيع وحولها خندق عظيم، وكان من عادة الفرس في قتالهم أن يحفروا الخنادق حول الحصون -ولعلنا نتذكر رأي سلمان الفارسي t في غزوة الخندق والذي أشار على النبي بحفر خندق حول المدينة المنورة- وكان على إمرة الأنبار فارسي يُسمَّى "شيرازاد" وكان أميرًا جبانًا، فعندما علم بقدوم خالد بن الوليد قال: إذا قدم خالد فليس لنا إلا الهزيمة. وعندما وصل إليه خالد t خيَّره بين ثلاث: إما أن يُسلِم فَيَسْلَم، وله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وإما أن يعطي الجزية عن يدٍ وهو صاغر، وإما أن يُقتَل.

ولكن يُصِرُّ شيرازاد على القتال، وهو يعلم في داخل نفسه أنه مهزوم، ويقف أهل الأنبار أعلى الحصن ليرموا المسلمين، وبخبرته الثاقبة في الحروب يرى خالد بن الوليد t أن هؤلاء القوم يقفون أعلى الحصون دون أن يحاولوا الاختباء، فيقول لجيشه: والله إن هؤلاء قوم ليس لهم علم بالحرب؛ فسددوا أسهمكم إليهم في رمية رجل واحد واختاروا العيون!

ووقف الرماة المهرة في مقدمة صفوف المسلمين، واستعدوا للأمر، وفي لحظة واحدة أشار خالد بن الوليد فانطلقت مئات الأسهم من الجيش المسلم نحو أهل الأنبار ففُقِئَت في أول رمية ألفُ عين، ولهذا سُمِّيت هذه الموقعة موقعة (ذات العيون)، فأعلن شيرازاد ومن معه الاستسلام مباشرة، وقالوا: نرضى النزول على حكم المسلمين، ولكن لنا شرط واحد، وهو أن يخرج شيرازاد في حامية صغيرة من جيشه لا تتجاوز الجنود العشرة دون سلاح ودون مال إلى المدائن.

وهذا -كما نرى- هربٌ من المعركة، ووافق خالد بن الوليد حقنًا للدماء وحفاظًا على الأرواح، وخرج أولئك الجنود بشيرازاد وتوجهوا إلى المدائن، وعندما وصلها لامه بهمن جاذويه قائد الجيوش الفارسية على مقدمة المدائن، فقال له: كيف أقاتل من فقأ ألف عين في أول رمية؟!

ودخل خالد بن الوليد الأنبار، ولم يقتل فيها أحدًا؛ لأنه لم يكن هناك قتال، ولكنه سبى الكثير من أهلها، وكان منهم أربعون غلامًا يتعلمون الإنجيل في كنيسة من الكنائس، وكان من هؤلاء الغلمان الأربعين غلامٌ صغير يُسمَّى نُصَيرًا، وغلام آخر يُسمى سيرين، وقد أسلم كل منهما، وتزوج نصير وأنجب موسى بن نصير الذي ، وأنجب سيرين محمد بن سيرين أحد كبار علماء المسلمين، وأحد كبار التابعين.

وبعد أن انتهى خالد t من الأنبار توجه بعدها إلى عين التمر، وهي على بعد 100 كيلو مترٍ من الأنبار، ويعلم أهل عين التمر بما يقدم عليه خالد بن الوليد t ، وأهل عين التمر قسمان: قسم فارسي وقسم عربي، فهذه المنطقة كما نعرف منطقة عربية تحت إمرة فارسية، وكان على رأس القوة الفارسية في هذه المنطقة رجل يُسمَّى "مهران"، وعلى رأس القوة العربية النصرانية رجل يُسمَّى عُقة بن أبي عُقة، وكان هذا الرجل على درجة عالية من الغرور، فكان يقول لمهران: نحن أعلم بقتال العرب، فدعونا نقاتل العرب.

فيقول مهران: نعم، أنتم أعلم منا بقتال العرب، وأنتم مثلنا في قتال العجم.
وتقدم عَقَّة بن أبي عقة ليلاقي جيوش خالد بن الوليد، ويلوم الفارسيون مهران على قوله أن عقة والعرب أعلم منهم بقتال العرب، فيقول لهم: والله إني رأيت جيشًا لا يقف أمامه أحد، فقلت: أتّقيه بهم، فإن انتصروا فالنصر لكم، وإن هُزِمُوا جاء جيش المسلمين إلينا وفيه ضعف من أثر لقائهم.

وعسكر عقة بجيشه على مسافة 20 كيلو مترًا من عين التمر، في منطقة تسمى الرمالية، وتقدم خالد بن الوليد بجيشه والتقى مع هذا الجيش، ووقف الجيشان، وكعادة الجيوش يخرج واحد من كل جيش للمبارزة وإظهار القوة، وخرج من جيش العرب النصراني عقة بن أبي عقة ويطلب من يبارزه، ويخرج إليه خالد بن الوليد -ويا ويل عَقَّة من خالد!- ويفعل سيدنا خالد t شيئًا لم تعهده الجيوش ولا المحاربون قبل ذلك، فلم يقتل عَقَّةَ وإنما أطاح بالسيف من يده، ثم أخذه أسيرًا ورجع به إلى جيش المسلمين؛ إمعانًا في إذلاله وإظهارًا لقوة الجيش المسلم، ولأمر مهم ينتظر عُقَّة.

وعلى الفور بدأ جيش عُقّة يفرُّ هربًا من المسلمين ولم يحدث قتال يُذْكَر بين الفريقين، وظل المسلمون يتتبعون الجيش الفارَّ حتى "عين التمر".

وخلال مسافة الـ 20 كيلو مترًا من موقع المعركة وحتى عين التمر، يقتل المسلمون منهم ويأسرون، حتى يصل الفارّون إلى الحصن الذي كان فيه الجيش الفارسي بقيادة مهران، فيدخل منهم من يدخل، ويضيق الحصن عليهم فيغلق باب الحصن أمام باقي الفارِّين، ويقتل المسلمون مَن بخارج الحصن، ثم يقتلعون الباب ويدخلون، ويضعُ سيدنا خالد عُقّة في مقدمة الحصن من الداخل ويقطع رأسه، فتبلغ الهزيمة النفسية من أهل الحصن مبلغًا كبيرًا، ويُمْعِن المسلمون القتلَ فيهم، ثم يهرب الأمير الفارسي مهران إلى الشمال متوجهًا إلى المدائن كعادة الأمراء الفارسيين.

ويسيطر خالد بن الوليد على عين التمر التي كانت من نصيب عياض بن غنم، لكنّ خالدًا t كان له السبق في هاتين الموقعتين (الأنبار وعين التمر) اللتين كانتا من نصيب عياض t.

معركة دومة الجندل :

في هذا الوقت كان عياض بن غنم t ما زال في موقف صعب ويصل إليه مدد أبي بكر الصديق ، وعلى رأس المدد الوليد بن عقبة وكان في جيش خالد بن الوليد t ، وأرسله خالد إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهم جميعًا بالغنائم من موقعة "المذار"، ويعيده سيدنا أبو بكر مددًا إلى عياض بن غنم.

وعندما يصل إلى عياض بن غنم ويرى الموقف على هذا الوضع؛ المسلمون يحاصرون دومة الجندل، والمشركون في داخل الحصن، والعرب والفرس يحاصرون أجزاء من جيش المسلمين من حصن آخر، وكلا الفريقين أصابه التعب والإرهاق.

فيشير الوليد بن عقبة على عياض بن غنم أن يستعين بخالد بن الوليد، ويوافق عياض t ويرسل رسالة إلى خالد بن الوليد في "عين التمر"، وتصل الرسالة (ودومة الجندل هذه على بعد 500 كيلو متر من الحيرة وتقع في عمق الصحراء)، وبمجرد الانتهاء من الأنبار في 4 من رجب 12هـ، وعين التمر في 11 من رجب، تصل رسالة عياض بن غنم إلى خالد يرد عليه برسالة قصيرة من كلمتين فقط: "إياك أريد".

وأرسل الرسول بالرسالة، وتبعه بالجيش على الفور، وقطع هذه المسافة 500 كيلو مترٍ، وهي مسافة طويلة جدًّا، خاصة بعد أن خاض هذا الجيش الكثير من المعارك.

كان على رأس دومة الجندل اثنان من العرب أحدهما: أكيدر بن عبد الملك، والآخر يُسمَّى: الجودي بن ربيعة. أكيدر بن عبد الملك هذا كانت له تجربة سابقة مع خالد بن الوليد، وقد تعلم درسًا قبل ذلك من خالد .

فبعد غزوة تبوك أرسل النبي خالد بن الوليد في كتيبة لتأديب هذه المنطقة "دومة الجندل"، والتي كانت تساعد الروم على حرب المسلمين في تبوك، وكان على رأس هذه المنطقة ساعتها أكيدر هذا وأخوه حَسَّان بن عبد الملك، وتتقدم الكتيبة وتقتل حسَّان بن عبد الملك، وتأسر أخاه أكيدر وتذهب به إلى النبي، ويُطلقه الرسول على ألاّ يمس المسلمين بسوء، بعد أن يعاهده على ذلك، ويعيده الرسول إلى دومة الجندل ولكنه يخالف عهده مع الرسول، ويقاتل عياض بن غنم في أول مناسبة تسنح له بذلك بعد وفاة النبي .

إذن فقد خالف أكيدر بن عبد الملك العهد وعليه جزاؤه، ويتقدم خالد بن الوليد بجيشه فيقول أكيدر: والله لا يرى قومي وجه خالد إلا هُزِمُوا، قلُّوا أو كثروا، فالرأي أن نصالحهم. ولكن الجودي بن ربيعة يتجبر ويتكبر ويقول: كيف نصالحهم؟! لا بُدَّ أن نقاتلهم.

ولكن أكيدر بن عبد الملك يعلم حجمه أمام خالد ، ويأخذ بعض جيشه وينسحب هاربًا من دومة الجندل ويتوجه إلى شمال العراق، حتى يفلت من جيش خالد بن الوليد، ولكن مخابرات خالد بن الوليد كانت في منتهى الدقة، فقد علموا -وهم ما زالوا في الطريق إلى دومة الجندل- أن أكيدر بن عبد الملك قد هرب من طريق في شمال دومة الجندل متجهًا إلى العراق، فيرسل خالد كتيبة بقيادة الصحابي الجليل ، وكان على مقدمة جيش خالد بن الوليد في موقع المثنى بن حارثة الذي استخلفه خالد على أقرب نقطة من المدائن.

وتخرج هذه الكتيبة وتأسر "أكيدر بن عبد الملك" ويأتون به، فيقول لخالد بن الوليد: والله ما خرجت إلا لِتَلَقِّي الأمير!! ولا يقبل منه خالد بل يقطع رقبته.

ثم توجه خالد t بعد ذلك إلى دومة الجندل، وكان بها حصن منيع، ولكنه لا يكفي لأعداد الفرس والعرب النصارى، فيتوجهون لقتال خالد ، ويرسل خالد لعياض بن غنم أن يبقى كما هو في الجنوب ولا ينضم لجيش خالد، ويتجه خالد من شمال دومة الجندل حتى يفتحا المدينة، ويشتتا جيش الفرس والعرب الموجودين في هذا المكان بين الشمال والجنوب، واستطاع المسلمون أن ينفذوا هذه الخطة، ويقاتل خالدٌ t الجيش الأول بقيادة الجودي بن ربيعة، ويقتله بنفسه، وينتصر أيضًا جيش عياض بن غنم على الجزء الذي يقابله من جيش الفرس والنصارى، وبهذا يتم النصر للمسلمين في دومة الجندل وتُفتح في 24 من رجب 12هـ، أي بعد "عين التمر" بثلاثة عشر يومًا.

ثم بعد أن تمكن له الوضع في دومة الجندل؛ طهَّر هذه المنطقة وترك عليها حامية، وعزم على العودة بجيشه إلى عين التمر، وقبل أن يصل إليها تصل الأخبار إلى القعقاع بن عمرو خليفة خالد بن الوليد على "الحيرة" أن الفرس يحشدون الحشود لمقاتلة المسلمين، وكما نرى فخالد بن الوليد t في مكان بعيد تمامًا عن هذه المنطقة، وهو ما زال في دومة الجندل والحشود تحتشد لقتال المسلمين، والقعقاع بن عمرو بمفرده وليس معه خالد.

تُرَى ماذا يفعل القعقاع بن عمرو أمام هذه الجيوش العظيمة التي تحتشد له في شمال العراق لقتاله؟ وماذا يكون ردُّ فعل خالد بن الوليد عندما يعلم بهذا الأمر وهو في دومة الجندل؟

حملات خالد بن الوليد على العراق

نتحدث باختصار عن تحركات في فتح جنوب العراق؛ حيث بدأت الحملة في المحرم 12هـ، وقد بدأها خالد في مكان يُسَمَّى كاظمة، وانتصر المسلمون في موقعة ذات السلاسل في 12 من المحرم سنة 12هـ. ثم فتح خالد بن الوليد حصن الأُبلّة، وكان على رأس الفتح سويد بن قبّة، وكان هذا أيضًا في شهر المحرم. ثم انتقل خالد t في حركة مفاجئة إلى شرق نهر دجلة حيث موقعة المذار، وقابل الجيوش القادمة من المدائن بقيادة قارن، وانتصر المسلمون في شرق دجلة في المعركة الوحيدة لسيدنا خالد بن الوليد شرقي نهر دجلة.

ثم علم بتقدم الجيوش الفارسية من الشمال بقيادة بهمن، وفي عمق العراق بقيادة الأندرزغر إلى الولجة، فترك سيدنا خالد المزار وتوجه ناحية الولجة لمقابلة أندرزغر وانتصر عليه. وهنا نذكر الكمين الذي أعده خالد بن الوليد للجيوش الفارسية، وتحققت للمسلمين نتيجة حاسمة في هذه الموقعة وكانت في شهر صفر سنة 12هـ. وعندما انتهى سيدنا خالد بن الوليد من موقعة الولجة علم بتجمع الجيوش الفارسية مع الجيوش العربية النصرانية في مكان يسمى (أُلَّيْس) على شاطئ نهر الفرات، وكان عددهم يقترب من مائة ألف؛ فتقدم سيدنا خالد بن الوليد مباشرة من الولجة إلى أُلَّيس، ودارت موقعة شديدة نذكر أنه قُتِلَ فيها سبعون ألف فارسي وعربي في نهر مجاور لنهر الفرات، وسمي هذا النهر نهر الدم بعد هذه الموقعة.

ثم تقدم سيدنا خالد بن الوليد إلى مدينة أَمْغِيشيا التي كانت قد خلت من سكانها؛ لأن معظم الجيش قد قُتِل في موقعة أُليس، حيث قُتِلَ منهم حوالي40 ألفًا، ففتحها خالد بن الوليد دون قتال وهدمها؛ لإيقاع الرعب في قلوب أهل فارس.

ثم تقدم ناحية الحيرة فأرسل له "آزَاذِبه" أمير فارس على الحيرة ابنه إلى (المقرّ) حتى يفتح الروافد الفرعية لنهر الفرات، ويسد مجرى النهر الرئيسي؛ كي لا تستطيع سفن سيدنا خالد السير من أَمْغِيشيا إلى الحيرة، وبالفعل نجح ابن آزاذبه في ذلك، فتقدم سيدنا خالد من أَمْغِيشيا إلى المقرِّ ليقابل ابن آزاذبه، والتقى معه في موقعة المقرّ، وانتصر عليه، وقتله خالد.

كانت موقعة المقرِّ في شهر ربيع الأول، ثم تقدم خالد من المقرِّ إلى الحيرة فوجد أن آزاذبه هذا قد هرب إلى المدائن؛ فحاصر الحيرة واستطاع أن يفتح حصونها بعد فترة من القصف الإسلامي للحصون، وتمَّ ذلك للمسلمين في شهر ربيع الأول أيضًا في 12 من ربيع الأول؛ فتكون هذه المعارك قد بدأت من كاظمة إلى الحيرة في حوالي شهرين، وانتصر سيدنا خالد بن الوليد على الفرس في كل هذه المعارك، وفُتِحت حصونُ الحيرةِ وصالح أهلها خالد بن الوليد t على مائة وتسعين ألف درهم في السنة، ثم صالح خالد بن الوليد أهل "بانِقيا وباروسما" في الجزيرة ما بين دجلة والفرات على مليوني درهم في السنة؛ لأن هذه المنطقة كانت من المناطق الغنيِّة، ثم انتظر سيدنا خالد بن الوليد في الحيرة حوالي ثلاثة شهور دون قتال، ينتظر عياض بن غنم الذي كان يريد فتح دومة الجندل واستعصت عليه دومة الجندل؛ لشدة بأس الجيش الفارسي في دومة الجندل، ولشدة الحصون والقلاع الموجودة في هذه المنطقة، فلما تعسر على سيدنا عياض فتح دومة الجندل تقدم سيدنا خالد ليقوم بعمل عياض، فبدأ بفتح الأنبار. ونعلم أن الأنبار سُميت ذاتَ العيون؛ لأن جيش سيدنا خالد فقأ فيها عيون ألف من مقاتلي الأنبار، وفتح هذا الحصن في شهر رجب سنة 12هـ، ثم تقدم سيدنا خالد بن الوليد إلى "عين التمر" وانتصر فيها على الجيوش الفارسية المتحدة مع الجيوش العربية بقيادة عُقّة بن أبي عُقة، ونذكر أن سيدنا خالد انتصر على الجيش العربي أولاً في منطقة تُسمى الرمالية قبل أن يتقدم لعين التمر، ثم تقدم وفتح حصن التمر، ثم من عين التمر تعمق في الصحراء حتى يصل إلى دومة الجندل لمساعدة عياض بن غنم في فتح دومة الجندل، وقد ذكرنا أن المسافة بين الحيرة ودومة الجندل حوالي 500كم، وقد تمَّ له ذلك أيضًا في شهر رجب.


تحركات خالد لفتح جنوب العراق:

بعد أن تم فتح الأنبار وعين التمر ودومة الجندل -كل هذه البلاد والفتوح- في شهر رجب سنة 12هـ، وفي أثناء عودة خالد بن الوليد تجمعت الجيوش الفارسية في حُصَيِّد والخنافس فأرسل القعقاعُ بن عمرو -خليفة خالد بن الوليد على الحيرة- بعضَ الجيوش إلى حصيِّد والخنافس لمقابلة جيوش الفرس، ووصل خالد بن الوليد إلى عين التمر واتخذها مقرًّا له، وأرسل بعض الجيوش لمساعدة الجيشين اللذين أرسلهما القعقاع بن عمرو إلى حصيد والخنافس، وانتصر الجيش الإسلامي في هذه الموقعة "حصيد" على الفرس وجمع الكثير من الغنائم، وتمَّ له ذلك في شهر شعبان سنة 12هـ. وعندما علم الجيش الفارسي في الخنافس بهزيمة الفرس في حصيد القريبة جدًّا منهم، انسحب من الخنافس، وتم للمسلمين فتحها دون قتال. ثم تواعد خالد بن الوليد والقعقاع بن عمرو وأبو ليلى بن فدكي السعدي على فتح المُصَيِّخ، وتم ذلك للمسلمين في شهر شعبان أيضًا.

ثم تقدم سيدنا خالد بن الوليد من المصيخ إلى شمال العراق حيث الثني والزُّمَيْل وانتصر المسلمون في موقعة "الثَّنِيّ" أيضًا؛ لأنهم حاصروها من ثلاث جهات، وكانت المعركة معركة ليلية، ثم تقدَّم في الليلة نفسِها إلى موقعة "الزميل" وفتحها سيدنا خالد بن الوليد أيضًا، ولم يفلت من الثني أو الزميل أحد من الفرس والعرب المشركين والنصارى في هذا المكان. وكان هذا كله في شهر شعبان.

ثم تقدم من الزميل إلى الرباط، ولكنه وجد أن الرباط قد خلت من سكانها عندما علمت بهزيمة الثني والزميل. ونعلم أن أرض الرباط هذه أرض رومية، تقع في الحدود الرومية وليس في فارس، أقصى شمال العراق، وهي على بعد أكثر من 800 كم من الحيرة. قطع سيدنا خالد بن الوليد هذه المسافة بهذا الطول إلى الرباط، وكان t قد خرج من دومة الجندل في رجب ووصلها في شعبان.

ثم عاد سيدنا خالد بن الوليد من الرباط إلى الفراض واتخذها مقرًّا له، وبدأ في تنظيم الجيوش الإسلامية في المنطقة، وتوزيع الحاميات، وقضى فيها وشوال ثم أتى ذو القعدة وتجمعت في هذه المنطقة الجيوش الفارسية مع الجيوش الرومانية مع نصارى العرب؛ لحرب المسلمين بقيادة سيدنا خالد في موقعة الفراض، فتمَّ لسيدنا خالد بن الوليد النصر في 15 من ذي القعدة سنة 12هـ، وقُتِلَ من المشركين مائةُ ألفِ قتيلٍ. بعد ذلك ترك سيدنا خالد بن الوليد الجيش في الفراض وأمرهم بالتوجه إلى الحيرة، وأمَّر عليهم سيدنا عاصم بن عمرو، وتوجه هو ومعه أصحابه من الفراض إلى مكة لقضاء الحج هذا العام.

وبالفعل تم له الحج دون أن يستأذن سيدنا أبا بكر الصديق، وعاد من مكة إلى الحيرة مع وصول آخر جندي من جنود المسلمين إلى الحيرة، ولم يعلم الجيش بغياب سيدنا خالد بن الوليد ولا بحجه إلا عندما رأوا سيدنا خالدًا وأصحابه مقصِّرين محلِّقين، ثم مكث t في الحيرة شهرًا وأتاه خطاب سيدنا أبي بكر الصديق بأن ينتقل من الحيرة إلى اليرموك في الشام؛ لنجدة أمراء الشام الذين استعصت عليهم هزيمة الجيوش الرومانية الكثيفة الموجودة في اليرموك. وبالفعل قسم الجيش إلى نصفين: تسعة آلاف، وتسعة آلاف، وكانوا في البداية عشرين ألفًا، فيبدو أن قتلى المسلمين في هذه الفترة كانوا حوالي 2000 في كل الحروب التي اشترك فيها سيدنا عياض وسيدنا خالد، فكان المجموع 18 ألفًا، وبقي مع المثنى بن حارثة تسعة آلاف في الحيرة، وتوجه تسعة آلاف مع سيدنا خالد من الحيرة إلى الشام في عبورٍ كان عبورًا عظيمًا، فقد اجتاز شمال صحراء السماوة من العراق إلى الشام، ووصل خالد بن الوليد إلى الجيش الإسلامي الموجود في اليرموك.

وسوف نتحدث عن الجيش الإسلامي في اليرموك في فتوح الروم إن شاء الله.

استخلف خالد t على 9000 من الجنود، وأخذ معه تسعة الآلاف الأخرى، ونائبَه التميمي، وأخذ معه أيضًا وضرار بن الخطاب، وأصبح الموقف في الحيرة من الصعوبة بمكان.


نظرة تحليلية لعمليات خالد في العراق:

كان فتح خالد بن الوليد للعراق بمنزلة مفاجأة من الطراز الأول من الناحية الاستراتيجية، فقد فعل ما لا يتوقعه العدو، وذلك في أكثر من جانب. ومن هذه الجوانب:

1- غزو العراق من الجنوب:

تقدم خالد لفتح العراق من منطقة كاظمة -كما ذكرنا- ثم صعد إلى الحيرة، وذلك بناء على خطة أبي بكر الصديق بأن يفتح خالد العراق من الجنوب وعياض بن غنم من الشمال، ثم التقاء الجيشين في فارس. فهذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يُفتح فيها العراقُ من الجنوب، فمن المعروف أن منطقة جنوب العراق كلها منطقة مستنقعات من المياه، وبها أنهار فرعية كثيرة، وبها موانع طبيعية كثيرة، وكان يستعصي على أي جيش أن يجتاز هذه المنطقة نظرًا للصعوبة البالغة في ذلك، وكانت هذه المنطقة تمتلئ بالأشجار والغابات، وكانت تُسمى السواد، وكانت الأنهار تفيض كثيرًا ولم يكن بها سدود تمنع الماء، فكانت الفيضانات تغمر هذه الأراضي، هذا فضلاً عن الأشجار الكثيفة التي تغطي المنطقة بكاملها.

ومن ثَمَّ كان من الصعوبة بمكان أن يدخل أي جيش هذه المنطقة، أو يمرَّ منها ليصل إلى بلاد فارس العظيمة، أو إلى أي مكان من خلالها.

وفي التاريخ مرَّت كثير من الجيوش من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق، وكلها كانت تتجنب الدخول أو الاقتراب من هذه المنطقة؛ نظرًا للصعوبة البالغة والمشقة الكبيرة المترتبة على هذا الأمر.

ونذكر حروب الفرس مع الروم وهي كثيرة، وكانت كلها عبر شمال العراق، ونذكر قيام قمبيز -وكان ملكًا فارسيًّا- بفتح الشام والتوجه إلى وتمَّ له ذلك، وكان عن طريق شمال العراق. ونذكر أيضًا تقدم جيوش الإسكندر الأكبر من مصر إلى فتح الهند، فقد سار من شمال العراق -مع أنه كان من الأقرب له أن يسير من جنوب العراق- ونزل من فارس إلى الهند ليفتحها تجنبًا لخطورة المنطقة في شمال العراق. ولم يكن أهل فارس يتوقعون أن يأتيهم جيش من هذه المنطقة، ومن هنا كانت حصون فارس في هذه المنطقة ضعيفة، وليست كالحصون التي شيدوها في الشمال وفي الداخل. وقد تعود أهل فارس في هذه المنطقة في حالة حروبهم أن يتحصنوا داخل حصونهم القوية المنيعة، ولديهم من الطعام والشراب ما يكفيهم مدة كبيرة؛ حتى يملَّ الجيش المهاجم فيرحل عنهم.

ولكنهم لم يكونوا يعتقدون أن أحدًا سيأتيهم من هذه المنطقة التي يصعب اجتيازها على أقوى الجيوش، فكانت حصونهم فيها ضعيفة، وكان أقواها حصن الحيرة وحصن الأبلَّة وحصن المرأة وحصن الرجل وحصن الأنبار وحصن عين التمر وحصن دومة الجندل، وكانت كل هذه الحصون متفرقة، ولم يكن يربط بينها أسوار كما في داخل فارس، ولم يكن هناك خنادق إلا خندق سابور من كاظمة حتى الشمال، ولكنه كان مهجورًا لندرة الحاجة إليه، وخندق آخر كان محفورًا حول الأنبار، فكانت هذه المنطقة من المناطق الضعيفة.

كما كانت المنطقة الجنوبية لفارس -أيضًا- مواجهة لجزيرة العرب، وكان ما تعرفه فارس عن العرب هو أنهم مجموعة من الأعراب ليست لهم أهداف إلا أن يحصِّلوا بعض الطعام، وبعض المال الذي يكفيهم مئُونة العيش، ولم يكن يخطر على بال عربي أن يدخل في حرب مع دولة فارس، والعرب بالفعل لم يدخلوا مع فارس في حرب قبل ذلك، إلا موقعة واحدة في التاريخ تُسمَّى "ذا قارٍ" وفيها قامت مجموعة من القبائل العربية بقتال إحدى مناطق فارس الجنوبية قرب الحيرة، وتمَّ لهم بعض النصر وعادوا مباشرة إلى الجزيرة العربية ومكة، وكانت تلك الحملة الصغيرة ردًّا لشرفهم؛ نظرًا لأنه كانت هناك هجمة فارسية على بعض القبائل العربية القريبة من فارس.

ومن ثَمَّ كان فتح المسلمين للعراق من الجنوب مفاجأة استراتيجية لفارس.

2- قام خالد أيضًا بمفاجأة "تكتيكية" في أسلوب القتال، فكان مما فاجأ به الفارسيين مفاجأة الزمان، فقد كانت كل معاركه تتسم بالسرعة في الحركة، ولم يكن أهل فارس يعهدون هذه السرعة، فقد كانوا على تَعَوّد أن يستعدوا للجيوش التي تقدم عليهم، ويكون لديهم من الوقت -بعد علمهم بأمر هذه الجيوش- ما يكفيهم للاستعداد لها، لكنّ سيدنا خالدًا t كان يمتلك من سرعة الحركة ما أدهش الجيوش الفارسية، فكل حروبه t في العراق تتسم بسرعة الوقت، وكان t يسبق الخبر. وعلى سبيل المثال في معركة الحصيد والخنافس لم يكن خالد t ساعتها في الحيرة، لكن القعقاع t أرسل جيشين إلى حصيد والخنافس كي يسيطرا على المنطقة قبل أن تصل الجيوش الفارسية إليه، وهي على بعد 100 كم من الحيرة، بينما وصل الخبر من المدائن إلى الأنبار إلى الحيرة ثم إلى حصيد والحنافس، وهذه المسافة تقترب من 400 كم إلى القعقاع، فأرسل جيوشه مسافة 400 كم أسرع من الجيوش الفارسية مسافة 100 كم فقط، وهذا يدل على سرعة حركة المسلمين والبطء الشديد للجيوش الفارسية في تلك الآونة.

موقعة الثني والزميل أيضًا وهما على بُعْدِ حوالي 150 كم من منطقة المصيخ، ومع هذا تقدم خالد من المصيّخ حتى الثني والزميل في وقت قصير جدًّا، فقد كانت موقعة المصيخ في 17 من شعبان، والثني والزميل 25 من شعبان، فكان بين الموقعتين ثمانية أيام فقط، وكانت الجيوش الإسلامية في الثني ليلاً وفي الزميل في الليلة نفسِها، وكان هذا شيئًا عجيبًا، وغريبًا أن يقوم الجيش بمعركة في مدينة، وفي الليلة نفسها يصل إلى الثانية قبل أن يصل خبر سقوط المدينة الأولى إلى المدينة الثانية، ويهزم كلا الجيشين في كلتا المدينتين!!

3- اختيار المكان الأنسب للقتال:

كان خالد بن الوليد يحسن اختيار المكان الذي يقاتل فيه، ونذكر هنا موقعة كاظمة، فقد كان في نية خالد t التقدم إلى "الحفير" وهي منطقة تقع في غرب كاظمة، ولكن لما علم بذلك هرمز أمير الأبلّة وكاظمة توجه بجيشه إلى الحفير، فعلم بذلك خالد بن الوليد فغيّر مكان القتال، وعلى الفور انتقل إلى كاظمة واختار مكان القتال، وجاء الجيش الفارسي دون أن يكون مستعدًّا لقتال جيش خالد بن الوليد.

واختار خالد أيضًا منطقة الولجة مكانًا للقتال، ولما علم بتقدم جيش بهمن جاذويه من المدائن إلى المذار في شرق نهر دجلة، وعلم بتقدم جيش الأندرزغر من المدائن إلى الولجة حتى يحيطه من الجنوب، فخشي أن تحيطه الجيوش الفارسية من الشمال ومن الجنوب، فانسحب بجيوشه من المذار إلى الولجة، واختار هو مكان المعركة "الولجة"، وتمَّ له النصر على جيش الأندرزغر، وتم له أيضًا النصر بعد ذلك في موقعة أُلَّيْس على بهمن جاذويه.

إذن فاختيار المكان كان إحدى المفاجآت التي حققها خالد بن الوليد t في انتصاره على الجيوش الفارسية.

4- سلاح الكمائن:

لم يكن الفرس يعرفون الكمائن أو يسمعون عنها، وفي معركة الولجة خبّأ خالد جيشين كاملين لم يشتركا في القتال: أحدهما بقيادة بُسر بن أبي رهم، والآخر بقيادة سعيد بن مرّة، وعندما اشتد القتال وحمي الوطيس وكاد صبر الفريقين أن ينفد، أشار خالد إلى الجيوش المختبئة فالتفَّت حول الجيوش الفارسية في دائرة واحدة، وباغتتها من ظهرها حيث كانوا ينتظرون أن يمدّهم بهمن جاذويه بمدد، وكان انتصارًا كبيرًا للمسلمين.

5- الحيلة في الوصول إلى الأعداء:

كان لخالد t أيضًا في فتح الأنبار مفاجأةٌ في الأسلوب الحربي الذي اتبعه، فقد كان حول الأنبار خندق عميق لا تستطيع الخيول أن تقفز من فوقه، ويقف هذا الخندق عائقًا أمام الجيش المسلم، لكن خالدًا بعد أن فُقِئَت من عيون أهل الأنبار ألف عين، قرر أن يجتاز هذا الخندق، فأمر بأن تُنْحَر ضعافُ الإبل وتوضع في الخندق وتمر عليها الخيول، ثم تقدم الجيش المسلم واقتلع باب الحصن، فاستسلم أهل الحصن والجيش الفارسي على الفور.

6- الحرب الليلية:

كانت الحروب في هذه الفترة وقبلها نهارًا فقط، وعندما يأتي الليل تنفصل الجيوش بشكل تلقائي عن بعضها، حتى يأتي فجر جديد فيبدأ القتال، ولم يكن قتال الليل محبَّذًا طيلة هذه العصور وحتى بعد عصر خالد بمئات السنين؛ لأن الجيوش لم تكن تستطيع معرفة الأماكن الآمنة وأماكن الجند، إلى أن جاء القرن التاسع عشر عندما اختُرِعَ "اللاسلكي".

لكن خالدًا استخدم أسلوبًا جديدًا على الفرس، لم يعهدوه ولم يعهده أحد من قبل، وهو أنه هاجمهم ليلاً -في موقعة المصيخ- ومن ثلاث جهات، وانتصر جيش المسلمين ولكن هرب منها بعض الفرس وبعض العرب ومنهم الهزيل بن عمران، وكرر خالد هذه التجربة في الثني -وكان قد استفاد بعد "المصيخ"- ولم يفلت من الثني أحد، وكان تحقيق النصر بنسبة 100 %.

وانتقل إلى منطقة الزُّمَيل في الليلة نفسها قبل طلوع الفجر، ولم يفلت منهم أحد.

7- مفاجآت خالد في التحركات التي تبدو غير منطقية:

فقد تحرك من "عين التمر" إلى دومة الجندل، والتي تبعد 500 كم من الحيرة، فكيف يُتَصَوَّر أن جيشًا يفتح كل هذه البلاد ويترك فيها الحاميات، ويتركها في مواجهة "المدائن" أقوى حصون فارس على مَرِّ التاريخ، والجيش الفارسي على مقربة منهم، ولكنه يترك كل هذا ويتوجه بجيشه بسرعة عجيبة ويساعد جيش عياض بن غنم في دومة الجندل، ثم يعود مرة أخرى إلى عين التمر، وهو مطمئن تمامًا على الحاميات القليلة الموجودة في هذه المنطقة، ويعدّ ما فعله خالد t حدثًا مفاجئًا لا يتوقعه على الإطلاق الفرس الموجودون في دومة الجندل، والذين كانوا يحاربون عياضًا .

ومن التحركات غير المنطقية أيضًا موقعة المذار، وقد ذكرنا أن خالدًا كان يتقدم من موقعة الأُبلَّة، ثم عبر شط العرب إلى المذار ببعض السفن التي كانت معه، وتقابل مع جيش الفرس الذي كان بقيادة قارن، ولم يكن "قارن" هذا يتوقع مطلقًا -عندما وصل إلى المذار- أن يجد فيها جيش خالد بن الوليد، ولأنه قادم من شمال المدائن كان يتوقع أن يصل إلى شط العرب، ويعبر هو إلى خالد بن الوليد، ولكنه فوجئ بأن سيدنا خالد هو الذي عبر إلى منطقة المذار.

أيضًا من التحركات التي تبدو غير منطقية التوجه إلى الثني والزميل في أقصى شمال العراق، فكيف لجيش يسيطر على هذه المنطقة بكاملها أن يتوجه من الحيرة مسافة 800 كم إلى الرباط، وهو ما لم يتوقعه الجيش الفارسي على الإطلاق، وباغتهم خالد t في أماكنهم.

8- المهارة القتالية:

لا شك أننا نذكر قتل هرمز، وكان أحد عظماء الفرس في القتال، ولكن خالدًا t بارزه في موقعة كاظمة في بداية المعركة، وقام هرمز بخيانة حيث جمع بعض حاميته لتحاصر خالدًا ، ولم يكن هذا من عهد الجيوش في القتال، بل كان السائد أن يبارز رجل رجلاً، ثم تبدأ الحرب بعد ذلك، ولكن خالدًا قتل هرمز، وكان هذا شيئًا عجيبًا حيث كان هرمز محاطًا بحامية كاملة من الجيش الفارسي، وكان خالد الوحيد في جيشه ومعه الزبير بن العوام اللذان يستطيعان القتال بسيفين معًا.

وكانت المهارة القتالية أيضًا عندما قابل خالدٌ عُقَّة بن أبي عُقَّة، وطلب عُقّة المبارزة فخرج إليه خالد وأطاح بالسيف من يده وحمله من على فرسه، وأتى به إلى جيش المسلمين، وكان هذا أيضًا من الأمور العجيبة، فقد كان عُقة هو أشجع جيشه وأقواهم؛ ومن ثَمَّ خرج يطلب المبارزة، ولكن خالدًا أسره ببساطة، وكان هذا الأمر من مهاراته القتالية.

ومن مفاجآت فتح الأنبار أيضًا فَقْأُ ألف عين من عيون أهل الأنبار، فكانت مهارة عالية، وأخذ كامل بالأسباب.

9- القدرة على تشتيت العدو:

وفي هذا الإطار نذكر أن خالدًا-وبتوجيه من أبي بكر الصديق كان يفكر دائمًا في حصار الفرس وقتالهم من أكثر من جهة، وكان هذا الأمر -أيضًا- من الأشياء الغريبة على أهل فارس، ورأيناه في بداية فتح العراق من حيث إحاطتها من الشمال والجنوب بسيدنا خالد وسيدنا عياض، والالتقاء في الحيرة، وكذلك سقط حصن دومة الجندل تحت تأثير الهجمات الشمالية والجنوبية، وهوجمت كذلك المصيخ والثني والزميل من ثلاث جهات مختلفة؛ جيش خالد بن الوليد، وجيش القعقاع بن عمرو، وجيش أبي ليلى بن فدكي السعدي، وانتصرت الجيوش الإسلامية في المواقع الثلاثة، فلم يكن في ظن الجيش الفارسي أن تأتيه الجيوش من الجهات الثلاث.

10- استخدام عنصر المبادأة:

كان خالد بن الوليد t يعتمد مبدأ المبادأة في معاركه كلها، وهو أن يبدأ عدوه بالهجوم ولا ينتظر أن يبدأ العدوُّ بالهجوم. يقول الخبراء العسكريون: إن الذي يمتلك الضربة الأولى يمتلك ما يقرب من 50 % من النصر، وحسبما تكون قوة هذه الضربة تتضاعف نسبة النصر، لكنها لا تقل غالبًا عن 50 %. وهذا ما كان يحدث الهزيمة في صفوف الفارسيين، فكان خالد بن الوليد في كل حروبه تقريبًا هو الذي يبدأ القتال، وعلى سبيل المثال موقعة المذار وعبوره شط العرب، وموقعة الولجة وانسحابه من المذار كلية إلى الولجة، وموقعة عين التمر، وغيرها من المعارك، فكانت هذه بعض المفاجآت التي حققها المسلمون في حروبهم مع الفرس.

11- الرد السريع من المسلمين:

عندما فتح ابنُ آزاذبه الأنهار الفرعية في "المقرّ" وسدَّ نهر الفرات فجنحت سفن خالد بن الوليد في المياه المتجهة من أَمْغِيشيا إلى الحيرة، فتوجه خالد سريعًا إلى منطقة المقرّ ومعه فرقة من جيشه، وقاتل ابن آزاذبه وقتله وانتصر على جيشه، وسفن خالد ما زالت بالنهر، وفتح نهر الفرات وسدَّ الأنهار الفرعية، وتسير السفن الإسلامية مرة أخرى من أَمْغِيشيا إلى الحيرة، فكان لهذا الرد السريع أثره على آزاذبه، فانسحب سريعًا من الحيرة وتركها لأهلها.

أيضًا نرى ردَّ الفعل السريع للقعقاع بن عمرو في "حُصَيِّد والخنافس" وكانتا مهددتين بجيشين من الفرس، وكان الجيش الإسلامي بكامله موجودًا في دومة الجندل، فأرسل عروة بن الجعد إلى "الخنافس"، وأرسل أبا ليلى بن فدكي السعدي إلى "حصيد"، ولم ينتظر قدوم خالد واستشارته في الأمر، وكان هذا مما أحبط الفكرة الفارسية في الهجوم على "الحصيد والخنافس".

12- تأمين الحملات الحربية الإسلامية:

كان هذا أيضًا مما يميّز حروب خالد بن الوليد فكان لكل جيش من جيوشه مقدمة تكتشف الطريق وتحدث الرعب في قلوب الفرس، وكان لهذه المقدمة من القوة والمهارة ما يزلزل الجيوش الفارسية، وكان على رأس هذه المقدمة دائمًا المثنى بن حارثة ، وكان اختياره من حكمة سيدنا خالد ؛ لأن المثنى هو أعلم المسلمين بأرض فارس والعراق.

كما كان خالد يؤمِّن المؤخرة أيضًا، ورأيناه عندما ترك الأُبلَّة وتوجه إلى فتح الحيرة ترك على الأبلّة حامية من ثلاث جهات نظرًا لأهميتها، وترك سويد بن مقرّن في الحفير للسيطرة على المنطقة الجنوبية، وظل سويد في مكانه حتى غادر خالد بن الوليد العراق إلى الشام، وظل في مكانه يحمي هذه المنطقة.

وكذلك كان يؤمِّن جيشه، فرأيناه -عندما شعر أن الجناح الأيمن مهدد من قِبَل جيش "قارن" الذي يأتي من المدائن ناحية "المذار"- يعبر شط العرب ويتقابل مع جيش قارن في شرق دجلة، فأمَّن بذلك الجناح الأيمن للجيش الإسلامي، وتقدم بعد ذلك إلى الحيرة وهو آمن على جناحه الأيمن.

حقيقةً هذا تخطيط عسكري في غاية الروعة، ولا يُتخيَّل وجود هذا التخطيط إلا بوجود إمكانيات كبيرة من أقمار صناعية، وخرائط دقيقة، ورصد دائم ودقيق لتحركات الجيش المعادي له.

كذلك كانت المخابرات الإسلامية في منتهى القوة، وكانت بقيادة المثنى بن حارثة ، وكانت ترصد بدقة تحركات الفرس في كل المواقع التي رأيناها، ولم تأتِ موقعة فوجئ فيها المسلمون بجيش فارس، وبهذا استطاع المسلمون إعداد أنفسهم بشكل جيد، وأخذ أماكن محددة للمعارك قبل أن يصل الفرس إلى هذه الأماكن.

والأعجب من هذا الأمر أن ما كان يحدث في داخل البلاط الملكي الفارسي يعرفه الجيش الإسلامي، وكان هذا يأتي عن طريق بعض الفرس الذين أسلموا مع بداية المعارك مع الفرس، ولذكاء خالد والمثنى -رضي الله عنهما- وحكمتهما وحسن تصرفهما كانا يرسلان هؤلاء المسلمين -وهم يخفون إسلامهم- إلى فارس، فيأتونهم بالأخبار الدقيقة، وتعرف قيادة الجيش الإسلامي من خلالهم ما يحدث داخل حصون فارس، وفيم يفكرون؟ ومدى رعبهم وفزعهم من جيوش المسلمين، ومَن القادة الذين سوف يرسلونهم على رأس الجيوش، وقد استفاد المسلمون بعد ذلك من هؤلاء المسلمين الموجودين داخل البلاط الفارسي.

ومما يدل على قوة المخابرات ودقتها في الحروب الفارسية القبض على أكيدر بن عبد الملك، وكان زعيمًا للعرب في موقعة دومة الجندل، ونذكر أنه اختلف مع الجودي بن ربيعة القائد الآخر للعرب في دومة الجندل على قتال سيدنا خالد بن الوليد، وقال أكيدر: لا نصبر على قتال خالد. وترك دومة الجندل وهرب في الصحراء في اتجاه الشمال حتى يهرب من حرب خالد بن الوليد، ولكن عيون سيدنا خالد بن الوليد ومخابراته استطاعت أن تُلقِي القبض على أكيدر بن عبد الملك في الصحراء قبل أن يصل إلى دومة الجندل، وأتى به القعقاع بن عمرو وقتله خالد بن الوليد؛ لأنه كان قد غدر بالمسلمين وحاربهم في دومة الجندل بعد أن أعطى رسول الله r -قبل وفاته- عهدًا ألا يقاتل المسلمين.

أدرك خالد بن الوليد -أيضًا- تحركات الفرس إلى الولجة بعد موقعة المذار.

فكل هذه الأمور توضح لنا أن الجيش الإسلامى أخذ بالأسباب بصورة عظيمة جدًّا في حروبه مع فارس، ولم يترك الأمر إلى الاعتماد على الله فقط دون الأخذ بالأسباب، فكان معتمدًا على الله ، ولكنه بذل أيضًا من الأسباب الكثير، وتحقق له النصر حتى الآن في كل المعارك.

كان الموقف بعد خروج خالد بن الوليد من العراق وتوجهه إلى الشام موقفًا صعبًا للغاية، وسوف نبدأ الآن في الحديث عن المرحلة التي أعقبت خروج خالد بن الوليد، وبقاء تسعة آلاف مقاتل من المسلمين بقيادة المثنى بن حارثة في أرض العراق في مواجهة الجيوش الفارسية العظيمة.


المثنى مكان خالد.. ورسالة من الخنزير:

بعد غياب خالد بن الوليد ومجموعة من قادة الجيش الكبار، وجد المثنى بن حارثة نفسه في مواجهة الجيوش الفارسية، فبدأ على الفور في تنظيم الجيوش الإسلامية، وكان خالد يتخذ الحيرة مقرًّا له، وكذا اتخذها المثنى مقرًّا له، ونحن نعلم أن المثنى بن حارثة كان قائدًا لمقدمة الجيش الإسلامي الموجودة بالقرب من المدائن، فوضع مكانه المُعَنَّى بن حارثة أخاه في أقرب نقطة للجيش الفارسي، وهذا أمر له معناه ومغزاه، فإن المُعَنَّى بن حارثة -أخا المُثَنَّى- يعلم عن أرض فارس ما لا يعلمه غيره من المسلمين، فهو أحق الناس بالوجود في هذا المكان القريب جدًّا من الفرس، وجعل مكان ضِرَار بن الأَزْوَر -وكان قد ذهب مع سيدنا خالد- عتيبةَ بن النهاس، ومكان ضرار بن الخطاب وضع مسعود بن حارثة الأخ الثاني للمثنى بن حارثة، وفي الجنوب وعلى الحامية الجنوبية التي تحمي حصن الأُبلّة والحصيد ظَلَّ سويد بن مقرن قائدًا لهذه الحامية، كما كان على عهد سيدنا خالد بن الوليد، وكان هذا في أواخر صفر سنة 13هـ، وبدأ المثنى بن حارثة ينتظر الأخبار والأحداث، خاصة بعد أن علم أهل فارس بغياب نصف الجيش الاسلامي، وبقاء نصف الجيش فقط بقيادة المثنى بن حارثة.

في هذه الأثناء في المدائن -وكما نعرف- فقد قُتِل منذ فترة قصيرة شيرويه كسرى فارس، وظل أهل فارس من دون كسرى يحكمهم، وكانت فتنة عظيمة في البلاط الملكي الفارسي، فتولى الحكم كسرى آخر كان اسمه شهر براز. ومعنى شهر براز بالفارسية خنزير الدولة، وأول ما فعله هذا الخنزير بعد أن تولَّى الحكم أن جهَّز جيشًا لملاقاة القوة الموجودة للمسلمين في الحيرة، فجهَّز جيشًا من عشرة آلاف مقاتل، وجعل مع هذا الجيش فيلاً، وكان الفيل أداة من أدوات الحرب عند الفرس لا يعرفها العرب، ولم يمر على المسلمين موقعة استُخدِم فيها الفيل إلا موقعة ذات السلاسل وقد أُسِر فيها الفيل، وهذه هي الموقعة الثانية التي يرسل فيها الفرس فيلاً مع الجيش، وكان على رأس الجيش الفارسي قائد يُسمَّى هرمز جاذويه، وأرسل شهر براز رسالة إلى المثنى بن حارثة يريد أن يَفُتَّ في عَضُدِه، مستخدمًا سلاح الحرب النفسية الذي يستخدمه المسلمون معهم، ويقول له: إنما أرسل لك جيشًا من وخش أهل فارس (أي: من رعاعهم)، إنما هم رعاة الخنازير والدجاج. أي أنه غير مهتم بأمره.

وعندما وصلت الرسالة إلى المثنى ردّ عليه برسالة فيها: "من المثنى بن حارثة إلى شهر براز كسرى فارس، الرأي عندي أنك إما باغٍ وأشد الناس عقابًا عند الله البغاة، وإما كاذب (في قوله أنه أرسل رعاة الدواجن والخنازير) وشر الناس كذبًا عند الله وعند الناس الملوك، والرأي عندي أنه إن كانت تلك الحقيقة فإنما اضْطُرِرْتم إليه (أي: من كثرة الهزائم اضطررتم إلى أن يكون جيشكم من هؤلاء)، فالحمد لله الذي ردَّ كيدكم إلى رعاة الخنازير والدجاج". فلما تلقى شهر براز الرسالة حدث عكس ما كان يريد، حيث انهزم الفرس نفسيًّا، وبدءوا يقولون لشهر براز: جرّأْت علينا عَدُوَّنا، إذا كتبت بعد ذلك فاسْتَشِرْ!!

موقعة بابل ونتائجها:

وبدأ الجيش الفارسي يتحرك من المدائن في اتجاه سيدنا المثنى بن حارثة، وقد استفاد المثنى بن حارثة من فترة وجود سيدنا خالد بن الوليد وتعلَّم منه كثيرًا، فلم ينتظر في الحيرة حتى يأتيه جيش (هرمز جاذويه)، ولكنه أسرع ليقابله في "بابل"، وهي منطقة قريبة جدًّا من المدائن، وكان تحرّك سيدنا المثنى إلى بابل له مغزى آخر، فقد كانت هذه المنطقة تُسمى بانِقيا وباروسما، وكانت قد صالحت المسلمين على دفع مليوني درهم في كل سنة، على أن يوفر المسلمون لهم الحماية ممن يعتدي عليهم سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فكان لا بُدَّ للمثنى بن حارثة أن يقاتل في هذا المكان حتى يحمي هذه المنطقة التي تدفع الجزية للمسلمين. وقد وصل المثنى بن حارثة بجيشه إلى هذه المنطقة قبل أن يصلها هرمز جاذويه، وانتظر الجيش الفارسي حتى جاء وفي مقدمته الفيل. ونستطيع أن نقول: إن الحرب في هذه المعركة كانت سجالاً، فقد كان الجيشان متقاربين في القوة؛ تسعة آلاف من المسلمين وعشرة آلاف من الفرس، ومع ذلك كان الجيش الفارسي -في البداية- له بعض الغلبة على الجيش المسلم بسبب وجود الفيل الذي كان يتقدم داخل صفوف المسلمين؛ فيحدث نوعًا من الارتباك، ولا أحد يستطيع أن يقف أمامه أو يتعامل معه، وعندما رأى المثنى بن حارثة ذلك انتدب من المسلمين فرقة للتطوع لقتل هذا الفيل، وخرجت معه فرقة من عظماء المسلمين وتقدّموا ناحية الفيل، ومن خلف ظهره قطعوا الأحزمة التي يجلس عليها من يقود الفيل، فوقع قائد الفيل وقُتِل، وكان المثنى قد سأل عن مقتل الفيل فقالوا: يُقْتَلُ من خرطومه. فقتلوه، وبعد مقتل الفيل بدأت الجيوش الفارسية تتقهقر وتُهزَم، وانتصر المسلمون في موقعة بابل التي كانت في ربيع الأول سنة 13هـ، وذلك بعد أقل من 25 يومًا من غياب خالد بن الوليد فكان ذلك اطمئنانًا لنفوس الجند أن النصر يأتي من عند الله ، وليس من عند أشخاص بعينهم، ومتى رضي الله تعالى عن فرقة، فسوف يتم لها النصر، حتى وإن غاب عنها خالد بن الوليد .

وقد استفاد المثنى من خالد بن الوليد كثيرًا، فأرسل في إثر الجيش المنهزم -بعدما فرَّ منهم الكثير- بعض الفرق التي تطارد الفارِّين، ووصلت هذه الفرق حتى مشارف المدائن؛ وذلك يحول بين تجمع الجيش وهجومه مرة أخرى على المسلمين، فالمسافة بين بابل والمدائن تقرب من 72 كم، ومن المدائن إلى الحيرة حوالي 150 كم، فتكون بابل أقرب إلى المدائن من الحيرة.


فوضى في فارس:

حفل الوضع في فارس في هذه الفترة بالفتن العظيمة والقلاقل؛ فقد قُتِلَ (شهر براز) ولم يمكث على كرسي الحكم إلا أربعين يومًا فقط، حيث قتله الحرس الخاص به، وتحيَّر الفرس في اختيار كسرى جديد، فلا بُدَّ أن يكون الحاكم -الـ(كسرى)- من العائلة المالكة (آل ساسان)، حتى وإن كان صغيرًا، وإن لم يوجد فامرأة، وقد تولَّى الحكم بشكل مؤقت بعد شهر براز امرأة تُسمَّى (آذرمدخت)، وكانت ابنة لأحد الأكاسرة السابقين، وقد تولَّت الحكم لفترة قصيرة، ثم عثروا على رجل يُسمَّى (سابور)، وكان ابنًا لأحد الأكاسرة السابقين، ولكنه من جارية فتولَّى الحكم بعد هذه المرأة، وكانت الأمهات يخبئن أبناءهنَّ لكي لا يكونوا من الأكاسرة؛ وذلك لكثرة الفتن، فقد رأيْنَ قتل أكثر من ثلاثة من الأكاسرة في فترة قصيرة، وعندما عثروا على هذا الشاب تم تعيينه على رأس البلاط الفارسي فصار كسرى، ولكن لصغر سنه تم تعيين أحد الولاة عليه حتى يستوعب أمور الحكم جيدًا، وطلب سابور من وليه أن يزوجه من آذرمدخت، ولكنها قالت: كيف أتزوج من ابن جارية، حتى وإن كان كسرى فارس؟! ولما أصر الولي وسابور على رأيهما دبَّرت لهما مكيدة وقتلتهما وتولَّت هي الحكم.

وكان الولي الذي قُتِل يُسمَّى (فخَّاذ)؛ فلما علم ابنه بالأمر وكان اسمه (رستم)، وقد كان في خراسان وهي منطقة بعيدة عن المدائن، انطلق بجيشه نحو المدائن وأحدث انقلابًا عظيمًا؛ حيث قتل آذرمدخت وحرسها وكل جيشها، ولما لم يكن من حقِّه أن يتولَّى الحكم؛ لأنه ليس من العائلة المالكة فقد ساعد على تولِّي بوران بنت كسرى الحكم، وكانت امرأةً ذات حكمة، ويرجعون إليها في الأمور الصعبة، فتولَّت الحكم وقالت لرستم: أنت على رأس الجيش من الآن.

وكانت المخابرات الإسلامية تنقل هذه الأخبار بدقة إلى المثنى بن حارثة، فقد علم بمقتل الأكاسرة واحدًا بعد الآخر، وعلم أيضًا بتولّي بوران بنت كسرى الحكم، وأنها ولَّت رستم -القائد الفارسي المعروف جيدًا- قيادة الجيش الفارسي، وقد علم المثنى أن قوة المسلمين الموجودة معه لن تستطيع أن تقف أمام قوة الفرس، وجيوشهم الجرارة بعد أن تولَّى رستم قيادة الجيش.

كانت حدود الفرس في تلك الآونة تمتد حتى الصين، وكانت المدائن العاصمة، وكانت الصين تدفع الجزية للفرس اتقاءً لشرهم.


المثنَى يطلب المدد من الصديق قبل وفاته:

وقرر المثنى بن حارثة أن يترك العراق ويذهب هو بنفسه إلى أبي بكر الصديق ليُطلِعه على الموقف؛ حتى يمدَّه ببعض المدد، ويعرض عليه أيضًا أن يستعين بمن قد ارتدوا ورجعوا إلى الإسلام، وكانوا -إلى هذا الوقت- لم يشاركوا مع الجيوش الإسلامية بأمر أبي بكر t.

وبالفعل ترك المثنى جيشه بعد أن عيَّن عليه بشير بن الخصاصية، وكان أحد صحابة النبي r، وكان خالد بن الوليد t يريد أن يأخذه معه إلى الشام، ولكنَّ المثنَّى t أَصَرَّ على أن يُبْقِيَ له خالد t بعض أصحاب النبي r، وكان هذا الرجل ممن بقوا معه.

واتجه المثنى بن حارثة t إلى المدينة لمقابلة أبي بكر الصديق t، وعندما وصل المثنى t إلى المدينة وجد أبا بكر t في مرض موته، وكان في غيبوبة تامة، ومكث المثنى فترة حتى صحا أبو بكر صحوة قابله فيها، وعرض عليه موقف جيشه وما يريده، فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب t وقال: عَلَيَّ بعمر. ثم قال له: اسمع يا عمر ما أقول لك ثم اعمل به، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا (أي: إني أتوقع الموت في هذا اليوم، وكان يوم 21 من جمادى الآخرة سنة 13هـ في صباح هذا اليوم)، فإن أنا مِتُّ فلا تُمسِينَّ حتى تندب الناس مع المثنى، وإن تأخرت إلى الليل فلا تُصبِحَنَّ حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تَشغلنَّكم مصيبة -وإن عَظُمَتْ- عن أمر دينكم ووصية ربكم، وقد رأيتَني مُتَوفَّى رسول الله r وما صنعتُ ولم يُصَبِ الخلق بمثله، وبالله لو أنِّي أَنِي (أي أتباطأ) عن أمر الله وأمر رسوله، لخذلنا ولعاقبنا فاضطرمت المدينة نارًا، وإن فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق، فهم أهله وولاة أمره وحدّه، وأهل الضراوة بهم والجرأة عليهم.

فكانت هذه هي وصية أبي بكر في اللحظات الأخيرة قبل موته، ونلاحظ فيها حرصه الشديد على استمرارية الجهاد في سبيل الله، مهما عظمت المصائب وكثرت الخطوب.

وكلنا يذكر موقف أبي بكر الصديق عندما توفي النبي وخرج للمسلمين وقال: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].

ونلحظ أيضًا في الوصية الأخيرة شيئًا مهمًّا في قول الصديق t: "وإن فتح الله على أمراء الشام، فاردد أصحاب خالد إلى العراق". لم يقل: فاردد خالدًا إلى العراق؛ لأنه يعلم أن الأمور السياسية تحتاج إلى توافق بين القائد العام والجند الذين تحت إمرته، وكان أبو بكر يعلم عدم وجود هذا التوافق بين عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما.

وتُوُفِّيَ أبو بكر الصديق في هذه الليلة، وكان في فترة خلافته القصيرة قد قام بحروب الردة، وأَنفذَ بعث أسامة بن زيد إلى الروم، وقام بالفتوحات الإسلامية في فارس والروم، وجمع القرآن الكريم، وثبَّت دعائم الأمة الإسلامية في ذلك الوقت، فرضي الله عنه وأرضاه.

بعد أن تولَّى عمر بن الخطاب إمارة المسلمين بعد موت أبي بكر t -وقد مات بين المغرب والعشاء- ذهب فدفنه بعد العشاء بجوار رسول الله ، ثم نادى في منتصف الليل: "الصلاةُ جامعة". فَجَمَعَ أهلَ المدينة وندب الناس للخروج مع "المثنى"، ومن العجيب أن أحدًا لم يستجب لنداء عمر بن الخطاب ، وكان هذا شيئًا عجيبًا وغريبًا على أهل المدينة ألا يستجيبوا لنداء الجهاد في سبيل الله، ولم يكن عمر بن الخطاب t متوقعًا لهذا الأمر على الإطلاق، فانتظر حتى صلاة الفجر وأَمَّ الناس في صلاة الفجر، وبايعه الناس على الإمارة، وأصبح هو أمير المؤمنين بعد هذه المبايعة من الناس، فندب الناس للقيام بفتح فارس، ولم يستجب أحدٌ أيضًا، وظل يدعو الناس بعد كل صلاة مدة ثلاثة أيَّام، ولم يستجب لندائه أحد!!

وكان هذا شيئًا غريبًا وعجيبًا، ولكن ما نستطيع أن نفسِّر به هذا الموقف من المسلمين عدة أمور:

أولاً: لم يكن موجودٌ بالمدينة خمسين ألفًا من خيرة أهلها، فقد خرج ثلاثون ألفًا لحرب الروم، وعشرون ألفًا لحرب العراق، ومن كان موجودًا -بلا شك- أقل درجة ممن ذهب للجهاد، خاصة أن من خرج إنما خرج تطوعًا ولم يخرج مجبرًا، ونذكر أن أبا بكر t عندما أرسل خالد بن الوليد قال له: "ولا تكره أحدًا على القتال معك"؛ ولأجل هذا فقد تركه بعض الناس قبل أن يصل إلى العراق. إذن فهؤلاء جميعًا إنما خرجوا متطوعين، مما يدل على أفضليتهم وخيريتهم.

ثانيًا: ربما لم يستجب الناس حزنًا لوفاة الصدّيق ، فقد كانت المصيبة عظيمة، ولا شك أن مصيبة وفاة النبي كانت أعظم على المسلمين، ورأينا أثرها على عمر بن الخطاب t ساعتها؛ فقد رفع سيفه وقال: من قال: إن محمدًا قد مات قطعت عنقه. وهذه المصيبة أيضًا كانت عظيمة على المسلمين؛ لأنهم توطدت أقدامهم في عهد أبي بكر ، والآن توفي أبو بكر ولم تطل مدة خلافته، وكان عمر يبكي عليه ويقول: يا خليفة رسول الله، لقد أتعبت من خلفك، والله لا يشق أحد غبارك. ويبكي علي بن أبي طالب أيضًا كثيرًا على وفاة أبي بكر، وتنوح النساء بصوت مرتفع في المدينة، وقد أمرهن عمر t بألا ينحن فلم ينتهين، حتى قال لهم: إن الميت يُعَذَّبُ ببكاء أهله عليه. فعندها كَفَّ النساء عن النواح.

ثالثًا: كان تولِّي عمر بن الخطاب -مع شدته- قد أدخل المسلمين في حالة ترقب وخوف، ولم يعرف المسلمون ما سيفعل، حتى إن طلحة بن عبيد الله دخل على أبي بكر الصديق وقال له: يا خليفة رسول الله، استخلفت عمر على المؤمنين وأنت ملاقٍ ربك، وأنت تعلم ما به من الشدة وأنت معه، فكيف إذا خلَّيْتَ بينه وبينهم؟!

وكان أبو بكر مضطجعًا، فقال: أجلسوني. فأجلسوه، فيمسك بطلحة ويقول له: أباللهِ تخوفني! واللهِ إن سألني ربي عن عمر لقلت له: استخلفتُ خير أهلك على أهلك.

فهذه الأمور جعلت الناس تتردد في أمر الخروج مع المثنى بن حارثة . وكما نرى فالموقف من الصعوبة بمكان، وكلما ندب عمر بن الخطاب الناس لم يقمْ أحد؛ فقام المثنى بن حارثة في اليوم الرابع وخطب خطبة عظيمة في أهل المدينة وما حولها حيث جاء الناس لمبايعة عمر بن الخطاب على الإمرة، فخطب المثنى وقال لهم: يا أهل الاسلام مما تخافون! لقد ملَّكنا الله I رقاب أهل فارس، والله لقد تبحبحنا في ريفهم، وجرَّأنا الله عليهم، وكانت لنا الغلبة عليهم.

ومع هذا لم يقم أحد؛ فقام عمر بن الخطاب وقال: أين المهاجرون لموعود الله؟ لقد وعدكم الله أن يورثكم الأرض، فأين المهاجرون إلى ميراث الأرض؟! أين عباد الله الصالحون؟! وبكى عمر t، فصاح رجل من المسلمين: أنا لها. رجلٌ واحد بعد كل هذه الصيحات المؤمنة من عمر t! كان هذا الرجل هو أبو عبيد بن مسعود الثقفي، من قبيلة ثقيف. وقبيلة ثقيف كانت تسكن في الطائف، ونحن نعلم أن الطائف إحدى ثلاث مدن فقط ثبتت بعد وفاة الرسول ولم ترتد، وعلى قدر ما كانت تصيب الرسول في حياته على قدر ما كانت الطائف خيرًا للمسلمين؛ فكان لها خير الثبات بعد وفاة الرسول ، وكان لها خير الثبات بعد وفاة أبي بكر الصديق بخروج أبي عبيد بن مسعود الثقفي منها، وقال: أنا لها. وبعد أن قام هذا الرجل قام رجل آخر يُسمَّى سعد بن عبيد، وقال: أنا لها يا عمر. وكان من الأنصار ومن صحابة رسول الله ، ثم قام رجل ثالث وهو سليط بن قيس وهو من الصحابة القدامى من صحابة رسول الله وشهد كل المشاهد مع رسول الله .

وانتظر المسلمون مدة دون أن يقوم أحد غير هؤلاء الثلاثة، ثم تحركت النفوس وأوقع الله الإيمان في القلوب؛ فقام من المسلمين الكثير حتى وصل تعدادهم إلى الألف، منهم ثلاثمائة من قبيلة ثقيف، والباقي من أهل المدينة ممن شهدوا بدرًا، وشهدوا المشاهد مع رسول الله .


أبو عبيد الثقفي أميرا على الجيش:

فنداءُ عمر وندْبُه الناس كان يسمعه أهل بدر، ومع هذا لم يخرجوا، وخرج أولاً أبو عبيد بن مسعود الثقفي قبل سائر المسلمين من الصحابة الذين شهدوا بدرًا والمشاهد مع رسول الله r، وهذا أمر غريب! ونسأل الله أن يثبتنا على الإيمان، فلا أحد يدري أي شيء سوف يختار عندما يُعْرَض عليه أمرُ الجهاد، فهو أمر شاقٌّ وصعب على النفوس؛ ولذا كان أجره الجنة، ورَفْعُ الحساب عن الشهيد.

بعدما قام هؤلاء الألف كانت هناك مشكلة جديدة أمام عمر بن الخطاب t، وهي اختيار القائد لهؤلاء الألف من الجنود، ويشير عليه الصحابة y بأن يختار رجلاً ممن له صحبة من السابقين، فقال: لا والله، أندبهم للقاء فلا يخرجون، وعندما تأتي الإمرة أضعهم. ووضع أبا عبيد بن مسعود على رأس الجيش.

وفي الحقيقة كان هذا الاختيار من سيدنا عمر بن الخطاب -وكما أثبت التاريخ بعد ذلك- هفوة لعظيم، وكان خطأً، وليس لنا أن نحكم بالخطأ على سيدنا عمر بن الخطاب، ولكن التاريخ هو الذي حكم بعد ذلك؛ ولأن الاختيار الأَمثل لسيدنا عمر بن الخطاب أن يختار مثلاً المثنى بن حارثة لقيادة الجيوش؛ فقد استخلفه خالد بن الوليد على إمرة الجيوش، وكان أول من بدأ الحروب بفارس بأمر أبي بكر الصديق t، ثم كانت له الجرأة على أهل فارس وله علم كبير بهم، كما أن له من الحنكة الحربية والشجاعة والإيمان الكثير، وإن كان يريد صحابيًّا فالصحابة كثير، منهم سليط بن قيس، ولكن كان الموقف شديدًا على عمر t إذ كيف ينادي الناسَ ثلاثة أيام دون أن يخرج أحد، فكان متأثرًا بهذا الأمر؛ فاختار أبا عبيد بن مسعود الثقفي وهو لا تنقصه أبدًا الشجاعة ولا الإيمان، ولكن الحروب ليست شجاعة وإيمانًا فقط، ولكنها تحتاج إلى الحكمة والحنكة والقدرة على التصرف في الأمور في هذه الحروب.

ونادى عمر t على سعد بن عبيد وعلى سليط بن قيس، ويقول لهما: واللهِ لو أنكما سبقتماه لجعلتُكما أمراء؛ فكونا له عون الرأي.

وأرسل إلى أبي عبيد بن مسعود الثقفي ويقول له: والله إني وضعتك في هذا المكان لسبقِكَ، ولو سبقك سليط بن قيس أو سعد بن عبيد لجعلتهما الأمراء؛ فاستمع لرأيهما، ولا تتصرف في أي أمر من الأمور إلا بعد أن تستشير أصحاب رسول الله r. فكانت هذه هي وصية عمر بن الخطاب لأبي عبيد بن مسعود الثقفي.

ثم يقول له: ولا تُفشِينَّ سرًّا، فإنك مالكٌ أمرك ما دام سرُّك في داخلك.

وجعل المثنى بن حارثة تابعًا لأبي عبيد بن مسعود الثقفي، وهذا الأمر لم يؤثر مطلقًا في تحركات المثنى للإسلام وفي سبيل الله، فقد كان رجلاً مؤمنًا حقًّا، واستجاب لرأي عمر ، وذهب إليه عمر وقال له: اذهب إلى أهلك وانتظر النجدة. وانطلق المثنى سريعًا نحو الجيش الإسلامي في فارس، انتظارًا للجيش الذي سيأتي بقيادة أبي عبيد بن مسعود الثقفي من المدينة، ووصل المثنىمبكرًا للجيش، وعندما وصل علم أن بوران بنت كسرى تجهِّز الجيوش لحرب المسلمين، وقد تولَّى رستم إمارة جميع الجيوش الفارسية، وبدأ المثنى يرتِّب القوات استعدادًا لقدوم أبي عبيد بن مسعود ومن معه مددًا له، وفي هذه الأثناء يعلم المثنى -بفضل المخابرات الإسلامية الموجودة في المنطقة- أن رستم قد أرسل مجموعة كبيرة من الأمراء إلى أماكن مختلفة على حدود الجيش الإسلامي الموجود في فارس.

وكانت هذه المنطقة على صلح مع المسلمين على أن يدفعوا الجزية، وقال لهم رستم: إن على كل أمير أن يثور في المنطقة التي هو فيها، وأول مَن يقوم بالثورة سيكون هو الأمير على جميع الأمراء؛ وذلك تشجيعًا لهم على الثورة.

وكان ممن جهَّزهم لذلك جابان قائد الفرس في موقعة "أُلَّيْس" التي انهزم فيها الفرس، وفرَّ هو من المسلمين، فقام المثنى -وبحكمة شديدة- بالانسحاب بجيشه من هذه المنطقة كلها إلى ما بعد الحيرة منتظرًا جيش أبي عبيد بن مسعود الثقفي، ولو ظل في مكانه الأول لحاصرته الجيوش، وربما تكون الهلكة لجيش المسلمين الصغير الموجود معه.


انتصار المسلمين في موقعة النمارق:

يصل جيش عبيد بن مسعود الثقفي إلى منطقة تُسمى خِفَّان في 3 من شعبان سنة 13هـ، ونلاحظ أن أبا بكر تُوفِّي في جمادى الآخرة، ثم مرَّ شهر رجب ووصل الجيش في 3 من شعبان وهي فترة طويلة، فلم تكن جيوش خالد بن الوليد تقطع هذه المسافات في هذا الوقت الطويل، ووضع المثنى نفسه تحت إمرة أبي عبيد بن مسعود الثقفي، وبدأ أبو عبيد بن مسعود ينظم الجيوش لحرب الفرس، فكانت موقعة النمارق وأتت الجيوش الفارسية بقيادة جابان وهو أول من ثار في المنطقة وتوجه بجيشه مرة أخرى لمقابلة المسلمين بعد أن هُزم في موقعة أُلَّيْس، واتجه إليه أبو عبيد بن مسعود، والتقى الجيشان في موقعة شديدة وهي أول موقعة لأبي عبيد بن مسعود في منطقة العراق، وكانت في 7 من شعبان سنة 13هـ، وأبلى الجيش الإسلامي وقائدُه أبو عبيد بلاءً حسنًا في هذه الموقعة، وتم النصر للمسلمين، وأُسِرَ جابان، ولكنه مكر بأحد المسلمين وخدعه بأنه سيعطيه كذا وكذا إذا أطلقه، ولم يكن يعرف هذا الرجل أن هذا هو (جابان) أمير فارس في الجيش فأمَّنه، وعندما علم أبو عبيد أن هذا الرجل هو جابان قال: لا نخون عهدًا أعطاه أحدُ المسلمين. فأطلق سراحه وكان في يده أن يقتله
 
رد: فتوحات العراق وفارس

معركة الجسر



بهمن جاذويه يقود الجيوش:

بعد أن انتصر المسلمون في معركة النمارق، انتصروا أيضًا في موقعة السقاطية على (نورسي)، وكان قد ثار في تلك المنطقة وهو من الفرس أيضًا، وكان رستم قد أرسله، ولكن أبا عبيد لم يمهله وتوجه إليه وانتصر عليه في 12 من شعبان سنة 13 هـ، وبعدها بخمسة أيام تقدم أبو عبيد إلى "باقسياثا" بالقرب من بابل وانتصر على الجيوش الفارسية بقيادة الجالينوس وهو من كبار قادة الفرس، وكان رستم قد أرسله بعد هزيمة الفرس في النمارق والسقاطية فانتصر عليه أيضًا أبو عبيد في موقعة باقسياثا، ثم انسحب أبو عبيد بن مسعود الثقفي بجيشه إلى الحيرة، وأخذ يدبر الأمر ويوزع الحاميات، واتخذ الحيرة مركزًا له.

تعجب رستم كثيرًا وأصابته الحيرة والدهشة مما يحدث، إذ كيف ينتصر هؤلاء بعد غياب خالد بن الوليد ومعه نصف الجيش؟! ينتصرون على الفرس في ثلاث مواقع متتالية في تسعة أيام؛ فقال رستم: مَنْ أشدُّ الفُرْسِ على العرب؟

فقالوا له: بهمن جاذويه. وكان أحد كبار قادة الفرس، ولم يشترك في الحروب مع المسلمين حتى هذه اللحظة.

فقال رستم: إذن فهو القائد.

وبذلك أعطى رستم إمرة الجيوش الفارسية لـ "بهمن جاذويه" وأخرجه مع جيش كبير يزيد على سبعين ألف فارسي، وأرسل مع هذا الجيش أكثر من عشرة أفيال. ونحن نعرف ما كان يثيره فيل واحد في صفوف المسلمين من فزع وهلع؛ لأن الخيول لا تجرؤ على مواجهة الأفيال، فكانت تحدث ارتباكًا داخل صفوف الجيش المسلم، فما بالنا بعشرة أفيال؟ وأعطى رستم لـ "بهمن جاذويه" أيضًا راية الفرس العظمى وكانت تُسمى "دارفن كابيان"، وكانت هذه الراية لا تخرج إلا مع الملوك، ولكنه أخرجها معه تشريفًا لهذا الجيش وتشجيعًا له على حرب المسلمين، وكان كسرى فارس في هذه اللحظة "بوران بنت كسرى" وكانت من أحكم سيدات فارس، ولم يكن عندهم حينئذ رجل من آل ساسان يُوكِلون إليه مُلك فارس، وكان "شيرويه" قد قتل كل رجال آل ساسان ليستأثر هو بالحكم، ولكنه قُتِل أيضًا، وآل المُلك إلى تلك المرأة بعد ذلك.

توجّه الجيش الفارسي بهذه الجموع الجرارة لقتال المسلمين، وعلم أبو عبيد بذلك فتوجه بجيشه إلى منطقة في شمال الحيرة تسمى "قِسّ النَّاطِف"، وعسكر بجيشه في هذه المنطقة انتظارًا لقدوم جيش الفرس. وقَدِمَ الفُرسُ، ووقفوا على الجانب الآخر من نهر الفرات، فالمسلمون على الناحية الغربية، والفرس على الناحية الشرقية بقيادة بهمن جاذويه، وكان بين الشاطئين جسرٌ عائم أقامه الفرس في هذه الآونة للحرب -وكان الفرس مهرة في بناء هذه الجسور- وأرسل بهمن جاذويه رسولاً إلى الجيش الإسلامي يقول له: إما أن نعبر إليكم، وإما أن تعبروا إلينا.

أبو عبيد يخالف نصيحة عمر:

ونذكر نصيحة إلى أبي عبيد قبل أن يخرج إلى القتال قال له: لا تُفشِينَّ لك سرًّا؛ لأنك مالكٌ أمرك حتى يخرج سِرُّك من بين جنبيك، ولا تحدِثَنَّ أمرًا حتى تستشير أصحاب رسول الله. وأوصاه خاصة بسعد بن عبيد الأنصاري و من الصحابة الكرام جميعًا، وأخطأ أبو عبيد الخطأ الأول فأخذ يناقش أصحابه ويشاورهم أمام رسول الفرس، وهذا إفشاء للسر، ولأمور التنظيم الحربي، وأخذته الحميَّة عندما وصلته الرسالة؛ وقال: والله لا أتركهم يعبرون ويقولون: إنا جَبُنَّا عن لقائهم. واجتمع الصحابة على عدم العبور إليهم: وقالوا له:كيف تعبر إليهم وتقطع على نفسك خط الرجعة، فيكون الفرات من خلفك؟! وقد كان المسلمون وأهل الجزيرة العربية يجيدون الحرب في الصحراء، ودائمًا كان المسلمون يجعلون لأنفسهم خط رجعة في الصحراء، وإذا حدثت هزيمة يستطيع الجيش أن يرجع إلى الصحراء ولا يهلك بكامله، ولكن أبا عبيد أصرَّ على رأيه بالعبور، وذكّره أصحابه بقول عمر بن الخطاب: أنِ اسْتشر أصحاب رسول الله؛ فقال: والله لا نكون عندهم جبناء. وهذا كله يحدث أمام رسول الفرس، الذي استغل الفرصة ليثير حميَّة أبي عبيد، فقال: إنهم يقولون إنكم جبناء ولن تعبروا لنا أبدًا. فقال أبو عبيد: إذن نعبر إليهم. وسمع الجنود وأطاعوا وبدأ الجيش الإسلامي يعبر هذا الجسر الضيِّق للوصول للناحية الأخرى التي يوجد بها الجيش الفارسي.

ونلاحظ في هذا الموقف أن الجيش الإسلامي يدخل في منطقة محصورة بين نهر يُسمى النيل -وهو نهر صغير وأحد روافد نهر الفرات- ونهر الفرات، وكلا النهرين يمتلئ بالمياه، والجيش الفارسي يغلق باقي المنطقة، فلو دخل المسلمون هذا المكان فليس أمامهم إلا القتال مع الجيش الفارسي، والفرس يدركون أهمية هذا الموقع جيدًا، فأخلوا مكانًا ضيقًا ليعبر المسلمون إليهم، ويتكدس الجيش الإسلامي في منطقة صغيرة جدًّا، ويرى المثنى بن حارثة ذلك ويعيد النصيحة لأبي عبيد قائلاً له: إنما تلقي بنا إلى الهَلَكَة. ويصرُّ أبو عبيد على رأيه.

وعبر الجيش الإسلامي بالفعل إلى هذه المنطقة، وكان مع الفُرْسِ كما ذكرنا عشرة أفيال منها الفيل الأبيض، وهو أشهر وأعظم أفيال فارس في الحرب، وتتبعه كل الفيلة إن أقدم أقدموا وإن أحجم أحجموا، وتقدمت الجيوش الفارسية يتقدمها الفيلة إلى الجيش الإسلامي المحصور بين نهري الفرات ورافده نهر النيل، وتراجعت القوات الإسلامية تدريجيًّا أمام الأفيال، ولكن خلفهم نهرين فاضطروا للوقوف انتظارًا لهجوم الفيلة وقتالها، وكانت شجاعة المسلمين وقوتهم فائقة ودخلوا في القتال، ولكن الخيول بمجرد أن رأت الأفيال فزعت وهربت، وكانت سببًا في إعاقة إقدام المسلمين على القتال، وعادت الخيول إلى الوراء وداهمت مشاة المسلمين، ولم تفلح محاولات المسلمين لإجبار الخيول على الإقدام لعدم تمرُّسها على مواجهة الأفيال، وفي هذه اللحظة -وبعد أن أخطأ أبو عبيد في إفشاء السر أمام رسول الفرس، وأخطأ في العبور مخالفًا مشورة أصحاب رسول الله، وأخطأ باختياره هذا المكان للمعركة- كان لا بد عليه أن ينسحب بجيشه سريعًا من أرض المعركة، كما فعل خالد بن الوليد في معركة المذار عندما علم أنه سيكون محاطًا بجيش من الجنوب، انسحب سريعًا بجيشه حتى يقابل جيش الأندرزغر في الولجة.

لكن أبا عبيد استقتل وقال: لأقاتلنَّ حتى النهاية. وإن كانت هذه شجاعة فائقة منه، فإن الحروب كما تقوم على الشجاعة لا بد أن يكون هناك حكمة في التعامل مع الحدث. وبدأت أفيال الفرس تهاجم المسلمين بضراوة، وأمر أبو عبيد أن يتخلَّى المسلمون عن الخيول ويحاربوا الفرس جميعًا وهم مشاة، وفقد المسلمون بذلك سلاح الخيول وأصبحوا جميعًا مشاة أمام قوات فارسية مجهزة بالخيول والأفيال، واشتد وَطِيسُ الحرب ولم يتوانَ المسلمون عن القتال، وتقدم أبو عبيد بن مسعود الثقفي t وقال: دُلُّوني على مقتل الفيل. كما قال من قبل المثنى بن حارثة ، فقيل له: يُقتَلُ من خرطومه. فتقدم t ناحية الفيل الأبيض بمفرده، فقالوا له: يا أبا عبيد، إنما تلقي بنفسك إلى التهلكة وأنت الأمير. فقال: والله لا أتركه إما يقتلني وإما أقتله. وتوجه ناحية الفيل وقطع أحزمته التي يُحمل فوقها قائدُ الفيل، ووقع قائد الفيل وقتله أبو عبيد بن مسعود، ولكن الفيل لا يزال حيًّا، وهو مُدَرَّب تدريبًا جيدًا على القتال، وأخذ أبو عبيد يقاتل هذا الفيل العظيم ويقف الفيل على قدميه الخلفيتين ويرفع قدميه الأماميتين في وجه أبي عبيد، ولكنَّ أبا عبيد لم يتوانَ عن محاربته ومحاولة قتله، وعندما شَعَر بصعوبة الأمر أوصى من حوله: إن أنا مِتُّ، فإمرة الجيش لفلان ثم لفلان ثم لفلان؛ ويعدد أسماء من يخلفونه في قيادة الجيش. وهذا أيضًا من أخطاء أبي عبيد؛ لأن أمير الجيش يجب أن يحافظ على نفسه، ليس حبًّا في الحياة ولكن حرصًا على جيشه وجنده في تلك الظروف، وليس الأمر شجاعة فحسب، ولأنه بمقتل الأمير تنهار معنويات الجيش، وتختل الكثير من موازينه. ومن الأخطاء أيضًا أن أبا عبيد أوصى بإمرة الجيش بعده لسبعة من ثقيف منهم ابنه وأخوه والثامن المثنى بن حارثة، وكان الأَوْلى أن يكون الأمير بعده مباشرة المثنى أو سليط بن قيس، كما أوصاه عمر بن الخطاب.

استشهاد أبي عبيد وتولِي المثنى:

ويواصل أبو عبيد قتاله مع الفيل ويحاول قطع خرطومه، لكن الفيل يعاجله بضربة فيقع على الأرض، ويهجم عليه الفيل ويدوسه بأقدامه الأماميتين فيمزِّقهُ أشلاءً -t وتقبله في الشهداء- وكان موقفًا صعبًا على المسلمين حينما يرون قائدهم يُقتَل هذه القتلة البشعة. ويتولى إمرة الجيش بعده مباشرة أول السبعة ويحمل على الفرس ويستقتل ويقتل، وكذا الثاني والثالث وهكذا، وقد قتل في هذه المعركة ثلاثة من أبناء أبي عبيد بن مسعود الثقفي كان أحدهم أميرًا على الجيش، وقُتِل كذلك أخوه الحكم بن مسعود الثقفي وكان أحد الأمراء على الجيش بعد استشهاد أبي عبيد، وتأتي الإمرة للمثنى بن حارثة والأمر كما نرى في غاية الصعوبة، والفرس في شدة هجومهم على المسلمين، ويصف الأَغَرُّ العجْلِيُّ -وهو أحد صحابة النبي الذين حضروا الموقعة- فيقول: وَخَزَقَ الفرسُ المسلمين بالنشاب (الرماح)، وعضَّ المسلمين الألَمُ.

وفي هذه اللحظة يبدأ بعض المسلمين في الفرار عن طريق الجسر إلى الناحية الأخرى من الفرات، وهذه أول مرة في فتوح فارس يفِرُّ فيها بعض المسلمين من القتال، وهذا الفرار في هذا الموقف له دليل شرعي ولا يُعَدُّ فرارًا من الزحف، وقد قيل: إن الفرار من المثلين جائز، فما بالنا وجيش الفرس ستة أو سبعة أمثال جيش المسلمين؟! ولكن يُخطِئ أحد المسلمين خطأً جسيمًا آخر، فيذهب عبد الله بن مرثد الثقفي ويقطع الجسر بسيفه، ويقول: والله لا يفِرُّ المسلمون من المعركة؛ فقاتلوا حتى تموتوا على ما مات عليه أميركم.

ويُسقَطُ في أيدي المسلمين، ويستأنف الفُرْسُ القتال مع المسلمين، ويزداد الموقف صعوبة، ويُؤتَى بالرجل الذي قطع الجسر إلى قائد الجيش المثنى بن حارثة، فيضربه المثنى، ويقول له: ماذا فعلت بالمسلمين؟ فقال: إني أردت ألا يفرَّ أحد من المعركة. فقال: إن هذا ليس بفرار.

انسحاب منظم عبر الجسر:

وبدأ المثنى t -وفي هدوء يُحسب له- يقود حركة الجيش المسلم المتبقي بعد الهجمات الفارسية القاسية والشديدة، ويقول لجيشه محمِّسًا لهم: يا عباد الله، إما النصر وإما الجنة. ثم نادى على المسلمين في الناحية الأخرى أن يصلحوا الجسر ما استطاعوا، وكان مع المسلمين بعض الفرس الذين كانوا قد أسلموا وكانوا ذوي قدرة على إصلاح الجسور، فبدءوا يصلحون الجسر من جديد، وبدأ المثنى يقود إحدى العمليات الصعبة، وهي عملية انسحاب في هذا المكان الضيِّق أمام القوات الفارسية العنيفة، فأرسل إلى أشجع المسلمين واستنفرهم ولم يستكرههم، وقال: يقف أشجع المسلمين على الجسر لحمايته. فتقدَّم لحماية الجسر عاصم بن عمرو التميمي وزيد الخيل وقيس بن سليط صحابي رسول الله وسيدنا المثنى بن حارثة على رأسهم، ووقف كل هؤلاء ليقوموا بحماية الجيش أثناء العبور، ويحموا الجسر لئلا يقطعه أحد من الفرس، ويقول المثنى بن حارثة للجيش في هدوء غريب: "اعبروا على هيِّنَتِكم ولا تفزعوا؛ فإنا نقف من دونكم، والله لا نزايل (لا نترك هذا المكان) حتى يعبر آخرُكم". ويبدأ المسلمون في الانسحاب واحدًا تلوَ الآخر ويقاتلون حتى آخر لحظة، وتكسو الدماء كل شيء وتكثر جثث المسلمين ما بين قتيل وغريق في النهرين، ويكون آخر شهداء المسلمين على الجسر هو سويد بن قيس أحد صحابة النبي، وآخر من عبر الجسر هو المثنى بن حارثة ، فقد ظل يقاتل حتى اللحظة الأخيرة ويرجع بظهره والفرس من أمامه، وبمجرد عبوره الجسر قطعه على الفُرسِ، ولم يستطع الفرس العبور إلى المسلمين، وعاد المسلمون أدراجهم ووصلوا إلى الشاطئ الغربي من نهر الفرات قبل غروب الشمس بقليل. وكما نعرف فالفرس لم يكونوا يقاتلون بالليل؛ لذا تركوا المسلمين، وكانت فرصة للجيش الإسلامي لكي ينجو منسحبًا إلى عمق الصحراء؛ لأنه لو ظل في مكانه لعبر إليه الجيش الفارسي في الصباح وقضى على من تبقى منه.

في هذا الوقت كان قد فَرَّ من المسلمين ألفانِ، ومنهم من قد وصل في فراره إلى المدينة، واستُشهِد من المسلمين في هذه الموقعة أربعة آلاف شهيد، وكان قد اشترك فيها ثمانية آلاف قُتِلَ منهم أربعة آلاف ما بين شهيد في القتال وغريق في النهر، ومن هؤلاء الآلاف الأربعة غَالِبُ أهل ثقيف، والكثير ممن شهد بدرًا وأُحُدًا والمشاهد مع رسول الله، وكان الأمر شديدًا على المسلمين، ولولا فضل الله تعالى، ثم تولية المثنى بن حارثة الأمر ما كان لمن نجا أن ينجو من هذه المصيدة المحكمة التي أعدها الفرس للمسلمين، وكان المثنى t كفاءة حربية منقطعة النظير، وهذه هي قيمة القيادة الصائبة، فقد كان أبو عبيد بن مسعود تملؤه الشجاعة والإيمان والإقدام، وقد كان أول من استُنفِرَ فخرج للجهاد وفي وجود الكثير من الصحابة ، نفر قبلهم وأُمِّرَ على الجيش، ودخل الحروب في منتهى الشجاعة ولم تأخذه في الله لومةُ لائمٍ، وتقدم لمهاجمة الفيل وهو يعلم أنه سيُقتَل فيوصي بالإمرة لمن بعده، ولم يتوانَ عن القتال. ومع هذا فإمارة الجيوش ليست شجاعة وإيمان فقط، وإنما لا بد من المهارة العالية والكفاءة الحربية، حتى قال بعض الفقهاء: إذا وُجِِدَ قائدان أحدهما من الإيمان بمكان ولكنه لا يدرك قيمة القيادة والإمارة، والآخر يصل إلى درجة الفسوق لكنه مسلم، ويستطيع قيادة الحروب بمهارة، فلا بأس أن يَلِيَ هذا الفاسقُ قيادة الجيش في الحروب؛ لأنه يستطيع أن ينجو بجيش المسلمين كله، والآخر ربما يؤدي بالجيش إلى الهلكة مع إيمانه وشجاعته.

كانت موقعة الجسر في 23 من شعبان 13هـ، وكان أبو عبيد قد وصل إلى العراق في 3 من شعبان، وكانت أولى حروبه النمارق في 8 من شعبان، ثم السقاطية في 12 من شعبان، ثم باقسياثا في 17 من شعبان، ثم هذه الموقعة في 23 من شعبان، فخلال عشرين يومًا من وصول أبي عبيد بجيشه انتصر المسلمون في ثلاث معارك، وهُزموا في معركة واحدة قضت على نصف الجيش، ومن بقي فرَّ، ولم يبق مع المثنى غير ألفين من المقاتلين.

وأرسل المثنى بالخبر إلى المدينة مع عبد الله بن زيد، وعندما يصل إلى المدينة يجد عمر بن الخطاب على المنبر فَيُسِرّ إليه بالأمر نظرًا لصعوبته على المسلمين، فيبكي عمر على المنبر، وكان لا بد أن يعلم المسلمون حتى يستنفر الناس للخروج مرة أخرى لمساعدة بقايا الجيش الموجودة في العراق، وبعد أن يبكي يقول: رَحِمَ الله أبا عبيد! لو لم يستقتل وانسحب لكُنَّا له فئة، ولكن قدَّر الله وما شاء فعل. ويأتي بعد ذلك إلى المدينة الفارون والهاربون من المعركة يبكون أشد البكاء، يقولون: كيف نهرب؟! وكيف نفر؟!

وكان هذا الأمر يمثِّل للمسلمين الخزي والعار، ولم يتعودوا قبل ذلك على الفرار من أعدائهم، لكن عمر بن الخطاب يطمئنهم ويقول لهم: إنني لكم فئة، ولا يُعَدُّ هذا الأمر فرارًا, وظل t يحمسهم ويحفزهم، وكان معهم معاذ القارئ وكان أحد مَن فرُّوا، وكان يَؤُمُّ المسلمين في التراويح، فكان كلما قرأ آيات الفرار من الزحف يبكي وهو يصلي، فيطمئنه عمر ويقول له: إنك لست من أهل هذه الآية.

أُلَّيس الصغرى.. وعودة الروح:

وبعد أن انسحب المثنى بقواته من الجسر، فعل شيئًا غريبًا، فقد وصل إلى منطقة الحفير، وتابعتهم بعض قوات الفرس في اليوم الثاني للمعركة 24 من شعبان، وكانت هذه القوات على يقين بعدم وجود أي قوات إسلامية في المنطقة، فيأخذ المثنى t مجموعة من الجيش ويقرر الهجوم على الجيش الفارسي لسحب فرحة النصر منهم، مجرد غارة دون الدخول في قتال عنيف معهم، وتقدم t صوب أُلَّيْس، وكانت مكان الموقعة التي انتصر فيها المسلمون قبل ذلك بقيادة خالد بن الوليد وقُتِلَ فيها أعدادٌ ضخمةٌ من الفرس، فتقدم نحوها ووجد حامية صغيرة من الفرس تسير على نهر الفرات، فيسرع بفرقته ويحاصر هذه الفرقة الصغيرة، ويقتل من فيها، وكان من بينهم (جابان) وهو الذي فرَّ من أُلَّيْس هَرَبًا، وفرَّ مرةً مكرًا من موقعة النمارق، وقُتِلَ في هذه الحادثة التي سُمِّيَت (أُلَّيْس الصغرى), وقُتل فيها أيضًا مردنشاه وكان رسولاً لبهمن جاذويه إلى أبي عبيد بن مسعود في موقعة الجسر، وعلى صغر حجم هذه الموقعة إلا أنها أحدثت هزّة عنيفة في الجيش الفارسي، فلم يكن الفرس يتوقعون على الإطلاق أنه ما زالت لدى المسلمين قوة تمكنهم من الدخول في أي قتال أو معارك بعد الجسر، كما أحدثت هذه الموقعة الصغيرة رفعًا لمعنويات الجيش الإسلامي.

استنفار عام بالجزيرة العربية:

نعود إلى المدينة وها هو عمر بن الخطاب يُطمْئِنُ العائدين من الجسر أنهم ليسوا فارِّين، وأنه لهم فئة، ويحفّزهم للقتال ومساعدة بقايا الجيش الإسلامي الموجود مع المثنى، وتعود القوات الإسلامية مرة أخرى من المدينة وتصبح قوة الجيش الموجود مع المثنى أربعة آلاف مقاتل، وهو عدد قليلٌ بالنسبة للأعداد الجرارة للفرس الموجودة في الناحية الأخرى، فقام عمر بن الخطاب بالنفير العام لكل المسلمين في الجزيرة العربية، وأرسل لكل قبيلة رسولاً أن يُخرِجوا من يستطيع منهم الحرب لقتال الفرس، وانتظر المثنى قدوم المدد الإسلامي له من المدينة، ويأتي لعمر بن الخطاب بعد أن أعلن الاستنفار العام جرير بن عبد الله وهو أحد صحابة النبي، وكان في الشام مع الجيوش الإسلامية الموجودة هناك، ولما علم بأمر موقعة الجسر أتى من فوره بعد أن استأذن قائدَه في الشام، وطلب أن يأتي بقبيلته (بجيلة) للمشاركة في حرب الفرس. وبجيلة هذه كانت إحدى قبائل العرب الموجودة في اليمن، ولما حدث انهيار سد مأرب وفرّت معظم القبائل من اليمن، سكنت كل منها في مكان، وتفرقت قبيلة بجيلة وسكن أهلها كلٌّ في مكان، فاستأذن جرير أن يجمع بجيلة وكان ذا رأي فيها، ويأذن له عمر لصعوبة الموقف، وقبل ذلك بعام رفض أبو بكر هذا الطلب من جرير، وأمره بالذهاب للقتال مع خالد .

انطلق جرير في جميع أنحاء الجزيرة العربية يجوب القبائل مجمِّعًا قبيلته، ومحمِّسًا لهم بأنه لا تُؤتى العرب وبجيلة موجودة فيهم، وظل يستثيرهم بهذا الأمر حتى جُمِع له منهم ألفان، وهو عدد ضخم جدًّا مقارنة بالعدد الذي خرج من المسلمين بعد استنفار عمر بن الخطاب للمسلمين ثلاثة أيام دون أن يخرج أحد إلا بعد ذلك، فقد خرج ألف فقط من المسلمين.

وقد كان جرير من كبار سادات العرب قبل الإسلام وأشرافهم، وقد أسلم سنة 10هـ، أي قبل وفاة النبي بفترة وجيزة، وعندما أتى ليسلم، قال له النبي: "لِمَ جِئْتَ؟"

قال: جئت لأسلم.

فأعطى له النبي وسادة وأجلسه بجواره وقال: "إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ".

يقول جرير : لم يكن ينظر إليَّ رسول الله بعد ذلك إلا ابتسم في وجهي.

وكان وسيمًا جميلاً، وكان النبي يقول: "وَاللَّهِ إِنَّ جَرِيرًا عَلَيْهِ مَسْحَةُ مَلَكٍ". وكان عمر يقول: والله إني لأرى جريرًا يوسف هذه الأمة.

وبعد أن أسلم وهو بهذه المكانة، كان يخدم كل المسلمين حتى من هو أصغر منه سنًّا؛ تواضعًا منه واحتسابًا للأجر، يقول : والله كان يخدمني جرير بن عبد الله، وكان أكبر مني سنًّا. ودخل عليه عمر بن الخطاب يومًا وهو يجلس مع أصحابه، فيُحْدِث أحدُ مَنْ حضر من الناس، فيقول عمر : أقسمتُ على من أحدث أن يقوم فيتوضأ. فيقول جرير : أقسمت عليك يا عمر أن تأمرنا أن نتوضأ جميعًا. وذلك لئلاّ يُحرِج مَن أحدث، فيقول عمر : يا جرير، والله كنت سيدًا في الجاهلية وأنت سيد في الإسلام. فكان يم القدر في الجاهلية، وفي الإسلام أيضًا.

ويذهب جرير بالألفين من الجنود معه إلى عمر بن الخطاب، فيقول لهم: أي الوجوه تحبون؟ فيقولون: الشام الشام أسلافنا.

فيقول عمر : بل العراق العراق، لقد فتح الله على أهل الشام، وعَضَّ الألم المسلمين في العراق، فاذهبوا وانصروا إخوانكم. فوافقوا، ويبدو أنهم لم يوافقوا سريعًا؛ لأن جريرًا قام فيهم خطيبًا يحفزهم على القتال والذهاب إلى إخوانهم في العراق، وقال لهم: إنكم لن تُهزَموا، فإما النصر وإما الشهادة.

ويحفِّزهم عمر بأكثر من ذلك فيقول: لـ"بجيلة" ربع الخمس من الغنائم. فيكون لهم 5 % من الغنائم إن تم النصر للمسلمين، وهذا نوع من تأليف القلوب والتحميس لهم.

وتخرج قبيلة بجيلة إلى العراق بقيادة جرير بن عبد الله عليهم، والجميع تحت إمرة المثنى بن حارثة .

تخرج أيضًا قبيلة كنانة وعلى رأسها أحد صحابة النبي القدامى، وشهد كل المشاهد مع رسول الله، وكان النبي يعتمد عليه كثيرًا في العمليات الحربية التي يقوم بها، وأخرجه النبي على رأس الكثير من السرايا، ومنها السرية التي خرجت إلى قبيلة الكديد، ولم يكن معه سوى بضعة عشر رجلاً، وأغاروا على هذه القبيلة إرهابًا لها وكانت على الكفر والعداء للمسلمين، ويذهب ويستطيع أن يأتي ببعض الأنعام ويرجع بها، وانتبه له أهل الكديد وعلى الفور تابعوه بأعداد لا قِبَل للمسلمين بها -كما يذكر المؤرخون- فينظر المسلمون وراءهم ويرون هذه الأعداد الغفيرة فيقولون: إنها الهلكة. فيقول سيدنا غالب : إن الله معنا. وسبحان الله! يأتي سيلٌ شديد من أعلى الجبل، ويفصل بين الفريقين، ويراه أهل الكديد وهو ينطلق بأنعامهم وماشيتهم دون أن يستطيعوا التحرك إليه؛ نظرًا لهذا السيل الذي أرسله الله بينهم.

ومن حروبه أن كان مغيرًا على قبيلة بني مرة مع المسلمين، وكانت هذه سرية من السرايا المشهورة.

أتى غالب بن عبد الله مع قومه من بني كنانة، وأمَّره عمر بن الخطاب على بني كنانة، وأطلقه تجاه العراق.

ثم أتى من قبيلة الأزد سبعمائة، ومنهم ، وكان قائدًا للجيش التاسع من جيوش أبي بكر في حروب الردة.

ووجهه عمر على رأس قبيلته إلى العراق لنصرة الجيوش الإسلامية.

وأرسلت قبيلة تَيْم بعض أفرادها، وأمَّر عليهم عمر t هلال بن علَّفة.

وقبيلة بني عمرو وهي فرع من فروع قبيلة تميم، وأمّر عليهم عمر وهو من أشراف العرب قبل الإسلام وبعده، ومن كبار الصحابة ، وله مواقف مشهودة سوف تأتي في فتوح فارس.

وأتت مجموعات أخرى من قبائل كثيرة، وبدأت الجيوش الإسلامية تزداد بهذا المدد القادم إليها من المدينة وما حولها.

ووصل تعداد هذا المدد 4000 من المقاتلين، وكان عمر قد أذن لمن ارتد وعاد إلى الإسلام أن يشارك في الحروب، فكثير من هؤلاء الآلاف الأربعة كان ممن ارتد عن الإسلام وعاد مرة أخرى، جاءوا إلى هذه المعركة وهم يطلبون الشهادة في سبيل الله تكفيرًا لذنوبهم، وهي فرصة سانحة لأن يرفعوا راية الله في العراق وفي فارس.

ويعلم المثنى بن حارثة -وهو في مكانه منتظرًا المدد الإسلامي- أن الجيوش الفارسية قد علمت أن المسلمين ما زالوا معسكرين في أماكنهم، وأن المدد قادم إليهم ولم تنتهِ الحرب كما توقعوا، فأخرجت بوران بنت كسرى جيشًا لقتال المسلمين، وأمَّرت عليه رجلاً يُسمّى مهران، وكان رستم هو الذي يدير هذه العمليات الحربية حتى إمارة "بوران بنت كسرى"، فيخرج هذا الجيش وفيه أكثر من سبعين ألفًا كلهم من الفرسان ومعهم ثلاثة أفيال، فهي أكبر قوة عسكرية تخرج من فارس؛ وذلك للقضاء بشكل نهائي على الجيش الإسلامي.

ماذا سيحدث بين الجيشين؟!



معركة البويب

بعد أن تجمع أربعة آلاف من أنحاء الجزيرة العربية، وجَّهَهُم عمر بن الخطاب إلى فارس، وأمَّر على كل طائفة رئيسًا منها، وكانت أكبر هذه الطوائف قبيلة "بجيلة" وعلى رأسها الصحابي الجليل جرير بن عبد الله .

وفي هذه الأثناء كان المثنى بن حارثة -وبعد الهزيمة الساحقة للمسلمين في موقعة الجسر- قد انسحب بقواته كلها على حدود الصحراء قرب الحفير، ولو ظل في مكانه لكان بإمكان الجيش الفارسي أن يبيده تمامًا، وظل في مكان بعيد في الصحراء حتى إذا هجم الفرس يستطيع أن ينسحب بعيدًا في الصحراء ويقاتلهم فيها، ولم يكن الفرس يعرفون مهارة الحرب في الصحراء كما يعرفها العرب المسلمون في الجزيرة العربية، وكان هذا تصرفًا في غاية الحكمة من المثنى .

وظل المثنى منتظرًا المدد الإسلامي القادم من المدينة، وفي هذه الأثناء علم أن الفرس يعدون جيشًا ضخمًا للقضاء على البقية الباقية من المسلمين، وذلك بعد أن علم الفرس ببقاء المسلمين في هذه المنطقة على غير ما توقعوا من فناء الجيش الإسلامي، واعتقادهم بأنه لا يقوى على أي مواجهة بعد الهزيمة التي مُنِي بها في موقعة الجسر.

كان الفيرزان -وهو أحد قادة الفرس، لكنه أقل درجة من رستم- قد قام بتمرد على رستم، وكانت له قواته الخاصة، وبعد تمرده قام الأساورة -وهم رجال الدين في فارس- بالصلح بينهما، وقالوا لهما: إن الخلاف بينكما هو الذي جرَّأ العرب علينا، وتسبب فيما تعانيه فارس من انقسام ومحن.

واستجاب الاثنان -رستم والفيرزان- وذهبا إلى "بوران بنت كسرى"، وطلبا منها توجيه جيش موحَّد من جنود رستم والفيرزان لكي يقضوا على المسلمين في معركة فاصلة، ووافقت "بوران" على هذا الأمر، وخرج الجيشان من فارس، وكان تعداد المقاتلين ما بين الستين والسبعين ألف مقاتل وكلهم من الفرسان، ومعهم ثلاثة أفيال وعلى رأس الجيش قائد يُسمَّى مهران بن باذان، وكان أحد قادة رستم، وكان يعرف العربية جيدًا ويعرفه العرب جيدًا؛ فقد تربى فترة من حياته في اليمن عندما كانت مقاطعة فارسية.

المثنى يختار مكان المعركة:

وتوجّه الجيش الفارسي الجرَّار من المدائن في طريقه إلى الحيرة، وذلك لمقابلة المثنى بن حارثة الذي يعسكر بجوار الحيرة، وعلمت المخابرات الإسلامية بهذا الأمر، واستفاد المثنى من الأخطاء السابقة ومن خبراته مع خالد بن الوليد ، فقرر أن يختار هو مكان المعركة، وتوجه بجيشه إلى منطقة تُسمَّى "البُوَيْب" وأرسل رسالة إلى جرير بن عبد الله، ورسائل أخرى إلى أمراء القوات الإسلامية القادمة من المدينة بأن يتوجهوا إلى البُوَيب؛ لأنه قد عجل له أمر لا يستطيع معه البقاء في مكانه القريب من الحيرة، وتقدّم المثنى t واختار المكان قبل أن يأتي الجيش الفارسي وعسكر في المكان، وكان المكان الذي اختاره في غرب نهر الفرات.

فهذا النهر يفصل بين الجيش الإسلامي والجيش الفارسي القادم من المدائن، وبعد فترة جاء المدد الإسلامي وانضم إلى جيش المثنى ، وجاء الجيش الفارسي، وأصبح قوام الجيش الإسلامي ثمانية آلاف، وقوام الجيش الفارسي ما بين الستين والسبعين ألفًا على الضفة الأخرى لنهر الفرات، وعلى نهر الفرات يوجد جسر، وكأن الأحداث تتكرر مرة أخرى.

وأرسل الجيش الفارسي كالعادة رسالة إلى المثنى فيها: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم. فأجاب المثنى t الفرس بأن يعبروا هم إلى المسلمين، وعاد الرسول إلى أهل فارس وأخبرهم بالأمر.

كان المثنى قد نظَّم جيشه جيدًا، فجعل على الميمنة بشير بن الخصاصية t، وعلى الميسرة بُسر بن أبي رُهم، وكان المثنى t في مقدمة الجيش، وجعل فرقة في الجيش باسم فرقة الاحتياط، كانت في المؤخرة لا تشترك في القتال وعلى رأس هذه الفرقة مذعور بن عدي، وفرقة للخيول على رأسها أخوه مسعود بن حارثة، وعلى فرقة المشاة المُعَنَّى بن حارثة، وبدأ يحفِّز الجيش للقتال، ويمرُّ على كل قبيلة بمفردها قائلاً لأهلها: والله لا نحب أن نُؤْتَى من قِبَلِكُم اليوم، ولا أكره شيئًا لي إلا أكرهه لكم.

ولم يذكِّر المسلمين على الإطلاق بموقعة الجسر، وذلك حتى لا يتذكروا الهزيمة في هذا الموقف الذي يحتاجون فيه إلى قوة عزيمة، وبأس شديد.

وأمر الشعراء، فقام كل الشعراء يحمسون الناس بأشعارهم للقتال، ويذكرونهم بالله تعالى، وبموعوده الجنة أو النصر.

رتَّب المثنى الجيش بصورة دقيقة ومنظمة للغاية، حتى قال المؤرخون: إن صفوف المقاتلين كانت كصفوف المصَلِّين. ورأى المثنى رجلاً متقدمًا من مكانه في الصف فسأل عنه، فقال الناس: إنه كان ممن فروا يوم الجسر، وهو الآن يستقتل. فضربه المثنى على صدره، وقال له: أتستقتل وتهلك المسلمين؟ والله إنه إما النصر أو الشهادة.

وأصبح الجيش المسلم مهيئًا للقتال جيدًا، وبدأ الجيش الفارسي يعبر الجسر الضيِّق إلى أرضٍ قد حاصرها المسلمون من كل مكان، ويتكرر المشهد.

فعندما يعبر الفرس يكونون شرق نهر الفرات، وفي غربهم البحيرة وفي شمالهم نهر البُوَيب، والجيش الإسلامي في المنطقة يحصر المنطقة بكاملها، وتدخل القوات الفارسية وهم ما بين الستين والسبعين ألفًا في هذه المنطقة الضيقة، ويفتقد جيش الفرس عنصر الكثرة؛ لأن المساحة التي تركها المسلمون للفرس ضيقة، ويقف جيشهم بكامله صفوفًا خلف بعضهم، ويقابل صفهم الأول فقط صفَّ المسلمين الأول، ولا يستطيع أحد الدخول في المعركة غير الصف الأول من كلا الجيشين، فلا قيمة لعدد الجيش إذن، وإنما يُبْنى النصر أو الهزيمة على مدى قوة الصف المحارب من كلا الفريقين، وإن كان على المسلمين أن يحاربوا وقتًا طويلاً نظرًا لكثرة الجيش الفارسي، وكان هذا اختيارًا موفقًا من المثنى وتعويضًا لما حدث في معركة الجسر من اختيار سيئ لأرض المعركة.

دخل الجيش الفارسي المصيدة، والجيش الإسلامي في المنطقة الأمامية، وعلى مقدمة جيش الفرس ثلاثة أفيال، ويتبعها الجيش الذي لم يكن فيه أي مشاة، وإنما كانوا جميعًا من الفرسان، وتقدم الفرس وهم يصيحون صيحات مزعجة حتى يُوقِعُوا الرعب في جيوش المسلمين، وبهدوء عجيب يقول المثنى لجيشه: عليكم بالصمت والزموا أماكنكم؛ فإن ما يفعلون إنما هو فشل منهم، وَأْتَمِروا بهمس.

كانت فرسان الجيش الإسلامي في المقدمة، وفي مقدمة الفرس ثلاثة أفيال، وأوصى المثنى جنده بالصبر في القتال، وبالفعل صبروا كثيرًا، ونظرًا للتدافع الشديد من قبل الفرس بدأ الفرس يهجمون على ميمنة الجيش الإسلامي بقيادة بشير بن الخصاصية وكان المثنى -وهو في المقدمة- قد رأى اعوجاجًا في صف البشير، فأشار إلى أحد الرسل أن يذهب إليهم ويقول لهم: الأمير يُقرِئُكُم السلام، ويقول لكم: لا تفضحوا المسلمين اليوم.

واعتدلت هذه الصفوف، ونظروا إلى المثنى فوجدوه يضحك، فازدات معنوياتهم كثيرًا، وهكذا كان المثنى يقود جيشه.

وفكر المثنى t بعد أن رأى صفوف الفرس الكثيرة متلاحمة تلاحمًا قويًّا، ويصعب السيطرة عليها وهي بهذا الوضع، فقرر أن يفرقها لينتصر عليها، فنادى على جرير بن عبد الله وقبيلته بجيلة وتقدمها هو (المثنى)، وبدأ يضاعف الضربات على وسط الجيش الفارسي، واستطاع الجيش الإسلامي بالفعل أن يفصل الجيش الفارسي إلى جزأَيْن: أحدهما على اليمين والآخر على اليسار، وكلا الجزأين يفتقد الاتصال بالآخر، وازداد ضغط القوات الإسلامية حتى فُصِلَ الجيش الفارسي عن بعضه تمامًا، ووفَّق الله جرير بن عبد الله البجلي فقتل مهران بن باذان قائد الفرس، وكان لقتله أثر كبيرٌ على الفرس، حتى إن المسلمين اختلفوا بعد المعركة فيمن قتله، فقال جرير بن عبد الله: والله أنا قتلته. وقال منذر بن حسان: والله أنا قتلته. لكن معظم الأقوال أن جريرًا هو الذي قتله، وبدأت قوى الجيش الفارسي تنهار أمام الضغط الإسلامي على جزأي الجيش المنقسم، وهذا كله يحدث دون أن تشترك المجموعة الاحتياطية بقيادة مذعور بن عدي؛ حتى تحمي ظهر المسلمين من أي التفاف ربما يحدث من الجيش الفارسي حول الجيش الإسلامي.

بعد هذا القتل في الجيش الفارسي بدأ الفرس يفكرون في الهرب، وذهب المثنى فسه وقطع الجسر على الفرس الذين يريدون الهروب، وانحصر الفرس في هذا المكان وليس لهم إلا أن يقاتلوا، وبدأ المسلمون في معركة تصفية مع الجيش الفارسي.

انتصر المسلمون انتصارًا ساحقًا، وقُتِلَ أكثر من خمسين ألفًا من أهل فارس، ولضيق المكان كانت جثثهم يعلو بعضها بعضًا. ويذكر المؤرخون أن عظامهم ظلت فترة طويلة متراكمة على بعضها نظرًا لكثرتها.

عودة للحق:

ومع أن قطع المثنى للجسر كان أحد أسباب النصر للمسلمين والهزيمة للفرس إلا أن المثنى حزن لهذا الأمر؛ لأنه قال بأنه لا يجب أن يُكْرَه أحدٌ على القتال، وكان يجب ألاّ يُقطع خط الرجعة على الفرس، بل كان يجب مطاردة فلولهم الهاربة، وإحداث الرعب في مَن بقي منهم؛ وذلك لأن من حُصِرَ منهم ولا يستطيع الفرار ليس أمامه إلا الموت أو الانتصار على المسلمين، وهو وإن قُتِلَ فلا شك أنه قبل أن يُقتَل سيصيب من الجيش الإسلامي. ومن هنا نَدِم المثنى على قطعه للجسر، وأوصى جيشه بعدم تكرار هذا الأمر في المعارك الأخرى.

فمع كون المثنى هو القائد إلا أنه عندما ظن أنه أخطأ جمع جيشه، وعلَّمه الصواب معترفًا بخطئه، غير متعالٍ على جنده.

تتبع الفارين وفتح السواد:

بعد هذه الموقعة ارتفعت المعنويات الإسلامية إلى درجة عالية، فقد انتصروا في المعركة، واسترجعوا الأرض التي كانوا قد أخذوها قبل ذلك، وكما نرى "الفرس" فقد فَرَّ من استطاع منهم إلى المدائن قبل قطع الجسر، وهبطت معنوياتهم إلى الحضيض.

لم يكتفِ المثنى بما تم، ولكنه أرسل قواته لتتبع الفارِّين، ولفتح الأراضي التي كانوا قد تركوها منذ فترة قصيرة، وأرسل مجموعة من القواد مع جيوشهم إلى منطقة السواد ما بين دجلة والفرات، وانتشرت القوات الإسلامية تفتح هذه الأراضي التي كانت قد عاهدت المسلمين من قبل ثم نقضت عهودها معهم، واستخلف المثنى بشير بن الخصاصية على الحيرة، وظل هو في البُوَيب يدير الموقف.

وقد تم للقوات الخمسة التي أرسلها المثنى فتح الجزيرة، وكانت في منطقة ساباط قلعة يوجد بداخلها مجموعة من الفرس قد رفضوا الاستسلام، فأرسل عصمة وعاصم وجرير بن عبد الله إلى المثنى يطلبون رأيه في هذا الأمر، فأذن لهم بحصارها وقتالها، وحاصرت القوات الإسلامية الثلاثة هذه المنطقة وتم فتح قلعة ساباط في هذه الموقعة "ساباط"، ولم يشترك فيها المثنى بن حارثة وإنما هذه الفرق الثلاث فقط.

وبهذا سيطر المسلمون على هذه المنطقة كلها ما بين الأبلَّة وحتى المدائن، وهي المنطقة التي كان يسيطر عليها خالد بن الوليد بعد فتحه للحيرة.

ووصل المسلمون حتى قرب المدائن، ووصلوا إلى شمال الحيرة.

كان هذا شيئًا عظيمًا للمسلمين بعد هزيمة كبيرة في معركة الجسر، وبعد أن ظن الفرس أنه لا قيام للجيش الإسلامي بعد ذلك، ولكن أراد الله أن يستكمل المسلمون النصر في هذه الموقعة.

ونجد أن المثنى بن حارثة يقاتل الفرس في مجالين مختلفين، ويفكر في البدء في القتال في المجال الثالث.

المجال الأول: القتال في المواقع الضخمة حيث تكون القوات أمام القوات، مثل موقعة البُوَيب، وبابل من قبلُ.

المجال الثاني: السرايا والفرق التي تستطيع مهاجمة الأماكن التي تخلو من القوات الفارسية الكبيرة، وتسيطر على هذه الأراضي وتحميها من القوات الفارسية الضعيفة الموجودة في تلك المناطق.

المجال الثالث الذي كان يفكر فيه المثنى هو ما يسمى في العصر الحديث بـ"حرب الاستنزاف"، أي القيام بغارات مفاجئة على الجيش الفارسي في عمق أراضي الفرس، دون أن يحتفظ بتلك الأراضي لقلة القوات الإسلامية، فيحدث ذلك نوعًا من الرعب والفزع عند الفرس، وتعود بعد ذلك هذه القوات ومعها بعض الغنائم والأموال.

الهجوم على أسواق فارس:

فكر المثنى في الهجوم على أسواق فارس، وكانت أسواقهم من الشهرة بمكان في التاريخ، فقد كان فيها ثراء كبير، وكانت تُدِرُّ الكثير من الأموال على القصر الفارسي، وكان بهذه الأسواق بعض الحاميات لحراستها، وكانت تأتيها التجارة العظيمة من الهند والسند والصين ومن فارس أيضًا، وكانت تلك التجارة في الذهب والفضة والحرير وأشياء من هذا القبيل، لكن كان أهم ما فيها الذهب والفضة.

قرر المثنى أن يقوم بغارة على تلك الأسواق، وقرر أن يبدأ بالغارة على سوق الخنافس وكان ذلك في شهر شوال، وكانت هذه المنطقة قد فتحها خالد لكنها ثارت على المسلمين وفقدوها، ولم يكن الجيش الإسلامي قد وصل إليها.

وتعمية على الجيش الفارسي لم يتحرك المثنى شمالاً تجاه الخنافس، وإنما تحرك جنوبًا تجاه الحيرة، ثم غربًا عند أُليِّس، ثم توغل في عمق الصحراء بعيدًا عن العيون حتى وصل إلى الخنافس في أول الصبح، وهاجم الحامية الفارسية التي تحرس السوق وقتلهم، وأمر الجنود ألا يحملوا إلا ما يستطيعون العودة به، فحمل الجنود الذهب والفضة.

وقبل أن تصل الأخبار إلى الأنبار، كان المثنى د توجه إلى منطقة الأنبار التي كانت فيها موقعة ذات العيون، وعندما رأى أهل الأنبار قوة المسلمين استسلموا على الفور وقالوا: عهدنا مع الأمير كما هو. فقبل منهم المثنى ووضع على الأنبار حامية، وأخذ منهم دليلاً يدله على منطقة بغداد -وهي بغداد التي جعلها العباسيون بعد ذلك عاصمة لهم، وهي بغداد الحالية، وهي تقع على حوالي 40 كم شمال المدائن- ولم يكن المسلمون قد دخلوها من قبل، ومن ثَمَّ أخذ معه هذا الدليل، وكان قد استصحب لهذا الأمر دليلاً آخر أتى به معه من الحيرة، وكان يسمع من كلا الدليلين كلٍّ على حدة؛ وذلك لئلا يُخدع.

وتحرك من الأنبار متجهًا إلى بغداد، وقبل أن يصل المثنى إلى بغداد عسكر في الطريق، وبدأ ينظم القوة الصغيرة التي معه ويرتبها، وأرسل طلائع صغيرة على كل الطرقات المؤدية إلى بغداد؛ حتى يمنع إيصال أخبار هذه الغارة إلى أحد من أهل بغداد، تمامًا كما يحدث في التشويش على الرادار Radar.

وبعد استراحة للقوة التي معه على بعد 20 كم من بغداد بدأ التحرك نحوها، وعسكر ليلاً بالقرب منها، ثم صبَّحهم في السوق بعد أن أُعِدَّ السوق للبيع والشراء، فقتل الحامية، وأخذ كل ما في السوق، وعاد من فوره إلى منطقة تُسمَّى "السيلحين"، وهي على بُعد 35 كم من بغداد.

وتناجوا بالبر والتقوى:

استراحت القوة الإسلامية في هذه المنطقة بعد الجهد الذي بذلوه في تلك الغارة، وسمع المثنى بن حارثة أحد الجنود يقول للآخر: والله ما أسرعَ الفرس في طلبنا؛ فقد توغلنا في أرض فارس!! فهو يخاف من الفرس أن يتتبعوا هذه الفرقة بعد هذه الغارات، فغضب المثنى من هذا الأمر، ووقف يخطب فيهم قائلاً: تناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان، انظروا إلى الأمور وقدروها ثم تكلموا.

ثم يوضح لهم المثنى حقيقة الأمر فيقول لهم:

إنه لم يبلغ النذير مدينتهم بعد (أي لم يبلغ خبر هذه الغارة إلى المدائن)، ولو بلغهم لحالَ الرعبُ بينهم وبين طلبكم، إن للغارات روعاتٍ تنتشر عليها يومًا إلى الليل، ولو طلبكم المحامون من رأي العين، ما أدركوكم وأنتم على الجياد العِرَابِ (الخيول العربية الأصيلة) وهم على المقاريف البطاء (الخيول المهجنة)، حتى تنتهوا إلى معسكركم وجماعتكم. ولو أدركوكم لقاتلتهم لاثنتين؛ التماس الأجر ورجاء النصر، فثِقوا بالله وأَحسِنوا به الظن، فقد نصركم الله في مواطن كثيرة وهم أعدُّ منكم (أي أكثر عدة). وسأخبركم عني وعن انكماشي (أي سرعتي)، والذي أريد بذلك إن خليفة رسول الله أبا بكر أوصانا أن نقلل العُرْجَة (الإقامة في أرض العدو)، ونُسرِع الكَرَّة في الغارات.

وقد استفاد المثنى من الصديق مع أنه لم يره في حياته إلا مرتين، مرة عندما ذهب يستأذنه لقتال أهل فارس، والمرة الثانية عندما ذهب إليه ليطلب المدد لجيشه.

وتم النصر للمسلمين في هاتين الغارتين، ويرسل المثنى فرقة إلى سوق الكباث في أقصى شمال الجزيرة عليها المضارب العجلي، وفرقة أخرى بقيادة فرات بن حيان إلى مكان يُسمى صفّين وهو أحد أسواق العراق، ويعود الجيش الإسلامي من "السَّيْلَحين" إلى منطقة الأنبار، ويترك عليها بشير بن الخصاصية ، ويتوجه المثنى إلى الحيرة، ويتخذها مكانًا لقيادة الجيوش.

في هذه الأثناء تملَّك الجيشَ الفارسيَّ الرعبُ الشديدُ؛ إذْ كيف يصل المسلمون إلى عمق الأراضي الفارسية بهذه الصورة، وبدأ قادة الفرس يلوم بعضهم بعضًا، ودبَّ الخلاف مرة أخرى بين رستم والفيرزان، واجتمع الأساورة اجتماعًا كبيرًا، وقالوا لرستم والفيرزان: إن ظللتم على خلافكم هكذا لَنقتُلنَّكم، ولا يمنعنا من قتلكم إلا الهلكة، ولكن إن دمتم على هذا الخلاف لقتلناكم وهلكنا، لكننا اشتفينا منكم، فأجمعا أمركما والقيا العدو صفًّا واحدًا. وكان للأساورة رأي مسموع في البلاط الملكي وعند "بوران بنت كسرى"، وخشي رستم والفيرزان أن تكون عاقبتهما القتل، أو التخلِّي عن إمرة الجيوش على الأقل، ومن ثَمَّ قرَّرا التوحُّد والقيام بحرب ضد المسلمين.

يزدجرد كسرى فارس:

كان حكم فارس حتى هذا الوقت في يد امرأة هي "بوران بنت كسرى"، وفكَّر الفرس في أن يأتوا برجل يصلح أن يكون حاكمًا لفارس، ولا بد أن يكون من آل ساسان، فجمعوا نساء كسرى وكانوا بالعشرات وجواريه بالمئات، وأخذوا يعذبونهن حتى يَدُلُّوهم على أحد أبناء كسرى، فأقرَّت إحداهن بعلمها أن ابنًا لإحدى نساء كسرى ما زال حيًّا، فأتوا بها وعذبوها حتى أقرَّت بمكانه، وكانت قد أخذت ابنها -عندما كان "شيرويه" وهو أحد الأكاسرة يقتل كل من يعتقد أنه ربما يكون من الأكاسرة حتى لا ينازعه الحكم- ووضعته في زَبِيلٍ (أي جِوَال)، وهرَّبته من نافذة القصر، واختفى في منطقة تُسمى حلوان في أقصى شرق فارس، فذهبوا إليه وأتوا به، وكان اسمه "يزدجرد" الثالث، وقدموا له الولاء والطاعة وكان عمره 21 عامًا.

بدأ "يزدجرد" ينظم الجيوش ويدير الأمور وهو حديث عهد بذلك، وأول ما فكر فيه هو القضاء على قوة المسلمين، وقرر أن يلقي بكل القوة الفارسية لقتال المسلمين، وتحت قيادة رستم والفيرزان.

جُمِعت أعداد ضخمة من الجنود، وتوجهوا تجاه الجيش الإسلامي، ووصلت الأخبار إلى المثنى بتجمع الفرس العظيم لملاقاة المسلمين.

واستفاد المثنى من خبراته السابقة مع خالد بن الوليد ، فانسحب بجميع قواته من المناطق التي كان قد استولى عليها؛ الأنبار وساباط ومن الحيرة، وانسحب أيضًا من الأبلّة وجعل تجمعه في منطقة تُسمى "ذا قار"، وكان بهذه المنطقة قبل ذلك موقعة بين العرب والفرس في الجاهلية، وانتصر فيها العرب، وظلوا يذكرونها كثيرًا.

وما يميز منطقة ذي قار أنها على أبواب الصحراء، والجيش الفارسي لا يجيد القتال في الصحراء، وكان هذا هو المكان الذي اختاره المثنى t حتى يعسكر فيه ويستطيع الجيش الإسلامي من خلاله أن يفر إلى الصحراء في أسوأ الحالات، عند حدوث هزيمة مثلاً.

واتجه الجيش الفارسي من المدائن إلى "ذي قار"، وأرسل المثنى t رسالة إلى عمر بن الخطاب يخبره فيها أن الفرس يجمعون كل عدتهم وعتادهم لقتال المسلمين، وبمجرد أن وصلت الرسالة أعلن عمر بن الخطاب النفير العام، وأرسل الدعاة إلى كل الجهات لحثِّ الناس على الجهاد وقتال الفرس؛ لأن الجيش الإسلامي وقوامه ثمانية آلاف لا يقوى على مواجهتهم بهذا العدد الضخم الذي لم يستطع المسلمون أن يحددوه بعد.

وفاة المثنى :

كان المثنى قد أُصيب في موقعة الجسر، وظلَّ متأثرًا بها طيلة هذه الفترة، فبعد أن أرسل رسولاً إلى عمر بن الخطاب ، وقبل أن يصل الرسول كان الله تعالى قد اختاره إلى جواره، وكتب وصية إلى عمر بن الخطاب وأرسلها مع أخيه المُعَنَّى بن حارثة وفيها: لا تقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء. وفي الوقت نفسه كان رسول المثنى -رحمه الله- قد وصل إلى عمر t، ولم يعلم عمر بعدُ بأمر وفاة المثنى، فكتب رسالة له فيها: "لا تقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء".

وكان هذا التوافق في الرأي يدل على بُعد النظر وعمق التفكير، فقد استفاد المثنى بن حارثة كثيرًا من تجاربه السابقة، وفي الوقت ذاته فإن عمر بن الخطاب وهو في المدينة يرى الرأي الصائب لعمق فكره، وحسن تخطيطه وإدارته .

ماذا تمَّ بعد ذلك؟


 
رد: فتوحات العراق وفارس

الأعداد للقادسية ووصية عمر

كان التوافق في الرأي بين عمر والمثنى في رسالتيهما المتبادلتين على غير اتفاق -والتي ينصح فيها كلٌّ منهما الآخر بأن الفرس لا تُقاتَل إلا على أبواب الصحراء- يدل على بُعد النظر وعمق التفكير؛ فقد استفاد المثنى بن حارثة رضي الله عنه كثيرًا من تجاربه السابقة، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في المدينة يرى الرأي الصائب لعمق فكره، وحسن تخطيطه وإدارته رضي الله عنه.

عمر يحث المسلمين على الجهاد:

أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الأمراء والخطباء والشعراء في كل أطراف الجزيرة العربية لكي يحثُّوا الناس على الجهاد؛ فجاء إلى المدينة وفي وقت قليل -أقل من شهر- حوالي أربعة آلاف مسلم من الجزيرة العربية، منهم ثلاثة آلاف من اليمن وألف من قبيلة قيس، وقرروا أن يخرجوا للجهاد في سبيل الله سواء إلى الشام أو إلى العراق، لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختار العراق؛ لأن الشام في هذا الوقت كانت الحروب فيها قد تقدمت تقدمًا عظيمًا لصالح المسلمين تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح.

جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أربعة آلاف مقاتلٍ في مكانٍ على بعد خمسة كيلو مترات من المدينة المنورة يُسمَّى "صرار"، وبدأ في تجهيز الجيش وتنظيمه؛ فجعل على الميمنة الزبير بن العوام رضي الله عنه، وعلى الميسرة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وجعل نفسه على المقدمة، واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد خرج رضي الله عنه بكل طاقة المدينة المنورة، وخرج هو على رأس هذا الجيش.

لم يكن عمر رضي الله عنه يرى أن من الحكمة أن يخرج بنفسه -وهو أمير المؤمنين والمسئول الأول عن الدولة الإسلامية الممتدة شرقًا وغربًا، والتي تحارب جيوشُها في أكثر من جهة لنشر الإسلام- مع الجيش الخارج للقتال في فارس ويترك المدينة المنورة، فكيف يكون الحال إذا قُتِلَ مثلاً؟ لا شك أنها ستكون كارثة، ولكنه خرج ابتداءً استكمالاً لبذل الجهد، وحثًّا للناس على الخروج للجهاد في سبيل الله.

فقال عمر رضي الله عنه للناس: أَشِيرُوا عليَّ. أي في أمر خروجي معكم.

فقال عامة الناس: سِرْ وسِرْ بنا معك.

عامة المسلمين -إذن- يريدون الخروج للحرب تحت إمرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه!

ونذكر قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: والله إني وددتُ أني أبعث إلى الشام بأبي عبيدة بن الجراح، وإلى العراق بعمر بن الخطاب. ولكنه احتاجه للرأي والمشورة فأبقاه في المدينة، وكان أبو بكر رضي الله عنه يومها خليفةً للمسلمين، فكيف الحال الآن وأبو بكر رضي الله عنه قد تُوُفِّي: أتُتْرَكُ المدينة وهي مركز الإدارة للدولة الإسلامية دون أن يكون فيها عمر؟!

وافق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رأي العامة وهو لا يراه صوابًا، لكنه انتظر رأيًا آخر، فقام علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما -وهما من كبار الصحابة- وقالا كما قال العامة: سِر وسِر بنا معك.

فقام العباس بن عبد المطلب وقال: لا والله لا أرى ذلك رأيًا! بل تبقى في المدينة ويخرج على المسلمين أحد صحابة رسول الله .

وقام عبد الرحمن بن عوف وقال: والله إني أرى رأي العباس، لا تخرج من المدينة، وتبقى على إمرة المسلمين ويخرج غيرك على إمرة الجيش. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسمع لرأي العباس وعبد الرحمن بن عوف قبل ذلك كثيرًا، وهما ذوا خبرة وحكمة في الأمور، وكان المسلمون إذا احتاجوا شيئًا من عمر بعثوا له عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وإلا أرسلوا له العباس رضي الله عنهم جميعًا.

وبدأ المسلمون يتناقشون في هذا الأمر، فقام عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال مخاطبًا عمر رضي الله عنه: اجعلني فداك بأبي وأمي، تبقى للمسلمين في المدينة، والله أخشى لو خرجت لقتال الفرس في العراق وقُتِلْتَ ألاّ يكبر المسلمون بعد ذلك، ولا يشهدوا أن لا إله إلا الله!!

سمع ذلك المسلمون فتراجع على الفور علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما عن رأيهما، وكانا من كبار أصحاب الرأي بخروج عمر رضي الله عنه مع الجيش، وعندما رأى عامة المسلمين تراجع هذين -رضي الله عنهما- وافقوا جميعًا على بقاء الفاروق رضي الله عنه بالمدينة، وخروج أحد صحابة النبي على إمرة الجيش.​

اختيار قائد الجيش:

ظهرت مشكلة أخرى أمام عمر رضي الله عنه وأمام المسلمين، وهي اختيار قائد لهذا الجيش الخارج لقتال الفرس في هذه الموقعة الفاصلة التي يُعِدُّ لها الفرس كل ما لهم من طاقة للقضاء على المسلمين تمامًا، وقد كانوا يعتقدون أن قوة المسلمين قد انتهت في معركة الجسر، ولكن ما إن انتصر المسلمون في "البُوَيب"، وبدأت الغارات الإسلامية على الأسواق داخل الأراضي الفارسية، حتى أعدَّ الفرس كل ما لديهم من العدد والعتاد تحت قيادة رستم أعظم قائد في تاريخ فارس، كما يقول المؤرخون.

لا بد -إذن- أن تكون القيادة الإسلامية على مستوى هذه المعركة الفاصلة والحاسمة. واجتمع قادة المسلمين للتشاور في هذا الأمر المهم للغاية، وبدءوا في عرض الأسماء المؤهلة لهذا الأمر الجلل، ولم يستقروا بعدُ على اختيار القائد العام للجيش، وفي هذه اللحظات وهم ما زالوا في صرار، وصلت رسالة من هُذيل -وهي منطقة تقع شرقي مكة، وكان يحكمها أحد كبار أصحاب النبي، وكان قد أمَّره عليها أبو بكر الصديق رضي الله عنه- تقول الرسالة: إن أمير هذه المنطقة -وهو هذا الصحابي الجليل- قد جمع الزكاة والصدقات، وأنه قد أعدَّ ألف فارس من ذوي النجدة، وقرأ عبد الرحمن بن عوف الرسالة قبل أن تصل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

فقال عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب: واللهِ وجدته.

قال عمر: من؟

قال: الأسد في براثنه. فعرفه عمر رضي الله عنه على الفور، ووافق على قيادة هذا الأسد للجيش.

وأرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ردًّا على رسالته أن قبلنا الصدقات، وأَرْسِلِ الجندَ، وأنت أمير الجيوش. ويأتي هذا الصحابي تلبية لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويصبح أميرًا على هذا الجيش.

فمَنِ الأسد في براثنه؟

إنه سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه.

مناقب سعد بن أبي وقاص:

أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين استخلفهم عمر رضي الله عنه للخلافة بعد وفاته، وهو خال رسول الله -ابن خالة أمه - وكان النبي يفاخر به القوم مداعبًا صحابته رضي الله عنه، ومفاخرًا للأقوام التي تأتي له، ويقول: "هَذَا خَالِي، فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ".

وهو رضي الله عنه خامس من أسلم على وجه الأرض برسالة النبي محمد ، وقيل هو السابع.

والأربعة الذين قبله أبو بكر الصديق، والسيدة خديجة، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، والخامس هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكان قد أسلم على يد الصديق رضي الله عنه، وكان عمره عند إسلامه سبعة عشر أو تسعة عشر عامًا.

سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه هو الوحيد الذي فداه الرسول بأبيه وأمه، ففي غزوة أحد كان الرسول يقول له: "ارْمِ سَعْدٌ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي".

كان عمله رضي الله عنه هو بري النبال وسنُّ السيوف، ومن أثر هذه المهنة عليه أنه كان من أشد الناس إجادة في الرمي، فقَلَّما كان يخطئ في الرمي، وكان دائم الحراسة لرسول الله، وكان ممن يحمون رسول الله في غزوة أُحد، وقد أطلق في يومه أكثر من مائة سهم، وكان أقرب الناس للرسول.

سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه هو أول من أطلق سهمًا في الإسلام، فبعد أن استقر الرسول في المدينة أرسل سرية بقيادة عبيد بن الحارث لاعتراض قافلة لقريش، وكان سعد رضي الله عنه هو أول من أطلق سهمًا على هذه القافلة، ولكن هذه القافلة استطاعت الهروب، وكان ذلك قبل موقعة بدر.

وكان الرسول يدعو له: "اللَّهُمَّ سَدِّدْ رَمَيْتَهُ، وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ". وبعد أن دعا له النبي بهذه الدعوة لم تُرد له دعوة، ولم تخطئ له رمية.

وكان أحد اليهود قد أخطأ في حق سعد رضي الله عنه فصبر عليه، ثم أخطأ في حقه فصبر عليه؛ فلما نفد صبره دعا عليه قائلاً: اللهم أهلكه بدابة عظيمة. وبعدها بقليل دخل جملٌ عظيمٌ السوقَ، وتتبع الجمل هذا الرجل اليهودي، والرجل يهرب منه في وسط الزحام ويقول: والله إنها لدعوة سعد!! حتى أهلكه الجمل.​

وصية عمر لسعد بن أبي وقاص:

عند خروج سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من صرار متجهًا إلى العراق، قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا سعد، لا يغرنّك أن قيل: إنك خال رسول الله ؛ فإنه ليس لله نسب إلا الطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي منذ بُعِث حتى فارقنا، فالزمه فإن ذلك الأمر، هذه عظتي إياك إن تركتَها ورغبت عنها حبِطَ عملك، وكنتَ من الخاسرين".

وعندما خرج بالجيش ناداه عمر رضي الله عنه موصيًا إياه قائلاً: "إن الله إذا أحب عبدًا حبَّبه، وإذا أبغض عبدًا بغّضه، فاعتبر منزلتك عند الله تعالى بمنزلتك عند الناس".

يخرج سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه على رأس أربعة آلاف مقاتلٍ، ويتوجه بداية من "صرار" إلى "زرود" وهي على بعد 585 كم من المدينة، وهي كما نرى مسافة كبيرة، فيقول له عمر رضي الله عنه: "اذهب إلى "زرود"، وإذا وصلت إليها فانشر جيشك حول الماء -وكان بهذا المكان آبارٌ كثيرة- حتى يأتيك مدد آخر، واجمع من استطعت ممن حولك".

إذن فسعد رضي الله عنه يتحرك خطوة بخطوة وَفْقَ أوامر وترتيبات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا على عكس ما كان يتبعه أبو بكر رضي الله عنه حيث كان يعطي القائدَ الخطة العامة ويتركه يتصرف ويتحرك حسبما يرى، ومع ثقة عمر رضي الله عنه بقواده ثقة كاملة، وحسن اختياره لهم إلا أنه يرى أن من مسئولياته أن يتابع تحركات الجيش خطوة خطوة، ويقول لعامة المسلمين: إنني بينكم وبين الله، وإنه ليس بيني وبين الله أحد. أي أنه يريد أن يقول لهم: إنهم إذا أخطئوا فسيسأله الله عنهم، أما هو إذا أخطأ في حق المسلمين فلن يُسْأَل عن هذا الخطأ غيره.

ومن ثَمَّ يأمر سعدًا رضي الله عنه أن يبقى في "زرود" حتى تأتيه أوامر أخرى بمتابعة التحرك بالجيش.

يصل سعد رضي الله عنه إلى "زرود"، ويعسكر هناك منتظرًا المدد، وجامعًا للناس أيضًا من النواحي القريبة، وفي هذا التوقيت يصل إلى المدينة ألفان من اليمن وألفان من نجد، فيرسلهم عمر رضي الله عنه إلى "زرود" حيث يعسكر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

وكان عمر رضي الله عنه لا يدع ذا سطوة، ولا ذا رأي أو جاه، ولا شاعرًا ولا خطيبًا إلا أرسله تجاه العراق حتى تتبعهم أقوامهم، وكان يقول: واللهِ لأضربنَّ ملوك الفرس بملوك العرب.

وصل تعداد جيش سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بعد هذا المدد إلى ثمانية آلاف جندي.

وتحرك سعد رضي الله عنه في المنطقة التي يعسكر فيها باحثًا عن جنود ينضمون للجيش، فذهب إلى قبيلة تميم -تقع شرق زرود- فجنَّد منها ثلاثة آلاف، ثم غرَّب وذهب إلى قبيلة أسد فجنَّد منها ثلاثة آلاف، ومن منطقة الرَّباب -وهي منطقة قريبة من البحرين- جمع منها ألفًا من المسلمين، ومن منطقة ربيعة في شمال الجزيرة العربية القريبة من فارس تحرك ألفان من المقاتلين، فكان المُثنَّى أقرب إليهم من سعد، فتحركوا نحو المثنَّى، فوصلت القوة الإسلامية في فارس عشرة آلاف مقاتل، ثم أتت الأوامر من عمر رضي الله عنه إلى سعد رضي الله عنه أن تحرَّك من "زرود" وانزل في "شراف" وهي منطقة في منتصف الطريق بين "زرود" والحيرة، فتحرك ووصل إليها فوصل تعداد الجيوش إلى خمسة وعشرين ألفًا، ثم جاء مدد آخر من المدينة ومن مناطق أخرى كان قوامه سبعة آلاف مقاتل، فوصل تعداد القوة الإسلامية في "شراف" إلى 32000 ألف مقاتل، وهي أكبر قوة إسلامية تتوجه إلى فارس حتى هذه اللحظة.

ونذكر أن هناك قوة إسلامية أخرى قوامها 38000 جندي في اليرموك، لكن هذه أكبر قوة تتوجه إلى فارس، فهي طاقة إسلامية ضخمة متوجهة لفتح فارس.

ويرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصية جديدة إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهي من الوصايا التي ظلت محفوظة كأفضل وصية أعطيت لجيش من جيوش المسلمين، وظل الأمراء بعد ذلك يوصون بها جيوشهم، وتحمل الوصيةُ المنظور الصحيح للحرب في الإسلام، كما تحمل الكثير من المعاني العظيمة، وسنعرض هذه الوصية بشيءٍ من التفصيل، لعلنا أن ننتفع بها في واقعنا كما انتفع بها أسلافنا في واقعهم.

الوصية العمرية الخالدة:

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في هذه الوصية:

"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد.. فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العُدَّة على العدو، وأقوى العدة في الحرب".

هذا ما بدأ به الفاروق الحكيم رضي الله عنه وصيته، فإن أفضل سلاح لمحاربة الأعداء هو تقوى الله، وإذا لم يتوافر هذا السلاح فلا قيمة لأي سلاح آخر مهما بلغت قوته وعَظُمَ شأنه.

"وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، وعدتنا ليست كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا ولن نغلبهم بقوتنا".

يضع الفاروق رضي الله عنه يد المسلمين على مفاتيح النصر الحقيقة، ويعلمهم أن النصر إنما يأتي بطاعة الجيش لله، وليس النصر بالعدة أو العتاد، وإلا لكان في جانب العدو؛ فإنهم أكثر قوة وعتادًا، فإذا تساوى الجيشان في المعصية فهما عند الله سواء، فلن يكون الله معنا ولن يكون معهم فينتصروا علينا بالعدة والعتاد، فقوتنا إنما هي أن الله معنا، وإذا افتقدنا هذا العنصر -عنصر القوة من الله- كانت لهم الغلبة؛ لأنهم دائمًا يكونون أكثر عددًا وعدة.

"واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله".

يأمرهم رضي الله عنه ويذكرهم بالحياء من الملائكة الذين معهم ولا يفارقونهم، وبالحياء من الله؛ لأنهم إنما خرجوا جهادًا في سبيله. ثم يلفت نظرهم إلى أمرٍ مهم وخطير، نحن في واقعنا أحوج إليه من غيرنا يقول رضي الله عنه:

"ولا تقولوا: إن عدونا شرٌّ منا ولن يُسلط علينا وإن أسأنا، فرُبَّ قوم سُلِّط عليهم شَرٌّ منهم، كما سُلّط على بني اسرائيل -لما عملوا بمساخط الله- كفرةُ المجوس فجاسوا خلال الديار، وكان وعدًا مفعولاً".

يذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهم نموذجًا عمليًّا يخالف ما قد يعتقده البعض من أن العدو -لا شكَّ- أكثرُ معصية منهم؛ لأنهم مسلمون وعدوهم كافر، فيضرب لهم هذا المثل ليمحوَ من أذهانهم هذا التصور المغلوط، مؤكدًا لهم أهمية الطاعة وخطورة المعصية عليهم. وهذه الصورة التي ضرب الفاروق رضي الله عنه بها المثل منطبقةٌ تمامًا على المسلمين في الواقع المعاصر؛ فقد سُلِّط عليهم بمعاصيهم وذنوبهم أخبثُ أهل الأرض، فنرى اليهود -وهم أشر الخلق- يتحكمون في المسلمين، ليس في فلسطين فقط بل في العالم كله، ويذيقون المسلمين في فلسطين سوء العذاب، ونرى الهندوس وهم عبدة البقر والفئران يذيقون المسلمين العذاب في كشمير، والشيوعيين وهم لا يعرفون ربًّا ولا إلهًا يعذبون المسلمين في كل الجمهوريات الإسلامية في جنوب روسيا، ونرى الشيشان وغيرها وما يجري من أحداث في هذه المنطقة، وكذلك الصِّرْب، وما من منطقة في العالم إلا والمسلمون مستضعفون فيها من قِبَلِ أُناسٍ هم أكثر معصية، بل إنهم مشركون ومع ذلك يُسلطون على المسلمين؛ وذلك لأن المسلمين عصوا ربهم فسُلِّطَ عليهم العدُوُّ.

ويجب أن نأخذ هذا الأمر بشيءٍ من الاهتمام، فإن الإنسان -وهو في محيطه الضيِّق- ربما يذيقه أحد اليهود أو النصارى أو الظالمين العذاب، وربما يتعجب المسلم كثيرًا ويتساءل: كيف يحدث هذا وأنا مسلم وهذا كافر أو ظالم؟!!

والجواب يتضح من وصية الفاروق رضي الله عنه، وهو أن هذا الإنسان المسلم بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في حياته وأعماله من طاعاتٍ ومعاصٍ، وفي حاجة إلى تنقيةِ قلبه، وعودة إلى ربه، وتوبة من الذنوب والمعاصي والآثام، وإنما تأخر النصر على المسلمين لكثرة المعاصي منهم.

"واسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على أعدائكم".

إلى هذه اللحظة لم تتطرق الوصية بعيدًا عن إصلاح النفس، والبُعد بها عن المعاصي والآثام، والاقتراب من الله نظرًا لأهمية هذا الأمر، وأثره الكبير في إحراز النصر على الأعداء.

ثم ينتقل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وصيته إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى جانب آخر من الجوانب المهمة، وهو كيفية التعامل مع الجيش والانتقال من مكان لآخر؛ يقول له:

"وترفق بالمسلمين في سيرهم، ولا تجشمهم سيرًا يتعبهم، ولا تقصّر بهم عن منزلٍ يرفق بهم؛ فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس".

يشير عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه الفقرة من هذه الوصية الخالدة إلى ضرورة راحة الجند وعدم تحميلهم ما لا يطيقون، وتحيُّن أي فرصة يستريحون فيها من عناء السفر الطويل؛ ذلك لأنهم قادمون على عدو مقيم، فينبغي ألا تذهب طاقة الجند هباءً حتى إذا لاقوا عدوهم استطاعوا أن يحاربوا وهم ما زالوا من القوة بمكان، ثم يقول له:

"وأقم بمن معك كل جمعة (كل أسبوع) يومًا وليلةً؛ حتى تكون لكم راحة تجمعون فيها أنفسكم، وتلمون أسلحتكم وأمتعتكم".

ثم تأتي هذه الوصية المهمة التي تُذكَر للمسلمين، وتدل على حسن معاملتهم للغير، يقول عمر رضي الله عنه:

"ونَحِّ (أي أَبعِدْ) منازلهم عن قرى أهل الصلح وأهل الذمة". أي: لا تجعل أماكن نزولك وراحة جيشك بجوار قرى أهل الصلح وأهل الذمة. "فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا ترزأ أحدًا من أهلها شيئًا؛ فإن لهم حرمة ابتُلِيتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فَوَفُّوا لهم، ولا تنتصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح".

هنا يظهر لنا حرص الفاروق عمر رضي الله عنه على عدم الظلم لأهل الصلح وأهل الذمة ممن قد يمر عليهم الجيش المسلم في مسيره، وإن اضطُرَّ لدخول هذه القرى لأي سببٍ، فلا يُدخِل إلا من يثق بأخلاقه، وألا يؤذي أحدًا من أهل هذه القرى، ويأمر بحفظ حرمتهم والوفاء بعهدهم وعدم ظلمهم.
توضيح دور المخابرات والسرايا

ينتقل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى جانب مهم من الجوانب الحربية وهو جانب المخابرات العسكرية، فيوضح الدور الذي تقوم به، ومهمته، وكيفية اختيار أفرادها، يقول رضي الله عنه:

"وإذا وطئت أدنى أرض العدو فأزجِ العيون بينك وبينهم، ولا يخفى عليك أمرهم، وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئنُّ إلى نصحه وصدقه.

وليكن منك عند دنوِّك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم، فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع عوراتهم (أي مخابئهم وتحركاتهم)، وانتقِ للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخيَّر لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدوًّا كان أول من تلقاهم القوة من رأيك، واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد، والصبر على الجِلاد.

ولا تخصَّ أحدًا بهوى فيضيع من أمرك ورأيك، ولا تبعث طليعة ولا سرية في وجهٍ تتخوف فيه نكاية أو ضيعة. فإذا عاينت عدُوَّك فاضْمُم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع مكيدتك وقوتك كلها، ثم لا تعاجلهم المناجزة حتى تبصر عورة عدوك ومقاتله، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها، ثم أزج حراسك على عسكرك، وتحفظ من البيات جهدك. ولا تُؤتى بأسير ليس له عهد إلا قطعت رقبته؛ لترهب به عدو الله وعدوك".

وقفة مع قضية الأسرى من الناحية الفقهية:

قضية الأسرى متروكة لإمام المسلمين فإما أن يعفو عنهم منًّا بغير فداء، وإما أن يفديهم بمال، أو بتعليم كما فعل النبي في غزوة بدر، أو يبادلهم بأسرى، أو بأي فداء يقرره إمام المسلمين، وإما أن يقتلهم.

فإذا كان المسلمون في قوة ومنعة وسيطرة على أعدائهم، فللإمام أن يطلق الأسرى منًّا بغير فداء، كما فعل الرسول مع أهل مكة، وفي ذلك تأليف للقلوب، وترغيب لهم في الإسلام.

أما إذا كانت قوة المسلمين أضعف من قوة الجيش المعادي الذي يفوقهم في العدد والعدة، فيُقتَل الأسيرُ ليُرهب به عدو الله وعدو المسلمين، ولأنه ليس لدى المسلمين القدرة أو الطاقة على حماية هؤلاء الأسرى أو إطعامهم أو السيطرة عليهم.

وإذا نظرنا -مثلاً- إلى جيشٍ كجيش خالد بن الوليد رضي الله عنه في معركة (أُليّس)، كان قوام الجيش الإسلامي 18000 من المسلمين، والجيش المقابل له 100000، أسر منهم خالد بن الوليد 70000، فمن يحمي هؤلاء السبعين ألفًا؟! إن الجيش الإسلامي بكامله لا يستطيع حمايتهم أو السيطرة عليهم، بل إنهم يمثلون خطورة بالغة على المسلمين، ولا يتحقق استكمال الفتح إلا بقتلهم.

ومع هذا العدد الذي وصل إليه الجيش الإسلامي في قواته إلا أن لدى الفرس من الأعداد ما لا يُحصى؛ فقد قُتِلَ من الفرس في معركة (الفراض) مائة ألف، وفي (أُلَّيس) سبعون ألفًا، وفي (الأنبار) أكثر من عشرة آلاف، وفي (عين التمر) ثلاثون ألفًا، وفي (دومة الجندل) خمسون ألفًا، وفي (البويب) خمسون ألفًا. وأعداد لا تنتهي من الفرس، كلما قُتِل منهم جيش جاء جيشٌ آخر.

فقد كانت قوة فارس هي والروم أكبر القوى على الأرض، وكانت حدود فارس من غرب العراق حتى شرق الصين، وهي مساحة شاسعة جدًّا؛ لذا لديهم أعداد كبيرة جدًّا من البشر، وكما نرى من الصعب جدًّا الاحتفاظ بالأسرى؛ لأنهم يشكلون خطرًا كبيرًا على الجيش المسلم، ومن ثَمَّ أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقتلهم حتى يَفُتَّ هذا القتل في عَضُدِ فارس، ويوفر على المسلمين الطاقة التي ستُبذل في حمايتهم.

ثم يقول له: "واللهُ وليُّ أمرك ومن معك، وولي النصر لكم على عدوكم، والله المستعان".

ثم أمره عمر رضي الله عنه بتنظيم جيشه وترتيبه.

فما الذي فعله سعد بن أبي وقاص بعد ذلك؟



التحرك نحو القادسية

بعد أن تحرك سعد بن أبي وقَّاص الجيش الإسلامي الذاهب لحرب الفرس من منطقة "زَرُود" ووصل إلى "شَرَاف"، وكان قوام الجيش الإسلامي الذي معه قد وصل إلى 32 ألف جندي، ووصلته الرسالة العمرية الخالدة التي تُعدّ نموذجًا رائعًا للوصايا التي يمكن أن يوصِي بها الأمراء مَنْ يكلفونهم بالجيوش، واستقرَّ سعد في "شراف" منتظرًا أوامر جديدة تأتي من المدينة المنورة.

وصلت رسالة أخرى من بتعبئة الجيش (أي: بتنظيمه وترتيبه وكأنه على قتال)، وأمره بالتحرُّك من "شراف" إلى "القادسية" وهو على تعبئةٍ كاملةٍ حتى إذا باغتته جيوش فارسٍ في أية لحظة يكون على استعداد كاملٍ لها.

بدأ سعد بن أبي وقاص يرتِّب جيشه وهو في "شراف"، فجعل خليفته خالد بن عرفطة وهو أحد فرسان العرب المشهورين، ولم يتوجه لحرب فارس قبل ذلك، وجعل على المقدمة زهرة بن الحُوِيَّة، وكانت لكل الجيوش الإسلامية مقدمات، ولكن سعدًا t جعل لجيشه مقدمة وطلائع، وكانت فرقة الطلائع من أشد فرسان المسلمين مهارة وجسارة وقوة، واختار لهذه الطلائع قوة من كل القبائل، وكانت تحت إمرة سواد بن مالك، وكانت مهمة الطلائع أن تسير في مقدمة الجيش أبعد من مرمى بصر الجيش، لتكون عيونًا على الجيش الفارسي؛ حتى لا يُباغِت الجيشَ الإسلاميَّ، وتلي المقدمةُ الطلائعَ.

وجعل على المقدمة عبد الله بن المعتم، وعلى الميسرة شُرَحْبِيل بن السِّمْط، وعلى المشاة حَمَّال بن مالك، وعلى الخيول سلمان بن ربيعة الباهلي، وكان من المعروف أن أشد خيول العرب في قبيلة باهلة، وجعل عبد الله الخثعمي على الركبان وهي الإبل، وجعل على مؤخرة الجيش عاصم بن عمرو التميمي، صاحب السبق العظيم في حروب فارس قبل هذه الموقعة.

وجعل كل مجموعة من جيشه تحت إمرة أمير، ثم قسَّم المجموعات إلى رايات، وتحت أمراء الرايات رؤساء القبائل، وتحت كل قبيلة العرفاء، أي على كل عشرة من الجند عريف، فالسُّلَّمُ هرميٌّ، فعلى كل عشرة عريف، وعلى كل مائةٍ رئيس قبيلة، وعلى كل ألف حامي الراية، وعلى كل المجموعة أمير الفرقة سواءً كانت مقدمة أو مؤخرة أو ميمنة أو ميسرة؛ وذلك حتى تصل الأمور بسهولة ويُسْر إلى كل الأفراد.

وتحرك الجيش الإسلامي الكبير على هذه التعبئة من "شراف" إلى الشمال متجهًا إلى "القادسية"، وفي طريقه وصلته رسالة من عمر بن الخطاب أنِ انْزل بجيشك في عُذَيب الهِجانات (منطقة تبعد عن القادسية بعدة أميال)، وأرسِلْ طلائعك إلى القادسية فهي باب فارس.

كان في هذا الجيش الإسلامي بضعة وسبعون ممن شهدوا بدرًا، وكانوا يُسمُّونهم "البدريين"، وكان في الجيش أيضًا ثلاثمائة ممن له صحبة بعد بيعة الرضوان، وثلاثمائة ممن شهدوا ، وسبعمائة من أبناء الصحابة، فكانت هذه ذخيرة قوية للمسلمين.

زوّد عمر بن الخطاب الجيش بالأطباء والقضاة، فكان على إمرة القضاة عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، وهو أخو سلمان بن ربيعة الباهلي القائد على الخيول في الموقعة، وكان رائد الجيش وداعيته .

وجعل كاتب الجيش زياد بن أبي سفيان، وجعل مترجم الجيش هلال الهجري وكان يُتْقِن الفارسية والعربية.

وأثناء تحرُّك سعد من "شِرَاف" إلى "عذيب الهجانات" أتته الوصية التي كان قد أوصى بها المثنى بن حارثة t قبل وفاته مع المُعَنَّى بن حارثة، وفي الرسالة: لا تقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء، ولا تعبر نهرًا، وَضَعِ الصحراء في خلفك، حتى إذا كان لك النصر انسحت في أرضهم، وإن كانت الأخرى كانت لك الصحراء مجالاً للرجوع.

وتنطلق هذه الوصية من الاستفادة من خطأ معركة الجسر، وهو عبور المسلمين النهر، فكانت المياه من خلفهم والفرس من أمامهم، واستُشْهِد في "الجسر" وحدها أربعة آلاف من المسلمين، وكان الفرس لا يجرءون على القتال في الصحراء؛ نظرًا لتعدد الدروب والمسالك وكثرة المجاهل بها، وإذا ضلَّ أحد الجيوش فيها فربما يهلك من الجوع والعطش.

ومع وصول رسالة المثنى مع المُعنَّى، وصلت رسالة من عمر بن الخطاب أيضًا فيها: ألاّ يقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء، وألا يجعل المياه في خلفه، وأن يجعل الصحراء خلف جيشه.

وكان هذا التوافق في الرأي يدل على بعد النظر وعمق التفكير، فقد استفاد المثنى بن حارثة كثيرًا من تجاربه السابقة، وعمر بن الخطاب t وهو في المدينة يرى الرأي الصائب وهو على بُعد مئات الأميال من القادسية؛ لعمق فكره وحسن تخطيطه وإدارته .
القبض على عين للفرس

ويرسل سعد طلائعه إلى "عُذَيب الهجانات" قبل أن يصلها هو بالجيش، وكان بها حصن عظيم وهو أول حصون في جنوب فارس، وقد وصلت الطلائع قرب الليل ونظروا فوجدوا للحصن نوافذ كثيرة، وكل مدة يظهر أحد الرجال من إحدى نوافذ الحصن ويختفي مرة أخرى، ثم يظهر آخر في نافذة أخرى ويختفي، وهكذا.

فوقفوا رهبة، وشعروا بوجود جيش للفرس في هذا الحصن، ثم أمرهم حمّال بن مالك بالهجوم على الحصن، ففوجئوا بعدم وجود أحد فيه، ووجدوا رجلاً واحدًا يجري بعيدًا عنهم بفرسه في اتجاه المدائن، فعلموا أنه أحد عيون الفرس، وأنه منطلق لإخبارهم بأمر المسلمين، وانطلقت خلفه الطلائع فأعجزهم ولم يستطيعوا اللحاق به، وقدمت بعد ذلك المقدمة وعليها زهرة بن الحُوِيَّة، فلما علم زهرة بهذا الأمر -أَمْرَ الرجل- قال: والله لو وصل هذا العين إلى فارس، علمت فارس بقدومنا. فأسرع t بنفسه وسابق خيول المسلمين وسبقهم، وأدرك الرجل في خندق سابور على حدود القادسية واقتتل معه وقتله في خندق سابور، وبهذا لم تصل -حتى هذه اللحظة- أخبار المسلمين إلى فارس بفضل الله تعالى، ثم بفضل هذا المثال النادر من المسلمين "زهرة بن الحُوِيَّة"، والذي أحسنَ سعد بن أبي وقاص باختياره قائدًا على المقدمة.

وقبل أن يصل سعد إلى "عُذيب الهجانات" تصله رسالة من عمر بن الخطاب أن يعسكر في القادسية، وقال له: صِفْ لي المكان كأني أراه رأي العين، ولا تدخل على أرض العراق إلا أن يدخلوا هم عليك.

ويتقدم سعد ويصل إلى "عُذَيْب الهِجانات" ويعسكر فيها مدة، إلى أن تكتشف الطلائعُ والمقدمةُ منطقةَ القادسية وما حولها لتأمين دخول الجيش هذه المنطقة.

تختلف خطة الجيش الإسلامي في معركة القادسية عن غيرها من الخطط في المعارك الأخرى، ومن الواضح في معارك الجيش الإسلامي الكثيرة، ومواقعه المتعددة أنه يعتمد خطة الهجوم على الجيوش الفارسية في مواقعها، لكن هذه المرة يأمر عمر بن الخطاب الجيش أن يبقى في القادسية ولا يتركها؛ لخوفه من الإعداد الضخم الذي يُعِدُّه الفرس لهذه المعركة، ويحرص على عدم توغل المسلمين في الأراضي الفارسية؛ حفاظًا عليهم من الهلكة.
حل مشكلة الغذاء

كان وصول سعد "عذيب الهجانات" في منتصف صفر 15هـ، وعسكر فيها ما يقرب من شهر، وإذا نظرنا إلى العدد الكبير للجيش الإسلامي (32 ألفًا من الجنود)، نجد أنهم كانوا بحاجة دائمة إلى التموينات، وإذا أرادوا أن يأكلوا لحومًا مثلاً كانت الناقة تكفي مائة جندي، ففي اليوم يحتاج إلى 320 من الجمال، فالجيش إذن يحتاج إلى تمويل ضخم جدًّا، وعمر بن الخطاب يموِّن الجيش من بيت مال المسلمين، لكن مهما كان حجم ما يأتي من المدينة فلا شك أنه سيكون أقل من حاجة الجيش، وهناك نقص كبير في اللحوم خاصةً، فكلما طالت مدة انتظار الفرس كلما زاد العبء على المسلمين، فبدأ المسلمون بعمل ما يُسمَّى بالغارات التموينية تحفيزًا لإسراع الفرس في القدوم للحرب، وفي الوقت نفسه يتمُّ تموين الجيش من خلال هذه الغارات.

أمر سعد t الطلائع والمقدمة بعمل هذه الغارات، وأرسل زهرة بن الحُوِيَّة -وهو في "عذيب الهجانات"- فرقة من طلائعه إلى مكان يُسمَّى صِنَّينَ (وهي على بعد 10 إلى 15 كم من الحيرة)، وعلى رأس الفرقة التي لا تتعدى الثلاثين فارسًا بكير بن عبد الله، وتصل الفرقة إلى "صنين" فيسمعون أصوات عُرسٍ لأحد أمراء فارس، ولا شك أن في العرس هدايا ثمينة يهديها الأمراء بعضهم لبعض في هذه المناسبات إلى جانب الماشية والأغنام والإبل وغير ذلك، وينتظر بشير بن عبد الله في وسط الغابات التي كانت منتشرة في تلك المنطقة، وعند مرور العرس ووصول الحامية التي ترافق العرس فهو عرس أميري؛ هجمت الفرقة عليهم ففروا في كل وجهة وتركوا العُرسَ بما فيه، وسبى المسلمون العروسَ والتوابع، وأخذوا الغنائم وعادوا بها، وقبل أن يَصِلُوا كبَّروا، فقال سعد لجنوده: أقسم أن هذه تكبيرة قومٍ عُرفت فيهم العز.

فكانت هذه أول الغارات التموينية للمسلمين، وكان فيها إهانة كبيرة لأحد أمراء فارس في زواجه، وبدأ أهل تلك المنطقة يراسلون يزدجرد في المدائن ويخبروه أن جيوش المسلمين على مقربة.

ثم أرسل زهرةُ بن الحُوِيَّة عاصمَ بن عمرو التميمي -وكان قائدًا للمؤخرة- نظرًا لشجاعته إلى منطقة "مَيْسان" شرق الفرات، ووجدوا مجموعة كبيرة من الفلاحين ولكن دون أن يكون معهم أغنام، فتعجبوا من هذا الأمر وهو عدم وجود إبل وماشية في هذه المنطقة الزراعية، فقام أحد الفلاحين وقال: والله ما في هذا المكان من إبل ولا ماشية قَطُّ. فخار ثور ساعتها يكذب الراعي، وذهب المسلمون إلى مصدر الصوت في وسط الغابات الكثيفة، فوجدوا كميات ضخمة من المواشي، وساقوها للجيش، وسُمِّيَ هذا اليوم بيوم الأباقر من كثرة ما أخذوا فيه من البقر، وكان في هذا تموين للجيش فترة كبيرة.

أرسل الأمراء على الفور إلى يزدجرد، وبدأ الفرس يتأثرون ويتحمسون لوقف المسلمين عن شن هذه الغارات التي تقلقهم كثيرًا.

في هذا التوقيت أرسل عمر بن الخطاب t بعد أن علم بهذه الأحداث -الغارات التموينية- وبعد أن خشي من اندفاع المسلمين لقتال الفرس في أراضيهم، فقال: "الصبرَ الصبرَ، فإن المعونة تأتي من الله على قدر النية، والأجر على قدر الجهد، والحذرَ الحذرَ على ما أنت عليه، وما أنت بسبيله، واسألوا الله العافيةَ، وأكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وخَفِ اللهَ وارْجُهُ، ولا تغترَّ بشيء. واعلم أن الله قد وعدكم، وتوكَّل لهذا الأمر، فاحذر أن تصرفه عنك فيستبدل بكم غيركم، وصفْ لي مساكنكم كأني أراها، واجعلني من أمركم على الجلية".

ويرسل سعد بن أبي وقاص رسالة إلى عمر بن الخطاب يصف له القادسية يقول:

"القادسية مكان بين نهر العتيق وخندق سابور". القادسية هي مكان يقع في الجنوب الغربي للحيرة على أبواب الصحراء، ونهر العتيق هو أحد روافد نهر الفرات يخرج منه متجهًا إلى الغرب، وخندق سابور يقع جنوبي منطقة القادسية، وهو خندق قديم للفرس يحاصر معظم غرب العراق، وفيه بعض الأماكن التي يمكن العبور منها، لكن على كلٍّ منها حصنٌ عظيم لمنع عبور أي مجموعة، وأمام القنطرة الرئيسية للخندق يقع حصن يُسمى "قديس".

يقول سعد :

"وعن يمين منطقة القادسية فيض من فيوضهم (أي بحيرة تصل من نهر العتيق وحتى خندق سابور)، وفي شمال القادسية بحر أخضر" أي مستنقع به ماء وشجر كثير.

وعندما وصلت الرسالة إلى عمر قال له: "الزم مكانك".

ثم يقول له: "إذا منحك الله أكتافهم، فلا تتركهم حتى تغزو المدائن فإن في ذلك خرابها، والوفاءَ الوفاءَ، فإن الخطأ في الغدر هلكة (أي يوصيه بالوفاء لأهل القرى التي ما زالت على صلحها مع المسلمين) وفيه (أي الغدر) وَهَنُكم وقوة عدوكم، واحذروا أن تكونوا شينًا على المسلمين".

بعد أن سيطرت الطلائع والمقدمة على حصن "قديس"، كان الجيش الإسلامي ما زال في مكانه لم يعبر خندق سابور بعد، وإن كان في نيته العبور.
حال البلاط الفارسي في ذلك الوقت

كان أمراء الفرس يضجون كثيرًا، ويرفعون الشكاوى إلى يزدجرد الثالث كسرى فارس مما يفعله المسلمون في الجنوب، فأرسل إلى رستم -أعظم قائد فارسي على مر التاريخ- وقال له: أتعلم مثل العرب ومثلنا كمثل ماذا؟

فيقول له: مثل ماذا؟

فيقول يزدجرد: مثلنا ومثلهم كمثل عُقاب (طائر ضخم) نزل على وادٍ، وفي هذا الوادي طيور صغيرة كثيرة، وفي كل لحظة ينزل فيخطف طائرًا ويعود، ثم ينزل فيخطف طائرًا ويعود، فأرى أنه لو قامت هذه الطيور كلها مرةً واحدة فرَّ منها هذا العُقاب، وإن حدثت هلكة فهي لطائر واحد.

وفهم رستم من كلامه أنه يريد أن يُخرِج كل طاقة فارس لحرب المسلمين، ثم قالها له: إني أرى أن تخرج طاقة فارس في جيش واحد لملاقاة المسلمين، وتخرج أنت على رأس الجيش.

وغضب رستم من ذلك لا لجبنٍ منه فقد كان قائدًا شجاعًا، لكنه كان يرى أن هذا ليس رأيًا صائبًا -وقد شهد له المؤرخون بذلك- فقال رستم: الرأي رأيك، لكني أرى أن نرسل لهم قوة ثم قوة، فإن لاقتهم الفرقة الأولى وهزموا كان لنا بقية، ثم استبقني هنا فطالما أنا هنا فالعرب على خوفٍ منا.

وتجادلا وأصرَّ كسرى على رأيه، وأطاعه رستم وخرج على رأس الجيش، بعد أن جمّع للمسلمين جيشًا ضخمًا كان قوامه 120 ألف مقاتل و120 ألف تابع، أي مائتين وأربعين ألفًا من الجنود الفارسيين، وهذا أكبر جيش يخرج من فارس على مرِّ العصور، وتحت إمرة رجل واحد فقط، وفيه مائة وعشرون ألفًا يقاتلون، ومائة وعشرون ألفًا أخرى يخدمون المقاتلين، ويمكن أن يشتركوا في القتال عند الحاجة إليهم، فهم بمنزلة مؤخرة الجيش.

وفي هذا الجيش 60 ألفًا من الفرسان، و60 ألفًا من المشاة، و33 فيلاً، وكان للفيل الواحد وزنه في الجيش الفارسي، فما بالنا بـ 33 من الأفيال؟! ومن بينهم الفيل الأبيض قائد الأفيال، وهو الذي قتل أبا عبيد بن مسعود الثقفي في معركة الجسر، إذن فقوة فارس كلها خرجت لحرب المسلمين.

وتعلم المخابرات الإسلامية أن رستم على رأس الجيش، فيرسل سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب أن الفرس يُعِدُّون لنا جيشًا لم نسمع عنه من قبل، على رأسه رستم ومن شابهه.

وقد كان على رأس مقدمة جيش فارس "جالينوس" وهو أحد القادة الكبار، وكان قوام المقدمة 40 ألفًا، أي أن مقدمة الفرس وحدها تزيد على كل الجيش المسلم بثمانية آلاف، ومن بين القواد أيضًا بهمن جاذويه الذي انتصر على المسلمين في الموقعة الوحيدة التي انتصر فيها الفُرْسُ (الجسر).

وردَّ عليه عمر بن الخطاب قائلاً له: "لا يَفْرِيَنَّك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتونك به، واستعن بالله وتَوَكَّلْ عليه". ثم يقول له: "وابعث إليهم رجالاً من أهل الرأي يدعونهم إلى الإسلام؛ فإن في ذلك وهنًا لهم".

وفد المسلمين إلى كسرى يزدجرد:

ونرى في هذا الموقف حرص عمر بن الخطاب على الدعوة إلى الإسلام حتى في هذه الظروف، وإضافة إلى تبليغهم دعوة الإسلام تُرهَب نفوسُهم من جرأة المسلمين عليهم، وبدأ سعد في انتقاء الوفد الذي يقابل "يزدجرد الثالث" كسرى فارس، ومرَّ على الجيش كله، وانتقى 14 رجلاً؛ سبعة من أهل الرأي وسبعة من أهل المهابة. يقول الرواة: إن الأربعة عشر رجلاً كانوا جميعًا أصحاب هيئة وجسامة، وكانوا جميعًا يزيدون في طولهم على المترين، وعلى رأسهم النعمان بن مُقَرِّن الصحابي الجليل الذي أسلم في العام الخامس الهجري، وأول مشاهده ، وأسلم هو وإخوته جميعًا -عشرة إخوة- وشاركوا في ، وكان يقول: إن للنفاق بيوتًا، وإن للإيمان بيوتًا، وإن بيت بني مُقَرِّن لمن بيوت الإيمان، وفيهم نزل قول الله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 99]. فكان النعمان t على رأس هذا الوفد، وكان رجلاً ذا مقالة، ومعه بُسر بن أبي رُهم وقد مر ذكره في ، ونذكر كمين "الولجة" حيث كان على رأس الكمين. ومن الوفد حنظلة بن الربيع وكان من خطباء الجاهلية والإسلام، وسُمِّيَ حنظلة الكاتب. وفرات بن حيان وكان أكثر العرب خبرة بالطرق، وكان قد أسلم في العام الثاني للهجرة. ومع الوفد أيضًا المغيرة بن زرارة أحد صحابة النبي ، ومن أصحاب المقالة أيضًا في الجاهلية والإسلام. وعدي بن سهيل وهذا الاسم غير معروف، ويبدو أنه سهيل بن عدي، ولعله نُقِلَ خطأً.

ومن الوفد أيضًا حَمَلة بن جُويَّة. وكان على رأس أهل المهابة والقوة في الجسد عاصم بن عمرو التميمي t أخو t، والمُعَنَّى بن حارثة أخو المثنَّى رضي الله عنهما، و وهذا الرجل هو الوحيد الذي دخل قبل ذلك إيوان كسرى، ولا شك أنه -في الطريق ومع الوفد الذي لم يدخل إيوان كسرى قبل ذلك- سيذكر لهم وصفًا دقيقًا لكرسي كسرى وتاجه وسريره وما يمتلئ به إيوانه من ذهب وفضة وزخارف؛ حتى لا ينبهر الوفد بما لم يره أو يسمع عنه من قبل، فيكون لذلك نتائجه السلبية، فاختياره له هدف.

وعمرو بن معد يكرب وكان من أشهر فرسان العرب، وكان قد فقد إحدى عينيه في سبيل الله، وكان عمر بن الخطاب يسأل: أي سيوف العرب أمضى؟ قالوا: صمصامة. وهي صفة من صفات سيف عمرو بن معديكرب؛ فأرسل له: أن أرسل لي سيفك. فأرسله له، فأمسك به عمر بن الخطاب وضرب به فوجده على غير ما كان يتوقع من القوة والمتانة، فأرسل إليه: والله كنا نظن سيفك على أحسن من هذا. فقال له: والله يا أمير المؤمنين لقد أرسلت إليك بالسيف، ولم أرسل إليك بالساعد الذي يضرب بالسيف.

ومن الوفد أيضًا الحارس الشخصي للرسول ، والأشعث بن قيس، والحارث بن حسان أشهر فارس في قبيلة كندة. واختير لهم أفضل أربعة عشر من الخيول، ولبسوا أفضل اللباس، وخرجوا جميعًا لمقابلة يزدجرد ودعوته إلى الإسلام، وعلم الفرس بقدومهم، فخرج الشعب الفارسي ليشاهد هؤلاء العرب الذي كانوا يعتقدون أنهم أعراب أجلاف ليس لهم في الحرب شيء.

تقول إحدى النساء اللائي أسلمن بعد ذلك: فوقفنا ننظر إليهم، والله ما رأينا أربعة عشر مثلهم قَطُّ يعادَلون بألف، وإن خيولهم لتنفث غضبًا وتضرب في الأرض، ووقعت في قلوبنا المهابة وتشاءمنا. وأرسل يزدجرد إلى أهل الرأي يستشيرهم في مقابلة الرسل المسلمين أم لا، فأشاروا عليه أن يقابلهم، فأمر يزدجرد بدخول الوفد عليه والحديث معه.

فماذا سيدور في هذا الحوار العجيب بين يزدجرد والوفد المسلم؟


 
رد: فتوحات العراق وفارس

رستم يتحرك بجيشه تجاه القادسية


ذكرنا خروج الوفد المسلم من عند ، وتحركه في اتجاه فارس حتى وصل إلى المدائن لمقابلة يزدجرد، وذكرنا أيضًا أن بعض الفرس الذين أسلموا بعد ذلك ذكروا لنا أنهم وقفوا يشاهدون هذا الوفد ويقولون: واللهِ ما رأينا أربعة عشر مثلهم قَطُّ يعادَلون بألف، وإن خيولهم لتضرب في الأرض وتنفث غضبًا؛ فوقع ذلك في قلوبنا وتشاءَمنا. وقد ذكرنا أن أهل فارس كانوا أهل تشاؤم؛ فيضعف ذلك من قوتهم، بينما كان أهل الإسلام أهل تفاؤل يستبشرون بالأحداث؛ لأن الرسول نهى عن الطِّيَرَة والتَّطَيُّر، وأمر بالتفاؤل.

عندما شاهد أهل فارس هذا المنظر تشاءموا من القوة الإسلامية، وبدءوا ينتظرون ما سيفعله هؤلاء المسلمون الأربعة عشر، وهؤلاء المسلمون هم الذين أذاقوهم الويل، وفي خلال شهور معدودة استطاعوا أن يجتاحوا أرض فارس كلها، وعلم يزدجرد أن الوفد واقف على باب إيوان كسرى، وإيوان كسرى هذا عبارة عن مساحة ضخمة جدًّا من الأرض حولها سور عالٍ، وهذا السور لا يستطيع أحد خارجه أن يرى ما بداخل القصر؛ فالسور عالٍ وبداخله قصر، وحول القصر حديقة هائلة، فدخلوا بخيولهم حتى وصلوا إلى باب القصر المتواجد فيه كسرى، فنزلوا عن خيولهم، وتَرَجَّلوا حتى وصلوا إلى باب الغرفة الكبيرة المتواجد فيها كرسي العرش ليزدجرد كسرى فارس، ودخل الأربعة عشر فارسًا من المسلمين على كسرى فارس، وكان قد دخل هذا الإيوان من قبل على كسرى فارس، فأخذ يشرح لهم ما سيشاهدونه داخل الإيوان حتى لا يفاجئوا بالمنظر الذي سيرونه بالداخل، وبالفعل لم يظهر عليهم أي مفاجأة على عكس ما توقع أهل فارس.

وهذه الحجرة عبارة عن حجرة فسيحة جدًّا، على أرضيتها سجادة هي أكبر سجادة في التاريخ، فمساحتها ضخمة جدًّا تُقدَّرُ بأكثر من ستين مترًا عرضًا، وأكثر من ثمانين مترًا طولاً، والسجادة نفسها بالإضافة إلى أنها مصنوعة من نوعيات فخمة جدًّا من النسيج إلا أنها مرصعة بالجواهر، وهذه السجادة هي التي غنمها المسلمون بعد موقعة المدائن، وأرسلوها لسيدنا في المدينة، فلم يستطع أن يتصرف فيها، فما الذي يفعله بسجادة مرصعة بالجواهر؟! فضلاً عن أن المسلمين لم يكونوا -وقتئذٍ- من أهل الاحتفاظ بهذه الأشياء، ولم يكن للدنيا عندهم وزن أو قيمة.

ولقد خشي سيدنا عمر بن الخطاب وسيدنا علي بن أبي طالب أن يأتي أحد أمراء المسلمين بعد قرونٍ أو أعوامٍ، فيطمع في مثل هذه السجادة فيأخذها لنفسه، فأشار عليه سيدنا علي بن أبي طالب أن يقطعها إلى أجزاء؛ فيقول علي بن أبي طالب: "فكان لي نصيب منها بِعْتُه بعشرين ألف درهم". فتخيل أنت ما حجم هذه السجادة؟! ثم رأوا بعد ذلك كرسي العرش الذي يجلس عليه يزدجرد وهو ضخم جدًّا عرضه أربعة أمتار، والتاج الذي على رأسه ضخم جدًّا يصل إلى أكثر من مترين، ووزنه تسعون كيلو جرامًا، وقد كان أهل فارس يعلقون هذا التاج في سلاسل ضخمة تصل إلى السقف، وحولها ستائر كبيرة تحجبها فلا تُرَى، ثم يأتي كسرى فيجلس تحت هذا التاج، فيظهر كأنه لابس هذا التاج ، وقد غنمه المسلمون أيضًا في موقعة المدائن بعد ذلك.
حوار الوفد مع كسرى:

دخل الوفد المسلم ورأى هذا المنظر، وحول يزدجرد الحاشية في نصف دائرة، وأقرب شخص له على بعد ثلاثة أمتار، وحوله الوسائد الموشاة بالذهب، وكل الحاشية واقفة في هذا المجلس في خضوع تام؛ وذلك لإيقاع الرهبة في قلوب المسلمين فيُجبُنوا، ولكن المسلمين دخلوا -ولم يكن هذا الأمر في خاطرهم- حتى وصلوا إلى مسافة من يزدجرد، فطلب من ترجمان له أن يسألهم عن هذا اللباس الذي يلبسونه فسألهم؟ فقال أحد المسلمين: هذا نسميه رداءً. وكانت هذه الكلمة في نطقها تشبه كلمة هلاك بالفارسية؛ فلذلك عندما نطقوا بها غضب يزدجرد على الفور وبدأ يزمجر، ففهم المغيرة بن شعبة وكان يعرف الفارسية، فقال لهم: إنه يقول لهم: يا للشؤم! أول كلمة قالوها: هلاك. فقال: هلاكٌ للفُرس. ثم قال: وما الذي تحملونه في أيديكم؟ فقالوا: سوط. وكان كل مسلم في يده سوط صغير، فغضب أكثر، فقال لهم المغيرة: إن كلمة سوط في الفارسية تعني حريقًا. فقال يزدجرد: حريق يحرق فارس، أحرقهم الله! فهذا أول استهلال في المقابلة، ولم يكن من ترتيب المسلمين، ولكن أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب كما نقرأ ذلك في سورة الحشر.

سبحان الله! فهذا الاستهلال استهلال تافه جدًّا من رئيس دولة عظيمة مثل دولة الفرس؛ يجلس فيعلق على كلمة سوط وكلمة رداء، ويتشاءم منهما ويغضب، فهذا تصرف صبياني المفروض ألا يتأتى من كسرى فارس، ولكن كانت هذه طبيعة الأمة الفارسية، فقد كان التشاؤم فيها له باع طويل. المهم كانت هذه البداية في صف المسلمين، وكسب المسلمون جولة بسهولة بالغة، ولمَّا يدخلوا بَعْدُ في حرب مع الفرس، ثم بدأ يزدجرد الحديث، وقال لهم: ما دعاكم إلى الولوغ إلى أرضنا، والولوع بها؟ أَمِنْ أجل عددٍ لَحِقَ بكم اجترأتم علينا؟ أي عندما شعرتم بالكثرة تجرأتم علينا وبدأتم في الدخول في أرضنا. فتشاور المسلمون فيمن يتحدث باسمهم، فاتفقوا على النعمان بن مقرن.

فقام النعمان بن مقرن لكي يرد على يزدجرد، والنعمان بن مقرن هو أمير الوفد، فبدأ يلخص له قصة الإسلام وقصة المسلمين في حوار قصير، ويخبره بالهدف الأسمى الذي قَدِموا من أجله؛ فقال له: "إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير، ويأمرنا به، ويدلنا على الشر وينهانا عنه، فلم يدعُ إلى ذلك قبيلة إلا انقسمت هذه القبيلة إلى فرقتين: فرقة تباعده، وفرقة تقاربه، وظلت هذه الحال إلى فترة حتى دخل معه بعض العرب، ثم أمره الله أن ينبذ إلى من خالفه من العرب -وكان هذا الكلام بعد ، فقد بدأ الرسول يُغِيرُ على من يرفض دعوة الله حتى حدث فتح مكة، ثم الفتح العظيم لأهل الجزيرة العربية- ثم أمره أن ينبذ إلى من خالفه من العرب فبدأ بهم وفعل -أي فعل كما أراد الله I- فدخلوا معه في دينه على فرقتين: طائع أتاه فازداد (أي: شخص دخل في الإسلام عن رغبة فازداد من الخير)، ومُكْرَهٍ عليه (أي: وآخر دخله لأن القوة والغلبة أصبحت للإسلام) فدخل في الإسلام فاغتبط (أي بعدما دخل مكرهًا فرح بما دخل فيه من الإسلام)، فعرفنا فضل ما جاء به من الإسلام على ما كنا عليه، ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم، فندعوهم إلى الإسلام، ونحن ندعوكم إلى الإسلام وهو دينٌ حسَّن الحَسَنَ كُلَّه، وقَبَّح القبيحَ كلَّه (وهو بذلك لخص له أمر الإسلام في هاتين الكلمتين؛ أي كل شيء تراه حسنًا فالإسلام أمر به، وأي شيء تراه قبيحًا فالإسلام نهى عنه)، فنحن ندعوكم إلى هذا الدين، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شرٌّ منه (أي: إذا رفضتم الإسلام فليس أمامكم سوى اختيارين: اختيار شر هو شر لكم، أي سترونه ولا يعجبكم وهو الجزية ونمنعكم)، وأما الآخر الذي هو شرٌّ منه فهو المناجزة، فنحن ندعوكم إلى ثلاث: إما أن تُسلِمُوا، وإما أن تدفعوا الجزية، وإما أن نقاتلكم حتى يخلِّي الله I بيننا وبينكم". هذه هي المقالة التي قالها له النعمان بن مقرن، وهو بذلك يلخص له قصة الإسلام في كلمات قليلة موجزة.

جرح هذا الكلام كبرياء يزدجرد وهو أمام حاشيته، فلم يكن يتخيل أن رجلاً من العرب المسلمين يخاطبه بهذه اللهجة؛ فقام يزدجرد، وقال له في غضب شديد: واللهِ أنا لا أعلم على الأرض أمة أسوأ منكم، ولا أقل عدد، ولا أهون ذات بينٍ منكم أيها العرب، وإنا كنا نُوَكِّل بكم قرى الضواحي (أي عند محاربتكم كنا نعهد بذلك إلى القرى التي على ضواحي فارس لكي تحاربكم، ولا يخرج لكم جيش فارس، فأنتم أقل قيمة من أن نُخْرِجَ لكم جيش فارس يحاربكم)، فإن كان عدد لحَِق بكم فلا يغُرَّنَّكم منا (أي: فلا يغرنكم ذلك فنحن نملك أممًا من الناس لا يحصيها العَدُّ)، وإن كان الجهْدُ لحق بكم, أي كثُر عددكم والطعام لا يكفيكم، أو المئونة التي بين أيديكم نفدت فجئتم من أجل ذلك لحربنا، أعطيناكم من عندنا وكسوناكم وأطعمناكم، وملَّكنا عليكم ملكًا يرفق بكم, (أي: إذا كنتم في تعب ونصب فمن الممكن أن نساعدكم ونعطيكم الطعام والكسوة، ونولِّيَ عليكم ملكًا يرفق بكم). وهذا يدل على أن كسرى لم يفهم الرسالة التي كانت موجهة إليه من المسلمين.

ثم قام المغيرة بن زرارة خطيب المسلمين، فقال له: يا كسرى فارس، إنك وصفتنا صفة لم تكن بها عالمًا (يقصد أشقى أمة في الأرض، وأسوأ ذات بينٍ وأهون أمة في الأرض)، فإنك بذلك وصفتنا صفة لم تكن بها عالمًا، فنحن كنا أسوأ من ذلك بكثير، إن جوعنا لم يكن يشبه جوعكم؛ فقد كان طعامنا الجعلان والخنافس والعقارب والحيات، وكان لباسنا ما نغزله من أشعار الإبل وأوبار الغنم، وكانت منازلنا ظهر الأرض (وهو بذلك يصور له صورة أبشع مما في ذهنه)، ثم يقول له: وإن ديننا أن يقتلَ بعضُنا بعضًا، وأن يُغِيرَ بعضُنا على بعض، وإن كان الرجل منا لَيقتل ابنته حية كراهية أن تأكل معه من الطعام، وكنا على هذه الحالة وأسوأ منها حتى أتانا رجل نعرف نسبه، ونعرف مولده، ونعرف قبيلته، فهو أنسبنا وأكرمنا وأحلمنا وأصدقنا ؛ فيقول: إن هذا الرجل أتانا ودعانا إلى الله، وقال لنا: إنني بينكم وبين الله. فدعانا إلى ذلك فلم يجبه إلا واحد، قال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا؛ فكان معه صِدِّيقٌ ورِدْءٌ، ثم كان الخليفة من بعده وهو سيدنا t، فظل على هذه الحال يدعونا حتى وقع الإسلام في قلوبنا، فآمنا به وصدقناه، وعرفنا أن ما جاء به هو الحق من عند الحق، ثم قال لنا: إن الله يقول لكم: إنني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، كنتُ إذ لم يكن شيءٌ، وكل شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقتُ كُلَّ شيء وإليَّ يصير كل شيء، وإن رحمتي أدركتكم؛ فبعثت إليكم هذا الرجل، لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري دارَ السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق. وقال له المغيرة: إن الرسول يقول: إن الله يقول لنا: إنه من تابعكم على هذا الدين فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أَبَى فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحَكَمُ بينكم: فمن قُتِلَ منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه. ثم يقول له المغيرة بن زرارة بعد أن انتهى من هذه المقالة: فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تُسْلِم فتنجي نفسك". مُنتهى القوة والعزة في الكلام! والمترجِم يترجم هذا الكلام ثم جاء عند كلمة (صاغر) فلم يعرف ترجمتها، فنقلها كما هي، فقال: (صاغر). فسأل يزدجرد: ما معنى صاغر؟ فقال له المغيرة بن زرارة: أن تعطي الجزية ونرفضها، فتعطيها فنرفضها، فترجونا أن نقبلها، فنقبلها منك. وهذا منتهى الذل في إعطاء الجزية، وبالطبع هذا الكلام كله مقصود به في المقام الأول الدعوة للإسلام، أما المقصد الثاني وهو الهدف المقصود من هذه الزيارة فأن يَفُتَّ في عَضُدِ الفُرس، ويُلقى الرعب في قلوبهم، وهذا الكلام كله حرب معنوية شديدة على أهل فارس. وقد تعجب الفرس منهم؛ فهؤلاء الرجال يتكلمون بمنتهى القوة والجرأة، وقد غضب يزدجرد غضبًا شديدًا؛ فوقف وقال له: أتستقبلني بمثل هذا؟! فقال المغيرة بن زرارة: إنك الذي كلمتني، ولو كان كلمني غيرُك لاستقبلته به. فغضب كسرى ونادى على حاشيته لتقترب منه، لكي يأمرهم بأمر شديد.

ثم قال كسرى للمسلمين: من أشرفُكم؟ فتقدم عاصم بن عمرو التميمي، وقد ظن أنه سيُقتَل، وقال: أنا أشرفهم. فدعا يزدجرد بوِقْرٍ من تراب (أي وعاء) وقال: ضَعُوه على رأسه. فوضعوه على رأس عاصم بن عمرو التميمي، ثم كرر عليه: أأنت أشرفهم؟ فقال: نعم، أنا أشرفهم. ثم قال لهم يزدجرد: "لولا أن الرسل لا تُقتَل لقتلتكم، اذهبوا لا شيء لكم عندي". وخرج الوفد بسرعة من إيوان كسرى إلى سعد بن أبي وقاص، وهم فرحون مستبشرون، وعلى رأس عاصم بن عمرو التميمي التراب، وبالرغم من ذلك فهو يضحك مستبشرًا -سبحان الله- ويقول للوفد الذين بصحبته: أعطَوْنا أرض فارس (لأن هذا التراب رمز لأرض فارس) فمَلَّكنا الله أرضهم. وعاد يبشر المسلمين أنهم أُعطوا أرض فارس، ثم جاء بعد ذلك رستم، ولم يكن حاضرًا هذا اللقاء، فدخل على يزدجرد، وقال له: ماذا رأيت؟ فقال: والله رأيت قومًا ما رأيت مثلهم من قبل، ولم أكن أعلم أن العرب فيهم مثل ذلك، ولكن أشرفهم كان أحمقهم. فقال له: لِمَ؟ قال: سألته من أشرفهم؟ حتى أحمله وِقْرًا من تراب، فقال: أنا. وكان يستطيع أن يتَّقِيني، وأنا لا أعلم. فقال رستم: بل هو أعقلهم. فقال له: لِمَ؟ قال: لأنك أعطيته أرض فارس، يَا للشُّؤم. وعندما سمع يزدجرد هذه الكلمة ربطها بفكرة الشُّؤم، وأنه أعطاهم أرض فارس، وعلى الفور أرسل فرقة تلحق بالمسلمين؛ لكي يقبضوا على الأربعة عشر، ويأخذوا منهم وِقْرَ التراب فقط ويتركوهم، ولكن المسلمين كانوا قد وصلوا إلى معسكرهم، فأفلتوا منهم. فانظر كيف يُلقِي الله I الرعب في قلوب أهل فارس، حتى وإن كان المسلمون أنفسهم لم يفعلوا شيئًا يقتضي مثل هذه التبعات التي تحدث في قلوب أهل فارس.
المسلمون في القادسية ينتظرون الفرس:

بعد ما حدث بقي المسلمون في القادسية ينتظرون جيش الفرس أن يأتي من المدائن، ونحن نعلم أن المسلمين لا يرغبون في ترك القادسية والدخول في أرض فارس؛ لأنهم يريدون أن يأتي جيش الفرس إلى أبواب الصحراء، وفي هذه الأثناء تخرج كتيبة أخرى من كتائب المسلمين -كما ذكرنا من قبل- لتزويد المسلمين بالغنائم والزاد، فيغيرون على منطقة بعيدة عن القادسية بحوالي أربعين إلى خمسين كيلو مترًا، ويأخذون من الغنائم مجموعة كبيرة جدًّا من الماشية، وهذه الماشية محمَّل عليها أكياس كثيرة مغلقة، واكتشفوا أن هذه الأكياس مليئة بالأسماك الطازجة، وكان العرب في الجزيرة يسمون السمكة حوتًا، فسموا هذا اليوم بيوم الحيتان. وبالطبع كان هذا رزقًا غريبًا لأهل القادسية، ثم أغاروا غارة أخرى على بعد مائتين وخمسين كيلو مترًا من القادسية، وعلى الرغم من هذه المسافة الطويلة إلا أنهم استطاعوا أن يحصلوا على غنيمة كبيرة جدًّا من الإبل، وسمِّي هذا اليومُ بيوم الإبل، وقبل ذلك كان يوم الأباقر، فقد غنموا فيه غنيمة عظيمة من البقر. ثم تقدم جيش رستم من المدائن في الشمال في اتجاه القادسية، وقد ذكرنا أن رستم لم يكن يرغب في قيادة الجيوش الفارسية بنفسه، ولكن يزدجرد كان مُصِرًّا عليه، فكان رستم كلما وصل إلى مكان يعسكر فيه أرسل رسالة إلى يزدجرد يقول له فيه: ما رأيك في أن أعود إلى المدائن، وترسل الجالينوس إلى المسلمين؛ فسُمْعَتُه عندهم كسُمعتي عندهم، ولكن العرب تظل دائمًا على هيبة ما بَقيتُ في المدائن؟ فيأبى يزدجرد إلا أن يذهب رستم بنفسه، فيذهب رستم ويتحرك من المدائن إلى ساباط، ويقدم الجالينوس على مقدمة الجيش إلى النجف، وهذه البلدة على مقربة من القادسية بحوالي أربعين أو خمسين كيلو مترًا.

وقد ذكرنا أن الجالينوس كان في أربعين ألفًَا من المقاتلين، وأن جيش الفرس وصل بعد كل التجهيزات إلى مائة وعشرين ألف مقاتلٍ، ومائة وعشرين ألف تابعٍ للمقاتل، جاهزين للقتال كقوات احتياط يخدمون المائة وعشرين ألفًا، وفي الوقت نفسه جاهزين للقتال إذا حدثت هزيمة للقوات الأساسية. وعلى ذلك فجيش الفرس مائتان وأربعون ألف مقاتلٍ، وكانت مقدمة الجيوش الفارسية فقط أربعين ألفًا وعليها الجالينوس، وجيش المسلمين كله اثنان وثلاثون ألفًا. وتتقدم مقدمة الجيش الفارسي من المدائن إلى النجف، ويعسكر رستم في ساباط فترة، ويرسل الرسائل إلى كسرى يطلب منه أن يظل الجالينوس على قيادة الجيوش، ويرجع هو إلى المدائن، ولكن كسرى يرفض فيُضْطَرَّ رستم أن يتقدم بالجيوش من ساباط إلى كوثِي ويعسكر فيها فترة، ثم يرسل رسالة إلى الجالينوس يقول فيه: أَصِبْ لي رجلاً من المسلمين. أي تَصَيَّد لي رجلاً من المسلمين أتحدث معه، وأعرف منه أخبار الجيش الإسلامي؛ فيرسل الجالينوس وهو في النجف فرقةً من مائة فارس من أجل أن يصطاد مسلمًا واحدًا على حدود قنطرة على نهر العتيق -ونهر العتيق يحيط بالقادسية- ولكن تقف على القنطرة فرقة من المسلمين تحمي هذه القنطرة من الجانب الغربي، لكن رجلاً من المسلمين كان قد عبر هذه القنطرة ووقف في الجانب الشرقي من القادسية من نهر العتيق، فاستطاع هؤلاء المائة أن يخطفوه، وأخذوه وهربوا به. وقد رأى المسلمون هذا الحادث، فاتبعوا مائة الفارس وهذا الرجل المسلم، واستطاع المسلمون أن يلحقوا بمؤخرة هؤلاء الجنود من الفرس، وقتلوا منهم ما بين العشرين والثلاثين، ولكن استطاع بقية هؤلاء الفرسان أن يهربوا بهذا المسلم إلى أن وصلوا به إلى كوثِي ليقابل رستم.

مفهوم الجهاد بين المسلمين والفرس:

هذا جندي مسلم بسيط من جنود المسلمين، لا يعرف أحد اسمه ولكن لننظرْ إلى هذا الحوار الذي دار بينه وبين رستم حتى نعلم مفهوم الجهاد عند المسلمين في حربهم مع الفرس؛ فهم ليسوا مجرد أناس مجندين في الجيش، أو منساقين إلى الحرب، ولكنهم يقاتلون عن عقيدة؛ فقال له رستم: ما جاء بكم؟ وما تطلبون؟ فيقول له هذا الرجل المسلم: جئنا نبحث عن موعود الله. فقال له: وما موعود الله؟ فقال له: موعود الله أرضكم وأبناؤكم ودماؤكم إن أبيتم أن تُسلِمُوا. هذا الرجل يخاطب رستم أعظم قائد في قواد الفرس، وهو جندي أسير مخطوف وليس رسولاً؛ فالرسول يتكلم بحرية لأنه مطمئن أنه لا يُقتَل؛ لأن الرسل لا تُقتل. فقال له رستم: وإن قُتِلتم قبلَ ذلك؟ فقال له: من قُتِلَ منَّا دخل الجنة، ومن بقي منا أُنجِزَ له الوعدُ. أي من قُتِلَ منا سيدخل الجنة، ومن بقي منا على قيد الحياة سيُكتَب له النصر. فقال له: قد وُضِعْنَا إذن في أيديكم وضحك. فقال له الجندي المسلم: وَيْحك رستم! وَضَعَتْكم أعمالُكم في أيدينا. احترس رستم! أنت لا تقاتل الإنس، إنما تقاتل القضاء والقدر. فانظر إلى هذه القوة التي يخاطب بها هذا المسلم رستم، فأنت لا تقاتل فئة المسلمين، وإنما تقاتل قضاء الله وقدره، وليس لك إلا أن تدين لله بالولاء والطاعة؛ فيغضب رستم غضبًا شديدًا، ويأمر بقطع رقبته، فتُقطع، ويُستَشْهَد في سبيل الله.

هذا الجندي المسلم الذي لا نعرف اسمه، عنده مفهوم واضح جدًّا لفكرة الجهاد في سبيل الله، فهو يجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله I بحثًا عن الجنة، هذا هو موعود الله I، وعنده مفهوم آخر -وهو واضح أيضًا- إما أن ينتصر في المعركة، وإما أن يُستشهدَ فيدخل الجنة، أما أن يُغلبَ أو يُهزم فهذا ليس نهاية المطاف عند المسلمين، فإذن كما قال رستم: قد وُضِعَ الفُرْسُ في أيدي المسلمين.

ثم تقدم رستم بعد ذلك من منطقه كوثِي إلى قرية تُسمَّى (بُرْس)، وهي قرية فارسية وجميع أهلها من الفُرْسِ، ولكن الجيش الفارسي عندما نزل بها عاث فيها فسادًا؛ فدخل البيوت وأصاب ما بها من الأموال والطعام وأصاب منهم النساء، وهؤلاء جميعهم من الفرس -الجيش الفارسي وسكان القرية- فضجَّ أهل القرية بالشكوى إلى رستم، وقالوا له: إن جيشك فعل كذا وكذا. فقام رستم يخطب في الناس، وقال لهم: واللهِ لقد صدق العربيُّ (الجندي المسلم الذي قتله منذ قليل)، أعمالنا وضعتنا في أيديهم. إننا كُنَّا نُنصَرُ بالوفاء لأهلنا، والوفاء لجوارنا، فكيف بكم وقد فعلتم بهم ما لم يفعله العرب؟! أي عندما كانت هذه القرية في أيدي المسلمين لم يفعلوا بها مثلما فعلتم أنتم بأهلكم من الفرس؛ فلذلك وُضِعْتُم في أيدي المسلمين. واعترف رستم بأن فِعْلَ الجيش الفارسي هذا هو الذي وضعهم في أيدى المسلمين، ثم يتقدم رستم بجيشه من برس حتى يصل إلى النجف حيث يكون الجالينوس منتظرًا إياه، ويصل الجيش كله إلى النجف في حوالي أربعة أشهر ونصف. وتخيَّلْ هذه المدة الطويلة، مع العلم أن المسافة من المدائن إلى النجف مائة وخمسة وثمانون كيلو مترًا، قطعها الجيش الفارسي في أربعة شهور ونصف بمعدل كيلو ونصف في اليوم. أما المسلمون فقد كانوا يقطعون مسافة أربعين أو خمسين كيلو مترًا في اليوم، أما و فقد كانا من الممكن أن يقطعا مائة كيلو مترٍ في اليوم بدون راحة، لكن هؤلاء الفرس كانوا يسيرون سير السلاحف، فكلما وصل رستم إلى مكان عسكر فيه، ثم يرسل إلى يزدجرد: أقاتل أم أرجع؟ لأنه لم يكن راغبًا في القتال، بل يود لو أن يزدجرد أمره بالعودة، فهو متردد، إضافة إلى أن الجيش كله تسري فيه روح التباطُؤ.

أما المسلمون -في ذلك الوقت- فقد كانوا في القادسية يتشوقون إلى الجهاد؛ لأنهم كرهوا الانتظار الطويل داخل الأراضي الفارسية، ونحن نعلم أن سيدنا خالد بن الوليد كان يخوض ثلاث وأربع معارك في الشهر الواحد على مسافات شديدة التباعد، فهو يقاتل في معركة على بُعد مائة كيلو مترٍ، وبعدها معركة أخرى على بُعد مائة وخمسين كيلو مترًا، وهكذا؛ فقد ذهب إلى موقعة (الفِرَاض) من الحيرة، والفِراض على بعد ثمانمائةٍ وخمسين كيلو مترًا من الحيرة؛ ليقاتل الفرس والروم في هذه الموقعة، ولكن الأوامر أتت من عمر بن الخطاب ومن سعد بن أبي وقاص أن يمكثوا في القادسية دون قتال حتى يأتي جيش فارس من المدائن إلى القادسية؛ فيقاتلهم المسلمون في القادسية، وجنود المسلمين كانوا كثيرًا ما يترددون على سيدنا سعد بن أبي وقاص ويقولون له: ما لنا لا نُقدِمُ؟ فيقول لهم سيدنا سعد: إذا لم نطلب منكم الرأي كفيناكم (أي: نحن لم نحتج إلى رأيكم، ولم نطلبه منكم)، إنما نأخذ الرأي من أهل الرأي (يقصد أهل مجلس الحرب فهم أصحاب الرأي والمشورة)، وما عليكم إلا أن تَسمعُوا وتُطيعوا وتَصبروا. كما كان سيدنا عمر بن الخطاب بين كل فترة وأخرى يرسل رسالة إلى الجيش يقول لهم: الصبرَ الصبرَ. خلاصة الرسالة كلها أن يصبروا، فهو يعلم أن المسلمين في ضائقة؛ لأنهم ينتظرون الحرب، فضلاً عن أن التموين كان ينفد بين كل فترة وأخرى، فيضطرون إلى القيام بغارة تموينية يحصلون عن طريقها على تموين آخر.

كان الفرس يطاولون المسلمين لكي يملوا من طول المقام في القادسية؛ فيضطرون إلى ترك أرض فارس، وبذلك يسلم الفرس من حرب المسلمين، ولكن ذلك لم يَفُتَّ في عضُدِ المسلمين، أو يؤثر في معنوياتهم، وظلوا منتظرين في صبر وصولَ الجيش الفارسي.

تعبئة الجيش الفارسي في النجف:

وبالفعل وصل رستم إلى النجف، وبدأ يقسم الجيش، فجعل الجالينوس كما هو على المقدمة، وجعل على ميسرته مهران الرازي، ومهران الرازي هذا كان أبوه أحد قواد فارس، ثم قتل أحد أكاسرة الفرس، وقام بثورة، وكاد يتولى حكم فارس لولا أن قُتِلَ، فهذا الرجل له نسب عظيم في أهل فارس، كما أنه من قوادهم العظام، كما كان قائد الفرس في موقعة "عين التمر"، وكان جيش الفرس في هذه الموقعة يتكون من جيشين: أحدهما عربي على رأسه عُقَّة بن أبي عُقة، والآخر فارسي على رأسه مهران الرازي، وقد ذكرنا أن عقة هذا قَاتَلَ خالد بن الوليد، فأسره خالد من فوق حصانه، وهرب يومئذٍ مهران الرازي من عين التمر دون أن يقاتل المسلمين.

وعلى رأس الميمنة الهرمزان، والهرمزان هذا قد أُسِرَ من قبلُ، وجِيء به إلى الرسول ، فأعطاه وعدًا بأن لا يُقاتل المسلمين، وها هو يُخْلف وعده مع رسول الله ويقاتل المسلمين في موقعة القادسية، وهذا أول إخلاف وعد للهرمزان، وسوف نرى له إخلافاتٍ كثيرة فيما بعد. وبهمن جاذويه بين الجالينوس وبين رستم في قلب الجيش، وبهمن جاذويه هذا هو الوحيد الذي انتصر على المسلمين، وذلك في موقعة الجسر، والتي قُتِلَ فيها قائدُ المسلمين أبو عبيد بن مسعود الثقفي t؛ والبيرزان على المؤخرة، وبذلك أصبح جيش فارس على أُهْبَة الاستعداد للقتال، وعلى التعبئة التي سيقاتل بها المسلمين.

أما المسلمون فما زالوا موجودين في القادسية، فيرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص فرقة من الطلائع على رأسها سيدنا سواد بن مالك؛ لكي يقوموا بغارة تموينية أخرى، فتخرج الفرقة المسلمة وعلى رأسها سواد بن مالك من القادسية حتى تصل إلى قُرْبِ (النجف) بقليل، فتقابل فرقة فارسية، فترتطم معها في قتال (وكان لدى القوة الفارسية بعض الغنائم)، فيتفق اثنان من رؤساء الفريق المسلم هما: سيدنا سواد بن مالك، وسيدنا حُمَيْضَة بن النعمان على أن يحارب أحدهما الفرس، وأن يأخذ الآخر الغنائم ويهرب بها إلى المسلمين، وبالفعل يستولي سيدنا حميضة بن النعمان على معظم الغنائم، ويبقى سيدنا سواد بن مالك يحارب هذه المجموعة الفارسية، ويشعر سيدنا سعد بن أبي وقاص بتأخرهم، فيرسل فرقة على رأسها عاصم بن عمرو التميمي تقاتل هذه المجموعة، وبالفعل ينتصرون عليهم، وينقذ سيدنا عاصم سيدنا سواد بن مالك، ويأخذ بقية الغنيمة ويعودون إلى المسلمين، والمسلمون حتى وَهُمْ على بُعد حوالي أربعين كيلو مترًا من النجف ما زالوا يقيمون الغارات التموينية على جيش فارس نفسه، وصنع هذا بالطبع هزة نفسية للفرس، وكان له أثر عظيم عليهم، ثم تحرك المسلمون من غرب خندق سابور، فعبروا هذا الخندق في منطقة الردم، وانتقلوا إلى الشرق منه حول حصن (قديس) الذي يحمي هذه المنطقة، ثم بدءوا يرتبون أنفسهم ترتيب القتال في المكان الذي سيبدءون الحرب فيه، وَوُضِعَ على مقدمة الجيوش الإسلامية زهرة بن الحُوِيَّة على القنطرة التي على نهر العتيق حتى يحميه.
إرسال فرقة استكشافية إلى الجيش الفارسي:

ثم يرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص اثنين من المسلمين على رأس خمسة، وهذان الاثنان مهمتهما استكشاف الجيش الفارسي، ومعرفة مكان رستم الذي نزل فيه، وهذان الاثنان هما: عمرو بن معديكرب، وطليحة بن خويلد الأسدي، وقد كانا من قبل من المرتدين الذين عادوا إلى الإسلام، فطُلَيْحَة بن خُوَيْلِد الأسدي قد ارتدَّ وادَّعَى النبوة، وقال: إنه نبي وأُشْرِك مع سيدنا محمد في الأمر. ثم حدثت حروب الرِّدة، وهرب طليحة إلى الشام، وظل بالشام طوال فترة خلافة سيدنا أبي بكر الصديق، ثم عاد إلى سيدنا عمر بن الخطاب، وتاب على يديه، واستأذنه في الخروج للقتال، فخرج يكفر عن جُرْمٍ عظيم فعله وهو ادِّعاء النبوة. وعمرو بن مَعْدِيكَرِب هذا أيضًا كان مرتدًّا، وعاد إلى الإسلام، وفقد إحدى عينيه في معركة اليرموك، وجاء من اليرموك لنجدة الجيوش الإسلامية في فارس.

فيخرج السبعة للاستكشاف، والجيش الفارسي في هذا الوقت تقدَّم من النجف، وعَبَرَ قنطرة على نهر (الحَضُوض)، ووصل إلى منطقة تُسَمَّى (سَيْلَحِين)، وتصل مقدمته إلى منطقة تسمى (نَبَاذ) على بعد كيلو متراتٍ معدودةٍ من القنطرة التي على نهر العتيق قبل القادسية مباشرة، ويعسكر رستم في سَيْلَحِين، فإذا الجيش الفارسي قد أصبح على بُعدِ كيلو متراتٍ معدودة من الجيش المسلم، بينما كان الأخير يظن أن الجيش الفارسي ما زال في النجف على بعد أربعين أو خمسين كيلو مترًا، فلمَّا خرجت الغارة الاستكشافية بقيادة طليحة وعمرو بن معديكرب وجدوا أن الجيوش الفارسية في أعداد عظيمة جدًّا من الخيول موجودة في منطقة نباذ في منطقة قريبة جدًّا، فيستشير أحدهما الآخر، فيقول عمرو بن معديكرب: نعود إلى المسلمين، ونخبرهم بالأمر. لأن المسلمين يعتقدون أن الجيش في النجف؛ فقال له طليحة: ولكننا لا نعرف أين رستم؟ فيقول له عمرو: كيف نهجم على جيش بهذا العدد ونحن سبعة؟! فيقول له طليحة: لا أعود إلا وأعرف أين رستم.

وكان سيدنا سعد بن أبي وقاص قد أوصاهما وصية أخرى وهي إحضار فارسي لو استطاعا، حتى يسأله سيدنا سعد عن الجيش الفارسي، فحتى هذه اللحظة لم تحقق هذه الطليعة الاستكشافية مهمتها، فلم يعرفوا مكان رستم، ولم يحضروا فارسيًّا، وعمرو بن معديكرب يبغي الرجوع، وكان هذا هو الرأي الأصوب؛ لأنه من الصعب جدًّا أن يدخلوا وسط الجيش الفارسي، وهم سبعة أفراد، والجيش على مقربة منهم، فقرر طليحة أن يدخل في الجيش وحده؛ ليستكشف مكان رستم، وعاد عمرو بن معديكرب بالخمسة الذين كانوا معه إلى مكان قُرْبَ القنطرة قبل أن يصل إلى زهرة أو سعد بن أبي وقاص، وفي هذه الأثناء شعر سيدنا سعد بن أبي وقاص بتأخرهم، فأرسل لهم فرقة على رأسها قيس بن هبيرة ومعه مائة فارس لنجدتهم، فقد كان يظن أنه قد حدث لهم مكروه، وفي الطريق يقابلون عمرو بن معديكرب وهو عائد، فيقولون له: أين طليحة؟ فيقول لهم: لا أعلم؛ فقد دخل جيش فارس ليستكشفه. فيقول قيس بن هبيرة: انتظر الأمر. فيقول له عمرو: معك مائة فارس؟ فيقول له: نعم. فيقول عمرو: فلنهجم عليهم. ونحن نعلم أن مقدمة جيش فارس وحدها أربعون ألفًا، والجيش مائة وعشرون ألفًا، وخلفه مائة وعشرون ألف تابعٍ، وفرقة قيس بن هبيرة مائة فقط، فيقول له قيس بن هبيرة: ألقي مائة فارس داخل هذا الكَمِّ من الخيول؟! فيقول له: وماذا في ذلك؟ نقاتلهم إما النصر وإما الشهادة. ولكن في ذلك هلكة للمسلمين: مائة يحاربون مائة وعشرين ألفًا؛ فيرفض قيس بن هبيرة ذلك، ويقول له: بل نعود. فيقول له: وما لك في ذلك؟! أي: لماذا يكون الأمر لك، ولم يكن لي؛ فيقول له: لقد أَمَّرني سعد بن أبي وقاص عليك. وصَدَّقه جنوده الذين حضروا معه في ذلك، ولكن عمرو بن معديكرب ما زال في نفسه أشياء من الجاهلية، فيقول: والله إن زمنًا كنتَ فيه أميرًا عليَّ لزمنُ سوء، ولكنها الطاعة. وعاد معه عمرو بن معديكرب إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص، وقصَّ عليه القصة، فقال له سيدنا سعد بن أبي وقاص: يا عمرو، والله لَسَلامةُ مائةٍ من المسلمين أفضلُ عندي من قتل ألفٍ من العَجَم. ونصحه بطاعة قيس وطاعة الأمير.

وقفة مع طليحة بن خويلد الأسدي:

أما طليحة بن خويلد الأسدي فقد سار بجانب القوات الفارسية بعيدًا عنها يخوض في مستنقعات غير عميقة المياه، ويتخير الأماكن التي لا يستطيع الجيش الفارسي أن يعسكر فيها، وظل يمشي حتى تجاوز المقدمة كلها (الأربعين ألف مقاتلٍ)، ووصل إلى المعسكر الذي يقيم فيه رستم وهو قلب الجيش، ثم تجاوز قلب الجيش بأكمله، وخيمةُ رستم موجودة في آخر قلب الجيش، وهي الخيمة الوحيدة البيضاء في المعسكر وبخارجها فرس مربوط لم يُرَ مثلُه قَطُّ في الجيش الفارسي، فأدرك أن هذه خيمة رستم، وأن هذا فرس رستم، فانتظر في مكانه حتى الليل، وعندما جَنَّ الليلُ ذهب طليحة بن خويلد الأسدي إلى الخيمة، وضرب بسيفه حبال الخيمة، فوقعت على رستم ومن معه بداخله، ثم قطع رباط الخيل وأخذ الخيل معه وجرى. وكان طليحة يقصد من ذلك أن يُهين أهل فارس، ويلقي الرعب في قلوبهم؛ إذ كيف تُقطَع خيمةُ رستم ويُسرقُ فرسُه وكل الجيش من حوله؟! وفي الوقت نفسه يودُّ أن يستدرج أحد الفرس لكي يقبض عليه، ويأخذه لسيدنا سعد بن أبي وقاص، وبعد أن وقعت الخيمة على رأس رستم صرخ ونادى الحرس من حوله، فشاهدوا طليحة وهو يجري ومعه خيل رستم، فقال رستم: اطلبوا هذا الرجل. فخرج في إثره الفرسان، وكلما جروا خلفه جرى أسرع؛ فيفتقده الفرسان، هذا مع العلم أنه يجر خلفه خيل رستم، وبالرغم من ذلك لم يدركه إلا ثلاثة منهم؛ فرماه الفارس الأول برمح فتنحَّى طليحة بن خويلد الأسدي، فطاش الرمح وأمسك طليحة رمحه وقذفه في قلب الرجل الفارسي فقتله، وواصل الجري نحو المعسكر المسلم، فتابعه الاثنان المتبقيان، فوصل إليه أحدهما، ففعل به مثلما فعل بالأول وقتله أيضًا، ثم هرب تجاه الجيش المسلم، فتبعه الثالث فرماه برمحه فتنحَّى أيضًا طليحة، فطاش الرمح ثم أمسك طليحة برمحه وهدده أن يستسلم، وإما أن يقتله؛ فاستسلم هذا الرجل، وأخذه طليحة من فوق فرسه وأنزله على الأرض، وجعله يجري أمامه والرمح خلفه في ظهره، فشاهد أهل فارس ذلك المشهد من على بُعْدٍ، وعلموا أن طليحة على مقربة من معسكر المسلمين؛ فعاد فرسان الفُرْسِ، وتركوا هذا الرجل لمصيره.

وعندما دخل هذا الرجل الفارسي على سعد بن أبي وقاص قال له: أمِّنِّي على دمي، وأصدقك القول. فقال سيدنا سعد : فالأمان لك، ونحن قوم صدق (أي: نحن قوم إذا أعطيناك الأمان فأنت آمِنٌ، ولكن بشرط ألا تكذب علينا)، فخَبِّرنا عن جيشكم. فقال له الرجل: قبل أن أخبرك عن جيشي أُخبركم عن رجلكم (يقصد طليحة)، فقال: إن هذا الرجل ما رأينا مثله قَطُّ؛ لقد دخلت حروبًا منذ نعومة أظافري، رجل تجاوز معسكرين لا يتجاوزهما جيوش (يقصد جيش الجالينوس وجيش رستم)، ثم قطع خيمة القائد وأخذ فرسه، وتبعه الفرسان منهم ثلاثة: قتل الأول ونعدله عندنا بألف فارس، وقتل الثاني ونعدله بألف، والاثنان أبناء عمي؛ فتابعته وأنا في صدري الثأر للاثنين اللذين قُتِلا، ولا أعلم أحدًا في فارس في قوتي، فرأيتُ الموت فاستأسرت (أي طلبت الأسر)، فإن كان مَنْ عندَكم مثله فلا هزيمة لكم، ولكني أُنْبِئُُكَ عن جيش فارس؛ فجيش فارس مائة وعشرون ألفًا من الجنود، يتبعهم مائة وعشرون ألفًا من التُّبَّع، على رأسهم رستم والتجهيزات كالآتي: الجالينوس على المقدمة، والهرمزان على الميمنة، ومهران على الميسرة. ثم أعطاه تفاصيل الجيش فأَمَّنه سيدنا سعد بن أبي وقَّاص على دمه، وقال له: إن شئت تَعُدْ إلى قومك، وإن شئت تبقَ معنا. فاختار أن يبقى معهم، وبقي في الجيش المسلم يرى أحواله، ويرى معاملة الأمير المسلم للجنود، وهو قادم من فارس ويعرف كيف يعامل أهل فارس الفلاحين والجنود والأهالي، فرأى من الصدق والأمانة، ورأى من طاعة الجنود للأمير، ومن حِلْمِ الأمير مع الجنود ما جعله يُسلمُ لله ، فذهب إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص، وطلب منه أن يعلمه الإسلام فعلَّمه، وأسلم الرجل، فسماه سيدنا سعد "مُسْلِمًا"، وكان من أهل البلاء في الجيش الإسلامي بعد ذلك، وبداية من القادسية أصبح من المسلمين الذين يُوكَلُ إليهم المهمات الصعبة في جيش المسلمين، فقد غيَّر الله I من حياته: كان يقاتل في صَفِّ المشركين، وكان يسعى وراء أحد المسلمين لقتله، ولو وُفِّقَ في قتله لظلَّ كما هو في الشِّرْك، ولكنَّ الله أراد له النجاة والإسلام.



التحرك نحو القادسية



بعد أن تحرك سعد بن أبي وقَّاص بالجيش الإسلامي الذاهب لحرب الفرس من منطقة "زَرُود" ووصل إلى "شَرَاف"، وكان قوام الجيش الإسلامي الذي معه قد وصل إلى 32 ألف جندي، ووصلته الرسالة العمرية الخالدة التي تُعدّ نموذجًا رائعًا للوصايا التي يمكن أن يوصِي بها الأمراء مَنْ يكلفونهم بالجيوش، واستقرَّ سعد في "شراف" منتظرًا أوامر جديدة تأتي من المدينة المنورة.

وصلت رسالة أخرى من بتعبئة الجيش (أي: بتنظيمه وترتيبه وكأنه على قتال)، وأمره بالتحرُّك من "شراف" إلى "القادسية" وهو على تعبئةٍ كاملةٍ حتى إذا باغتته جيوش فارسٍ في أية لحظة يكون على استعداد كاملٍ لها.

بدأ سعد بن أبي وقاص يرتِّب جيشه وهو في "شراف"، فجعل خليفته خالد بن عرفطة وهو أحد فرسان العرب المشهورين، ولم يتوجه لحرب فارس قبل ذلك، وجعل على المقدمة زهرة بن الحُوِيَّة، وكانت لكل الجيوش الإسلامية مقدمات، ولكن سعدًا جعل لجيشه مقدمة وطلائع، وكانت فرقة الطلائع من أشد فرسان المسلمين مهارة وجسارة وقوة، واختار لهذه الطلائع قوة من كل القبائل، وكانت تحت إمرة سواد بن مالك، وكانت مهمة الطلائع أن تسير في مقدمة الجيش أبعد من مرمى بصر الجيش، لتكون عيونًا على الجيش الفارسي؛ حتى لا يُباغِت الجيشَ الإسلاميَّ، وتلي المقدمةُ الطلائعَ.

وجعل على المقدمة عبد الله بن المعتم، وعلى الميسرة شُرَحْبِيل بن السِّمْط، وعلى المشاة حَمَّال بن مالك، وعلى الخيول سلمان بن ربيعة الباهلي، وكان من المعروف أن أشد خيول العرب في قبيلة باهلة، وجعل عبد الله الخثعمي على الركبان وهي الإبل، وجعل على مؤخرة الجيش عاصم بن عمرو التميمي، صاحب السبق العظيم في حروب فارس قبل هذه الموقعة.

وجعل كل مجموعة من جيشه تحت إمرة أمير، ثم قسَّم المجموعات إلى رايات، وتحت أمراء الرايات رؤساء القبائل، وتحت كل قبيلة العرفاء، أي على كل عشرة من الجند عريف، فالسُّلَّمُ هرميٌّ، فعلى كل عشرة عريف، وعلى كل مائةٍ رئيس قبيلة، وعلى كل ألف حامي الراية، وعلى كل المجموعة أمير الفرقة سواءً كانت مقدمة أو مؤخرة أو ميمنة أو ميسرة؛ وذلك حتى تصل الأمور بسهولة ويُسْر إلى كل الأفراد.

وتحرك الجيش الإسلامي الكبير على هذه التعبئة من "شراف" إلى الشمال متجهًا إلى "القادسية"، وفي طريقه وصلته رسالة من عمر بن الخطاب أنِ انْزل بجيشك في عُذَيب الهِجانات (منطقة تبعد عن القادسية بعدة أميال)، وأرسِلْ طلائعك إلى القادسية فهي باب فارس.

كان في هذا الجيش الإسلامي بضعة وسبعون ممن شهدوا بدرًا، وكانوا يُسمُّونهم "البدريين"، وكان في الجيش أيضًا ثلاثمائة ممن له صحبة بعد بيعة الرضوان، وثلاثمائة ممن شهدوا ، وسبعمائة من أبناء الصحابة، فكانت هذه ذخيرة قوية للمسلمين.

زوّد عمر بن الخطاب الجيش بالأطباء والقضاة، فكان على إمرة القضاة عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، وهو أخو سلمان بن ربيعة الباهلي القائد على الخيول في الموقعة، وكان رائد الجيش وداعيته .

وجعل كاتب الجيش زياد بن أبي سفيان، وجعل مترجم الجيش هلال الهجري وكان يُتْقِن الفارسية والعربية.

وأثناء تحرُّك سعد من "شِرَاف" إلى "عذيب الهجانات" أتته الوصية التي كان قد أوصى بها المثنى بن حارثة t قبل وفاته مع المُعَنَّى بن حارثة، وفي الرسالة: لا تقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء، ولا تعبر نهرًا، وَضَعِ الصحراء في خلفك، حتى إذا كان لك النصر انسحت في أرضهم، وإن كانت الأخرى كانت لك الصحراء مجالاً للرجوع.

وتنطلق هذه الوصية من الاستفادة من خطأ معركة الجسر، وهو عبور المسلمين النهر، فكانت المياه من خلفهم والفرس من أمامهم، واستُشْهِد في "الجسر" وحدها أربعة آلاف من المسلمين، وكان الفرس لا يجرءون على القتال في الصحراء؛ نظرًا لتعدد الدروب والمسالك وكثرة المجاهل بها، وإذا ضلَّ أحد الجيوش فيها فربما يهلك من الجوع والعطش.

ومع وصول رسالة المثنى مع المُعنَّى، وصلت رسالة من عمر بن الخطاب t أيضًا فيها: ألاّ يقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء، وألا يجعل المياه في خلفه، وأن يجعل الصحراء خلف جيشه.

وكان هذا التوافق في الرأي يدل على بعد النظر وعمق التفكير، فقد استفاد المثنى بن حارثة كثيرًا من تجاربه السابقة، وعمر بن الخطاب وهو في المدينة يرى الرأي الصائب وهو على بُعد مئات الأميال من القادسية؛ لعمق فكره وحسن تخطيطه وإدارته .
القبض على عين للفرس

ويرسل سعد طلائعه إلى "عُذَيب الهجانات" قبل أن يصلها هو بالجيش، وكان بها حصن عظيم وهو أول حصون في جنوب فارس، وقد وصلت الطلائع قرب الليل ونظروا فوجدوا للحصن نوافذ كثيرة، وكل مدة يظهر أحد الرجال من إحدى نوافذ الحصن ويختفي مرة أخرى، ثم يظهر آخر في نافذة أخرى ويختفي، وهكذا.

فوقفوا رهبة، وشعروا بوجود جيش للفرس في هذا الحصن، ثم أمرهم حمّال بن مالك بالهجوم على الحصن، ففوجئوا بعدم وجود أحد فيه، ووجدوا رجلاً واحدًا يجري بعيدًا عنهم بفرسه في اتجاه المدائن، فعلموا أنه أحد عيون الفرس، وأنه منطلق لإخبارهم بأمر المسلمين، وانطلقت خلفه الطلائع فأعجزهم ولم يستطيعوا اللحاق به، وقدمت بعد ذلك المقدمة وعليها زهرة بن الحُوِيَّة، فلما علم زهرة بهذا الأمر -أَمْرَ الرجل- قال: والله لو وصل هذا العين إلى فارس، علمت فارس بقدومنا. فأسرع بنفسه وسابق خيول المسلمين وسبقهم، وأدرك الرجل في خندق سابور على حدود القادسية واقتتل معه وقتله في خندق سابور، وبهذا لم تصل -حتى هذه اللحظة- أخبار المسلمين إلى فارس بفضل الله تعالى، ثم بفضل هذا المثال النادر من المسلمين "زهرة بن الحُوِيَّة"، والذي أحسنَ سعد بن أبي وقاص باختياره قائدًا على المقدمة.

وقبل أن يصل سعد إلى "عُذيب الهجانات" تصله رسالة من عمر بن الخطاب أن يعسكر في القادسية، وقال له: صِفْ لي المكان كأني أراه رأي العين، ولا تدخل على أرض العراق إلا أن يدخلوا هم عليك.

ويتقدم سعد ويصل إلى "عُذَيْب الهِجانات" ويعسكر فيها مدة، إلى أن تكتشف الطلائعُ والمقدمةُ منطقةَ القادسية وما حولها لتأمين دخول الجيش هذه المنطقة.

تختلف خطة الجيش الإسلامي في معركة القادسية عن غيرها من الخطط في المعارك الأخرى، ومن الواضح في معارك الجيش الإسلامي الكثيرة، ومواقعه المتعددة أنه يعتمد خطة الهجوم على الجيوش الفارسية في مواقعها، لكن هذه المرة يأمر عمر بن الخطاب الجيش أن يبقى في القادسية ولا يتركها؛ لخوفه من الإعداد الضخم الذي يُعِدُّه الفرس لهذه المعركة، ويحرص على عدم توغل المسلمين في الأراضي الفارسية؛ حفاظًا عليهم من الهلكة.
حل مشكلة الغذاء

كان وصول سعد "عذيب الهجانات" في منتصف صفر 15هـ، وعسكر فيها ما يقرب من شهر، وإذا نظرنا إلى العدد الكبير للجيش الإسلامي (32 ألفًا من الجنود)، نجد أنهم كانوا بحاجة دائمة إلى التموينات، وإذا أرادوا أن يأكلوا لحومًا مثلاً كانت الناقة تكفي مائة جندي، ففي اليوم يحتاج إلى 320 من الجمال، فالجيش إذن يحتاج إلى تمويل ضخم جدًّا، وعمر بن الخطاب يموِّن الجيش من بيت مال المسلمين، لكن مهما كان حجم ما يأتي من المدينة فلا شك أنه سيكون أقل من حاجة الجيش، وهناك نقص كبير في اللحوم خاصةً، فكلما طالت مدة انتظار الفرس كلما زاد العبء على المسلمين، فبدأ المسلمون بعمل ما يُسمَّى بالغارات التموينية تحفيزًا لإسراع الفرس في القدوم للحرب، وفي الوقت نفسه يتمُّ تموين الجيش من خلال هذه الغارات.

أمر سعد الطلائع والمقدمة بعمل هذه الغارات، وأرسل زهرة بن الحُوِيَّة -وهو في "عذيب الهجانات"- فرقة من طلائعه إلى مكان يُسمَّى صِنَّينَ (وهي على بعد 10 إلى 15 كم من الحيرة)، وعلى رأس الفرقة التي لا تتعدى الثلاثين فارسًا بكير بن عبد الله، وتصل الفرقة إلى "صنين" فيسمعون أصوات عُرسٍ لأحد أمراء فارس، ولا شك أن في العرس هدايا ثمينة يهديها الأمراء بعضهم لبعض في هذه المناسبات إلى جانب الماشية والأغنام والإبل وغير ذلك، وينتظر بشير بن عبد الله في وسط الغابات التي كانت منتشرة في تلك المنطقة، وعند مرور العرس ووصول الحامية التي ترافق العرس فهو عرس أميري؛ هجمت الفرقة عليهم ففروا في كل وجهة وتركوا العُرسَ بما فيه، وسبى المسلمون العروسَ والتوابع، وأخذوا الغنائم وعادوا بها، وقبل أن يَصِلُوا كبَّروا، فقال سعد لجنوده: أقسم أن هذه تكبيرة قومٍ عُرفت فيهم العز.

فكانت هذه أول الغارات التموينية للمسلمين، وكان فيها إهانة كبيرة لأحد أمراء فارس في زواجه، وبدأ أهل تلك المنطقة يراسلون يزدجرد في المدائن ويخبروه أن جيوش المسلمين على مقربة.

ثم أرسل زهرةُ بن الحُوِيَّة عاصمَ بن عمرو التميمي -وكان قائدًا للمؤخرة- نظرًا لشجاعته إلى منطقة "مَيْسان" شرق الفرات، ووجدوا مجموعة كبيرة من الفلاحين ولكن دون أن يكون معهم أغنام، فتعجبوا من هذا الأمر وهو عدم وجود إبل وماشية في هذه المنطقة الزراعية، فقام أحد الفلاحين وقال: والله ما في هذا المكان من إبل ولا ماشية قَطُّ. فخار ثور ساعتها يكذب الراعي، وذهب المسلمون إلى مصدر الصوت في وسط الغابات الكثيفة، فوجدوا كميات ضخمة من المواشي، وساقوها للجيش، وسُمِّيَ هذا اليوم بيوم الأباقر من كثرة ما أخذوا فيه من البقر، وكان في هذا تموين للجيش فترة كبيرة.

أرسل الأمراء على الفور إلى يزدجرد، وبدأ الفرس يتأثرون ويتحمسون لوقف المسلمين عن شن هذه الغارات التي تقلقهم كثيرًا.

في هذا التوقيت أرسل عمر بن الخطاب بعد أن علم بهذه الأحداث -الغارات التموينية- وبعد أن خشي من اندفاع المسلمين لقتال الفرس في أراضيهم، فقال: "الصبرَ الصبرَ، فإن المعونة تأتي من الله على قدر النية، والأجر على قدر الجهد، والحذرَ الحذرَ على ما أنت عليه، وما أنت بسبيله، واسألوا الله العافيةَ، وأكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وخَفِ اللهَ وارْجُهُ، ولا تغترَّ بشيء. واعلم أن الله قد وعدكم، وتوكَّل لهذا الأمر، فاحذر أن تصرفه عنك فيستبدل بكم غيركم، وصفْ لي مساكنكم كأني أراها، واجعلني من أمركم على الجلية".

ويرسل سعد بن أبي وقاص رسالة إلى عمر بن الخطاب يصف له القادسية يقول:

"القادسية مكان بين نهر العتيق وخندق سابور". القادسية هي مكان يقع في الجنوب الغربي للحيرة على أبواب الصحراء، ونهر العتيق هو أحد روافد نهر الفرات يخرج منه متجهًا إلى الغرب، وخندق سابور يقع جنوبي منطقة القادسية، وهو خندق قديم للفرس يحاصر معظم غرب العراق، وفيه بعض الأماكن التي يمكن العبور منها، لكن على كلٍّ منها حصنٌ عظيم لمنع عبور أي مجموعة، وأمام القنطرة الرئيسية للخندق يقع حصن يُسمى "قديس".

يقول سعد :

"وعن يمين منطقة القادسية فيض من فيوضهم (أي بحيرة تصل من نهر العتيق وحتى خندق سابور)، وفي شمال القادسية بحر أخضر" أي مستنقع به ماء وشجر كثير.

وعندما وصلت الرسالة إلى عمر قال له: "الزم مكانك".

ثم يقول له: "إذا منحك الله أكتافهم، فلا تتركهم حتى تغزو المدائن فإن في ذلك خرابها، والوفاءَ الوفاءَ، فإن الخطأ في الغدر هلكة (أي يوصيه بالوفاء لأهل القرى التي ما زالت على صلحها مع المسلمين) وفيه (أي الغدر) وَهَنُكم وقوة عدوكم، واحذروا أن تكونوا شينًا على المسلمين".

بعد أن سيطرت الطلائع والمقدمة على حصن "قديس"، كان الجيش الإسلامي ما زال في مكانه لم يعبر خندق سابور بعد، وإن كان في نيته العبور.
حال البلاط الفارسي في ذلك الوقت

كان أمراء الفرس يضجون كثيرًا، ويرفعون الشكاوى إلى يزدجرد الثالث كسرى فارس مما يفعله المسلمون في الجنوب، فأرسل إلى رستم -أعظم قائد فارسي على مر التاريخ- وقال له: أتعلم مثل العرب ومثلنا كمثل ماذا؟

فيقول له: مثل ماذا؟

فيقول يزدجرد: مثلنا ومثلهم كمثل عُقاب (طائر ضخم) نزل على وادٍ، وفي هذا الوادي طيور صغيرة كثيرة، وفي كل لحظة ينزل فيخطف طائرًا ويعود، ثم ينزل فيخطف طائرًا ويعود، فأرى أنه لو قامت هذه الطيور كلها مرةً واحدة فرَّ منها هذا العُقاب، وإن حدثت هلكة فهي لطائر واحد.

وفهم رستم من كلامه أنه يريد أن يُخرِج كل طاقة فارس لحرب المسلمين، ثم قالها له: إني أرى أن تخرج طاقة فارس في جيش واحد لملاقاة المسلمين، وتخرج أنت على رأس الجيش.

وغضب رستم من ذلك لا لجبنٍ منه فقد كان قائدًا شجاعًا، لكنه كان يرى أن هذا ليس رأيًا صائبًا -وقد شهد له المؤرخون بذلك- فقال رستم: الرأي رأيك، لكني أرى أن نرسل لهم قوة ثم قوة، فإن لاقتهم الفرقة الأولى وهزموا كان لنا بقية، ثم استبقني هنا فطالما أنا هنا فالعرب على خوفٍ منا.

وتجادلا وأصرَّ كسرى على رأيه، وأطاعه رستم وخرج على رأس الجيش، بعد أن جمّع للمسلمين جيشًا ضخمًا كان قوامه 120 ألف مقاتل و120 ألف تابع، أي مائتين وأربعين ألفًا من الجنود الفارسيين، وهذا أكبر جيش يخرج من فارس على مرِّ العصور، وتحت إمرة رجل واحد فقط، وفيه مائة وعشرون ألفًا يقاتلون، ومائة وعشرون ألفًا أخرى يخدمون المقاتلين، ويمكن أن يشتركوا في القتال عند الحاجة إليهم، فهم بمنزلة مؤخرة الجيش.

وفي هذا الجيش 60 ألفًا من الفرسان، و60 ألفًا من المشاة، و33 فيلاً، وكان للفيل الواحد وزنه في الجيش الفارسي، فما بالنا بـ 33 من الأفيال؟! ومن بينهم الفيل الأبيض قائد الأفيال، وهو الذي قتل أبا عبيد بن مسعود الثقفي في معركة الجسر، إذن فقوة فارس كلها خرجت لحرب المسلمين.

وتعلم المخابرات الإسلامية أن رستم على رأس الجيش، فيرسل سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب أن الفرس يُعِدُّون لنا جيشًا لم نسمع عنه من قبل، على رأسه رستم ومن شابهه.

وقد كان على رأس مقدمة جيش فارس "جالينوس" وهو أحد القادة الكبار، وكان قوام المقدمة 40 ألفًا، أي أن مقدمة الفرس وحدها تزيد على كل الجيش المسلم بثمانية آلاف، ومن بين القواد أيضًا بهمن جاذويه الذي انتصر على المسلمين في الموقعة الوحيدة التي انتصر فيها الفُرْسُ (الجسر).

وردَّ عليه عمر بن الخطاب قائلاً له: "لا يَفْرِيَنَّك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتونك به، واستعن بالله وتَوَكَّلْ عليه". ثم يقول له: "وابعث إليهم رجالاً من أهل الرأي يدعونهم إلى الإسلام؛ فإن في ذلك وهنًا لهم".

وفد المسلمين إلى كسرى يزدجرد:

ونرى في هذا الموقف حرص عمر بن الخطاب على الدعوة إلى الإسلام حتى في هذه الظروف، وإضافة إلى تبليغهم دعوة الإسلام تُرهَب نفوسُهم من جرأة المسلمين عليهم، وبدأ سعد في انتقاء الوفد الذي يقابل "يزدجرد الثالث" كسرى فارس، ومرَّ على الجيش كله، وانتقى 14 رجلاً؛ سبعة من أهل الرأي وسبعة من أهل المهابة. يقول الرواة: إن الأربعة عشر رجلاً كانوا جميعًا أصحاب هيئة وجسامة، وكانوا جميعًا يزيدون في طولهم على المترين، وعلى رأسهم النعمان بن مُقَرِّن الصحابي الجليل الذي أسلم في العام الخامس الهجري، وأول مشاهده ، وأسلم هو وإخوته جميعًا -عشرة إخوة- وشاركوا في ، وكان يقول: إن للنفاق بيوتًا، وإن للإيمان بيوتًا، وإن بيت بني مُقَرِّن لمن بيوت الإيمان، وفيهم نزل قول الله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 99]. فكان النعمان على رأس هذا الوفد، وكان رجلاً ذا مقالة، ومعه بُسر بن أبي رُهم وقد مر ذكره في ، ونذكر كمين "الولجة" حيث كان على رأس الكمين. ومن الوفد حنظلة بن الربيع وكان من خطباء الجاهلية والإسلام، وسُمِّيَ حنظلة الكاتب. وفرات بن حيان وكان أكثر العرب خبرة بالطرق، وكان قد أسلم في العام الثاني للهجرة. ومع الوفد أيضًا المغيرة بن زرارة أحد صحابة النبي ، ومن أصحاب المقالة أيضًا في الجاهلية والإسلام. وعدي بن سهيل وهذا الاسم غير معروف، ويبدو أنه سهيل بن عدي، ولعله نُقِلَ خطأً.

ومن الوفد أيضًا حَمَلة بن جُويَّة. وكان على رأس أهل المهابة والقوة في الجسد عاصم بن عمرو التميمي أخو t، والمُعَنَّى بن حارثة أخو المثنَّى رضي الله عنهما، و وهذا الرجل هو الوحيد الذي دخل قبل ذلك إيوان كسرى، ولا شك أنه -في الطريق ومع الوفد الذي لم يدخل إيوان كسرى قبل ذلك- سيذكر لهم وصفًا دقيقًا لكرسي كسرى وتاجه وسريره وما يمتلئ به إيوانه من ذهب وفضة وزخارف؛ حتى لا ينبهر الوفد بما لم يره أو يسمع عنه من قبل، فيكون لذلك نتائجه السلبية، فاختياره له هدف.

وعمرو بن معد يكرب وكان من أشهر فرسان العرب، وكان قد فقد إحدى عينيه في سبيل الله، وكان عمر بن الخطاب يسأل: أي سيوف العرب أمضى؟ قالوا: صمصامة. وهي صفة من صفات سيف عمرو بن معديكرب؛ فأرسل له: أن أرسل لي سيفك. فأرسله له، فأمسك به عمر بن الخطاب وضرب به فوجده على غير ما كان يتوقع من القوة والمتانة، فأرسل إليه: والله كنا نظن سيفك على أحسن من هذا. فقال له: والله يا أمير المؤمنين لقد أرسلت إليك بالسيف، ولم أرسل إليك بالساعد الذي يضرب بالسيف.

ومن الوفد أيضًا الحارس الشخصي للرسول ، والأشعث بن قيس، والحارث بن حسان أشهر فارس في قبيلة كندة. واختير لهم أفضل أربعة عشر من الخيول، ولبسوا أفضل اللباس، وخرجوا جميعًا لمقابلة يزدجرد ودعوته إلى الإسلام، وعلم الفرس بقدومهم، فخرج الشعب الفارسي ليشاهد هؤلاء العرب الذي كانوا يعتقدون أنهم أعراب أجلاف ليس لهم في الحرب شيء.

تقول إحدى النساء اللائي أسلمن بعد ذلك: فوقفنا ننظر إليهم، والله ما رأينا أربعة عشر مثلهم قَطُّ يعادَلون بألف، وإن خيولهم لتنفث غضبًا وتضرب في الأرض، ووقعت في قلوبنا المهابة وتشاءمنا. وأرسل يزدجرد إلى أهل الرأي يستشيرهم في مقابلة الرسل المسلمين أم لا، فأشاروا عليه أن يقابلهم، فأمر يزدجرد بدخول الوفد عليه والحديث معه.

فماذا سيدور في هذا الحوار العجيب بين يزدجرد والوفد المسلم؟



يتبع لاحقا ..
 
رد: فتوحات العراق وفارس

تحركت جيوش رستم من النجف حتى وصلت إلى منطقة تسمى (سَيْلَحِين)، وعسكر فيها رستم وعسكرت المقدمة في منطقة تسمى (ناباذ)، وعاد طليحة بن خويلد الأسدي -كما ذكرنا من قبل- إلى وأخبره بأن الجيوش الفارسية على مقربة منه؛ حيث إن منطقة ناباذ هذه بالنسبة لمنطقة القادسية على مسافة نحو خمسة إلى ستة أميال، أي أن المسافة بين الجيشين أصبحت قريبة جدًّا، والجيوش على الأبواب.

وقد أرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص سرية صغيرة من مائة فارس من الطلائع، والطلائع -دائمًا- يكونون من أفضل المجاهدين في المسلمين، وجعل على رأس هذه السرية رجلاً يُسمَّى قيس بن هبيرة. وقيس هذا هو الذي قام منذ قليل على رأس مائة لينقذ عمرو بن معديكرب وطليحة بن خويلد الأسدي عندما قاموا بالغارة الاستكشافية، واستأخرهم سعد بن أبي وقاص، ونذكر أيضًا ما قاله عمرو لقيس: واللهِ إن زمنًا تكون فيه أميرًا عليَّ لزمنُ سوء. وهو عمرو بن معديكرب صاحب أكبر سيف شُهِرَ في العرب، سيف الصمصامة، وأقوى يدٍ ضربت في العرب، فهو يأنف أن يكون قيس بن هبيرة هذا أميرًا عليه، وفي هذه السرية -أيضًا- يُخْرج سعد بن أبي وقاص قيس بن هبيرة أميرًا عليه، ويجعل في جنده عمرو بن معديكرب وطليحة بن خويلد الأسدي، وهذا نوع من أنواع التربية، فليس تحقيق النصر هو الهدف الأول والأخير في المعركة، ولكن الهدف هو إرضاء الله ، فسيدنا سعد بن أبي وقاص يأخذ هذا الطريق ليربي جنوده على كسر الشهوات، وعلى كسر حبِّ النفس، وحب الأثرة، وما إلى ذلك، فيخرج عمرو بن معديكرب -الذي قال هذه الكلمة في حق قيس- تحت إمرته مرة أخرى، كما يخرج طليحة بن خويلد الأسدي الذي قام بهذه الغارة الاستكشافية الرائعة، والذي قام بما لم يقم به غيره تحت إمرته أيضًا، وتخرج هذه السرية فتقاتل فرقة من فرق الاستطلاع الفارسية، وتبلي بلاءً حسنًا، وتنتصر على هذه الطليعة الفارسية انتصارًا عظيمًا، وتعود مرة أخرى إلى سعد بن أبي وقاص؛ فينادي على عمرو بن معديكرب وعلى طليحة بن خويلد الأسدي، فيأخذهما إلى خيمته ويكلمهما في جانب من جوانبها، فيقول لهم: كيف وجدتما أميركما؟ فيقول له طليحة بن خويلد الأسدي: وجدناه أكمانا. أي: وجدناه أشجعنا على القتال؛ فطليحة اعترف أن الأمير كان أفضل مقاتل في السرية، ثم أشار إلى عمرو بن معديكرب وقال له: كيف وجدته؟ فقال: الأمير (يقصد سعد بن أبي وقاص) أعلم منا بالرجال. فقد اكتشف عمرو أيضًا أن قيس بن هبيرة له من الأحقية ما يجعله الأمير، ثم قال لهما سعد: إن الله تعالى أحيانَا بالإسلام، وأحيَا به قلوبًا ميتة، وإني أحذركما أن تُؤْثِرا أمر الجاهلية على أمر الإسلام، والزما الطاعة فإن فيها العزَّ، وإن في غيرها الذل، وإن الله لا يرضى عن قوم لم يطيعوا أميرهم. وهذا أول درس لهما من أميرهما؛ يربيهما التربية الصحيحة، وجيش رستم يتقدم حتى يصل إلى غرب نهر العتيق مباشرة، وهذه المنطقة تسمى القادسية، ولا يفصل بينه وبين جيش المسلمين سوى قنطرة صغيرة على نهر العتيق، ويعسكر جيش رستم هناك.
رستم يرى رؤيا تفزعه:

نام الجيش ونام رستم، وذات ليلة يرى رستم رؤيا حقّ، وهي أنه ينزل عليه ملك من السماء، ثم يدخل المعسكر، ويأخذ أسلحة الجيش، ويختم عليها ختم، ويعطيها لرجل؛ فيقول رستم: من هذا الرجل؟ فيُقال له: هو محمد. ويأخذ هذا الرجل السلاح ويعطيه لرجل آخر؛ فيقول رستم: من هذا الرجل؟ فيقال: . فيأخذ هذا الرجل السلاح فيعطيه لرجل ثالث؛ فيقول: من هذا الرجل؟ فيُقال: سعد بن أبي وقاص. فيستيقظ رستم من النوم فزعًا، ونحن نعلم أن رستم من الذين يؤمنون بالتنجيم وتأويل الأحلام وما إلى ذلك؛ لذا فقد تشاءم عندما رأى هذه الرؤيا، ونادى على خاصَّتِه، وعلى من معه في الجيش من مفسري الأحلام، ومن المنجمين، وحكى لهم الرؤيا؛ فاضطربوا وتذبذبوا وقالوا له: اكتم هذا الحلم ولا تحدث به أحدًا. وكان في هؤلاء الخاصة رجل سمع هذا الكلام اسمه الرفيل، والرفيل هذا كان من أقرب الجنود إلى رستم، وكانت تراوده فكرة الإسلام بعد ما سمع بأخبار المسلمين في السنوات الثلاث السابقة خلال الحروب، ولكنه عندما سمع هذا الحلم أسلم في نفسه لله، وانتظر الفرصة حتى يعلن إسلامه للمسلمين، وأصبح الرفيل هذا أهم مرجع من مراجع المسلمين بعد ذلك في كتب التاريخ بالنسبة للأحداث التي حدثت داخل فارس كلها، وهو الذي حكى كل الأحداث التي سنذكرها، والتي ذكرناها، وقد أتتنا عن طريق ابنه النضر بن الرفيل، وعن طريق هذه الروايات اطلع المسلمون على كثير من الأحداث في بلاط فارس، وهكذا -كما ذكرنا- من قبلُ أن الله أتاهم من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب. وهذه مجرد رؤيا رآها رستم؛ ولكن لأنه كان يؤمن بالتنجيم وقع الرعب في قلبه، وقلوب خاصته ورؤساء قومه، وبدأ الفرس بأجمعهم يشعرون بالقلق، وأنهم مقدمون على معركة خاسرة في الغالب، وهذا هو إحساس الجيش الفارسي بمجرد رؤيا رآها؛ فالله ألقى في رُوع رستم هذا الحُلْم وحقق النتائج.

وفي اليوم التالي يخرج رستم بعد هذا الحلم ويستعرض جيش المسلمين، وهو راكب فرسه في غرب نهر العتيق من شماله إلى جنوبه، ثم يعود يستعرض جيش المسلمين في الناحية الأخرى، ثم يقف على القنطرة ويطلب أن يتحدث مع رجل من المسلمين.

زهرة بن الحوية يتحدث مع رستم:

فيتقدم له زهرة بن الحُوِيَّة، ونحن نعلم أن زهرة بن الحُويَّة واقف بفرسانه على القنطرة لحمايتها؛ فيتقدم له زهرة بنفسه كي يتحدث معه، فيُعَرِّض له رستم بالمصالحة، ولكنه لا ينطق بها، لقد كان بداخل رستم عدة عوامل تمنعه من القتال:

أولاً: هو لم يكن راغبًا في الخروج على رأس الجيوش، بل كان يود أن يخرج الجالينوس مكانه ويظل هو في المدائن، ولكن يزدجرد أصر أن يخرج رستم على رأس الجيوش.

ثانيًا: لم يكن راغبًا في دخول الجيش الفارسي كله في معركة واحدة، فهو يود أن يبعث فرقة فرقة، حتى إذا انهزمت فرقة تدخل الثانية، ولكن الجيش الفارسي جاء بمائتين وأربعين ألفًا من الجنود، أي أن معظم الطاقة الفارسية قد جاءت في هذا الجيش.

ثالثًا: التراب الذي أُعْطِي إلى عاصم بن عمرو التميمي ما زال يؤثر في نفسيته ونفسية قومه؛ لأنهم متشائمون من ذلك، وهذا شيء مهم جدًّا في تكوينهم، فهم يؤمنون تمامًا أن فارس من الممكن أن تُهزَم نتيجة هذا الفأل السيئ.

رابعًا: وأخيرًا موضوع الحلم الذي رآه.

فلذلك لم يكن راغبًا في القتال ولكنه يعرِّض بالمصالحة، ولا يقولها كِبرًا؛ لأنه لا يود أن يظهر بمظهر الضعيف الذي يطلب المصالحة من زهرة بن الحُوِيَّة بعد كل هذه العظمة والسلطان وهذه القوة الفارسية؛ فيقول له: أنتم جيراننا، وكنتم تأتوننا وتطلبون منا الطعام، وكنا نعطيكم ولا نمنعكم، وكنا نحسن جواركم، وكنا نُظِلُّكم بظلِّنا، ونطعمكم من طعامنا، ونسقيكم من شرابنا (فهو يقصد أن العلاقة كانت بيننا وبينكم طيبة، فما الذي غير هذه العلاقة؟!)، وكنتم تأتوننا ولا نمنعكم من التجارة في أرضنا، ثم جئتم الآن تحاربوننا (فما الذي غيَّر هذه الأحوال؟!). فقال زهرة: صدقت في قولك عمَّن كانوا قبلنا؛ كانوا يطلبون الدنيا ولكن نحن نطلب الآخرة، كنا كما تقول حتى بعث الله إلينا رسولاً، وأنزل عليه كتابًا، فدخلنا معه في دينه، وقال له الله: إني مسلِّطٌ هذه الفئة على من خالفني، ولم يَدِنْ بديني، فإني مُنتقِمٌ منهم، وأجعل لهم الغلبة (أي للفئة المؤمنة) ما داموا مُقرِّين بي. فقال له رستم: وما هذا الدين؟ فقال زهرة بن الحُوِيَّة: هذا الدين عموده أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن تُقرَّ بكل ما جاء من عند الله، وتُبعد عن حكمك كل ما خالف أمر الله .

فقال رستم: ما أحسن هذا! وأي شيء آخر؟ يريد أن يستزيد، ويعرف كيف يفكر المسلمون، فأكمل "زهرة" الحديث، وقال: وجئنا -أيضًا- لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. قال: وهذا حسن أيضًا، أي شيء آخر؟ فقال: والناس كلهم أبناء آدم وحواء إخوة، لا يتفاضلون إلا بالتقوى. فقال: هذا شيء عظيم!! ثم قال له رستم: أرأيت لو أني رضيت بهذا الأمر، ودخلت معك وقومي في دينك أترجع عنا؟ قال: نعم واللهِ، نخلِّف فيكم كتاب الله، ونترككم ولا نعود إليكم إلا في حاجة أو تجارة. فقال رستم: صدقتني. ثم انصرف رستم وانصرف زهرة.

ومن خلال هذا الحديث مع زهرة نتبين أن رستم يحاول أن يعرف من المسلمين الكثير عن دينهم، والكثير عن طريقة تفكيرهم حتى يعرف كيف يقاتلهم، ولكن في واقع الأمر عندما ننظر في مجريات الأمور بعد ذلك نجد أن رستم كان بالفعل يفكر في مصالحة المسلمين، ولم يكن تصرفه هذا حركة سياسية، أو حركة القصد منها تثبيط همة المسلمين؛ لأنه عندما عاد إلى قومه، وإلى رؤساء قومه جمعهم وجمع مجلس الحرب، وأخذ يناقشهم، ويقول لهم: ما رأيكم في هذا؟! وهل رأيتم أحسن من هذا؟! فأَنِفَ القوم من هذا الحديث، ولم يقبلوا فكرة الدخول في الدين الإسلامي، فليس من المعقول في نظرهم أن يدخل قادة الفرس في هذا الدين؟! فيقول لهم: أما رأيتم من حُلو حديثهم، ودقة كلامهم، وثباتهم وعدم خوفهم من الموت؟! وأخذ يعدّد حسنات المسلمين.

فغضب القوم منه، وتجادلوا معه جدالاً عنيفًا، حتى أغضبهم وأغضبوه؛ فأصرَّ رستم على عرض فكرة المصالحة، بل فكرة الدخول في دين الإسلام (ولا نعلم: أذلك بانشراح صدر، أم تجنبًا لقوة المسلمين الضخمة التي يظن أنها ستنتصر عليه في المعركة القادمة؟) ثم يعيد عليهم الكلام مرة أخرى؛ فيقول له القوم: إنك بدأت تجبن عن لقاء القوم. فأخذت الكلمة مأخذها في صدر رستم، إذ كيف برستم أشجع قواد فارس يُتَّهم بالجبن؟! ثم قال لهم: أخذ الله أجبَنَنا، إنما تلقون بفارس إلى التهلكة، وأنا لست أجبنَكم، ولكني أحكمكم وأعقلكم.

وظل رستم على الكفر مع قومه ولم يفكر بعد ذلك في الصلح، ولكن كان بداخله شعور يقيني أن هؤلاء القوم منصورون من الله I؛ لأن فرقته تعصي الله، وهو يعلم أن الاختلاف بينه وبين المسلمين هو في: مَن هو الله؟ فهو يعبد النار ويوقن أنها تنقذ الطائع وتحارب العاصي، وإذا ارتكبوا الذنوب فإنهم مهزومون، وهو يعلم أيضًا أن قومه غير حسني السيرة، وأن المسلمين لهم من السيرة الطيبة ما يجعلهم ينتصرون عليهم، كما أن الحلم الذي رآه، والأشياء التي شاهدها، والأحداث التي مرَّتْ به غرست في قلبه الشؤم من هؤلاء القوم، ثم تأتي أحاديث أخرى سنذكرها بعد ذلك يقول فيها: إن ما جاء به هؤلاء القوم هو الحق. ولك أن تتخيل قائدًا معه مائتان وأربعون ألفًا من الجنود، وهو يشعر أنه سيُهزم أمام جيش عدده اثنان وثلاثون ألفًا فقط. شعور في منتهى الضعف، فإذا كان القائد والجيش كله بهذا الشعور فلا يمكن أن تقوم له قائمة، أو ينتصر في معركة، ثم في هذا اللقاء بين زهرة ورستم على القنطرة يميل الرفيل على زهرة، ويعلن له إسلامه؛ فيثبته زهرة على ذلك، ويقول له: ابقَ في مكانك. يقصد في أرض فارس؛ لكي ينقل أخبار الجيش الفارسي للمسلمين، ويظل الرفيل في الجيش الفارسي وهو يخفي إسلامه.
ربعي بن عامر يخاطب رستم:

في اليوم التالي يرسل رستم عبر القنطرة -أيضًا- يطلب من المسلمين وفدًا للحديث معه (فهو يود الصلح ويبحث عن ثغرة تتم بها المصالحة، أو أية وسيلة أخرى يرجع بها الجيش المسلم دون الدخول معه في حرب)؛ فيخبر زهرة بن الحُوِيَّة سعد بن أبي وقاص بذلك، فيجمع سعد بن أبي وقاص مجلس حربه، ويقول لهم: إنني سأرسل له وفدًا عظيمًا من أصحاب الرأي، كما أرسلت من قبل ليزدجرد؛ ليقيم عليه الحُجَّة، ويدعوه إلى الإسلام. فيقول ربعي بن عامر : إن هؤلاء القوم قوم تباهٍ، وإننا لو فعلنا ذلك يرون أننا قد اعتددنا بهم (أي: جعلنا لهم مكانة عظيمة، وأقمنا لهم الهيبة ونحن خائفون منهم)، ولكني أرى أن ترسل لهم واحدًا فقط؛ فيشعروا أننا غيرُ مهتمين بهم؛ فيوهن ذلك في قلوبهم. فتجادل معه القوم، ولكنه ظل يجادلهم حتى قال سعد: ومن نرسل؟ فقال ربعي: سَرِّحوني. أي: دعوني أذهب إليه أكلمه؛ وعندما وافق سعد وافق بقية القوم، ووقع في قلوبهم الرضا، وذهب ربعي بن عامر ليقابل رستم. وربعي هذا لم يكن من قواد الجيوش الإسلامية، ولكنه سيد في قومه، وانطلق ربعي على فرسه الصغير ذي الذيل القصير، وهذا شيء تُهَانُ به الخيولُ، ويلبس ثيابًا بسيطة جدًَّا (قديمة ومهلهلة ولكنها نظيفة)، وهذا لباسه منذ أن قدم للقتال؛ فذهب به لمقابلة رستم، ويربط سيفه في وسطه بشيء غنمه من الفُرْسِ، وبالطبع هم يعرفون شكل لباسهم (وفي هذا إذلال لهم كأنه يقول لهم: ما كان في أيديكم بالأمس أصبح اليوم في يدي، وهذا أمر يؤثر في أنفسهم كثيرًا)، ويحمل فوق ظهره السهام، وفي مِنطَقته السيف، وله جحفة من جريد النخل مثل التُّرس يتقي بها السهام، وكانت دروع الفُرس من الحديد القوي، وكان يلبس من الدروع درعًا حديدية تغطي نصفه الأعلى، وكان من أطول العرب شعرًا وقد ضفَّره في أربع ضفائر، فكانت كقرون الوعل، ودخل عليهم بهذا المنظر غير المعتاد بالنسبة لهم؛ فدخل بفرسه ووقف على باب خيمة رستم، فطلب منه القوم أن ينزع سلاحه، فقال: لا، أنتم دعوتموني، فإن أردتم أن آتيكم كما أُحِبُّ، وإلا رَجعتُ.

فأخبروا رستم بذلك، فقال: ائذنوا له بالدخول. فدخل بفرسه على البُسُطِ الممتدة أمامه، وهي طويلة جدًّا، يتراوح طولها ما بين مائة وخمسة وستين مترًا إلى مائة وخمسة وثمانين مترًا، وعندما دخل بفرسه وجد الوسائد المُوَشَّاة بالذهب؛ فقطع إحداها، ومرر لجام فرسه فيها وربطه به، وهذا يُوحِي بأن هذه الأشياء ليست بذات قيمة عنده، وفي هذا أيضًا إذلال للفرس، ثم أخذ رمحه، واتجه صوب رستم وهو يتكئ عليه، والرمح يدب في البسط فيقطعها، ولم يترك بساطًا في طريقه إلا قطعه، ووقف أهل فارس في صمت، وكذلك رستم، وبينما هم يفكرون في جلوسه جلس على الأرض، ووضع رمحه أمامه يتكئ عليه، وبدأ رستم بالكلام؛ فقال له: ما دعاك لهذا؟ أي: ما الذي دفعك للجلوس على الأرض؟ فقال له: إنا لا نستحب أن نجلس على زينتكم. فقال له رستم: ما جاء بكم؟ فقال له: لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة (هذا هو المفهوم عند ربعي بن عامر، وعند الجيش المسلم في معظم الأحاديث التي دارت: أن الله قد ابتعث هذه الطائفة؛ لتقوم بمهمة وليست للبحث عن الغنائم، أو الطغيان في البلاد)، فمن قَبِلَ ذلك منا قبلنا منه، وإن لم يقبل قبلنا منه الجزية، وإن رفض قاتلناه حتى نظفر بالنصر. فقال له رستم: قد تموتون قبل ذلك. فقال: وعدنا الله أن الجنة لمن مات منا على ذلك، وأن الظفر لمن بقي منا. فقال له رستم: قد سمعت مقالتك (أي فهمت مقصدك)، فهل لك أن تؤجلنا حتى نأخذ الرأي مع قادتنا وأهلنا؟ فهو يطلب منه مهلة يفكر فيها، فقال له: نعم، أعطيك كم تحب: يومًا أو يومين؟ أى: من الممكن أن نعطيك فرصة من غير أن نحاربكم لمدة يوم أو يومين؛ فقال له رستم: لا، ولكن أعطني أكثر؛ إنني أخاطب قومي في المدائن. فقال: إن رسول الله قد سنَّ لنا أن لا نمكن آذاننا من الأعداء، وألا نؤخرهم عند اللقاء أكثر من ثلاث (أي ثلاثة أيام فقط حتى لا يتمكنوا منا ويتداركوا أمرهم)، فإني أعطيك ثلاثة أيام بعدها؛ اختر الإسلام ونرجع عنك أو الجزية، وإن كنت لنصرنا محتاجًا نصرناك، وإن كنت عن نصرنا غنيًّا رجعنا عنك، أو المنابذة في اليوم الرابع، وأنا كفيل لك عن قومي أن لا نبدأك بالقتال إلا في اليوم الرابع، إلا إذا بدأتنا (أي: أنا ضامن لك أن لا يحاربك المسلمون إلا في اليوم الرابع). فقال له رستم: أسيِّدُهم أنت؟ أي: هل أنت سيد القوم ورئيسهم حتى تضمن لي أن لا يحاربوني؟ فقال له: لا، بل أنا رجل من الجيش، ولكنَّ أدنانا يجير على أعلانا. فهو يقصد أن أقل رجل منا إذا قال كلمة، أو وعد وعدًا لا بُدَّ وأن ينفذه أعلانا.

ونذكر حادثة أبي عبيد بن مسعود الثقفي في موقعة باقُسْيَاثا، عندما أُسِرَ قائدُ الفرس جابان وأمَّنه جنديٌّ مسلمٌ، وهو لا يعرف أنه جابان، وبعد ذلك علم المسلمون أنه جابان، فرفض أبو عبيد بن مسعود الثقفي أن يقتله وقال: أمَّنه جندي مسلم، ويقتله أبو عبيد. وأطلق سراحه، وقد كان قائد الفرس في موقعة أُليّس، فهُزِمَ ثم هرب، ثم التقى مع المسلمين في موقعة باقُسْيَاثا، وهُزِم فهرب، ثم قُتِلَ بعد ذلك، فالمسلمون يجير أدناهم على أعلاهم، هكذا قال له ربعي بن عامر، ثم تركه وانصرف.

وعاد رستم يُكلِّم حاشيته مرة أخرى، ويقول لهم: أرأيتم من مَنطِقِه؟! (أي: كيف يتحدث؟) أرأيتم من قوته؟! أرأيتم من ثقته؟! يخاطب قومه ليستميلهم إلى عقد صلح مع المسلمين؛ وبذلك يتجنب الدخول معهم في حرب، ولكنهم رفضوا ولجُّوا، وقالوا له: إنك تجبن وما إلى ذلك، ولكنه يحاول مرة أخرى.​

حذيفة بن محصن يخاطب رستم:

في اليوم التالي يبعث رستم برسالة إلى زهرة بن الحُوِيَّة يقول له: أرْسِلْ إلينا الرجل الذي كان عندنا. فيرسل زهرة بذلك إلى سعد بن أبي وقاص، فيقول له سعد: بل أرسل له اليوم آخر. فيرسل له حذيفة بن محصن الذي كان قائد الجيش الثامن من جيوش التي ذهبت لقتال مرتدي عُمَان في عهد أبي بكر الصديق t، فيدخل عليه وهو راكب فرسه، فقالوا له: انزل من على فرسك. فقال: لا، والله لا أنزل؛ أنتم دعوتموني، فإن أردتم أن آتيكم كما أُحِبُّ، وإلا رجعت. نفس كلام ربعي بن عامر، ودخل حذيفة بجواده يمشي به على البُسط، وظل راكبًا حتى وصل إلى رستم. ولنا أن نتخيل هذا الموقف: حذيفة فوق حصانه يكلمه، فقال له: انزل. فقال: لا أنزل؛ أنتم دعوتموني، فإن أردتم أن آتيكم كما أُحِبُّ، وإلا رجعت. فقبل رستم أن يحدثه فوق حصانه، وهو يمشي على سريره المذهب!! وبدأ يخاطبه، فقال له: ما بالك جئت ولم يجئ صاحبك؟ يقصد ربعي بن عامر، فقال له: إن أميرنا يعدل بيننا في الرخاء والشدة، وهذه نوبتي. أي أن كل واحدٍ في جيش المسلمين له دور، وهذا دوري، وأميرنا يوزع علينا الأمور بالتساوي. فقال له: ما جاء بكم؟ فقال له: إن الله مَنَّ علينا بدينه، وأرانا آياته فعرفناه، وكنَّا له منكرين، ثم أمرنا بدعاء الناس إلى ثلاث فأيُّها أجابوا قبلناه: الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء (أي الجزية) ونمنعكم إن أردتم ذلك، أو المنابذة. فقال له رستم: أو الموادعة إلى يوم ما؟ أي من الممكن أن تعطينا فرصة؛ فقال له: نَعَمْ، ثلاثة أيام. فقال: إذن تقاتلونا في اليوم الرابع. فقال: ثلاثة أيام من أمسِ (وهو اليوم الذي تحدث فيه مع ربعي بن عامر)؛ وعلى ذلك فقتالكم في اليوم الثالث.

وعلى الفور اضْطَرب رستم اضطرابًا شديدًا، ونظر إلى قومه، فعلم القوم ما يدور في ذهنه (فهذان الاثنان متفقان في الرأي والتفكير، وهذا ما أوقع الرعب في قلبه)، فأراد رؤساء القوم أن يخففوا من هول الموقف عليه، وأن يُثبتوا له أن هؤلاء القوم ليس لهم قوة أو خبرة بالحروب؛ فقالوا لحذيفة بن محصن: ما هذا الذي تحمله؟! فأخرج سيفه كأنه شعلة من نار؛ فصرخ رستم في وجهه: أَغْمِدْه. فأغمده بعد أن رأى الرعب في أعينهم، ثم أقاموا له درعًا من دروعهم، فأطلق فيه سهمًا فخرقه، ثم أقام لهم جحفته وكانت من جريد النخل، فأطلقوا عليها سهامهم، فسلمت؛ فقال لهم: يا قوم فارس، إنكم عظَّمتم الطعام والشراب وعظمتم اللهو، ولم نعظمهم؛ فعَظَّمَنا الله وصغَّرَكُم. أي: كانت هذه الأشياء منتهى تفكيركم، ولم نكن نحن كذلك؛ فلذلك منحنا الله I قوة تجعل سهامنا تخترق أي درع من دروعكم، ولا تخترق سهامكم دروعنا حتى وإن كانت من جريد النخل؛ ثم رجع حذيفة بن محصن إلى المسلمين، وعاد رستم يجادل قومه مرة أخرى، كما جادلهم من قبل بعد حديث ربعي بن عامر.
المغيرة بن شعبة يخاطب رستم:

في اليوم الثالث يطلب رستم رجلاً آخر يتحدث معه، فيرسل له سيدنا سعد بن أبي وقاص سيدنا المغيرة بن شعبة. ونحن نعلم أن سيدنا المغيرة يعرف الفارسية، ولكنه لم يخبرهم بذلك، وجعل المترجم يمشي بينهم حتى يسمع ما يقولون، وينقل هذا الكلام إلى المسلمين بعد ذلك؛ فدخل عليه المغيرة بن شعبة -وكما ذكرنا من قبل رجل دخل عليه برمحه وقد خرق البسط في طريقه حتى وصل إليه، وآخر دخل بفرسه إلى أن انتهى إليه، وهذا قد ترك حصانه بالخارج؛ ففرحوا وظنوا أنه لم يكن مثلهما- وظل يمشي حتى وصل إليه، فجلس بجانبه على السرير المُذهَّب، فصرخوا في وجهه إذ الفُرْسُ جميعهم يقفون بعيدًا جدًّا عن رستم، وهذا يجلس بجانبه! هذا أمر لا يُصَدَّق؛ فقامت الحاشية بسرعة لكي تجذبه من مكانه، فقال لهم: أنتم دعوتموني، فإن أردتم أن آتيكم كما أحب، وإلا رجعت. فقال لهم رستم: صدق. وتركه، فقال لهم المغيرة بن شعبة: واللهِ جلوسي جنب أميركم لم يزدني شرف، ولم ينقصه شيء، والله يا أهل فارس إنَّا كانت تبلغنا عنكم الأحلام (أي نسمع عنكم أنكم عقلاء)، ولكني أراكم أسفهَ قوم، وكان أجدرَ بكم أن تقولوا لنا إنما يعبد بعضكم بعضًا (أي أنتم في تقديسكم لرستم كأنكم تعبدوه)، ولكننا نتواسى ولا تتواسَوْا (أي: يُوجَدُ بيننا رحمة ومودة وألفة وهذا عكس ما أنتم عليه)، واللهِ الآن أدركتُ أن أمركم مضمحلٌّ، وأن أمر الغَلَبَة والملك لا يقوم على مثل ما أنتم عليه. فسمع الحاشية من خلفه وهي تقول: واللهِ صَدَقَ العربي. فأهل فارس والجند والحاشية يشعرون بهذا الكلام، فهم بالفعل كأنهم يعبدون رستم ويزدجرد والقادة، كما أن بداخلهم سخطًا شديدًا على هؤلاء القادة، ولكنهم لا يستطيعون أن يعلنوه، ثم أخذ الرؤساء يحدث بعضهم بعضًا يقولون: ما أحمقَ أَوَّلِينا (أي جدودنا) عندما كانوا يُصَغِّرُون أمر هذه الأمة!! فأراد رستم أن يخفف من تأثير أفعال الحاشية مع المغيرة حتى لا يغضب؛ فقال له: يا عربي، إن الحاشية قد تفعل شيئًا لا يرضى عنه الملك، ولكنه يتجاوز حتى لا يكسر حاشيته. ثم بدأ يسخر من سلاحه (وهذه آخر فرصة لرستم، فإذا خرج من عنده، ولم يحدث بينهما اتفاق، فالمعركة ستقع لا محالة؛ فقال في نفسه: إن المسلمين لا يوافقون على الصلح؛ فلأعمل على إضعاف قوتهم وعزيمتهم، وأحاول أن أخوِّفَهم)؛ فقال له: يا هذا، ما هذه المغازل التي تحملها؟ يقصد سهامه القصيرة التي تشبه مغازل الصوف في نظره، وكانت سهام الفرس طويلة جدًّا تعرف بالنشاب؛ فقال له المغيرة بن شعبة: ما ضَرَّ الجمرةَ أن لا تكون طويلة. أي أن كرة النار لا يضرها صغرُها، فإذا ألقيت على شخص قتلته وحققت الهدف منه، فليس بالضرورة أن تكون طويلة؛ ورماهم كما رماهم من قبلُ حُذَيفة، فأحضروا له درعًا من دروعهم، فرماه بسهم من سهامه التي يقولون عنها مغازل، فاخترقه، ولم تخترق سهامهم جحفته؛ فهَزَّ ذلك رستم، ثم حاول أن يتماسك، فقال له: ما بالي أرى سيفك رَثًّا؟ أي مظهره قديم وضعيف؛ فقال له: رَثُّ الكسوة، ولكنه حديد الضربة. ثم قال له: تتكلم أو أتكلم؟ فقال له: أنت دعوتني فتكلَّمْ. فتكلم رستم قائلاً: لم نزلْ متمكنين في الأرض، وظاهرين على الأعداء؛ نُنصر ولا يُنصر علينا إلا اليوم واليومين، والشهر والشهرين؛ لِلذُّنوب (سبحان الله! هذا مفهوم رستم عن القتال، وقد لا يكون عند كثير من المسلمين، فهو يعلم أنهم يهزمون بسبب كثرة اقترافهم للذنوب)، فإذا رضي الله عنا رَدَّ لنا بأسنا وجَاهَنَا، ومَلَّكنا على من ناوأنا (أي هذه طبيعتنا، فنحن نُنصرُ دائمًا، وقد نُغلب مرةً أو مرتين بسبب المعاصي، فلا تظن أن لك الغلبة)، أما أنتم فأهل قَشْفٍ، ومعيشةِ سوءٍ وجَهدٍ وشقاء، لا نراكم شيئًا، ولا نَعُدُّكم، وكانت إذا قحطت أرضكم أتيتمونا، فحملناكم وِقْرًا من تمر أو قمح، فرَضِيتم ورجعتم.

ثم أخذ يشبه المسلمين وقوم فارس بقوله: وإنما مَثَلُكم كرجل له حائط (أي حديقة أو بستان)، فدخل فيه ثعلب من خرم أو ثقب في سور الحائط؛ فأخذ يأكل من الكَرْمِ (أي العنب الموجود في الحديقة)، فنظر الرجل (صاحب الحائط) إلى الثعلب، فقال: وما ثعلب؟ فأكل، ثم بدأ يعيث في الحديقة فسادًا: يأكل من هذا، ويفسد في هذا؛ فغضب الرجل وطلب منه أن يخرج، فأَبَى الثعلب، فنادى الرجل على غلمانه، فتتبعوه، فعندما أدرك الثعلب أنهم طالبوه وغير تاركيه؛ رجع إلى الثقب فدخل فيه حتى يخرج، ولكنه كان قد سمُن فانحشر في الثقب (أي عندما دخل إلى الحديقة كان نحيفًا، ولكنه عندما أكل من الحائط امتلأ جسمه فلم يستطع الخروج من الثقب)، فأتاه الغلمان على هذه الحالة، فظلوا يضربونه حتى قتلوه، فانظروا كيف تخرجون؟ (أي: جئتمونا مهازيل فتركناكم حتى سمنتم، فأروني كيف تخرجون من أرض فارس؟!) وإني لأرى أن ما جاء بكم إلا الجَهْد (أي أن حالتكم المادية أصبحت سيئة فلذلك جئتم)، فعودوا أدراجكم ونحن نُوقِرُ لكم ركائبكم قمحًا وتمرًا (أي سنحمل لكم كل هذه الجمال التي معكم بالقمح والتمر)، وأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم، وكل رجل منكم له وِقْر من تمر وقمح وثوبين، وتعودون إلى أرضكم؛ فإني لا أشتهي قتلكم، فارجعوا عافاكم الله.

فقال المغيرة: الحمد والشكر لله رب العالمين، إن الله خالق كل شيء، ورازق كل شيء، وصانع كل شيء؛ فأما ما ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الغلبة، ومن الظهور على الأعداء، ومن التمكُّن في البلاد فنحن نعرف ذلك ولا ننكره، ولكننا نعلم أن الله قد صنعه بكم (فأنتم لم تصنعوا ذلك، ولكن الله قد وضعه فيكم)، وأما الذي ذكرت من سوء حالنا، ومن قلة زادنا، ومن ضيق عيشنا، ومن اختلاف قلوبنا، فنحن نعرفه أيضًا ولا ننكره، كنا في مثله أو أشد منه: كان أفضلنا من يقتل ابن عمه، ويأكل ماله، وكنا نأكل الميتة والدَّم والعظام، وغير ذلك من سوء العيش، ولكن الدنيا دُوَل (فالحياة تتغير دائمًا)، وما زال أهل شدائدها ينتظرون الرخاء حتى يصيروا إليه، وما زال أهل الرخاء ينتظرون الشدائد حتى تنزل بهم (يقصد أنكم إذا كنتم اليوم في نعمة فمن الممكن أن تنزل بكم الشدائد، وإذا كنا نحن في شدة فمن الممكن أن نصير إلى الرخاء)، ولو كنتم فيما آتاكم الله ذوي شكر لقصر عنه شكركم (أي أن الله قد أعطاكم نعمًا كثيرة، فإن كنتم شكرتموه فشكركم قليل إذا قورن بنعم الله)، ولكن أسلمكم ضعفُ الشكر إلى تغير الحال (أي أنتم كفرتم بالله I ولم تشكروا نعمه فأدى ذلك بكم إلى تغير حالكم). ثم قال له: إن الله تعالى بعث فينا رسولاً، وأنزل فينا كتابه؛ فدعانا إلى الله وإلى ما بعثه به، فصدقه منا مُصدِّق، وكذَّب به آخر، فقاتل من صدَّقه من كذَّبه، حتى كانت لهم الغلبة واجتمعت العرب كلهم معه، وكانوا من اختلاف الرأي مما لا يطيق الخلائق تأليفهم، فعرفنا أنه الحق ثم أمرنا أن ننابذ من خالفه ممن يلينا؛ فنحن ندعوكم إلى واحدة من ثلاث: إما الإسلام ونرجع عنك ونتركك، ونخلف فيك كتاب الله، وإما الجزية عن يدٍ وأنت صاغر (نفس الكلام الذي قاله ليزدجرد)، وإن أبيت فالسيف. فقال له رستم: وما صاغر؟ فقال له: أن يقوم أحدكم على رأس أميرنا فيطلب منه أن يأخذ الجزية، فيحمده إن قبلها (يشكره إذا قبلها منه)، فكن يا رستم عبدًا لنا تعطينا الجزية؛ نكف عنك ونمنعك.

وعندما قال له: كن عبدًا لنا؛ قام رستم واستشاط غضبًا، واحمرَّت عيناه وبدأ يزبد ويخرج عن أصول الحديث بين رؤساء الدول والسفراء؛ فقال له: واللهِ ماكنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا الكلام منكم. ثم حلف بالشمس أن لا يرتفع الصباح حتى يدفنهم في القادسية، ثم قال له: ارجع إلى قومك، لا شيء لكم عندي، وغدًا أدفنكم في القادسية. فرجع المغيرة وأثناء مروره على القنطرة أرسل رستم رجلاً يناديه، فناداه، فنظر إليه، فقال له: مُنَجِّمُنا يقول: إنك تُفقَأ عينُك غدًا. وذلك ليخوفه، فتبسَّم المغيرة بن شعبة وقال: واللهِ لولا أني أحتاج الأخرى لقتال أشباهكم؛ لتمنيت أن تذهب الأخرى في سبيل الله. فعاد الرجل يخبر رستم بذلك، وهو في ذلك الوقت يتحدث مع حاشيته ويقول لهم: أرأيتم من اجتماع كلمتهم؟! والله إن هؤلاء إن كانوا صادقين ما قامت لغيرهم قائمة، ولم يستطع أحد أن يحاربهم؛ لأنهم يتفقون على رأي واحد وكلمة واحدة. وفي أثناء ذلك قَدِمَ الرجل الذي أرسله إلى المغيرة، وأخبره بما قال؛ فقال لهم: أرأيتم؟! أي: هل أدركتم ما أريد؛ فغضب القوم منه وأخذوا يجادلونه حتى أغضبهم وأغضبوه.

ثم بات ليلته يفكر في الأمر؛ فالمهلة قد أوشكت على الانتهاء، ودخل اليوم الثالث فنام رستم في هذه الليلة، ورأى الرؤيا نفسَها مرة أخرى؛ فاستيقظ فزعًا ونادى على خاصته وقال: واللهِ يا أهل فارس إن الله يعظنا، وإني أراكم تُلْقُون بنا إلى التهلكة. فجادلوه في ذلك، وأخذوا يحفزونه على القتال، حتى وجد أنه لا بُدَّ له من القتال.
رستم يقرر خوض المعركة:

وبعد أن قرر خوض المعركة أحضروا له فرسًا جديدًا؛ لأن فرسه القديم كان قد غنمه منه طليحة، فأخذ يستعرض أمام جنده، فقفز عليه دون أن يضع رجله في الركاب، وهذا أمر لا يفعله إلا فارس عظيم مثل رستم، ووقف على فرسه بمنتهى الخيلاء يستعرض جيشه، ثم قال: غدًا ندقهم دقًّا. فقال أحد الجند: إن شاء الله. فقال: وإن لم يشأ!! وقرر أن يدخل المعركة وهو يصِرُّ على كفره وعناده، فقد انتهت المفاوضات بين الطرفين، وباءت الدعوة بالفشل، وستحدث المعركة في اليوم الرابع، وأصبح المسلمون في حِلٍّ من وعدهم لأهل فارس. وفي بداية اليوم يرسل رستم إلى المسلمين؛ فيقول لهم: تعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟ وكان الفرس في غرب نهر العتيق والمسلمون في شرقه؛ فقال له سعد بن أبي وقاص: اعبروا إلينا. فقال له: خَلُّوا بيننا وبين القنطرة. أي اجعلوا زهرة يتحرك بعيدًا عن القنطرة لكي نعبر إليكم؛ فقال له سعد: والله لن نعطيكم شيئًا غلبناكم عليه. فهذه القنطرة قد استولينا عليها منكم، ولن نعطيها لكم أبدًا، فانظروا طريقة أخرى تعبرون بها. فذهب جيش رستم إلى منطقة ضحلة من نهر العتيق، وظلوا يردمونها بالتراب والبوص والزروع طيلة الليل وسَاوَوْا عليها؛ ليتمكنوا من العبور عليها، وعُرِفَتْ هذه المنطقة بعد ذلك باسم منطقة الرَّدْم.​

الفُرس يبتكرون سلاح الإشارة:

كان مما استحدثه الفرس لأول مرة في تاريخ الحروب سلاح الإشارة (اللاسلكي)، ونحن نعرف أن الاتصالات بين المسلمين وبين عمر بن الخطاب في المدينة، أو بين الفرس وقائدهم يزدجرد في المدائن كانت تقوم على الخيول؛ فالرسول يركب فرسه ويجري به ومعه الرسالة المراد تبليغها لأمير المؤمنين أو لكسرى أو غيرهم، ثم يسلمه إياها ويأخذ الرَّدَّ عليه، ويرجع كما أتى؛ ولكن الابتكار الجديد عبارة عن رجل يقف في إيوان كسرى بجوار يزدجرد يسمع الكلام منه، فيصرخ به بأعلى صوته، والرجل الثاني يقف على أبعد مسافة يمكنه فيها أن يسمع الكلام، ثم يقف رجل آخر على مسافة منه يبلغ من بعده، وهكذا.

وكانت المسافة بين كل رجل وآخر نحو مائة متر تقريبًا، وفي الطريق من القادسية إلى المدائن يقف هؤلاء الرجال لتبليغ الرسائل، وعندما حسب العلماء هذه المسافة وهذا التوقيت وجدوا أن الجملة المكونة من أربع كلمات تصل من القادسية إلى المدائن (وهذه المسافة نحو مائتين وعشرين كيلو مترًا) في أربع ساعات، وعن طريق الخيول تصل في ثلاثة أيام؛ أما الجملة المكونة من كلمتين فتصل خلال ساعتين فقط، وكان عدد هؤلاء الرجال ألفين ومائتين، وهذه طريقة مفيدة، وتعتبر حديثة في هذا الوقت، ويعضدهم في ذلك أنهم يمتلكون طاقات بشرية هائلة، فلا توجد عندهم مشكلة -إذن- في أن يضعوا ألفين في الطريق، هذا فضلاً عن أن المسافات كانت قصيرة نسبيًّا: نحو مائتين وعشرين كيلو مترًا من القادسية إلى المدائن، أما المسافة بين القادسية والمدينة فبعيدةٌ جدًّا تُقَدَّر بنحو 580 كيلو مترًا، وهي مسافة ضخمة جدًّا، فليس من المعقول أن يضعوا على الطريق هذا العدد الضخم من الرجال؛ لأن جيش المسلمين كله نحو 32000 جنديٍّ.

ثم بدأ الجيش الفارسي يعبر القنطرة، وكانت أرض القادسية من ناحية خندق سابور إلى نهر العتيق ضيقة؛ فلا يستطيع رستم أن يرتب جيوشه في مقدمة ومؤخرة وميمنة وميسرة كما كان، فأدخل مقدمته ومؤخرته بين الميسرة والميمنة، ففقد بذلك عامل المناورة، وعامل كثرة الجنود؛ وأصبح الجنود رغم كثرتهم صفًّا واحدًا: صفًّا وخلفه صف آخر وهكذا. فعدد الصفوف ضخم لكن المساحة التي أمام المسلمين مساحة متقاربة، وعدد صفوف المسلمين قليل جدًّاً؛ فجعل على ميمنته الهرمزان، وكان عدد جيشه ثمانية وعشرين ألفًا، منهم أربعةَ عشرَ ألفًا من الفرسان، وأربعة عشر ألفًا من المشاة، ومعه سبعةُ أفيال؛ أما الجالينوس قائد المقدمة فقد أصبح على يساره مباشرة، ومعه أربعةٌ وعشرون ألفًا وستة أفيال، وبِهْمَن في عشرين ألفًا وخمسة أفيال، والبيرزان قائد المؤخرة فقد أصبح على يمين الميسرة ومعه أربعة وعشرون ألفًا وستة أفيال، ومهران قائد الميسرة على أربعة وعشرين ألفًا وستة أفيال، وقِوَامُ هذا الجيش 120 ألفًا، وقوات الاحتياط التي لا تشترك في المعركة ولكنها تنتظر نتائجها 120 ألفًا آخرون على الناحية الأخرى من نهر العتيق، وقد نصبوا لرستم شيئًا غريبًا سَمَّوه طيارة (وهي تشبه الخيمة ولكن ليس لها جدران، مجرد سقف كبير جدًّا، ووضعوا حولها البُسُط وكُلَّ شيء، وكأنه جالس في قصره) في قطاع بهمن في قلب الجيش وأقرب الأماكن للردم؛ وذلك لكي يتمكن من الهرب إلى المدائن إذا حدثت هزيمة، ونصبت على يمينها الدِّرَفْش كَبْيَان (راية الفرس العظمى)، وتحمي الطيارة ثلاثة من أفيال الملوك التي لا تشترك في القتال، ومهمتها حراسة خيمة الملك فقط.

وقد فعل المسلمون في تنظيم الجيش مثلما فعل الفرس؛ لأن المنطقة لا تسمح بوجود مقدمة ومؤخرة كذلك، فوضع على رأس الميمنة عبد الله بن المعتم، وعلى الميسرة شُرَحْبِيل بن السِّمْط، ودخلت المقدمة بقيادة زهرة وسواد في الوسط، ودخلت المؤخرة بقيادة عاصم بن عمرو التميمي في الوسط أيضًا بجوار الميمنة، ووقفت فرقة من المسلمين فيها نحو أربعة آلاف جندي على رأسهم مذعور بن عدي؛ لكي تحمي ظهر المسلمين من أي هجوم يأتيهم من خلفهم. وفي حصن (قُدَيْس) الذي يقع على خندق سابور جلس سعد بن أبي وقاص؛ لكي يفكر كيف يدير المعركة، وقسمت الجيوش الإسلامية بحسب القبائل وهي نحو ثماني عشرة قبيلة، وكانت أكبر القبائل قيس عيلان وبكر بن وائل وتميم وأسد وبجيلة وكندة، وكانت كل واحدة منهم تتكوَّن من نحو ألفين ونصف إلى ثلاثة آلاف، وهذه أعداد قليلة جدًّا إذا قُورِنَتْ بأعداد الفرس الكثيرة والضخمة، ولكن الله مع هذه الطائفة يؤيدها وينصرها. ثم بدأ التجهيز للقتال.



يتبع لاحقا
( أيام الله ... القادسية الكبرى )
 
رد: فتوحات العراق وفارس

معركة القادسية




اليوم الآول



في هذا المقال نلتقي مع يوم من أيام الله تعالى يوم القادسية، هذا اليوم فرق الله به بين الحق والباطل؛ يوم القادسية يوم كيوم بدر، وكيوم خيبر، وكيوم اليرموك، إذا كانت هناك أيامٌ تغير من التاريخ، فيوم القادسية من هذه الأيام.

بعد موقعة القادسية اختلفت خريطة الأرض، واختلفت التوقعات بالنسبة لنتائج الحروب، واختلفت كل الموازين في الأرض بعد هذه المعركة الفاصلة بين المسلمين والفُرْس، وإذا كان هناك رجال يغيرون التاريخ، فرجال القادسية هؤلاء الرجال بمن فيهم أمير الجيوش، وبمن فيهم أصغر جندي لا نعرف اسمه، ولا نعرف نسبه.

هذا اليوم يُقاسُ في التاريخ بيوم بدر، وكان الجيش الإسلامي في القادسية يتضمن سبعين رجلاً أو أكثر من رجال بدر، وهذا أعطى للقادسية أهمية خاصة في التاريخ الإسلامي.

وقف الجيشان أمام بعضهما البعض، وفي لحظة عبور الجيش الفارسي كان الوقت قد مضى من أول النهار، وشاء الله في هذا اليوم واليوم الذي قبله أن يمرض سعد بن أبي وقاص، فقد أصيب بدمامل في ظهره، وأُصِيبَ بعِرْق النَّسَا؛ فكان لا يستطيع أن يمشي، ولا يستطيع الجلوس، فلم يكن يستطيع أن يمتطي حصانهُ، فاتخذ قصر "قديس" مكانًا للقيادة وصعد إلى أعلى القصر، ولم يستطع الجلوس؛ فنام على صدره على قمة القصر ووضع وسادة تحته، وبدأ بإدارة المعركة من فوق القصر، واستخلف على الجيوش خالد بن عرفطة الذي كان من قواد المسلمين المهرة، فيقوم خالد بن عرفطة بقيادة الجيوش ويدير سيدنا سعد بن أبي وقاص المعركة من فوق القصر متابعًا خالد بن عرفطة بالرسائل التي يرسلها إليه، فينفذها الجيش عن طريق خالد، واعترض بعض الناس على إمارة سيدنا خالد بن عرفطة، فما كان من سيدنا سعد بن أبي وقاص إلا أن قام بالقبض على هؤلاء المشاغبين، وكان يتزعمهم أبو محجن الثقفي، وهو من أشد مقاتلي العرب ضراوة وكان يجيد الشعر الجهادي، وكان المسلمون يُعوِّلون عليه كثيرًا؛ فقد كان له دور كبير، لكنَّ سيدنا سعد بن أبي وقاص لم يكن يتهاون في مثل هذه الأمور، وكانت الحرب الإسلامية حربًا تربوية، فتعمَّد سيدنا سعد بن أبي وقاص حبس هذه المجموعة في قصر "قديس"، ومنعها من الاشتراك في القتال بسبب اعتراضها، وفي ذلك درس تربوي مهم رغم قلة عدد المسلمين، ورغم كون المسلمين محتاجين إلى كل جهد بشري، ولكنها الحرب التربوية كما ذكرنا من قبل.

وأرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص بيانًا إلى المسلمين عن طريق سيدنا خالد بن عرفطة يقول فيه: أما والله لولا أن عَدُوَّكم بحضرتكم لجعلتكم نكالاً لغيركم. فقام جرير بن عبد الله وقال: أما إني -واللهِ- بايعت رسول الله على أن أطيع أميري، ولو كان عبدًا حبشيًّا.

فجاء هذا الكلام ليؤيد سيدنا سعد بن أبي وقاص في قراره في حبس هذه المجموعة، ثم قال سعد: واللهِ لا يعود أحدٌ بعدها يشغل المسلمين عن عدوهم إلا سننت فيه سنة تؤخذ من بعدي. ولم يوضح العقاب؛ وذلك لإثارة الرعب في قلوب المشاغبين ومن يعصي الأمير في مثل هذا الموقف، ثم كتب سيدنا سعد بن أبي وقاص خطبة ووزعها على الرسل؛ لتصل إلى كل الجيش وذلك يوم القادسية، يقول فيها سيدنا سعد بن أبي وقاص: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونثني عليه الخير كله. إن الله هو الحق لا شريك له في الملك، وليس لقوله خُلْف، قال جلَّ ثناؤه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105 ], إن هذا ميراثكم وموعود ربكم، وقد أباحاها اللهُ لكم منذ ثلاث حجج؛ فأنتم تطعمون منها، وتأكلون منها، وتجبونها، وتقتلون أهلها، وتسبونهم إلى هذا اليوم بما نال منهم أصحاب الأيام منكم، وقد جاءكم منهم هذا الجمع، وأنتم وجوه العرب وأعيانهم، وخيار كل قبيلة، وعِزُّ مَن وراءكم. فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يُقرِّب ذلك أحدًا إلى أجله، وإن تهنوا تفشلوا وتضعفوا تذهب ريحكم، وتوبقوا آخرتكم".

هذه خطبة سيدنا سعد بن أبي وقاص في القادسية، والمتأمل في الخطبة يجد أنها تنقسم إلى أربعة مقاطع: أول هذه المقاطع يذكر للمسلمين أن النصر وارد في حقهم من خلال الأدلة النقلية التي ذكرت في الكتاب والسنة، فيذكر لهم {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]. فهذه حقيقة قررها الله في كتابه؛ فيطمئن المسلمين أن الله سيورثهم هذه الأرض إن كانوا صالحين، ولا بد لأهل الإيمان أن يصدقوا هذه الحقيقة. ثم يذكر لهم الأدلة العقلية، فيقول لهم: وقد أباحاها الله لكم منذ ثلاث حجج وأنتم آكلون من هذه الأرض، وتقتلون أهله، وتأسرونهم، وتنتصرون عليهم منذ ثلاث سنين، وتفعلون ذلك بما فعل أصحاب الأيام منكم. وبعد ذلك يثني سيدنا سعد بن أبي وقاص على جمع المسلمين فيقول: "وقد جاءكم منهم هذا الجمع، وأنتم وجوه العرب، وأعيانهم، وخيار كل قبيلة، وعِزُّ مَن وراءكم". فشكر هذه الطائفة ولم يبالغ في الثناء، فهذه الطائفة أفضل طوائف العرب، وأفضل المقاتلين في العرب جمعوا في القادسية، فيعطيهم هذا القدر وتلك القيمة، فيشعر الناس بعزتهم وبقوتهم مما يدفعهم للقاء عدوهم غير مجبونين، ولا خائفين من الفرس. ثم يضع يده على مفتاح النصر: "فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرب ذلك أحدًا إلى أجله، وإن تهنوا تفشلوا وتضعفوا وتذهب ريحكم، وتوبقوا آخرتكم".

وهذه الكلمات ذكرها سيدنا أبو بكر الصديق لسيدنا خالد بن الوليد في أول فتوحات فارس في وصية قصيرة كانت عبارة عن هذه الجملة: "إنْ تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، وإن تُؤْثِروا أمرَ الدنيا على الآخرةِ تُسلَبوهما"؛ فهم سيدنا سعد بن أبي وقاص هذا المعنى وأراد توصيله إلى الجيش، فحَمَّسَتْ هذه الخطبةُ الناس، وتحفزوا للقاء الفرس. ثم قام عاصم بن عمرو في المجردة، فقال: هذه بلاد قد أحلَّ اللَّهُ لكم أهلها، وأنتم تنالون منها منذ ثلاث سنين ما لا ينالون منكم، وأنتم الأعلون واللَّه معكم إن صبرتم، وصدقتموهم الضرب والطعن فلكم أموالهم ونساؤهم وأبناؤهم وبلادهم، ولئن خُرْتم وفشلتم -والله لكم من ذلك جار وحافظ- لم يُبقِ هذا الجمعُ منكم باقية، اللهَ اللهَ، اذكروا الأيام وما منحكم الله فيها، اجعلوا همَّكم الآخرة، يا معاشر العرب إنكم تخاطرون بالجنة وهم يخاطرون بالدنيا، فلا يكونُنَّ على دنياهم أحوطَ منكم على آخرتكم، لا تُحْدِثوا أمرًا تكونون به شَيْنًا على العرب.

ثم أرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص إلى كل من له كلمة، وكل من له خطابة في المسلمين حتى يخطب في الجيش ويحفز الناس؛ فقام قيس بن هبيرة فقال: أيها الناس، احمدوا الله على ما هداكم يزدْكم، واذكروا آلاء الله فإنَّ الجنة أو الغنيمة أمامكم. ثم يَعْرِضُ للمسلمين بشيءٍ محبَّبٍ إلى النفوس، فيقول لهم: وإنه ليس وراء هذا القصر -ويقصد قصر قُدَيْس- إلا العَرَاء، والأرض القَفْر، والظَّراب الخشن (أي التلال الصغيرة)، والفلوات التي لا يقطعها الأدلة (يريد أنكم تاركون هذه الصحراء إلى جنات فارس الخضراء). ثم يقوم غالب بن عبد الله فيقول: أيها الناس، احمدوا اللهَ على ما أبلاكم، وسَلُوه يَزِدْكم، وادعوه يُجِبْكُم، يا معاشِرَ العرب ما عِلَّتكم اليوم وأنتم في حصونكم (أي على خيولكم)، ومعكم من لا يعصيكم (أي السيوف)؟ اذكروا حديث الناس في الغد؛ فغدًا يبدأ بكم ويُثَنَّى بمن بعدكم. ثم يقوم ابن الهذيل في القادسية، فيقول: يا معاشر العرب، اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا عليها كالأسود، وتَرَبَّدُوا تربُّدَ النمور، وثِقوا بالله، وإن كلَّت السيوف فأرسلوا عليهم الجنادل (أي الحجارة)؛ فإنها يؤذن لها فيما لا يُؤذَن للحديد فيه (وفي فلسطين أُذِنَ للحجارة فيما لم يؤذن فيه للحديد). ثم قام ربعي بن عامر فقال: أيها المسلمون، إن الله قد هداكم للإسلام، وجمعكم به، وأراكم الزيادة فاشكروه يزِدْكم، واعلموا أن في الصبر الراحة؛ فَعَوِّدوا أنفسكم على الصبر تعتادوه، ولا تعودوها على الجزع فتعتادوه. فحَمِيَ المسلمون، وقَوِيَت شوكتهم، وتحفزوا للقتال.

تأجيج الحماس في قلوب المسلمين:

هذه بدايات الجيش الإسلامي التي جعلته يدخل المعركة بروح عالية، بينما كان الجيش الفارسي لا يريد دخول المعركة، وقد ملأ الشعور الهزيمة قلب رستم، وقد رأى رؤيَيَيْن أن النبي يأخذ سلاحه، ويختم عليه، ويعطيه لسيدنا عمر بن الخطاب ثم يعطيه لسعد؛ فدخل المعركة بهذا الشعور الانهزامي، على النقيض من الجيش الإسلامي الذي كان يتمتع بالروح العالية، ثم يرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص بيانًا إلى الناس، وذلك قبل صلاة الظهر؛ لِيُقْرَأَ على كل الكتائب، يقول لهم فيه: "الزموا مواقفكم لا تحركوا شيئًا حتى تُصَلُّوا الظهر، فإذا صلَّيتم الظهر فإني مُكبر تكبيرة، فإذا كبرت فكبروا، ثم شدوا شُسُوعَ نِعَالِكُم، واعلموا أن التكبير لم يُعْطَه أحدٌ من قبلكم، وإنما أُعْطِيَ لكم لتأييدكم".

فاللهُ أكبرُ من الفُرْسِ ومن الروم! اللهُ أكبرُ من كل أهل الأرض إذا كانوا يحاربون الله ورسله، ويحاربون من ساند دين الله فهذه الكلمة كانت علامةَ البدء وكلمة السر عند المسلمين، وذكرهم سيدنا سعد بأن هذه الكلمة هديةٌ من الله لهم، فعليهم أن يقدروا قيمتها، فإذا كبرت التكبيرة الثانية فكبروا وتهيئوا ولتستتموا عُدتكم؛ فإذا كبرت الثالثة فكبروا، وليخرج فرسانكم وليخرج أهل النجدة والبلاء، ولْيُنشِّطْ فرسانُكم الناسَ على القتال؛ ليبارزوا ويطاردوا (وما زال الجيش واقفًا ولم يلتحم بعدُ مع الجيش الفارسي، ولم يخرج غير كتيبة الفرسان للقتال)، فإذا كبرت الرابعة فشدوا النواجذ على الأضراس، واحملوا وازحفوا جميعًا حتى تخالطوا عدوكم، وقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله". وقد استعان بها المسلمون على فتح حصون الفرس، واستعانوا بها على فتح حصن الأنبار، واستعان بها محمد الفاتح في فتح القسطنطينية، وقد قال لجيشه: "قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله يفتحِ اللهُ لكم".

وبالفعل فُتِحَتِ الحصونُ بهذه الكلمة، فيوصيهم سيدنا سعد بن أبي وقاص بقول لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا هو بيان خطة المعركة، ألقاه سيدنا سعد للجيش من فوق قصر "قديس" عن طريق سيدنا خالد بن عرفطة، ثم يحين موعد صلاة الظهر فيُؤَذَّن لصلاة الظهر، وظنه رستم نداء الحرب فتحرك نحو المسلمين، وما إن سمع المسلمون إقامة الصلاة حتى اصطفوا لها، فنادى رستم على جيشه بأن يأخذوا أُهْبَتَهُم ويستعدوا للقاء المسلمين؛ فتقول له العيون: إنما هذا للصلاة وليس للحرب.

فيتعجب رستم ويقول: عجيب أمر هؤلاء الناس، حتى وَهُمْ في ميدان المعركة حريصون على الصلاة. ثم تُقامُ الصلاةُ ويَؤُمُّ المسلمين سيدنا خالد بن عرفطة، ويصلي بهم صلاة الحرب (وإحدى كيفياتها: أن يصلي الإمام ببعض أصحابه ركعتين، ثم يسلموا ثم يتأخروا، ويقوموا للحراسة، ويأتي الآخرون "باقي الجيش" فيكونون في مقامهم فيصلي بهم ركعتين، ثم يسلم؛ فيكون الإمام قد صلَّى أربع ركعات، وللقوم ركعتان ركعتان، ولها كيفيات أخرى)، ومشروعية هذه الصلاة في الحرب حتى لا يقوم المسلمون بالصلاة كلهم؛ فيأتيهم العدو من خلفهم فيهجموا عليهم.

وأتمَّ المسلمون الصلاة، وألقى الله الرُّعب والرهبة في قلوب الفرس، وكما تعجب رستم نتعجب نحن أيضًا؛ كيف أن المسلمين أقاموا الصلاة في أول وقتها في هذا الموقف الجلل، والجوِّ المشحونِ بالخطورة؟! وهذا هو مفتاح النصر الذي ذكره سيدنا سعد بن أبي وقاص في البداية: "إن ترغبوا في الآخرة، وتزهدوا في الدنيا تُعْطَوا الدنيا والآخرة". وهذا ما كان يمتلكه المسلمون في هذا الوقت، ثم يأمر سيدنا سعد بن أبي وقاص القُرَّاء بالانتشار في الكتائب، وقراءة سورة الجهاد (الأنفال)، فيفعلون. ونذكر منها هنا بعض الآيات؛ لنعيش في الموقف الذي عاش فيه المسلمون في القادسية..
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 9-18].

وقُرِئَت سورةُ الأنفال كاملةً، وكان المسلمون يتعلمونها في الجهاد، وهَشَّت القلوبُ، وانهمرت الدموع من العيون، وتذكَّر البدريون من صحابة رسول الله موقعة بدر، وتذكروا كيف أنزل الله ملائكته عليهم، وكانت عدتهم قليلة، وكان الكفار أكثر منهم، وأنزل الله عليهم الملائكة، وشاهدوا أعناق الكفار وهي تطير حتى قبل أن تصلَ إليها السيوف، وعندما سألوا النبي عن ذلك، قال لهم: إنها الملائكة. وتذكروا المطر الذي نزل فثبَّت الأقدام، وزلزل الأرض من تحت أقدام المشركين، تذكروا الانتصار الذي امْتنَّ الله به على المسلمين في موقعة بدر على أهل الكفر رغم أن كل التوقعات كانت تؤيد انتصار الكفر، وفي القادسية يتكرر الموقف نفسه فيتذكر المسلمون هذه المعركة، ويتذكرون النبي فتنهمر الدموعُ من أعينهم، ويُخَضِّب الدمعُ لحاهم فيتأثر كل من في أرض القادسية بهذا الموقف، ويتشوقوا إلى لقاء الفُرس؛ ليتحقق لهم ما تمنَّوْه، وما وُعِدُوا به من إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.

بدء القتال:

بعد قراءة سورة الأنفال شعر سيدنا سعد بارتفاع الروح المعنوية لدى المسلمين، وأنهم على أُهْبَة الاستعداد وأتمِّه للقاء الفرس؛ فصاح رافعًا صوته قائلاً: الله أكبر! فكبر من ورائه المسلمون جميعًا، وكان عددهم اثنين وثلاثين ألفًا، فأوقعت هذه الصيحة الرعب والفزع في قلوب أهل فارس، وتحفز المسلمون للقتال ولكنهم كانوا ينتظرون التكبيرات الأربع، ثم يكبر سيدنا سعد بن أبي وقاص التكبيرة الثانية فتصطف الصفوف، وتُرفَع السيوف من الأغماد، ويستعد الناس للقتال، ثم يكبر سيدنا سعد التكبيرة الثالثة فتخرج كتيبة الفرسان أفضل مجاهدي المسلمين من ناحية القتال المهاري على أشد الخيول ضراوةً إلى ساحة القتال يطلبون المبارزة؛ ليحفزوا المسلمين وينشطوهم، وكان من أوائل من خرجوا من فرسان المسلمين للقتال ربيعة بن عثمان، وغالب بن عبد الله، وعمرو بن معديكرب، وعاصم بن عمرو التميمي، وكان أول قتال نشب بين ربيعة بن عثمان من قبيلة هوازن وأحد أشداء الفرس، وكان قتالاً شديدًا، وتقاتلا مدة كبيرة، وأَذِن اللهُ لربيعة بن عثمان بقتل الفارسي بعد قتالٍ عنيف، وكان أول قتيل من الفرس في أرض القادسية فكبر المسلمون، وربط الله على قلوب المسلمين، وألقى الله الرعب في قلوب الفرس، وهبت ريح النصر على المسلمين..

وتقدم سيدنا غالب بن عبد الله صحابي رسول الله ليقاتل فخرج له هرمز (وهو غير هرمز المقتول بسيف سيدنا خالد بن الوليد في موقعة ذات السلاسل)، وكان ملك منطقة الباب في فارس بجوار بحر قزوين، فتقاتلا قتالاً شديدًا، وأتم الله النعمة على سيدنا غالب بقتل هرمز في أرض المعركة وبسلبه تاجه، فانهارت معنويات الفرس، وخُلِعَت قلوبهم من الرعب، وارتفعت معنويات المسلمين، وكبر المسلمون بعد قتل هرمز ملك منطقة الباب، وقام عمرو بن معديكرب يتمشى بين الصفوف، وكان يحمل أقوى سيوف العرب وهو سيف الصمصامة (صورة للسيف إن أمكن)، وكان رجلاً ضخم الجثة قوي البنيان، وكان من المهرة في القتال، وكان يحفز الناس قائلاً لهم: قاتلوهم كما تقاتل الأسود، فأنتم اليوم أقوى من الأسود. فتقدم إليه رجل من الفرس ورماه برمح فوقع على درعه وسقط على الأرض، وكانت رماح الفرس من طولها يسمونها نشابًا، وتوجه سيدنا عمرو بن معديكرب نحو الفارسي وحمل عليه حملة واحدة فخطفه من فوق فرسه، ورجع به إلى المسلمين، وألقاه على الأرض، وضرب رأسه بسيفه؛ فقطعها بضربة واحدة ثم أخذ رأسه وألقاها ناحية فارس، وأخذ سواريه ومنطقته، وحمل سيدنا عاصم بن عمرو رابع الفرسان الذين تقدموا على رجل من أهل فارس، فترك هذا الرجل فرسه وهرب إلى الجيش الفارسي؛ ليحتمي بهم فأخذ سيدنا عاصم فرسه وعاد به غنيمة إلى المسلمين، وكتب الله النصر للفرسان الذين تقدموا من المسلمين، مما ثبت الله المسلمين وربط على قلوبهم، وألقى الله بذلك الرعب والوهن في قلوب الفرس.​

القلوب بين أصابع الرحمن:

بعد هذه الانتصارات التي حققها المسلمون، وبعد الرعب الذي وقع في قلوب أهل فارس يحدث حدث غريب لم يحدث من قبل، ولم يحدث بعد ذلك في الحروب الفارسية، وتناقله الرواة في رواياتهم لحروب فارس، وكان حادثًا مؤسفًا وهو أن أحد المسلمين في الجيش الإسلامي ارتدَّ وانتقل من معسكر الإيمان إلى معسكر الكفر والوثنية، وليس بينه وبين الشهادة إلا مسافة غير بعيدة، ولكنه ارتد رافعًا يده مستسلمًا للفرس.

ويحكي الرفيل (وكان أحد الفرس الذين أسلموا وأخفوا إسلامهم وبقي في جيش الفرس عينًا للمسلمين) أن هذا الرجل جاء إلى الفرس، وأعلن ارتداده وانضمامه إلى صفوف الفرس وترك جيش المسلمين، وكانت هي الحادثة الوحيدة التي حدثت طيلة الحروب الفارسية، وسأله الفرس: أي العرب أشد؟ فقال لهم: إن بأسهم في بجيلة؛ فإذا انتصرتم عليها وهنت لكم قوة العرب. فلما وصل هذا الكلام إلى رستم أصدر أمرًا بتقدم الميمنة والمقدمة نحو بجيلة، فيتوجه الهرمزان على رأس ثمانية وعشرين ألف مقاتلٍ، والجالينوس على رأس أربعة وعشرين ألفًا، وكان مجموع الفرقتين اثنين وخمسين ألف مقاتل، وتتوجه هذه القوة إلى قبيلة بجيلة، وإلى هذه اللحظة لم يطلِق سيدنا سعد بن أبي وقاص التكبيرة الرابعة، وما إن توجهت هذه الأعداد إلى قبيلة بجيلة حتى أمطروهم بوابل من السهام، فاتَّقى المسلمون السهام، وتقدمت الفِيَلة نحو بجيلة فنفرت الخيل من أمام الفيلة، وبدأ الفرسان يدفعون بالمشاة ليتقدموا ويدفعوا عن الخيول، وكان هذا الموقف من أشد المواقف صعوبة على المسلمين، وقاتل المسلمون بصعوبة شديدة، وثبت المشاة من المسلمين ولم تثبت الخيول، وبدأت الكفة ترجح في جانب الفرس.

حِنْكَةُ سعد بن أبي وقاص:

من فوق قصر (قُدَيْس) رأى سيدنا سعد بن أبي وقاص بنظرته الحربية أنه لو أطلق التكبيرة الرابعة لهجمت الفرق الإسلامية على فرقة الجالينوس وفرقة الهرمزان، مما يعطي الفرصة لبقية فرق الفرس المنتظرة دون قتال بقيادة مهران والبيرزان وبهمن للالتفاف حول الجيش الإسلامي ومقاتلته من الخلف، فخشي سيدنا سعد من إطلاق التكبيرة الرابعة إلا بعد اشتراك هذه الفرق في القتال حتى تواجههم الفرق الإسلامية وجهًا لوجه، ولا تلتف خلف الجيش الإسلامي.

فيصبر سيدنا سعد بن أبي وقاص حتى يرى ما تنتجه الأحداث، وتثبت بجيلة ولكن الأمر في غاية الصعوبة، فأعداد الفرس ضخمة وهجوم الأفيال شديد جدًّا، وقد ألقى الفرس تحت أرجل خيول المسلمين حسك الحديد (قطعًا تشبه الخوازيق)، فكان هذا الموقف من أشد المواقف على المسلمين.

بسالة أسد وكندة:

وفي الوقت نفسه أرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص رسالة إلى قبيلة أسد أن أغيثوا بجيلة وهي على يمين بجيلة مباشرة، وقبل أن تتحرك قبيلة أسد لنجدة بجيلة، كانت الفرق الفارسية قد توجهت إلى عمق قطاع بجيلة وفي قطاع كندة أيضًا على يسار بجيلة، وعانت القبيلتان من السهام والسيوف الفارسية، ولما وصلت الرسالة إلى قبيلة بني أسد قام طليحة بن خويلد الأسدي وخطب في الناس، وقال لهم: لو يعلم سعد قومًا أجدر منكم على إغاثتهم لاستغاثهم؛ وإنما سميتم أسدًا لتفعلوا فعله، فقاتلوا كما تقاتل الأسود. وكانت لهذه الكلمة أثر السحر في نفوس قبيلة أسد، فقامت وهجمت على فرقة الجالينوس لتذب عن بجيلة الرماح والسهام والسيوف الفارسية، وألقى الله في قلوبهم الثبات، وقاتلت قبيلة "أسد" أشد ما يكون القتال مما جعل العجب يدخل إلى نفوس أهل المعركة، وبعد هذه الهجمة من قبيلة بني أسد وَجَدَ الهرمزان والجالينوس أن الهجوم يأتي من ناحية قبيلة أسد، فوجهوا القتال ناحيتها، وفي أثناء القتال قام الأشعث بن قيس في قبيلة كِنْدَة التي كانت على ميسرة الجيش الإسلامي، وكان الأشعث في الوفد الذي ذهب إلى يزدجرد، وكان قد ارتدَّ من قبل، وزوَّجه سيدنا أبو بكر الصديق أخته أم فروة بعد أن اطمأنَّ إلى إسلامه، فقال لهم: يا معشر كندة، لله دَرُّ بني أسد أي فري يفرون! (أي ما أشد قتالهم!) منذ اليوم أغنى كل قوم ما يليهم، وأنتم تنتظرون من يكفيكم البأس. فتحمست كندة، وخرج له أهل النجدة، وتحولت قبيلة كندة من الدفاع إلى الهجوم ضد القوات الفارسية لِتَذُبَّ عن قبيلة بجيلة وقبيلة أسد، والتفت القبائل الثلاثة حول الفرقتين الفرسيتين بقيادة الهرمزان والجالينوس، ولضيق المكان لم يتمكن الجيش الفارسي من الالتفاف حول الجيش الإسلامي، وكانت مشكلة الجيش الفارسي أن صفوفه كانت متكدسة في الطول، وعرضهم كان موازيًا لعرض المسلمين، ودارت رَحَى المعركة على قبيلة بجيلة وأسد، وقبيلة كندة التي كانت تحاول مساعدة المسلمين، ولما رأى رستم ما حَلَّ بجيشه أمر بهمن جاذويه قائد القلب أن يترك مكانه ويتقدم ناحية قبيلة أسد، فيتقدم بهمن على رأس عشرين ألف مقاتل وخمسة أفيال إلى قبيلة أسد مهاجمًاً، وللمرة الثانية بدأت الكفة ترجح في ناحية الفرس.

التغلب على الأفيال:

تعجب سعد بن أبي وقاص لما رأى الأفيال من فوق القصر وأنها فوق طاقة المسلمين، فنادى على عاصم بن عمرو التميمي وقال له: ألا لك في الفيلة من حيلة؟ فقال: بلى والله. فانتخب سيدنا عاصم بن عمرو التميمي أفضل فرقة من قبيلة تميم، وكانوا من أفضل القبائل رميًا بالسهام، وبدأت هذه الفرقة برمي قائدي الفيلة بالسهام، فكان كل فيل حاملاً تابوتًا كبيرًا عليه أكثر من قائد، وقسَّم سيدنا عاصم بن عمرو التميمي من معه إلى فرقتين: فرقة ترمي قُوَّاد الفيلة بالسهام، والأخرى تندس داخل الجيش الفارسي لتقطع أحزمة التوابيت التي فوق الأفيال، وكانت فكرة سيدنا عاصم أن تفقد هذه الفيلة توجهها -وكانت في القيادة- لتتجه نحو الجيش الفارسي.

واستطاعت هذه الفرقة أن تصيب طائفة كبيرة من قواد الأفيال، واستطاعت الفرقة التي اندست في الجيش الفارسي أن تقطع أحزمة توابيت الأفيال، وكلما وقع تابوت كبر المسلمون، وتقدموا إليه وقتلوا من فيه، وحدث ذلك في معظم التوابيت الثلاثة عشر، وعند ذلك يكبر سيدنا سعد بن أبي وقاص التكبيرة الرابعة، وما إن انطلقت التكبيرة الرابعة حتى انطلق المسلمون ناحية الجيش الفارسي، ويتقدم كذلك الجيش الفارسي وتلتحم الصفوف، واشتدت رحى الحرب دورانًا، وكانت المعركة على أشدها، وبدأت أسد وبجيلة في دفع بهمن جاذويه إلى الخلف، وكانت مرحلة لم يفكر المسلمون في الوصول إليها، فقد كانت البداية شديدة على قبيلتي أسد وبجيلة، حتى استطاع عاصم بن عمرو التميمي -بفضل الله- أن يرد بأس الفرس شيئًا ما.

وبعد هذا الأمر يستمر القتال بين الفريقين ما بين قاتل ومقتول من الناحيتين حتى بعد غروب الشمس بقليل، وفي هذا الوقت كانت الجيوش لا تقاتل ليلاً، ونهكت قوى الفريقين وكان القتال في غاية الشدة، واستمر القتال حتى دخل وقت صلاة العشاء، فبدأ الفريقان بترك أرض القتال كلٌّ منهما عائدًا إلى مكانه قبل صلاة العشاء في أول الأيام، وكان يوم القادسية موافقًا للثالث عشر من شعبان في العام الخامس عشر الهجري، وسمِّيَ هذا اليوم بيوم أرماث، واختلف الرواة في سبب تسمية هذا اليوم بهذا الاسم، لكن بالعودة إلى معنى الكلمة يتضح الأمر شيئًا ما؛ فمعنى كلمة أرماث اختلاط الشيء بالشيء، وكان الأمر مختلطًا في ذلك اليوم على الفرس وعلى المسلمين، ولا نستطيع الجزم بانتصار المسلمين أو انتصار الفرس، وأدرك المسلمون قوة الفرس، فإن المسلمين قد اعتادوا في المعارك السابقة انتهاء المعركة في يوم واحد وقبل الظهر، لكن هذه المعركة لم تتحقق فيها نتيجة حتى بعد غروب الشمس، وإن كانت الغلبة ظاهرة في هذا اليوم في صف الفرس إلى حد ما.

واستشهد في أول أيام القادسية من المسلمين خمسمائة شهيدٍ، منهم أربعمائة شهيد أو أكثر من قبيلة أسد وحدها التي قامت تذب عن قبيلة بجيلة، وقُتِلَ من الفرس أكثر من ألفين، وكان في المسلمين إصابات كثيرة.

ولم يقع قتال بين الفريقين في هذه الليلة وسميت بليلة الهَدْأَة، وبدأ المسلمون بجمع شهدائهم ونقلهم إلى منطقة "عذيب الهجانات"، وتقع قبل القادسية بميل أو أكثر، ونقلهم المسلمون على الإبل حيث كانت النساء ينتظرن المسلمين، حيث كان المسلمون قد خرجوا إلى القادسية منذ شهور، وأخذوا معهم نساءهم، وعسكروا في منطقة "عذيب الهجانات" في مؤخرة الجيش الإسلامي، وكان على النساء حبيب بن جرير الأنصاري، بالإضافة إلى اختصاصه بشئون الجرحى والشهداء، وبدأت النساء بحفر القبور، ولا تدري أيتهن من يُدفن في هذا القبر إن كان أباها أو أخاها أو ابنها، ودُفِنَ الشهداءُ في الليلة نفسها، وتجهز المسلمون لملاقاة الجيش الفارسي في اليوم الثاني.

تحفز المسلمين للقتال:

في هذه الليلة تجلس الخنساء مع أبنائها الأربعة؛ لتحفزهم على القتال، وألا يفروا من المعركة إذا حمي وطيس الحرب، وأن يكونوا على الجنة أحرص منهم على الحياة، وهي التي بكت سنينَ على أخيها صخرٍ عندما قتل في الجاهلية، وكانت شاعرة من شاعرات العرب في الجاهلية، ومَنَّ اللهُ عليها بالإسلام، وخطبت في أبنائها؛ فقالت: إنكم أسلمتم طائعين، وجاهدتم مختارين، وقد تعلمون ما أعدَّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، فإذا أصبحتم غدًا سالمين فاغدوا على قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين.
 
التعديل الأخير:
رد: فتوحات العراق وفارس

معركة القادسية
اليوم الثاني والثالث




استمر القتال في اليوم الأول من القادسية حتى آخر اليوم بعد غروب الشمس بقليل، ثم انفصلت الجيوش، وسميت هذه الليلة ليلةَ الهدأة؛ لأن الجيوش هدأت فيها ولم تقاتل، وكان شهداء المسلمين في هذا اليوم 500 شهيدٍ، وقُتِلَ من الفُرْسِ في هذا اليوم 2000 قتيل، وكان القتال فيه شديدًا على المسلمين، وذكرنا أن هذه الشدة كانت لوجود الفِيلَة في جيش فارس وعددهم 33 فيلاً، ولم يستطع المسلمون أن يسيطروا على المعركة إلا بعد أن أفلحت قبيلة تميم في قطع التوابيت التي كانت فوق هذه الأفيال، ففرت الأفيال من المعركة ولم يعُدْ لها قائد، وحينئذٍ بدأ المسلمون يتنفسون الصعداء، وبدأت قبيلة تميم تصد عن قبيلتي أسد وبجيلة.

وفي هذه الليلة أيضًا وصلت رسالة من سيدنا أبي عبيدة بن الجراح -وهو أمير الجيوش الإسلامية في الشام- بعد أن انتصر على الروم في موقعة اليرموك؛ فقد أرسل له سيدنا عمر بن الخطاب رسالة أن يرسل مددًا من الشام إلى العراق لنجدتهم، فأرسل سيدنا أبو عبيدة بن الجراح ستة آلاف مقاتلٍ على مقدمتهم سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي، وكان هذا سببًا عظيمًا في فرحة المسلمين واستبشارهم بالنصر؛ لأن سيدنا القعقاع بن عمرو من أفضل المقاتلين المسلمين، ومن أشدهم ضراوة، قال عنه سيدنا أبو بكر الصديق :t إن صوت القعقاع في الجيش أفضل من ألف رجل. وقال أيضًا: لا يُهْزَم جيشٌ فيه القعقاع بن عمرو. فكانت هذه بشرى لجيش المسلمين، وكان على رأس الآلاف الستة سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وهو ابن أخي سيدنا سعد بن أبي وقاص، وعلى المقدمة القعقاع بن عمرو، وفي أول تباشير الصباح من اليوم الثاني وصلت الفرقة القَعْقَاعِيَّة، التي تتكوّن من ألف مقاتلٍ على رأسهم القعقاع بن عمرو التميمي.


حيلة القعقاع:

لقد تفتق ذهن القعقاع عن حيلة لم تحدث من قبل في تاريخ الحروب الإسلامية أو الفارسية؛ فقد كان معه ألف فارس قسَّمهم إلى عشرة أقسام، كل قسم يتكون من مائة، وتقدم هو في أول مائة ودخل على الجيوش الإسلامية في الصباح، وهو يكبر والمائة يكبرون معه: الله أكبر! وكأنهم هم فقط المدد للمسلمين؛ فشعر المسلمون بالراحة لوجوده، ثم بعد قليل جاء مائة آخرون يكبرون: الله أكبر! ثم بعد قليل جاء مائة آخرون يكبرون: الله أكبر! وهكذا تتابعت كل مائة حتى ظَنَّ المسلمون أن هذا المدد لا ينتهي؛ فزاد ذلك في عزيمتهم، وفي معنوياتهم، وفَتَّ في عَضُدِ أهل فارس الذين اعتقدوا أيضًا أن هذه الأعداد لا تنتهي.

وعندما وصل القعقاع بن عمرو التميمي t إلى العراق، كان قد قطع في طريقه مسافة طويلة جدًّا على خيله، وعلى الرغم من ذلك نزل مباشرة إلى أرض القتال (وكما نعلم أنه من عادة الجيوش في ذلك الحين أن ينفصل الجيشان في أول القتال ثم تبدأ المبارزة، وبعد المبارزة يبدأ الزحف والقتال العام بين الجيوش) يطلب المبارزة، فخرج له بهمن جاذويه قائد قلب الجيش الفارسي وكان على عشرين ألف مقاتلٍ, وبهمن هذا هو الوحيد الذي انتصر على المسلمين من قبل في موقعة الجسر (رابط للمعركة)، وقتل أبا عبيد بن مسعود الثقفي، وسليط بن قيس وهو صحابي جليل من صحابة رسول الله)، فقتل القعقاع t بهمن، وعندما قُتِلَ بهمن جاذويه حدثت هزيمة نفسية شديدة للفرس، وشعروا أن هذا اليوم يوم شؤم عليهم؛ فقد كانوا يتشاءمون ولا يتفاءلون على عكس المسلمين، فأراد رستم أن يغيَّر من نفسية الفرس، ويشد من أزرهم فأخرج للقعقاع بن عمرو البيرزان قائد مؤخرة الجيوش الفارسية (وكان على 24000 فارسي)، وهو يقف بجيشه على ميمنة مهران الرازي قائد الميسرة، وهو أحد القواد الخمسة العظام الذين تحت إمرة رستم مباشرة، وأخرج معه قائدًا آخر اسمه البندوان كان مرشحًا لخلافة بهمن جاذويه على القلب، فخرج مع القعقاع بن عمرو الحارث بن ظبيان، والتقى المسلمان: القعقاع والحارث مع قائِدَي الفرس، فتبادلا ضربتين فقتل سيدنا القعقاع بن عمرو البيرزان بضربة واحدة طارت فيها رأسه، وكذلك فعل الحارث بن ظبيان فقد قتل البندوان بضربة واحدة أيضًا.

لقد فقد الفرس بذلك ثلاثة من أكبر قوادهم في أولى لحظات القتال من اليوم الثاني، وفي ذلك بشارة بالنصر للمسلمين، هذا فضلاً عن أن بدايات هذا اليوم كانت مبشرة بالنصر كالآتي:
أولاً: وصول المدد نحو ألف فارس مقدمة، وباقي المدد وعدده خمسة آلاف في طريقه إلى القادسية.
ثانيًا: وجود القعقاع بن عمرو التميمي في أرض المعركة، وهذه بشارة بمفرده.
ثالثًا: قَتْلُ بهمن جاذويه والبيرزان والبندوان في بداية المعركة.
رابعًا: اختفاء الفِيَلَة من أرض المعركة.
ولكن لماذا اختفت الفيلة؟ اختفت الفيلة لأن توابيتها قُطِعَت كُلُّها في المعركة أمسِ؛ فلم يستطع الفرس الركوب على الفيلة بدون التوابيت، والفيلة كلها موجودة في قطاع من قوات الاحتياط في الجيش الفارسي يصلحون من شأن التوابيت، وعمل الأحزمة الجديدة اللازمة لها بعدما قطعها المسلمون في اليوم السابق، ثم بدأت المناوشات مرة أخرى بين فرسان المسلمين والفرس.

من الشهداء الأبطال:

يخرج في هذا اليوم علباء بن جحش ليقاتل أحد الفرس فيصيب كل منهما الآخر في مقتل؛ فيضرب الفارسي المسلم في بطنه، فيقع على الأرض بعد أن ضرب الفارسي في صدره فقتله، وخرجت أمعاء علباء خارج بطنه، فقال لرجل من المسلمين بجواره: أعنِّي على بطني. أي: ساعدني أن أدخل أمعائي في بطني؛ فأدخل أمعاءه في بطنه، ثم قام فتوجه مرة أخرى إلى أرض المعركة ليستكمل القتال (فهو لا يود أن يتوجه إلى أرض المسلمين لينسحب على الرغم ما به من إصابة قاتلة)، ولكنه سقط شهيدًا بعد خطوات قليلة وهو يقول:

أرجو بها من ربنا ثوابا *** قد كنت ممن أحسن الضرابا

ثم استشهد t، وكان هذا أيضًا من أوائل المسلمين الذين استشهدوا في اليوم الثاني من أيام القتال.
ثم خرج أبناء الخنساء رضي الله عنها (وهي شاعرة من شاعرات العرب البارعات في الشعر، كانت قد أطلقت شعرًا عظيمًا في قتل أخيها صخر في الجاهلية، وبَكَتْ عليه عمرًا طويلاً، ولكنها عندما أسلمت أحضرت أبناءها الأربعة في موقعة القادسية، وأخذت تحرضهم على القتال والشهادة، وتذكرهم أن الجنة هي الموعد ودار البقاء، وأن الدنيا دار الفناء)؛ فانطلق أولادها الأربعة في هذا اليوم أيضًا للمبارزة قبل أن يلتقي الجمعان، فخرج الواحد منهم تلو الآخر، كل واحد منهم يخرج ويتلو بعض أبيات الشعر، ثم يتقدم ويحمل على الفُرْسِ؛ فيَقْتُل منهم من يَقْتُل، ثم يُستَشهد، فاستُشهِد في ذلك اليوم أبناء الخنساء الأربعة، وعندما بلغها -رضي الله عنها وأرضاها- خبرُ استشهادهم، قالت: الحمدُ للهِ الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.

ويذكر المؤرخون في هذا اليوم بطولات عظيمة للمسلمين، وأنهم كانوا يتشوقون إلى الشهادة وإلى اليوم الذي يلقون فيه الله I، حتى يُذكَرَ أن سواد بن مالك -وكان من قواد المسلمين على المشاة- كان يطلب الشهادة وتستبطئ عليه؛ فقد كان يأخذ سيفه ويلقي بنفسه داخل الجيش الفارسي يقتل منهم من يقتل يبغي الشهادة فلا يستشهد، حتى اقترب من سرير رستم في عمق الجيش، ولكنه نال الشهادة التي طلبها؛ فقد أنعم الله عليه بها قبل أن يصل إلى سرير رستم بخطوات، واستُشهد .

ثم تقدم القعقاع يطلب المبارزة 30 مرةً في هذا اليوم؛ فقتل وحده في الكَرِّ والفَرِّ ثلاثين فارسيًّا، وكل ذلك ولم يلتقِ الجيشان، واستمرت المبارزة حتى بعد صلاة الظهر في اليوم الثاني، ثم بدأ الفريقان يلتحمان مع بعضهما البعض في قتال شديد، وقد كان الالتحام في اليوم السابق من ناحية الفرس تجاه المسلمين، إلا أنه في هذا اليوم تقدم المسلمون ناحية الفرس، وضغطوا عليهم في بداية القتال عكس اليوم السابق، ثم استمر القتال بمنتهى القوة والشدة بين الطرفين من صلاة الظهر حتى منتصف الليل دون انقطاع.
عمر والتوجيه المعنوي للجيش:

وفي هذا اليوم أيضًا تصل من سيدنا عمر بن الخطاب إلى الجيش الاسلامي هدية معنوية يحمس بها الجيش ويحفزه؛ فقد بعث بأربعة خيول وأربعة أسياف هدايا إلى أهل البلاء والشدة من المسلمين، وفي الليل قبل أن تنتهي المعركة ينادي سيدنا سعد بن أبي وقاص على أربعة؛ فيعطيهم الخيول وهم: سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي، وسيدنا نعيم بن عمرو، وسيدنا عتاب بن نعيم، وسيدنا عمرو بن شبيب وكلهم من تميم، وقد ذكرنا بأس تميم في الذود عن قبيلتي: أسد وبجيلة في اليوم الأول، وبأسها في اليوم الثاني حيث كانت في قلب المعركة، وكانت من أكثر القبائل ضغطًا على قلب فارس، ثم أعطى الأسياف الأربعة لأربعة رجال وهم: حمال بن مالك قائد المشاة، والربيل بن عمرو، وطليحة بن خويلد الأسدي، وعاصم بن عمرو التميمي. وكم كان لهذه الأسماء من دور عظيم في القتال، وبأس شديد في هذه المعركة!!
وقفة مع أبي مِحْجَن الثقفي:

من الأحداث اللطيفة التي تُرْوَى في هذا اليوم أيضًا أن أبا مِحْجَنٍ الثقفي (ونحن نعلم أنه كان من المشاغبين في أول يوم؛ فحبسه سيدنا سعد بن أبي وقاص في قصر قديس في مؤخرة الجيوش، ورفض أن يشركه في المعركة) مكث في القصر يرسف في أغلاله يسمع أصوات السيوف، ويسمع تكبير المجاهدين، ونفسه تتشوق إلى القتال والجهاد في سبيل الله؛ فالجنة على بُعْدِ خطوات، وهو مقيد في قيده؛ فندم على فعلته ومعصيته لأميره خالد بن عرفطة، وطلب من سيدنا سعد بن أبي وقاص أن يشركه في القتال ثاني يوم (فهو لم يفرح لابتعاده عن ميدان القتال وهو مظنة القتل، ولكنه يود أن يجاهد في سبيل الله)، فرفض سيدنا سعد بن أبي وقاص أن يشركه في القتال، رغم أن المسلمين في أشد الحاجة إلى مقاتل مثل أبي محجن الثقفي، إلا أن سيدنا سعدًا يمنعه؛ لأنه كان مشاغبًا في بداية المعركة، وبذلك يعطي درسًا تربويًّا للمجاهدين حتى لا يتكرر هذا الفعل مرة ثانية. وكانت زوجة سيدنا سعد بن أبي وقاص هي التي تسقي وتطعم المحبوسين داخل الحصن، فسمعت أبا محجن الثقفي ينادي عليها ويقول: يا أَمَةَ الله، هل لك في خير؟ فقالت له: وما ذاك؟ فقال لها: تفكين أسري وتعيريني البلقاءَ (وهي فرس سيدنا سعد بن أبي وقاص نفسه، ونحن نعلم أن سيدنا سعد بن أبي وقاص مريض، وجالس فوق القصر لم يشارك في القتال، ولكن فرسه موجودة في القصر)، فأشترك في القتال، فإن سلَّمني الله عُدْتُ، ووضعت قدمي في القيد، وهذا عهد مني إليك. فقالت: ما لي أفعل ذلك؟! أي: لا أستطيع أن أفعل هذا حتى لا يغضب سعد مني؛ فرفضت ثم عادت فسمعته يشدو شعرًا يذكر فيه تشوقه إلى الجهاد، وحسرته على أن المجاهدين في هذا الموقف، وهو في ذلك الموقف، وأخذ يبكي بكاء مُرًّا؛ فَرَقَّ قلبها لتشوقه للجهاد، وصَلَّت واستخارتِ اللهَ ، ثم ذهبت إليه، وقالت: يا عبد الله، إني قد استخرتُ الله، وقبلتُ عهدك (أي: قبلت أن تخرج وترجع مرة ثانية إلى مكانك)، أمَّا البلقاء فلا أعيره. وبالفعل فَكَّت قيده، فذهب أبو محجن الثقفي، وأخذ البلقاء، وخرج من الباب الخلفي لحصن قديس، وانطلق إلى أرض المعركة، وقد حدث ذلك كله بعد منتصف الليل، فتلثَّم أبو محجن حتى لا يعرفه أحد، ودخل أرض المعركة في ميسرة الجيوش حيث قبيلته ثقيف، ثم بدأ يقاتل قتالاً لم يعهده العرب من قبل، وقَتَلَ من الفرس في ذلك اليوم الكثير، وظل يكرُّ ويَفِرُّ على ميسرة الفرس، حتى أحدث فيهم ما لم يحدثه العرب؛ فتعجب منه المسلمون وهم لم يعرفوا هذا الفارس، ثم عاد من خلف الجيوش وانتقل إلى ميمنة الجيش الإسلامي، وبدأ يقاتل الفرس منها؛ فقتل منهم من قتل وفعل بالفرس مثلما فعل بالميسرة، ثم عاد من خلف الجيوش الإسلامية في قلب الجيش الإسلامي، وقاتل الفرس في قلبهم، فقتل منهم أيضًا من قتل، والمسلمون يتعجبون مَنْ هذا؟! وسيدنا سعد بن أبي وقاص من فوق حصن القادسية يرى الرجل، فيقول: سبحان الله! الضبر ضبر البلقاء (والضبر هو قفز الفرس ثم نزولها مضمومة الأيدي وهذا من شدة بأسها، أي هذه حركات البلقاء)، والطعن طعن أبي محجن. ولكنه لم يجد تفسيرًا لذلك؛ لأن أبا محجن في حبسه وفرسه مربوطة، ثم يقول: والله لولا حبسُ أبي محجن، لقلت: أبو محجن، وقلت: البلقاء. ثم عاد بعد أن انتصف الليل وانفكت الجيوش إلى قيده، ووضع قدميه في القيد، وربط البلقاء وكأن شيئًا لم يكن، والمسلمون يتعجبون، ويقولون: واللهِ لولا أنَّا لا نرى الملائكة لقلنا: ملك يثبتنا. وهذا هو التفسير الوحيد لما شاهده المسلمون في المعركة من أبي محجن، ثم ذهبت السيدة "سلمى" زوجة سيدنا سعد بن أبي وقاص إليه في اليوم الثاني، وأخبرته بالقصة؛ لأنها لم تستطع أن تحتفظ بهذا السر الرهيب، فغضب في البداية، ثم اكتشف وجود أبي محجن في القيد، فعلم أنه وفَّى بعهده، وعاد إلى القيد؛ فسامحها وسامحه، وأطلقه في أرض المعركة في اليوم الثالث. سبحان الله! انظر إلى هذا الرجل وكم كان شوقه إلى القتال؛ فهو محبوس وله عذره، ولا يستطيع أحد من الناس أن يتهمه بالجبن، وهو بذلك الحبس ينقذ نفسه من القتال أو الموت، ولكنه يبغي الشهادة، ويقاتل حتى وإن رفض الأمير، وقد سُمِّي هذا اليوم في التاريخ يومَ أغواث؛ لأنه جاء فيه الغوث من الشام على رأسه سيدنا القعقاع بن عمرو، وكان في ذلك غوث شديد للمسلمين وكان النصر حليفهم.

وقد استُشهِد في هذا اليوم من المسلمين 2000 شهيد، وقُتِلَ من الفرس عشرة آلاف، وبذلك أصبح قَتْلَى الفرس في اليوم الأول والثاني 12000، وشهداء المسلمين 2500. وبعد منتصف الليل وانفصال الجيوش حمل سيدنا سعد بن أبي وقاص الشهداء على الجمال، وسارت بهم من القادسية إلى عذيب الهجانات على بعد خمسة كيلو مترات جنوبي القادسية؛ لكي يدفن الشهداء فيها.

أما بالنسبة لقتلى الفرس فقد كان من عجائب دينهم أنه يحرم عليهم دفن الموتى، فكانوا في بلادهم يضعون الموتى على الجبال؛ فتنهشهم جوارح الطير. وفي هذه المعركة انهزموا هزيمة نفسية فتركوا موتاهم في الميدان، وفي صباح اليوم الثالث كانت أرض المعركة كلها مملُؤَة بقتلى الفرس فقط، ولم يكن فيها شهيد من المسلمين، فأثَّر ذلك المشهد تأثيرًا نفسيًّا شديدًا على الفرس؛ فهم لم يعرفوا كم استُشهِد من المسلمين؟ وكم قُتِلَ منهم؟ وسبحان الله الذي أنعم على المسلمين بدفن شهدائهم في العُذَيْب كما ذكرنا.

عبقرية القعقاع الحربية:

يخرج القعقاع بن عمرو التميمي بحيلة جديدة في هذه الليلة أيضًا، فبعد أن انتهى القتال في منتصف الليل، وانفصلت الجيوش لم ينم سيدنا القعقاع وفرقته مثل بقية الجيش لكي يستريح ويستعد لليوم التالي، ولكنه أخذ يسرب جيشه كله (الألف مقاتل) بعيدًا عن الجيش في اتجاه الشام بنحو كيلو أو اثنين، وقال لهم: عندما يأتي اليوم التالي (وهو اليوم الثالث في القادسية) تأتون إلى أرض المعركة مائةً مائةً تكبرون، وكأنكم مدد جديد جاء للمسلمين؛ فيزيد ذلك من بأس المسلمين، ويضعف من عزيمة الفرس.

وفعل سيدنا عاصم بن عمرو التميمي أيضًا نفس الفعل، ولا ندري أهو اتفاق بين القعقاع وأخيه عاصم بن عمرو التميمي، أم أن هذه فكرة طرأت للاثنين في ذات الوقت؟! فقد سرَّب فرقته وكانت كلها من الخيول وهو قائدها (وهي أيضًا من قبيلة تميم) في اتجاه آخر غير اتجاه سيدنا القعقاع ناحية الجنوب؛ فأصبح الجيش الإسلامي في اليوم التالي تأتيه فرقة من الشمال من جيش القعقاع بن عمرو التميمي يكبرون على أنهم المدد للمسلمين، وتأتي فرقة أخرى من الجنوب من جيش عاصم بن عمرو التميمي كل مائة يكبرون أيضًا، وكأن المدد يأتي من الشمال والجنوب، والمسلمون لا يعرفون من أين يأتي كل هؤلاء الرجال؟ وكذلك الفرس، وكان لهذا الفعل أثر إيجابي جدًّا على نفسية المسلمين، وسلبي على الفرس.

وفي آخر ألف القعقاع بن عمرو التميمي في ثالث يوم، كانت بداية وصول سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص في بقية الآلاف الخمسة، وكان على رأس أول 700 فحكَوْا لسيدنا هاشم حكاية القعقاع؛ ففعل فعله، وقسَّمَ فرقته إلى عشرة أقسام: كل قسم سبعون رجلاً يكبرون: الله أكبر! وكأن المدد لا ينتهي -سبحان الله- وكان قائد ميمنة سيدنا هاشم بن عتبة سيدنا قيس بن مكشوح وهو ممن دفع رِدَّةَ الأسود العنسي مدعي النبوة في اليمن؛ فقد اشترك في قتله مع فيروز الديلمي، وفعل نفس ما فعل هاشم بن عتبة t، وسيدنا قيس هذا كان قد فقد إحدى عينيه في اليرموك، ولم تمر شهور على هذه المعركة، ومع ذلك جاء ليقاتل في العراق في موقعة القادسية بعين واحدة -سبحان الله- كما فعل عمرو بن معديكرب t أيضًا، حيث فقد إحدى عينيه في اليرموك وجاء ليقاتل في القادسية تمامًا مثل قيس بن مكشوح رضي الله عنهم جميعًا.

وفي هذا اليوم أيضًا يخرج القعقاع بفكرة وابتكار جديدين -هذا الرجل لا تنتهي أفكاره وابتكاراته، وبالفعل كان وجوده في الجيش مؤثرًا تأثيرًا شديدًا- فمع الفرس أفيال كان لها أثر شديد في القتال في أول يوم، ورغم أنه لم يشاهدها؛ لأنه لم يكن موجودًا في أرض المعركة، إلا أن المسلمين أخبروه بأمرها، وما فعلت بهم؛ فقال: وأنَّى لنا بأفيال؟! (أي: ونحن نريد أفيالاً ولكن من أين نأتي بها؟) فأَتَى بالجمال، ثم أحضر صوف الخيام، وجعل الجيش كله يصنع منه طيلة الليل لباسًا يغطي الجمال؛ فغطاها كلها ولم يظهر من الجمال إلا العيون فقط، وعلق بها الأجراس، وبعض الأشياء المصنوعة من الحديد (ونحن نعلم أن الجمل في حجمه من حيث الشكل أكبر وأعلى من الفيل)، ثم جعل كل ثلاثة أو أربعة يركبون جملاً ومجموعة من الخيول تحرس الجمال، ثم دخل بها في أول اليوم الثالث من أيام المعركة على الفُرْسِ الذين قد فَرَغُوا من إصلاح توابيتهم، ودخلت أفيال الفرس على فرسان المسلمين، فدخلت الجمال على فرسان الفرس، وعندما شاهدت خيول الفرس هذه الجمال بهذا الشكل والأجراس تصدر أصواتًا شديدة نفرت من هذا المنظر العجيب، أما خيول المسلمين فقد كانت معتادة على ذلك، وكان لذلك أثر شديد في جيش الفرس -سبحان الله- كما كان للفِيَلَة أَثَرٌ في جيش المسلمين في أول يوم، وكان من أقوى الفيلة في الجيش الفارسي: الفيل الأبيض والفيل الأجرب، وكانت كل الأفيال تتبعهم، وكان الفُرْس قد رَوَّضوا الفِيَلَةَ بحيث يتبعون هذين الفيلين الكبيرين.

وبعد أن بدأت المعركة أرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص رسالة إلى من يظن فيه الخير لكي يكفيه أمر هذه الفيلة؛ فبعث برسالتين كانت الرسالة الأولى إلى سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي وعاصم بن عمرو التميمي، وقال لهما فيها: "اكفياني الفيل الأبيض"، والرسالة الثانية إلى سيدنا حمال بن مالك والربيل بن عمرو وقال لهما: "اكفياني الفيل الأجرب"؛ فأخذ القعقاع وعاصم كل واحد منهما فرقة صغيرة من قبيلتهما "قبيلة تميم"، وقبل أن يهجما على الفيل سألا سيدنا سعد بن أبي وقاص أن يستدعي المسلمين الذين أسلموا من الفرس؛ فاستدعى من أسلم منهم مثل: مسلم والرفيل، فمسلم كما ذكرنا أسلم على يد طليحة بن خويلد الأسدي بعدما أسره، والرفيل أسلم بعدما سمع الرؤيا التي رآها رستم وفيها الرسول ؛ فاستدعى هؤلاء الفرس، وقال لهم: أين مَقَاتِلُ الفيل؟ أي المناطق التي إذا ضرب فيها يُقتَل، أو على الأقل لا يقاتل؛ فقالوا: إذا أُصِيبَ في عينه ومشفاره (خرطومه) فلا فائدة منه. وعَلِم المسلمون هذه الحقيقة، فتقدم القعقاعُ وأخوه عاصم بفرقتين من اتجاهين مختلفين، وهجما على الفيل، وكان كل تركيز حراس الفيلة أن يحموا التابوت والأحزمة، فتركوا مقدمة الفيل في وجه المسلمين؛ لأنهم لا يتخيلون أن يهجم المسلمون على الفيل نفسه، وحمل كلا البطلين العظيمين رمحًا في يده ونزلا في تناسق عجيب في لحظة واحدة -سبحان الله- على عيني الفيل، فوضعا رمحًا في عينه اليُمنى، وآخر في عينه اليُسرى؛ فخار الفيل، وجلس وجثا على ركبتيه؛ فنقل سيدنا القعقاع بن عمرو الرمح بيده اليسرى وتلقى السيف بيده اليمنى، وأطاح بخرطوم الفيل؛ فسقط الفيل الأبيض قتيلاً في أرض المعركة في أوائل اليوم الثالث، وكان لذلك أثر شديد على أهل فارس، فالمسلمون يقتلون الأفيال! وهذا أكثر مما توقعوه أو تخيلوه، وفعل حمال بن مالك والربيل بن عمرو بالفيل الأجرب كما فعل سيدنا القعقاع وسيدنا عاصم، ولكنهما اتفقا أن يضرب واحد منهما الخرطوم، بينما يضرب الآخر عينًا من عيني الفيل، ولكنه لم يمت مثلما مات الفيل الأبيض، وكان ذلك خيرًا للمسلمين؛ لأنه عندما أصيب هذه الإصابة القاتلة ترك أرض المعركة، وفَرَّ في اتجاه نهر العتيق هربًا من القتل، وكما نعلم فإن الأفيال كلها كانت تبعًا له، فعندما هرب سارت خلفه في اتجاه نهر العتيق، وعبرت الردم إلى الناحية الأخرى -سبحان الله- دون أن يشترك المسلمون في قتل أي فيل آخر من الأفيال الإحدى والثلاثين؛ لأنهم تركوا أرض المعركة بتوفيق الله I، وبفضله وبرضاه عن أهل القادسية.

وعد الله ورسوله بفتح فارس:

يقوم قيس بن مكشوح -وهو فاقد إحدى عينيه- يقول للمسلمين: "يا معشرَ المسلمين، إنَّ الله قد مَنَّ عليكم بالإسلام، وأكرمكم بمحمد؛ فأصبحتم بنعمته إخوانًا: دعوتكم واحدة، وأمركم واحد بعد أن كنتم يعدو بعضكم على بعض عَدْوَ الأسد، ويتخطف بعضكم بعضًا تَخَطُّفَ الذئاب؛ فانصروا الله ينصرْكم، وتَنَجَّزُوا من الله فتحَ فارس؛ فإن إخوانكم أهل الشام قد مَنَّ اللهُ عليهم بفتح الشام، وامتلاك القصور الحُمْرِ. فهو يذكرهم أن الرسول كان قد بشرهم من قبلُ بامتلاك القصور الحمر في موقعة الأحزاب وهم يحفرون الخندق، كما بشَّرَهم بفتح فارس والشام واليمن، وهو يقول لهم: إنهم بالفعل قد امتلكوا القصور الحمر التي بشرهم بها رسول الله، ومِنْ ثَمَّ سيمتلكون المدائن، والمدائن بعد القادسية، ولكي يمتلكوها لا بُدَّ من النصر في القادسية، فهو يبشرهم بالنصر، ويثبتهم على ذلك.

وفي هذا اليوم -كما ذكرنا- وصل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص بجيشه، وكما فعل القعقاع بن عمرو التميمي يفعل هاشم بن عتبة، فينزل في أرض القتال ويطلب المبارزة، ويبارز من الفرس مَن شاء الله I أن يبارز؛ فيقتل منهم الكثير، ويُثبِّت ذلك المؤمنين، ويفُتَّ من عَضُدِ أهل فارس، وكان القتال في هذا اليوم في منتصف أرض القادسية لا في جهة المسلمين، ولا في جهة الفرس، وكانت أعداد الفرس ضخمة كما ذكرنا من قبل، وكان القتال أيضًا في منتهى الشدة في ذلك اليوم.

وفي هذه الأثناء تصل أنباء إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص بوجود مخاضة من مخاضات أهل فارس في يمين القادسية (مكان تتجمع فيه المياه وكان المسلمون يأمنون هذه الناحية)؛ يستطيع الجيش الفارسي أن يخوض من خلاله، وهكذا حتى أثناء احتدام القتال له عيون يبحثون له عن الأماكن التي يؤمّنون بها جيش المسلمين؛ فعلموا أنه من الممكن إذا عَلِمَ الفرس بها أن يعبروا منها للمسلمين، وحتى هذه اللحظة لم يعلموا بها، فاستدعى سيدنا سعد بن أبي وقاص فرقتين من المسلمين وأَمَّر عليهما اثنين ممن يرى فيهما البأس والشدة، وهما: طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معديكرب، وأمرهما بالوقوف على هذا المكان وحراسته، وألا يُحْدِثوا أمرًا إذا لم يعلم الفرس بهذا المكان، وإذا علم الفرس فَقِفُوا لهم في هذا الموقف وقوفَ الرجال؛ وهذه نصيحة سيدنا سعد لهما.
حوار بين طليحة وعمرو بن معديكرب:

لكن بعدما يرجع رسول سيدنا سعد بن أبي وقاص يقف طليحة وعمرو يتحاوران، ونحن نتذكر حوارهما السابق قبل القادسية، عندما طلب طليحة أن يدخل إلى جيش فارس؛ ليأسر واحدًا منهم، فرفض عمرو، وهذا الحوار يتكرر مرة أخرى، فيقول طليحة لعمرو: أرى أن نخوض هذه المخاضة، ونهجم على الفرس من خلفهم. هذا مع العلم أن قوته لا تتعدى 60 مقاتلاً من المسلمين، وجيش الفرس كما نعلم وصل تعداده بعد مقتل 12 ألفًا إلى 110 آلاف؛ فقال له عمرو: أرى أن نعبر لهم من أسفل. فطليحة يرى أن يعبر المخاضة ونهر العتيق ويفاجئ الجيش من الخلف، وعمرو يرى أن يعبر إلى داخل أرض القادسية ويقاتلهم من الداخل، وكان الاثنان على خطأ؛ فهذا عكس ما أمرهما به سيدنا سعد بن أبي وقاص، ولكن رأي عمرو كان فيه بعض الصواب؛ فهو يَوَدُّ أن يقاتل في أرض المعركة بحيث إذا حدثت هزيمة يستطيعون العودة، أما طُلَيحة فيريد أن يعبر المخاضة إلى أرض فارس من ورائهم ويقاتلهم، وفي ذلك صعوبة في العودة إذا حدثت هزيمة؛ فقال طليحة: ما أقوله أنفع للناس. فقال له عمرو: أنت تحمِّلُني ما لا أطيق. فتركه طليحة بن خويلد الأسدي، وخاض المخاضة وحده -وللمرة الثانية يكرر نفس الفعل- ودخل إلى الجيش الفارسي بمفرده، وكان الظلام قد حَلَّ في اليوم الثالث من أيام القادسية، ونفَّذ -أيضًا- عمرو بن معديكرب رأيه، وعبر بالجيش من أسفل، واشتبك في قتال مع الفرس فاستبطأهم سيدنا سعد بن أبي وقاص، وكان من داخله يشعر أنه سيحدث أمر مثل ذلك؛ فأرسل لهما قيس بن مكشوح t في 70 من المسلمين، وأَمَّره عليهما إذا وصل إلى أرض القتال، وبالفعل يصل سيدنا قيس؛ فيجد عمرو بن معديكرب مشتركًا في قتال مع الفرس، فيدبر عملية من عمليات الانسحاب الشاقة، وينسحب بالفرقة المسلمة من هذا المكان الصعب إلى جيش المسلمين، ويلوم سيدنا سعد بن أبي وقاص عمرو بن معديكرب على إقدامه غير الطبيعي على قتال الفرس، ولا نعلم ماذا حدث لطليحة؟! فقد دخل المخاضة ولم يعرف أحد عنه شيئًا؛ ثم سأله عن طليحة فلم يجد عنده خبرًا، واستمر القتال حتى منتصف الليل، ثم سمع المسلمون والفرس شيئًا عجيبًا داخل أرض فارس خلف الجيوش الفارسية كلها بالقرب من خيمة رستم، حيث أطلق سيدنا طليحة بن خويلد الأسدي تكبيرات ثلاثة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر! بأعلى صوته؛ فتوقف القتال عندما سمعوا هذا الصوت، وانفصلت الجيوش وعاد طليحة بن خويلد الأسدي في الظلام مرة أخرى من المخاضة نفسها إلى جيش المسلمين، وأخبر سيدنا سعد بن أبي وقاص بما فعل، وكان الهدف من ذلك إلقاء الرهبة والرعب في قلب الفرس، وبالطبع لم يفكر طليحة في عملية استشهادية مثلما فعل من قبل، ولكن كان لهذا الفعل أثر شديد ألقى الله به الرعب في قلوب أهل فارس، وشَدَّ به من أزر المسلمين؛ فعاتبه سيدنا سعد، ثم عفا عنه لعلمه أنه يبغي النصر للمسلمين والعزة لهم.
رستم يصر على مقاتلة المسلمين زحفا:

نعلم أنه في كل ليلة تنفصل الجيوش، ولكن في هذه الليلة بعد تكبير سيدنا طليحة انفصلت الجيوش نسبيًّا، ولكن لم ينته القتال تمامًا، فكل فريق من الفريقين يود مواصلة القتال؛ فتجهزت الصفوف الإسلامية مرةً أخرى صفوفًا كما تفعل، وتجهزت الصفوف الفارسية كذلك، وخرج فرسان المسلمين في منتصف الليل يطلبون المبارزة (كأنه أول القتال: فارسًا لفارس) فلم يخرج لهم أحد من الفرس، وأَصَرَّ رستم على الزحف (أي أن يقاتل المسلمين بجماعة من الفرس، وليس فردًا لفرد؛ لأن المهارة الإسلامية تقتل أفضل الأفراد في الجيش الفارسي، وفي ذلك خسارة كبيرة لهم)، وعلم سيدنا سعد بن أبي وقاص أن الفرس يبغون الزحف؛ فأمر الجيوش بألا تزحف إلا بعد أن يلقي ثلاث تكبيرات مثلما حدث في أول يوم للقتال إيذانًا ببدء القتال، ثم يطلق سيدنا سعد بن أبي وقاص التكبيرة الأولى؛ فتتحمس الجيوش للقتال وتستعد حتى تهجم على الفرس بعد التكبيرتين، وفي هذه الأثناء يتراشق الطرفان بالسهام والنبال، فيقع سهم في قلب سيدنا خالد بن يعمر التميمي، وكان صديقًا حميمًا لسيدنا القعقاع بن عمرو التميمي، فقد كان بجانبه في المعركة، وفجأة وقع السهم في قلب خالد بن يعمر فقتله، واستشهد فتعجل سيدنا القعقاع الأمر، وحركه استشهاد صديقه لأن يحمل بفرقته (قبل أن يطلق سيدنا سعد بن أبي وقاص التكبيرة الثانية أو الثالثة) على قلب الجيش الفارسي (ونحن نعلم أن سيدنا القعقاع يقف مع قبيلة تميم في قلب الجيش أمام قطاع بهمن، ونعلم أيضًا أن بهمن والبيرزان قد ماتا، وأصبح قطاعهما في الأمام) فحمل عليه القعقاع، ولكن ماذا كان رَدُّ فعل سيدنا سعد بن أبي وقاص؟
حكمة سعد بن أبي وقاص:

كان سيدنا سعد يعلم مدى حرص سيدنا القعقاع على نصر المسلمين، وأن هذا الخطأ منه ليس فيه كِبْرٌ أو اعتراض على الأمير، ولكنها حماسة المعركة؛ فيقول سيدنا سعد: اللهم اغفرها له وانصره (ونحن نعلم أن دعوة سيدنا سعد بن أبي وقاص مستجابة)، قد أَذِنْتُ له إذْ لم يستأذني. وذلك حتى لا يُنزل الله سخطه على الجيش بمعصية أحد الجنود، ويقاتل سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي في الليل قتالاً شديدًا، وتدور رَحَى المعركة على قبيلة تميم، ثم يطلق سيدنا سعد بن أبي وقاص التكبيرة الثانية، والمسلمون يشعرون بقتال سيدنا القعقاع، وكل الناس يتشوقون للقتال، وقد قام خطباء المسلمين في هذه الليلة الثالثة يحفزون المسلمين ويرغبونهم في الجنة؛ فيقول لهم الأشعث بن قيس: يا معشر العرب، إنه لا ينبغي أن يكون هؤلاء القوم (قبيلة تميم) أجرأ على الموت، وأسخى نفسًا منكم. لا تجزعوا من القتل فإنه أماني الكرام، ومنايا الشهداء.

ويقوم حنظلة الكاتب كاتب رسول الله، فيقول: يا أيها الناس، لا تجزعوا مما لا بُدَّ منه؛ فالصبر أنجى من الفزع. وكذلك قام ضِرَار بن الخطاب (وكان قد عاد مع جيش الشام إلى أرض القادسية)، وقام غيره يحفزون المسلمين. وبعد أن أطلق سيدنا سعد بن أبي وقاص التكبيرة الثانية حملت بعض قبائل المسلمين دون انتظار للتكبيرة الثالثة من سيدنا سعد بن أبي وقَّاص، وممن حمل: عاصم بن عمرو التميمي أخو القعقاع، ويبدو أنه شعر أن القعقاع في مأزق شديد بمفرده في مواجهة الجيش الفارسي؛ فحمل استبطاءً لتكبيرة سيدنا سعد بن أبي وقاص الثالثة، فحمل بكل قبيلة تميم المتبقية، وحملت قبائل أسد وكندة وبجيلة وهؤلاء يُكَوِّنون أكثر من ربع الجيش الإسلامي، وهؤلاء جميعهم حملوا في لحظة واحدة دون استئذان من سيدنا سعد الذي كان يرى الفرق تحمل الواحدة تلو الأخرى، ويقول: اللهُمَّ اغفر لها وانصرها، قد أَذِنتُ لهم إذ لم يستأذنوني. ولما رأى أن جميع الفرق ستخرج؛ أطلق التكبيرة الثالثة حتى يصبح الأمر من عنده..

وبالفعل خرجت الجيوش الإسلامية كلها بعد منتصف الليل بقليل تحصد الفرس حصدًا في هجوم شديد، وضغطت على الجيوش الفارسية كلها قرب نهر العتيق، وفي هذه الليلة يستشهد أرطاة بن كعب وكان يحمل لواء النخع، وهذا اللواء أعطاه له رسول الله وقال له: "إن هذا اللواء يحمله أرطاة ما بقي". وظل يحمل هذا اللواء حتى استشهد، وقبل أن يسقط منه التقطه دريد بن كعب أخوه، فاستُشهد، فالتقطه قيس بن كعب أخوهم الثالث، فاستشهد. وممن استشهد في هذا اليوم أيضًا سيدنا عبد الله بن أم مكتوم وهو الأعمى الذي نزلت فيه سورة (عبس وتولى)، وكان له عذره، إذ كيف يخرج للقتال وهو أعمى؟! ولكنه يحمل راية المسلمين ويقول: أُكَثِّرُ سواد المسلمين في سبيل الله. أي أنا أقف فقط؛ لكي يتخيل الفرس أن عددنا أكثر مما يعرفون.
http://defense-arab.com/اليوم_الأول_لمعركة_القادسية

 
رد: فتوحات العراق وفارس

القادسية

اليوم الرابع




أتى اليوم الرابع للقتال، وكان الفريقان يقاتلون منذ أكثر من أربع وعشرين ساعةً متصلةً، ولم ينقطع القتال إلا نحو ساعة واحدة بعد صلاة العشاء بعد تكبيرة طليحة بن خويلد الأسدي؛ ولكن القتال كله استمر من صباح اليوم الثالث حتى صباح اليوم الرابع، وأشرقت شمس اليوم الرابع، ورأى أن المسلمين يتواصون بالقتال؛ فعلم أن النصر في هذه الليلة "ليلة الهرير" مع المسلمين، وكان سعد بن أبي وقاص من فوق حصن "قديس" لا يرى وقائع القتال بصورة واضحة، وليس عنده من الجنود من يذهب ويعود إليه بالأخبار؛ لأن كل الجنود كانوا قد اشتركوا في القادسية لشدة المعركة، ونال التعب من الفريقين، وكان واضحًا أن الحرب تقترب من نهايتها، فكل فريق قد استُنفِدَتْ طاقاته سواء الطاقات البدنية أو الخططية، فالطرفان لم يناما منذ أربع وعشرين ساعة، وكل فريق يريد للموقعة أن تنتهي.

أدرك هذه الحقيقة فقال للمسلمين: إن الدَّبَرَة بعد ساعة لمن بدأ القوم (أي أن ميعاد الهزيمة قد اقترب، فمن يبدأ في التخاذل سيكون من نصيبه الهزيمة؛ لأن الأمر شديد على الطرفين) {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104]؛ فاصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر، فآثِرُوا الصبرَ على الجزع. وبدأ يحمِّس المسلمين، وقام خطباء المسلمين من جديد يحمسون المسلمين، وكأنهم في بداية القتال، وبدأ المسلمون في الهجوم الشديد على الجيوش الفارسية، وفي بداية ذلك اليوم مال النصر إلى حَدٍّ كبير إلى صفِّ المسلمين، وكان القتال كله في قطاع الجيش الفارسي، كما كان الجيش الإسلامي بكامله في قطاع الجيش الفارسي يضغط عليه عند نهر العتيق الذي يقع خلف الجيش الفارسي، وكان الجيش الفارسي يتكون من خمسة قطاعات، منها قطاع البيرزان وقطاع بهمن وكلاهما دون رئيس ودون قائد؛ لأن البيرزان وبهمن قُتِلا، وبقي رستم في منتصف الجيوش في قطاع بهمن حيث تقع الطائرة التي يقيم فيها.
خطة للوصول إلى قلب الجيش الفارسي :

قام القعقاع بن عمرو التميمي بتدبير خطة حتى يُنْهَى القتال الشديد على المسلمين وعلى الفرس؛ ففكَّر في أمر فكر فيه من قبلُ ، حيث فكر في أن يأخذ قبيلة تميم وهي قبيلته، ويأخذ معه نجباء المسلمين من المقاتلين، أي أن يأخذ أفضل الجنود من كتيبة الفرسان ويدك بهم قلب الجيش الفارسي، وكان يرأسه بهمن جاذويه، وكان هدف القعقاع بن عمرو t أن يفصل الميمنة عن الميسرة؛ فتنقطع الاتصالات بين الفريقين، ومن الممكن بعد ذلك أن يفقدوا السيطرة، ويفقدوا صلتهم بقائدهم، وكان هدف القعقاع t أن يصل إلى رأس الأفعى؛ يصل إلى رأس رستم قائد الفرس، ويقول: إذا قتلت رستم ضاعت معنويات الجيش الفارسي كله.

وبدأت بالفعل عملية من أصعب العمليات؛ لأن قطاع بهمن فيه نحو عشرين ألفًا، وقبيلة تميم كلها تقريبًا ثلاثة آلاف؛ ومن فضل الله على المسلمين أن المساحة العرضية لأرض القادسية كانت ضيقة، فكان الجيش الفارسي مرتبًا في صفوف بعضها وراء بعض، وهذا كان من فضل الله I، وقد أسهم ذلك في إلحاقِ الهزيمة بالفرس.

وبدأ القعقاع ومعه قبيلة تميم في الضغط على الفُرْسِ، ويبدأ قلب الفرس في الانهيار تدريجيًّا أمام الضغط الشديد للمسلمين، وفي الوقت نفسه تمارس قبائل بني قحطان اليمنية الضغط على ميمنة الفرس بقيادة الهرمزان، وتضغط قبيلة قيس على مهران في الميسرة؛ حتى لا تلتف ميسرة أو ميمنة الفرس حول الجيش الإسلامي من الخلف، ويستمر المسلمون في الضغط على الفرس إلى نهر العتيق، وكانت أعداد الجيش الفارسي ضخمة، فهناك مائة وعشرون ألفًا موجودون قبل نهر العتيق، وهناك مائة وعشرون ألفًا ينتظرونهم في الناحية الأخرى، وكان قد قتل من الفرس نحو خمسة وعشرين ألفًا حتى هذه اللحظة، وتبقَّى -من هذا الجيش- خمسة وتسعون ألفًا، وهذا ما زال عددًا كبيرًا.

المدد الإسلامي يصل أرض المعركة :

في هذا الوقت الصعب يصل المدد المتبقي من الشام، وكان القعقاع بن عمرو t قد وصل على رأس ألف، وتبعه بن أبي وقاص على رأس سبعمائة، والآن وصل الآلاف الأربعة الجدد، أو وصل منهم ثلاثة آلاف، وهناك ألف وصلوا في اليوم الخامس من المعركة، فأصبح كل هذا المدد القادم يتمتع بروح عالية، وهو متعطش إلى الشهادة في سبيل الله.

ودخل المدد كله في القلب مع قبيلة تميم فزاد الضغط على رستم، وبدأ الفرس ينهارون انهيارًا سريعًا حتى استطاع المسلمون أن يصلوا إلى قلب الجيش الفارسي، ووصلت خيول المسلمين إلى نهر العتيق؛ ففصلت بذلك ميمنة الفرس عن ميسرتهم، وكان المسلمون يقاتلون بضراوة لم نسمع عنها كثيرًا في التاريخ، حتى إن أحد المسلمين قطعت يده، واستمر يقاتل بيده الأخرى، حتى إن أحد المسلمين قد مَرَّ عليه، فقال له: من أنت يا عبدَ الله؟ فقال: أنا رجل من الأنصار {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]. ثم استشهد وكان المسلمون مصممين على إنهاء إمبراطورية الفرس في هذه المعركة.

وصل المسلمون إلى طائرة رستم حيث مقر القيادة، وفي هذه اللحظة يأذن الله للريح أن تهب شديدة من الغرب إلى الشرق، وكانت عادتها في مثل هذه الأيام أن تهب من الشرق إلى الغرب، ويسميها العرب ريح الدَّبُور، وهي التي تمرُّ في عكس الاتجاه الذي تهب فيه طول العام، هبت الريح؛ فاقتلعت طيارة رستم من شدتها، وقذفت الريح بالرمال في أعين الفرس، وكلهم مواجهون للرياح القادمة عليهم من الغرب؛ فكان هذا نصرًا من الله لا دخل للمسلمين فيه {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

ووصل المسلمون إلى الطائرة، ونظروا فيها فلم يجدوا رستم؛ فقد اختفى رستم، وينظر المسلمون يمينًا ويسارًا فلا يجدونه، فيستمرون في القتال وفي حصار اليمين واليسار، وكان في خلف طائرة رستم مجموعة من البغال وعليها مئُونة الجيش، وعليها الأسلحة، وعليها المدد القادم من المدائن للجيش الفارسي.

هلال بن علفة يقتل رستم :

وفي أثناء اشتداد القتال بالقرب من البغال إذا بهلال بن عُلَّفة t وهو يضرب بسيفه يطيش السيف وهو يضرب به؛ فقطع حملاً من أحمال هذه البغال، فسقط هذا الحمل على الأرض، فسمع هلال بن علفة t صراخًا من خلف البغل، إذن هناك من يختفي وراء هذا البغل؛ فصرخ هذا الرجل وأسرع بالفرار، فنظر إليه هلال بن علفة t فوجد عليه الأبهة والعظمة، فقال لنفسه: أهو هو؟ أي: هل هو رستم؟ فلما رآه هلال بن علفة يجري بهذه السرعة وهذه الأبهة التي كانت عليه، قال: لا أفلحت إن نجا. وبالفعل أسرع وراءه حتى يلحق به، ويصرخ فيه رستم يقول: "بابيه". ومعناها بالفارسية: كما أنت، أي: قِفْ كما أنت؛ ظن رستم أنه أحد جنوده الذين يطيعونه.

ولكن هلال بن علفة t كان مصممًا على إدراك رستم، فقذفه رستم برمح كان في يده؛ فأصاب قدم هلال بن علفة، ولكن ذلك لم يثنه، فتبعه، فقذف رستم نفسه في نهر العتيق، وبدأ يعوم، فدخل هلال بن علفة وراءه في النهر، وجذبه من قدمه إلى خارج النهر، ثم ضربه بسيفه على رأسه؛ ففلق هامته، فكانت هذه هي نهاية رستم. وعندما قتله أدرك أنه قتل رستم عظيم الفرس وقائدهم، لِمَا رأى على ثيابه وعلى تاجه من العظمة ومن الجواهر ومن الأشياء الثمينة، فوقف هلال بن علفة على كرسي رستم في مكان الطائرة، بعد أن قامت الرياح بقذف الطائرة بعيدًا، ونادى: قد قتلت رستم ورب الكعبة، إليَّ أيها المسلمون. وظل ينادي بصوتٍ عالٍ أنه قد قتل رستم، فعلم المسلمون ذلك وتجمعوا حوله، واتخذوا من طائرة رستم مكانًا يتجمعون حوله، وعلم الفرس أن قائدهم رستم قد قُتل، فانهارت معنوياتهم، وأسلموا رقابهم للمسلمين.
الجيش الفارسي ينهار :

أصبحت ميسرة الفرس محصورة تمامًا بين قبيلتي قيس وبكر من ناحية، وبين قبيلة تميم من ناحية أخرى، كما كان هناك بعض المستنقعات التي لا تمكّن الجيش الفارسي من الفرار، وتقدمت قبيلة قيس وحاصرت الميسرة تمامًا، وبدأ المسلمون في حصد ميسرة ومؤخرة الجيش الفارسي، وعلى الناحية الأخرى كان الجالينوس والهرمزان يقفان قريبًا من الردم، حيث كانت مقدمة الفرس وميمنتهم قريبة من الردم وهو على نهر العتيق، وبدأ المسلمون يبيدون ميسرة الفرس، في حين يدعو الجالينوس جيشه للهرب من المنطقة، وكان يريد الفرار بالجيش من أرض المعركة.

وبدأ الجالينوس والهرمزان يقودان عملية الانسحاب للجيش الفارسي، فعبر الجالينوس الرَّدْم، وبدأ الانسحاب في اتجاه الشمال وتبعه الهرمزان بعد ذلك، وبذلك تكون منطقة الميسرة والمؤخرة للجيش الفارسي قد حصدت تقريبًا، وقتل معظمهم، ومن فرَّ من الجيش الفارسي قذف بنفسه في نهر العتيق، وسبح إلى الناحية الأخرى حتى يهرب من سيوف المسلمين، وقتل في هذا اليوم من الفرس ثلاثون ألف قتيل، وكان هذا قبل أذان الظهر في يوم 16 من شعبان سنة 15هـ، وبدأ الفُرْسُ يُسْلِمون أَنفُسَهم للمسلمين، ووقعت الذلة والهوان في قلوب الفرس وقوعًا شديدًا؛ حتى إنه يقال: إن المسلم كان ينادي على الفارسي، فيأتيه فيعطيه سيفه، فيقتله به.

وحقًّا إن المسلمين إذا ابتغوا العزة في الإسلام أعزهم الله، وإذا ابتغوا العزة في غير الإسلام أذلهم الله، وهذا الموقف تكرر في التاريخ الإسلامي بعد ذلك، ولكن على عكس الأمر؛ فعندما حدث هجوم على الدولة العباسية، كان الرجل من التتار ينادي على المسلم، ويأخذ سيفه ويقتله به، والمسلم لا يدافع عن نفسه؛ لأن هذه الفترة كانت فترة من فترات الضعف الإسلامي، وكان الناس منشغلين بالشعر والعطر والأغاني، وتركوا الجهاد وطاعة الله تعالى؛ فأذلهم الله حتى عاد النصر من جديد على صيحة "وا إسلاماه" على يد -رحمه الله- في موقعة .

فالتاريخ فيه عِبَر وعظات، والمواقف تتكرر ونراها حتى يوم القيامة {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43]. يقول المؤرخون: حتى كان الطفل الغلام الذي لم يبلغ الحلم من المسلمين يَقتُل من الفرس من شدة هوان الفرس عليهم؛ حتى إنه رُئِي غلامٌ من قبيلة النخع اليمنية يقود ستين فارسًا من الفُرْسِ ويأخذهم أسرى، والفرس يرفعون أيديهم عالية.

وخَلَتْ ساحة القتال تقريبًا من الفرس، وأصبح الجيش الإسلامي هو الموجود فقط في المنطقة، وبدأ المسلمون في حصر الشهداء، فكان شهداء المسلمين ثمانية آلاف وخمسمائة شهيدٍ طوال أيام القتال، وصدق فيهم قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 169، 170]. أما في يوم القادسية فلم يستشهد من المسلمين عدد يذكر مع شدة هجوم المسلمين على الفرس، إلا أن الله I مَنَّ بالنصر على المسلمين دون شهداء في ذلك اليوم، وقُتِلَ من الفرس من بداية القتال وحتى نهايته نحو أربعين ألف قتيل.

بطولات الصحابة في القادسية:

في هذه الموقعة أسقط ضرار بن الخطاب راية "درفش كابيان"، وهي راية الفرس العظمى ذات الشمس البنفسجية والقمر الذهبي، وهي راية كبيرة وضخمة، وهي من أشهر وأكبر الرايات في التاريخ، وهذه الراية لم تسقط حتى هذه اللحظة، والذي أسقطها ضرار بن الخطاب ؛ فسقطت ولم ترتفع مرة أخرى في هذا اليوم.

ويأتي أحد المسلمين وهو زيد بن صُوحَان -وهو صحابي جليل من صحابة رسول الله- ويده مقطوعة، ويجري فرحًا ويده قد قطعت من القتال؛ فأسرع إليه المسلمون حتى يعالجوه، فذكر لهم وتذكر معه الصحابة أنهم كانوا في غزوة مع رسول الله، فغفا رسول الله غفوة، ثم أفاق فقال: "زيد وما زيد! يده تسبقه إلى الجنة". ولم يعرف الصحابة ساعتها من هو زيد الذي عناه رسول الله، فرجع من يوم القادسية فرحًا؛ لأنه علم أنه المقصود بهذا الرجل الذي تسبقه يده إلى الجنة، ثم لحق به جسده الكريم في ، فلقد استشهد في موقعة الجمل بيدٍ واحدة.
تتبع الفارِّين:

وبعد أن انتهت هذه الملحمة الشديدة على المسلمين، بدأ سعد بن أبي وقاص -كما كان يفعل ، وكما كان يفعل المثنى بن حارثة من قبل- في تتبع فلول الهاربين من الجيش الفارسي، إنه إصرار شديد على محق الإمبراطورية الفارسية؛ حتى يُعْبَدَ الله وحده.

وفرَّ الهرمزان إلى الجنوب الشرقي حيث سيعبر بعد ذلك نهر الفرات متجهًا إلى الأهواز جنوبي إيران، وهذه المنطقة فيها عز الهرمزان وفيها ملكه، وكان الهرمزان قبل ذلك قد عاهد رسول الله أن لا يقاتل المسلمين، ولكنه خان عهده مع رسول الله وقاتل المسلمين في القادسية، وها هو يهرب الآن من موقعة القادسية بعد هزيمة جيشه، وينتقل بجيشه إلى منطقة الأهواز. وفرَّ الجالينوس إلى ناحية المدائن في اتجاه النجف، وهي المنطقة التي عسكر فيها جيش الجالينوس قبل أن يدخل القادسية مباشرة.

وفَرَّت فرقة أخرى من الفُرس في اتجاه الشمال بجوار نهر العتيق، فأرسل سعد بن أبي وقاص القعقاع بن عمرو التميمي وأخاه عاصم بن عمرو التميمي حتى يتتبعا الهرمزان جنوبًا، وأرسل شُرَحبيل بن السِّمْط ليتتبع الفريق المتجه شمالاً في مطاردة سريعة قصيرة، حتى يلحقوا بالفُلُول التي هربت من الجيش الفارسي، وبالفعل في أقلِّ من ساعة كانت الجيوش الإسلامية قد لحقت بعدد كبير من الناحيتين، ثم عاد القعقاع وعاصم رضي الله عنهما إلى القادسية وعاد شرحبيل بن السِّمْط، فأبدلهما سعد بن أبي وقاص المهمة، أي أبدل كل واحد منهم مهمة الآخر، وقال سعد للقعقاع وعاصم: اصعدا إلى الشمال. وقال لشرحبيل: انزل جنوبًا. وسعد t بذلك يحفز القواد على اللحاق بالفرس؛ حتى يتداركوا فلولهم، ويَجِدوا في البحث عن الفرس، أجمعين.​

ثم أرسل سعد بن أبي وقاص مقدمة الجيش بقيادة زهرة بن الحُوِيَّة لمتابعة الجالينوس؛ فتقدم زهرة بن الحوية ليلاحق الجالينوس، وكان الجالينوس قد عبر نهر الحضوض المتفرع من نهر العتيق، وعبره الجالينوس على الردم، وكان هناك قنطرة في هذا المكان على نهر الحضوض بعيدة، ولكن الجالينوس عبر بجيشه كله من فوق الردم، وبعد أن عبر فتح فجوة في الردم؛ حتى لا يستطيع المسلمون أن يلحقوا به.

فجاء زهرة بن الحوية فوجد الفجوة واسعة فاستعد بخيله، واستعد وقفز من فوق هذه الفجوة الواسعة، وتبع زهرة بن الحوية t في مثل هذه اللياقة البدينة العالية ثلاثمائة فارس من المسلمين استطاعوا أن يعبروا هذه الفجوة، وبقيت مقدمة المسلمين لم تستطع العبور فعبرت من فوق القنطرة، وتقدمت الجيوش الإسلامية بقيادة زهرة حتى لحقت بالجالينوس على حدود النجف (نحو أربعة كيلو مترات من القادسية)؛ فوجدوا أن الفرقة كبيرة، وجلست في هذا المكان تستريح من القتال وتنتظر حتفها، ووجد الفرس المسلمين على رءوسهم؛ فقاتل المسلمون هذه الفرقة من فرقة الجالينوس وقتلوا منهم الكثير، وقتل زهرة بن الحوية الجالينوس بنفسه، ولم يكن يعرف أنه الجالينوس، وبعد أن قتله أخذ سلبه وعاد به إلى سعد بن أبي وقاص، فعرف أسرى الفرس ملابس الجالينوس، وعرف زهرة أنه قتل الجالينوس نفسه.

وهذا ثالث قائد من القواد الذين تحت رستم يُقتل في موقعة القادسية، وكذلك قُتِلَ مهران الرازي في الميسرة، فكل قواد الفرس قد قتلوا باستثناء الهرمزان فقط الذي فَرَّ من موقعة القادسية ناحية الأهواز؛ فلقي سعد بن أبي وقاص زهرة بن الحُوِيَّة t بعد أن عاد من هذه الموقعة القصيرة بالقرب من القادسية وقد لبس لباس الجالينوس، وهذا اللباس كله أبهة وعظمة وجواهر ثمينة، فقال له: هل أعانك أحد على قتله؟ وذلك حتى يوزع سلب الجالينوس بالعدل؛ لأن سلبه كثير.

فقال زهرة بن الحوية : نعم. فقال سعد: مَنْ؟ فقال زهرة : الله!! فسكت سعد بن أبي وقاص، ولكنه أعاد النظر، وقال: ولكنَّ هذا كثير. فأخذ سعد منه جزءًا من السلب، وأرسل به إلى فرد عليه عمر بن الخطاب الرسالة: أنا أعلم بزهرة منك، فأعِدْ له سلبه، وأعطه خمسمائة درهم من عندي من بيت مال المسلمين. يأخذهم زهرة بن الحُوية ردًّا لاعتباره.

عاد المسلمون إلى القادسية وبدءوا في معالجة الجرحى، وتأتي النساء -اللاتي خرجن مع الجيش لطول المسافة بين المدينة المنورة وبين القادسية، وكن في "عذيب الهجانات" في القادسية- بالمياه لسقي الجرحى المسلمين، ولتضميد جراحهم، وبدأن يقمن بدورهن.

وطلب سعد بن أبي وقاص من هلال بن علفة أن يحدد له المكان الذي قتل فيه رستم، فيذهب هلال بن علفة ويأتي برستم من بين البغال، فيأمر سعد بن أبي وقاص هلال بن علفة أن يأخذ سلب رستم، وكان سلبه ثمينًا جدًّا، فقد باعه هلال بن علفة بسبعين ألف درهم (هل كان رستم ذاهب إلى الحرب أم إلى النزهة؟!)، وضاعت العباءة التي كان يلبسها رستم وتقدر بمائة ألف، وفي الغالب جرفها تيار الماء عندما قذف بنفسه في نهر العتيق.​

وتأتي صلاة العشاء وكان يومًا طويلاً، وعندما قام المسلمون لأداء صلاة العشاء اكتشفوا أن مؤذن المسلمين في القادسية قد استُشهد في الموقعة، فبدأ الصحابة يتسابقون إلى الأذان، حتى إنهم يكادون أن يقتتلوا، مع أنهم كانوا من لحظات يسيرة في جهادٍ في سبيل الله؛ ولكنهم يدركون فضل وقيمة الأذان وأجره العظيم، أما نحن الآن فنتباطأ في رفع هذه الشعيرة الإسلامية الكبيرة، بينما كان يريد كل واحد من الصحابة أن يأخذ هذا الشرف، ويصبح من أطول الناس رقابًا يوم القيامة؛ ولشدة خلاف الصحابة حول من يقوم برفع الأذان، قام سعد بن أبي وقاص بعمل قرعة بين الصحابة لمن يرفعه.
بشارة النصر :

قام سعد بن أبي وقاص بكتابة رسالة إلى عمر بن الخطاب بعد انتهاء المعركة في يوم 17 من شعبان، وهو خامس يوم من أيام القادسية، يقول له فيها:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونثني عليه الخير كله، أما بعد..

فإن الله نصرنا على أهل فارس، ومنحهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم بعد قتال طويل، وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعدة لم يَرَ الراءون مثل زهائها فلم ينفعهم الله بذلك، بل سلبهموه ونقله عنهم إلى المسلمين. وقد اتبعهم المسلمون على الأنهار، وعلى طفوف الآجام، وفي الفجاج، وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ وفلان وفلان ورجال من المسلمين لا نعرفهم. وسعد بن عبيد من أصحاب رسول الله، وشهد كل المشاهد مع رسول الله بداية من بدر وحتى تبوك إلى أن تُوُفِّي الرسول، وكان يسمى سعد بن عبيد القارئ؛ لأنه كان يؤم المسلمين في وجود الرسول في مسجد قباء، فالرسول كان يؤم المسلمين في المدينة وكان هو يؤم المسلمين في مسجد قباء.

وقد مَرَّ علينا ذكر سعد بن عبيد في الفتوح عندما قام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يحث الناس على الخروج للجهاد، فكان أول من قام أبو عبيد بن مسعود الثقفي، وكان عمر t قد ظل يستنفر المسلمين ثلاثة أيام متواصلة ولم يخرج أحد، ثم قام بعد أبي عبيد بن مسعود سعد بن عبيد والثالث ، وقد استشهد أبو عبيد وسليط بن قيس في موقعة الجسر، وبقي سعد بن عبيد القارئ ليستشهد هو أيضًا في موقعة القادسية.​

كَلَّف سعد بن أبي وقاص الصحابي الجليل سعد بن عُمَيلة بتوصيل رسالة إلى المدينة المنورة على أن يسلمها إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وكان عمر يخرج بنفسه كل يوم بعد صلاة الضحى حتى الظهيرة على أبواب المدينة في الصحراء ينتظر البشير، وعندما يرى أي قادم عليه من العراق يسأله: هل أنت من العراق؟ فيقول له الرجل: لا. وهكذا كل يوم، والمسلمون قد خرجوا للقتال منذ شهور، حتى وصل سعد بن عميلة بالرسالة إلى مشارف المدينة المنورة، وهو راكب على ناقته فيسأله عمر : هل أنت من العراق؟

فيقول له: نعم. فيستبشر عمر بن الخطاب، وصاحب الرسالة ما زال فوق الناقة لا يعرف عمر، وعمر بن الخطاب يمشي على الأرض، فيقول له: وما فعل المسلمون بالفُرْسِ؟ فيقول: نصرهم الله وأهلك العدو. والناقة تسرع في اتجاه المدينة وعمر بن الخطاب يجري بجوار الناقة، وسعد بن عميلة يكلمه من فوق الناقة؛ حتى دخلا المدينة فسمع سعد الناس تقابل أمير المؤمنين عمر ، وتقول له: السلام عليكم يا أمير المؤمنين. فقفز سعد بن عميلة من فوق الناقة، وقال له: هلاَّ أخبرتني. فيقول: لا عليك يا أخي, "المهم أن نعرف أخبار المسلمين". فيأخذ عمر الرسالة، ويصعد فوق المنبر، ويجتمع المسلمون كلهم في المسجد، ثم يطمئنهم أن الله قد فتح عليهم، وأن الله قد مَنَّ عليهم بالنصر، وأنه قد أهلك فارس، وأسقط راية الفرس العظمى.

ونقل لهم أخبار استشهاد بعض المسلمين، وبكى عمر بن الخطاب على استشهاد سعد بن عُبَيْد القارئ فيقول سيدنا عمر بن الخطاب بعد أن علم بشهادة سعد بن عبيد القارئ: واللهِ لقد كاد قَتْلُ سعد بن عبيد يُنَغِّصُ عليَّ هذا الفتح.

فقد أثَّر موت الصحابي الجليل سعد بن عبيد في عمر بن الخطاب تأثيرًا شديدًا، ثم أخذ سعد بن أبي وقاص يعدِّد أسماء الشهداء مثل: ، وأولاد وغيرهم، ثم يقول: ورجال من المسلمين لا نعلمهم، الله بهم عالم. ويقول سعد في رسالته عن جنوده: وكانوا يدوون بالقرآن كدويِّ النحل إذا جَنَّ عليهم الليل، وهم آساد الناس لا تشبههم الأسود. فهذه هي صفات الجيش الإسلامي: عندما يأتي الليل يلجئون إلى الله، تسمع لهم دويًّا كدويِّ النحل، أما الجيوش التي تأخذ أسماء إسلامية فهي في تعاملها مع الاستعداد للمعركة يُدخلون على الجنود بعض الترفيه عن الجيوش، فيأتون بأفلام يعرضونها عليهم، أفلام كلها معصية يرفهون بها عن الجيش!!

أما الصحابة في حروبهم، كانوا إذا جَنَّ عليهم الليلُ يسرعون إلى القرآن الكريم حتى يقرءوه، فكانوا يدوون كدوي النحل. ولنذهب إلى موقعة حطين، فماذا كانت حال الجيش الإسلامي في موقعة حطين؟! كان صلاح الدين الأيوبي يمر على الخيام، ويطمئن أن كل خيمة بالليل فيها صوت قرآن؛ فيعلم أن الجيش يقوم الليل، وعندما يأتي خيمة لا يسمع فيها صوتًا للقرآن يقول: من هنا تأتي الهزيمة. فيوقظهم ليقوموا الليل، وهم آساد الناس لا تشبههم الأسود، حتى الأسود لا تشبه قتال هؤلاء الأبطال، ولم يَفْضُل من مضى منهم من بقي إلا بفضل الشهادة.
توزيع الغنائم :

وبدأ سعد بن أبي وقاص في توزيع الغنائم، فكان نصيب الفارس من المسلمين ستة آلاف، وكانت غنائم القادسية أكثر الغنائم التي أخذها المسلمون حتى هذه اللحظة، وكان رقم الألف لا يحلم المسلم بأن يمتلكه في ذلك الوقت، ولكننا في أرض الواقع؛ فعندما نصر المسلمون ربهم أفاء الله عليهم بالنصر، وأفاء عليهم بستة آلاف للفارس وألفين للرَّاجل، فالفارس يأخذ ثلاثة أضعاف المترجّل.

ثم أعطى سعد بن أبي وقاص أهل البلاء وكان عددهم خمسة وعشرين، وهم الذين أظهروا الجرأة والشجاعة والإسراع لنيل الشهادة في سبيل الله، ووزع عليهم عطايا أكثر؛ لتشجيع المسلمين على أن يستبسلوا دائمًا في المعارك، وكان منهم طليحة بن خويلد الأسدي، وكان منهم القعقاع بن عمرو التميمي، وعاصم بن عمرو التميمي، والربيل بن عمرو، والكثير من المسلمين.
صورة حضارية رائعة من سعد لكل القواد :

ثم أتى عمرو بن معديكرب وبشر بن أبي رُهْم إلى سعد بن أبي وقاص، أتياه يسألانه العطاء وأن يعطيهما كما أعطى الناس؛ فبعث سعد بن أبي وقاص برسالة إلى عمر بن الخطاب يقول له: إني قد أعطيت الناس كلهم، وهناك كثير من المال ما زال متبقيًا، فلمن أعطي هذا المال؟ فقال له عمر بن الخطاب t: أعطِ حملةَ القرآن. فقام سعد t بتوزيع الأموال على حفظة القرآن.

ولم يأخذ عمرو بن معديكرب وبشر بن أبي رهم رضي الله عنهما؛ فأتياه في اليوم التالي، وقالا له: أعطنا. فيقول: ما معكما من القرآن؟ فيقول عمرو بن معديكرب: ليس معي شيء، فمنذ أسلمت شغلني الجهاد عن حفظ القرآن. فلم يعطه سعد بن أبي وقاص، ولم يقبل منه سعد t العذر، ويأتي بشر بن أبي رهم، فيقول له سعد: ما معك من القرآن؟ فيقول له: معي بسم الله الرحمن الرحيم "الحقيقة أنها ثقيلة في الميزان، ولكن سعد بن أبي وقاص يريد حفظ سور وآيات من القرآن الكريم". ولم يرضَ منه سعد بن أبي وقاص بذلك، فيبدأ بشر بن أبي رهم وعمرو بن معديكرب في نَظْمِ شعر يهجوان به سعد بن أبي وقاص أمير الجيش الإسلامي، يقول بشر بن أبي رهم:

وسعد أميرٌ شرُّه دون خيرِه *** طويلُ الشذا كأبي الزناد قصير

طويل الشذا، أي: أذاه كثير. كأبي الزناد قصير، أي: هو ضعيف الحيلة. وكان سعد بن أبي وقاص في هيئته قصيرًا.

تذكر هداك اللهُ وقع سيوفنا *** بباب قديس والمكر عسير

أي: المكر من أهل الفرس.

عشيةَ ودَّ القومُ لو أن بعضهم *** يُعَار جناحي طائر فيطير

أي: من كثرة شدة بأسهم على الفرس يريدون أن يطيروا من أمام المسلمين.

إذا ما فرغنا من قراع كتيبة *** دلفنا لأخرى كالجبال تسير

وعند أمير المؤمنين نوافـل *** وعند المثنى فضـة وحريـt

يقولون بأن أمير المؤمنين يعطي نوافل، والمثنى كان يعطي فضة وحريرًا، وأنت لا تعطي شيئًا.

ثم قام عمرو بن معديكرب يقول:

إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد *** قالت قريش ألا تلك المقاديرُ

أي: نصيبهما أن يقتلوا.

تُعْطي السويةَ من طعن له نفذ *** ولا سوية إذ تُعْطَى الدنانيرُ

أي عندما يكون هناك قتال فإننا ننال نصيبنا من الطعن والقتل، وعندما يُكتب النصرُ، وتأتي الأموال لا نُعطى شيئًا.

إنها عظمة الإسلام! وصورة حضارية رائعة من الصحابة y؛ فهذان اثنان من المسلمين يشكوان أمير الجيش، ولا يغضب عليهم، ولم يأمر بسجنهم، وإنما أرسل بشكواهما إلى أمير المؤمنين في المدينة المنورة؛ فيأمر لهما بالعطاء.

أمر عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما -بعد هذا الهجاء- أن يعطيهما على بلائهم، أي لا يعطيهما على حمل القرآن، وإنما يعطيهما على بلائهم، فهما من أهل البلاء. وأمره أمير المؤمنين أن يعفو عنهم، فقد كان في الجيش الإسلامي نوع من الحب والترابط الشديد؛ حتى إن مثل هذا الأمر لم يكن يعكر من صفو الحرب وصفو الجيش الإسلامي، وكان سعد بن أبي وقاص من الحكمة الشديدة، ومن الحزم الشديد بحيث يوظِّف كل أمر من الأمور في المكان الذي يرى فيه مصلحة المسلمين.
دروس وعبر من القادسية :

إن الفوائد والدروس والعبر من موقعة القادسية كثيرة، وهي عون للمسلمين في معاركهم إلى يوم القيامة، ونجد أن الدرس الكبير المستفاد من القادسية أن النصر يأتي نتيجة عاملين أساسيين هما: الإيمان بالله، والأخذ بالأسباب؛ وقد اجتمع هذان العاملان للمسلمين في موقعة القادسية.
الإيمان باللهأساس النصر:

الإيمان بالله والأخذ بالأسباب من أهم عوامل وأسباب النصر، ولا بُدَّ للجيش المسلم أن يجمع هذين العاملين حتى يتم النصر المرجو، ونرى في موقعة القادسية انتصار فريق ضعيف على فريق قوي، وانتصار مجموعة قليلة على مجموعة كثيرة، وهذا النصر لا يأتي بقوانين هذا الكون، إلا إذا تحقق في الجيش الإسلامي عامل الإيمان وعامل الأخذ بالأسباب..

أما بالنسبة لعامل الإيمان نجد أن تحركات الجيش الإسلامي منذ بداية خروجه من المدينة، حتى وصوله القادسية واشتراكه في القتال تدل على أن الجيش الإسلامي كله يتمتع بإيمان قوي بالله؛ نرى ذلك في وصية عمر بن الخطاب t إلى الجيش بعد خروجه من المدينة ولم يكن وصل بعدُ إلى شراف، وشراف كانت على بعد أكثر من ثلاثمائة كيلو متر من أرض فارس، وكانت على بعد خمسمائة كيلو مترٍ من المدينة؛ فيرسل عمر بن الخطاب t برسالة إلى سعد بن أبي وقاص، يأمره بتقوى الله وتجنب المعاصي، ويقول له: إن أخوف ما يخاف على الجيش هو المعاصي، ويخاف عليه من المعاصي أكثر من خوفه عليهم من جيش فارس.

فإن وقع الجيش الإسلامي في المعاصي تساوى مع العدو، وعند ذلك فإن الله لا ينظر إلى هذا الجيش الإسلامي؛ فينتصر عندئذٍ أهل فارس عليكم بالعدة والعتاد؛ لأن عدة وعتاد فارس أشد وأكثر بكثير من عتاد المسلمين، فإذا فقد المسلمون عامل نصر الله ضاع منهم النصر، وبقيت لهم الهزيمة.
سعد يخطب مذكرًا بالإيمان والتقوى :

نتذكر خطبة سعد بن أبي وقاص للجيش الإسلامي في القادسية، نجد أن سعدًا t قد ذكرهم بالإيمان، فيقول لهم: آثِروا أمر الآخرة على أمر الدنيا، ولا تؤثروا الدنيا على الآخرة فتُسلَبوهما. أي لو آثرتم الدنيا فسوف تضيع منكم الدنيا والآخرة، ولو آثرتم الآخرة على الدنيا، فسوف تجتمع لكم الدنيا والآخرة.

وكل الأمراء الذين قاموا وخطبوا في موقعة القادسية مثل: عاصم بن عمرو التميمي، والهذيل الأسدي، وقيس بن هبيرة، كل هؤلاء الصحابة y ذَكَّروا بالجنة وذكروا بالنصر، وقالوا: إما النصر وإما الشهادة، وأن الجنة على بعد خطوات من المسلمين. ولو ننظر إلى رسل المسلمين إلى يزدجرد، ورسل المسلمين إلى رستم نجد أن كل الرسل تجتمع لهم كلمة واحدة أنهم يدعون رستم إلى الإسلام أو إلى الجزية أو القتال، ويقولون: إن إسلامك أحبُّ إلينا من قتلك ومن جزيتك. وهكذا نجد حرص الصحابة y على أن يدخل الناس في دين الله، يتمنون أن يسلم كل الناس، ولا ينظرون إلى الغنائم أو الأرض أو الملك، إنهم يريدون لهؤلاء القوم أن يهتدوا إلى الإسلام.

وكان عند أبسط الجنود النظرة نفسها، فهذا الجندي الذي أسره رستم عندما كان معسكرًا في برس، قال رستم للجندي المسلم: ماذا جاء بكم؟ قال البطل المسلم: جئنا نبحث عن موعود الله: أرضكم ودمائكم وأبنائكم، إن أبيتم الإسلام. ولننظر إلى هذا الجندي البسيط من المسلمين، والذي لا نعرف اسمه، وليس رسولاً حتى يأمن على دمه ومعرض للقتل في أي لحظة، فيقول له رستم: إذن تموت دون ذلك. فيقول: إذا مت قبل ذلك كان موعدي الجنة، ومن بقي منا ظفر على من بقي منكم. قال رستم: قد وُضِعنا إذن في أيديكم. فقال البطل المسلم قبل أن يأمر رستم بقتله: ويحك يا رستم! إن أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها؛ فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تجاول الإنس؛ وإنما تجاول القضاء والقدر. وكان هذا هو فكر جندي بسيط، وبعد هذه الحادثة أمر رستم بقطع رقبته، فَقُطِعت واستشهد t دون أن نعلم مَن ذلك البطل المجاهد.

كان هدف الجيش كله الحرص على الإيمان، فكانوا يقبلون على قراءة القرآن يدوون بالقرآن إذا جَنَّ الليل دَوِيَّ النحل، وحقًّا كان الجيش الإسلامي جيشًا مؤمنًا، وجيشًا يريد أن يحقق النصر، ويعمل على أن ينال رضا الله حتى يُنزِلَ الله عليه النصر، وحرص سعد بن أبي وقاص في بداية المعركة أن يقرأ على الجيش سورة الأنفال، يذهب القراء فيقرءون سورة الأنفال فتهش القلوب، وتبدأ في طلب الجنة، وكانوا يُذَكِّرون المسلمين بموقعة بدر وما حدث فيها، ونزول سورة الأنفال فيها، وذكرهم سعد بن أبي وقاص t بقول: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأن يقولوها بقلوبهم قبل ألسنتهم؛ حتى يعلموا أنه لا نصر ولا معونة ولا مساعدة إلا من الله. هذا كان العامل الأول، وهو عامل الإيمان القوي الوثيق بالله I، وهذا قد أدى إلى نصر المسلمين في موقعة القادسية، ولكن النصر لم يكن ليأتي لولا أنْ أخذ المسلمون بالأسباب كاملة.

إن شاء الله في المقال القادم سوف نذكر كيف أخذ المسلمون بالأسباب في موقعة القادسية؟ وكيف كانت الخطة الإسلامية ناجحة بأكبر درجات النجاح؟ وعلى هذا الأساس نجح المسلمون في موقعة القادسية. ثم نذكر بعدها آثار انتصار المسلمين في القادسية، وهل رضي المسلمون بهذا النصر، واكتفوا به أم أكملوا خطوات الفتح؟ وما ردُّ فعل الجيش الفارسي على هذه الهزيمة النكراء؟ وما الموقعة الشهيرة التي ستأتي بعد القادسية؟
 
رد: فتوحات العراق وفارس

بعد القادسية



في الدرس السابق ذكرنا أن هناك معادلة إذا تحققت تحقق النصر، وهي الإيمان بالله والأخذ بالأسباب؛ فإذا تحقق هذان العاملان تم النصر للمسلمين على من ناوأهم من المشركين، مهما كانت قوتهم وعدتهم بالمقارنة لقوة المسلمين.

وتحدثنا فيه عن الإيمان بالله، وكيف كان متعمقًا في داخل كل جندي في الجيش من أصغر جندي حتى قائد الجيوش سيدنا ، وحتى قائد الأمة الإسلامية في ذلك الوقت سيدنا فكل وصية من وصاياه كانت تحمل معنى كبيرًا من الإيمان، وكل رسول إلى يزدجرد أو غيره من قواد الفرس كان ينقل لهم تلك المعاني، وكل جندي بسيط من جنود المسلمين كان يحمل الإيمان بين جنبيه ويُفهَم ذلك من كلامه، وكل شيء أمامه واضح فهو في المعركة يبتغي إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة؛ وبذلك حقق المسلمون الجانب الأول، والعامل المهم للانتصار في المعركة.

الأخذ بالأسباب من عوامل النصر :

ونذكر بإيجاز العامل الثاني في تحقيق النصر، وهو الأخذ بالأسباب:

لقد أخذ المسلمون بكل الأسباب في هذه المعركة حسب طاقتهم، وعملاً بقول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60].

فقد أعدوا العدة حسب الطاقة، وبدأ المسلمون التجهيز للمعركة في بدايات العام الخامس عشر الهجري، ووقعت الموقعة في شهر شعبان من العام نفسه، فاستغرق التجهيز للمعركة تسعة أشهر ونصف.

وقد أعدَّ سيدنا عمر بن الخطاب لهذه المعركة أكبر قوة للمسلمين، فلم يسمع ببطل من أبطال المسلمين في الجزيرة العربية إلا ألحقه بهذا الجيش، وأمدَّ الجيش بالأسلحة والأموال والخيول والعتاد، وألحق بالجيش الأطباء والشعراء والخطباء، ومن لهم كلمة عند الناس، ومن لهم سطوة وكل أمير، وأرسل في طلب المدد أيضًا من الشام بعد أن كتب الله النصر للمسلمين في الشام على الروم. واستنفد كل الطاقات البشرية لتجهيز الجيش الإسلامي في القادسية، وخرج بنفسه في بداية الأمر على رأس الجيش، لولا أن نصحه الصحابة بالبقاء في المدينة حتى لا يهلك المسلمون بهلكة عمر بن الخطاب إذا قتل في موقعة القادسية، واستبدل بخروجه سيدنا سعد بن أبي وقاص t من صحابة النبي وخامس من أسلم، وصاحب القدر العظيم في الإسلام.

وبعد الإعداد والتجهيز أخذ المسلمون في وضع خطة مناسبة، وفي وضع الخطة كان هناك آراء من سيدنا عمر بن الخطاب، والمثنى بن حارثة، وكل من دخل أرض العراق أن يكون القتال على أرض الصحراء.

واختار المسلمون القادسية مكانًا للمعركة رغم شدة هذا الأمر عليهم، فعسكروا في هذا المكان النائي في الصحراء منتظرين عبور الفرس إليهم ليحاربوهم على أبواب الصحراء كما وضعت الخطة، رغم بطء تقدم الفرس، فكانت الجيوش الفارسية تتقدم من المدائن بمعدل كيلو ونصف الكيلو متر في اليوم، إلا أن المسلمين كان لديهم صبر شديد، ودائمًا ما أرسل سيدنا عمر بن الخطاب الرسائل يحث فيها المسلمين على الصبر، وكان ذلك حديث الخطباء في القادسية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. فلم يكن هناك همجية في القتال أو عشوائية، بل كان أمر الحرب يسير وفق نظام معين وأُطُرٍ خاصة، حتى إن بعض المسلمين تحمسوا للعبور للفرس ودخول المعركة، وكان سيدنا سعد يقابل ذلك بتصبيرهم حتى تأتيهم جيوش الفرس، حتى إذا هُزِمَ المسلمون -لا قدر الله- تكون الصحراء من خلفهم يفرون إليها، وإذا هُزِم الفرس -بإذن الله- يكون في ظهرهم الأنهار والمستنقعات والأشجار، فيجد الفرس الصعوبة في الفرار من هذه الأرض المليئة بالحواجز الطبيعية، وكان ذلك توفيقًا من الله في اختيار الخطة والمكان والتوقيت.

ومن الأخذ بالأسباب في هذه المعركة إلحاق الكفاءة القتالية للمسلمين في هذه الموقعة، فالتحق بهذا الجيش أقوى المسلمين كفاءة في القتال، وقد ذكرنا من قبل الأبطال المشهورين كالقعقاع بن عمرو، وطليحة بن خويلد الأسدي، وعمرو بن معديكرب، والرُّبَيْل بن عمرو، و ، وخالد بن عرفطة، وسيدنا عاصم بن عمرو التميمي وغيرهم، وفي المبارزات الفردية في بدايات المعركة كان النصر حليفًا للمسلمين، فكانت لديهم مهارات قتالية بجوار قوة إيمانهم؛ مما جعلهم ينتصرون على أقرانهم من الفرس أيًّا كان هؤلاء القرناء، وقد قُتِل البيرزان قائد مؤخرة الفرس مبارزةً في بدايات القتال، وقُتِل أيضًا بهمن جاذويه في المبارزة.

كما أن من المهارات القتالية التي سجلت في موقعة القادسية دقة الرمي التي أطاحت بالفيل الأبيض وأصابت الفيل الأجرب، فهذه العمليات توضح كفاءة ومهارة المسلمين في القتال.

ومما سجل في موقعة القادسية الشجاعة الفائقة، وفي الحديث عن الشجاعة نذكر موقف طلحة بن خويلد الأسدي، وإن كان في موقفه شجاعة زائدة قد تكون تهورًا، إلا أننا نذكر أن الجيش الإسلامي كانت به كفاءات عالية في جميع مجالات القتال.

ومن ذوي الشجاعة في موقعة القادسية سيدنا عبد الله بن أم مكتوم الذي نال الشهادة وهو أعمى، وكان يحمل راية المسلمين، وأصرَّ على حملها في المعركة؛ لأنه لا يستطيع الفرار من المعركة لأنه لا يرى.

ونذكر أيضًا شجاعة سيدنا وأخيه عاصم بن عمرو في اجتياحهما الجيش الفارسي من العمق.

ومن الأخذ بالأسباب في موقعة القادسية الابتكارات المتكررة، ومن ذلك ابتكارات القعقاع بن عمرو في تقسيم الجيش إلى مجموعات؛ لِبَثِّ الحمية في قلوب المسلمين وبَثِّ الرعب في قلوب الفرس، ثم تسريب الجيش بالليل ومجيئه في اليوم الثاني في شكل مدد للجيش الإسلامي، ثم الجمال المُبَرْقَعة، ثم الخطط المتكررة في الموقعة حسب الموقف.

ومن الأخذ بالأسباب في موقعة القادسية الدقة المتناهية في متابعة الأمور، ومن ذلك ما حدث أثناء القتال في اليوم الثالث، فقد وصلت أنباء إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص أن هناك مخاضة في يمين الجيش الإسلامي تُمكِّن الجيش الفارسي من الالتفاف حول الجيش الإسلامي، ولا بد أن يقف عليها أحد المسلمين، فيأمر سيدنا سعد بن أبي وقاص طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معديكرب بالوقوف عليها، وذلك أثناء احتدام القتال.

ويلاحظ على الجيش الإسلامي الطاعة للأمير منذ خروجه من المدينة وحتى وصوله القادسية وفي أثناء القتال، ولم تظهر مخالفة الأمير ومعصيته إلا في بعض الأمور التي كانت محدودة للغاية وذكرنا ذلك بالتفصيل، ويكفي الجيش فخرًا أن تعدّ معايبه وذلك من قِلَّتها.
حكمة القائد:

ونذكر حكمة سيدنا سعد بن أبي وقاص القائد في التعامل مع معصية الجندي للقائد، وقد أُثِرَ في موقعة القادسية أربعة مواقف لهذه المعصية، وكان ردّ سيدنا سعد بن أبي وقاص مختلفًا من معصية لأخرى، وذلك بحسب المعصية التي حدثت من الجندي للأمير.
وأول هذه المواقف:

استكثار عمرو بن معديكرب تولي قيس بن هبيرة إمرته، وذلك عندما خرج عمرو بن معديكرب وطليحة بن خويلد الأسدي في معركة مع الفرس واشتبكوا في القتال، وأرسل سيدنا سعد قيس بن هبيرة لينقذ المسلمين وأمَّره على الجيوش الإسلامية، فاستكثر ذلك عمرو بن معديكرب، وقال: إن زمنًا تكون فيه أميرًا عليَّ لزمنُ سوء. فهذا اعتراض على الأمير ولم يصل إلى المعصية، فرأى سيدنا سعد بن أبي وقاص أن عمرو بن معديكرب ما زال بنفسه بعض آثار الجاهلية، وكان ردُّ سيدنا سعد على هذا الأمر بأن لامه على فعلته، ثم أخرجه في جيش تحت إمرة سيدنا قيس بن هبيرة مرة أخرى كنوع من التربية، ثم قال له: كيف رأيت أميرك؟ فقال: الأمير -يقصد سيدنا سعد بن أبي وقاص- أعلم منا بالرجال.

الموقف الثاني:

مخالفة سيدنا طليحة بن خويلد، ومحاربته للفرس رغم نهي سيدنا سعد بن أبي وقاص له عن الاشتراك في قتال مع الفرس إلا بعد أن يأذن له، فما كان من سيدنا سعد بن أبي وقاص إلا أن لامه على ذلك بشيء من الرِّقَّة؛ لأنه كان يعلم أن هذا الأمر يبغي به النصر للمسلمين ولم يكن فيه استكبار على رأي الأمير، وتأليفًا لقلبه أعطاه سيدنا سعد بن أبي وقاص عطايا فوق ما أخذه من أنفال، وقال عنه: إنه من أهل البلاء في القتال.

الموقف الثالث:

وكان هذا الموقف في بداية المعركة فقد شغب أبو محجن الثقفي على سيدنا خالد بن عرفطة، وكان هذا الأمر شديدًا جدًّا على المسلمين، فقد عصى الأمير في موقف القتال وأمام الفرس، فحبسه سيدنا سعد بن أبي وقاص في قصر قديس مع شدة حاجة المسلمين إليه؛ وكان من أشد المقاتلين ضراوة، ومن أبسل المسلمين في القتال، وقد اشترك في الموقعة خلسة من وراء سيدنا سعد بن أبي وقاص.

الموقف الرابع:

وكانت هذه المعصية من القعقاع بن عمرو التميمي لسيدنا سعد بن أبي وقاص في ليلة الهرير في اليوم الثالث من أيام القادسية، وكانت معصيته تتمثل في حملته على الفرس بعد التكبيرة الأولى ولم ينتظر التكبيرة الثالثة، وقد فعل ذلك اجتهادًا منه، فقد غلب على ظنه هجوم الفرس على المسلمين، وأن في ذلك هلكة للمسلمين، فما كان منه إلا أن سارع بالهجوم بفرقته على الفرس، فقال سيدنا سعد بن أبي وقاص: "اللهم اغفر له وانصره، قد أذنت له إذ لم يستأذني".

وهذه بعض الأسباب التي اسخلصناها من الموقعة، ومن يُعمِل فكره في كل موقف من مواقف المعركة سيخرج بفوائد ودروس وعبر.

الحرب النفسية ضد الفرس:

لقد هُزِمَ الفرس هزيمة نفسية ساحقة كان لها أثر في هزيمتهم في المعركة، وتعددت عوامل هذه الهزيمة على الفرس، فمنها: دعوة رسل المسلمين للفرس إلى الإسلام؛ وكان هذا الأمر شديدًا على نفوس الفرس. ومن أساليب الحرب النفسية التي اتخذها المسلمون في المعركة أنهم كانوا يبارزون بأشد المقاتلين ضراوة وبأسًا مما فَتَّ في عَضُدِ الفرس؛ لما رأوا قتلاهم صرعى في بداية المعركة.

ومما كان له أثر في انهيار عزيمة الفرس وضعف قوتهم قتلى الفرس الذين كانوا في أرض المعركة، والاستهانة الشديدة بالموت من قِبَلِ المسلمين، ولقد برهن المسلمون في أكثر من موقف على أن الموت أحب إليهم من الحياة، فكان هذا الأمر له عامل كبير في نفسية الفرس، ويُفهَم هذا الكلام من مقولة أحد الجنود -ولم يذكر لنا الرواة اسمه- لرستم: إنك يا رستم لا تُجاول الإنس، ولكن تُجاول القضاء والقدر. مع أن هذا الجندي كان أسيرًا ولم يكن مؤَمَّنًا على دمه، وبالفعل قتله رستم واستشهد

الطريق إلى المدائن :

ولم يكن غرض المسلمين من موقعة القادسية أو أي موقعة أخرى إبادة الخصم ثم الرجوع إلى مكة أو المدينة كما كانت تفعل العرب من قبل، وكما حدث في موقعة ذي قار، وكانت في مكان قريب من القادسية، وكانت الموقعة الوحيدة التي انتصر فيها العرب على الفرس، وبمجرد الانتصار عادوا إلى أماكنهم فرحين بما حققوه من نصر، لكن المسلمين لديهم نية فتح بلاد فارس ونشر الإسلام في ربوعها، فبمجرد انتصار المسلمين في القادسية بدأ استعداد المسلمين للوصول إلى "المدائن" عاصمة الفرس وعاصمة آل ساسان، وكانت أعز مدينة هي وعاصمة الروم في ذلك الوقت.

مكث المسلمون في القادسية شهرين بعد انتهاء موقعة القادسية، وكانت موقعة القادسية في منتصف شهر شعبان بداية من يوم الثالث عشر وحتى السادس عشر، وفي هذين الشهرين تمت معالجة جرحى المسلمين، وبلغ تعداد شهداء المسلمين في القادسية ثمانية آلاف وخمسمائة شهيد.

وأعاد سيدنا سعد بن أبي وقاص ترتيب الجيش والجنود، ومن المدينة كان سيدنا عمر بن الخطاب يتابع أخبار الجيش المرابط في الأراضي الفارسية ويرسل لهم المدد، فقد أصبح فتح الدول الفارسية وشيكًا بعدما آلت هذه الدولة للسقوط.

وبعد موقعة القادسية، وهزيمة الجيش الفارسي الكبير الذي بلغ تعداده مائتين وأربعين ألفًا، وقَتْل معظم قادته؛ فقد قُتِلَ رستم والجالينوس، وقُتِلَ بهمن جاذوية وقتل البيرزان وكانوا من أعمدة الجيش الفارسي، ولم يبقَ من قادة الفرس المشهورين في هذه المعركة غير الهرمزان ومهران الرازي والفيرزان، وقُتِلَ أربعون ألف فارسيٍّ في تلك الموقعة، وكان لذلك الأثر الشديد على القبائل العربية، فبعض القبائل الذين ترددوا في الخروج من قبل خرجوا للقتال لمساعدة الجيش الإسلامي في فارس، وبدأت الإمدادات تتوالى على سيدنا سعد، وقدمت الرسائل من المدينة بالتحرك من القادسية تجاه المدائن لفتحها، وكان صدور هذا الأمر في شهر شوال من العام السادس عشر من الهجرة، فتحرك الجيش الإسلامي على التعبئة نفسها التي كان عليها في القادسية، مع تغيير طفيف، فكان على المقدمة زهرة بن الحُوِيَّة، وعلى الميمنة عبد الله بن المعتم، والميسرة شرحبيل بن السمط، وكان على قلب الجيش خالد بن عرفطة الذي كان خليفة سيدنا سعد بن أبي وقاص، وكانت هذه التعبئة في موقعة القادسية، فأحدث سيدنا سعد تغييرًا طفيفًا فجعل خالد بن عرفطة على مؤخرة الجيوش بدلاً من مذعور بن عدي، وعلى قلب الجيش سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص قائد المدد القادم الذي أرسله سيدنا من الشام..

وقاد سيدنا سعد بن أبي وقاص الجيش بنفسه بعد أن شفاه الله من مرضه الذي ألَمَّ به في موقعة القادسية، وقدَّم سيدنا سعد بن أبي وقاص زهرة بن الحوية إلى المدائن مارًّا بمنطقة الكوفة، فكان تحرك الجيش كشكل القطار المقدمة ثم الميمنة ثم الميسرة ثم القلب ثم المؤخرة، وكان هذا الترتيب هو الذي يسير به سيدنا سعد بن أبي وقاص من مكان إلى مكان آخر، لكثرة الجيش الإسلامي، فقد وصل عدد الجيش الإسلامي بعد موقعة القادسية -وقبل أن يصل إلى المدائن- إلى ستين ألف مقاتل، وهي أكبر قوة إسلامية على ظهر الأرض، فلم يحدث من قبل أن تجمع هذا العدد للمسلمين.

تقدمت مقدمة المسلمين بقيادة زهرة بن الحوية، وقابلته فرقة فارسية وذلك قبل أن يصل إلى الكوفة لتقاتل الجيش الإسلامي، وكما يقول الرواة: فاجتاحها زهرة بن الحوية ووصلت إلى مدينة الكوفة.

وكانت العرب تطلق على كل أرض حمراء بها حصى صغير الكوفة، وهذا هو المعنى اللغوي لها، وبعد عام من هذا الوقت أنشأ المسلمون مدينة الكوفة.

وعسكرت مقدمة المسلمين في مدينة الكوفة ثم وصلت باقي القوات الإسلامية وعسكرت مع المقدمة، ثم أرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص زهرة بن الحوية مرة أخرى إلى المدائن باتجاه مدينة بُرْس، وكان الجيش يتحرك كتحركه السابق، وقبل أن تصل إلى "برس" بقليل قابلتها فرقة فارسية أخرى، وكانت هذه الفرقة أكبر من سابقتها، وكان على رأس هذه الفرقة بَصْبَهْرِي وكان من أمراء هذه المنطقة، وتقاتلت الفرقتين وبارز زهرة بصبهري وطعنه؛ فأصابه ولم يقتله ولكنه مات بعدها بأيام في بابل، وبمقتل بصبهري هزم الجيش الفارسي في هذه المنطقة، وتقدمت قوات زهرة بن الحوية إلى مدينة برس، ولما وصلها أتاه دهقانها -واسمه "بسطام"- بالصلح، وكان جنود رستم قد عاثوا في هذه المدينة بالفساد أثناء تحركهم من المدائن إلى القادسية، وضجَّ أهل برس بالشكوى إلى رستم؛ فقال رستم لجنوده: إن فعل العرب في مدينة برس لما دخلوها كان أفضل من فعلكم أنتم، وأن هذا الفعل سيؤدي بكم إلى الهزيمة. وصدق رستم فقد هزم الفرس بهذه الأفعال.

ويقع في شمال مدينة برس نهر النيل، وكانت موقعة البويب بقيادة سيدنا المثنى عند التقاء نهر النيل بنهر الفرات.

وكان هذا النهر عريضًا يصعب على المسلمين اجتيازه، وحتى يستطيع المسلمين عبوره أقام لهم "بسطام" أمير برس الجسور إظهارًا لولائه وطاعته للمسلمين؛ فعبر المسلمون من برس إلى منطقة بابل، وكان ذلك غير متوقع لجنود الفرس في هذه المنطقة التي كان بها تجمع كبير للفرس في انتظار الجيش الإسلامي، ولكن لم يتخيلوا أن الجيش الإسلامي سيعبر إليهم بهذه السرعة لوجود العائق المائي، وأراد الله غير ذلك وكان ما أراد الله.

علم زهرة بن الحوية بالتجمع الكبير في منطقة بابل؛ فقد أبلغه بذلك بسطام دهقان برس، فأرسل سيدنا زهرة بذلك إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص، وكان على رأس هذا التجمع الفيرزان الذي أصبح قائدًا عامًّا للجيوش الفارسية بعد مقتل رستم، وتعاهدت الجيوش الفارسية في بابل على الثبات وعلى الطاعة للفيرزان والقتال، وكان تحت إمرته في هذه الموقعة الهرمزان، والنخيرجان وكان من المفترض أن يتولى مكان بهمن جاذويه إلا أنه هرب من القادسية، ومهران الرازي، فكان بمنطقة بابل أكبر أربعة قواد في الدولة الفارسية، وقد تعاهدوا على عدم الفرار.

وكل هذه الانتصارات حققتها المقدمة الإسلامية فقط، وتقدمت المقدمة الإسلامية إلى بابل، واشتبكت في بابل مع جيش الفيرزان الذي تعاهد على عدم الفرار، وقبل أن يصل باقي الجيش الإسلامي هزمتهم المقدمة شر هزيمة، يقول الرواة: لقد هزمهم المسلمون في أقل من لفة الرداء.

وبعد هزيمتهم في بابل هرب الفرس ليتجمعوا في كُوثَى في شمال بابل، واستنجد الجيش الفارسي في بابل بالجيوش الفارسية الأخرى في المناطق المجاورة للدفاع عن كُوثَى، ولم تكن الفكرة في الاستنجاد بالقوات الفارسية للدفاع عن كُوثَى، بل كانت لإعاقة المسلمين عن التقدم إلى المدائن، فبعد فتح بابل لم يكن بين المسلمين والمدائن سوى خمسين كيلو مترًا، بينما تبعد مدينة كُوثَى أربعين كيلو مترًا فقط من المدائن.

ومن المدينة يضع سيدنا عمر بن الخطاب خطة لفتح المدائن، ورأى سيدنا عمر أن تجمُّع الفرس في كُوثَى فيه شدة على المسلمين، ففكر في فتح جبهة للقتال حتى يشتت قوى الفرس، وكانت مختلفة تمامًا عن خطة القادسية، فكانت خطة سيدنا عمر بإرسال إلى منطقة الأُبلَّة، وقد جرت بها موقعة من قبل، وكانت تسمى كاظمة ثم سمِّيت ذاتَ السلاسل بعد ذلك، وكان قائد المسلمين فيها سيدنا وكان النصر حليف المسلمين في هذه الموقعة، لكن قبل موقعة القادسية عمل سيدنا سعد بن أبي وقاص على جمع الجيوش الإسلامية المتواجدة في أرض فارس إلى القادسية، فتخلى المسلمون عن الأُبلّة، ووقعت في أيدي الفرس مرة أخرى، ونجحت خطة سيدنا عمر بن الخطاب ففتح الأبلة ببساطة شديدة، لكن الأهم من ذلك فقد استطاعت هذه الفرقة الصغيرة التي توجهت إلى الأبلة سحب جزء كبير من الجيش الفارسي بقيادة الهرمزان للدفاع عن الأبلة؛ فكانت الباب للدخول إلى منطقة الأهواز التي يحكمها.

ولما اقترب المسلمون من كُوثَى وشعر الفرس بالهزيمة التي ستلحق بهم اجتمع أصحاب الرأي من قادة الجيش الفارسي فاتفقوا على أن يذهب الهرمزان للدفاع عن أرضه ومكان حكمه، وعلى أن يذهب الفيرزان إلى منطقة نهاوند التي تقع في أعماق الدولة الفارسية، وكانت بها معظم كنوز كسرى، وكان قد نقلها لما شعر بقدوم المسلمين إلى المدائن، وانسحب مهران الرازي والنخيرجان إلى المدائن للدفاع عن المدائن وتركوا في منطقة كُوثَى شهريار أحد قادة الفرس الشجعان؛ ليدافع عنها ويعوق مسير المسلمين إلى المدائن.

ومرت مقدمة المسلمين بمنطقة تسمى الصراة، وانتصر فيها المسلمون انتصارًا سريعًا على فرقة فارسية صغيرة، ثم تقدمت نحو كُوثَى، فالتقت المقدمة مع جيش شهريار قائد الجيش الفارسي في هذه المنطقة، فخرج ليبارز وكان رجلاً ضخم الجثة، فنادى في المسلمين قائلاً: ألا فارس منكم شديد عظيم يخرج إليَّ حتى أُنَكِّلَ به. فقام إليه زهرة بن الحوية، وقال له: والله كنتُ سأخرج لك، ولكن سأخرج لك عبدًا حتى إذا فررت منه تكون فررت من عبد، وإذا قتلك يكون قتلك عبدٌ؛ قاصدًا إهانة شهريار، وليس في الإسلام فرق بين عبد وسيد، ولكن قصد بذلك بَثَّ الرعب والهلع في قلب هذا القائد وقلب جيشه، فخرج له سيدنا أبو نباتة بن جعشم الأعرجي وكان رجلاً شديدًا أيضًا، ويحكي الرفيل بن عمرو الفارسي الذي أسلم، فيقول: كان شهريار مثل الجمل، فلما رأى أبا نباتة ألقى الرمح ليعتنقه، وألقى أبو نباتة رمحه وانتضيا سيفيهما، واجتلدا به ثم اعتنقا وتصارعا فخرَّا عن فرسيهما، ووقع شهريار على أبي نباتة كالبيت فضغطه بفخذه، وبدأ بحل رداء أبي نباتة، فوقع إبهامه في فم أبي نباتة؛ فقضمه حتى حطم عظامه، فخارت قوته فحمله أبو نباتة، وأخذ خنجره، وكشف عن بطنه، وطعنه عدة طعنات حتى قُتِلَ، وبمقتل شهريار انهزم الجيش الفارسي وتفرق الجنود في البلاد.

وتقدمت الجيوش الإسلامية بعد الانتصار في كُوثَى إلى ساباط، وقبل الوصول إلى ساباط كانت توجد فرقة تسمى فرقة بوران (وبوران بنت لكسرى، ووليت عرش فارس في فترة من الفترات، وكانت من أحكم النساء الفارسيات) في ضاحية من ضواحي ساباط تسمى مظلم ساباط، وسميت بهذا الاسم لكثافة الأشجار التي تمنع أشعة الشمس من الوصول إلى هذا المكان، وكانت فرقة بوران إحدى الفرق الملكية التي كانت تقسم كل يوم قبل أن تنام وتقول: لا يزول عرش فارس ما عشنا.

وكان مع هذه الفرقة أسد مدرب على القتال، وأطلقه الفرس على المسلمين في منطقة ساباط، فتقدم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى الأسد بقلب لا يعرف الخوف، وقتله بعدة طعنات وأرداه قتيلاً، وأثر قتل الأسد على كتيبة بوران تأثيرًا شديدًا التي كانت تقسم ألا يزول عرش فارس ما عاشوا، وثبتت كتيبة بوران لقتال المسلمين ولم تفر حتى قتلت عن آخرها، وبعد انتصار المسلمين على كتيبة بوران وقتل الأسد يرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص إلى هاشم بن عتبة ويقبّل رأسه تكريمًا له، فينحني هاشم ويقبّل قدم سيدنا سعد بن أبي وقاص ويقول له: ما لمثلك أن يقبل رأسي.
فتح المدائن:

بعد الانتصار الساحق الذي حققه المسلمون تقدموا نحو المدائن، ولم يكن بينهم وبينها سوى ثلاثين كيلو مترًا، وكان الطريق خاليًا من أي فرق فارسية. وقبل أن نخوض غمار الحديث عن فتح المدائن نذكر نبذة عن المدينة، وسبب تسميتها بهذا الاسم.

"المدائن" : جمع مدينة فهي عبارة عن سبع مدن، وكانت عاصمة آل ساسان فترة طويلة من الزمان، وتقع خمس مدن منها في غرب نهر دجلة، ومدينتان في شرق النهر:

- مدينة بَهُرَسِير وهي أقدم وأكبر المدن السبعة، وعليها سور كبير وحصين، ومن أشد المدن قوة، وكانت تسمى "المدينة الدنيا"، وكانت المدينة السابعة تسمى "المدينة القصوى" في شرق نهر دجلة.

- مدينة ماخوذة وهي متاخمة لمدينة بَهُرَسِير، وتقع في جنوبها على نهر دجلة.

- مدينة درزنيرزان وهي في شمال منطقة بَهُرَسِير وكأنها داخله.

- مدينة ملاش أباد في جنوب مدينة بَهُرَسِير.

- مدينة سلوقية وتقع في الشمال في غرب نهر دجلة، وقد أنشأها شيرويه كسرى فارس على غرار مدينة أنطاكية الرومية، وقد أنشأها لما انتصر على الروم في حربه معهم، وكانت سلوقية تماثل مدينة أنطاكية تمامًا، حتى إن كل بيت في أنطاكية له شبيه في سلوقية، وأطلق فيها الحرية الدينية، وبَنَى فيها كنيسة تشبُّهًا بها، وكان فيها تجمع كبير من النصارى، وكان بها فرقة يهودية.

- مدينة طَيْسَفُون مقابل مدينة سلوقية.

- مدينة أسفنابر وكانت من أهم المدن في مدينة المدائن؛ لأن بها إيوان كسرى وبداخله عرش كسرى، وكان حولها سور ضخم للغاية، وكان بها غابات كثيرة، وفي المنطقة الشرقية منها ساحة للغزلان ليصطاد كسرى منه، ويفصل نهر دجلة بين هذه المدن، ويوجد بين بَهُرَسِير وأسفنابر جسر عائم؛ ليقطعه الفرس متى أرادوا، وقد قطعوه بالفعل بعد انسحاب مهران الرازي والنخيرجان إلى داخل المدينة القصوى ليقطعوا الطريق على المسلمين، وليعملوا على عدم تمكينهم من العبور إلى المدائن، وكان بداخل الإيوان يزدجرد الثالث كسرى فارس ظنًّا منه أن المسلمين لن يستطيعوا الوصول إلى هذا المكان الحصين.

وكانت منطقة المدائن التي دخلها المسلمون بكل يسر وسهولة، ممنوعة من الدخول للأجانب من نطاق يحيط بها يصل قطره إلى مائة وسبعين كيلو مترًا، وبعض الأماكن إلى مائتي كيلو مترٍ.

وكان بها خمس مدن محيطة بها على بُعْدٍ عظيم، فالقادم من الغرب يتوقف عند مدينة معينة، والقادم من دمشق يتوقف عند مدينة هيس على بُعد نحو مائةٍ وخمسين كيلو مترًا من المدائن، والقادم من الجزيرة العربية يتوقف عند عُذَيْب الهَجَّانَات جنوب القادسية على بعد مائة وسبعين كيلو مترًا من المدائن، والقادم من الشرق يتوقف عند مدينة حلوان على بعد مائتي كيلو مترٍ من المدائن، ولا يستطيع الدخول إلى المدائن إلا بإذن خاص، وكان لا يدخل إيوان كسرى إلا عدد قليل جدًّا، ومنهم سيدنا t من صحابة النبي، وفي المفاوضات والمناقشات دخل أربعة عشر مسلمًا، وكانوا رسلاً إلى يزدجرد.

وباقتراب الجيش الإسلامي تجاه المدائن سقطت مدينتا ماخوذة وملاش أباد، فقد تركها أهلها متجهين إلى بَهُرَسِير، وبدأ الفرس في تجهيز العُدَّة لقتال المسلمين، وفوجئ المسلمون بالأسوار الضخمة العالية والأبراج الحصينة عندما وصلوا إلى مدينة بَهُرَسِير، وبين الحين والآخر كانت تخرج بعض الفرق الفارسية على أبواب الحصن لقتال فرقة من المسلمين، ثم ترجع إلى الحصن مرة أخرى، وكان المسلمون يصيبون كثيرًا من هذه الفرق التي تناوِئُهم، وشدد المسلمون الحصار على مدينة بَهُرَسِير، واستمر الحصار شهرين كاملين، ورغم شدة الحصار والضوائق التي مرت بهم لم يستسلم أهلها -كما يقول الرواة- حتى أكلوا الكلاب والسنانير -جمع سِنَّوْر: الهِرُّ- من شدة الحصار المفروض عليهم، حتى توصل المسلمون إلى سلاح جديد لم يستخدموه من قبل، واستخدموه لأول مرة في فتوح فارس، وكانت له نتائج كبيرة منها انتصار المسلمين على هذه المدينة التي تقع على باب المدائن.
 
رد: فتوحات العراق وفارس

بارك الله بك اخي ونحن بانتظار تكملة الفتوحات
 
رد: فتوحات العراق وفارس

هذا ما نسميه في المنتدى التاريخ العسكري موضوع في القمة مثبت وتقييم مستحق
تنبيه فقط الى اصحاب النفوس المريضة اي خروج او تحويل للموضوع القانون واضح
 
رد: فتوحات العراق وفارس

هل بالامكان تعديل نوع الخط و حجمه في المشاركة الاولى تسهيلا للقراءه؟؟
 
رد: فتوحات العراق وفارس

هذا ما نسميه في المنتدى التاريخ العسكري موضوع في القمة مثبت وتقييم مستحق
تنبيه فقط الى اصحاب النفوس المريضة اي خروج او تحويل للموضوع القانون واضح


بارك الله فيك على تثبيت الموضوع
الموضوع بأذن الله لن يتحول عن مساره
التاريخي العسكري
 
رد: فتوحات العراق وفارس

هل بالامكان تعديل نوع الخط و حجمه في المشاركة الاولى تسهيلا للقراءه؟؟

لا يمكن ذلك من قبلي .. الآن .. وأنا اعرف بأن هناك مشكلة فيما يتعلق
بالمواضيع الطويلة بحيث يصعب النظر اليها لمدة طويلة بسبب
خلفية المنتدى الأبيض

هناك حل رائع أخي وهو نسخ ما تود قرائته من الموضوع في ملف world

بحيث تتمكن من التحكم في لون الخط وحجمه و خلفية الصفحة باللون الذي يناسبك

وهذا ما أفلعه أنا في بعض الاوقات عند قراءة مواضيع طويلة جدا
 
رد: فتوحات العراق وفارس

موضوع الله يبارك وممتاز
لكن راغب السرجاني هذا لا اتفق معه في كثير من كتاباته
 
رد: فتوحات العراق وفارس

فتح المدائن

فتح الفتوح

بين فتح المدائن وغزوة الخندق:

ذكرنا أنه بعد شهرين من الحصار توصل المسلمون إلى سلاح جديد يعينهم على فتح هذه المدينة الصعبة؛ فقد أشار بعض الفرس المسلمين على سعد بن أبي وقاص بأن يستعمل سلاح المنجنيق (والمنجنيق لم يكن معروفًا عند العرب، وهو نوع من الأسلحة الثقيلة يشبه الدبابات في عصرنا؛ فالمنجنيق جهاز ضخم جدًّا مثل المقلاع يلقي بالأحجار الضخمة داخل الحصون)، فصنع المسلمون أكثر من منجنيق، ووضعوها جنبًا إلى جنب على حدود مدينة بَهُرَسِير، وبدءوا في جمع الحجارة الضخمة ووضعها في مقلاع المنجنيق ورميها على مدينة بهرسير، وبدأت هذه الحجارة تتخطى السور، وتقع على أهل بهرسير.

صبر أهل بهرسير بعض الوقت، ولكن بعد أن زاد عليهم الضرب، وكثرت أسهم المسلمين المطلقة عليهم بدءوا يفكرون في الاستسلام، وبالفعل بعدما اقترب الشهران من نهايتهما، خرج رسول منهم يطلب الاستسلام، ولكن على أساس أن يصبح للمسلمين كل ما هو في غرب دجلة، وألا يقاتل الفرسُ المسلمين على هذه المنطقة بعد ذلك، وللفرس ما في شرق دجلة.

وهذا -بلا شك- لأنهم لم يفهموا الرسالة التي جاء بها المسلمون، فالمسلمون جاءوا لكي يفتحوا هذه البلاد حتى ينشروا الإسلام في كل الأرض؛ فحدود الفتح الإسلامي لن تقف عند دجلة، ولن تقف عند العراق، ولن تقف عند فارس، ولن تقف عند أية حدود، حتى يَعُمَّ الإسلام الأرض كلها.

وكان من الطبيعي أن يرفض المسلمون هذا العرض، فقال لهم الفرس: أما شبعتم، لا أشبعكم الله؟! فبدأ المسلمون يستكملون الضرب بالمجانيق والسهام على الفرس، فما كان من الفرس إلا أن تسللوا خلسة من مدينة بهرسير على هذا الجسر العائم من بهرسير إلى أسفانبر، وتركوا المدينة خالية، والمسلمون مستمرون في ضرب المدينة، ولم يعلموا أن المدينة خالية حتى خرج لهم أحد الفرس طالبًا الأمان، فأمَّنه المسلمون، فقال لهم: إن المدينة أصبحت خالية. وبالفعل تسلق المسلمون الأسوار، ودخلوا مدينة بهرسير؛ فوجدوها -فعلاً- خالية وبها كميات ضخمة من الأسلحة، وكميات ضخمة من العتاد، كان من الممكن أن تعين الفرس على الصبر على القتال والحصار، لكنهم فقدوا حمية القتال وفقدوا الروح القتالية، وانهزموا هزيمه نفسية شديدة أمام هؤلاء الأبطال المسلمين المصِرِّين على هذا الحصار؛ وهربوا جميعًا إلى منطقه أسفانبر.

دخل المسلمون بهرسير بعد أن تسلقوا الأسوار، فدخلت الجيوش الإسلامية الواحد تلو الآخر قرب منتصف الليل، وقد ذكرنا أن جيش المسلمين قد وصل في هذه الفترة إلى أكبر قوة إسلامية على وجه الأرض في هذه اللحظة، حيث بلغ قوامه ستين ألف جنديٍّ مقاتل مسلم، وقد كان أكبر جيش للمسلمين قبل ذلك جيش سيدنا أبي عبيدة بن الجراح في موقعة اليرموك حيث كان 38 ألفًا..

فبعد انتصار القادسية تَوَالى المدد على سيدنا سعد بن أبي وقاص من المدينة ومن كل الجزيرة العربية بعد أن كُسِرَت شوكة الفرس، وعلا شأن المسلمين، وبدأ المسلمون الذين كانوا مترددين في الخروج لقتال الفرس يخرجون للقتال مع الجيش الإسلامي، 60 ألف مقاتلٍ مسلمٍ عبروا هذا السور تسلقًا ودخلوا بهرسير، ولم يجدوا فارسيًّا واحدًا في المنطقة بأكملها، وأخذوا يزحفون على كل المدينة حتى وصلوا إلى شاطئ دجلة الغربي، ونظروا منه في منتصف الليل إلى الناحية الأخرى من الشاطئ، فوجدوا مدينة أسفانبر، فصاح ضرار بن الخطاب: الله أكبر! هذا أبيض كسرى، هذا ما وعد اللهُ ورسولُه.

فقد رأوا من هذه المنطقة على الناحية الأخرى إيوان كسرى، وهو بناء ضخم ارتفاعه ما بين 28 إلى 29 مترًا (أي نحو عشرة أدوار في هذا الوقت من الزمن حين كان العرب كلهم يسكنون في الخيام أو في بيت من دور واحد مبني من طوب لَبِن، لكن هذا البناء كان ارتفاعه من 28 إلى 29 مترًا)، وقبته البيضاوية كانت ضخمة للغاية، ويحيط بالبناء كله أشجار، لكن القبة تعلو فوق هذه الأشجار؛ لذلك رآها المسلمون وهم على شاطئ دجلة الغربي، وقد أوقد الفرس حولها المصابيح، فظهر إيوان كسرى أبيض متلألئًا وسط الجهة الأخرى؛ فصاح ضرار بن الخطاب: هذا ما وعد الله ورسوله. يتذكر ما وعد به الله ورسوله المسلمين في غزوة الخندق.
ونتذكر يوم الخندق:

وكان ضرار بن الخطاب هذا -وقتئذٍ- مشركًا، وكان في جيش قريش الذي يحاصر المدينة، ولكن ضرارًا علم بعد ذلك بهذا الوعد بعد أن أسلم، ونتذكر جميعًا ما حدث يومَ الخندقِ، ونسترجع معًا أن الرسول بعد أن وافق على اقتراح سيدنا بحفر الخندق حول المدينة، بدأ المسلمون جميعًا يحفرون في هذا الخندق حتى وصلوا إلى صخرة ضخمة استعصت على المسلمين، وكانت هذه الصخرة من نصيب سلمان الفارسي، فاستعصت عليه وكان شديد الساعد قوي البنيان، ومع ذلك لم يستطع تحطيم هذه الصخرة؛ فذهب إلى رسول الله يستأذنه في تغيير اتجاه الحفر ليتجنب هذه الصخرة، ولكن الرسول ذهب بنفسه وعاين الموقف والمكان، ثم طلب معولاً، وبدأ يحطم هذه الصخرة بنفسه؛ فضرب الصخرة ضربة شديدة بالمعول، فبدأت الصخرة تتفتت وخرج منها وهج شديد أضاء -كما يقول سلمان الفارسي t ما بين لابتي المدينة، يعني نوَّر المدينة كلها؛ فصاح الرسول: "الله أكبر! أُعطِيتُ مفاتيح الروم، هذه قصورها الحمراء"، ثم ضرب ضربة ثانية فأضاء المكان بشرر عظيم، فقال: "الله أكبر! أُعْطِيتُ مفاتيح كسرى، هذا أبيض كسرى".

وهذا الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن؛ ثم ضرب الضربة الثالثة، فقال: "الله أكبر! أعطيت لي مفاتيح اليمن، هذه قصور صنعاء". وبشَّر المسلمين في هذا الوقت وهم محاصَرون من قريش من كل جانب، والمسلمون يتخطفهم الخوف والجزَع والرعب من دخول المشركين عليهم المدينة، ومع ذلك -في هذا الوقت- يبشرهم أنهم سيفتحون بلاد الروم أعظم قوة على الأرض، ويفتحون فارس، ويفتحون اليمن؛ فيقول المؤمنون في هذا الوقت: هذا ما وعد اللهُ ورسولُه.

ثم يكرر المقولة ضرار بن الخطاب بعد أن أسلم، ويقول: الله أكبر هذا ما وعد الله ورسوله. سبحان الله! تأتي هذه المقولة منه، فتُذكِّر المسلمين بهذه البشرى العظيمة، ويبدءون في تكبير الفتح، وهو: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. لا إله إلا الله، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون".

هذا هو تكبير الفتح، وهذه الصيغة سنة عن الرسول أن تُقال في الفتح، وليس سنة أن تُقالَ في العيد؛ لأن تكبير العيد هو: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد فقط؛ ولكن المسلمين -لعذوبة هذه الكلمات- تعوّدوا أن يقولوها في العيد، وليس هذا هو الأصل.

بدأ ستون ألف مسلم يكبرون هذا التكبير في صوت واحد استبشارًا بفتح المدائن، وحتى الآن لم يعبر المسلمون إلى الناحية المقابلة، ويصل هذا التكبير إلى الناحية الأخرى إلى يزدجرد كسرى فارس، وإلى جنود فارس؛ فيزيدهم رعبًا فبدءوا يفكرون، فالمسلمون على الأبواب، وصوتهم صوت التكبير يرعب الفرس رعبًا شديدًا، وقد نُصِرَونُصِرَ أصحابُه بالرعب.
فتح مدينة أسفانبر:

بدأ الفرس يُصابون بالرعب رغم أنهم كانوا مستعدين لملاقاة المسلمين، فقد جمعوا السفن الموجودة في دجلة على مسافة 150 كيلو مترًا من المدائن جنوبًا، و170 كيلو مترًا من المدائن شمالاً على شاطئ دجلة أمام المدائن على الناحية الشرقية؛ حتى لا يستطيع المسلمون أن يسيطروا على أية سفينة من الشمال أو الجنوب، ليعبروا بها إلى الضفة الأخرى، كما قطع الفرس الجسر العائم عند عبورهم من مدينة بَهُرَسير إلى مدينة أَسْفَانِبْر. فماذا يفعل سيدنا سعد بن أبي وقاص t ليعبر بجيشه؟

هذا العبور كان -تقريبًا- في شهر مارس، وشهر مارس بداية الفيضان في نهر دجلة، ولكنه لم يكن قد وصل بعدُ إلى النهر، وكان في نهر دجلة بعض المخاضات التي من الممكن أن يسير فيها المسلمون؛ فأشار بعض الفرس على سيدنا سعد بن أبي وقاص أن يعبر بالجيش الإسلامي -وقوامه ستون ألفًا- نهر دجلة من إحدى هذه المخاضات، لكن سيدنا سعد بن أبي وقاص يتصف بالتريث والتمهل والحرص على الجيش الإسلامي؛ لذلك كان مترددًا ترددًا شديدًا في عبور هذا النهر العظيم بهذا الجيش، فلا سفينة ولا جسر ولا شيء يعينهم على العبور، ثم استخار الله ، ونام ليلة، فرأى رؤيا فيها خيول المسلمين تعبر نهر دجلة، والمياه تضرب في هذه الخيول (أي أن المياه شديدة والأمواج متلاطمة)، ومع ذلك رأى خيول المسلمين تعبر هذا النهر، فاستيقظ من النوم فقال: إن هذا ردُّ الاستخارة، وإن هذه الرؤيا رؤيا خير إن شاء الله. وقرَّر بعدها أن يعبر نهر دجلة بالخيول.

كان هذا -بلا شك- قرارًا عجيبًا أن يعبر بـ60 ألفًا بالخيول؛ فالخيول تجيد السباحة، لكن المسلمين أنفسهم لا يجيدونها في غالبيتهم؛ لأنهم يعيشون في الصحراء، ففي العبور -إذن- مخاطرة شديدة، لكن لم يكن أمام المسلمين حَلٌّ آخر يوصِّلُهم للناحية الثانية للمدائن وهم مصممون على فتح المدائن؛ فقرر سيدنا سعد بن أبي وقاص t العبور، بينما كان يزدجرد في الناحية الأخرى مطمئنًّا تمام الاطمئنان أن المسلمين لن يعبروا هذه المنطقة قبل أربعة أو خمسة شهور على الأقل؛ لأن الفيضان ينتهي في أوائل أكتوبر وتبدأ المياه عندها في التراجع. ويتمكن المسلمون من عبور النهر على الخيول، وعندما بدأ الجيش بالعبور فاجأهم الفيضان قبل موعده بأسبوعين أو ثلاثة، ولكن سيدنا سعد بن أبي وقاص لم يمنعه هذا الفيضان أن ينفذ وعده للمسلمين بعبور هذا النهر؛ فجمع المسلمين كلهم، وقال لهم: "إني قد قررت أن أعبر بكم هذا النهر، فما زلتم في هذا المكان وهم في المكان الآخر ومعهم السفن يناوشوكم". يعني: ما دامت السفن معهم سيظلون في هجوم دائم عليكم في كل وقت ويرجعون، ولكن لو عبرنا لهم فسوف تكسر شوكتهم في مدينتهم؛ فوافق المسلمون على ذلك، وهذا الموقف يشبه موقف قائد الجيش السابع من جيوش الردة لسيدنا أبي بكر الصديق ، وكان قد فتح البحرين عبورًا كذلك على الخيول من غير سفينة ولا شيء؛ فقد ذكرنا أنه عندما ذهب ليفتح البحرين فَرَّ الناس بالسفن، فعبر الخليج العربي إلى البحرين بالخيول، لكن العلاء كان معه جيش من ألفين، أما سيدنا سعد فمعه ستون ألفًا.

بدأ الجيش في العبور -ويعلم سيدنا سعد بن أبي وقاص أن الفرس قد وضعوا على حدود مدينة "أَسْفَانِبْر" خارج السور على شاطئ نهر دجلة قوات فارسية للدفاع عن مدينة أَسفانبر، وهو يريد أن تصل أقوى فرقة من فرق المسلمين إلى شاطئ دجلة في الناحية الثانية حتى تلاقي هذا الحرس الفارسي لقاءً قويًّا عنيفًا- وكان عند سيدنا سعد بن أبي وقاص كتيبة تسمى "الخرساء" وهي أقوى كتائب المسلمين، وكان سيدنا سعد بن أبي وقاص يوكل لها المهام الصعبة، وتُسَمَّى الخرساء؛ لأنها كانت تخرج على الجيوش المعادية بدون صوت غير الهجوم المفاجئ على الجيوش المعادية دون أي تنبيه أو إنذار بالهجوم، وكان قائد هذه الكتيبة سيدنا .

لم يرضَ سيدنا سعد بن أبي وقاص أن يأمر كتيبته الخرساء بالهجوم في أول دجلة؛ لأنه يعلم أن الأمر في منتهى الصعوبة، فآثر أن يكون هذا الأمر تطوعًا، وأعلن في المسلمين أنه من يريد أن يتطوع لعبور دجلة في مقدمة الصفوف فليتطوع؛ فتقدم له من المسلمين 600 متطوع تقدموا ليكونوا أول أناس تعبر دجلة، فأطلق عليهم سعد بن أبي وقاص "كتيبة الأهوال"، وأي هولٍ أكثر من أن يعبروا نهر دجلة على الخيول وفي مقابلتهم الجيش الفارسي على الضفة الأخرى في وقت الفيضان؟!

وبالفعل بدأ الـ 600 يجهزون أنفسهم للعبور، وأُمِّرَ عليهم سيدنا عاصم بن عمرو التميمي t البطل المسلم الذي له في كل موقعة ذِكْرٌ. أَمَرَ سيدنا عاصم كتيبته أن يتخذوا من أنفسهم 60 فردًا؛ ليكونوا في مقدمة الـ 600، وهؤلاء الـ 600 في مقدمة الـ 60000؛ فخرج له ستون فارسًا من فرسان المسلمين الأشداء، وطلبوا أن يكونوا على مقدمة الصفوف، فخرج بهم سيدنا عاصم بن عمرو التميمي، واقتحم بهم دجلة t، وأمر الجيش بأن يشرع الرماح، ويلقي بالرماح في عيون الفرس، ويقول لهم: لا تضربوا الفرس في أي مكان، ولكن اضربوهم في العيون.

وهذا الأمر قد تكرر من قبل في موقعة الأنبار، فقد أمر سيدنا الجيوش الإسلامية في هذه الموقعة أن تلقي بالسهام في عيون الفرس؛ فأصابوا منهم في ذلك الوقت ألف عين، وسميت موقعة الأنبار بذات العيون؛ لأنه فُقِئَ فيها ألف عين للفرس، فأراد سيدنا عاصم بن عمرو التميمي أن يلقي الرعب والرهبة في قلوب الفرس من مهارة المسلمين في رمي السهام والرماح، كما يريد أن يعطل قدراتهم القتالية، فإذا لم يُقْتل الواحد منهم، فإنه يصير أعور، ويترك القتال.

وبالفعل تقدم ستون وتبعهم الستمائة، وبقي الستون ألفًا واقفين على الشاطئ ينظرون: ماذا سيفعل هؤلاء الأبطال الستمائة؟! وبدأ سيدنا عاصم يقتحم دجلة بالخيول، وأذهلت المفاجأة الفرس؛ إذ كيف يأخذ المسلمون خيولهم مقتحمين دجلة وسط الفيضان.

هذا شيء لم يكن يخطر لهم على بالٍ أبدًا، وبدءوا في إنزال قوات فارسية على خيول أيضًا؛ لتقاتل المسلمين في المياه. فرقٌ كبير جدًّا بين القوات المسلمة على الخيول، وبداخلهم روح عظيمة جدًّا؛ فهم منتصرون في موقعة القادسية، وعندهم إيمان شديد بأن الله سيفتح عليهم هذه البلاد، ويفتح عليهم أبيض كسرى الذي وعد اللهُ به ورسولُه، وبين الفرس الذين تملؤهم هزيمة نفسية قاسية؛ فهم قد هُزِمُوا هزيمةً شديدةً في موقعة القادسية، كما هربوا من مدينة بهرسير ذات الأسوار العظيمة، وتجمعوا في مدينة المدائن منتظرين الجيوش الإسلامية، إحساس المنتصر يختلف عن إحساس المنهزم، أضف إلى ذلك أن المهارة الإسلامية تفوق المهارة الفارسية في القتال، وكذلك تفوق الخيول الإسلامية الخيول الفارسية؛ فاجتمعت هذه العوامل جميعًا، ودخل الفرس في حرب خاسرة منذ البداية مع المسلمين وسط المياه، والتقى المسلمون مع الفرس بالرماح، وشهروا الرماح في أعين الفرس؛ ففقئوا منهم العيون، وصار الفرس بين قتيل وأعور وفارٍّ من المسلمين، وكان الأولى والأكثر حكمة في القتال أن يصبرَ الفُرْسُ على وجودهم على الشاطئ ليُلْقُوا على المسلمين السهام، ويتريثوا بعدم الدخول مع المسلمين في موقعة بعد أن أدركوا قيمة المقاتل المسلم.

وقد جعل اختلاط المسلمين بالفرس في القتال داخل المياه القوات الفارسية التي على الشاطئ عاجزةً عن رمي الأسهم على الجيش المسلم؛ فانتصر المسلمون عليهم انتصارًا عظيمًا، وعبر سيدنا عاصم بن عمرو التميمي والستمائة مقاتل الذين معه نهر دجلة، ووصلوا الشاطئ الشرقي لنهر دجلة؛ ليقاتلوا القوات الفارسية الموجودة على الجهة الأخرى، وسيدنا سعد بن أبي وقاص على الناحية الأخرى يراقب الموقف، ويكبر هو والمسلمون كلما زاد تقدم المسلمون، وذلك يزيد حميَّة وحماسة الجيش المسلم، ويَفُتُّ في عَضُدِ الجيش الفارسي، وبدأ المسلمون يُعمِلُون سُيُوفَهم في الرقاب الفارسية خارج أسوار "أسفانبر" على الشاطئ الشرقي لنهر دجلة، حتى أتاهم رجل من داخل مدينة أسفانبر من داخل السور، ونادى على الفرس قائلاً: علامَ تقتلون أنفسَكم؟! ليس في المدينة أحد، كل من بالمدينة هربوا. وعندما سمع الفرس هذا الكلام انهزموا هزيمة نفسية شديدة، وبدءوا يفِرُّون من أمام القوات الإسلامية.

وشاهد ذلك سيدنا سعد بن أبي وقاص فأمر الستين ألفًا بعبور دجلة على خيولهم، وبدأت القوات الإسلامية تعبر دجلة، وسيدنا سعد بن أبي وقاص يقول لهم: اعبروا مَثْنَى مَثْنَى. أي اثنين اثنين؛ وذلك حتى يكونا عونًا لبعضهما البعض؛ فإذا سقط أحدهما في الماء، أو غرق يستطيع الآخر أن يساعده، أو يخبر المسلمين عنه، وأمرهم أن يقولوا: "نستعين بالله، ونتوكل عليه، حسبنا الله ونِعْمَ الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". فهذا دَيْدَنُ الجيش الإسلامي وهو يعبر دجلة، وكان في موقعة القادسية قد أوصاهم أن يقولوا: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فهم في كل موقعة لهم ذِكْرٌ لله I، يستشعرون به مساعدة الله I ونصره لهم.
هروب كسرى فارس:

فيعبر المسلمون مثنى مثنى في هذا الوقت إلى مدينة "أسفانبر"، وقصرها الأبيض قصر بوابته شرقية مواجهة لدجلة، وفي هذا الوقت كان كسرى فارس يهرب من هذا الموقف الرهيب: موقف ملاقاة المسلمين، حيث هرَّبوه في زبيل (وهو شيء مثل القفة أو يشبه الجوال، يدخلوه فيه حتى لا يراه أحد) من الباب الخلفي لقصره، ويهرب خارج الأسوار إلى مدينة حلوان على بُعْدِ 200 كيلو مترٍ من المدائن، وهذه هي المرة الثانية التي يُوضع فيها كسرى فارس في زبيل أو قُفَّة؛ فالمرة الأولى عندما كان صغيرًا، فقد كان كسرى أنوشروان يقتل كل الناس الذين يستحقون الملك حتى لا ينافسه أحد في ملك فارس، فهربت به أمه ووضعته في قُفّة، وخرجت به من هذا القصر نفسه، وهربت به واختفت في أهل فارس حتى أَتَى به أهل فارس، وعيَّنوه كسرى فارس ولم يكن يرغب في ذلك؛ فقد كان عمره 23 سنة عندما ملّكوه عليهم.

كان سيدنا سعد بن أبي وقاص يعبر هو والجيش مثنى مثنى، وكان الذي يعبر معه سيدنا سلمان الفارسي ، وهذا أمر لا بُدَّ أن نقف كلنا أمامه وقفة مهمة.
وقفة مع سيدنا سلمان الفارسي

سلمان الفارسي -كما نعرف جميعًا- من فارس، فهذه إذن بلده، وهذه قوميته، وهذه عشيرته وأهله وأقاربه، لكنهم على دين المجوسية، وكلهم على عبادة النار؛ فأصبح أهل سيدنا سلمان الحقيقيون هم المسلمون، حتى إن سيدنا سلمان الفارسي في موقعة الخندق -من عظم شأنه وسط المسلمين- يختلف عليه الأنصار والمهاجرون، فالأنصار يقولون: سلمان مِنَّا. والمهاجرون يقولون: سلمان مِنَّا. فيصعد به سيدنا رسول الله فوق كل هذه الطوائف، سواء المهاجرين أو الأنصار، ويقول: "سلمان منَّا أهل البيت"؛ فيجعله سيدنا رسول الله من أهل بيته تشريفًا له، فسلمان الفارسي هذا جعل قوميته، وجعل دينه، وجعل عصبيته كلها للإسلام، ودخل بلاد الفُرْسِ فاتحًا بلاده في صَفِّ المسلمين.


سيدنا سلمان الفارسي له قصة لا بد لنا جميعًا أن نعرفها حتى ندرك المجهود الذي وصل به سيدنا سلمان إلى هذه المكانة، لدرجة أن يعبر نهر دجلة بجوار سيدنا سعد بن أبي وقاص ليفتح فارس، ونترك سيدنا سلمان يروي لنا قصته؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ حَدِيثَهُ مِنْ فِيهِ قَالَ:

"كُنْتُ رَجُلاً فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا: جَيٌّ، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ، وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ، أَيْ مُلازِمَ النَّارِ كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ، وَأَجْهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطَنَ النَّارِ الَّذِي يُوقِدُهَا لا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً. قَالَ: وَكَانَتْ لأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ. قَالَ: فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ فِي بُنْيَانٍ هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي، فَاذْهَبْ فَاطَّلِعْهَا. وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلاتُهُمْ وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ، وَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ. فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي وَلَمْ آتِهَا، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: بِالشَّامِ. قَالَ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ، قَالَ: فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، أَيْنَ كُنْتَ؟ أَلَمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتِ، مَرَرْتُ بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ. قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ. قَالَ: قُلْتُ: كَلاَّ وَاللَّهِ، إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِنَا. قَالَ: فَخَافَنِي فَجَعَلَ فِي رِجْلَيَّ قَيْدًا، ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ.

قَالَ: وَبَعَثَتْ إِلَيَّ النَّصَارَى، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى، قَالَ: فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلادِهِمْ فَآذِنُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلَيَّ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: الأَسْقُفُّ فِي الْكَنِيسَةِ. قَالَ: فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ أَخْدُمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ، وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ وَأُصَلِّي مَعَكَ. قَالَ: فَادْخُلْ. فَدَخَلْتُ مَعَهُ، قَالَ: فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا، فَإِذَا جَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْهَا أَشْيَاءَ اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ. قَالَ: وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ، ثُمَّ مَاتَ فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ؛ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا، فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا. قَالُوا: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ. قَالُوا: فَدُلَّنَا عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ. قَالَ: فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلالٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا. قَالَ: فَلَمَّا رَأَوْهَا، قَالُوا: وَاللَّهِ لا نَدْفِنُهُ أَبَدًا. فَصَلَبُوهُ ثُمَّ رَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ.

ثُمَّ جَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ فَجَعَلُوهُ بِمَكَانِهِ، قَالَ: يَقُولُ سَلْمَانُ: فَمَا رَأَيْتُ رَجُلاً لا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَلا أَرْغَبُ فِي الآخِرَةِ، وَلا أَدْأَبُ لَيْلاً وَنَهَارًا مِنْهُ. قَالَ: فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَهُ، وَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَكَ وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا الْيَوْمَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، لَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا، وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ رَجُلاً بِالْمَوْصِلِ وَهُوَ فُلانٌ فَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ فَالْحَقْ بِهِ. قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ، إِنَّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ. قَالَ: فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ، إِنَّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنَ اللَّهِمَا تَرَى، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلاً عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلاَّ بِنَصِيبِينَ وَهُوَ فُلانٌ، فَالْحَقْ بِهِ.

قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ، فَجِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِي وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي، قَالَ: فَأَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ، فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ، فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ، فَلَمَّا حَضَرَ، قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ، إِنَّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إِلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إِلاَّ رَجُلاً بِعَمُّورِيَّةَ؛ فَإِنَّهُ بِمِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ، قَالَ: فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا. قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُّورِيَّةَ وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ مَعَ رَجُلٍ عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ. قَالَ: وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ. قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ، فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلانٍ فَأَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَى فُلانٍ، وَأَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَى فُلانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلامَاتٌ لا تَخْفَى، يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ؛ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلادِ فَافْعَلْ. قَالَ: ثُمَّ مَاتَ وَغَيَّبَ فَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّارًا، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي، حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِي الْقُرَى ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَبْدًا، فَكُنْتُ عِنْدَهُ وَرَأَيْتُ النَّخْلَ، وَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي وَلَمْ يَحِقْ لِي فِي نَفْسِي، فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَابْتَاعَنِي مِنْهُ، فَاحْتَمَلَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي فَأَقَمْتُ بِهَا، وَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ لا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ، مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ وَسَيِّدِي جَالِسٌ إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ فُلانُ: قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ، وَاللَّهِ إِنَّهُمُ الآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ الْيَوْمَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ. قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ حَتَّى ظَنَنْتُ سَأَسْقُطُ عَلَى سَيِّدِي. قَالَ: وَنَزَلْتُ عَنِ النَّخْلَةِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ لابْنِ عَمِّهِ ذَلِكَ: مَاذَا تَقُولُ؟! مَاذَا تَقُولُ؟! قَالَ: فَغَضِبَ سَيِّدِي؛ فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً. ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلِهَذَا؟! أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ. قَالَ: قُلْتُ: لا شَيْءَ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَ عَمَّا قَالَ.

وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ بِقُبَاءَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ. قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لأَصْحَابِهِ: "كُلُوا". وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي هَذِهِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا. قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي هَاتَانِ اثْنَتَانِ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ، قَالَ: وَقَدْ تَبِعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ شَمْلَتَانِ لَهُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ اسْتَدَرْتُهُ عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي. قَالَ: فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ، فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ: "تَحَوَّلْ". فَتَحَوَّلْتُ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي كَمَا حَدَّثْتُكَ يَابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ بَدْرٌ وَأُحُدٌ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ: "كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ". فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلاثِ مِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ، وَبِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لأَصْحَابِهِ: "أَعِينُوا أَخَاكُمْ". فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ، الرَّجُلُ بِثَلاثِينَ وَدِيَّةً، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَالرَّجُلُ بِعَشْرٍ (يَعْنِي: الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ) حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلاثُ مِائَةِ وَدِيَّةٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ: "اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقِّرْ لَهَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ". فَفَقَّرْتُ لَهَا وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْهَا جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ مَعِي إِلَيْهَا، فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ بِيَدِهِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ، مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَغَازِي، فَقَالَ: "مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ؟" قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: "خُذْ هَذِهِ، فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ". فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ قَالَ: "خُذْهَا، فَإِنَّ اللَّهَسَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ". قَالَ: فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا، وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ وَعُتِقْتُ، فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ الْخَنْدَقَ، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ". أخرجه أحمد في مسنده.

بعد هذه الرحلة الطويلة المريرة في البحث عن الحقيقة يدخل سيدنا سلمان الفارسي -الآن- المدائن فاتحًا بعدما خرج منها قبل ذلك هاربًا من أبيه، ومن المجوسية قبلَ سنوات طويلة باحثًا عن الحقيقة، وبعد وقت قصير سيكون أميرًا للمدائن بأمر سيدنا .

يعبر الستون ألفًا نهر دجلة، ولم يفقد المسلمون جنديًّا واحدًا في العبور، وإنما سقط أحدهم في المياه، فأدركه القعقاع بن عمرو التميمي وجذبه، ثم وضعه على حصانه ثانيةً؛ فقال له هذا الرجل: يا قعقاع، أعجزت النساء أن يلدن مثلك؟! وهذا من فضل الله أن يدخل ستون ألفًا المياه ويخرجوا مثلما دخلوا!! وأول من يدخل مدينة أسفانبر فرقة أو كتيبة الأهوال، فتعبر السور إلى داخل المدينة وتفتح الأبواب الضخمة للمسلمين، وتدخل خلفَ كتيبةَ الأهوالِ كتيبةُ الخرساء، ثم يتبع كتيبة الخرساء جيش المسلمين بالكامل فيدخل مدينة أسفانبر ذات الشوارع العريضة والبيوت الضخمة العظيمة، ويتجولون في المنطقة فلا يجدون أحدًا من الفرس مطلقًا باستثناء اثنين من الفرس فقط، يبدو أن الحمية أخذتهما فمنعتهما من الهرب، أو -وهذا هو الظاهر- أنهما قد جُنَّا، وكانا مستغرقَيْنِ في استعراضات أمام المسلمين؛ فواحد منهما بيده كرة يرميها لأعلى، والثاني يضرب الكرة بالسهم، فيصيب الكرة في السماء؛ فهذا استعراض يَشِي بالمهارة والدقة في الرمي، فتقدم رجل من المسلمين اسمه أبو اليزيد المضَارِب، ودخل عليهما فأطلق الفارسيان عليه السهام فلم يصيباه، وهو أقرب من الكرة الطائرة؛ وهذا من اضطراب أعصابهم، وتوفيق الله I حتى يصل إليهم أبو اليزيد المضارب هذا ويقتل الاثنين بضربة واحدة، ثم يتجول المسلمون حتى يصلوا إلى القصر الأبيض إلى حدود إيوان كسرى، وكان سيدنا سعد بن أبي وقاص أثناء سيره يردّد قول الله : {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 25-29]، فيتلو هذه الآيات، وهو مستشعر تمام الاستشعار أن الله تعالى أذلَّ الفرس لعدم طاعتهم لله ، ونَصَرَ المسلمين لتمسكهم بدين الله ، يتلو هذه الآيات من منطلق هذه العزة، ويتقدم نحو القصر الأبيض.​

دخول المسلمين إيوان كسرى:

القصر الأبيض كان الحصن الوحيد الذي يوجد بداخله بعض الفرس المتحصنين الذين لم يشتركوا في القتال، يعز عليهم أن يفارقوه، وربما لم يستطيعوا الهرب منه، هذا القصر الأبيض قد ذكرنا من قبل أن ارتفاع سوره من 28 إلى 29 مترًا، والقبة البيضاوية التي كانت في وسطه أبعادها 25 مترًا × 43 مترًا. والمبنى كان كله أبيض، وعليه نقوش كثيرة، ورخام وفسيفساء وأحجار كريمة، وكان مزينًا بزينة عظيمة، وحول هذه القبة الكبيرة قباب كثيرة على الجانبين، والسور كله ليس به أية نوافذ، بل كان مُصْمَتًا؛ وذلك تأمينًا للقصر.

حاصر المسلمون القصر حصارًا بسيطًا؛ لأنه لا يوجد بداخله أحد يضرب عليهم بالسهام أو غيره، لكن بداخله بعض الفرس، فيذهب إليهم سلمان الفارسي، ويقول لهم: أنا منكم، اقبلوا واحدة من ثلاث: إما الإسلام وتكونون منَّا؛ لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإما الجزية ونمنعكم، وإما المنابذة. ويعطيهم مهلةً ثلاثة أيام كما علَّمهم رسولُ الله.

وفي اليوم الثالث يخرج هؤلاء الفرس، ويقبلون دفع الجزية للمسلمين؛ فيدخل سيدنا سعد بن أبي وقاص بعد فتح القصر، ويتبعه المسلمون داخل القصر الأبيض أو قصر إيوان كسرى، الذي لم يدخله أحد قبل ذلك غير الوفد المكون من أربعة عشر الذين ذهبوا لزيارة كسرى منذ فترة يدعونه إلى الإسلام، وقام سيدنا سعد بن أبي وقاص بمجرد دخوله القصر بأداء صلاة الفتح، وهي ثماني ركعات متصلة لا يفصلها تسليم، ولا تُصلَّى جماعة، وإنما تُصلَّى فرادى، وكان دخول القصر في يوم الجمعة 19 من صفر سنة 16هـ، وكان المسلمون قد أَذَّنوا لإقامة صلاة الجمعة، وهذه أول مرة يصلي فيها المسلمون صلاة الجمعة منذ دخولهم أرض العراق، فمنذ مَقْدِم سيدنا خالد بن الوليد سنة 12هـ حتى هذه اللحظة لم يصلوا الجمعة، وإنما كانوا يُصلُّون دائمًا الظهر قصرًا، أي جمع الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء؛ لأنهم كانوا دائمًا على سفر، ولكن سيدنا سعد بن أبي وقاص بمجرد دخوله المدائن اعتبر نفسه مقيمًا، وأن المدائن هي البلد التي سيتخذها المسلمون مقامًا بعد أن كُسِرَتْ شوكة الفرس، وبذلك أصبحت المدائنُ مدينة للمسلمين، يقيمون فيها كبقية بلادهم مثل: المدينة المنورة ومكة المكرمة، وكسائر بلاد المسلمين؛ ولذا أتم الصلاة في ذلك اليوم، وصلَّى الجمعة، كما صلَّى المغرب والعشاء كل فرض في وقته دون جمع أو قصر.

كانت هذه أول مرة بعد أربع سنوات من الجهاد المستمر، ثم بدأ سيدنا سعد بن أبي وقاص في جمع الغنائم، وكانت مهمة شاقة جدًّا على المسلمين؛ لأن الغنائم ليس لها حصر، وكمياتها ضخمة، كما أن الفرس قد هربوا ببعض الغنائم، فيأمر سيدنا سعد بن أبي وقاص على إحضار هذه الغنائم سيدنا عمرو بن عمرو بن مقرن المزني -وهو ابن أحد الإخوة العشرة الذين اشتركوا في حروب فارس وذُكِرُوا فيها كثيرًا- كما أطلق سيدنا زهرة بن الحُوِيَّة قائد مقدمة المسلمين في متابعة الفرق الفارَّة من الفرس للقبض عليهم، وإحضار الغنائم التي هربوا بها، وبدأ المسلمون يجمعون الغنائم، ولم يكن سيدنا سعد بن أبي وقاص يرغب في تقسيم الغنائم إلا عندما تكتمل كلها، وهذه الغنائم في الحقيقة كان لها ذكر طويل في كتب التاريخ، ووُصِفت بصفاتٍ عظيمة. وبسقوط المدائن استسلمت بقية المدن بدون قتال.




 
رد: فتوحات العراق وفارس

فتح جلولاء وتكريت


لما بدأ المسلمون في جمع الغنائم من مدينة المدائن وكان عملاً شاقًّا؛ لأن المدائن مدينة كبيرة وكلها كنوز لكسرى، وكلها أموال غير ما هرب به جيش كسرى، وما هرب به يزدجرد نفسه من المدائن إلى مدينة حلوان كما ذكرنا من قبل، وقد اتخذها يزدجرد مقرًّا له بعد سقوط المدائن، وكانت تبعد عن المدائن بنحو مائتين وعشرين كيلو مترًا.

وتولى أمر جمع هذه الغنائم عمرو بن مقرن أخو النعمان بن مقرن، وبدأ في جمع الغنائم من قصر كسرى الأبيض، وكانت الغنائم ضخمة جدًّا تحدث عنها الرواة فترات وفترات، ويذكر حبيب بن صهبان، قال: دخلنا المدائن فأتينا على قباب تركية مملوءة سلالاً مختمة بالرصاص، فما حسبناها إلا طعامًا، فإذا هي آنية الذهب والفضة، وكان عدد الدراهم الموجودة في قصر كسرى ثلاثة آلاف مليون درهم، أي ثلاثة بلايين درهم جمعها كسرى ومن سبقه، وتعثر عليه وعلى جيشه أن يحملوا كل هذه الأموال.

استطاعت فرق الجيش الإسلامي التي خرجت تتابع الفرق الهاربة من الفرس أن تحصل على بعض الغنائم، واستطاع سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي أن يلحق بحامية فارسية وقاتلها وحصل منها على خمسة دروع وستة أسياف، ولم تكن أيَّة الدروع وأيَّة أسياف!! بل كان من بين هذه الدروع والأسياف سيف ودرع كسرى، وسيف ودرع هرقل، وكان الفرس قد غنموهما من الروم قبل ذلك، ودرع وسيف خاقان ملك الترك، ودرع وسيف ملك الهند، ودرع وسيف النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وقد أخذهما كسرى لما مات النعمان بن المنذر، وخَيَّر سيدنا سعد بن أبي وقاص القعقاع بن عمرو بين السيوف فاختار سيف هرقل وكان سيفًا قويًّا، وكانت الفرس تفخر بهذه العُدَّة إلا أن الله أورثها للمسلمين.

ومن ضمن ما غنمه المسلمون في مطاردتهم للفرس حُلَل كسرى، فغنموا لباسه وغنموا سِوَارَي كسرى وتاجه، وكان وزن التاج واحدًا وتسعين كيلو جرامًا، وكان كسرى فارس إذا جلس على كرسي مملكته يدخل تحت تاجه، وتاجه معلق بسلاسل الذهب؛ لأنه كان لا يستطيع أن يقلّه على رأسه لثقله، بل كان يجيء فيجلس تحته ثم يدخل رأسه تحت التاج الذي تحمله السلاسل الذهبية عنه، وأخذ المسلمون هذه الغنائم، وغنموا القطف وهو البساط الموجود في الإيوان، وكان من عجائب هذا العصر، وكان حجمه ستة وثلاثين مترًا في ستة وثلاثين مترًا، وكانت السجادة مصنوعة من خيوط موشاة بالذهب والفصوص والجواهر، وكانت عليه الرسوم النادرة التي لا تقدر بمال، وكانت الأكاسرة تُعِدُّه للشتاء إذا ذهبت الرياحين شربوا عليه، فكأنهم في رياض؛ فيه طرق كالصور وفيه فصوص كالأنهار، أرضها مذهبة، وخلال ذلك فصوص كالدر وفي حافاته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات في الربيع، والورق من الحرير على قضبان الذهب، وزهره الذهب والفضة، وثمره الجوهر وأشباه ذلك.

وتولى توزيع الغنائم سيدنا سلمان بن ربيعة الباهلي، وكما ذكرنا أنه معيّن من قِبَل سيدنا عمر بن الخطاب منذ بداية حروب القادسية على توزيع الغنائم، فبدأ بتوزيع الغنائم فوزع أربعة أخماس الغنائم من الذهب والفضة على الجيش الإسلامي، وبعث بالخمس إلى سيدنا عمر بن الخطاب في المدينة.

ويذكر الرواة أن الرجل كان يطوف في السوق ويقول: من معه بيضاء بصفراء؟! وذلك من كثرة الأموال في أيدي المسلمين بعد فتح المدائن.

حرص سيدنا سعد بن أبي وقاص على أن تكون الغنائم الذاهبة إلى سيدنا عمر بن الخطاب في المدينة من ممتلكات كسرى نفسه كسيفه ومنطقته ولباسه وحلله وما إلى ذلك؛ ليكون ذلك أدعى للمسلمين في المدينة أن يخرجوا للقتال، بعد أن يجدوا ممتلكات كسرى نفسه غنيمة للمسلمين.

ولما وصلت هذه الأشياء إلى سيدنا عمر بن الخطاب استدعى رجلاً اسمه "مُحلِّم" أجسم رجل في المدينة في ذلك الوقت، وكان جسم يزدجرد ضخمًا جدًّا، فقد كان يشبه يزدجرد في جسمه، وألبسه سيدنا عمر لباس يزدجرد، وأقام له التاج على عمودين من الخشب وألبسه محلمًا، وجعل الناس ينظرون إليه، وقال للناس: هذا يشبه ملك كسرى، أعزنا الله بالإسلام، وأذل الله مثل هؤلاء بالإسلام.

وكانت نظرة سيدنا سعد بن أبي وقاص ثاقبة، فلما رأى الناس في المدينة هذه الغنائم، ورأوا سيف كسرى وتاجه ومنطقته، وقد انتقل كل ذلك من أرض فارس إلى أرض المسلمين؛ زاد ذلك في عزيمتهم، وتطوع كثير من الناس للجهاد في أرض فارس وأرض العراق.

لما قسم سعد فيهم الأموال فضل عنهم القِطْفُ ولم يتفق قسمه، فجمع سعد المسلمين، فقال: إن اللَّه تعالى قد ملأ أيديكم، وقد عَسُرَ قسم هذا البساط، ولا يقوى على شرائه أحد، فأرى أن تطيبوا به أنفسنا لأمير المؤمنين، يضعه حيث شاء؛ ففعلوا.

ورغم كل ما غنمه المسلمون لم يستأثر سيدنا سعد بشيء يبعثه إلى بيت مال المسلمين، فضلاً عن أن يأخذها لنفسه إلا بعد أن يستأذن أهله في ذلك، فوافق الجيش على ذلك، فبعث بالقطف إلى سيدنا عمر بالمدينة.

ولما وصل القطف إلى سيدنا عمر بن الخطاب بالمدينة ورآه الناس أخذ القطف بعقولهم وألبابهم، فهم لأول مرة يرون مثله، وكما قلنا: كان من عجائب الدنيا في هذا الوقت.

وتحيَّر سيدنا عمر بن الخطاب في هذا القطف، فجمع الناس فاستشارهم في البساط، فمن بين مشير بقبضه، وآخر مفوِّض إليه، وآخر مرقِّق، فقام علي t فقال: لِمَ تجعل علمك جهلاً، ويقينك شكًّا، إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيتَ، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت. فقال: صدقتني، فقطِّعْه. فقسَّمه بين الناس، فأصاب عليًّا t قطعة منه فباعها بعشرين ألفًا، وما هي بأجود تلك القطع.​

فتح جلولاء وحلوان :

بعد أن دانت مدينة المدائن للمسلمين، أرسل سيدنا عمر بن الخطاب إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص بالاستمرار في الغزو، وأمَّر سيدنا سعد بن أبي وقاص على كل ما سيطر عليه المسلمون في أرض فارس، ثم ولى سيدنا سويد بن مقرن على ما سقى الفرات تحت إمرة سيدنا سعد بن أبي وقاص، وولى على ما سقى دجلة النعمان بن مقرن، وأمر سيدنا سعد بن أبي وقاص بأن يخرج جيشًا على رأسه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص من المدائن إلى جلولاء، وهي على مسافة مائة وخمسين كيلو مترًا من المدائن، وهذه المنطقة ترك فيها يزدجرد الجيش الفارسي الذي كان معه في المدائن، فترك بها ما يقرب من خمسين ألف مقاتل فارسي، واستطاع أن يجمع مددًا من المناطق الفارسية المحيطة به، فجمع من أذربيجان ومن أصبهان ومن منطقة الباب غرب بحر قزوين، وجمع من منطقة حلوان وما حولها حتى شرق نهر دجلة، فوصل العدد في جلولاء إلى مائة وعشرين ألف مقاتل فارسي، وأمر عليهم مهران الرازي وكان قائد ميسرة الفرس في القادسية، وكان قد هرب من القادسية ليدافع عن مدينة المدائن، ثم هرب إلى جلولاء، ليتولى قيادة الجيش الفارسي في جلولاء.

وقبل الحديث عن هذه المنطقة نذكر أن الفرس استطاعوا أن يجمعوا جيشًا كبيرًا في الموصل في شمال المدائن على بعد أربعمائة وخمسين كيلو مترًا، ثم تحرك الجيش الموجود في الموصل -وكان معظمه من العرب النصارى والفرس والروم- حتى وصل إلى مدينة تكريت، وجمع الهرمزان -وكان قد هرب من موقعة القادسية- جيشًا آخر، وعسكر في الأهواز في مواجهة منطقة الأُبلَّة.

بعد تجميع هذه الجيوش أصبح أمام المسلمين ثلاث جبهات للقتال؛ جبهة الأبلة الجنوبية، وجبهة جلولاء في اتجاه حلوان، وجبهة تكريت في شمال المدائن. وفي أثناء تجمعات الفرس تأتي توجيهات سيدنا عمر بن الخطاب بتوجيه سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى جلولاء، وتوجيه سيدنا عبد الله بن المعتم من المدائن إلى تكريت في خمسة آلاف، وكان عبد الله بن المعتم قائد ميمنة المسلمين في معركة القادسية، ووجه سيدنا عمر بن الخطاب سيدنا عتبة بن غزوان -وهو من صحابة النبي- إلى حصن الأبلة.

ولن نخوض في غمار الحديث عن منطقة تكريت ومنطقة الأبلة إلا بعد الانتهاء من موقعة جلولاء. وفي التوقيت الذي تقوم فيه معركة جلولاء، يتقدم الجيش الإسلامي نحو تكريت، والجيش الإسلامي الآخر نحو الأبلة.

ويتحرك الجيش الإسلامي بقيادة هاشم بن أبي عتبة بن أبي وقاص إلى جلولاء في أواخر شهر ربيع الأول أو أوائل شهر ربيع الآخر، وبذلك مكث الجيش الإسلامي الشهر ونصف الشهر في المدائن قبل الخروج لجلولاء، وخرج المسلمون في اثني عشر ألف مقاتل على المقدمة سيدنا القعقاع بن عمرو، وعلى الميسرة سيدنا سعر بن مالك، وعلى الميمنة سيدنا عمر بن مالك، وعلى المؤخرة سيدنا عمرو بن مرة، ووصل الجيش الإسلامي إلى جلولاء في أربعة أيام، وعسكر قبل جلولاء بقليل.

ولما وصل المسلمون إلى جلولاء وجدوها شديدة الحصانة لأهل فارس، فهي عبارة عن حصن كبير جدًّا، يحوط به سور عالٍ، وبداخل الحصن يعسكر كل الفرس، وخارج الحصن خندق كبير لا تعبره الخيول، ثم أرض فضاء أمام الخندق، ثم حسك الخشب. والحَسَكُ: من أَدَوات الحَرْب (خوازيق مدقوقة في الأرض على مسافات متقاربة)، رُبَّما يُتَّخَذُ من حديدٍ فيُلْقَى حَولَ العَسكر، ورُبَّما اتُّخِذَ من خَشَبٍ فنُصِبَ حولَ العسكر.

ولا تستطيع الخيول العَدْوَ في الحَسَك المدسوسة خارج حصن جلولاء، ومن الناحية الغربية من حصن جلولاء أحد فروع الأنهار الصغيرة تحمي هذه المنطقة، والأرض الفضاء الموجودة بين الحصن وبين حسك الخشب على مرمى سهام الفرس، فكانت هذه المنطقة في غاية الحصانة وبداخلها مائة وعشرون ألفًا من الفُرْسِ على رأسهم مهران الرازي.

وصل المسلمون إلى هذه المنطقة وبدأ هاشم بن عتبة بن أبي وقاص في حصار مدينة جلولاء، ولم يستطع الدخول بجيشه إلى داخل الحصن لوجود الحسك والخندق، وكان الأعاجم يخرجون على المسلمين من طرق أعدُّوها لا يوجد بها الحسك فينابذوهم، وهذا الوقت هو الوقت المتاح لتقدم المسلمين؛ لأن الفرس لا يستطيعون رمي السهام لتلاحم الجيشين، ومن وقت لآخر تخرج فرقة من الفرس فتنابذ المسلمين فيتقدم لهم القعقاع بن عمرو في المقدمة فيهزمهم، وما زال المسلمون محاصرين الخندق، وسيضطر الفرس يومًا للنزول؛ فحتمًا سينفد الزاد، وكان هدف الفرس من تتابع الفرق التي تنابذ المسلمين أن ينفد صبر المسلمين، ورغم ما بين المسلمين والفرس من منابذات إلا أن المسلمين تجلَّدوا وصبروا لهم، وزحف الفرس على المسلمين ثمانين زحفًا، واستمر الحصار حول جلولاء سبعة أشهر أو يزيد، مع أن المسلمين حاصروا بَهُرَسير إحدى المدائن شهرين، وفتحت المدائن مباشرة دون حصار، واستمرت موقعة القادسية أربعة أيام، ويبقى حصن جلولاء سبعة أشهر؛ وذلك لمنعته وقوة حصانته.

وصبر المسلمون وصابروا أهل فارس على الحصار، وصبر الفرس المحاصَرُون سبعة أشهر على الحصار وعلى قتال المسلمين، حتى زاد الأمر مشقة على الطرفين؛ فقد بلغ الجهد مبلغه بالمسلمين والفرس، فأخرج الفرس في يوم من الأيام قوة ضخمة لحرب المسلمين، فتقدم إليهم سيدنا القعقاع بن عمرو في مقدمة الجيش الإسلامي، ودار القتال من الصباح حتى المساء، واستمر القتال حتى بعد غروب الشمس، وفي هذه اللحظة يصل ستمائة جندي مددًا للمسلمين، وكان من بينهم طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معديكرب وقيس بن مكشوح، ولهؤلاء الثلاثة بأس شديد في القتال فزادوا من قوة وبأس المسلمين في القتال، واستمر القتال في الليل، وكانت هذه أول مرة بعد موقعة القادسية يستمر القتال في الليل، وكان القتال في موقعة القادسية على أشُدِّه في الليل في ليلة الهرير، ويشبِّه الرواة ليلة القتال في جلولاء بليلة القتال في الهرير في موقعة القادسية، يقول الرواة: لم يرَ المسلمون مثلها قَطُّ إلا في ليلة الهرير، ولكن ليلة جلولاء كانت أقصر زمنًا وأسرع حركة.

حيلة القعقاع :


بدأ النصر يتجه لصالح المسلمين بعد هذه الليلة، وفكر سيدنا القعقاع بذكاء ومهارة في أن يخترق جيش الفرس بمقدمته، ويسيطر على مدخل الخندق ليمنع الجيش الفارسي من العودة داخل الحصن مرة أخرى، واخترق سيدنا القعقاع الجيش الفارسي وبدأ يسيطر على مدخل الخندق، ودبر حيلة حيث صاح في المسلمين: أن أنقذوا أميركم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص من الخندق، ولا تموتوا إلا على ما مات عليه.

وكانت حيلة من سيدنا القعقاع لتحفيز الجيش على الهجوم بشدة على الجيش الفارسي، فحمل المسلمون بجسارة نحو الخندق لنجدة أميرهم وهم لا يشكون أنه فيه، وأخذ المسلمون الفرس من كل وجه، وقعدوا لهم كل مرصد، وأعملوا أسيافهم في رقابهم.

ولما وجد الفرس سيطرة المسلمين على الخندق ألقوا بكميات كبيرة من الأخشاب فيه ليردموه ويعبر جيشهم إلى الناحية الأخرى، وتضيع الفجوة الموجودة في الخندق، وبذلك فقد الفرس الخط الدفاعي الأول، واستمر القتال إلى صباح اليوم التالي، واكتشف المسلمون أنهم قضوا على الجيش الفارسي الموجود في المنطقة إلا قليلاً من الفرق قدرت بعشرين ألفًا هربت من جلولاء، وقتل في جلولاء مائة ألف من الجيش الفارسي، وكان عدد المسلمين في هذه المعركة اثني عشر ألفًا، وقد وصل إليهم ثلاثة آلاف مقاتل مددًا وكانوا من الفرس الذين أسلموا، وكانت أول موقعة يقاتل فيها جيش من الفرس مع جيش المسلمين ضد أهلهم، وهذا الأمر يُذْكَر للمسلمين، فقد يقاتل الإنسان مع عدوه خفية وينقل لهم الأسرار، لكن لم نسمع في التاريخ أن بلدًا تُغزَى من قِبَلِ دولة أخرى ويخرج منها جيش يقاتل مع من غزاه حتى الموت؛ فقد تحول ثلاثة الآلاف مقاتل من الكفر قبل الفتح الإسلامي بشهور قليلة إلى أقصى درجات الإيمان الذي يؤدِّي إلى الجهاد، ومِن ثَمَّ يعرض الإنسان نفسه بذلك إلى الموت والشهادة.

وكان هذا تحولاً شديد الغرابة، ولكن يذكر الله في كتابه الكريم أمثلة لذلك، منها القصة المشهورة قصة سحرة فرعون وما كانوا عليه من الكفر، وقد جاءوا ليواجهوا سيدنا موسى u فقالوا لفرعون: {إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف:113]. وكان جُلُّ همهم إرضاء فرعون والجري وراء الدنيا، ويقر لهم فرعون بذلك ويقول: {نَعَمْ وَإنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:114]. ثم ظهرت لهم آية سيدنا موسى فخَرُّوا سُجَّدًا مُقِرِّين بإيمانهم لرب العالمين: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء: 46-48]. ففي لحظة واحدة انتقل السحرة من الكفر الشديد الذي دفعهم لمحاربة سيدنا موسى والتصدي له، إلى الإيمان الشديد الذي جعلهم يقفون أمام فرعون لما هددهم بقطع الأيدي والأرجل والصلب في جذوع النخل قائلين له: {قَالُوا لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:50]. يقول الحق تبارك وتعالى مصورًا هذا المشهد: {قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:49-51]. وهذه اللحظة التي عاشها السحرة عاشها أيضًا أهل فارس مع التغير في الزمان والمكان، ولم يكن ذلك التغير في عدد قليل كعدد السحرة، بل في جيش كبير يصل تعداده إلى ثلاثة آلاف مقاتل من الفرس صار يقاتل في صفوف المسلمين.

وبعد حصار استمر سبعة أشهر، وبعد ثمانين زحفًا من الفرس على المسلمين، وبعد ما بلغ الجهد بالمسلمين مبلغه، ورأى الله صلاح هذه القلوب وارتباطها بخالقها اِمتنَّ على المسلمين بنصرهم على الفرس في معركة جلولاء وافتتاحه، وكان هذا الفتح من أكبر الفتوحات بعد موقعة المدائن، وكان الجيش الفارسي قد اصطحب النساء والذراري ليكونوا حافزًا لهم على القتال، وعسكروا في مكان يدعى "خانقين" على بعد ثلاثين كيلو مترًا من جلولاء في الشمال الشرقي.

فاتجه المسلمون بعد فتح جلولاء إلى خانقين مباشرة بقيادة سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي، وسيطر المسلمون على المنطقة وأخذوا ما فيها من الغنائم ومن السبي ومن الذراري، وقُتِلَ في خانقين مهران الرازي قائد الجيش الفارسي في جلولاء الذي هرب من القادسية، ثم من المدائن، ثم من جلولاء، استطاع القعقاع بن عمرو التميمي أن يقتله في خانقين.

وكانت غنائم جلولاء وسبيها من الكثرة حتى إنها وُزِّعَتْ على جيش المسلمين في جلولاء، فكان نصيب الواحد منهم كنصيب أحدهم في المدائن، وقيل: إن الفارس أخذ في هذه المعركة تسعة آلاف درهم، وتسعة من الدواب، وأُرْسِلَ الخُمْسُ إلى سيدنا عمر بن الخطاب في المدينة مع سيدنا زياد بن أبي سفيان الذي كان كاتب الحملة، أرسله سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى سيدنا عمر في المدينة.

لما قدم زياد بن أبي سفيان المدينة سأل عمر زياد بن أبي سفيان عن كيفية الوقعة فذكرها له، وكان زياد فصيحًا، فأعجب إيراده لها عمر بن الخطاب t، وأحب أن يَسْمع المسلمون منه ذلك، فقال له: أتستطيع أن تخطب الناس بما أخبرتني به؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه ليس أحد على وجه الأرض أهيب عندي منك، فكيف لا أقوى على هذا مع غيرك؟ فقام في الناس فَقَصَّ عليهم خبر الوقعة، وكم قتلوا، وكم غنموا بعبارة عظيمة بليغة، فقال عمر: إن هذا لهو الخطيب المِصْقع. يعني الفصيح، فقال زياد: إن جندنا أطلقوا بالفعال لساننا.

فلما قدمت غنائم جلولاء على عمر قال: والله لا يُجنُّه سقف حتى أقسمه. فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن الأرقم يحرسانه في المسجد، فلما أصبح جاء في الناس فكشف عنه، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى، فقال له عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا لموْطِنُ شكرٍ. فقال عمر: والله ما ذلك يبكيني، إن هذا الأمر لهو أشد ما أخاف على المسلمين، وبالله ما أَعطَى الله هذا قومًا إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى الله بأسهم بينهم، وضاعت هيبتهم.

ووزع سيدنا عمر بن الخطاب سبي جلولاء وكان كثيرًا؛ فكان المسلم ينال أكثر من واحدة من السبي، وكان سيدنا عمر بن الخطاب يخاف على المسلمين من هذا السبي أن يقعدوهم عن الجهاد في سبيل الله، وكان دائم الاستعاذة من سبي جلولاء لكثرته.

ويرسل سيدنا عمر بن الخطاب إلى القعقاع بن عمرو التميمي بأن يتقدم في اتجاه "حلوان" حيث يوجد يزدجرد، وكعادة يزدجرد هرب من حلوان إلى الشمال إلى منطقة تسمى الري بالقرب من بحر قزوين وترك حلوان خالية؛ فتقدم سيدنا القعقاع إليها فوجد على مقربة منها حامية قليلة على رأسها دهقان حلوان، فهزمها بسهولة وسيطر على مدينة حلوان كلها.

بعد فتح حلوان أرسل سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص حملات لتطهير المنطقة، فأرسل حملة بقيادة سيدنا جرير بن عبد الله -وهو من قبيلة بجيلة وأحد صحابة النبي- إلى مدينة شهرزور وفتحها صلحًا ولم يكن فيها قتال يذكر، وصالح أهلها سيدنا جرير على الجزية، وتقدم سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص على الجيوش في الاتجاه الغربي وفتح كل هذه المنطقة، ودانت هذه المنطقة للمسلمين في هذا الوقت.

وبعد سيطرة القعقاع على حلوان ولَّى عليها قباذ وهو مسلم فارسي، وأول فارسي يُؤَمَّر على مدينة فارسية.

فتح تكريت :

في ذلك الوقت الذي دخل فيه المسلمون فاتحين مدينة حلوان ومن قبلها جلولاء، تحرك الجيش الموجود في المدائن بقيادة عبد الله بن المعتم t قائد ميمنة المسلمين في القادسية (وكان قد خرج في الوقت نفسه الذي خرج فيه سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص من المدائن إلى جلولاء كما ذكرنا في نهاية ربيع الأول وبداية ربيع الآخر) من المدائن إلى تكريت وهي على مسافة مائتين وعشرين كيلو مترًا من المدائن شمالاً حيث يواجه الجيش القادم من الموصل إلى تكريت، وكان فيه جموع من الفرس والعرب والروم فيصل إليها ويحاصرها، وكانت تكريت كجلولاء في شدة الحصانة وقوة المنعة، حيث تقع المدينة على الجانب الغربي من نهر دجلة مباشرة، أما الجانب الشمالي والشرقي والجنوبي فيحيطه خندق ليحمي المدينة، ويحاصر سيدنا عبد الله بن المعتم المدينة مدة تقدر بأربعين يومًا وكان الحصار شديدًا، وكانت قوة هذه الجموع أقل من الجموع الفارسية في جلولاء لكونها مختلطة من الفرس والروم والعرب؛ فسبَّبَ هذا الاختلاف ضعفًا في هذا الجيش، وفي مدة الحصار خرج الفرس في أربعة وعشرين زحفًا تقريبًا حيث كان الزحف يتكرر كل يومين، وانتصر المسلمون على كل زحف زحفه الفرس عليهم، وكان جيش المسلمين خمسة آلاف مقاتل فقط.

عزم الروم على الذهاب في السفن بأموالهم، لما رأوا من ظَفَرِ المسلمين، خاصة أن هذه الحرب ليس لهم فيها ناقة ولا جمل؛ كما أن جيوشهم في الشام تحارب جيوشًا إسلامية هناك، فعزموا على الانسحاب بقواتهم فوق السفن في نهر الفرات في طريقهم إلى الشمال هروبًا من الجيش الإسلامي، ولما علم بذلك عبد الله بن المعتم راسل من هنالك من الأعراب خفية، فدعاهم إلى الدخول معه في النصرة على أهل البلد، والأمان لكم إن انتصرنا عليهم، ورأى الأعراب أن الروم بدءوا بالهروب، والقوة الفارسية محاصرة في جلولاء ومحاصرة معهم في تكريت، فجاءت الردود إليه عنهم بالإجابة إلى ذلك، فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فيما قلتم فاشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأَقِرُّوا بما جاء من عند الله؛ ولم يكن سيدنا عبد الله بن المعتم واثقًا بإسلام الأعراب، فوضع خطة حتى لا يغدروا بالمسلمين إن كانوا كاذبين.

فأرسل إليهم عبد الله: إذا سمعتم تكبيرنا فاعلموا أنا أخذنا أبواب الخندق، فخذوا الأبواب التي تلي دجلة وكبروا، واقتلوا من قدرتم عليه، وأمسكوا علينا أبواب السفن، وامنعوهم أن يركبوا فيها. ثم شد عبد الله وأصحابه، وكبروا تكبيرة رجل واحد، وحملوا على البلد فكبرت الأعراب من الناحية الأخرى، فحار أهل البلد، وأخذوا في الخروج من الأبواب التي تلي دجلة، فتلقتهم إياد والنمر وتغلب، فقتلوهم قتلاً ذريعًا، فظنَّ الفرس أن المسلمين جاءوهم من خلفهم فهُرِعُوا إلى أبواب الحصن ليهربوا؛ فوجدوا عبد الله بن المعتم بأصحابه بالباب واقفين فَقُتِلَ جميع أهل البلد على بكرة أبيهم، ولم يسلم إلا من أسلم من الأعراب من إياد وتغلب والنمر، وأرسل عبد الله بن المعتم "رِبْعِيّ بن الأَفْكَل" قائد مقدمته في تكريت إلى الحصنين، وهما "نِينَوَى" و"الموصل", وهما على بُعْدِ أربعمائة كيلو متر من المدائن. ونينوى بها قبر سيدنا يونس u، ومنها الرجل الذي قابل سيدنا محمد في إقفاله من الطائف "عَدَّاس"، وتسمى نينوى الحصن الشرقي، وتسمى الموصل الحصن الغربي، وقال: اسبق الخبر، وسِرْ ما دون القيل، وأحيِ الليل. وسَرَّحَ معه تغلب وإياد والنمر، فقدمهم ابن الأفكل إلى الحصنين، فسبقوا الخبر وأظهروا الظفر والغنيمة وبشروهم، ووقفوا بالأبواب، وأقبل ابن الأفكل فاقتحم عليهم الحصنين وكلبوا أبوابهما، فنادوا بالإجابة إلى الصلح ودفع الجزية، وبذلك صاروا ذمة، وقد فتحت تكريت والموصل ونينوى قبل فتح جلولاء.

بعد فتح جلولاء وخانقين وحلوان يتخذ سيدنا عمر بن الخطاب t قرارًا من أعجب قراراته، وكان لهذا القرار الأثر الكبير على الجيش الإسلامي والجيش الفارسي نفسه، حيث لم يتوقع أحد من الجيش الفارسي أن يوقف سيدنا عمر بن الخطاب الفتوحات في الدولة الفارسية، ويتخذ قرارًا كهذا في مثل هذا الوقت.
http://defense-arab.com/فتح_المدائن

 
عودة
أعلى