حرب الريف بعيون متقاطعة
الكاتب محمد أمزيان
الكاتب محمد أمزيان
21 Juillet 1921
توصلنا من الأستاذ محمد أمزيان نجل القائد محمد الحاج سلام أمزيان، بهذه المساهمة القيمة، وتعميما للفائدة ننشرها في موقع المنتدى العربي للدفاع والتسليح
أكثر من ثمانين سنة مرت على ما أصبح يعرف الآن في كتب التاريخ بـ "حرب الريف". ففي ذلك الصيف القائظ، استيقظ العالم الاستعماري على وقع هزيمة مدوية نزلت كالصاعقة. فهاهي إسبانيا كأمة استعمارية تتمرغ في تراب الريف. تفشل في أول اختبار استعماري جديد لها بعد طردها من كوبا والفليبين. وهاهي لعنة أخرى تلاحق جيشها بقياداته العسكرية والسياسية؛ إنها لعنة أنوال وما رافقها. حتى المؤسسة الملكية لم تسلم؛ تسلَّق العسكرُ السلطة فتواطأ الملك مع المتسلقين
إسبانيا باعتبارها دولة "حامية" لجزء من المغرب بموجب عقد 1912، فقدت مصداقيتها أولا أمام شعبها ثم أمام شريكتها فرنسا، التي هبت لنجدتها بكل ما تملك من عُدة وعتاد. بل نودي حتى على المارشال بيتان، بطل معركة فردان، لمواجهة حفنة من الفلاحين الريفيين
وعبد الكريم، الذي التف حول قيادته هؤلاء الريفيون البسطاء، أعلن عن قيام الجمهورية وشكل حكومة مسؤولة تسيرها طاقات شابة طموحة. وأتبعها بغرس نواة العمل الديمقراطي حينما كون "جمعية وطنية" تأخذ بآليات صنع القرار الحديثة. وبذلك أبطل الخطابي حجج المستعمرين حين ادعوا أن الريفيين ليسوا بقادرين على تسيير شؤون حياتهم بأنفسهم!
جاءت تطلعات الريفيين إذن إلى الحرية والسيادة فوق أرضهم لتضع إسبانيا أمام تحد كبير: ماذا تفعل بمحميتها، التي شبهها مثقفو اليسار الإسباني بعظم سكن الحنجرة لا يُعصر ولا يُكسر؟ المزيد من التصعيد العسكري أم البحث عن مخرج يحفظ ماء الوجه؟ في حينه، تناقلت وسائل الإعلام المكتوبة أن "الخونتا" العسكرية بزعامة بريمو دي ريفيرا، فكرت فعلا في الانسحاب المحتلة باستثناء المواقع القديمة. بيد أن دراسة حديثة موثقة، أبانت أن فكرة الانسحاب كانت مجرد خدعة ومناورة حتى يتسنى للطائرات الإسبانية ضرب الريفيين بالغازات السامة، بمجرد ما يتم سحب الجنود الإسبان إلى الخطوط الخلفية. هكذا إذن، وبعد ثمانين سنة تنكشف تفاصيل حكاية ذلك الانسحاب المزعوم
طيلة الثمانين سنة الماضية، ظهرت في عالم النشر كتب وأبحاث ودراسات ومقالات تعد بالمئات، تناولت حرب الريف بأبعادها المختلفة: العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية. أنوال وما ترتب عنها من نتائج، تُعد علامة بارزة في تاريخ مقاومة الشعوب للاستعمار. أما بالنسبة لإسبانيا، فإن كارثة الريف هي بمثابة عضو غريب نبت في كيانها، لا يمكن استئصاله بالمرة لكونه جزءا من ماضيها، ولا القبول به أو على الأقل محاولة مساكنته والتعايش معه
وبدوره شكل محمد عبد الكريم الخطابي مجالا خصبا للباحثين والدارسين من مختلف المشارب والتوجهات؛ بحيث ما تزال شخصيته تثير شهية التأويلات والتخريجات؛ منها ما يلامس بعضا من ملامحها ومنها ما يجانب الصواب ويسقط في النمطية المعتادة في كثير من الدراسات الأجنبية أو التي تدور في فلكها
في هذه المقاربة سيتم التطرق إلى نماذج من الدراسات الصادرة حول هذا الموضوع باللغتين الفرنسية والإسبانية. وهذا الاختيار لم يخضع لمعايير محددة أو خلفيات معينة سوى حداثة صدورها، باستثناء دراسة جرمان عياش الكلاسيكية نوعا ما، والتي اخترناها لكونها تعد أساسا ومنطلقا لكثير من الدراسات الأكاديمية اللاحقة بغض النظر عن موافقة كاتبها في طروحاته أو مخالفته
الدراسات المختارة هي: جرمان عياش،أصول حرب الريف(جزآن
ماريا روزا دي مادارياغا، إسبانيا والريف
زكية داود، عبدالكريم: ملحمة الذهب والدم
جرمان عياش والبحث عن الجذور
في سنة 1981 أصدر جرمان عياش الجزء الأول من أطروحته حول الريف تحت عنوان "أصول حرب الريف"؛ وهي ثمرة أبحاث دامت عدة سنوات. وفي سنة 1996 أكملت ابنته إيفلين ـ مريم عياش مشوار أبيها فطبعت الجزء الثاني تحت عنوان "حرب الريف
يعتبر جرمان عياش من المؤرخين المغاربة المدافعين عن "الوثيقة المغربية" كمصدر أساس لإعادة كتابة تاريخ المغرب. ويرى أن المصادر الأوروبية ينبغي التعامل معها بحذر شديد، فهي لا تعدو كونها مصادر مكملة ليس إلا. بيد أن المتصفح لدراسته في جزئيها سرعان ما يلاحظ استحضاره الطاغي للوثيقة الإسبانية وتغييبه المزعج للوثيقة الوطنية. فهل يعني هذا أن الوثيقة المغربية عجزت عن سد الثغرة وتقديم الإجابة المفترضة؟ أم أن الكاتب صدمه الفقر الكبير الذي يعانيه مجال التوثيق في المغرب بصفة عامة، وفي موضوع الريف بصفة خاصة؟ بل حتى الرواية الشفوية، رغم توافرها إبان إجراء البحث الميداني، لم تجد مكانها في عمل عياش. وبذلك خلا الجو تماما للوثيقة الإسبانية/الأوروبية، وعليها أنجز البناء من البداية حتى النهاية، إلا في ما ندر
يستعرض الباحث في الجزء الأول موضوعات شتى لها علاقة بموضوعه الرئيسي: حرب الريف فبعد التمهيد بنقده المستفيض للمصادر، ينتقل إلى موضوع مغرب السلاطين الذي درجت بعض الدراسات الكُلونيالية على تقسيمه إلى قسمين: بلاد "السيبة" و بلاد "المخزن". فينتقد الباحث هذين المفهومين وبخاصة ما يتعلق بمفهوم السيبة الذي يعني غياب السلطة المركزية. يطعن في صوابية هذا المصطلح مبينا أن الريف كان دوما حاضرا ضمن نطاق المخزن. وهذا عكس ما ذهب إليه الباحث الأمريكي دافيد هارت. بعد هذا ينتقل عياش لرصد مراحل التوغل الأوروبي في المغرب، فيؤكد على نجاح فرنسا مقابل ما اعترض إسبانيا من مشاكل وعقبات
وبعد هذا الإطار العام ينتقل الباحث إلى موضوع الريف في مفهومه السياسي والبشري. ومن هذه النقطة يرصد علاقة الريفيين بالإسبان؛ وهي مسألة سنتوقف عندها في هذه القراءة. والحديث عن الريفيين قاده إلى الحديث عن آل خطاب، وبالتحديد عبد الكريم الأب وابنه محمد الذي دخل التاريخ باسم والده. وهنا يتوسع الباحث في تحديد مجال تحرك عبد الكريم وابنه من "صديق" لإسبانيا إلى مناوئ لها ثم إلى معاد يرفع راية المقاومة. هذا التطور الدرامي بلغة السينمائيين هو في الحقيقة ما ميز دراسة عياش عما سبقها. وفي سياق تحليل آليات علاقة الخطابي بالإسبان، يأتي الباحث على ذكر علاقة الريسوني بهؤلاء والتي شهدت أيضا نفس التطور الدرامي
وفي ثنايا البحث تطالعنا صفحات موثقة عن مغامرات بوحمارة الفاشلة في الريف الشرقي والأوسط، وأخرى عن مقاومة الشريف سيدي محمد أمزيان لبوحمارة أولا ثم للتوغل الإسباني ثانيا
وفي الجزء الثاني من هذا العمل الأكاديمي الأول من نوعه، يتابع جرمان عياش فصول حرب الريف من زواياها العسكرية. فيبدأ بمراحل التوغل الإسباني إلى حدود الحرب العالمية الأولى، ثم ينتقل إلى تتبع المشاكل التي صادفت ذلك التوغل، ويعرج مرة أخرى على علاقة العائلة الخطابية بالإسبان؛ وهو ما يعني نوعا من التكرار والإطناب غير المبرر. وانطلاقا من الفصل الثالث يضعنا الباحث في صورة الأحداث العسكرية: سلفيستري يركب غروره فيلقى مصرعه في معركة أنوال. عبد الكريم يتحول من شخص غير ذي بال إلى زعيم سياسي تخضع لتدبيره القبائل وبخاصة بعد ملحمة أنوال، ونتلمس كيف انتقل من "صديق" للإسبان إلى قاهر لساستهم ومذل لشرفهم العسكري، ثم إلى مؤسس لكيان سياسي شاب يقف سدا منيعا أمام الغزو الأجنبي. وفي خضم هذه التموجات يسلط الباحث ضوءا خاطفا على الموقف الفرنسي المُشخَّص في تقييم المارشال ليوطي للوضع العسكري على الحدود الشمالية لمنطقة النفوذ الفرنسي
هذا مجمل ما تناوله الدكتور جرمان عياش في بحثه عن جذور حرب الريف. وقد يكون من المفيد الوقوف عند قضية مثيرة للنقاش ترتبط بعلاقة الريفيين بالإسبان قبل قيام الثورة الريفية، وموقع العائلة الخطابية ضمن تلك الدائرة الرمادية بين ما يمكن تسميته بالبرغماتية أو المصلحة الذاتية أو العمالة في ثوبها المكشوف أو المستور
عموما يصنف الباحث الريفيين في علاقتهم بإسبانيا إلى صنفين: متعاونون أو ما يُعرف بـحزب ’أصدقاء إسبانيا‘، ومعارضون أو ما يُسمى بـ’أعداء إسبانيا‘. وتدخل العائلة الخطابية ضمن الصنف الأول. هذا التعاون الذي سيجلب عليها الوبال أكثر من مرة. ويلاحظ أن الريفيين كانوا من قبل قد التفوا حول الشريف سيدي محمد أمزيان الذي قادهم لمقاومة الإسبان حتى استُشهد في ميدان المعركة. وبموته اختفت من الريف الزعامة السياسية والروحية القادرة على استنفار الريفيين للقتال مجددا
وكانت إسبانيا بعد عقد الحماية، قد أعدت عدتها للسيطرة على الريف مستعينة بمن يتعاون معها من الأعيان وذوي الجاه والنفوذ. فباستثناء الزاوية الخمليشية التي كان الإسبان يحسبون لها حسابا خاصا لابتعادها عن مغريات الشراء أو الارتشاء شأن بعض الشرفاء الآخرين، فإن الإسبان كانوا يعتقدون أن الطريق ستكون جاهزة حينما تحين الفرصة. ففضلا عن "أصدقائها" من العائلات المعروفة المسلحة بالجاه والثروة والنسب الشريف، كانت إسبانيا ومنذ بداية القرن العشرين تبحث عن شخصية بديلة، جذابة وتتمتع باحترام لدى الريفيين حتى ولو لم تكن غنية أو ذات سلطة دينية قائمة على النسب الشريف. وسرعان ما وجدت ضالتها في عبد الكريم الخطابي الأب
بهذا المدخل بدأ عياش يرسم معالم الأسرة الخطابية التي قبلت التعاون مع الإسبان. فعبد الكريم وابنه محمد الذي يُعد ساعده الأيمن، برزا سويا على ساحة التأثير والتوجيه في الريف مباشرة بعد وفاة الشريف أمزيان. لكنهما كانا قبل ذلك قد قطعا أشواطا مهمة في طريق التقرب من الإسبان الذين كانوا يرون في الخطابي الأب أذكى الريفيين. ولعل هذا الذكاء هو ما كانت تفتقده سياسة إسبانيا ويفتقده بصفة خاصة "أصدقاؤها" المقربون في الريف
في البداية سيتم استدراجه إلى جزيرة النكور للتبضع والتجارة. وهناك كان يُستقبل بحفاوة بالغة لا من طرف التجار فحسب، بل حتى من طرف العسكريين. ومن الجزيرة يتم دفعه وتشجيعه لزيارة مليلية. فكثرت الزيارات حتى إن الإسبان بدأوا يدفعون له تكاليف السفر منذ 1902. وبحكم المنصب الذي كان يشغله عبد الكريم كقاض على الريف باسم السلطان، فإن عياش يصور لنا شخصية القاضي المترددة بين الموانع الدينية التي تحرم التعامل مع الأجنبي، وبين مستجدات السياسة الدولية التي لم تكن خافية عنه. هذا التردد سيزول بمجرد التوقيع على عقد الجزيرة الخضراء سنة 1906، ووضوح النوايا الأوروبية تجاه المغرب. ولم يلبث عبد الكريم أن قبل المغامرة مع الإسبان جارا معه ابنيه محمد (24 سنة) وامحمد (14 سنة). وهكذا يسمح لابنه محمد بالاستقرار في مليلية حيث سيتقلد عدة وظائف حتى بلغ منصب قاضي القضاة. بل ينخرط وجدانيا ـ حسب تعبير عياش ـ في الحياة الإسبانية لدرجة أنه قدم طلب الحصول على الجنسية الإسبانية. ويخلص الباحث إلى التساؤل التالي: كيف نجترئ إذن على إضفاء هالة من المشاعر الوطنية على رجل نذر نفسه لخدمة إسبانيا وهي الدولة التي تحتل بلاده؟
هذا التساؤل القاسي خفف الباحث من وقعه حينما أرجع سلوك الخطابي إلى حبه لإسبانيا النابع من حب وطنه. فلقد كان يرى أنه من الأفضل للريف أن يتواجه مع دولة متواضعة يستطيع التفاهم معها على أن يجد أمامه دولة قوية كفرنسا أو إنجلترا على سبيل المثال
وبعد حادث إحراق بيت الأسرة الخطابية في أجدير سنة 1911 من قبل الريفيين الغاضبين على استعداد عبد الكريم الأب لمساعدة الإسبان في مشروع الإنزال العسكري المحتمل في خليج الحسيمة، سيسلك الخطابي استراتيجية أخرى تقوم على استمرار التعامل مع الإسبان خفية والتحريض ضدهم علانية. ثم يواصل عياش تتبع هذا المسار المزدوج، وكيف تعقدت الأمور خلال الحرب العالمية الأولى ودخول تركيا المسلمة الحرب إلى جانب ألمانيا. وهنا يظهر أن عبد الكريم قد استقر عزمه على قطع علاقاته بالإسبان، محاولا العودة إلى صف المعارضين
وفي البحث عن أسباب التحول المفاجئ لعبد الكريم من متعامل يتزعم فريقا من أصدقاء إسبانيا له شأن، إلى محرض يتقاطر على بيته الداعون إلى المقاومة، يرى الباحث أن تطور السياسة الداخلية الإسبانية خلال الحرب العالمية الأولى كان وراء تدهور علاقة إسبانيا بالخطابيين، وبالتالي اعتقال محمد عبد الكريم في مليلية، كإجراء مؤقت يهدف إلى ممارسة مزيد من الضغط على الخطابي الأب. ذلك أن الخطابي وابنه كانا قد اختارا خلق المتاعب لفرنسا بدعمهما الصريح لألمانيا. فهو إذن اعتقال سياسي لم ينبن على حجج ملموسة. ورغم بعض الإشارات من كون عبد الكريم الخطابي الأب عبر عن نيته إصلاح الخلل والعودة إلى "جادة الصواب"، إلا أن النتيجة النهائية هي أن الإسبان تمادوا في ضغطهم، فكانت القطيعة أمرا مقضيا
ويُستنتج من هكذا تحليل أن القطيعة سبَبُها الغباء السياسي المستحكم لدى صانعي القرار في إسبانيا. ومن المُلاحظ كذلك أن تفاصيل هذه القصة بُنيت أساسا على الرواية الإسبانية. وحتى إحالته على بعض المصادر الوطنية تأتي في سياق التشكيك في مصداقيتها. فالصورة التي نصادفها عن عبد الكريم وابنه محمد انطلاقا من تلك المصادر، هي صورة شخصين مهزوزي العواطف، منقسمي الولاء. بل يصورهما الباحث وكأنهما لا يتحركان إلا بوازع المصلحة الذاتية. ومن شأن هذا التحليل الأحادي الجانب أن يقود إلى نتائج غير متوازنة. فالتطورات الداخلية التي عرفها الريف مع بداية القرن العشرين، لا بد وأن تكون قد أثرت على شخصية عبد الكريم، بيد أنها تكاد تغيب عن تحليل عياش، ولا نرى لها مكانا يُذكر إلا في ما يدعم أطروحته
إن مسألة "تعامل" عبد الكريم ومن ثم ابنه محمد لم تكن معطى ثابتا في موقفهما من سياسة إسبانيا تجاه الريف. فلقد كانا يدركان مآل بلدهما الذي تقرر خارج الحدود ووراء كواليس السياسة الاستعمارية الأوروبية. وكان همهما الوحيد الحفاظ على استقلال الريف بسلوك طريق المهادنة أولا، ثم محاولة استغلال الصراع الألماني – الفرنسي والحياد الإسباني السلبي لخلق نوع من التوازن في المنطقة. فأين الخلل في عمل سياسي كهذا؟ وهذا ما تمارسه الدول في كل زمان ومكان. قد يبدو لمن يتعجل استخلاص النتائج المقررة سلفا، أن مثل هذا السلوك هو عين الانتهازية والنفعية. ولكنه في الواقع سلوك وطني لم يكن يهدف إلا لشيء واحد: إبعاد الخطر عن الريف. وإلا كيف نفسر المقاومة الشرسة حينما سُدت آفاق الحوار والتفاهم؟ ومعلوم أن محمد عبد الكريم الخطابي ظل إلى آخر يوم قبل انفجار الأوضاع، يحاول إقناع سلفستري بالعدول عن سياسة الغزو العسكري والأخذ بالأسلوب الحضاري الذي تدعيه إسبانيا والدول الاستعمارية عموما. هذه ديبلوماسية الخط الثالث، وهو ما لم تستوعبه إسبانيا، ولم تكن لتستوعبه مادامت مقيدة بمواثيق دولية. ولم يعه عموم الريفيين فناصبوا العداء لعبد الكريم وابنه حتى جاءهم اليقين
الوجه والقناع أو تاريخ إسبانيا المنسي في الريف .
ضمن سلسلة "مكتبة مليلية" صدر في شهر أبريل 1999 (ط1) للباحثة الإسبانية ماريا-روسا دي مادارياغا، المعروفة بتنوع دراساتها حول تاريخ التوسع الإسباني في المغرب، كتاب تحت عنوان: "إسبانيا والريف: حكاية تاريخ شبه منسي". وهو كتاب شامل يعرض لهذا التاريخ "المشترك" بين شمال المغرب وإسبانيا على مدى قرون عدة، وبخاصة منذ مبتدأ القرن التاسع عشر. ويأتي التطرق لحرب الريف بقيادة عبد الكريم الخطابي في الفصول الأخيرة من الكتاب ضمن هذا السياق العام
قبل التطرق لمحتوى فصول الكتاب، لابد من الإشارة إلى أن أسلوب الباحثة يغلب عليه الوصف وعرض الوقائع، مبتعدة قدر الإمكان عن التعليل والتحليل على خلاف منهجية الدكتور جرمان عياش. وحينما تتطرق لمسألة "أصدقاء" إسبانيا و معارضيها، وبصفة خاصة ما يتعلق بالعائلة الخطابية، تكتفي بإيراد رأي عياش في الموضوع دون استعمال "آلة" النقد والمقارنة؛ وكأنها بذلك تتفق مع استنتاجاته. ومع كل هذا، فإن هذه الدراسة لها أهميتها وقيمتها العلمية المتينة في إعادة رسم معالم خريطة الأحداث التي جرت على مدار العلاقات الإسبانية-الريفية؛ وهي بلا شك معالم تخص التاريخ الإسباني الوطني بالدرجة الأساس كما يوحي بذلك عنوان البحث. تمهد الباحثة بذكر أسباب اختيارها الريف كموضوع للبحث الأكاديمي في جامعة باريز سنة 1966 تحت إشراف بيير فلار (Pierre Vilar). وتوضح أن السبب يعود أولا إلى شخصية عبد الكريم الخطابي التي حركت لديها فضولا واهتماما بالثقافة العربية-الإسلامية التي أغنت الموروث الثقافي الإسباني. ومن جهة أخرى فإن "عودة" عبد الكريم إلى واجهة الإعلام الإسباني بعد الإعلان عن وفاته في القاهرة، وما رافق ذلك من تشويه وتزوير صورة الخطابي في المخيال الإسباني، كانا وراء عزمها على اتخاذ الريف موضوعا لدراستها. وهكذا قامت سنة 1969 بزيارة المغرب لتقف على عدة مواقع عسكرية مثل أنوال وأعروي والناظور وغيرها، وتلتقي بعدة شخصيات شاركت من قريب في حرب الريف أمثال محمد بوجيبار الذي أوضح لها بعض مرامي الإصلاح الفلاحي لدى عبد الكريم؛ ذلك أنه كان يخطط لنزع أراضي الأعيان الموالين لإسبانيا وإعادة توزيعها على الفلاحين المعدمين. ولكن الذي حدث هو العكس؛ إذ صادرت السلطات الإسبانية، بعد إتمام الاحتلال، أملاك آل خطاب ووزعتها على المعمرين الإسبان. واجتمعت كذلك إلى بعض الزعماء السياسيين أمثال عبد الله إبراهيم وعلال الفاسي
يضم الكتاب 12 فصلا، فضلا عن التمهيد والخاتمة والبيبليوغرافيا. يتناول الفصل الأول علاقة المغاربة بالإسبان منذ القرن الثامن؛ وهو إطار واسع يعرض لأوجه التعايش بين "دار الإسلام" و "دار الحرب". وفي الفصل الثاني تعرض الباحثة لحرب تطوان (1859-1860). وتخصص الفصل الثالث لمسألة المعادن الريفية وما سببته من حمى لدى بعض الرأسماليين الإسبان والألمان وغيرهم، والأساليب التي اتبعوها للحصول على امتيازات استغلالها؛ إما عن طريق الاتصال بالثائر بوحمارة الذي اجتاح المنطقة ما بين 1903 و1908، أو التفاوض الرسمي مع السلطان الشرعي في فاس، وتداعيات هذه المسألة على الأوضاع السياسية والاجتماعية في الريف بصفة خاصة. وتعود الباحثة في الفصل الرابع لإعطاء مزيد من التفاصيل ذات العلاقة بمسألة منح الامتيازات المنجمية في المغرب بصفة عامة. وفي الفصل الخامس وصف للبيئة الريفية وللإنسان الريفي. وهي بيئة يغلب عليها الطابع الجبلي. وخصصت الباحثة الفصل السادس لقضية استعمار الأراضي الفلاحية في الريف من قبل المعمرين الإسبان. ومع الفصل السابع تبدأ المواجهات العسكرية لسنة 1909. وهنا يلاحظ استخدام الباحثة لمصطلح "صدامات" عوض حرب 1909. وفي هذا الفصل نجد كثيرا من التفاصيل حول المواجهات العسكرية بين الطرفين الإسباني والريفي بقيادة الشريف سيدي محمد أمزيان، وكذلك الخطوات/الضغوط الديبلوماسية التي كانت إسبانيا تقوم بها سواء لدى السلطان أو لدى الدول الموقعة على عقد الجزيرة الخضراء (1906). وتصف انهزام الإسبان في وهدة الذئب (El Barranco del Lobo) بأنها "كارثة" ولو أنها لا تُقارن بالكارثة الحقيقية التي ستقع في صيف 1921. وترى الباحثة أن هذه الحرب لم يكن لها أي سند شعبي في إسبانيا. فقد أثارت احتجاجات واسعة في مجمل الأقاليم الإسبانية، وسببت في ما يعرف بـ "الأسبوع الدامي" في برشلونة. لكن الحكومة الإسبانية لم تكن منشغلة بمدى "شعبية" الحرب المغربية بقدر ما كانت مهتمة بإرسال الإمدادات العسكرية لإعادة "شرف" إسبانيا الضائع في الريف
الفصل الثامن عنوانه: التمردات والمقاومات. وهي إشارة إلى تمرد بوحمارة ومقاومة الشريف أمزيان. بوحمارة كان "روكيا". وهذا المصطلح يربطه المخيال الشعبي الإسباني بشخصية بوحمارة. إلا أن المغرب عرف عبر تاريخه نماذج أخرى؛ "روكيين" آخرين برزوا لمقاومة التيارات الوافدة من الشرق سنية كانت أم شيعية
الفصل التاسع مخصص للريفيين وعلاقتهم بالإسبان. وتصادفنا عدة برديغمات: مسلمون أصدقاء/مسلمون أعداء، مسلم السلم/مسلم الحرب. المسلمون (الموروس) الأصدقاء كانوا يسمون أيضا: المسلمون المأجورون؛ لأنهم كانوا يتلقون أجرة أو راتبا من السلطات الإسبانية. وكانت مهمة هؤلاء تنحصر في تمهيد ظروف تقدم القوات الإسبانية. وهكذا نشأت أيضا "الحركات الصديقة" مقابل "الحركات المعادية". أحد هؤلاء الأصدقاء هو عبد الكريم الخطابي الأب الذي كان قاضيا معينا على بني ورياغل من طرف السلطان، كما يظهر من عدد من الظهائر الشريفية. وهذه الظهائر، تؤكد الباحثة، تدل على أن الريف لم يكن على قطيعة تامة مع السلطة المركزية في هذا الفصل تقف الباحثة عند العائلة الخطابية منذ اجتياح بوحمارة للمنطقة. وترى أن عبد الكريم اختار جانب السلطان، وهو موقف لم تتضح أبعاده تماما أمام الريفيين الذين عبروا عن شكوكهم في نية الخطابي لدرجة أنهم فرضوا عليه أداء غرامة مالية. وتعتبر الباحثة أن خروج القبائل الريفية على بوحمارة، بعد أن كانت تحت حكمه ونفوذه، لم يكن فقط بسبب جور بوحمارة وجشعه فقط، وإنما أيضا بسبب منحه الامتيازات للأجانب. هذه المناهضة الواضحة للأجنبي كانت لها أبعاد دينية قابلة للتطور إلى نوع من التعصب الديني ضد الوجود المسيحي الإسباني/الأوروبي في المنطقة. وفي هذه النقطة بالذات خالف عبد الكريم الأب وجهة نظر الشريف سيدي محمد أمزيان وغيره من زعماء المقاومة الريفية. فعلاقة الخطابي بالأوروبيين جعلته يفهم "ضرورة" المساعدة الأجنبية في سبيل تحقيق التقدم والازدهار لبلده. و في هذا الإطار، تقول الباحثة، ينبغي وضع مسألة "تعاون" الخطابي مع الإسبان. وعبرت ماريا-روسا عن هذه الحالة بثنائية: "الوجه" مقابل "القناع". الوجه الذي يعصره الألم وهو يرى مآل الشريف أمزيان الذي استشهد في ساحة القتال، والقناع الذي يفرضه الواقع؛ واقع التعاون مع الإسبان لأهداف أدركها عبد الكريم، وغابت تماما عن إدراك قومه
في الفصل العاشر تضعنا الباحثة في صورة الواقع العسكري بعد غياب الشريف أمزيان إلى غاية 1920. وهي فترة شهدت أيضا اندلاع الحرب العالمية الأولى. في هذه الفترة قلت العمليات العسكرية الإسبانية وذبلت المقاومة الريفية، مكتفية بردود فعل متفرقة بزعامة بعض الشخصيات أمثال الحاج عمر القلوشي لمدة قصيرة قبل أن يلتحق بالإسبان جارا معه شخصيات أخرى، والقائد بورحايل الذي استسلم بعد أن تم تعيين الجنرال سلفستري قائدا عاما لقطاع مليلية (1920). هذا الجنرال الذي طور استراتيجية التريث والخطوة خطوة إلى الزحف المتسارع المكشوف؛ الأمر الذي قاده إلى أنوال ومن ثم إلى حتفه. غير أن معركة دهار أباران (فاتح يونيو 1921)، جاءت لتذكر الإسبان بالهزيمة أولا، وبحقيقة مرة مفادها أن الاعتماد على "الحركات الصديقة" أمر غير مضمون ولا يمكن الركون إليه
تعود الباحثة في الفصل الحادي عشر إلى توضيح موقف الخطابي من الإسبان؛ موقف انتقل من حالة الانتظارية إلى المقاومة الصريحة. وتستعيد في هذا الفصل محطات علاقة آل الخطاب بالإسبان، كما فصلها الدكتور جرمان عياش. وفي الفصل الثاني عشر تعرض لعلاقة إسبانيا بمحمد عبد الكريم الخطابي خلال حرب الريف. فتطرقت للاتصالات الرسمية بين الطرفين عبر مراسلات ومبعوثين رسميين أبرزهم الثري الباسكي إيتشافاريتا الذي فاوض محمد عبد الكريم حول الأسرى الإسبان وعلى رأسهم الجنرال نبارو. وقد نجح إيتشافاريتا فعلا في مسعاه وأطلق سراح مواطنيه. وفي هذا الفصل أيضا تعرض الباحثة لـ "الورقة" الإنجليزية عبر شخصية جوردن كانينغ مؤسس "لجنة الريف" التي كان مقرها في لندن. والخلاصة أن الريف لم يكن غائبا عن اهتمامات رجال الأعمال الإنجليز
وتختم الباحثة ماريا-روسا ببعض الملاحظات حول "الدولة الريفية"، وترى أن مقاومة محمد عبد الكريم الخطابي اختزلت أشكال المقاومة السابقة وخاصة حركة الشريف أمزيان. وقد وجدت القبائل الريفية في عبد الكريم الزعيم القادر على ترجمة آمالها وتطلعاتها في لحظة تاريخية حاسمة. وقد جمع بين "التقليد" و "الحداثة". فإعلان محمد عبد الكريم أميرا على الريف هو بمثابة الرجوع إلى النموذج التقليدي. أما تأسيس الجمهورية فمعناه اللجوء إلى النموذج الغربي الحديث. وتناقش الباحثة هذه الثنائية مستعيدة الجدل الذي أثير حولهما بين من يقول بأن عبد الكريم "الأمير" كان يريد الحلول محل السلطان، وأولئك الذين يفسرون إعلان الجمهورية بكونه يندرج في إطار العلاقات العامة يهدف إلى مخاطبة الرأي العام الغربي ليس إلا. ثم تستعرض الباحثة مؤسسات الجمهورية مثل "البرلمان" والمحكمة والجيش الريفي
ملحمة الذهب والدم: سيرة ذاتية
السيدة زكية داود صحفية مهتمة بقضايا تخص المغرب. كانت رئيسة تحرير مجلة "لام أليف" المعروفة باتجاهاتها اليسارية. شاركت كذلك مع باحثين آخرين في نشر سير ذاتية عن زعماء مغاربيين أمثال فرحات عباس والمهدي بنبركة. وكتابها عن عبد الكريم الخطابي يندرج تحت هذا النوع من الكتابة: السيرة الذاتية. صدر هذا الكتاب سنة 1999 ضمن سلسلة "أعمدة هرقل"، وقدم له الأستاذ الفرنسي المتخصص في الحركات الإسلامية المغاربية برونو إيتيان الذي سبق له أن نشر سيرة ذاتية عن الأمير عبد القادر الجزائري
يضم الكتاب/السيرة 12 فصلا بالإضافة إلى المقدمة والتمهيد والخاتمة والملاحق. تصور الكاتبة في التمهيد صورة "الرجل الذي امتطى السحاب". وتقول إن القليل من الناس من ترك أثرا لامعا في التاريخ الحديث. محمد عبد الكريم الخطابي كان أحد هؤلاء، لكن سرعان ما لفه النسيان. ولهذا السبب أرادت الباحثة كتابة قصة مرحلة بكاملها عبر كتابة قصة رجل زعزع النظام الاستعماري في أوج مراحله. هذا الرجل الذي تحدى تحالفا عسكريا يفوق عدده نصف مليون جندي يقوده المارشال بيتان و 42 جنرالا. وهي أعظم قوة عسكرية أوروبية في إفريقيا منذ العهد القرطاجي
ملحمة عبد الكريم بلغت أصداؤها موسكو وأنقرة والبرازيل وشبه القارة الهندية وآسيا الوسطى. حتى إن هوشي منه كان يطلق عليه لقب "الرائد". ومعركة أنوال ألهمت صانعي معركة ديان بيان فو في الهند الصينية، كما ألهمت زعماء آخرين أمثال ماو تسي تونغ وتيتو وغيرهما
فمن هو هذا الشخص الرائع، تتساءل الكاتبة؟ هذا الشخص الذي دفع الكاتب الفرنسي الكبير لويس أراغون ليعلن: "عبد الكريم كان رمزا دغدغ شبابنا". أما الصحفي الأمريكي فانسنت شين الذي زار الخطابي سنة 1924، فقد صرح ذات يوم لإحدى المحطات التلفزيونية الأمريكية أن غاندي وعبد الكريم هما الشخصان اللذان أثرا في حياته. عبد الكريم ورفاقه عبروا زمنا قصيرا من بداية القرن العشرين كأنهم شهب ساطعة، ثم غابوا. عبد الكريم، تؤكد الكاتبة، هو في الوقت نفسه أسطورة ومحرم (طابو
في الفصل الأول تشير الباحثة إلى بيئة الريف الذي هو عبارة عن أرض عصية وفي نفس الوقت مرغوبة. ثم تعرج على بعض الأحداث السياسية والعسكرية التي عرفها المغرب منذ القرن التاسع عشر. وتشير أيضا إلى جوانب من النقاش الثقافي/الفلسفي الذي أثاره بعض المثقفين الفرنسيين حول المستعمرات. وتنتقل إلى قضية تهافت الدول الأوربية (فرنسا، إسبانيا، بريطانيا، ألمانيا وإيطاليا) على المغرب، وما نتج عن ذلك من اتفاقيات ثنائية تندرج في إطار تسوية المسألة المغربية
وتنتقل في الفصل الثاني إلى الحديث عن آل الخطاب وعميد الأسرة عبد الكريم الذي ولد سنة 1860 إبان الحرب المغربية الإسبانية. وهو تاريخ ذو دلالة واضحة. تؤكد الكاتبة أن آل خطاب من الأعيان الريفيين المرتبطين تقليديا بالمخزن. والقاضي عبد الكريم كان رجلا طموحا ذا طبع حذر، ويتمتع بحس سياسي واضح. وبعد ذلك تنقلنا إلى عالم المخزن بعد وفاة السلطان الحسن الأول واعتلاء الصبي عبد العزيز العرش، والذي سينغمس في سياسة اللهو وصرف ما بقي من خزينة الدولة على مختلف التفاهات التي كان الأوروبيون يروجون لها لدى السلطان وحاشيته. وجاء بوحمارة كنتيجة منطقية لتلك السياسة. وفي هذه المحنة انحاز عبد الكريم إلى جانب السلطان دون تحفظ. كل ما كان يدور في المغرب وفي الريف بوجه خاص كان لا يغيب عن إدراك الخطابي. وذا يوم من سنة 1907، عقد مجلسا عائليا ليتدارسوا ما استجد من أمور عليهم وعلى بلدهم. قال للحاضرين: ينبغي علينا اتخاذ قرار يضمن مستقبل عائلتنا. لقد درست الاتفاقيات وأُدرك الدور المنوط بإسبانيا. إنها أمة صغيرة ستكون في حاجة إلينا للحكم. وبالنسبة إلينا سوف نيسر لها مقامنا الاستراتيجي وحصافة رأينا. وبناءا عليه قررت أن يذهب محمد إلى مليلية للعمل وأن يتعلم ابني الثاني امحمد اللغة الإسبانية. وتقول الكاتبة إن الأوامر نفذت دون نقاش لأنها أوامر القاضي في هذا الفصل كذلك إشارات عابرة إلى مسألة المعادن الريفية التي فتحت شهية الباحثين عن "الإلدورادو" الريفي. ثم تنتقل إلى "ملحمة" الشريف سيدي محمد أمزيان ومواجهاته المسلحة ضد القوات الإسبانية وما نتج عن ذلك من احتجاجات داخل إسبانيا (الأسبوع الدامي). حرب الريف في هذه الفترة أثارت أيضا الاشتراكيين داخل فرنسا. لكن الشريف لم يلبث أن سقط في المعركة. كثير من المعلومات التي توردها الكاتبة هنا ذات طابع عام ولا تختلف كثيرا عما أورده الباحثون الآخرون وعلى رأسهم جرمان عياش، وبخاصة ما يتعلق بمسألة تعاون عبد الكريم الأب مع الإسبان ثم تغيير موقفه منهم بعد ذلك، كما هو معروف
عنقاء أنوال" هو عنوان الفصل الثالث. وهو وصف أدبي/أسطوري يرمز إلى الطائر الخرافي الذي ينبعث من رماده. وكأن أنوال هو الميلاد الحقيقي لعبد الكريم. في هذا الفصل تتقصى الكاتبة مراحل حياة محمد عبد الكريم خلال سنوات إقامته في مليلية والوظائف التي تقلب فيها، ثم اعتقاله ومحاكمته إلى آخر القصة. ومن ناحية أخرى تشير إلى تغير الأوضاع بعد أن تسلم الجنرال سلفستري قيادة قطاع مليلية وزحفه العسكري على القبائل الريفية حتى تمركز في إنوال. وحينما تلقى سلفستري الإنذار الأول في دهار أبران، أمل عبد الكريم في التفاوض مع سلفستري لتفادي المواجهة العسكرية. وكلف أزرقان بالذهاب إلى مليلية من أجل إيجاد مخرج للمأزق الذي خلقه سلفستري. غير أن هذا الأخير لم يكن يرى عن الحل العسكري بديلا. فكانت أنوال التي أطلقت عليها الكاتبة وصف "أم المعارك"، ثم مجزرة أعروي وما رافق كل ذلك من اندحارات. إسبانيا تحولت كلها إلى مأتم
الفصل الرابع حمل عنوان: أحلام النصر. تستعرض فيه الكاتبة ما بعد أنوال وانحسار الوجود العسكري الإسباني إلى بعض المراكز الساحلية. تأسيس الجمهورية واللقاءات السياسية غير الرسمية مع الفرنسيين وردود الفعل لدى الإسبان في إسبانيا
وفي الفصل الخامس تستعرض ملامح "الريف المنتصر". محمد عبد الكريم أصبح "أمير المجاهدين" في فاتح فبراير 1922 الذي شرع في إقامة دعائم الجمهورية، فأشاع العدل والسلم الاجتماعي مع رغبة واضحة لوضع الريف على سكة التقدم والتحديث. واهتم ببناء الجيش وإدخال الإصلاحات. كما خاطب الرأي العام الغربي وأرسل وفودا إلى لندن وباريس. ثم تشير في موضع آخر من هذا الفصل إلى النقاش الذي كان يدور حول "الحرب المقدسة" أو الإصلاحية. وهنا تورد جواب عبد الكريم الخطابي الذي قال: "إن زمن الحرب المقدسة قد ولى. نحن لا نعيش في القرون الوسطى ولا في زمن الحروب الصليبية. كل ما نريده هو أن نعيش أحرارا فقط"
الفصل السادس يستعرض الفترة ما قبل المواجهة مع فرنسا. فمنذ بداية المسألة الريفية حاول المارشال ليوطي استخدام بني زروال وورغة لكي يتسنى له الدخول إلى قلب الريف دون أن تطأه قدماه. خطة استخدام ورقة هذه القبائل كانت جاهزة لدى ليوطي منذ شهر يوليوز 1922. وفي هذا السياق تأتي حملات القائد المذبوح الفاشلة. ولم تفلح كذلك محاولات الجانب الريفي للدخول في مفاوضات مع الفرنسيين لتوضيح موقفهم
الفصل السابع يتطرق للقوى الفرنسية المناهضة للحرب. وأبرز المعارضين جاك دوريو الذي كان نائبا برلمانيا عن الشبيبة الشيوعية. وإذا كان الاشتراكيون قد عبروا عن مواقف متناقضة، فإن الشيوعيين على العكس نشطوا في تعبئة الفرنسيين لمناهضة الحرب الاستعمارية التي يُدفع فيها الثمن "دما". ومن هنا جانب من اسم الكتاب. الكاتبة تتوسع في إبراز تلك المواقف على الساحة السياسية والثقافية الفرنسية؛ وهو نقاش فرنسي-فرنسي يبعد بعض الشيء عن هموم الريف
في الفصل الثامن تتطرق الأستاذة داود إلى المواجهة الريفية-الفرنسية على طول الجبهة الجنوبية للجمهورية الريفية. وأهم ما ميز هذه المواجهة هو "سقوط" المارشال ليوطي الذي تحول إلى كبش فداء لحجب إخفاق السياسة الفرنسية في مواجهة عبد الكريم
وفي الفصل التاسع عودة للحديث عن الأممية الثالثة وموقفها من المسألة الاستعمارية، وعن "لجنة الريف" التي أسسها كانينغ في لندن. هذه اللجنة التي يبدو أنها كانت مدعومة من الأممية الاشتراكية، تحددت مهمتها في تأمين تفهم نضال الريفيين ومحاولة تقديم مساعدات طبية لهم. ثم تعود إلى الموقف المناهض للحرب والذي كانت تعبر عنه صحيفة "لومانتيه" الشيوعية الفرنسية
في الفصل العاشر تصف لنا الكاتبة "عواصف الرعد" التي انهارت على الريف. وهي إشارة إلى التحالف العسكري الفرنسي-الإسباني الذي وضع حدا لطموح عبد الكريم (الفصل الحادي عشر). وفي الفصل الأخير تتحدث زكية داود عن "المنفى أو أسطورة آرياز (Ariaz). وفي هذا الفصل يتواصل الحديث عن الفترة ما بعد نهاية حرب الريف حديثا مقتضبا يمر عبر السلفية والحركة الوطنية وخطاب محمد بن يوسف في طنجة سنة 1947. ثم تُنهي بنزول عبد الكريم في القاهرة والخلاف الذي سينشب مع علال الفاسي بسبب اختلاف الرؤى ثم تعرج على حرب الجزائر وعمليات المقاومة وجيش التحرير
وبعد، فهذه قراءة وصفية تهدف أساسا إلى فتح القوس أمام قراء آخرين للإسهام في التعريف بما يتم نشره حول الريف ورجاله وتاريخه ومجاله وذاكرته الجماعية
محمد أمزيان هولندا، غشت 2007
منقول للاهمية
اقواس النصر:f010[1]:
اقواس النصر:f010[1]: